سرائرهم: فهم الذين ينقضون عهد الله ويقطعون ما أمر به أن يوصل ويفسدون في الأرض، ولهم اللعنة من الله وسوء المنزل والمصير في الآخرة.
تعليق على مجموعة الآيات أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ ... إلى آخر الآية [25]
ذكر البغوي بلفظ (قيل) إن الآية الأولى نزلت في حمزة وأبي جهل أو في عمّار وأبي جهل على سبيل المقايسة. وروح الآية ونصّها يلهمان أنها والآيات التي تأتي بعدها وحدة تامة. وروح الآيات ونصّها يلهمان بقوة أنها على سبيل المقايسة بين المؤمنين الذين استجابوا لربّهم والكافرين الذين لم يستجيبوا بصورة عامة وأنها بالتالي معقبة على ما قبلها. والراجح أن ما جاء في وصف الأولين هو وصف لواقع حال المؤمنين الأولين في العهد المكي. وقد تكرر مثل ذلك في سور سابقة على ما نبّهنا عليه في مناسباتها. وفي الوصف صورة رائعة لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون من استغراق في دين الله وما أوجبه عليهم من واجبات تعبديّة واجتماعية وسلوكيّة. ويتبادر لنا أن حكمة مجيء الأفعال فيها بصيغة المضارع هي ليكون ما فيها عام المدى مستمر التلقين.
والمجموعة ليست الأولى من بابها حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار ما فيها بتكرار المواقف. وفيها تنويه بأثر الإيمان والكفر في سلوك الناس وصلاح المجتمع وفساده. وفيها جماع أهداف الدعوة الإسلامية والصفات الصالحة الشخصية والاجتماعية التي يمكن أن يقوم عليها أفضل مجتمع إنساني إذا اتصف أفراده أو غالبهم بها، كما فيها ما فيه سبب فساد الأرض والمجتمع. ويصح أن تعدّ من أجل ذلك من روائع المجموعات القرآنية التي امتاز بها القرآن في الأسلوب وبعد المدى.
وروح الآيات تلهم أن الصفات التي وصف بها المؤمنون هي ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في كل دورة، أو هي الصفات الطبيعية التي ينبغي أن يتصفوا بها. وهذا يؤدي إلى القول بأن المسلم الذي لا يتّصف بها لا يكون قد أحسن(5/533)
إدراك أهداف الرسالة الإسلامية وأخلص في الاندماج فيها.
وجملة وَمَنْ صَلَحَ قيد احترازي كما هو المتبادر لإخراج غير الصالحين من تبعية ومرتبة الصالحين من المؤمنين مهما كانت صلات القربى بينهم وشيجة. ومثل هذا القيد ورد في سور سبق تفسيرها مثل آية سورة غافر [8] وآية سورة الذاريات [21] حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت توكيد هذا المعنى مرة بعد مرة. وهي حكمة جليلة المدى والمغزى بدون ريب. ومما انطوى فيها كما يتبادر حضّ ذوي الصالحين من آباء وأزواج وذرية على اللحاق بأعمالهم بالصالحين منهم لينالوا مرتبتهم عند الله تعالى.
ويتبادر لنا معنى عظيم لمدى تعبير الوفاء بعهد الله في هذا المقام من حيث إن المرء بدخوله في دين الله يكون قد عاهد ربّه على القيام بجميع ما أمر به واجتناب جميع ما نهى عنه من أخلاق شخصية واجتماعية وواجبات شخصية واجتماعية أيضا.
ولقد قال البغوي في سياق تفسير جملة وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إن الأكثرية على أن الجملة هي في صدد صلة الرحم ثم أخذ يورد أحاديث نبويّة في ذلك رواها بطرقه منها حديث عن عبد الرّحمن بن عوف قال: «سمعت رسول الله يحكي ربّه عزّ وجلّ قال أنا الله والرّحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» «1» . وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الله الخلق فلمّا فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرّحمن فقال مه قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يا ربّ قال فذاك لك ثم قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] » «2» .
وحديث عن عبد الرّحمن بن عوف قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثلاثة تحت العرش يوم
__________
(1) روى هذا الحديث الترمذي وأبو داود أيضا. انظر التاج ج 5 ص 10.
(2) روى هذا الحديث الشيخان أيضا، انظر المصدر نفسه ص 9.(5/534)
القيامة يحاجّ العباد له ظهر وبطن والأمانة والرحم تنادي ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» «1» . وحديث عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أحبّ أن يبسط الله في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» «2» . وحديث عن أبي بكرة قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» . وحديث عن أبي أيوب الأنصاري قال: «إنّ أعرابيا عرض لرسول الله في مسير له فقال أخبرني بما يقرّبني من الجنّة ويباعدني من النار، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» «3» . وحديث عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» «4» .
وصلة الرحم من الأعمال المبرورة التي يجب أن يتّصف بها المسلم بدون ريب. وفي الأحاديث المروية تلقينات واجبة الالتزام في ذلك. ومع ذلك فالذي يتبادر لنا من إطلاقه العبارة القرآنية أنها أعمّ وأشمل من صلة الرحم وأنها تتناول كل ما أمر الله به أن يوصل ولا يقطع بصورة عامة.
ولقد رأينا الطبرسي وهو مفسّر شيعي يروي في سياق العبارة تأويلا عن موسى بن جعفر الكاظم أحد الأئمة أن الأمر الذي في الآية هو في صدد رحم آل محمد وأنها معلّقة بالعرش تقول اللهمّ صل من وصلني واقطع من قطعني. وهي تجري في كل رحم. والتكلّف والهوى الحزبي بارزان على الرواية كما هو ظاهر.
ولقد أورد البغوي في سياق جملة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إذا عملت سيئة فاعل بجنبها حسنة تمحها السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية» . وحديثا آخر عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن
__________
(1) روى مسلم شيئا من هذا الحديث عن عائشة قالت: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرحم معلّقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» . انظر المصدر السابق نفسه ص 10.
(2) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي، انظر المصدر السابق نفسه، ص 9.
(3) روى هذا الحديث بصيغة مقاربة الشيخان، انظر المصدر السابق نفسه ص 8- 9.
(4) روى هذا الحديث البخاري وأبو داود أيضا انظر المصدر السابق نفسه ص 9.(5/535)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكّت عنه حلقة ثم عمل أخرى فانفكّت أخرى حتى يخرج إلى الأرض» . حيث ينطوي في الحديثين تلقين وتأديب نبويان حكيمان. وهذا التلقين والتأديب مندمجان في جملة إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ الواردة في الآية [114] من سورة هود والتي ورد في سياقها أحاديث نبوية أخرى أوردناها في مناسبتها. ولقد ورد في سورة القصص جملة مماثلة للجملة التي نحن في صددها بسبيل الثناء والتنويه ببعض المؤمنين من أهل الكتاب حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار التلقين والتأديب واقتضت حكمة النبي تكرار مثل ذلك في هذه المسألة والحكمة في ذلك جليلة المدى والمغزى بدون ريب.
[سورة الرعد (13) : آية 26]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)
. عبارة الآية واضحة، والمتبادر أن تعبير وَفَرِحُوا قد عنى الذين وصفوا في الآية السابقة مباشرة بنقض ميثاق الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض ولعنوا بناء على ذلك وأنذروا بسوء العقبى. وقد تضمنت الآية حكاية فرح هذه الطبقة وزهوها بما تيسّر لهم من وسائل القوّة والثروة في الحياة الدنيا والتنديد بهم لاغترارهم بذلك إلى الدرجة التي أعمتهم عن الهوى وجعلتهم يرتكسون فيما ارتكسوا فيه من مواقف المناوأة لرسول الله ورسالته والبغي والفساد. ثم نبهتهم إلى الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها وهي أن بسط الرزق وتقتيره هما بيد الله وأن الحياة الدنيا مهما بسمت للناس فإنها ليست إلّا متاعا تافها جدا في قيمته ومدّته بالنسبة للحياة الأخرى.
وبهذا الشرح تكون الآية متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب واستطراد وتعليل وتنديد.
وننبّه على أن مثل هذا التنبيه والتنديد الذي تضمنته الآية قد تكرر في آيات(5/536)
عديدة وردت في مثل المقام الذي وردت فيه هذه الآية. حيث يدل هذا على تكرر المواقف المماثلة واقتضاء حكمة التنزيل ومعالجتها بمثل هذه المعالجة القوية.
ومع ما للآية من خصوصية زمنية وتنديدية فإن فيها تلقينا مستمر المدى في التنبيه على عدم الاغترار بما يتيسر للمرء من قوّة وثروة والاستغراق في ذلك استغراقا يذهله عن واجباته نحو الله والناس ويعميه عن الحقّ وفاضل الأخلاق والأعمال ويجعله يرتكس في البغي والفساد. وينسيه الحياة الأخروية التي ليست الحياة الدنيا بالنسبة إليها إلّا متاعا تافها بقيمته ومدّته.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما:
«ما الدّنيا في الآخرة إلّا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ فلينظر بماذا ترجع» «1» . وفي ثانهيما: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بجدي أسكّ ميت- والأسكّ الصغير الأذنين- فقال: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه» «2» .
ويتساوق الحديثان مع ما احتوته الآية من تلقين حكيم.
ومع ذلك فإن من الحقّ أن ننبّه على أن التلقين الذي احتوته الآية والأحاديث يهدف بالدرجة الأولى إلى التحذير من الاستغراق في الدنيا ومتاعها وشهواتها استغراقا ينسي الإنسان الحياة الأخرى وينسيه ربّه ويجعله ينحرف عن واجباته ويبغي ويفسد في الأرض. وليس فيه ما يمنع من فرح المسلم واغتباطه بما ييسره الله من أسباب الثروة وحسن الاستمتاع في الحياة الدنيا ولا السعي في سبيل ذلك إذا ما اتّصف بالصفات التي يجب أن يتّصف بها المسلم الصادق والتي نوّهت الآيات السابقة بالمتّصفين بها.
__________
(1) روى هذا الحديث الترمذي أيضا، انظر التاج ج 5 ص 147.
(2) روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا بصيغة أخرى. قال راوي الحديث المستورد:
«كنت مع الركب الذين وقفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها. قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله؟ قال: فالدنيا على الله أهون من هذه على أهلها» . انظر المصدر نفسه ص 146.(5/537)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
[سورة الرعد (13) : الآيات 27 الى 29]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
. (1) طوبى: روى المفسرون روايات كثيرة عن أصحاب رسول الله وتابعيهم بأن الكلمة اسم شجرة في الجنة. وأوردوا بعض الأحاديث النبوية في ذلك وإلى هذا فقد قالوا «1» في معناها اللغوي إنها بمعنى حسنى لهم وقرّة عين وفرح وغبطة وإنها من مصدر طاب وأن (طوبى لك) بمعنى أصبت خيرا وطيبا، أي هي دعاء.
وإنها مؤنث أطيب مثل حسنى مؤنث أحسن. وفضلى مؤنث أفضل. وجاء في لسان العرب (العرب يقولون طوبى لك إن فعلت كذا) ونحن نرجّح أنها هنا في معناها اللغوي. ولقد وهم بعضهم فقال إنها معرّبة من العبرانية لأن فيها كلمة مقاربة لها لفظا ومعنى. وهذا لا يقتضي أن تكون معرّبة لأن في العربية والعبرانية أصولا كثيرة مشتركة لأنهما من أصل واحد. وعروبة الكلمة اشتقاقا وصيغة واضحة. وهناك روايات غريبة عن ابن عباس أنها اسم الجنة في الحبشية وعن سعيد بن مسجوع أنها اسم الجنة في الهندية.
لم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة أيضا بالسياق اتصال تعقيب وتنديد بالكفار وتنويه بالمؤمنين بالمقابلة.
وفيها حكاية لما كان يتكرر من تحدي الكفار للنبي بالآيات وتطمين وتسرية له.
فالكفار يظلون يتحدّون النبي بالإتيان ببرهان من ربّه على صدق دعوته. فعليه أن لا يعبأ بتعجيزهم. وأن يعلن أن الله يضلّ من يشاء وأن دعوته إنما يهدي الله إليها الذين حسنت نياتهم وطابت قلوبهم ورغبوا في الإنابة إلى الله فهم الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله. وهو الجدير باطمئنان القلوب بذكره. فيؤمنون ويعملون الأعمال
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي والزمخشري والطبرسي.(5/538)
الصالحة. وهؤلاء لهم قرّة العين وحسن المصير والمنقلب وكل ما هو طيب.
ومن الأحاديث المروية في كونها شجرة في الجنة حديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله: طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني. قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» - النص من ابن كثير- وحديث رواه الطبري بطرقه جاء فيه: «جاء أعرابيّ إلى رسول الله فقال يا رسول الله إنّ في الجنة فاكهة؟ قال: نعم. فيها شجرة تدعى طوبى هي تطابق الفردوس تشبه شجرة تدعى الجوزة لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما» . وهناك حديث يرويه رواة الشيعة والهوى الحزبي بارز عليه جاء فيه: «سئل رسول الله عن طوبى، قال: شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة ثم سئل عنها مرة أخرى فقال في دار علي فقيل في ذلك فقال إن داري ودار علي في الجنة بمكان واحد» .
وهذه الأحاديث وما في بابها مما لم نر ضرورة إلى استقصائه لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد ورد في هذه الكتب حديث عن شجرة عظيمة في الجنة بدون أن تسمّى طوبى. وهو حديث رواه الشيخان والترمذي عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله: إنّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها» «1» . ومع ذلك فمن الجدير بالتنبيه أن الأحاديث التي تذكر أن شجرة في الجنة تسمّى طوبى برغم أنها لم ترد في الكتب الصحيحة ليست بسبيل تفسير الآية وإنما رويت في مناسبات أخرى وفي العهد المدني كما هو ظاهر.
أما الذين خبثت سرائرهم وغلظت قلوبهم فهم الذين يقفون منها موقف المعاند المكابر المعجز المتحدي. وهؤلاء لن تفيد معهم المعجزات والبراهين لأنهم ليسوا صادقي الرغبة في الهدى.
وهذه المعاني مما تكرر في المواقف المماثلة العديدة التي حكاها القرآن
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 369.(5/539)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
ومرّت أمثلة عديدة منها، وفي وصف الذين يهديهم الله بما وصفوا توضيح صريح يسوّغ التأويل الذي أوّلناه هنا وفي المواضع المماثلة لتعبير إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ وهو التأويل المتسق مع روح القرآن وحكمة الدعوة النبوية.
ويصح أن يكون مقيدا لما جاء في بعض الآيات مطلقا لإزالة ما قد يتبادر إلى الوهم من الإطلاق.
تعليق على جملة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
وتعبير أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قوي نافذ حقا، فالمرء الذي يتفكّر في آلاء الله ويستشعر عظمته يذكره دائما فتخشع بذكره جوارحه وتهدأ نفسه ويصغر في نظره كل ما عدا الله ويهون عنده كل ما يكون فيه من مصاعب ومشاكل وتطمئن نفسه وقلبه.
ولقد علقنا على موضوع ذكر الله وما أعاره كتاب الله له من عناية بالغة وما ورد في صدد ذلك من أحاديث نبويّة في سياق سورة الأعراف فنكتفي هنا بهذه الإشارة.
[سورة الرعد (13) : آية 30]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30)
. (1) متابي: مرجعي أو إنابتي وتوبتي.
في الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتضمنت التقريرات التالية: إن الله قد أرسله إلى أمته ليتلو عليهم ما أوحاه إليه ويدعوهم إلى الحقّ، ومع أنه ليس في هذا بدع ولا غرابة فإن الكفّار تحدّوه بالآيات وكذّبوا وجحدوا، وهم في الحقيقة إنما يجحدون الله الرّحمن ويقعون بذلك في التناقض لأن يعترفوا بالله. فليس عليه، والحالة هذه إلّا أن يعلن أن الرّحمن هو ربّه وأن لا إله إلّا هو وإليه وحده إنابته ومرجعه.(5/540)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
وواضح أن الآية متصلة بالسياق. وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت، وقد تكرر معناها لتكرار المواقف والمناسبات.
ولقد روى بعض المفسرين أن أبا جهل سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فقال لقريش: إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمّى الرّحمن ولا نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة فنزلت الآية «1» .
ويلحظ أن الجملة جزء من آية متصلة بسياق سابق ولاحق مما يحمل على التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية.
ولقد روى الطبري عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كاتب قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا لا تكتب الرّحمن وما ندري ما الرّحمن لا تكتب إلّا باسمك اللهمّ فأنزل الله الآية حاكية لقولهم منددة بهم. والرواية تقتضي أن تكون الآية مدنيّة مع أن الطابع المكي قوي البروز عليها فضلا عن صلتها الوثيقة بالسياق السابق.
ولقد حكت إحدى آيات سورة الفرقان سؤال المشركين الاستنكاري عن الرّحمن حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله ويصفه بالرحمن: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ... [الفرقان: 60] وروى المفسرون رواية مماثلة لهذه الرواية في سياقها «2» . ورووا ذلك أيضا «3» في سياق آية سورة الإسراء هذه:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] على ما ذكرناه في سياق تفسير السورتين حيث يبدو أن المشركين ظلوا يجادلون في اسم الرّحمن بشيء في أذهانهم عنه لا يمكن التأكد منه فاقتضت حكمة التنزيل تكرار توكيد أنه اسم من أسماء الله.
[سورة الرعد (13) : آية 31]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) .
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.
(2) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.
(3) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي. [.....](5/541)
روى المفسرون أن الآية نزلت ردا على تحدّي أبي جهل وغيره من زعماء المشركين حيث طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب عنهم جبال تهامة حتى تتسع لهم رقعة الأرض للزراعة وأن يحيي موتاهم حتى يخبروهم إن كان ما يقوله حقا.
وقد تكون الرواية صحيحة ولكنا نرجّح أن الآية لم تنزل بمفردها وفي مناسبة هذا التحدّي لأنها منسجمة جدا مع السياق السابق. فضلا عن عطفها عليه. وفي إحدى الآيات القربية في السياق حكاية تحدّ من الكفار باستنزال آية فمن المحتمل أن تكون بسبيل الردّ عليهم.
على أن جملة أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً تورد على البال احتمالا آخر، وهو أن المسلمين كانوا يتمنون أن يجاب المشركون إلى طلبهم أملا في إيمانهم وحرصا عليه، فأريد بالجملة أن يقال لهم إنه ليس من شأن الآيات أن تحملهم على الإيمان. وهذا التمني من المسلمين ليس الأول، فقد وقع قبل، وحكته آيات سورة الأنعام بعبارة مقاربة: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) والضمير في يُشْعِرُكُمْ عائد إلى المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات.
وهذا الاحتمال لا يتعارض مع القول إن الآية متصلة بالسياق السابق كما هو واضح.
وهناك قراءة مروية عن علي وابن عباس وغيرهما تجعل تعبير (يتبين) بدلا(5/542)
من (ييأس) على ما ذكره الطبري وغيره. وصحة هذه القراءة لا تخلّ بالمعنى المراد. حيث تكون بمعنى (ألم يتيقن المؤمنون مما رأوه من شدّة عناد الكفار أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) وإن كانت كلمة (ييئس) أقوى تعبيرا في هذا المقام حيث ينطوي فيها تقرير كون ما ظهر من الكفار من عناد من شأنه أن ييئس المؤمنين من ارعوائهم.
ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن الآية- وهي تتضمن الإشارة إلى شدّة عناد الكفار وإصرارهم وترهص باليأس منهم ولو على سبيل تسلية المؤمنين- إنما تسجل واقع أمرهم حين نزولها حيث اهتدى معظمهم وآمنوا.
ولقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس أن جملة وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ أنها السرايا التي كان يبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإزعاجهم. وهذا يقتضي أن تكون الآية مدنية. ولقد روى بعض الذين ذكروا مكية السورة أن هذه الآية مدنية حيث يكون في ذلك- إذا صحّ- تأييد للرواية.
غير أن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية فيها صورة مكية لا تتحمل شكا مما يجعلنا نتوقف في مدنية الآية. ونرجح أن القارعة هي ما روي عن إصابة أهل مكة بالجوع، أو من قبيل الإنذار مما تضمنته آيات سورة الدخان [8- 16] والمؤمنون [75- 77] والسجدة [21] التي لا خلاف في مكيتها على ما شرحناه في سياقها.
وروح الآية بل ونصّها يزيل ما يمكن أن توهمه عبارة أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً من كون عدم إيمان الكفار قد كان لأن الله لم يشأه. فالعبارة من جهة أسلوبية بسبيل تسلية المؤمنين وتطمينهم وتسكين روعهم. والجملة الأخيرة من الآية من جهة أخرى قوية الدلالة على كون الكفار قد كفروا عن عمد وتصميم فاستحقوا قواصم الله بما صنعوا وبالتالي قوية الدلالة على أن كفرهم كان باختيارهم. وطبعا إن هذا لا يعني أنهم كفروا رغم مشيئة الله. فالأسلوب القرآني قد جرى على نسبة كل شيء إلى هذه المشيئة من باب كون الله تعالى هو المتصرف
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.(5/543)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
المطلق بخلقه وكونه. ويمكن أن يقال إن ترك الناس لاختيارهم وجعلهم ذوي قدرة وقابلية للاختيار هو نفسه بمشيئة الله فيزول الإشكال. وفي جملة قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ التي سبقت هذه الآية ثم في جمل كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 33] ووَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] ويُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] معالجة قرآنية أخرى لهذا الإشكال. والآية التالية لهذه الآية تنطوي على توكيد لذلك أيضا. وفي سورة يونس آية فيها عبارة مثل هذه العبارة واضحة الدلالة على أنها بقصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهدئة روعه حيث يتأكد بهذا ما ذكرناه من أهداف العبارة القرآنية. والله أعلم.
[سورة الرعد (13) : آية 32]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)
. (1) أمليت: بمعنى مددت لهم وأمهلتهم.
في الآية التفات للنبي صلى الله عليه وسلم تقرر له أن الأمم السابقة قبله استهزأت برسلها فأملى الله لها مؤقتا وأمهلها ثم أخذها أخذا شديدا معروف الخبر مشهود الأثر.
والآية استمرار للسياق. وتعقيب على ما سبقها كما هو المتبادر. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وإنذار للكفار. وقد استهدفت فيما استهدفته تذكير الكفار الذين يقفون من النبي صلى الله عليه وسلم موقف الاستهزاء والجحود بما كان من عقاب الله لأمثالهم من الأمم السابقة وحملهم على الاتعاظ به. ولقد تكرر محتوى الآية بسبب تكرر المواقف المماثلة، واستهدافا للهدف الذي استهدفته. ولقد احتوت آيات عديدة في سور سابقة «1» إشارات إلى معرفة السامعين لأخبار الأمم السابقة وما حلّ فيهم من نكال الله تعالى بعد الإملاء والإمهال الذي اقتضتهما حكمة الله
__________
(1) انظر مثلا آيات سورة العنكبوت [48] وإبراهيم [45] وطه [128] والسجدة [260] .(5/544)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
حيث يستحكم بذلك الإنذار والوعظ القرآنيان. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا رواه البخاري ومسلم عن النبي جاء فيه: «إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» «1» حيث يتساوق الإنذار النبوي مع الإنذار القرآني كما هو أي في شأن آخر.
[سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 35]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)
. في هذه الآيات:
1- تساؤل استنكاري عمّا إذا كان الأحقّ بالألوهية والعبادة ذلك الإله المراقب لكل امرئ والعالم بما كسب والقادر على جزائه عليه، أم معبود عاجز لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء.
2- وتنديد بالمشركين الذين يناقضون هذه البديهة فيجعلون لله شركاء من الطراز الثاني.
3- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدّيهم في تسمية هؤلاء الشركاء ووصفهم حتى تتبين حقيقتهم. وبسؤالهم سؤالا تنديديا عمّا إذا كانوا بسبيل إخبار الله بوجود شركاء له في الأرض لا يعرفهم أو إذا كان أمرهم منهم هو التعلّق بألفاظ تقليدية ليس لها حقيقة وليسوا منها على حقيقة. وتنبيههم إلى ما في هذا وذاك من سخف.
4- وبيان لحقيقة أمر الكفار فيما هم عليه من موقف وعقيدة بيانا فيه تنديد من جهة وتسرية عن النبي والمؤمنين من جهة أخرى: فقد زيّن لهم المكر والكيد لرسالة النبي ودعوته فاندفعوا فيهما. وقد عميت أبصارهم فضلّوا عن طريق الحق.
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 131.(5/545)
5- وإنذار لهم وبشرى للمؤمنين بالمقابلة: فمن كان أمره كذلك فقد ضلّ فلا تجدي فيه دعوة ولا هداية. ومثل هؤلاء قد حقّ عليهم عذاب الدنيا أولا ثم عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأشقّ دون أن يكون لهم من يقيهم ويحميهم من غضب الله ونقمته. وعقباهم الأخروية النار في حين أن عاقبة المتقين ما وعدهم الله به من الجنات التي تجري تحتها الأنهار الدائمة الثمر والظل جزاء إيمانهم وتقواهم.
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول هذه الآيات والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي. وهي بسبيل التنديد والتسفيه والإفحام للمشركين وعقائدهم والتطمين والبشرى للمسلمين الذين أخلصوا إيمانهم بالله وحده. وقد تكرر فيها الإنذار بالبلاء الدنيوي الذي احتوته إحدى الآيات السابقة وآيات سور أخرى سابقة أيضا. ومما لا ريب فيه أنه قصد إلى تبشير المؤمنين بذلك فضلا عن إنذار المشركين.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة بعض الأحاديث عن مشاهد الجنة ونعيمها. منها حديث عن أبي عقيل قال: «بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدّم رسول الله فتقدّمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبيّ بن كعب يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه فقال إني عرضت عليّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه» «1» . ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن عتبة بن عبد السلمي قال: «إنّ أعرابيا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال فيها عنب قال نعم قال فما عظم العنقود قال مسيرة شهر للغراب الأبتع ولا يفتر» . ومنها حديث أخرجه الطبراني عن ثوبان قال:
__________
(1) روى هذا الحديث بشيء من الزيادة والنقص الشيخان والنسائي أيضا. وقد جاء فيه: (إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ... إلخ) . انظر التاج ج 1 ص 279.(5/546)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الرجل إذا نزع شجرة من الجنة عادت مكانها أخرى» .
ومنها حديث عن عبد الله بن جابر رواه مسلم قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يتمخّطون ولا يتغوّطون ولا يبولون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس» «1» .
وواضح أن من أهداف هذه الأحاديث التي روى أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة بعضها بالإضافة إلى أحاديث أخرى وردت في هذه الكتب من بابها «2» تبشير المؤمنين وإثارة الغبطة في نفوسهم. وهذا مما استهدفته الجملة القرآنية.
[سورة الرعد (13) : آية 36]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
. (1) الأحزاب: الكفار المتحزبين ضد النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
(2) مآبي: مرجعي.
في هذه الآية:
1- تقرير تدعيمي لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن مستمد من موقف أهل الكتاب: فهم يفرحون بما أنزل الله إليه برغم إنكار الأحزاب بعضه.
2- وأمر للنبي بأن يهتف بأنه إنما أمر بعبادة الله وحده وعدم إشراك أي شيء معه وبالدعوة إليه وحده وبتقريره كونه تعالى مرجعه وحده.
روى البغوي رواية عجيبة في سبب نزول الشطر الأول من الآية الأولى بلفظ (وقال آخرون) إن ذكر الرّحمن كان قبلا في القرآن في أول الأمر فلما أسلم
__________
(1) روى هذا الحديث مسلم بصيغة أخرى جاء فيها عن جابر: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس» . انظر التاج ج 5 ص 376.
(2) انظر المصدر نفسه، ص 364 وما بعدها.(5/547)
عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة.
فلما تكرر ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله الآية. وقال في صدد الشطر الأخير إنه يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله في كتاب الصلح بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا ما نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرّحمن. على أن معظم المفسرين لا يروون مناسبة خاصة في نزول الآية ويفسرونها على ظاهرها. والمتبادر أن شطرها الأول هو بسبيل تقرير ما روي من إيمان أهل الكتاب في مكة واستبشارهم بالقرآن المطابق لما عندهم على ما حكته آيات سورة الإسراء [107- 109] وآيات سورة القصص [52- 53] التي مرّ تفسيرها. وأن شطرها الثاني هو بسبيل تقرير ما كان واقعا من أمر جماعات المشركين العرب الذين كانوا يؤمنون بالله وإنه هو الخالق الرازق المدبر مع عدم إيمانهم بالبعث وبالوحي النبوي. بل وفي سورة القصص آية تفيد أن بعضهم كان يؤمن بصحة الهدى والوحي النبوي ثم لا ينضوي كليا إلى الإسلام خوفا على منافعه ومركز مدينته ولعلّه عنى هؤلاء أيضا فيما عناه.
هذا بالنسبة لمدى الآية بذاتها، ويتبادر لنا أنها من حيث مقامها ليست منفصلة عن السياق والموقف الجدلي مع المشركين مما تضمنته الآيات السابقة.
وفيها إلزام قوي لهم بأسلوب آخر: فأهل الكتاب الذين هم أعلم من جماعات المشركين الكفار الذين هم موضوع السياق السابق يستبشرون بما أنزل الله على النبي ويفرحون به ويصدقونه. فإذا كانت تلك الجماعات تنكر بعضه فهذا لا يضيره وعليه أن يعلن أنه إنما أمر بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به والدعوة إليه وتقرير كون مرجعه ومصيره إليه والثبات على ذلك وكفى.
وما احتواه الشطر الأول من الآية قوي الدلالة على أن ما ذكر فيه من فرح أهل الكتاب هو مستمدّ من مشهد واقعي. ويجوز أن يكون جديدا وقع في ظروف نزول السورة كما يجوز أن يكون ما حكته آيات سورة الإسراء [107- 109] والقصص [52- 55] . والأسلوب هنا قوي حيث يتضمن تقرير فرحهم بالقرآن بالإضافة إلى الإيمان به. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ذلك بسبب ما وجدوه(5/548)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
في القرآن من دعوة صادقة وتطابق قوي لما كان عندهم. وهكذا تتوالى شهادات أهل العلم الكتابيين العيانية بصدق الوحي القرآني وأعلام النبوة والرسالة المحمدية والانضواء إليها في العهد المكي الذي كان فيه النبي وأصحابه قلة ضعيفة أمام أكثرية ساحقة قوية كافرة ومناوئة. فيكون في ذلك ردّ مفحم على كلّ مكابرة من الكتابيين على مرّ الدهور.
[سورة الرعد (13) : آية 37]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37)
. (1) حكما: بمعنى محكما أو حكمة.
المتبادر أن هذه الآية استهدفت أيضا التدعيم للرسالة النبوية وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه وأنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي: فكما أنزل الله الكتب على الأنبياء السابقين أنزل عليه القرآن. وقد جعله عربيا محكما حتى يتبين السامعون فحوى الدعوة وحكمة الله وأحكامه ولا يكون عليهم فيها إبهام ولا غموض. وعلى النبي أن يلتزم ذلك وأن لا يحيد عنه بعد ما جاءه من العلم ولا يجاريهم أو يسايرهم في أهوائهم. ولن يكون له من الله إن فعل ناصر ولا واق.
والمتبادر أن الضمير في أَهْواءَهُمْ راجع إلى الأحزاب. وأن جملة حُكْماً عَرَبِيًّا قرينة على أن المقصود هم أحزاب العرب. وأنه ينطوي في كلمة أَهْواءَهُمْ تقاليد العرب المشركين المتنوعة أو رغباتهم أو أهواؤهم.
ولقد حكت آيات أخرى في سور سابقة مثل سورتي القلم والإسراء أن المشركين كانوا يودون أن يداهنهم النبي ويلاينهم ويسايرهم في بعض تقاليدهم.
فمن المحتمل أن يكونوا قد عادوا إلى محاولاتهم. وأن يكون التحذير متصلا بذلك على سبيل التنبيه والتثبيت.(5/549)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
[سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 43]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
. (1) لا معقب: لا ناقض ولا رادّ.
في هذه الآيات أولا: تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وردّ على الكافرين:
1- فليس النبي بدعا في رسالته ولا في شخصيته البشرية. فقد أرسل الله من قبله رسلا وكانوا مثله بشرا لهم أزواج ولهم ذرية.
2- ولم يكن لرسول أن يأتي بآية من عند نفسه حينما كان يتحدّاه الناس وإنما كانت الآيات تأتي بإذن الله وفي الوقت المناسب الذي يقدّره الله لأن لكل أمر وقتا معينا في علمه.
3- ولله مطلق التصرف في الحكم والأحكام يمحو ما يريد ويثبت ما يريد.
وعنده علم كل شيء.
4- وإن من الممكن أن يري الله النبي بعض ما يتوعد به الجاحدين كما أن من الممكن أن يتوفّاه الله قبل ذلك.
5- وعلى كل حال فإن قصارى مهمته تبليغ رسالة الله. أما حساب الناس فهو على الله وحده.
وفيها ثانيا: التفات إنذاري إلى الكفّار.
1- فوجّه إليهم سؤال استنكاري عما إذا لم يروا آثار عقوبة الله من تدمير(5/550)
وانتقاص من أطراف الأرض التي كانت مساكن الكفار من قبلهم حتى يقفوا موقف المعاند والمكابر.
2- وعقّب على السؤال بأن الله إذا ما حكم بأمر فهو نافذ حتما لا يستطيع أحد أن ينقضه أو يردّه وبأنه سريع الحساب أكثر مما يتوهمون.
3- وذكروا بما كان من أمثالهم السابقين: فقد مكروا مثل ما يمكرون.
ولكن المكر المؤثر المتحقق هو مكر الله فهو يعلم ما تكسب كل نفس ويحصيه عليها. ولن يلبث الكفار أن يروا لمن تكون العاقبة والغلبة ومن الذي يجدي مكره وكيده.
وفيها ثالثا: التفات إلى النبي ثانية بسبيل التثبيت والتطمين: فالكفار ينكرون رسالته فما عليه إلّا أن يقول لهم إنه يجعل الله شهيدا بينه وبينهم فهو خير الشاهدين ثم يجعل الذي عنده علم الكتاب أيضا شاهدا على صحة رسالته.
ولقد روى البغوي في سياق الشطر الأول من الآية الأولى أن اليهود أو المشركين قالوا إن هذا الرجل ليست له همّة إلّا في النساء، فأنزله الله للردّ عليهم.
وروى في سياق الشطر الثاني أنه جواب لعبد الله بن أبي أمية الذي تحدّى النبي بالإتيان بآية.
والآيات منسجمة مع بعضها. وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو وحدة متماسكة. والرواية الأولى لا يمكن أن تصحّ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوّج في العهد المكي إلّا بأمّ المؤمنين خديجة وكانت أكبر منه سنا حينما تزوّجها وبلغت عنده سنّ الشيخوخة ولم يتطلّع إلى غيرها. والطابع المكيّ قوي البروز على الآيات وقد ورد أمثالها في سور لا خلاف في مكيتها. ولم يرو المفسرون الآخرون رواية ما في صدد نزولها وإنما قال بعضهم إن في الآية الأولى ردّا على المشركين الذين كانوا يستغربون أن يكون النبي بشرا يتزوج النساء وينجب ذرية ويظنون أنه ينبغي أن يكون من جنس الملائكة ثم الذين كانوا يتحدّون النبي بالآيات.
ومع وجاهة ذلك بالنسبة للآية الأولى فإن الذي يتبادر أن الآيات متصلة أيضا(5/551)
بالسياق والمشهد الجدلي. وقد احتوت تثبيتا وردا وتدعيما وإنذارا وجاءت خاتمة قوية للموقف الجدلي وللسورة في آن واحد.
ولقد تضمنت آيات مكية عديدة مرّت أمثلة منها حكاية استغراب المشركين بشرية النبي «1» . فمن المحتمل أن يكونوا كرروا ذلك في ظروف نزول السورة فاحتوت الآية الأولى ردّا عليهم في سياق ما احتوته الآيات من ردود وتقريرات.
ولقد كان تحدّي المشركين النبي بالإتيان بآية مما تكررت حكايته في السياق المتوالي من السورة فاحتوت الآية الأولى كذلك ردّا جديدا على تحدّيهم بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل. ولقد كانوا يعرفون أن الرسل السابقين كانوا يأتون بالمعجزات فاستهدف هذا الردّ تقرير كون ذلك لم يكن إلّا بإذن الله وفي المناسبة والحالة اللتين تقتضيهما حكمته. ولقد كانوا يعرفون حتما أن من الرسل من كان له أزواج وذرية. فإن هذا مستفيض الذكر في كتب أهل الكتب وأوساطهم، فجاء الردّ بذلك قويّا مفحما.
ولقد أورد المفسرون في سياق جملة أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أقوالا عديدة معزوّة إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين أوردناها وعلقنا عليها في سياق تفسير الآية [44] المماثلة لها في سورة الأنبياء. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه فلا حاجة للإعادة.
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة أحد علماء التابعين أن المقصود بجملة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود الذين أسلموا في المدينة ثم رويا إنكار الشعبي وسعيد بن جبير من علماء التابعين كذلك لذلك وقالا: كيف يكون عبد الله بن سلام والسورة مكية، وهذا حقّ. ولقد حكت آيات عديدة مكية تصديق أهل الكتاب لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق وحي القرآن وإيمانهم بذلك على ما مرّ بيانه في هذه السورة ثم في سور عديدة سابقة «2» . والمتبادر أن
__________
(1) انظر مثلا آيات سورة الفرقان [8 و 20] وسورة الإسراء [94- 95] .
(2) في التاج حديث يرويه الترمذي عن عبد الله بن سلام نفسه قال: «إن هذه الآية نزلت فيّ» . وقد نبّه صاحب التاج أن سند الحديث غريب. انظر التاج ج 3 ص 360.(5/552)
استشهاد الآية إنما كان بالذين كانوا في مكة من هؤلاء.
ومع وضوح القصد من هذه الجملة وهو استشهاد أهل العلم والكتاب على صحة نبوّة النبي ووحي القرآن فإن الطبرسي المفسّر الشيعي أورد في سياقها فيما أورد رواية عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله أن المراد به علي بن أبي طالب وأئمة الهدى ورواية عن أبي عبد الله أنه قال: إيّانا عنى وعليّ أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي وأنه وضع يده على صدره ثم قال: عندنا والله علم الكتاب.
والهوى الحزبي والتكلّف والخروج عن الصدد بارز على الرواية كما هو واضح.
تعليق على جملة لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وعلى آية يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم للجملة الأولى «1» . منها أنها بسبيل الردّ على استعجال الكفار لعذاب الله المنذر به. ومنها أنها بسبيل الردّ على تحديهم النبي بالآيات.
ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله قد جعل لكل كتاب أنزله على أنبيائه السابقين مدة محدودة فيثبت منها ما يشاء ويمحو ما يشاء في الكتب التي ينزلها بعد حتى نسخت بالقرآن. ورأى بعضهم في هذا دليلا على صحة القول بالنسخ في القرآن. وقد يكون للقول الأول وجاهة مستمدة من الآيتين [34 و 40] من هذه السورة. وقد يكون للقول الثالث وجاهة من حيث الاستنباط. لأن بعض الأحكام المنزلة على بعض الأنبياء كانت تنسخ بأحكام أخرى تنزل على أنبياء آخرين. ثم نزل القرآن الذي صار هو المرجع للمبادىء والأحكام الإلهية وصار هو كتاب الدين الذي أذن الله أن يظهره على الدين كلّه. غير أن الذي يتبادر لنا أن القول الثاني هو الأكثر اتساقا مع السياق على ما شرحناه آنفا وفي سورة غافر آية تدعم هذا الشرح بقوة.
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم.(5/553)
وهي وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) .
وتعددت كذلك التأويلات التي يرويها المفسرون أو يوردونها باجتهادهم لمدى جملة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ من ذلك إنها بسبيل تقرير كون كل الأحكام والأقدار والأقوال والأفعال الربانية قابلة للمحو والإثبات.
واستثنى بعضهم الموت والحياة والسعادة والشقاء، ويعنون بالسعادة والشقاء تقدير الله الأزلي لسعادة المهتدين الناجين وشقاء الأشقياء الضالين الهالكين في الآخرة بمعنى أن من قدر عليه الشقاء ظلّ شقيا لا يتبدّل أمره وكذلك من قدّر له السعادة.
وأنكر بعضهم استثناء السعادة والشقاء وأوردوا للتدليل على ذلك خبرا يفيد أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا يدعوا الله فيقولان:
اللهمّ إن كنت كتبتني شقيا فامحه عني وأثبتني سعيدا إنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وأوردوا مثل هذا الدعاء أو قريبا منه لبعض التابعين أيضا. ومن ذلك أنها بسبيل تقرير كون الله يمحو ما يشاء مما أنزل من الأحكام ويثبت ما يشاء مما هو مقرّر عنده في أم الكتاب. أو إن الذي يثبته هو المقرر عنده في أم الكتاب.
ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويمحوها من كتب أعمالهم ويبقي منها ما يشاء. ومنها أنها بسبيل بيان كون الله يأمر بطرح كل ما ليس فيه ثواب وعقاب من أعمال الناس من كتبهم. ومنها أنها بسبيل تقرير مطلق تصرف الله تعالى بالمحو والإثبات في كل ما يريد بكونه وخلقه وأحكامه وعقابه وثوابه وإرزاقه الناس وأعمالهم وآجالهم وسعادتهم وشقائهم إلخ وأن علم ذلك كله عنده في أم الكتاب. واستدلّ بعضهم بهذه الآية على جواز البداء على الله تعالى أي رجوعه عمّا كان قدّره وقضاه. ورأى بعضهم في هذا التعبير مسّا بذات الله فقال إن لله لوحين واحدا فيه كل ما هو كائن حقا وهذا لا يقع فيه تبديل ولا رجوع وهو المعبّر عنه بعبارة أم الكتاب، وآخر يمحو منه ما شاء أن يمحوه ويثبت ما شاء أن يثبت.(5/554)
وقال بعضهم في الردّ على جواز البداء على الله إن علم الله قديم أزلي وهو من لوازم ذاته وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محال.
وتعددت الأقوال المروية والواردة في مدى أُمُّ الْكِتابِ كذلك ...
منها أنها الحلال والحرام، ومنها أنها علم الله الشامل لكل شيء. ومنها أنه الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل. ومنها أنه المحتوي لكل شيء سواء ما شاءت حكمة الله محوه أم شاءت إثباته. ومنها أنه علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون وأنه قال لعلمه كن كتابا فكان كتابا. وهذا القول الأخير مروي عن ابن عباس عن كعب بن أبيّ أحد علماء أصحاب رسول الله. وقد قال الطبري الذي استوعب الأقوال المرويّة تعقيبا عليها إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال (عنده أصل الكتاب وجملته ويدخل في ذلك ما شاء أن يمحوه وما شاء أن يثبته) .
وبعض هذه الأقوال متصل بموضوعي اللوح والقدر. وقد علقنا عليهما في سورتي البروج والقمر بما يغني عن التكرار. ونكتفي بالقول هنا إنّ فيما رواه المفسرون وقالوه حول الجملة الثانية ما هو أمور غيبية لا يصح الأخذ بشيء منها إلّا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليس هناك شيء صحيح عنه في صدد هذه الجملة. وكل الأقوال اجتهادية وتخمينية. ويلمح شيء من التعارض بينها في الوقت نفسه. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سلسلة استهدفت الردّ على الكفار وإفحامهم وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم تجاه مواقفهم منه وإن ما احتوته هو بسبيل ذلك حيث أريد بها تقرير كون الله عز وجل مطلق التصرف في جميع الأمور ما علم منها وما لم يعلم وما غاب وما حضر وما حدث وما لم يحدث. وما مضى وما يأتي فإذا شاءت حكمته أن يقع أمر في الموعد وقع، وإذا شاءت حكمته أن يمحوه أو يثبته تمّ ذلك حسب مشيئته. وأن الأولى أن تظلّ الجملة في هذا النطاق دون تخمين وتزيد وخروج عن الصدد والله تعالى أعلم.
[تم بتوفيق الله تعالى الجزء الخامس ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس وأوله تفسير سورة الحج](5/555)
فهرس محتويات الجزء الخامس
تفسير سورة الأحقاف 7 تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ... 16
تعليق على جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي 17 تعليق على جملة إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ 20 تعليق على آية وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً 24 تفسير سورة الذاريات 33 تعليق على وصف المتقين 37 تعليق على آية فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ 43 تفسير سورة الغاشية 45 تعليق على ما روي في إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ 48 تفسير سورة الكهف 50 تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف 57 تعليق على الآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ 62 تعليق على الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ 64 تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان 69 تعليق على آية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ 71 تعليق على وصف إبليس أنه من الجن 275 تعليق على قصة موسى والعبد الصالح 83 تعليق على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج 91 تفسير سورة النحل 115 تعليق على اختصاص آيات الأنعام بالأكل 122 تعليق على جملة وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ 138 تعليق على قول المشركين أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى 151 تعليق على جملة تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً 153 تعليق على جملة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ 155 تعليق على جملة وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ 158 أرذل العمر 158 تعليق على جملة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ 166 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ 167 شرح الآية وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ 170 تعليق على آيات فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ 175 مسألة النسخ في القرآن 177 تعليق على آية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ 183 تعليق على جملة رُوحُ الْقُدُسِ 184(5/556)
تعليق على الأمر بالاستعاذة من الشيطان 184 تعليق على آية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ 186 تلقينات الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ 189 تعليق على جملة وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ 192 تلقين آية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً 195 التلقين الذي احتوته جملة وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ 197 تعليق على آية ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ 202 تعليق على آية وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا 204 تفسير سورة نوح 207 تعليق على أسماء معبودات قوح نوح 211 تفسير سورة إبراهيم 213 دلالة جملة لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ 214 تعليق على جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ 216 تعليق على جملة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ 222 تعليق على آية يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا 232 تعليق على آية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ 240 تفسير سورة الأنبياء 253 تعليق على جملة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ 262 تعليق على قصة إبراهيم مع قومه في هذه السورة 276 تعليق على قصة داود وسليمان في هذه السورة 279 تعليق على قصة مريم 285 تعليق على جملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ 295 تأويل الشيعة للجملة السابقة وموضوع المهدي 297 تفسير سورة المؤمنون 300 تعليق على الأمانة وخطورتها 304 تعليق على استفراش ملك اليمين 306 تعليق على آية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ 308 تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون 311 تعليق على محتويات الآيات 325 تفسير سورة السجدة 340 تعليق على الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ 341 تعليق على آية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ 344 تعليق على ملك الموت 345 تعليق على آية وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ 348 تعليقات على آية إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ 349 تعليق على الآية وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ 355 تفسير سورة الطور 359 تعليق على آية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ 363 تعليق على كلمة كاهن 366 تفسير سورة الملك 373 تعليق على آية هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا 379 تفسير سورة الحاقة 384(5/557)
تعليق على الحضّ على طعام المسكين 389 تفسير سورة المعارج 392 تعليق على رواية شيعية في سبب نزول هذه الآيات 393 تعليق على جملة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ 394 تعليق على اختصاص جمع المال وكنزه 397 تعليق على الآيات إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً 398 تعليق على الآية وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ 400 تفسير سورة النبأ 404 تفسير سورة النازعات 410 تفسير سورة الانفطار 419 تفسير سورة الانشقاق 423 تعليق على ما يلهمه أسلوب ومضامين السورة 427 تفسير سورة الروم 428 تعليق على خبر انكسار الروم 429 تعليق على قدرة الله ونواميسه في الكون 439 تعليق على آية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ 440 تعليق على آية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً 448 تعليق على آية مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ... 450
تعليق على جملة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا 453 تعليق على آية ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ 2455 تعليق على جملة كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
457 تعليق على سماع الموتى لخطاب الأحياء 460 تعليق على آية فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ 464 تفسير سورة العنكبوت 465 تعليق على الآيات [1- 7] من السورة 467 تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ 470 تعليق على آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ 471 تعليق على آية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها 482 تأويل جملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ 484 تعليق على آية وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ 486 استطراد إلى مكتسبات النبي قبل النبوة 492 تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ 496 تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
499 تفسير سورة المطففين 507 تنبيه 514 تفسير سورة الرعد 515 تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ 525 تعليق على مجموعة الآيات [19- 25] . 533
تعليق على جملة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ 540 تعليق على جملة لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 553(5/558)
الجزء السادس
ثبت بالسور المدنية مرتبة حسب نزولها الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هكذا:
1- البقرة 2- الأنفال 3- آل عمران 4- الأحزاب 5- الممتحنة 6- النساء 7- الحديد 8- محمد 9- الطلاق 10- البينة 11- الحشر 12- النور 13- المنافقون 14- المجادلة 15- الحجرات 16- التحريم 17- التغابن 18- الصف 19- الجمعة 20- الفتح 21- المائدة 22- التوبة 23- النصر على أننا سوف نخالف ترتيب بعض هذه السور لأن في بعضها دلالات تكاد تكون قطعية على أن ترتيبها حسب ما رواه المصحف الذي اعتمدناه لا يمكن أن يكون صحيحا ومبررا.
من ذلك سورة الممتحنة التي ذكرت كخامسة السور المدنية ترتيبا، مع أنها تحتوي إشارات إلى وقائع جرت بعد صلح الحديبية، الذي أشير إليه في سورة الفتح، التي جاء ترتيبها العشرين، والتي احتوت سورة المائدة إشارة إليها. ولذلك سوف نؤخر تفسير سورة الممتحنة إلى بعد سورتي الفتح والمائدة. ومن ذلك سورة الجمعة التي ذكرت كتاسعة عشرة، مع أن فيها تنديدا بمواقف اليهود يدل(6/5)
على أنها نزلت قبل التنكيل بجميع يهود المدينة. ولذلك سوف نقدم تفسيرها على سورة الأحزاب التي ذكرت فيها آخر وقائع التنكيل بيهود المدينة.
ومن ذلك سورة الحديد التي ذكرت كسابعة السور ترتيبا مع أنها تحتوي إشارة إلى ما بعد الفتح المكي، الذي وقع بعد صلح الحديبية بسنتين. ولذلك سوف نؤخر تفسيرها إلى ما بعد تفسير سورة الممتحنة التي فيها إشارة إلى حركة الفتح المكي قبيل وقوعه.
ومن ذلك سورة الحشر، التي جاء ترتيبها الحادية عشرة، مع أنها نزلت في مناسبة وقعة إجلاء بني النضير التي كانت قبل وقعة الأحزاب أو الخندق المشار إليها في سورة الأحزاب ولذلك سوف نقدم تفسيرها على هذه السورة. وعلى هذا فسوف يكون ترتيب تفسير السور المدنية في هذا الجزء والأجزاء التالية كما يلي:
البقرة- الأنفال- آل عمران- الحشر- الجمعة- الأحزاب- النساء- محمد- الطلاق- البينة- النور- المنافقون- المجادلة- الحجرات- التحريم- التغابن- الفتح- المائدة- الممتحنة- الحديد- التوبة- النصر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- الحج 2- الرحمن 3- الإنسان 4- الزلزلة 5- البقرة
__________
(1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء(6/6)
سورة الحجّ
في السورة إنذار بالقيامة وهولها. وتدليل على قدرة الله على بعث الناس ومحاسبتهم. وتنديد بفئات من الكفار وذوي القلوب المريضة وتنويه بالمؤمنين.
وإنذار رهيب للأولين وبشرى للآخرين. وتوبيخ للكفار على صدّهم عن المسجد الحرام. وبيان عن صلة إبراهيم بالكعبة والحج. واستطراد إلى مناسك الحج وبخاصة ما يتعلق بالقرابين وإقرارها بعد تنقيتها من شوائب الشرك. وبشرى للمهاجرين بنصر الله وعنايته في حالتي الموت والحياة. وتقرير باعتبار المسلمين مظلومين بما كان من قتال المشركين لهم وأذاهم. وتقرير حق الدفاع لهم وتقرير ما يمكن أن يكون من سعادة المجتمع إذا تمكنوا في الأرض حيث يقيمونه على أساس قويم من صلاة وزكاة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وتطمين وتثبيت للنبي إزاء عناد الكفار وتذكير بآثار عظمة الله في كونه. وبعذاب الله للأمم السابقة لكفرها وتكذيبها لرسلها، ومشاهد ومواقف جدلية. وختام قوي موجّه للمسلمين، منوّه بالمكانة العظمى التي خصّوا بها، احتوى فيما احتواه تقرير نسبة العرب بالأبوة إلى إبراهيم (عليه السلام) وما جعل الله لهم من مزيّة ليكونوا شهداء على الناس.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه السورة مدنية، في حين أن المفسرين البغوي والنيسابوري والزمخشري والطبرسي والخازن والبيضاوي والنسفي يروون أنها مكية، وبعضهم يذكر أن بعض آيات منها مدنيّة.
والآيات المرويّة مدنيتها هي [19- 22] في رواية و [19- 24] في رواية أخرى، ثم الآيات [38- 41 و 52- 55 و 58- 60] .
والمتمعن في الآيات [19- 24] ومضمونها، يجد أن أسلوبها ومضمونها(6/7)
مكّيان أكثر من كونهما مدنيين. وكذلك الآيات [52- 55] . أما الآيات [38- 41 و 58- 60] فقد يؤيّد أسلوبها ومضمونها مدنيتها، مع احتمال أن تكون- وبخاصة الآيات [38- 41]- مكية أيضا لأن أسلوبها ومضمونها يسوغان تخمين ذلك.
وهناك آيات لم يذكرها الرواة في عداد الآيات المدنية على ما اطّلعنا عليه، مع أن مضمونها قد يسوغ بل قد يرجّح مدنيتها وهي الآيات [25- 27] ثم الآيتان الأخيرتان من السورة اللتان يحتمل أن تكونا مدنيتين أيضا على ما سوف نشرحه بعد.
وعلى كل حال، فإن أسلوب معظم آيات السورة ومضمونها يسوغان ترجيح صحّة رواية مكّيتها، مع احتمال أن تكون بعض آياتها مدنية.
وفي هذه السورة موضعان يسجد عندهما سجود تلاوة، وهما الآيتان [18 و 77] وقد ورد في صدد ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم عن عقبة بن عامر قال: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله في سورة الحجّ سجدتان قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» »
. وروى هذا الحديث الإمام أحمد بفرق مهم وهو أن عقبة قال: «يا رسول الله، أفضلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين؟
قال: نعم» «2» . وهناك حديث رواه أبو داود عن خالد بن معدان «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فضلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين» «3» . وحديث رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن أبي الجهم قال: «سجد عمر سجدتين في الحجّ- أي في سورة الحجّ- وهو بالجابية، وقال إنّ هذه فضلت بسجدتين» «4» .
والحديث الأول وارد في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة، والأحاديث الأخرى محتملة الصحّة. وسجدات التلاوة منحصرة في السور المكيّة. فبالإضافة
__________
(1) التاج ج 1 ص 198- 199.
(2) من تفسير السورة لابن كثير.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه. [.....](6/8)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
إلى ما في الأحاديث من تنويه بفضل هذه السورة، فإن فيها، والحالة هذه، دلالة على مكيتها، والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
. (1) الزلزلة: معناها اللغوي شدّة التحريك وإزالتها للأشياء عن أماكنها.
في الآيتين: حثّ للناس على تقوى الله والتزام حدوده. وتحذير من هول يوم القيامة، الذي يحاسب الناس فيه على أعمالهم. وتشبيهه بالزلزلة العظيمة، التي تذهل الأمهات، حين ما تحدث، عن أطفالهن وتجهض الحاملات، ويبدو الناس كالمخمورين ولو لم يشربوا خمرا بسبب الرعب الشديد والاضطراب اللذين يستوليان عليهم.
ولقد روى الطبري وغيره «1» روايات متعددة الصيغ مع اتفاقها بالجوهر، في صدد هذه الآيات، جاء في واحدة منها رواها الطبري عن عمران بن الحصين قال:
«بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض مغازيه، وقد فاوت السير بأصحابه، إذ نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فجثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله، قال: هل تدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم، قال: ذلك يوم ينادي آدم ويناديه ربّه ابعث بعث النار من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، قال: فأبلس القوم فما وضح منهم ضاحك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا اعملوا وأبشروا فإنّ معكم خليقتين ما كانتا في قوم
__________
(1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري أيضا.(6/9)
إلّا كثرتاه فمن هلك من بني آدم ومن هلك من بني إبليس ويأجوج ومأجوج، قال:
أبشروا وأما أنتم في الناس إلّا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في جناح الدابة» . وفي بعض صيغ الروايات التي يرويها الطبري، ذكر أن الآيتين نزلتا حينئذ حيث يقتضي هذا إذا صحّت الرواية أن تكون الآيتان مدنيتين. غير أن الرواية التي أوردناها لا تذكر ذلك صراحة وكل ما ذكرته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نادى بهذه الآية. وفي بعض صيغ الروايات ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأها عليهم وليس فيها خبر نزولها حينئذ.
وشيء من الرواية التي أوردناها رواه الشيخان في سياق تفسير الآيتين، ولكن ليس في نصّهما أنهما نزلتا حينئذ، وهذا هو نصّ حديث الشيخين عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى يا آدم، فيقول: لبّيك وسعديك والخير بين يديك، فيقول: أخرج بعث النّار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كلّ ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد. قالوا: يا رسول الله وأيّنا ذلك الواحد؟
قال: أبشروا فإنّ منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا. ثم قال: والذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّرنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبّرنا، فقال: ما أنتم في الناس إلّا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» «1» .
وأسلوب الآيتين من الأساليب المكية، وصلتهما قويّة بالآيات التالية لهما التي تذكر البعث وارتياب الناس وجدلهم فيه، وتبرهن على قدرة الله تعالى عليه حتى ليصحّ أن يقال إنهما مقدمة لما بعدهما. مما يجعلنا نستبعد نزولهما في العهد المدني، ونرجّح نزولهما في العهد المكي، ونفسّر ما جاء في الروايات بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأها عليهم في أثناء الغزوة، وفي موقف أو ظرف شاءت حكمته أن يذكر أصحابه بهول يوم القيامة ويعظهم ويبشرهم ويطمئنهم في الوقت نفسه فالتبس الأمر على الرواة. ومع واجب الإيمان بما يصحّ عن رسول الله من خبر المشاهد
__________
(1) التاج ج 4 ص 159.(6/10)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
الأخروية فإن هذه الحكمة ملموحة في الحديث الذي يرويه الشيخان، والذي لا يذكر مناسبة النزول التي ترويها الروايات، والله أعلم.
[سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
. (1) مريد: متمرد.
وفي هاتين الآيتين: إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون في وجود الله وربوبيته الشاملة واستحقاقه وحده للعبادة بغير علم ولا برهان اتباعا لوسوسة كلّ شيطان متمرّد يضلّ من يتبعه عن طريق الحقّ ويوصله إلى عذاب السعير.
وقد روى المفسرون «1» أن الآيتين نزلتا في النضر بن الحارث أحد أشداء مجادلي كفار قريش مع النبي ومناوئيهم له. وهذا الشخص تكرر اسمه في مناسبة كثير من المواقف الجدلية التي حكتها الآيات المكية.
وأسلوب الآيتين تنديدي عام من جهة، وفيهما قرينة على أن التنديد فيهما موجّه إلى فريق من الكفار الذين يسيرون في مواقفهم الجحودية والجدلية وراء تلقين زعماء كفار من جهة ثانية. وهما تعقيب بياني على المطلع فيما هو المتبادر من جهة ثالثة فقد احتوى المطلع هتافا بالناس ليتقوا الله من اليوم العظيم، فجاءت الآيتان تذكر موقف بعض الناس الضّالين الذين يجادلون في الله ويستمعون إلى وساوس الشياطين. وفيهما على كلّ حال صورة من صور المواقف الجدليّة التعجيزية، التي لا يسندها منطق ولا حقّ ولا برهان، والتي كان يقفها الكفار من الدعوة النبويّة بتأثير زعماء الضلال والمناوأة، الذين يمكن أن يكونوا قصدوا في جملة كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ من جهة رابعة.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي وغيرهم.(6/11)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
وهذا لا يمنع بالطبع أن يكون في الآيتين إشارة إلى شخص وقف موقفا جدليا تعجيزيا قبل نزول السورة فكان ذلك مناسبة لهذه الإشارة.
ولقد انطوى في الآيتين، مع خصوصيتهما الزمنية، تلقين قوي مستمر المدى والشمول بتقبيح من يتّصف بالصفات المذكورة فيهما، وتقبيح هذه الصفات والحثّ على اجتنابها مما تكرر في مناسبات عديدة مماثلة.
[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
. (1) مضغة: قطعة اللحم التي تتطور من العلقة والنطفة.
(2) مخلّقة وغير مخلّقة: قال المفسرون: إن المخلّقة هي المضغة التي تتشكل جنينا، وغير المخلقة هي التي تسقط من الرحم دون أن تتشكّل.
(3) ربت: نمت وتفتحت.
في هذه الآيات خطاب للناس بسبيل البرهنة على البعث بعد الموت: فإذا كانوا في ريب من ذلك فعليهم:
1- أن يفكروا في نشأتهم وأطوارها. فقد خلق الله أوّلهم من تراب ثم جعلهم يتناسلون عن طريق النطفة، حيث تتطور النطفة إلى علقة دم، والعلقة إلى مضغة لحم، ومن المضغ ما يسقط قبل أن تتخلّق، ومنها ما يستقر في الرحم(6/12)
فتتخلّق على صورة الإنسان وتبقى إلى مدة معينة، ثم طفلا ثم يبلغ أشدّه من القوّة والتمييز. ومن الناس من يتوفّون من قبل أن يمتدّ بهم العمر، ومنهم من يمتدّ بهم فيضعفون بعد قوة ويفقدون وعيهم بعد التمييز، حتى لا يكادون يعلمون شيئا مما كانوا يعلمونه. ففي هذا بيان لهم ومثال على عظيم قدرة الله.
2- وعليهم أن يفكروا في الأرض فإنّها تكون هامدة جامدة، فإذا ما أنزل الله عليها الماء، اهتزت ونفشت وتفتحت وأنبتت النباتات المتنوعة البهيجة.
ففي هذا وذاك ما من شأنه أن يقنعهم بأن الله هو الحقّ، وأنه لا يمكن أن يكون خلق الخلق إلّا بالحق، وأنه قادر على كلّ شيء، وأنه قادر بطبيعة الحال على إحياء الموتى ثانية. وبأن ما أخبر به رسوله من مجيء الساعة وبعث من في القبور إلى الحياة حق لا ريب فيه.
والآيات غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة حيث ما تزال تهتف بالناس.
فقد بدأت السورة بإنذارهم بزلزلة الساعة والإهابة لهم لتقوى الله، وعقبت بذكر فئات الناس الذين يجادلون في الله، فجاءت هذه الآيات تقيم للناس البرهان على قيام الساعة، وسخف المجادلين في الله وضلالهم بما يرونه في أنفسهم وفي الأرض.
وهذا الأسلوب بل وهذه المعاني والأمثلة لإقناع الناس بالبعث وقدرة الله عليه وحكمته، مما تكرر في القرآن كثيرا في مناسبات حكاية مواقف الجدل التي كانت تتكرر كثيرا في الموضوع، والتي كانت مسألة البعث بعد الموت من أهمّ مواضيعها ومثيراتها. وقد يكون في الآيات دلالة على أنها وما قبلها نزلت في موقف من هذه المواقف.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات عدّة أحاديث. منها حديث عزاه إلى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: «حدّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الصادق المصدوق، أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات،(6/13)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقيّ أو سعيد، ثمّ ينفخ فيه الروح» «1» . ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من معمّر يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلّا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والبرص والجذام» . وحديث من بابه مع زيادة مهمة رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس أيضا قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من عبد يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلّا صرف الله عنه أنواعا من البلاء الجنون والجذام والبرص. فإذا بلغ خمسين سنة ليّن الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وسمّي أسير الله، وأحبّه أهل السماء. فإذا بلغ الثمانين تقبّل الله حسناته وتجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وسمّي أسير الله في أرضه، وشفع في أهل بيته» .
والحديث الأول متّصل بموضوع القدر، وقد أوردناه مع زيادته في التعليق الذي علقنا به على هذا الموضوع في سياق سورة القمر، فلا نرى حاجة إلى تعليق آخر.
والحثّ على الإخلاص له والتزام حدود الدين الإسلامي- وهذا هو المقصود من جملة ما من معمّر في الإسلام- والتبشير والتطمين للمسلمين من الحكمة الملموحة في الأحاديث الأخرى إن صحت، والله أعلم.
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) .
__________
(1) روى ابن كثير هذا الحديث بصيغ أخرى ومن طرق أخرى. وهذا الحديث وارد في التاج ج 1 ص 32 عزوا إلى الأربعة (أي البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود) بزيادة مهمة وهي: «فو الله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .(6/14)
(1) ثاني عطفه: لاوي جانبه. والقصد من التعبير وصف المندد به بالكبر والتبختر في الوقفة والمشية.
في هذه الآيات:
1- إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يجادل ويكابر في الله وآياته بدون علم ولا هدى ولا برهان من كتاب صادق، متكبرا متبخترا مشتدّا في العناد ليؤثر على غيره ويمنعه عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته.
2- وإنذار شديد له، فله الخزي والهوان في الدنيا وله عذاب الحريق في الآخرة. وهذا جزاؤه الحقّ على ما قدمت يداه وليس فيه ظلم. فالله لا بظلم أحدا من عبيده وإنما يجزي كلا بما يستحقّ.
وقد روى المفسرون أن هذه الآيات نزلت في النضر بن الحارث، ومنهم من روى أنها نزلت في أبي جهل، ومنهم من روى أنها عنتهما.
والمتبادر أنها استمرار في السياق، أو أنها استطراد إلى ذكر فريق آخر من زعماء الكفار يصدّ غيره ويوسوس لغيره، بينما احتوت الآيتان [3 و 4] صورة الفريق الذي يتبع غيره ويتأثر بوسوسة غيره. وأسلوبها تنديدي كأسلوب الآيتين المذكورتين.
وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن تكون احتوت إشارة إلى موقف جدلي خاص وقفه أحد زعماء الكفار قبل نزول السورة، بل لا بدّ من أن يكون الأمر كذلك لأنها تنطوي على مشهد واقعي.
ومع خصوصية الآيات فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينات جليلة مستمرة المدى وعامة الشمول بتقبيح المكابرة في الحقّ، والاستكبار عليه وصدّ الناس عنه، وتقبيح المتصفين بهذه الصفات.(6/15)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
. (1) على حرف: على طرف، والمقصد إنه شاكّ وإنه على غير اطمئنان وصدق بإيمانه.
(2) العشير: الصاحب والمعاشر.
وفي هذه الآيات: إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يعبد الله على غير اطمئنان وإيمان صادق ويكون مذبذبا. فإذا أصابه خير اطمأنّ وابتهج به، وإذا أصابه شرّ انقلب عن موقفه وجحد ما كان عليه وأخذ يدعو غير الله الذي لا ينفعه ولا يضرّه، بل والذي ضرره هو الأوكد. وفي هذا من الخسران الدنيوي والأخروي والضلال البعيد ما فيه. ولبئس المولى مولاه ولبئس العشير عشيرة.
وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في أعراب كانوا يفدون على النبي في المدينة فيسلمون، فإن أصابهم خير ورخاء بعد إسلامهم أو كان عامهم عام غيث وخصب وولادة حسنة أقاموا على الإسلام، وقالوا هذا دين صالح وإن أصابهم مصيبة أو جذب جحدوا وقالوا ليس في هذا الدين خير وارتدوا إلى شركهم. وهناك رواية أخرى «2» تفيد أنها نزلت في يهودي أسلم ثم تشاءم وطلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقيله من بيعته على الإسلام. وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس جاء فيه: «كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء» «3» .
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(2) انظر تفسير الزمخشري.
(3) التاج ج 4 ص 160.(6/16)
وهذه الروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنيّة. ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة، وقد تكون في الآيات صورة من صور مواقف المنافقين ومرضى القلوب وهؤلاء كانوا في العهد المدني. غير أننا وقد رجحنا مكية السورة لسنا نرى حكمة في وضع هذه الآيات في سياق مواقف وصور مكية. وأسلوب الآيات بعد مماثل كل المماثلة لأسلوب الآيات السابقة التي تحكي هذه المواقف والصور المكيّة لذلك فإننا نرجح أن هذه الآيات استمرار في السياق السابق أو استطراد آخر إلى وصف فريق آخر من الناس في العهد المكي بأسلوب تنديدي، كما وصف الفريقان السابقان. مع احتمال قوي أن يكون هذا الفريق قد أسلم ثم تردّد أو ارتدّ استبطاء لنصر الله واستحبابا للدنيا. وفي سورة النحل التي فسرناها في الجزء السابق آيات تذكر أن بعض المسلمين في مكة ارتدوا عن دينهم استحبابا في الحياة، حيث يورد هذا كشاهد على صواب القول إن الصورة التي وصفت في الآيات صورة مكية وهي مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) .
وفي سور عديدة أخرى آيات حكت حالة أناس كانوا يعترفون بالله ويدعونه ويخلصون له الدعاء والدين في الأزمات، ثم ينسونه ويشركون به غيره في الأوقات العادية، منها آية سورة العنكبوت هذه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) وآيات سورة الروم هذه وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) ووَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) «1» فلعلّ هذه الآيات وأمثالها مما يصحّ أن يدخل في ذلك النطاق.
ولعلّ في الآية [15] التالية لها قرينة على ذلك. وهذا لا ينفي صحة الحديث الذي
__________
(1) انظر أيضا: آيات سورة الأعراف [189- 191] ويونس [12 و 22- 23 و 31- 36] والنحل [52- 55] والإسراء [67- 69 و 83] والزمر [8] فهي من هذا الباب.(6/17)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
رواه البخاري عن ابن عباس وما فيه من صورة لبعض الناس في العهد المدني.
ومن الجدير بالتنبيه أن الحديث لا يذكر أن الآية نزلت في الصورة الواردة فيه.
وقد يبدو أن الآية [13] متناقضة مع الآية [12] ، من حيث إن الآية الأولى تجعل الضرر والنفع محتملين من الشركاء مع تغليب الضرر على النفع، في حين أن الثانية تنفي قدرة الشركاء على النفع والضرر. حتى لقد وصف المفسّر البغوي هذا بأنه من مشكلات القرآن. وقد حاول المفسّر وغيره «1» تخريج ما ظنّوه مشكلة ولم يتوصلوا فيما يتبادر لنا إلى حلّ مقنع. والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على سبيل المساجلة، بمعنى أن ضرره هو الأوكد في حين ليس هناك أي دليل على نفعه. والله أعلم.
وهذه الآيات انطوت كسابقاتها على تلقين عامّ مستمرّ المدى بتقبيح النفاق والتقلّب في الحقّ وعدم الاستقامة عليه، وجعل الموقف منوطا بالنفع الشخصي العاجل ثباتا وانحرافا، والحثّ على تجنّب هذا الخلق البشع والاستمساك بالحقّ والاستقامة على دين الله في كلّ حال.
[سورة الحج (22) : آية 14]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)
. المتبادر أن هذه الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة مباشرة حيث انطوت على التنويه بالذين آمنوا وأخلصوا وثبتوا في إيمانهم وعملوا الأعمال الصالحة ووعد لهم بجنات الله الأخروية مقابلة للتنديد الذي احتوته تلك الآيات بالذين يعبدون الله على حرف وبالفريقين اللذين وصفا في الآية الأولى. وهذا من مألوف النظم القرآني. وواضح أنها احتوت حثّا على الثبات في الإيمان والإقبال على العمل الصالح وبيانا بأن جزاء ذلك مضمون عند الله، وتوكيدا بتقبيح الأخلاق المنعوتة في الآيات السابقة.
__________
(1) انظر تفسير الخازن والزمخشري والطبرسي.(6/18)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
[سورة الحج (22) : آية 15]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)
. (1) بسبب: بحبل.
(2) كيده: هنا بمعنى عمله أو محاولته.
الآية تأمر الذي يظنّ أن الله لن ينصره في الدنيا والآخرة بتعليق حبل في السقف، وشنق نفسه به ليرى ما إذا كان هذا العمل يشفي غيظه ويذهب حنقه.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما، أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان، الذين كانوا حلفاء لليهود وتباطأوا عن الإسلام وقالوا نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا. والرواية تقتضي أن تكون الآية مدنية ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة. وكما استعدنا الرواية المروية في سياق الآيات [11- 13] والتي تقتضي أن تكون هذه الآيات مدنية لأسباب ذكرناها نستبعد هذه الرواية لنفس الأسباب. وليس من الضرورة أن تكون الصورة صورة مدنية وحسب. وما دام وجد في العهد المكي من يرتدّ عن دينه استحبابا للحياة الدنيا، يصحّ أن يوجد فيه من يظنّ ما ذكرته الآية من ضعاف الإيمان والعصبية من مسلمي هذا العهد أيضا.
ويتبادر لنا أن الآية جاءت كتعقيب آخر على تلك الآيات التي نددت بالذين يعبدون الله على حرف ويجعلون إخلاصهم رهنا بما يصيبهم من رحمة الله وبرّه.
وقد انطوت على توبيخ وتقريع ساخرين. وعلى تقرير كون الإنسان لا يصحّ أن يؤمن إلّا على شرط أن لا يناله إلّا الخير. وكون الإيمان بالله مسألة مستقلة لا علاقة لها بأعراض الدنيا المتقلّبة على الناس، وكون واجب المؤمن التأميل في رحمة الله ونصره في الدنيا والآخرة لأن ذلك مما وعده الله به، وكون البطء في تحقق هذا الوعد والجزع والهلع واليأس منه غير متّسق مع معنى الإيمان بالله والثقة به والاعتماد عليه. وعلى من لا يتدبّر ويرعوي ويصدق أن يشنق نفسه! وكما أن شنق الإنسان لنفسه لن يشفيه من غيظه وغير ضارّ بغيره فكذلك المغيظ المحنق(6/19)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
المرتدّ بسبب تأخّر نصر الله له لن يضرّ غير نفسه لأن مصيره إلى عذاب الله وسخطه.
وفي الآية معالجة روحية قوية نافذة من دون ريب في مثل الحالات التي جاءت في صددها.
هذا وإنعام النظر في هذه الآية ومداها يظهر قوة توجيه واحتمال كون الصورة التي احتوتها الآيات [11- 13] صورة مكية على ما قلناه قبل، ويسوغ القول إنها بسبيل تطمين ومعالجة من تعرّض للأذى والحرمان بسبب إسلامه، والتنديد بالذين لم يثبتوا ويصبروا فخاروا وارتدّوا.
[سورة الحج (22) : آية 16]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
. وهذه الآية متصلة بالسياق والموضوع اتصال تعقيب وتنبيه كما هو المتبادر.
فالله قد أنزل آيات القرآن واضحة بيّنة، وهو إنما يهدي بها من أراد له السعادة والهدى.
وأسلوب الآية أسلوب تسلية وتطمين، وقد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن في مثل هذه المواقف. وعلى ضوء الآيات العديدة التي قررت أن الله إنما يهدي من ينيب إليه ومن يستمع القول فيتبع أحسنه، أي من حسنت نيته وصدقت رغبته في هدى الله، ومنها آيات سورة الرعد [27- 29] والزمر [18] لا يكون محل للالتباس في هذه الآية، بسبب إطلاق الفقرة الأخيرة منها على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
[سورة الحج (22) : آية 17]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
. تقرّر هذه الآية أن الله هو الشهيد على كلّ شيء في حقيقة أصحاب النحل والمذاهب الموجودة من مؤمنين بالله والنبي، ومن يهود وصابئين ونصارى(6/20)
ومجوس ومشركين. وكونه هو الذي سيفصل بينهم يوم القيامة حيث يؤيّد الحقّ وأصحابه ويزهق الباطل وأصحابه.
والمتبادر أن الصلة غير منقطة بين هذه الآيات وما قبلها وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة. وأنها بسبيل توكيد قوّة الدعوة النبوية وصحتها وتطمين المؤمنين بها وتثبيتهم.
والمتبادر أن تعبير وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا قد شملهم. ولا سيّما إن القرآن قد ذكر أن هؤلاء كانوا يعترفون بالله العظيم حيث تكون عبادتهم للأوثان والكواكب إشراكا.
تعليق على تسميات اليهود والنصارى والمجوس والصابئين
هذه التسميات تأتي لأول مرة هنا وبهذه المناسبة نقول:
أولا: إن تعبير وَالَّذِينَ هادُوا هو عربي صرف في صيغته وجذره. ويعني اليهود على ما هو متفق عليه، وقد تكرر وروده في السور المدنية، وهو من جذر هاد بمعنى مال وتاب. ومن ذلك جملة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ في الآية [156] من سورة الأعراف حكاية عن لسان موسى عليه السلام. وما دام أن التعبير يعني اليهود فصار من المناسب الاستطراد إلى هذا الاسم. ولقد تكرر ورود هذا الاسم كثيرا في السور المدنية. وجاء في بعضها مختزلا بصيغة (هود) وجاء في بعضها منسوبا (يهوديا) وورد في بعض الأحاديث بدون حرف تعريف وغير مصروف كأنه اسم أعجمي حيث روى الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال: «أمرني رسول الله أن أتعلّم له كتاب يهود قال والله إني ما آمن يهود على كتاب. قال فما مرّ بي شهر حتى تعلمته له. فلمّا تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم» «1» . ومن المفسرين من يرجع تسمية (اليهود) و (يهود) و (هود)
__________
(1) التاج ج 5 ص 230.(6/21)
إلى ذلك الجذر العربي. غير أن الأكثر على أنها تعريب يهوذا اسم أكبر أبناء يعقوب. وأبو السبط الذي منه داود وسليمان وعيسى عليهم السلام. ولقد سميت المملكة التي قامت في بيت المقدس بعد سليمان باسم مملكة يهوذا لأن سبط يهوذا كان يقيم في منطقة بيت المقدس وكان أكبر وأشهر أسباط بني إسرائيل.
ونحن نرجّح ما عليه الأكثر وعدم صرفه في الحديث قد يكون داعما لهذا الترجيح.
ونرجّح أن تسمية (اليهود) و (يهود) و (هود) للذين كانوا يدينون بالدين الموسوي سابقة للبعثة. وأصبحت بذلك جزءا من اللغة العربية. لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين. وقد غدت كذلك بعد البعثة وصار منها اشتقاق فصار يقال تهوّد لمن صار يهوديا، ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» «1» .
وثانيا: إن كلمة (النصارى) وردت في السور المدنية كثيرا وبصيغ متعددة مثل (نصارى) و (نصرانيا) ، فأكثر الأقوال على أن كلمة نصارى هي جمع نصران مثل نشاوى جمع نشوان وسكارى جمع سكران. وروى الطبري بيتين من الشعر الجاهلي ورد فيهما المفرد مذكرا ومؤنثا:
1-
تراه إذا زار العشي محنفا ... ويضحى لديه وهو نصران ثامن
2-
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف
والبيت الثاني صريح الدلالة على أن الكلمة تسمية لامرأة نصرانية.
وهناك بيت جاهلي ثالث يرويه الطبري فيه كلمة أنصار جمعا للنصارى وهو:
لما رأيت نبطا أنصارا ... شمرت عن ركبتي الإزارا
كنت لهم من النصارى جارا
ويقول الطبري إن هذه الأبيات تدلّ على أنهم سمّوا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم. وهذا يعني أن الكلمة عربية صريحة من جذر نصر. وقد
__________
(1) التاج ج 4 ص 180.(6/22)
قال الطبري: إن هناك من يقول إن التسمية مقتبسة من جملة قرآنية حيث جاء في آية سورة آل عمران [52] هذه: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وهذا القول يتسق مع القول إن الكلمة من جذر عربي صريح. غير أن الجملة المذكورة هي جملة قرآنية. ونعتقد أن كلمة النصارى للدلالة على معتنقي الديانة المسيحية كانت مستعملة قبل نزول القرآن.
وهذا قد يجعل القول بأنها منبثقة من الجملة القرآنية محل نظر، إلّا أن يقال إن العرب الصرحاء من النصارى الذين كانوا كتلا كبيرة في الشام والعراق ومشارف الشام واليمن قد تسموا بهذا الاسم على اعتبار عيسى عليه السلام، وأنهم كانوا يتداولون فيما بينهم معنى الحوار الذي أخبر القرآن به بين عيسى والحواريين.
وهناك من قال إن الكلمة مشتقة من اسم الناصرة. وهذا اسم مدينة في فلسطين ذكرت الأناجيل المتداولة أن عيسى عليه السلام كان يعيش فيها أو من أهلها. وقد نسب إليها في الأناجيل فجاء في بعض الإصحاحات تعبير (يسوع الناصري) غير أن كلمة (الناصرة) عربية الصيغة والمعنى. واسم هذه المدينة لم يكن بهذه الصيغة قبل الإسلام، ولم نطلع على خبر وثيق يجعلنا على يقين بأن هذه الصيغة تعريب سابق للبعثة لاسم المدينة القديم لأننا كما قلنا نعتقد أن تسمية النصارى سابقة للبعثة. وورودها في القرآن بصيغ مختلفة من الدلائل على ذلك. وقد غدت كلمة عربية وصار يشتقّ منها فيقال تنصر وينصرانه ومن ذلك الحديث الذي أوردناه آنفا.
وثالثا: إن كلمة المجوس تأتي للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآية. وفي القرآن كلمة (جاسوا) وكلمة (تجسسوا) ولكن كتب اللغة لا تذكر صلة بين هذا الجذر وبين تلك الكلمة التي يتفق المفسرون واللغويون على أنها للدلالة على معتنقي عبادة النار. والمشهور أن هذه الديانة هي ديانة أهل فارس قبل الإسلام.
وقد ذكرت كتب التاريخ القديمة أنه كان للفرس معابد تسمّى بيوت النار وكان لها سدنة يهتمون لإدامة اتقادها وأن ذلك استمرّ إلى ما بعد الفتح الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين. ونحن نرجّح أن الكلمة بدلالتها غير عربية الأصل وأنها كانت(6/23)
مستعملة في اللسان العربي للدلالة على أهل تلك الديانة. وإن لم نستطع العثور على أصلها التي عرّبت عنه.
ولقد كان من العرب من اعتنق اليهودية والنصرانية فتسمّى العرب المتهوّدون والمتنصّرون باسم يهود ونصارى. فجاء اسمهم في القرآن كذلك. وذكر كلمة المجوس في القرآن قد يفيد أن من العرب من كان يعتنق تلك الديانة ويتسمّى بهذه الكلمة. وهناك روايات يمكن الاستئناس بها على ذلك. فقد روى ابن سعد في الجزء الثاني من كتاب الطبقات «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل كتابا ورسولا إلى ملك البحرين يدعوه وقومه إلى الإسلام فاستجاب، وأرسل إلى النبي يخبره أن عنده جماعة يدينون بالمجوسية واليهودية، وسأله أمره فيهم فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوهم، فإن بقوا على دينهم أن يأخذ منهم الجزية وقد يكون المجوس من هؤلاء عربا.
ولقد روى الآلوسي في كتابه «بلوغ الأرب» أن أشتاتا من العرب ومن بطون تميم، الذين كانوا في أنحاء العراق وجزيرة الفرات قبل الإسلام يعبدون النار ومن جملتهم زعماؤهم زراره بن عدس وابنه حاجب والأقرع بن حابس والأسود بن وكيع. ولقد بسط الفرس سلطانهم على اليمن في أواخر القرن السادس بعد الميلاد، أي في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا بدّ من أن يكونوا مارسوا ديانتهم في اليمن. وليس من المستبعد أن يكون بعض العرب من أهل اليمن اقتبسوها منهم «2» . ولقد غدت كلمة المجوس بورودها في القرآن عربية على كل حال، وصار ينحت منها اشتقاق تمجّس ويمجّسانه على ما ورد في الحديث الذي أوردناه قبل.
ولقد روى الإمام أبو يوسف في كتاب «الخراج» حديثا عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» وأنه أخذ الجزية منهم
__________
(1) الطبقات الكبرى ص 27- 28.
(2) انظر طبقات الأمم لابن صاعد والخراج لأبي يوسف ص 73- 75 والأموال لأبي عبيد 32- 34 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 28 وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 5 ص 362 وما بعدها، والجزء الثالث من تاريخ الطبري وفتوح البلدان للبلاذري والجزء الثاني من بلوغ الأرب في أحوال العرب.(6/24)
على هذا الاعتبار، كما روي عن علي بن أبي طالب رواية تفيد أنهم كانوا أصحاب كتاب سماوي انحرفوا عنه «1» ، والله تعالى أعلم.
ورابعا: إن كلمة الصابئين وردت مرتين أخريين في سورتي البقرة والمائدة مع المؤمنين واليهود والنصارى فقط كما ترى فيما يلي:
1- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:
62] .
2- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69] .
ولقد تعددت أقوال المفسرين في الصابئين، فمنهم من قال إنهم فريق من النصارى ومنهم من قال إنهم فريق من المجوس ومنهم من قال إنهم عبدة الكواكب ومنهم من قال إن دينهم مزيج من اليهودية والنصرانية يقرّون بالله ويقرأون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلّون إلى الكعبة قد أخذوا من كل دين شيئا. ومنهم من قال إن أصل دينهم هو دين نوح بل ومنهم من قال إنهم الذين لا دين لهم «2» .
وهذه الأقوال لا تستند إلى سند وثيق وقد لا تخرج عن حدّ التخمين كما يؤيد ذلك تعددها وتموّجها. ولقد غاب عن الذين قالوا إنهم مجوس ورود اسم المجوس في آية الحجّ التي نحن في صددها مع اسم الصابئين. كما غاب عن الذين قالوا إنهم عبدة الملائكة أن هذا يعني أنهم مشركون مع أن اسم المشركين قد ورد أيضا مع اسمهم. وورود اسمهم في آيتي البقرة والمائدة مع المؤمنين واليهود والنصارى، أي مع الموحّدين توحيدا صريحا أو مؤوّلا، يسوّغ القول إنهم هم الآخرون موحّدون بشكل من الأشكال.
__________
(1) انظر المصدر السابق نفسه. [.....]
(2) اقرأ تفسير آية البقرة [62] في كتب تفسير الطبري والنسفي والرازي وأبي السعود والخازن والبيضاوي والطبرسي والبغوي وابن كثير.(6/25)
ولقد استقرّ في الأذهان أن هذه التسمية هي للنحلة الموجودة في العراق الآن، والتي يطلق عليها اسم الصبّة الذي يظنّ أنه تحريف (الصبا) أو (الصبئة) ، بل إن بعض المفسرين قالوا هذا فيما قالوه. ومعروف أن بين رجال الأدب العربي القديم أفراد مشهورون من هذه النحلة احتفظوا بنسبتهم إليها منهم أبو إسحاق الصابي. ولقد أورد بعض المفسرين «1» قصة حول هذه النحلة، وهي أن المأمون مرّ بقرية فيها طائفة تعبد الكواكب فأراد أن يعتبرها من المشركين وأن لا يقبل منهم الجزية، فقيل له: إنهم (الصابئون) المذكورون في القرآن مع اليهود والنصارى وينسحب عليهم ما ينسحب على هؤلاء، فأبقاهم على الذمة وأخذ منهم الجزية.
ونعتقد أن الربط بين صبّة العراق والصابئين في عهد المأمون وبعده وبين التسمية القرآنية وهم وتجوّز، أو بالأحرى تلفيق مرتجل بعد الإسلام.
إلى جانب هذا نذكر أن الكلمة اشتقاق عربي أصيل من صبا أو صبأ بمعنى مال وانحرف «2» ، وقد ورد اشتقاق منها في آية سورة يوسف هذه: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) بمعنى الميل أو الانحراف ونذكر كذلك أن العرب في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون للذي يفارق دين آبائه ويدخل في دين جديد (صابىء) وأنهم سموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا الاسم وسموا به المسلمين الأولين لأول عهد الإسلام. وكانوا ينعتونهم بالصبأة والصابئين. ولقد روى ابن هشام «3» أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقول عن النبي إنه صابىء وإنه لما أسلم وجاء لأول مرة بعد إسلامه إلى فناء الكعبة قال المجتمعون: إن ابن الخطاب قد أقبل عليهم بوجه صابىء. وفي صحيح البخاري أن امرأة بدوية عبّرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بقولها: (ذلك الذي يقولون عنه الصابىء) . وفي «أسد الغابة» حديث عن الحارث الغامدي أنه رأى جماعة من
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) انظر لسان العرب.
(3) ابن هشام ج 1 ص 311.(6/26)
قريش تجمعوا على رجل من مكة فقال لأبيه: ما هذه الجماعة؟ فقال له: هؤلاء قوم اجتمعوا على صابىء لهم. فأشرفنا فإذا رسول الله يدعو الناس إلى عبادة الله وحده.
فإطلاق التسمية على النبي والذين آمنوا به في أول عهد الإسلام، ثم سلك الصابئين في آيتي البقرة والمائدة في سلك الموحدين يزيد في قوة الاستدلال على أن الكلمة القرآنية عنت الموحدين بشكل ما والمنحرفين عن دين الآباء وتقاليدهم الشركية. وورودها في القرآن دليل على أنها من تعابير ما قبل البعثة وأنها كانت تطلق على جماعة ما في بيئة النبي متصفين بهذه الصفة، وأن منهم من ظلّ على ما كان عليه ولم يتّبع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ولقد ورد في كتب السيرة والتفسير ذكر أفراد من عرب الحجاز كانوا ألمّوا بالكتب السماوية، واستنارت عقولهم فأنفوا أن يظلوا يعبدون ما يعبد آباؤهم ويشركون مع الله آلهة أخرى ففارقوا ذلك واستقروا على عقيدة التوحيد ومنهم من اعتزم التطويف في الأرض للبحث عن ملّة إبراهيم ومنهم من أخذ يتعبّد على ملّة إبراهيم أو ما ظنّه كذلك ومنهم من تنصّر ومنهم من كان في مكة ومنهم من كان في يثرب. وممن ذكرتهم الروايات زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبد الله بن جحش وأمية بن الصلت وأبو قيس البخاري اليثربي وأبو الهيثم بن التيهان اليثربي وأبو عامر الأوسي وسلمان الفارسي وأبو ذرّ الغفاري «1» . ومنهم من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مثل سلمان وأبو ذرّ وعبد الله بن جحش.
ومنهم من مات قبل بعثته مثل زيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث ومنهم من مات في أوائل بعثته مثل ورقة بن نوفل، الذي أدرك أوائل البعثة وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن أدركني أمرك لأنصرنك نصرا مؤزرا «2» . ومنهم من كفر بنبوة النبي وناوأه مناوأة شديدة حسدا وعنادا مثل أمية بن الصلت وأبي عامر الأوسي المعروف بالراهب.
__________
(1) انظر ابن هشام ج 1 ص 215- 223 وج 2 ص 103 و 177- 178 وطبقات ابن سعد ج 1 ص 202 وتفسير الرازي ج 3 ص 369- 370.
(2) انظر التاج ج 3 ص 226.(6/27)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
ومما روي «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم التقى بزيد بن عمرو وقال عنه: إنه يبعث أمة وحده، وإنه كان يناجي ربه فيقول: (لبيك حقا حقا تعبّدا ورقّا. عذت بما عاذ به إبراهيم.
إنني لك عان راغم. مهما تجشمني فإني جاشم) ، وهو أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، الذي كان من السابقين الأولين إلى الإسلام وأسلمت معه زوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر رضي الله عنهم.
هذا، ويلحظ أن الآية لم تذكر صنفين ذكرا في آيات أخرى وهما عبّاد الشمس والقمر أو الكواكب وعبّاد الأوثان. وقد ذكر الأولون في الآية [37] من سورة فصلت، وذكر الآخرون في آيات سورة الأعراف [191- 198] ، وآيات سورة النجم [19- 24] وآيات سورة الأنبياء [52] وإبراهيم [35] والعنكبوت [17] .
والمتبادر أن جملة وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا قد شملتهم لأنهم كانوا يعبدون الكواكب والأوثان من قبيل إشراكهم مع الله واتخاذهم شفعاء لديه، على ما شرحناه في سياق بعض الآيات.
وقد يكون هناك ملل تعبد مظاهر الطبيعة الأخرى، وهذه أيضا لا تخرج عن الشرك وصفة المشركين.
وقد يكون هناك ملل كتابية أخرى على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [77] من سورة غافر، والآية [15] من سورة الشورى. والآية التي نحن في صددها لا تنفي ذلك. والمتبادر أن اقتصارها على ذكر اليهود والنصارى من الملل الكتابية آت من كونهم هم الذين يعرفهم العرب ويتصلون بهم. والله تعالى أعلم.
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) .
__________
(1) أسد الغابة ج 2 ص 178.(6/28)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
تتضمن الآية:
1- سؤالا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو للسامع في معنى التقرير والتوكيد بخضوع كلّ من في السموات والأرض، بما في ذلك الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، لله وبإخلاص كثير من الناس له أيضا في العبادة والخضوع.
2- وإشارة إلى أن كثيرا من الناس قد استحقّوا عذاب الله بسبب جحودهم وتمرّدهم.
3- وإنذارا لهذا الفريق بأن الله إذا قضى على أحد بالخزي والهوان بسبب كفره وتمرّده فلن يكون له من يبدّل هوانه بكرامة وهو الفعّال لما يشاء.
والصلة كذلك غير منقطعة بين هذه الآية وما قبلها وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة كما هو المتبادر. وهي بسبيل التدليل على عظمة الله وشمول حكمه، وخضوع من في الكون له، وتوكيد كون الدعوة النبوية هي المتسقة مع واجب الإنسان بالاعتراف بالله وحده والاتجاه إليه وحده. وهي كذلك بسبيل تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وتثبيتهم، والتنديد بالمنحرفين عن الطريق القويم وإنذارهم بالخزي وسوء العاقبة. وأسلوبها قوي نافذ. وما احتوته من تقرير كون جميع ما في كون الله خاضع له تعالى قد مرّ في سور سابقة في مناسبات مماثلة وبأساليب متنوعة. ولقد كتبنا تعليقا على آية سورة الإسراء هذه تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) ويمكن أن ينسحب هذا التعليق على هذه الآية، وبخاصة بالنسبة لسجود من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب.
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
.(6/29)
(1) يصهر: يذاب.
(2) مقامع: سياط مدببة الرؤوس.
في الآيات إنذار وبشرى لكل من المؤمنين والكفار بالمصير الذي يصيرون إليه يوم القيامة ووصف له. وقد تضمنت التقريرات التالية:
1- إن الناس يوم القيامة فريقان قد اختلفا في موقفهم من الله ربهم فمنهم من كفر به ومنهم من آمن وعمل الصالحات.
2- إن مصير الجاحدين رهيب جدا حيث يهيأ لهم ثياب من نار ويصبّ فوق رؤوسهم الماء الشديد الحرارة الذي يذيب ما في البطون والجلود. وحيث يعدّ لهم مقامع الحديد التي تلهب أجسامهم وتحطّم أطرافهم. وكلّما ظنوا أن عذابهم وهمهم انتهيا أو كلما أرادوا أن يخلصوا منهما، عادا فتجددا قويين شديدين وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.
3- أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويتزينون بالأساور الذهبية وباللؤلؤ ويلبسون الثياب الحريرية جزاء لما كان من اهتدائهم إلى أحسن الأقوال، وسيرهم في أحمد الطرق وأضمنها للنجاة.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما روايات وتأويلات عديدة في المقصود من الآية الأولى، من ذلك أن أبا ذرّ أقسم بالله أنها نزلت في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحرث (رضي الله عنهم) ، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، يوم تبارزوا في بدر. حيث دعا الثلاثة الآخرون أكفاءهم من بني عمومتهم إلى المبارزة قائلين نحن وإياهم أحقّ(6/30)
بالخصومة، فبرز إليهم الثلاثة الأولون. ومن ذلك عن ابن عباس أن الخصمين هما أهل الكتاب والمسلمون، حيث قال الأولون للآخرين: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال الآخرون للأولين: نحن أحقّ بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب فأنتم تعرفون نبيّنا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا.
ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين هما المشركون والمسلمون اختصموا أيّهم على حقّ. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين الجنة والنار حيث قالت الأولى خلقني الله لرحمته وقالت الثانية خلقني لعقوبته. والرواية الأولى من مرويات الشيخين ونصّهما هو: «كان أبو ذرّ يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر» «1» . وقد روى الشيخان كذلك عن علي قوله: «أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس وفيهم نزلت هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة» «2» . وقد صوّب الطبري من هذه الروايات رواية كون الآية في صدد الكفار عامّة والمؤمنين عامة. حيث يفيد أن ما رواه الشيخان لم يثبت عنده، والروايات الأخرى تفيد هذا أيضا. وتقتضي رواية الشيخين أن تكون الآية مدنية، ولم يرو أحد ذلك بصراحة والأسلوب والطابع المكيان بارزان عليها، والنفس مطمئنة بتصويب الطبري، مع القول أنها بسبيل توكيد ما انطوت عليه الآيات السابقة من صدق الدعوة النبوية وما فيها من حقّ وهدى، والتنويه بالذين استجابوا لها وبشرى لهم، وبسبيل توكيد خطأ الكافرين بها وضلالهم وإنذارهم. وأسلوبها التقريري العام مما يؤيد ذلك حيث تضمّن تقرير كون الناس من الدعوة النبوية فريقين جاحد ضالّ ومؤمن مخلص ولكل مصيره الذي يستحقه.
ووصف مصير كل فريق نافذ يثير الرغبة والشوق والغبطة من جهة، والفزع والرعب من جهة أخرى. وهذا وذاك مما استهدفته الآيات كأمثالها العديدة.
__________
(1) التاج ج 4 ص 160- 161.
(2) المصدر نفسه.(6/31)
ولقد حمل الشيعة القول المروي عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بأنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، على كون الخصومة التي يجثو لها هي مع الذين ناوأوه في حقّه من الإمامة. وهذا من غرائب تخريجاتهم، فعلي رضي الله عنه بايع برضائه وتعاون مع أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) مثل سائر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وما كان ليفعل ذلك لو كان يعتقد أن الله ورسوله قد قررا حقّ التقدم له في خلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس هو أضعف منهم عصبية وشخصية وما كان يمكن أن يقبل ذلك غالبية أصحاب رسول الله بل كلهم.
ونحب أن ننزهه عن القول المروي عنه. ونرجّح أن الهوى الحزبي قد لعب دوره فيه. فبالإضافة إلى الغرابة التي تبدو في التخريج، فإن القول بحدّ ذاته يبدو غريبا وغير مفهوم المدى.
ولقد روى الطبري والبغوي، كل بطريقه، عن أبي هريرة في سياق جملة يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلق ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد إلى ما كان» . وأورد ابن كثير في سياق جملة وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أنّ قمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض» . وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتّت ثم عاد كما كان، ولو أن دلوا من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» . والحديث الأول رواه الترمذي أيضا «1» كما روى الترمذي الشطر الثاني من الحديث الثاني أيضا «2» .
ووصف هول العذاب الأخروي والتخويف منه مما يلمح من الحكمة في الحديثين. وهو ما يلمح من الحكمة في الآيات بالإضافة إلى وجوب الإيمان بما جاء
__________
(1) التاج ج 5 ص 390 و 391.
(2) المصدر نفسه.(6/32)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
في القرآن وصحّ في الحديث من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى.
[سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 29]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
. (1) العاكف: هنا بمعنى المقيم، وقد تطلق على الذي يقيم في المسجد للتعبّد.
(2) البادي: هنا بمعنى الطارئ الآتي من البادية أو الخارج.
(3) بإلحاد بظلم: الباء زائدة. والإلحاد بمعنى الميل. ومعنى الجملة (ومن يرد فيه الانحراف والميل نحو الظلم والبغي) .
(4) أذّن في الناس بالحجّ: نادهم واهتف بهم ليأتوا ويحجّوا البيت. وكلمة الحجّ في اللغة بمعنى القصد والاتجاه إلى الشيء والمكان، ثم صار علما على زيارة الكعبة كطقس ديني قبل الإسلام واستمرّ بعده كذلك.
(5) رجالا: مشاة.
(6) ضامر: من الضمور بمعنى النحافة. والكلمة وصف للخيل التي يخفف من شحمها لتكون أقدر على الركض.
(7) يأتين: الضمير عائد (لكل ضامر) .
(8) فجّ: طريق أو ناحية.
(9) عميق: هنا بمعنى بعيد.(6/33)
(10) ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: القصد من الجملة ذكر الله عند ذبح القرابين من الأنعام.
(11) ليقضوا تفثهم: قيل إنها بمعنى ليزيلوا أوساخهم أو يحلقوا شعرهم ويقلموا أظفارهم وذلك حينما يتحلّلون من الإحرام وقيل إنها بمعنى ليقضوا ما عليهم من واجبات ومناسك، أو ليقضوا ما لهم من حاجات.
في هذه الآيات:
1- إشارة تنديدية إلى الكفار. فهم بالإضافة إلى كفرهم يمنعون الناس عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته. ويمنعونهم كذلك عن المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس على السواء المقيم منهم في جواره والقادم من الخارج.
2- وإنذار بالعذاب الرباني الأليم لكل من يقترف الظلم والبغي والعدوان فيه.
3- واستطراد تعقيبي على ذلك: فالله قد عيّن لإبراهيم مكان بيته وأمره بعدم الإشراك به ثم بتطهير هذا المكان وتهيئته للطائفين حوله والقائمين الراكعين الساجدين عنده لله. وبدعوة الناس إلى الحجّ إليه في أيام معينة من السنة ليأتوا إليه من كلّ ناحية ودرب مهما بعد مشاة وركبانا، ويشهدوا منافع جمّة لهم في موسمه ويقرّبوا فيه القرابين من الأنعام التي رزقهم الله إياها، ذاكرين اسمه عليها، ويأكلوا منها ويطعموا البؤساء والفقراء، ويؤدّوا شعائرهم التعبدية من وفاء نذور وطواف حول البيت، ويقضوا حاجاتهم المتنوعة.
تعليقات على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... وما بعدها [25- 29] مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج
فحوى الآيات يحتمل أن تكون مكيّة كما يحتمل أن تكون مدنيّة. وفي حالة صحّة الاحتمال الأول يكون في الآيات دلالة على أن الكفار كانوا يمنعون(6/34)
المسلمين من أداء صلاتهم عند الكعبة والحجّ إليها والطواف حولها. وقد ذكر هذا المفسّر الطبرسي في سياق تفسيرها. ولقد أشارت إحدى آيات سورة العلق إلى محاولة منع أحد الزعماء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة عندها على ما شرحناه في سياق تفسيرها كما أن بعض الروايات ذكرت محاولات الكفار في ذلك منها رواية عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) جاء فيها أن المسلمين ما كانوا يجرأون على الصلاة عند الكعبة والطواف حولها إلّا بعد إسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بسبب ضعفهم وصدّ المشركين لهم عن ذلك «1» . وفي حالة صحة الاحتمال الثاني الذي انفرد المفسر ابن كثير فيه يكون في الآيات دلالة على أن المسلمين كانوا يأتون من دار هجرتهم إلى مكة بقصد أداء الحج أو العمرة، فيتصدّى لهم كفار قريش ويمنعونهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم، وفي سورة الأنفال المدنية آية تذكر صدّ الكفار عن المسجد الحرام والادعاء بأنهم أولياؤه وهي هذه: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وفي سورة الفتح المدنية آية أخرى فيها نفس الدلالة وهي هذه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [25] إلخ. وفي هذه إشارة إلى حادث تاريخي يقيني وهو رحلة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه إلى مكة بقصد زيارة المسجد الحرام وتصدي المشركين لهم ومنعهم. ونحن نرجّح الاحتمال الأول على ضوء ما شرحناه من تناسب بين الآيات وسابقاتها والله أعلم.
والآيات صريحة التقرير بأن تهيئة الكعبة لعبادة الله وتطهيرها والحجّ إليها وجعلها لجميع الناس من مقيمين وغير مقيمين، وإنشاء تقاليد الحجّ متصل بإبراهيم (عليه السلام) بأمر الله تعالى، وهذا التقرير تكرر في آيات في سورة البقرة مضافا إليه إن الله قد جعل الكعبة وحرمها مثابة للناس وأمنا وهي هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ
__________
(1) انظر تاريخ عمر بن الخطاب للإمام ابن الجوزي، ص 14.(6/35)
طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) ووردت إشارة ما إلى ذلك في آيات سورة إبراهيم [35- 38] التي مرّ تفسيرها.
وورود هذه الصراحة في الآيات التي احتوت التنديد بمشركي قريش وإنذارهم بسبب صدّهم عن المسجد الحرام وظلمهم فيه وخرقهم بذلك حرمته وقدسيته، يلهم أن هؤلاء كانوا يعرفون ما جاء فيها ويتناقلون ذلك على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الأعلى وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار.
ولقد بلغ من اهتمامهم لحفظ تقاليد الحجّ وحرمة المسجد الحرام ومنطقته ومنع كل بغي وقتال وسفك دم فيها أن قدّسوا أشهر الحج وحرّموا القتال فيها، حتى الصيد داخل منطقة الحرم وخارجها، وحرّموا القتال في هذه المنطقة في كل وقت. وكانوا يعتبرون خرق ذلك فجارا، وكانت لهم أيام عرفت بأيام الفجار، بسبيل منع خرقها. وعقدوا فيما بينهم حلفا سمّي حلف الفضول لمنع أي ظلم في الحرم ونصر أي مظلوم فيه «1» .
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء التابعين والأخبار في الصدر الإسلامي الأول في سياق هذه الآيات. منها ما يتصل بأوّلية الكعبة، وقد أوردناه وعلّقنا عليه في سياق تفسير سورة قريش بما يغني عن التكرار. ومنها ما يتصل بالعبارات الجديدة في الآيات. ومن ذلك أن الله أمر إبراهيم (عليه السلام) بعد أن أتمّ بناء البيت مع إسماعيل، أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: ربّ وماذا أستطيع أن أبلغ؟ فقال له عليك النداء وعليّ الإسماع، فهتف قائلا: ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجّوه فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 108- 111.(6/36)
آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك وفي رواية (ما سمعه يومئذ من إنس وجن وشجر وأكمة وتراب وجبل وماء، ولا أي شيء آخر من خلق الله إلّا قال: لبيك اللهم لبيك) .
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والأولى الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه والإيمان به، مع القول إن الروايات تؤكد ما قلناه من أن أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون ذلك قبل الإسلام، ومع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لما جاء في الآيات من ذلك حكمة. لعلّ منها تذكير السامعين بما يعرفون، وبأن الله الذي يعترفون به ويقدسون بيته قد جعل هذا البيت مثابة للناس جميعا، ومطهرا من الشرك من لدن إبراهيم الذي ينتسبون إليه بالنبوة، ثم التنديد بهم لمخالفتهم ذلك وصدّهم المسلمين عنه، وخرقهم حرمته وشركهم بالله وإقامة أوثانهم عند بيته المطهر، حيث تستحكم بذلك فيهم الحجة.
ولقد روى الطبري قولين في معنى بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أحدهما إنه القديم جدا حيث ورد في آية في سورة آل عمران أنه أوّل بيت وضع للناس وهي إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) . وثانيهما أنه بمعنى أعتقه الله من الجبابرة. وقد روى الترمذي في هذا المعنى حديثا عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما سمّي البيت العتيق لأنّه لم يظهر عليه جبّار» «1» . فإذا صحّ الحديث فمن الحكمة الملموحة فيه توكيد قدسيته وعناية الله به وتحريم البغي والظلم فيه وصدّ الناس عنه، وبهذا يتسق الحديث مع مدى الآيات.
ومع أن الآيات تحكي ما أمر الله به إبراهيم، فإنها تلهم أنها تحكي كذلك ما توطّد من عادة العرب قبل الإسلام من الحجّ للكعبة في أيام معينة ومجيئهم إليها من كلّ صوب قريب وبعيد، وتجشّمهم المشاق بسبيل ذلك ومن الطواف حولها
__________
(1) التاج ج 4 ص 161. [.....](6/37)
والنذر لها وتقريب القرابين عندها، وما كان يتيسر لهم في موسمها من منافع ويقضون من حاجات. وكان من ذلك على ما روته الروايات المتواترة قيام أسواق عديدة في موسم الحج يتبادل العرب فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم ويعقدون مجالس قضائية لحلّ المشاكل والخلافات، ويقيمون ندوات الشعر والمفاخرة إلخ وكان ذلك من أسباب تطور اللغة العربية وتهذيبها وتوحيدها ووصولها إلى ذروة الفصحى التي نزل بها القرآن وغدوّها لغة جميع العرب إجمالا على اختلاف منازلهم. كما كان ذلك من مظاهر اتحاد العرب، أو اتحادهم في الاتجاه والتقارب بين مختلف قبائل العرب على اختلاف منازلهم أيضا في داخل الجزيرة وخارجها.
ولقد كانت تقاليد الحجّ راسخة شائعة في العرب، وكان أهل مكة خاصة يخشون الأضرار والأخطار من زوالها نتيجة للدعوة الإسلامية على ما أشير إلى ذلك في آية سورة القصص [57] وما شرحناه في مناسبتها.
فكان كل هذا فيما يتبادر لنا من حكمة الله في الإبقاء على طقوس وتقاليد الحجّ في الإسلام مهما بدا في بعضها من غرابة ومن عدم تبيين الناس حكمة لها الّا بعد تجريدها من آثار الوثنية والشرك ومشاهد القبح، مثل الطواف بالعري وجعله فرضا على المستطيعين من المسلمين ولو مرة في العمر ليكون لهم في ذلك فرصة سنويّة متجدّدة، فتأتي فئات منهم في كل سنة من كلّ صوب من أقطار الدنيا إلى مهبط وحي الله وبيته العتيق ليعلنوا خضوعهم له على صعيد واحد، متساوين في كلّ مظهر وليتقرّبوا إليه بالعبادة والأضاحي والصدقات والنذور، ولينتفعوا بشتى وجوه الانتفاع الروحي، والرياضي، والاجتماعي، والاقتصادي، والشخصي، والسياحي، والتعارفي، والسياسي. ولتكون رابطة دينية متجددة تظل تربط المسلمين في كافة أنحاء الدنيا وفي كلّ ظرف ما دامت الدنيا قائمة بمهبط وحي الله ورسالته على خاتم أنبيائه ورسله كمظهر من مظاهر شكر الله واحترام البلد العربي الذي اختصّه الله بذلك.
ويتراءى لنا في الإبقاء على هذا التقليد بعد تجريده من شوائب الشرك(6/38)
ومشاهد القبح كالطواف في حالة العري تلقين جليل آخر، وهو أن المهم في الدعوة الإسلامية هو التوحيد، وكل ما فيه كفالة خير الناس ومصالحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وليس المهم هو هدم القديم مطلقا، فما كان متناقضا مع ذلك المهم فيجب هدمه بما هو الأصلح والأفضل والأوجب. وليس من حرج من بقاء قديم لا يتناقض مع ذلك إذا كان في بقائه فوائد ينتفع بها المسلمون أو إذا كان في هدمه إثارة للنفوس.
ولقد قال بعض المفسّرين»
إن العرب كانوا لا يأكلون من لحوم أضاحيهم التي ينحرونها في موسم الحج، وإن الآية [28] قد أحلّت ذلك للمسلمين. ومع أن الآيات هي بسبيل الاستطراد كما قلنا فإن في استنباط حلّ أكل صاحب القربان من لحم قربانه وجاهة ظاهرة.
وتعبير وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ بعد كلمة الطائفين في الآية [26] قد يلهم أن القيام والركوع والسجود على التوالي- وهو شكل الصلاة الإسلامية- قد كان ممارسا عند الكعبة قبل الإسلام بالإضافة إلى الطواف حولها.
ولقد تعددت أقوال المفسرين «2» عزوا إلى بعض الأحاديث في مدى تعبير أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ حيث روي أنها العشر الأولى من ذي الحجة كما روي أنها يوم عرفة ويوم العيد وأيام التشريق بعدهما. وقد تعددت أيضا في تعدادها بين يومين وبين أربعة أيام. والمتبادر أن سامعي القرآن لأول مرة كانوا يعرفون الأيام المعلومات التي تقرّب فيها القرابين. وإذا لحظنا أن المشهور المتعارف عند المسلمين أن يوم العيد وأيام التشريق التي تليه هي التي تنحر فيها القرابين ساغ القول إنها هي المقصودة والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذا التعبير حديثا رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه. قالوا ولا الجهاد في
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير.
(2) انظر تفسيرها في الخازن وابن كثير والطبري والبغوي.(6/39)
سبيل الله. قال ولا الجهاد في سبيل الله إلّا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» . وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهنّ من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهنّ من التهليل والتكبير والتحميد» .
فإن صحّت الأحاديث فمن الحكمة الملموحة فيها توكيد فضل هذه الأيام والحثّ على التقرّب إلى الله فيها بالعبادة والذكر.
وهناك أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في صدد مناسك الحج المتنوعة رأينا تأجيل إيرادها وشرحها إلى تفسير آيات الطواف والحج في سورة البقرة لأنها أكثر مناسبة.
تعليق على موضوع النذر
وبمناسبة الإشارة إلى وفاء الحجاج بنذورهم في الآية الأخيرة من هذه الآيات نقول: إن النذر عهد يقطعه الإنسان على نفسه بتقديم قربان ما للمعبود، أو فعل فعل ما يظنّ أنه يرضى به المعبود تقرّبا إليه واسترضاء له ورغبة في قضاء مطلب من دفع شرّ وضرّ وخطر أو جلب خير ونفع، أو تعبيرا عن الشكر إذا تحقق له مثل هذا الطلب. وقد اعتاد البشر ذلك منذ أقدم الأزمنة وعلى اختلاف بيئاتهم وعقائدهم. والآية التي نحن في صددها تدلّ على أن العرب في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره لم يخرجوا عن ذلك. وفي الكتب العربية روايات كثيرة تفيد هذا بالنسبة للعرب في غير بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره كما كان شأن سائر البشر. وليست هذه الآية أولى الآيات التي ذكر فيها النذر، ففي سورة مريم آية فيها حكاية قول عيسى (عليه السلام) لأمه عقب ولادته وحينما خافت من عاقبة هذه الولادة وهي: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) . وقد رأينا أن التعليق على هذا الموضوع في مناسبة آية سورة الحجّ أكثر ملاءمة، لأن الآية قد تفيد أنها بسبيل حكاية ما كان يفعله العرب ثم المسلمون بعد البعثة من وفاء نذورهم.(6/40)
وفي القرآن آيات أخرى منها ما هو حكاية عن أم مريم قبل الإسلام وهي آية سورة آل عمران هذه: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) وفي هذه الآية، كما في آية مريم بيان لمدى النذر في نطاق ما قلناه. ومنها ما فيه ثناء على الأبرار الذين يوفون بالنذر. ويمكن أن يكون شاملا للمؤمنين المخلصين قبل البعثة النبوية وبعدها، وهي آية سورة الإنسان هذه يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) ، ومنها ما ينطوي فيه إقرار للنذر في الإسلام وإيجاب للوفاء به ووعد بالثواب عليه، وهي آية سورة البقرة هذه: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) .
ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة في النذر وردت في كتب الأحاديث الصحيحة «1» ، فيها دلالة على شيوع النذر عند العرب وتشريع لما سكت عنه القرآن في موضوعه، ولا يجزىء إيراد بعضها لأن فيها صورا متنوعة وتشريعات وتلقينات متنوعة تبعا لها فرأينا إيرادها كلها على كثرتها:
1- عن ابن عمر قال: «نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن النذر، وقال إنّه لا يردّ شيئا ولكنّه يستخرج به من البخيل» .
2- عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له ولكنّ النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» . روى الحديثين البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي.
3- عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» رواه الخمسة إلّا مسلما.
4- عن عمران بن الحصين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم قرني ثم الذين
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 73- 78.(6/41)
يلونهم، لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السّمن» رواه البخاري والنسائي.
5- جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح فقال يا رسول الله: «إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلّي في بيت المقدس ركعتين، قال: صلّ هاهنا ثم أعاد عليه فقال: صلّ هاهنا ثم أعاد عليه فقال: شأنك إذا، وزاد في رواية والذي بعث محمدا بالحقّ لو صلّيت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس» . رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه.
6- وأتت امرأة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ قال: أو في نذرك. قالت: إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال: لصنم قالت: لا، قال: لوثن قالت: لا، قال: أوفي بنذرك. رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح.
7- عن ابن عباس قال: «استفتى سعد بن عبادة رسول الله في نذر كان على أمّه توفّيت قبل قضائه فقال رسول الله فاقضه عنها» رواه الخمسة.
8- وعنه أن رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبيّ لو كان عليها دين أكنت قاضيه، قال: نعم، قال: فاقض الله فهو أحقّ بالقضاء» . رواه البخاري والنسائي.
9- وعنه أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجّاها الله أن تصوم شهرا فنجّاها الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت ابنتها أو أختها إلى النبيّ فأمرها أن تصوم عنها.
رواه أبو داود والنسائي.
10- وعنه «بينما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم فقال النبيّ مره فليتكلّم وليستظلّ وليقعد وليتمّ صومه. رواه الخمسة.(6/42)
11- عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكّأ عليهما فسأل ما شأنه قال ابناه: يا رسول الله كان عليه نذر المشي إلى بيت الله فقال اركب أيّها الشيخ فإنّ الله غنيّ عنك وعن نذرك. رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
12- عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك. رواه أبو داود والنسائي.
13- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من نذر نذرا لم يسمّه فكفّارته كفّارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفّارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفّارته كفارة يمين ومن نذر نذرا أطاقه فليف به. رواه أبو داود.
14- عن كعب بن مالك قال: إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبيّ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وفي رواية أنه قال له يجزي عنك الثلث «1» .
15- عن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوف بنذرك فاعتكف ليلة. رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود «2» . وقد روي أن امرأة بدوية جاءت في صدر الإسلام إلى المدينة تذكر أنها نذرت نحر ابنها عند الكعبة إن هي فعلت أمرا ففعلته وتستفتي في وفاء نذرها فقيل لها إنّ الله قد حرّم ذلك وإنّ عليها أن تقدّم فدية كما فعل عبد المطلب جدّ النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» .
وفي كل حديث من الأحاديث النبوية كما قلنا تشريع وتلقين وحكمة. ولا
__________
(1) كعب هو أحد الثلاثة الذين تخلفوا بدون عذر عن غزوة تبوك وتاب الله عليهم في آية سورة التوبة هذه وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) .
(2) هذا الحديث في الجزء الثاني من التاج ص 96.
(3) تاريخ العرب قبل الإسلام ج 5 ص 200.(6/43)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
تعارض فيها. فلا ينبغي أن يعتقد المسلم أن للنذر تأثيرا في ما يصيبه وما لا يصيبه. ومع ذلك فإذا نذر المسلم أن يؤدي لله عبادة أو يفعل خيرا إذا تحقق له مطلب أو أراد أن يشكر الله على تحقيق مطلب له أو أراد أن يتقرّب إلى الله فهو عهد يجب الوفاء به على أن لا يكون في معصية أو فيه مشقة وعناء وتزمّت وغرابة.
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 31]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)
. (1) حرمات الله: قيل إنها ما حرّم الله هتكه ونقضه بصورة عامة. وقيل إنها المحرّمات المتصلة بتقاليد الحجّ وهي: المسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والصيد في الحرم، والأشهر الحرم، والهدي الذي يهديه الحجّاج من الأنعام قربانا لله. وكلا القولين وجيه. ونحن نرجّح القول الأول لأننا نراه يتسق أكثر مع روح الآيات.
في هاتين الآيتين:
1- تعقيب على الآيات السابقة: ففي ذلك الكلام السابق بيان كاف عن حرمات الله ووجوب تعظيمها والوقوف عندها. ومن يفعل ذلك فإنه يضمن لنفسه الخير عند ربه.
2- واستدراك وجه الخطاب فيه للمؤمنين بخاصة، بأن الله قد أحلّ لهم أكل الأنعام باستثناء ما نهوا عنه من ذلك في القرآن.
3- وتحذير وأمر للمؤمنين بخاصة باجتناب الأوثان الرجسة واجتناب قول الزور والإفك، وبأن يكون اتجاههم إلى الله وحده غير مشركين به شيئا، فإن مثل(6/44)
من يشرك به كمثل من تردّى من علوّ شاهق حيث يتحطّم وتتمزق أشلاؤه فتتخاطفها الطيور أو تطوّح به الريح إلى المهاوي السحيقة.
والآيتان متصلتان كما هو واضح بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وما قلناه من احتمال كون الآيات السابقة لهما مكية أو مدنية ينسحب عليهما أيضا لأنها سلسلة واحدة.
والمتبادر أن تعبير إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني إلّا ما ذكر تحريمه من قبل في القرآن. وقد ذكر في سورتي الأنعام والنحل تحريم أكل الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها والميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح.
وقد قال المفسرون «1» في صدد تعبير قَوْلَ الزُّورِ إن المشركين كانوا يقولون هذه الصيغة في تلبيتهم بالحجّ (لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك) ، وأن التحذير متّصل بذلك. وورود التعبير في سياق النهي عن الشرك والأوثان وذكر تقاليد الحجّ قد يدلّ على أنه في صدد التحذير من شيء مثل هذا إن لم يكن هو نفسه. ولا سيما أن الصيغة متّسقة مع ما حكاه القرآن عن عقيدتهم بالله واعتبارهم الشركاء وبتعبير آخر اعتبارهم شركاءهم ملكا لله وخاضعين له. ولقد صارت التلبية التي كانت شركية قبل الإسلام التي ذكرناها قبل في الإسلام خالصة لله عزّ وجلّ (لبّيك اللهم لبّيك. لبّيك لا شريك لك لبّيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) .
تعليق على الأمر باجتناب قول الزور
على أن بعض المفسرين «2» أخذوا الأمر باجتناب قول الزور على عموميته، ونبّهوا على عظم الإثم الذي ينطوي في قول الزور، وشهادة الزور، وأوردوا في صدد ذلك وفي سياق هذه الآية أحاديث نبوية منها حديث قال راويه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام خطيبا فقال: «أيّها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك مرتين ثم قرأ
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن والطبرسي.
(2) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.(6/45)
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. ومنها حديث ورد في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا:
بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال:
ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت» «1» .
وبعض الذين نقلوا هذا من المفسرين من قال إن جملة قَوْلَ الزُّورِ هي صيغة تلبية المشركين المذكورة آنفا.
ومهما يكن من أمر فإن الإطلاق في عبارة الأمر يجعل عمومية الأمر باجتناب قول الزور وجيهة، حتى ولو صحّ أن الجملة من الوجهة الزمنية ومقام ورودها قد عنت تلك الصيغة، ويوجب على المسلم أن يتجنب الزور وقول الزور وشهادة الزور في كل ظرف ومكان لما في ذلك من عظيم البغي والضرر والشرّ، حتى استحقّ وصف الرسول الأعظم له بأنه من أكبر الكبائر وبأنه يعدل الشرك.
استدلال على ممارسة المسلمين الحجّ قبل فتح مكة
والمتبادر من الأمر باجتناب الأوثان في هذا المقام أنه يقصد اجتناب الأوثان التي كانت في فناء الكعبة والصفا والمروة، والتي كان المشركون يقومون بطقوسهم ويقرّبون قرابينهم عندها على ما تواترت فيه الروايات «2» . وإذا صح ذلك فإن الآيات تلهم أنه كان يتسنى لبعض المسلمين أن يمارسوا مناسك الحج، فاقتضت حكمة التنزيل تنبيههم إلى وجوب اجتناب الأوثان في أثناء ذلك، وجعل حجّهم خالصا لله مجردا من شوائب الشرك ومظاهره مطلقا. وإذا صحّ احتمال كون الآيات مدنية فمعنى ذلك أن بعض المسلمين كانوا يفدون إلى مكة ويتسنى لهم دخولها في أثناء موسم الحجّ.
__________
(1) وردت هذه الصيغة في التاج معزوّة إلى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود معا.
انظر ج 3 ص 111.
(2) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 5 ص 75 وما بعدها.(6/46)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام
وورود تعبير حُنَفاءَ لِلَّهِ في هذه المناسبة قرينة قد تكون حاسمة على أن تعبيري حَنِيفاً وحُنَفاءَ ليسا كما وهم المستشرقون بمعنى نحلة معينة خاصة قبل البعثة على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس، وإنما هما تعبيران لغويان بمعنى الميل عن الشرك والوثنية إلى الله. لأن حُنَفاءَ هنا أطلقت على المسلمين أو حثتهم على التمسك بكل مظاهر التوحيد وعدم الانحراف عنها إلى أي مظهر من مظاهر الشرك.
[سورة الحج (22) : الآيات 32 الى 33]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
. (1) محلّها: المكان الذي يحلّ فيه نحرها وهو الكعبة التي عبر عنها بتعبير الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
قال المفسرون «1» في صدد كلمة شَعائِرَ استنادا إلى الروايات واستلهاما من القرينة التي احتوتها الآية الثانية: إن العرب كانوا يجرحون بهيمة الأنعام التي يسوقونها هديا إلى الحجّ لتكون قربانا جرحا خفيفا، فيسيل دمها ويكون ذلك علامة على أنها قد خصصت قربانا فيتحاشاها الناس. وإنهم كانوا يسمّون هذه العملية (إشعارا) و (شعيرة) ويسمّون الأنعام المعلّمة بهذه العلامة (شعائر) . ورووا عن أصحاب رسول الله وتابعيهم في تأويل وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أن تعظيمها هو استسمانها واختيار الصالح السليم دون الهزيل والمشوّه «2» . ورووا في هذا المعنى أحاديث عديدة، ففي تفسير ابن كثير رواية
__________
(1) انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير.
(2) انظر الطبري وابن كثير والبغوي وغيرهم.(6/47)
البخاري عن أبي أمامة قال: «كنّا نسمّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمّنون» . وحديث رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن علي (رضي الله عنه) قال:
«أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحّي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء» «1» . وحديث رواه الأئمة أنفسهم جاء فيه «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نضحّي بأعضب القرنين أو الأذن» «2» . وحديث رواه الأئمة أنفسهم عن البراء قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يجوز في الأضاحي العوراء البيّن عورها والمريضة البيّن مرضها والعرجاء البيّن عرجها والكسيرة التي لا تتقى» . ومع ذلك فإن البغوي قال:
«وقيل إن شعائر الله هي أعلام دينه بصورة عامة» . ومع أن هناك آيات مؤيدة لهذا القول مثل آية سورة البقرة هذه: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) ، وآية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) ، فإن الآية التي تأتي بعد الجملة تجعل التأويل الأول هو الأوجه في مقامها. ولقد روى المفسرون في تأويل لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أن في الجملة إباحة للانتفاع من الأنعام المعدّة للتضحية في المدة التي تنقضي بين إشعارها ونحرها، مثل شرب حليبها وجزّ صوفها ووبرها وتحميلها وركوبها والاحتفاظ بما تلده. ورووا في تأويل جملة مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أن في الجملة تعيين المكان الذي يحلّ أن تنحر فيه الشعائر، وهو الكعبة أو منطقتها أو فناؤها وفي هذه التأويلات السداد والصواب.
__________
(1) المقابلة التي قطع مقدم أذنها والمدابرة التي قطع مؤخر أذنها والشرقاء التي قطعت أذنها طولا والخرقاء المخروقة الأذن.
(2) الأعضب المكسور. [.....](6/48)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
والآيتان متصلتان بالسياق والموضوع كما هو واضح. واحتمال مكيتهما ومدنيتهما واردان تبعا لورودهما في سياق واحد مع الآيات السابقة التي تحتمل ذلك كما هو المتبادر.
[سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
. (1) منسك: على وزن مفعل بمعنى محلّ نسك أو واجب نسك. ومن معاني النسك في اللغة القربان. وقد ورد بهذا المعنى في آية سورة البقرة هذه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [196] .
(2) المخبتين: المتواضعين أو الخاشعين أو الخاضعين. وقيل إنها بمعنى المطمئن أيضا والمعاني الأولى أوجه ويؤيدها آية سورة هود هذه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) .
وفي هاتين الآيتين:
1- تنبيه على أن الله تعالى قد أوجب على كلّ أمة واجبات في صدد ذبح القرابين أمكنة وأشكالا، ليذكروا اسمه عند ذبح الأنعام شكرا له على تسخيرها لهم.
2- وتعقيب على هذا التنبيه: فإن إله الناس جميعا هو واحد لا يصحّ عليه التعدد، وإن من واجبهم الإسلام والإخلاص والخضوع له.
3- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتبشير المخلصين الخاضعين الذين إذا ذكروا الله استشعرت قلوبهم هيبته، وإذا ما أصابتهم مصيبة صبروا وتحمّلوا والذين يواظبون على إقامة الصلاة له والإنفاق مما رزقهم.
الجزء السادس من التفسير الحديث 4(6/49)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
والآيتان استمرار في السياق والموضوع أيضا كما هو واضح. ويبدو أنهما استهدفتا بيان كون ما أوجبه الله في الآيات السابقة من حدود وواجبات ليس بدعا وإنما هو سنّة سنّها الله لكل أمة وأوجبها عليهم. وإن هذا متّسق مع بديهة وحدة الله وعدم تعدده. واستهدفتا كذلك الحثّ على التزامها وممارستها خالصة لوجهه.
والتنويه بالمؤمنين الصالحين الخاضعين له الملتزمين لحدوده المعظمين لحرماته القائمين بواجباتهم نحوه المنفذين أوامره بالإنفاق مما رزقهم.
ولعلّ سؤالا أورد على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتعلّق بالقرابين فرعيا أو أصليا فاقتضت الحكمة تنزيل الآيتين في سياق متصل بالقرابين.
واحتمالا مدنية الآيتين ومكيتهما أيضا واردان لأنهما والآيات السابقة سلسلة واحدة في موضوع واحد.
[سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
. (1) البدن: جمع بدنة. وهي الإبل والبقر من الأنعام التي تقرّب قربانا وسمّيت كذلك لعظم جثتها أو بدنها.
(2) صوافّ: صافات أقدامهن وأيديهن، أي واقفات وقرئت صوافن بمعنى عقل إحدى يديها وإبقائها قائمة على اليد الثانية والرجلين. وقرئت صوافي بمعنى صافية خالصة لله تعالى.
(3) وجبت: سقطت أو انطرحت أو سكنت أنفاسها، أو بمعنى ماتت بعد الذبح.
(4) القانع: المحتاج المتعفف عن الطلب.(6/50)
(5) المعترّ: المحتاج الذي يطلب.
في الآية الأولى:
1- تنبيه موجّه للمسلمين على أن الله تعالى قد جعل الإبل والبقر المسمّاة بالبدن مما يصحّ أن تكون شعائر له، أي أن تعلم بالدم وتنذر لتكون قرابين له، وأن لهم فيها خيرا وبركة.
2- وبيان بكيفية ذبحها والتصرف فيها حيث تنحر وهي صافة أي قائمة مع ذكر اسم الله. وحينما تنطرح على الأرض يتمّ ذبحها ثم توزع لحومها فيأكل منها صاحبها ويطعم المحتاجين سواء منهم المتعفف أو السائل.
3- وتنبيه على أن الله إنما سخّرها لهم وأحلّها على هذا الوجه ليشعروا بفضله ورحمته ويشكروه عليهما.
وفي الآية الثانية:
1- تنبيه على أن الله تعالى، وهو يوجب عليهم واجب القربان له، إنما يتوخّى آثاره في قلوبهم وحملهم على التزام حدوده وأوامره. وأنه لا ينتفع بلحوم القرابين ولا بدمائها، وأنه إنما سخّرها لهم وبيّن لهم تلك الحدود والواجبات في شأنها ليشكروه ويعظّموه على هدايتهم وإرشادهم إلى ما هو الأقوم.
2- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم يتبشير الذين يحسنون أداء الواجبات المفروضة عليهم ويتحرون أحسن الطرق لأدائها.
والآيتان كذلك استمرار في السياق والموضوع، واحتمالا مكيتهما ومدنيتهما واردان لأنهما من السلسلة.
وروحهما تلهم أنهما احتوتا حثّا على تخصيص البقر والإبل بالتعليم بالدم وعلى تفضيلهما، ولعلّ العرب كانوا يعلّمون الغنم بالدم أيضا فنبّه المسلمين إلى ما هو الأفضل والأنفع.
وقد قال المفسرون إن العرب لم يكونوا يأكلون من لحم البدن التي يقربونها(6/51)
فأحلّت جملة فَكُلُوا مِنْها ذلك للمسلمين كما قالوا مثل هذا في المناسبة السابقة وهو وجيه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الأمر بالأكل هو على سبيل الرخصة والإباحة وحسب.
تعليق على جملة لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ
وقد قال المفسرون في صدد هذه الجملة، واستنادا إلى الروايات، أن العرب كانوا يلطّخون جدران الكعبة بدماء القرابين. وأن هذه الجملة لصرف المسلمين عن هذه العادة الجاهلية. ولا نستبعد ذلك، كما أنه ليس من المستبعد أن تكون تعبيرا أسلوبيا لبيان كون هدف وصايا الله وحدوده في شعائر القرابين وغيرها، إنما هو إثارة التقوى في قلوب عباده حتى يجتنبوا الآثام والمحظورات ويقبلوا على الأعمال الصالحة المفيدة.
ومهما يكن قصد الآية، فإنها قد احتوت تنبيها بليغا فيه إشارة إلى جوهر وهدف الشريعة الإسلامية. فالله لا ينتفع بصلاة الناس ولا بصومهم ولا بقرابينهم ولا بتوجيه وجوههم قبل مشرق أو مغرب. وإنما يتوخّى من كل ما يأمر به من هذه الأشكال إثارة التقوى في قلوبهم، وحملهم على تحرّي الخير والبرّ والعمل الصالح، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا صحيحا جاء فيه: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . وهذا الحديث ورد في التاج معزوّا إلى أبي هريرة ومن رواية مسلم وابن ماجه وبفرق هو بدل ألوانكم أموالكم «1» . وينطوي في الحديث تلقين متساوق مع التلقين المنطوي في الآية كما هو واضح.
__________
(1) التاج ج 1 ص 47.(6/52)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
تعليق على خطورة أمر القوانين قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عليها
هذا، وتكرر الكلام حول القرابين بالصورة التي ورد بها، يلهم أنه كان لها في موسم الحجّ قبل البعثة خطورة عظمى، لعلّ من أهمها ما كان من انتفاع جماهير العرب الفقراء المحرومين من لحومها وجلودها. ومن هنا نلحظ حكمة إبقاء هذه العادة في الإسلام مع تنقيتها من مظاهر الشرك ذبحا ومكانا ومع التخفيف في أمر التصرّف بلحومها والانتفاع بها، وتوسيع دائرة هذا الانتفاع حتى شمل أصحاب القرابين والفقراء والمحتاجين سواء منهم المتعففون والسائلون، وهذا كله متّسق مع أسلوب التشريع القرآني الذي له علاقة بالتقاليد السابقة بوجه عام. ولقد جاء في سورة المائدة هذه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [97] . والهدى والقلائد هي ما كان يقدم من الأنعام قرابين لله في موسم الحج. وقد سلكت الآية ذلك في عداد البيت الحرام والشهر الحرام ونوّهت بما كان في كل ذلك من أسباب حياة الناس.
هذا، وهناك بيانات ومأثورات في صدد مناسك الحجّ المختلفة، رأينا أن نؤجّل إيرادها وشرحها إلى مناسبة أكثر ملاءمة، وهي آيات سورة البقرة التي فيها تشريع الحجّ ومناسكه.
[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
.(6/53)
(1) خوّان: صيغة مبالغة من الخيانة.
(2) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا: أي قرّر الله بأن الذين يقاتلون من المؤمنين هم في موقف المظلوم، أو أذن لهم أن يقابلوا بالمثل لأنهم في موقف المظلوم.
(3) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ: المتبادر أن الجملة هي بمعنى الذين ألجئوا أو اضطروا إلى الخروج لشدّة الأذى والاضطهاد والضغط.
(4) صوامع: جمع صومعة، وهي مكان عبادة كان يتخذه رهبان النصارى في الأماكن المنعزلة.
(5) بيع: جمع بيعة، وكانت تطلق على كنائس النصارى.
(6) صلوات: تعريب صلوتا العبرانية التي تعني معابد اليهود.
في هذه الآيات:
1- تطمين رباني للمؤمنين بأن الله تعالى يدافع عنهم ويحميهم، وأنه لا يمكن أن يحبّ ويسعد ويوفق الخوّانين للأمانات والعهود الكفورين بنعمة الله وألوهيته.
2- وتقرير وإيذان بأن الذين يؤذون ويقاتلون من المسلمين والذين أخرجوا من وطنهم بدون سبب مبرر إلّا إعلانهم بأن ربّهم هو الله، هم في موقف المظلوم المبغى عليه. وتطمين بأن الله قادر على نصرهم لأنه آلى على نفسه أن ينصر من ينصر دينه وهو القوي العزيز الذي لا غالب له.
3- وتبرير للدفاع عن النفس إزاء الظلم والبغي: فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي إلهامه المبغى عليهم بالوقوف في وجه البغاة ومقابلتهم والدفاع عن أنفسهم لانتشر الظلم والفساد في الأرض ولما ذكر الله أحد ولهدمت معابده المتنوعة التي يذكر اسمه فيها من إسلامية ويهودية ونصرانية.(6/54)
4- وبيان لما يترتب على نصر الله للمؤمنين وتمكينه لهم في الأرض من نتائج عظمى. فإنهم وقد آمنوا بالله وجعلوا الحقّ والعدل والخير هدفهم وفقا لما شرّع لهم وأوجب عليهم إذا مكّن الله لهم في الأرض وجعل لهم القوّة والسلطان فيها أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
5- وتعقيب نهائي بسبيل توكيد تحقيق وعد الله ونصره: فإن كل شيء مسيّر بأمر الله، وإن عاقبة كل أمر هي إلى الله.
تعليقات على الآية إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ والآيات الأربع التالية لها
والآيات على ما يبدو فصل جديد مستقلّ. وقد روى المفسرون أقوالا في صدد نزولها. فممّا رواه الطبري عن سعيد بن جبير وابن عباس أنه لما أخرج النبي من مكة قال رجل أو قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم فأنزل الله الآيات. وعن مجاهد أنها نزلت في جماعة من المسلمين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فمنعهم المشركون فأنزل الله الآيات لتبرير دفاع المسلمين عن أنفسهم. وعن الضحاك أن أصحاب رسول الله لما اشتدّ عليهم أذى الكفار استأذنوا رسول الله في قتال الكفار وقتلهم فأنزل الله الآية الأولى فلما هاجر رسول الله إلى المدينة أنزل الآيات التالية لها. ومما ورد في تفسير البغوي: «قال المفسرون كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله فلا يزالون محزونين بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال، حتى هاجر رسول الله فأنزل الله الآيات وهي أول آيات أذن الله فيها بالقتال» . ورواية ما قاله أبو بكر قد وردت في سنن الترمذي بهذه الصيغة: «قال ابن عباس لما أخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم ليهلكنّ فأنزل الله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، فقال(6/55)
أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون» «1» . ولم تخرج روايات المفسرين الآخرين عن هذا «2» ورواية الطبرسي عن مجاهد تقتضي أن تكون الآية الأولى نزلت لحدتها وقد توقف الطبري في ذلك وتوقفه في محلّه، لأن الآية الأولى هي كما يبدو استهلال أو مقدمة لما بعدها.
ومضمون الآيات والروايات معا قد يسوغ القول إن الآيات مدنيّة. ومع أنها لا تحتوي الإذن بالقتال.
والآية الأولى صريحة في أن المسلمين كانوا يقاتلون، في حين أننا لم نطلع على رواية ما تذكر أنه كان عدوان حربي جماعي من مشركي قريش على المسلمين حينما كانوا في مكة، أو أنهم بدأوا بحركات هجومية على المسلمين بعد خروجهم من مكة. فإما أن تكون الآية عنت بهذا التعبير ما كان ينال ضعفاء المسلمين في مكة من عدوان وأذى فردي يصل أحيانا إلى إزهاق الروح، وإما أن يكون المشركون قد اعتدوا على فريق من المسلمين عدوانا حربيا بعد الهجرة لم يرد بيانه في الروايات. وفي هذه السورة آية تنوّه بالذين هاجروا في سبيل الله ثم ماتوا أو قتلوا. واحتمال مدنية الآية وتبكير نزولها قويان، فمن المحتمل بالتبعية أن تكون قد تضمنت إشارة ما إلى مثل ذلك العدوان.
وإذا صحّ ترجيحنا بأن هذه الآيات مدنية فتكون قد وضعت في السياق الذي وضعت فيه بمثابة استطراد آخر لذكر مواقف الكفار بعد الهجرة بمناسبة ذكر مواقفهم قبلها.
ومع ما قلناه من ترجيح مدنية الآيات، فإنّ من المحتمل أن تكون مكية تبعا لاحتمال مكية السورة جميعها. وفي هذه الحالة يكون ما احتوته من تقرير مظلومية المسلمين في ما يقع عليهم من أذى الكفار لهم ومدافعة الله عنهم، هو تقرير تطميني وتثبيتي لهم معا، وتكون الإشارة إلى إخراجهم من ديارهم عنت هجرتهم
__________
(1) التاج ج 4 ص 161.
(2) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي.(6/56)
إلى الحبشة بسبب ما كان من ضغط الكفار وأذاهم. ومع ذلك فإن روح الآيات حتى في حالة صحة احتمال مكيتها، تلهم أنها تضمنت ترشيح المؤمنين لقتال الكفار المعتدين، وتضمنت أن المرشحين لذلك في الخطوات الأولى حين ما تسنح الفرصة هم بخاصة المهاجرون، والله أعلم.
وروايات السيرة «1» تذكر أن سرايا الجهاد الأولى التي سيّرها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أن استقرّ في المدينة والتي سبقت وقعة بدر، تتألف من المهاجرين. وقد يدلّ هذا على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المهاجرين قد فهموا أيضا من الآيات أنهم هم المرشحون لقتال مشركي مكة لأنهم هم الذين كان يقع عليهم أذاهم وظلمهم وهم الذين أذن الله أنهم ظلموا ووعد بنصرهم.
وفي سورة البقرة آية تؤيد تلك الروايات وهي هذه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) وقد نزلت في سياق حادث اشتباك حربي بين سرية من المسلمين كانت بقيادة عبد الله بن جحش والمشركين في حدود مكة في بطن نخلة في يوم اشتبه بأنه من أيام رجب أحد الشهور المحرمة «2» ، فأخذ المشركون يشغبون على النبي والمؤمنين ويتهمونهم بخرق حرمة الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية، وأنزل قبلها آية تبرر ما وقع لأن المشركين آذوا المسلمين وفتنوهم في المسجد الحرام والشهر الحرام حينما كانوا في مكة وهي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 217] .
وننبّه على أن هذا الشرح ليس من شأنه أن يذهب باحتمال مكية الآيات
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 43- 49.
(2) المصدر نفسه.(6/57)
حيث يكون المسلمون قد استندوا إليها فيما أخذوا يقومون به من حركات انتقامية من مشركي مكة بعد أن هاجروا إلى المدينة.
ولقد توقف الطبري وغيره عند جمع المساجد مع معابد اليهود والنصارى، فقال الطبري إن جملة يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً عائدة إلى المساجد التي هي الأقرب ذكرا. وقال ابن كثير: قال بعض العلماء إن في الجملة ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر إعمارا وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح. وقال البغوي إن معنى الجملة لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لهدم في حقبة كل نبي مكان عبادة أتباعه، فهدمت في زمن موسى صلوات اليهود وفي زمن عيسى بيع النصارى وصوامعهم، وفي زمن محمد مساجد المسلمين.
وقال الزمخشري قولا متفقا مع البغوي بأسلوب أقوى فقال: إن المعنى لولا تسليط المؤمنين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى الكافرون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى معابدهم، فهدموها ولم يتركوا معابد لليهود ولا للنصارى ولا للمسلمين. وفي كل من هذه الأقوال وجاهة ما، مع القول إن كلام الزمخشري أكثر قوّة ووجاهة. ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن العبارة أسلوبية بقصد بيان ما يمكن أن يترتب من عدوان الكفار على المؤمنين ومعابدهم، لولا حكمة الله التي اقتضت أن يلهم المؤمنين ويقويهم على دفع عدوان الكفار وإيقافهم عند حدّهم في كلّ وقت ومكان. والله تعالى أعلم.
التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات
ولقد انطوى في الآيات تلقينات وقواعد ونتائج اجتماعية عامة، رائعة بليغة مستمرة المدى كما انطوى فيها بيان ما سوف يكون عليه المجتمع الإنساني في ظلّ الإسلام من صورة فاضلة حيث انطوى فيها:
1- تقرير حقّ المظلوم وحقّ المعتدى على حريته وحقوقه وكرامته بالانتصار والدفاع، حتى يزول عنه الظلم وتضمن حقوقه وحريته وكرامته.(6/58)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
2- وتقرير كون دفع البغي والظلم والتضامن فيه ضرورة اجتماعية لا بدّ منها لأجل ضمان سيادة الحرية والحقّ والعدل والطمأنينة التامة لأي مجتمع.
3- وتقرير كون كل حرب غير دفاعية أصلا أو نتيجة هي حرب باغية مخلّة بحقوق الناس وأمنهم ومصالحهم.
4- وتطمين المؤمنين الصالحين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم وممكّن لهم في الأرض تمكينا لا يتوخّى فيه استعلاء ولا استغلال ولا ابتزاز ولا استكبار، ولا يكون فيه ظلم وبغي وتحكّم واستعباد وإنما يتوخّى فيه إقامة الدين والصلاة لله وحده وإعطاء الزكاة للفقراء والمحتاجين والمحرومين مما يتحقق به العدل الاجتماعي، ثم الأمر بكل ما هو معروف فيه الخير والبرّ والصلاح والحقّ والعدل والكرامة والمساواة والنهي عن كل ما هو منكر فيه الشر والفساد والبغي والكسل والبطالة والجور والهوان والظلم والفجور والرجس، وبكلمة أخرى تمكينا يقوم في ظله المجتمع الإنساني الفاضل.
وبالإضافة إلى هذا فإنه ينطوي في فحوى الآية الأخيرة وروحها تقرير كون ما يفعله المسلمون حينما يمكّنهم الله في الأرض هو من الخصائص التي أهّلهم دين الله لها. وينطوي في هذا تقرير كون المسلمين الذين لا يفعلون ذلك حينما يمكّنهم الله في الأرض قد أخلّوا بتلك الخصائص، فخرجوا بذلك عن حدود ما رسمه الله للمسلمين المخلصين الصادقين وجعله من خصائصهم، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 46]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
.(6/59)
(1) خاوية: ساقطة أو خارّة.
(2) عروشها: قال الزمخشري في الكشاف كل مرتفع أظلّك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش. وجملة خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها بمعنى خرّت سقوفها على الأرض.
(3) معطلة: متروكة لا يرد الورّاد إليها.
(4) مشيد: قيل إن الكلمة بمعنى المنيف العالي، وقيل إنها بمعنى المزين بالجص الأبيض وقيل إنها بمعنى الجفصين.
في هذه الآيات:
1- خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: فإذا كان الكفار يقفون منه موقف التكذيب والجحود فقد كذّب قبلهم أمثالهم من أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط ومدين أنبياءهم كما كذّب موسى. فأمهل الله الكافرين قليلا ثم أخذهم وكان نكاله فيهم شديدا خالد الأثر.
2- تذكير ينطوي على الزجر: فلكم أهلك الله من أهل القرى الظالمة خلقا فخرّت قراهم على عروشها وتدمّرت. ولكم تعطل نتيجة لذلك آبار كانت عامرة بورّادها. وخلت قصور مزينة شاهقة كان أهلها يرفلون فيها بالهناء.
3- وتساؤل يتضمّن الإنكار والتنديد عمّا إذا كان الكفّار الذين يكذّبون النبيّ لم يسيروا في الأرض ويروا آثار نكال الله وتدميره في منازل الظالمين السابقين أمثالهم ويسمعوا أخبارها فيتعظوا ويعتبروا. والإنكار والتنديد ينطويان على تقرير بأن السامعين العرب كانوا يعرفون مساكن الأمم السابقة البائدة ورأوا فيها آثار التدمير. وكانوا يعلمون أنها آثار تدمير رباني.(6/60)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
4- وبيان لسبب عدم اعتبارهم واتّعاظهم يتضمن التقريع والتعقيب: فإن قلوبهم هي المتعامية عن الحقيقة المنصرفة عن الحق. ومن كان قلبه كذلك فلا يجدي إبصاره ورؤيته شيئا.
ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. ولا تحتوي موضوعا مستقلا كما هو واضح. وإنما تعطف الكلام إلى الكفار منددة مذكّرة لهم ومسلّية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إزاء موقفهم وتكذيبهم. والطابع المكي عليها وعلى ما بعدها بارز. ويتبادر لنا أنها استئناف واستمرار للكلام الذي سبق الآية [24] وما بعدها، وقد تضمن هذا الكلام موضوعا من مواضيع الدعوة الرئيسية وهو الإنذار بالبعث والتنديد بفئات الناس المنحرفين الذين يتبعون وساوس الشياطين أو يلتمسون مصالحهم الخاصة من وراء الإيمان بالله. ووصفا لمصير الكفار والمؤمنين في الآخرة وأن الآيات [24] وما بعدها قد جاءت بمثابة استطراد سواء أكانت مدنية أو مكية. وهذا مما تكرر في النظم القرآني المكي.
[سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 48]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
. في الآيتين:
1- حكاية لاستعجال الكفّار عذاب الله الموعد به.
2- وتوكيد بتحقيق الله وعده بسبيل الردّ عليهم.
3- وتنبيه بأن اليوم الواحد عند الله مثل ألف سنة عند الناس.
4- وتذكير للكفار على سبيل الإنذار: فكم من أمم كثيرة قبلهم وقفت موقف البغي والجحود مثلهم فأمهلها الله قليلا ثم أخذها. وإن مصير كل شيء ومرجعه إليه أولا وآخرا.(6/61)
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. وأن استعجال الكفار المحكي عنهم هو من قبيل التحدّي. وقد تكرر حكاية ذلك عنهم في السور المكية وتكرر الردّ عليهم بمثل ما احتوته الآيات من إنذار وتذكير وتنديد.
تعليق على جملة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
جاء هذا التعبير في إحدى آيات سورة السجدة في صدد بيان كون الله تعالى يعرج من الأرض إلى السماء في يوم مقداره ألف سنة. غير أن الجملة هنا قد جاءت لمقصد آخر. ولقد روى المفسرون «1» عن أهل التأويل عدّة أقوال في صددها منها عزوا إلى ابن عباس أنّه اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. ومنها عزوا إلى عكرمة ومجاهد أنه من أيام الآخرة. وساقوا في التدليل على هذا القول قولا مرويا عن أبي هريرة جاء فيه: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، قيل له وما نصف يوم قال: وما تقرأ القرآن قال بلى قال وإن يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون» . وحديثا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور القادم يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة» . ومنها عزوا إلى ابن عباس أن معنى الجملة هو أن يوما وألف سنة في الإمهال سواء على الله وأن البطيء عندهم قريب عنده وأنه قادر على أخذهم متى شاء لا يفوته شيء بالتأخير، فيستوي في قدرته التأخير والاستعجال. وحديثا أبي هريرة وأبي سعيد لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. والقول الأخير هو أوجه الأقوال فيما يتبادر لنا. والله أعلم.
وقد انطوى في الآية الثانية ردّ على تحدّيهم: فإذا كان عذاب الله تأخّر عنهم ورأوا أن أسباب القوّة والسلامة توفرت لهم فليس معنى ذلك أن الله قد أخلف
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وغيرهما.(6/62)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
وعده. فقد كان هذا شأنه مع كفار الأمم السابقة حيث أملى لهم ثم أخذهم.
وأسلوب الآيتين قد يدل على أنهما وسابقاتهما بسبيل مشهد جدلي من المشاهد التي كانت تتكرر بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار، والتي حكت الآيات المكيّة كثيرا منها.
[سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
. وفي هذه الآيات أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يهتف بالناس مذكرا بجوهر مهمته، فهو ليس إلّا منذرا ليبين لهم طريق الهدى وليحذرهم من الضلال والغواية. فالمهتدون المستجيبون المؤمنون الصالحون لهم من الله المغفرة والرزق الكريم. أما الذين يقفون من الدعوة إلى الله وآياته ورسالة رسوله موقف التعجيز والتعطيل والشقاق فهم أصحاب الجحيم.
والآيات متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والهتاف الذي فيها قد تكرر كثيرا في السور المكية لتكرر وتجدد المواقف والمناسبات.
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)
.(6/63)
(1) تمنّى: حدّث نفسه بالرغبة فيما يشتهي، أو رجا تحقيق ما يشتهي.
(2) الأمنية: هي الرغبة في تحقيق ما يشتهيه الإنسان ويحبه.
(3) فتنة: هنا بمعنى اختبار.
(4) فتخبت: فتخشع وتذعن.
(5) يوم عقيم: يوم لا يأتي مثله بعده. وهو كناية عن يوم القيامة وبسبيل وصف هوله المنقطع النظير. وقال بعض المفسرين إنه كناية عن يوم حرب طاحنة للكفار «1» . وقال بعضهم إنه كناية عن يوم بدر «2» . وأكثر المفسرين مع القول الأول وهو الأكثر اتّساقا مع الآيات.
الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي:
1- إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنّى أمرا إلّا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته.
2- ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه.
3- ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم.
والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد.
4- أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة
__________
(1) انظر تفسير القاسمي.
(2) انظر تفسير الخازن والبغوي وابن كثير.(6/64)
على لسان نبيه ورسوله إنّما هو الحقّ من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم.
5- والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أوتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم- أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود.
6- وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير: فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين.
تعليق على الآيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ... من الآية [52] إلى الآية [57]
لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [73- 75] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحجّ التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أول كلمة تمنّى بمعنى قرأ وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) . وقالوا إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.(6/65)
وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهي الإنذار والتبشير.
فجاءت هذه الآيات معقبة عليها لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنّى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخّرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس. وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك. ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين.
وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي، حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلّى الله عليه وسلّم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر- كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكّره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [52- 55] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قويّة(6/66)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم.
[سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 60]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
. (1) ومن عاقب بمثل ما عوقب به: ومن قابل البغي والعدوان والأذى بالمثل.
في هذه الآيات:
1- تطمين وبشرى للمهاجرين: فالذين هاجروا تمسكا بدينهم الحقّ فقتلوا أو ماتوا، لهم من الله أعظم الأجر والكرامة وليرزقنهم الله أحسن الرزق وهو خير من يستطيع ذلك. وليدخلنهم المدخل الذي يرضونه وتقرّ به أعينهم، وهو العالم بنوايا الناس وأعمالهم والذي يعاملهم بمقتضى حلمه الواسع.
2- وعد رباني بتأييد ونصر الذين يبغي الناس عليهم ويظلمونهم. إذا استعملوا حقّهم المشروع بمقابلة البغي والأذى بالمثل. وتثبيت لهم على موقفهم.
فالله العفوّ الغفور يشملهم بعفوه وغفرانه.
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين الأوليين. أما الآية الثالثة فقد روى المفسرون «1» أنها نزلت في سرية من المسلمين المهاجرين التقت بجماعة من المشركين، وكان الوقت في الشهر الحرام فناشدهم المسلمون بأن لا يقاتلوهم فأبوا وهاجموهم فقابلوهم وانتصروا عليهم.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.(6/67)
وقد يبدو على ضوء هذه الرواية المتّسقة مع الآيات ثم على ضوء مضمون الآيات أن الآيات الثلاث مدنية وأنها مترابطة مع بعضها ونزلت معا، وأن من المحتمل أن يكون بعض المهاجرين قد قتلوا في الاشتباك، وأن بعض الناس قد لاموا المهاجرين لاشتباكهم مع المشركين في الشهر الحرام فجاءت الآيات على سبيل التثبيت والتطمين والتهدئة والتبرير. ونرجّح أن هذه الحادثة هي غير حادثة سرية عبد الله بن جحش التي ذكرناها في سياق تفسير الآيات [38- 41] من هذه السورة، لأن هذه الحادثة قد أشير إليها في آيات سورة البقرة هذه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) .
وإذا كان ما خمّنّاه من أن الآيات السابقة قد نزلت بين يدي هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فيكون وضع الآيات بعدها متصلا بذلك والله أعلم.
تلقين الآية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا ... والآيتين التاليتين لها
ومع خصوصية موضوع الآيات الثلاث الزمنية على ضوء ما شرحناه فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى بالحثّ على الهجرة في سبيل الله من البلد الظالم أهلها وحكامها. وبالبشرى للمهاجرين بحسن العاقبة على كلّ حال سواء اقتلوا أم ماتوا أم ظلوا أحياء، وما في ذلك من حفز على عدم رضاء المسلم بالإقامة في دار الظلم والذلّ والهوان. ويتبرير مقابلة العدوان بمثله وتشجيع المدافع عن نفسه(6/68)
والمقابلة على العدوان بالمثل. وببثّ الطمأنينة فيه بوعده بتأييد الله ونصره لأنه في موقف المظلوم المبغى عليه مع تقرير كون العقوبة أي المقابلة والقتال لا يصحّ أن تكون إلّا دفاعا عن النفس ومقابلة للعدوان بالمثل وحسب.
وقد تكرر هذا في آيات عديدة مكية ومدنية مرّ منها بعض الأمثلة مثل آية سورة النحل [126] وآيات سورة الشورى [36- 43] وآيات سورة البقرة هذه:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) «1» . وفي سورة النساء آيات فيها تنديد شديد بمن يقبل الإقامة في دار الظلم ولم يهاجر منها وبيان تشجيعي بما يمكن أن يكون في الهجرة في مثل هذه الحالة من مجال لإرغام الظالم مع وعد رباني بعفو الله ومغفرته لمن يموت في سبيل ذلك وهي: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) .
ولقد أورد ابن كثير حديثين في سياق هذه الآيات رواهما ابن أبي حاتم واحد منهما عن سلمان الفارسي قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من مات مرابطا
__________
(1) سوف نشرح مدى الآيات في مناسباتها ونرد على ما يقال من نسخ هذه الآيات.(6/69)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتّانين. واقرأوا إذا شئتم: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ» . وثانيهما عن ربيعة بن سيف قال: «كنّا برودوس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله فمرّ بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفّى فمال الناس على القتيل فقال فضاله: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟
فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا حتى بلغ آخر الآية» .
والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وصحتهما محتملة وفيهما تفسير للآية الأولى فيه تأييد لما ذهبنا إليه من عموم تلقينها.
[سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 62]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
. أسلوب الآيتين قد يلهم أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصال تعقيب وتدعيم وتدليل. وهو أسلوب قوي نافذ ولا سيما في المناسبة التي جاءت فيها:
1- فالله قادر على تحقيق ما يعد، فهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وفي ذلك ما فيه من آيات عظمته ومطلق تصرّفه في الكون.
2- وهو المحيط بكلّ شيء، السميع لكلّ ما يقال، البصير بكل ما يجري.
وهو الحقّ في ذاته وفي دعوته وفي قضائه. وهو العليّ الكبير الذي لا يدانيه في علوه وكبره شيء. في حين أن ما يدعوه المشركون من دونه هو باطل في أصله وفرعه ومظهره ومخبره.
وإذا كنا قلنا إن الآيتين متصلتان بسابقاتهما فلا يقتضي هذا أن تكونا مدنيتين(6/70)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
إذا صحّ تخمين مدنية هذه السابقات، فالمناسبة في المعنى قائمة. تظهر منها حكمة وضعهما بعدها. والطابع المكي قوي البروز عليهما. وفي سورة لقمان التي مرّ تفسيرها آيتان مشابهتان لهما.
[سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 66]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
. في هذه الآيات سؤالان ينطويان على معنى التقرير ولفت النظر عما إذا كان الرائي لا يرى آثار قدرة الله تعالى في كونه ويقنع بقدرته على تحقيق ما يعد:
1- فالله هو الذي ينزل من السماء الماء فلا تلبث الأرض أن تصبح مخضرّة بعد الاربداد والجفاف.
2- والله سخّر للناس ما في الأرض ليتمتعوا به وسخّر لهم البحر لتجري فيه الفلك أيضا. وفي ذلك ما فيه من منافع لهم.
3- وهو الذي يمسك السماء بتدبيره وقدرته وما أودعه فيها من ناموس فلا تقع على الأرض. وفي ذلك من آثار رأفته بالناس وحكمته ورحمته ما هو ظاهر.
4- وهو الذي أحيا الناس من العدم وهو الذي يميتهم. وهو الذي يحييهم ثانية. فإن له ما في السموات وما في الأرض. وكل شيء خاضع له، وهو غني عن كل شيء حميد لما يبدو من عباده من الإخلاص والعبودية له.
وانتهت الآيات بفقرة تنديدية بجحود الإنسان لنعم الله. وتعاميه عن آثار عظمته، وشكّه في قدرته ومطلق تصرفه أمام ساطع الآيات وباهر البراهين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وهدفا. والطابع المكي قوي البروز عليها. وأسلوبها متّسق مع أسلوب أمثالها الكثيرة في القرآن المكي.(6/71)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
ومستهدفة ما استهدفته من لفت نظر الناس جميعا إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من آثار عظمة الله وقدرته في كونه سماء وأرضا وبحرا، وما يتمتعون به من نعم الله وتيسيره للتدليل على وجوده وعظمته ومطلق تصرفه. وللتنديد بالشك في صدق ما يعد به وقدرته على تحقيقه. والجحود بنعمه وعدم الاستشعار بخشيته والخضوع التامّ له وحده ونبذ ما سواه.
ولقد شرحنا في سورة لقمان مدى ومعنى تسخير الله ما في السموات والأرض للناس فنكتفي بالإشارة إلى ذلك في مناسبة ما جاء هنا من مثله.
وللصوفيين تفسير عجيب للآية [63] جاء فيه أن معناها: (أنزل الله مياه الرحمة من سحائب القربة وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة. فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة. وأثمرت الإيمان وأينعت التوحيد. وأضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها واشتاقت إلى ربّها فطارت بهمّتها. وأناخت بين يديه وعكفت فأقبلت عليه. وانقطعت عن الأكوان أجمع. إذ ذاك آواها الحقّ إليه وفتح لها خزائن أنواره وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ورياض الشوق والقدس) «1» وفي هذا ما فيه من شطح ...
[سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
. (1) منسكا: قيل إن الكلمة هنا بمعنى شريعة. وقيل إنها بمعنى مكان العبادة أو مكان تقريب القرابين. ونحن نرجّح الأول.
وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم متضمنة تقرير ما يلي:
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 3 ص 54.(6/72)
1- إن الله قد جعل لكل أمة مناسك وطرائق. فليس للكفار أن ينازعوه ويجادلوه فيما رسمه الله له من ذلك.
2- وعليه أن يستمرّ في الدعوة إلى ربّه والتمسك بالمناسك والطرائق التي رسمها له. وليكن على ثقة بأنه على الطريق المستقيم.
3- وإذا ما حاول الكفار الجدل والمكابرة فليقل لهم إن الله أعلم بما يعمله كلّ منّا وإنه سيحكم بيننا يوم القيامة فيما نحن فيه من خلاف فيؤيد الحقّ ويزهق الباطل.
4- وتعقيب على ما تقدم بسؤال موجّه إلى النبي أيضا يتضمن معنى التقرير عما إذا كان لا يعلم أن الله يعلم كل ما يقع في السماء والأرض وأن كل شيء محصي عنده وأن ذلك من الأمور اليسيرة عليه.
وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض وجّهه بعض مشركي مكة على ما حرّم وحلّل في القرآن. وقولهم لبعض المسلمين ما لكم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تقتلون بأيديكم. ويقصدون على ما يبدو تحريم الميتة.
والآيات على ما يبدو فصل مستقلّ. وقد حكت آيات قرآنية عديدة مكيّة مواقف جدلية بين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمشركين حول بعض الطقوس والتشريعات والمحرّمات والمحلّلات مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور الأعراف والأنعام والنحل وغيرها. وروح الآيات قد تلهم صحة الرواية وقد تلهم أيضا أنها نزلت في صدد مشهد جدلي بدءا وجوابا وأن هذا المشهد لم يكن من المشاهد العنيفة. وهذا النوع من المشاهد كان مما يقع أحيانا بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعتدلي المشركين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة في سورتي الأنعام والقصص وغيرهما.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن كِتابٍ في الآية [70] كناية عن اللوح المحفوظ الذي أمر الله القلم أن يكتب عليه ما هو كائن من خلقه وأوردوا بعض الأحاديث في صدد ذلك، منها حديث أورده ابن كثير وقال: إنه
__________
(1) انظر تفسيرها في البغوي والخازن.(6/73)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
وارد في السنن من حديث جماعة من أصحاب رسول الله أن رسول الله قال: «أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال وما أكتب قال اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . ومع ذلك فقد روى الطبري في سياق الآية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] فقال: (علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه كن كتابا) . ولقد أوردنا هذه الأحاديث وغيرها وعلّقنا عليها وعلى موضوع القلم واللوح وأم الكتاب في سياق تفسير سور القلم والبروج والرعد بما يغني عن التكرار.
[سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 72]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
. في هذه الآيات:
1- تنديد بعقائد الكفار المشركين ووهن أساسها. فهم يعبدون آلهة غير الله ويشركونها معه من دون برهان وبيّنة وعلم. فهم ظالمون لأنفسهم جانون عليها وليس للظالمين من نصير.
2- ووصف فيه معنى التعقيب والتوبيخ لشدة مكابرتهم وغيظهم. فبينما تكون عقائدهم واهية الأساس فإنهم إذا تليت عليهم آيات الله البينات التي تحتوي البرهان الساطع تجهّمت وجوههم واربدّت وبدا عليها أمارات الغيظ والشرّ حتى ليكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم هذه الآيات.
3- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بسؤال هؤلاء سؤالا ينطوي على التحدّي والتقريع عما إذا كانوا يودّون أن ينبئهم بما هو أشدّ إثارة وغيظا لهم وهو وعد الله للكافرين بالنار وبئست هي من مصير لهم.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ(6/74)
عزوا إلى مجاهد أن بعضهم قال إن المشركين قالوا والله إن محمدا وأصحابه لشرّ خلق الله، فأمر في الجملة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يردّ عليهم قولهم ويخبرهم أن الكافرين هم شرّ خلق الله.
والمتبادر من الآيتين أنهما وحدة وأن مضمونهما لا يتحمّل صحة هذا القول الذي لم يوثق بسند ما، وأن الأوجه في تأويل الجملة هو ما ذكرناه في الفقرة الثالثة من الشرح إن شاء الله.
والمتبادر كذلك أن الصلة غير منقطعة بينها وبين الآيات السابقة التي كان موضوعها الكفار، وقد حكت الآيات السابقة موقف مشركين معتدلين فجاءت هذه الآيات لتحكي موقف مشركين عنيفين.
تعليق على مدى الوصف الذي احتوته الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ إلخ ومدى جرأة النبي صلّى الله عليه وسلّم في ما كان يبلغه عن الله من الزواجر القاصمة دون مبالاة بعنف الكفار وقوّتهم
والوصف الذي احتوته الآيات يدلّ على شدّة عناد فريق من المشركين وعنفهم وما كانت تحدثه فيهم تلاوة القرآن ودعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم من غيظ وثورة نفس مما فيه صورة من صور السيرة النبوية في مكة. ويتجلّى في الآيات قوّة التنديد بهذا الفريق من جهة وقوّة الاستهانة بغيظهم وثورة نفوسهم من جهة أخرى، حيث يقابلون بما هو أشدّ إثارة وأبعث على الغيظ وأصكّ للسمع. وفي خلال ذلك تتجلى جرأة النبي صلّى الله عليه وسلّم واستغراقه في مهمته العظمى في إبلاغ الآيات وإسماعها لأناس شديدي العناد والغيظ يكادون يبطشون به حينما يدعوهم إلى الله ويتلو عليهم آيات القرآن. غير مبال بعنادهم وثورة نفوسهم وسورة غضبهم. وقد تجلّت هذه الصفات النبويّة الرائعة في مواقف كثيرة مماثلة حكتها آيات عديدة أخرى على ما نبّهنا إليه في مناسباته.(6/75)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
[سورة الحج (22) : آية 73]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
. وفي هذه الآية هتاف بالناس، والمقصود منهم المشركون، على ما يفيده فحواها ليستمعوا إلى ما يقال لهم ويتدبّروه: فالذين يدعونهم من دون الله ويشركونهم معه لن يخلقوا شيئا مهما تفه كالذباب ولو اجتمعوا وظاهر بعضهم بعضا. بل إنّ عجزهم لا يقف عند هذا فإن الذباب الذي هو من أتفه وأضعف مخلوقات الله لو هبط على آلهتهم وامتصّ ما يعلوها من المواد لعجزوا عن منعه من ذلك واستنقاذ ما امتصّه منهم ومنعه عن أنفسهم. وإن في هذا الواقع لتتجلّى شدّة عجز الشركاء وشدّة سخف الذين يشركونهم مع الله.
والآية متصلة على ما هو المتبادر بما سبقها اتصال تعقيب وتسفيه وتنديد وتحدّ وسخرية وهي قوية لاذعة في كلّ ذلك وفي صكّ أسماع المشركين بها وفي الاستهانة بما ستحدثه فيهم من غيظ وثورة نفس ويتجلّى خلالها ما تجلّى خلال سابقاتها من عظمة موقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصفاته أيضا.
وفحوى الآية يفيد أن المقصود من الشركاء هم الأصنام والأوثان وفي ذلك تتضاعف قوّة التحدّي والسخرية وإبراز الضعف والعجز.
[سورة الحج (22) : آية 74]
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
. وهذه الآية متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتنديد أيضا: فالمشركون لم يقدروا الله حقّ قدره ولم يفهموه واجب فهمه فسخفوا وضلّوا مع أنه هو القوي الذي لا يباريه في قوته شيء والعزيز الذي لا يدانيه في عزّته أحد.
وإذا لا حظنا أن المشركين يعترفون بصفاته المذكورة ظهرت قوّة التناقض والتنديد والتسخيف التي انطوت في الآية.(6/76)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
[سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
. وهاتان الآيتان أيضا متصلتان بالسياق على ما يتبادر لنا. وتضمّنتا تقرير ما جرت سنّة الله عليه من اصطفاء رسله من الملائكة ومن الناس. وهو السميع لما يقال البصير لما يقع العليم بما يكون منهم ويدور حولهم ظاهرا أو خفيا، حاضرا ومستقبلا، وإليه مصير الأمور والتصرّف فيها أولا وآخرا.
واتصال الآيتين بالسياق قائم فيما احتوته الفصول السابقة القريبة وحكته من مواقف وأمرته للنبي من أوامر وسؤالات يبلغها ويوجهها ويعمل بها. وهما من هذا الاعتبار قد احتوتا تأييدا للنبي وتثبيتا له. فليس في رسالته- وهو بشر- بدع فإن ذلك من سنن الله الجارية.
وهذا المعنى قد تكرر تقريره كثيرا في السور المكية بسبيل الاحتجاج والردّ على المشركين. أما رسالة الملائكة فقد ذكرت أيضا في آيات عديدة مرّت في سور سابقة مثل سورة النحل وسورة فاطر وسورة غافر يستلهم منها أنها بسبيل تقرير كونها خاصة بين الله وبين الذين يصطفيهم من البشر لدعوة البشر وهدايتهم، أو لبشاراته إليهم وعنايته بهم في حالة لا يدركها إلّا هؤلاء المصطفون، وتدخل في نطاق المغيبات عن عامة الناس كما تدخل في نطاق الحقائق الإيمانية التي يجب الإيمان بها غيبا لأنها مما قرره القرآن.
[سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
. في هاتين الآيتين:(6/77)
1- هتاف ربّاني بالمؤمنين بأن يعبدوا الله ويسجدوا ويركعوا له ويفعلوا الخير. ففي ذلك فوزهم ونجاحهم.
2- وأمر لهم بأن يجاهدوا كذلك في سبيل الله ودينه حقّ الجهاد.
3- وتنويه بالمنزلة والعناية الكبيرتين اللتين اختصّهم بهما: فقد اجتباهم واصطفاهم وهداهم إلى دينه القويم. ولم يجعل عليهم فيه حرجا ولا إعناتا. وهو ملّة أبيهم إبراهيم وقد سمّاهم المسلمين من قبل وفي القرآن الآن. وأعدّهم بذلك كلّه ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا.
وهذه مكانة خطيرة وعناية كريمة تقتضيان منهم الشكر والاجتهاد في أداء ما ترتّب عليهم من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتمسّك بأهداب دين الله والاعتصام بحبله. وهو مولاهم ونعم هو من مولى ونصير لهم.
تعليقات على الآيتين الأخيرتين من السورة وما فيهما من تلقين وخطورة
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. ويتبادر لنا أنهما متصلتان بالسياق السابق كلّه في الآيات السابقة كما ثبتت النبي صلّى الله عليه وسلّم في ما هو عليه من مناسك وشريعة، وأكدت له أنه على الحقّ والهدى، وندّدت بالمشركين وعقائدهم، فجاءت هاتان الآيتان على الأثر تختتمان الكلام بالالتفات إلى المسلمين فتهتفان بهم بما تهتفان، وتعظانهم بما تعظان وتبثّان فيهم روح الطمأنينة والسكينة والاغتباط، وتنوّهان بالملّة السمحاء التي هداهم الله إليها وبالعناية الكبرى التي خصّهم بها وتنبهانهم إلى ما أوجبه عليهم من الجهاد في سبيل دينه وما أعدّهم له من رفعة الشأن بين الأمم والملل إذا هم اعتصموا بالله وتمسّكوا بدينهم وجاهدوا في سبيله حقّ الجهاد.
ولقد قال المفسرون «1» إن جملة لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.(6/78)
عَلَى النَّاسِ في صدد يوم القيامة، حيث يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم شهيدا على المسلمين بأنه بلّغهم رسالة ربّه وحيث يكونون هم شهداء على الناس بدورهم بأنهم بلّغوها إليهم لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية على يد خاتم أنبيائه. ومع وجاهة هذا القول من الناحية الموضوعية، فالذي يتبادر لنا أنها تلهم أيضا كون المسلمين الذين اجتباهم الله وهداهم إلى ذلك الدين قد تأهلوا بنوره ومبادئه وروحانيته وتلقيناته وتشريعاته ليكونوا شهداء على الناس بصفة هداة ومرشدين. وجملة وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ التي تبتدئ بها الآية التي فيها الجملة وكلمة هُوَ اجْتَباكُمْ من القرائن القوية على ذلك. ولقد جاءت هذه الجملة في آية سورة البقرة هذه:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [143] وكلمة وسط بمعنى العدول والخيار والمتّصف بالاعتدال وعدم الغلوّ والتفريط والإفراط في كل أمر. وهي في هذه الجملة تبرّر جعل المسلمين شهداء على الناس في مقام هُوَ اجْتَباكُمْ في جملة سورة الحجّ. وهذا الوصف أو هذا التبرير قرينة على أن لهم مهمّة في الدنيا وهي إرشاد الناس وهدايتهم أيضا.
وتعبير أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ قد قصد به العرب ولا يمكن أن ينصرف إلى غيرهم حيث كانوا يتناقلون ويعرفون نسبتهم بالأبوة إلى إبراهيم وإسماعيل على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار. ولقد جاء هذا في آيات سورة إبراهيم [35- 41] التي مرّ تفسيرها قوي الدلالة، ثم جاء في هذه الآيات بهذه الصراحة الحاسمة.
وفي سورة البقرة آيات قوية الدلالة والحسم وهي: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وذكر إسماعيل مع إبراهيم مانع لانصراف كلمة الذريّة هنا إلى بني إسرائيل لأنهم ليسوا من ذريّة إسماعيل عليهم السلام.(6/79)
والمتبادر أنه قد استهدف بالتعبير تثبيت الذين أسلموا من العرب وتدعيم الرسالة المحمدية إزاء العرب بوجه عام. فالملّة التي يدعو إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم واعتنقها من اعتنقها منهم هي الملّة الصحيحة الصادقة لإبراهيم الذي ينتسبون إليه بالأبوة ويعزون إليه تقاليدهم. فهم أولى الناس بها. وهذا المعنى هو الذي استهدفته الآيات المكيّة التي احتوت ذكر إبراهيم وملّته وقصصه التي لم ترد في سفر التكوين المتداول على ما نبّهنا إليه في مناسبات عديدة سابقة.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية على ضوء هذه الشروح وصلتها بالسياق السابق فإنهما احتوتا بأسلوبهما القويّ ومضامينهما الواعظة المنبّهة المنوّهة تلقينات خطيرة تظلّ مستمرّة التلقين والفيض والمدد والنفحات للمسلمين عامة والعرب خاصة بحيث يمكن أن يقال إنها قد جعلت للعرب المسلمين في المجتمع الإسلامي شأنا خاصا وحملتهم مهمة كبرى ونبّهتهم إلى أن الله قد اجتباهم وجعلهم وسطا وعدولا وهداة ليرشدوا الناس ويهدوهم بهدى دينه الذي ارتضاه لهم والذي رشّحه ليكون دين الإنسانية عامة. وهذا المعنى مندمج في آية سورة الزخرف هذه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وجملة وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ تنطوي على تقرير ما حمّله الله تعالى للمسلمين عامة والعرب خاصة من مهمة الجهاد وبذل الجهود في سبيل نشر دين الله والدفاع عنه حيث يزيد هذا في سعة التلقين وخطورته. وجملة وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ خطيرة في مقامها حيث تأمر المسلمين والعرب بأن يعتصموا بالله ويجعلوا اعتمادهم عليه في أداء هذه المهمة الخطيرة وتبثّ فيهم الثقة والأمل في نصره لهم فيها.
ولقد أورد ابن كثير حديثا في سياق الآية [123] من سورة الأنعام رواه الإمام أحمد عن سلمان وليس فيه ما يمنع صحّة صدوره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا سلمان لا تبغضني أفتفارق دينك. قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله قال تبغض العرب فتبغضني» . وفي الحديث توكيد لشأن(6/80)
العرب في الدعوة الإسلامية مستمدّ من شرف ظهور رسولها العظيم منهم وأعظم به من شرف.
ومن الجدير بالتنبّه أن شأنية العرب في الإسلام لا تعني تميّزا ولا تغلّبا ولا استعلاء ولا استغلالا ولا مختارية من نوع «الشعب المختار» بالنسبة لعقيدة بني إسرائيل واليهود في أنفسهم الذي جعلهم يعتبرون ما عداهم عبيدا يملكونهم وما يملكون ويكون لهم أن يحققوا ذلك، ولا يقبلون من أحد أن يرتفع إلى مستواهم دينيا أو اجتماعيا ما استطاعوا «1» . في حين أن الإسلام قد سوّى بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم في جميع الحقوق والواجبات وجميع شؤون الدين والدنيا تسوية تامة وسمّاهم أخوة. كما جاء في آيات عديدة منها آية سورة الحجرات هذه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10] وكما جاء في أحاديث عديدة منها هذا الحديث الذي رواه الأربعة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا. ولا يبغ بعضكم على بعض. وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقّر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» «2» . فليس لغير المسلمين والحالة هذه أن يروا غضاضة في هذه الشأنية للعرب في الإسلام في نطاق المدى المشروح آنفا.
وما قلناه من انصراف الآية في الدرجة الأولى إلى العرب سواء أفي ما احتوته من دلالة لفظية أم في كونها كانت توجّه الخطاب إليهم لا يتعارض مع معنى آخر يمكن أن يتبادر من إطلاق تعبير يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو أن غير العرب من المسلمين يدخلون في شمولها أيضا. فقد غدوا بانتمائهم إلى الإسلام أمة وسطا ليكونوا شهداء
__________
(1) لما أراد بنو إسرائيل أن يعيدوا بناء معبدهم في القدس بعد عودتهم من السبي من بابل، جاء السامريون الذين كانوا يدينون بديانة اليهود فقالوا لهم: نبني معكم لأن ربنا واحد. فقالوا لهم: لا، ليس البيت الذي نبنيه لنا ولكم وإنما نبنيه للربّ إله إسرائيل. سفر عزرا، الإصحاح 4. [.....]
(2) التاج ج 5 ص 35.(6/81)
على الناس وهداة لهم بدورهم. وصاروا مطالبين بأن يجاهدوا في الله حقّ جهاده.
ومع أن هناك من روى عن أهل التأويل أن جملة وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ ما عنت الجهاد الحربي في سبيل الله. فإن هناك من قال إنها عنت بذل الجهد واستفراغ الطاقة في نشر دين الله ومجاهدة النفس. وهناك من قال إنها بمعنى بذل كل جهد في سبيل الله بدون أدنى خوف من أي شيء. ومكية الآية تجعل التأويل الثاني هو الأوجه. وسبيل الله أشمل من الجهاد الحربي وهي الدعوة الإسلامية على ما جاء في آيات عديدة مرّ بعضها مثل آية سورة النحل [125] وفي القرآن المكيّ بخاصة آيات عديدة وردت فيها كلمة الجهاد في غير معنى الحرب مرّت أمثلة منها مثل آية سورة الفرقان [52] ومثل آية سورة العنكبوت [69] . ولقد اختلفت أقوال أهل التأويل من التابعين التي يرويها المفسرون في مرجع ضمير الفاعل في سَمَّاكُمُ فمنهم من قال إنه إبراهيم ومنهم من قال إنه (الله) ونحن نرى القول الثاني هو الأوجه بقرينة وَفِي هذا فإن هذا التعبير مصروف إلى القرآن والحال الحضر ولا علاقة لإبراهيم بذلك. وهذا ما رجّحه الطبري الذي قال إنه لا وجه للقول الأول لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسمّ أمة محمد مسلمين في القرآن لأن القرآن أنزل بعده بدهر طويل وإن الذي سمّاهم المسلمين هو الله تعالى في القرآن وفي غيره من كتبه السابقة. وعلى هذا فتكون تسميته الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واتبعوه بالمسلمين هي تسمية قرآنية ربانية. وقد خوطبوا بها في آيات قرآنية عديدة أيضا مثل آية الزخرف هذه: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) وآية النحل هذه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وآية سورة الزمر هذه: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) وآية سورة فصلت هذه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وآية سورة القلم هذه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) فمن المحتمل أن يكون تعبير مِنْ قَبْلُ يعني السور التي نزلت قبل هذه السورة والله أعلم.(6/82)
هذا، وصيغة فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ لم ترد في آيات مكية. وما ورد في هذه الآيات قد ورد بصيغة الحثّ والتنويه مما مرّ منه أمثلة كثيرة من حيث إن هذا الأسلوب هو الأسلوب العام للأوامر والنواهي الربانية في السور والآيات المكية، في حين أن أسلوب السور المدنية تبعا لطبيعة وظروف كلّ من العهدين المكي والمدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد وردت هذه الصيغة في الآية الأخيرة من سورة المزمل. غير أن هذه الآية مدنية على ما نبهنا عليه. وهذا قد يورد احتمال أن تكون الآيتان الأخيرتان مدنيتين في جملة ما يرد من احتمال أن تكون بعض آيات السورة مدنية على ما ذكرناه قبل. ويلحظ أنهما فصل تامّ غير معطوف وغير متصل بما سبقه مما قد يدعم هذا الاحتمال. فإذا صحّ هذا فيكون وضعهما خاتمة للسورة لحكمة علمها الله ورسوله والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في مدى هذه الجملة. منها أنها بمعنى أنه ما من ذنب يذنبه المسلمون إلّا جعل الله لهم منه مخرجا من توبة أو كفّارة. ومنها أن ذلك في هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحجّ إذا التبس عليهم وأمثال ذلك. ومنها أن الله قد جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيّقا بصورة عامة. ومنها ما جعله الله من رخص للمسلمين في العبادات وغيرها عند الضرورات. ومنها إيذان بأن الله قد رفع عنهم ما وضعه على بني إسرائيل من تكاليف فيها مشقّة وحرج. والجملة تتحمّل كلّ هذه الأقوال حيث يبدو بذلك ما لها من خطورة بالغة تستدعي التنويه من حيث إنها تتضمّن تقرير كون الله عزّ وجلّ قد يسّر على المسلمين الأمور فلم يحملهم في دينهم ما لا يطيقون ولم يجعل عليهم فيه إعناتا وشدّة وجعل لهم فيه لكلّ ضيق فرجا ولكلّ عسر يسرا. وهذا المعنى قد تكرر في سور عديدة بحيث يصحّ أن يقال إنه مما امتازت به الشريعة الإسلامية عمّا قبلها. وقد أشير إلى هذا المعنى في آية سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ(6/83)
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
ومما يصح أن يذكر في صدد ذلك باب التوبة الذي فتحه الله على مصراعيه لكلّ الناس وفي كلّ حال على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان. ثم تحليل الأطعمة المحرّمة عند الاضطرار والرخص الكثيرة المتنوعة كالتيمّم وصلاة الخوف وتحلّة اليمين. ثم إباحة الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق. وحصر المحظورات في الخبائث والفواحش والبغي والشرك والمنكرات من الأخلاق الشخصية والاجتماعية وإباحة كل عمل وتصرف للمسلم خارجا عن هذا النطاق. وقد أشير إلى ذلك في آيات سورة الأعراف [31- 33 و 42] وعلّقنا عليه تعليقا يغني عن التكرار. ولقد أراد فريق من المؤمنين المخلصين نبذ الطيبات التي أحلّها الله زهدا وتورّعا وتقرّبا إلى الله فنهاهم الله عن ذلك في آيات سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) وقد كانوا تعاهدوا فيما بينهم وحلفوا فأنزل الله هذه الآية لإخراجهم من عهدة يمين حلفوها بتحريم ما أحلّ الله على أنفسهم ولو كان تورّعا وزهدا: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) وفي سورة البقرة آية قررت أن الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها وأن الإنسان لا يسأل إلّا عمّا صدر منه فعلا. وعلّمت المسلمين الدعاء لله بعدم مؤاخذتهم بما يصدر عنهم من عمل مغاير لما أمر به بسائق النسيان والخطأ، وبعدم تكليفهم تكاليف شديدة وإلزامهم بإلزامات محرجة كما كان شأن الذين من قبلهم وبعدم تحميلهم فوق طاقتهم وهي(6/84)
هذه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (28) . ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي حديثا في سياق هذه الآية وما قبلها، يفيد أن الله عزّ وجلّ آذن المسلمين أنه يستجيب لهذا الدعاء الذي علّمهم إياه. والحديث مروي عن أبي هريرة قال: «لمّا نزلت آية لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] اشتدّ ذلك على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتوه ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام
والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها «1» . فقال رسول الله: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير، قالها مرّتين فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل عزّ وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: 286] قال نعم رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: 286] قال نعم رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ [البقرة: 286] قال نعم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] قال نعم «2» . وفي سورة البقرة في سياق آيات الصيام هذه الجملة يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، [185] وفي سورة المائدة في سياق آيات الوضوء
__________
(1) يريدون أنهم لا يطيقون أن يحاسبهم الله بما يخفون في أنفسهم.
(2) التاج ج 4 ص 62- 64.(6/85)
هذه الجملة ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) حيث يتساوق بذلك التلقين القرآني الجليل الذي انطوى في هذه الآية كما هو ظاهر.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة وردت في كتب الأحاديث الصحيحة متصلة بمدى الجملة منها حديث رواه الشيخان جاء فيه «يسّروا ولا تعسّروا وبشرّوا ولا تنفّروا» «1» .
وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «2» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة جاء فيه:
«عليكم بما تطيقون. فو الله لا يملّ الله حتى تملّوا وكان أحبّ الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه» «3» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمر رواه مسلم جاء فيه: «ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك. قال: فإنّك إن فعلت ذلك هجمت عيناك ونفهت نفسك، ولعينك حقّ، ولنفسك حقّ ولأهلك حقّ وقم ونم وصم وأفطر» . ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان جاء فيه «4» : «إنّ هذا الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه. فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» «5» . وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «6» .
وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به نفسها ما لم يتكلّموا أو يعملوا به» «7» وحديث رواه الإمام أحمد عن عروة
__________
(1) التاج ج 4 ص 62.
(2) التاج ج 1 ص 37.
(3) المصدر نفسه ص 41.
(4) المصدر نفسه ص 41.
(5) المصدر نفسه ص 41- 42.
(6) المصدر نفسه ص 29.
(7) المصدر نفسه ص 28.(6/86)
الفقيمي قال: «جعل الناس يسألون رسول الله أعلينا حرج في كذا؟ فقال: أيها الناس إن دين الله عزّ وجلّ يسر قالها ثلاثا» «1» . وحديث آخر رواه الإمام أحمد عن أبي أمامه جاء فيه: «قال رجل إني مررت بغار محمد فحدثتني نفسي أن أقيم فيه وأتخلّى عن الدنيا، فقال له رسول الله: «إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية لكن بعثت بالحنيفية السمحة» «2» .
وهكذا يكون التساوق تاما بين التلقين القرآني والتلقين النبوي ويصبح المعنى الذي احتوته الجملة من المبادئ المحكمة في الإسلام. ولقد روي عن ابن زيد أحد علماء التابعين قوله في مدى الجملة: (ما من ذنب يذنبه المسلمون إلّا ولهم مخرج منه من توبة أو كفّارة) . وعن ابن عباس تأويله لكلمة حرج بالضيق وقوله: (إنّ مدى الجملة ينطبق على هلال شهر رمضان وذي الحجة إذا شكّ الناس فيه أو التبس عليهم أو أشباه ذلك) . مما فيه صور تطبيقية وجيهة لمدى هذه الجملة.
تعليق على جملة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
كذلك فإن جملة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ جديرة بالتنويه من حيث إنها تحثّ على فعل الخير إطلاقا. والخير هو كل عمل نافع ومفيد قولا وفعلا. والإطلاق يفيد الحثّ على عمل الخير في كل ظرف ولكل الناس بدون قيد وشرط مما فيه رائع التلقين.
ولقد تكرر ذلك في آيات عديدة مما يزيد الروعة. منها آية سورة البقرة هذه لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(148) حيث انطوت على حثّ على التسابق إلى فعل الخير وآية سورة آل عمران هذه: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) حيث انطوت على التنويه بالمسارعين في الخيرات. ومنها آية سورة آل عمران هذه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ
__________
(1) تفسير القاسمي لآية البقرة [185] .
(2) انظر المصدر نفسه.(6/87)
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وهذه الآية أقوى تلقينا حيث لا يكتفى فيها بالحثّ على فعل الخير بل توجب الدعوة إليه دائما مثل ما توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث إذا لم يكن فئة من الناس في وقت من الأوقات لا يقومون بهذا الواجب أثم جميع المسلمين.
ولقد نددت آيات عديدة بالذين يمنعون الخير أو يشحّون عليه تنديدا شديدا.
من ذلك آية سورة القلم هذه: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) وآية سورة (ق) هذه:
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) ، وهذه الجملة في آية من سورة الأحزاب أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [19] حيث يبدو من هذا أن فعل الخير والدعوة إليه من أمّهات الأخلاق والمبادئ التي قررها القرآن وندّد بالذين يشحّون عليه أو يمنعونه.
وهناك أحاديث نبويّة صحيحة كثيرة جدا في الحضّ على الصبر والعفو وتحمّل الأذى وقضاء حوائج الناس ونصر المظلوم والذبّ عن المسلمين وستر عوراتهم والصدق والوفاء والرفق والحياء والتواضع وحسن الخلق والمعاملة الحسنة مع الناس والسخاء والكرم والشكر على المعروف والنصح للناس والعدل.
وحبّ المسلم لأخيه ما يحبّه لنفسه والبرّ بالآباء والأقارب والضعفاء والمساكين واليتامى والجيران، وغيرها وغيرها مما يدخل في شمول كلمة الخير ومما أوردنا منه أمثلة كثيرة في مناسبات سابقة ومما سنورد منه أمثلة أخرى في مناسبات آتية، مما فيه تساوق مع التلقين القرآني. وهناك حديث عام في هذا الباب فيه حثّ على المساعدة على عمل الخير إذا لم يستطع المرء أن يفعله بنفسه رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني أبدع بي فاحملني، قال: لا أجد ما أحملك عليه ولكن ائت فلانا فلعلّه أن يحملك فأتاه فحمله فأتى النبيّ فأخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» «1» .
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 67- 68.(6/88)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
سورة الرّحمن
في السورة تنويه بنعم الله ومشاهد عظمته في الكون وذاته وإشارة إلى عنايته بالإنسان. وتنديد بالمكذبين وإنذار لهم وتنويه بالمتّقين وبشرى لهم. وبيان ما سوف يلقاه الأولون في الآخرة من هول وعذاب والآخرون من نعيم ورفاه.
والسورة فريدة في أسلوبها النظمي، كما أنها عرض عام للدعوة مثل السور النازلة في وقت مبكّر كالأعلى والشمس والليل والقارعة والمرسلات.
والطابع المكي قوي البروز عليها ومعظم المفسرين يروون مكيتها عن ابن عباس وغيره «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
. (1) علّم القرآن: يسّر فهمه وما فيه من هدى.
(2) علّمه البيان: الجمهور على أن معنى الجملة (علّم الإنسان النطق اختصاصا له من دون الأحياء) .
في الآيات بيان لبعض نواحي عناية الله تعالى بالإنسان: فقد خلقه ممتازا عن سائر الأحياء واختصّه بالنطق والبيان ويسّر له فهم القرآن.
وأسلوب الآيات تقريري عامّ موجه إلى الناس جميعا كما هو المتبادر. وقد
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي والزمخشري والطبرسي والنسفي والنيسابوري والقاسمي. [.....](6/89)
قال المفسرون إن اسم الرحمن هنا هو بسبيل توكيد كونه هو اسم الله تعالى وبسبيل الردّ على الكفار الذين كانوا ينكرون تسمية الله به ويتساءلون عن ذلك تساؤل المنكر المستغرب. والتعليل وجيه. وقد أشرنا إلى شيء مما كان حول اسم الرحمن في سورتي الفرقان والرعد وعلّقنا على ذلك بما يغني عن التكرار. ولعلّ بدء هذه السورة بهذا الاسم ونسبة مشاهد الكون إليه قرينة على وجاهة هذا التعليل ووجاهة ما قيل في صدد التنديد بالكفّار لكفرهم بالرحمن على ما حكته سورتا الفرقان والرعد. ولقد ذكرت روايات ترتيب السور أن هذه السورة نزلت بعد سورة الرعد «1» . ولعل مطلعها قرينة على صحة الرواية.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن الْإِنْسانَ في الجملة تعني آدم وأن جملة عَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني تعليم آدم الأسماء كلّها مفضلا إيّاه على الملائكة على ما جاء في آيات سورة البقرة هذه: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) كما روى عن ابن كيسان أن الْإِنْسانَ تعني محمدا. وروى فيما رواه في سياق هذا القول أن الله علّم آدم اللغات جميعها حتى إنه كان يتكلّم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية! وإلى هذا فقد روى روايات أخرى منها أن الْإِنْسانَ تعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وعَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني القرآن. ومنها أن الْإِنْسانَ تعني الجنس البشري وعَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني علّمهم النطق والكتابة والفهم والإفهام. وقد روى الطبري بعض ما رواه البغوي ثم قال: إن كون الإنسان هو الجنس الإنساني وأن معنى عَلَّمَهُ الْبَيانَ هو تعليمه الكلام والحلال والحرام وأمور الدنيا والآخرة هو الصواب. وهذا القول مع القول الأخير الذي يرويه البغوي هما الأكثر اتساقا مع روح الجملتين وعموم الخطاب فيهما. ويصحّ أن يضاف إليهما أن الجملتين هما بسبيل التنبيه إلى نعمة الله العظمى على الجنس
__________
(1) ذكر ذلك المصحف الذي اعتمدناه ثم السيوطي في الإتقان وورد في الترتيب المروي عن ابن عباس وفي ترتيب الخازن.(6/90)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
البشري باختصاصه بميزة الكلام والبيان وتكامل الصقل وتيسيره له فهم ما أنزله الله. وبكلمة ثانية فتحه له آفاق العلم والمعرفة والارتفاع به إلى ذرى الكمال. وقد ينطوي فيهما دعوة للجنس البشري إلى تقدير نعمة الله عليه وشكره واستعمالها فيما فيه الخير والحقّ والصلاح.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 5 الى 13]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
. (1) بحسبان: بحساب وتقدير.
(2) النجم: النبات اللين الذي لا يغلظ ساقه كالبقول والقمح وهناك قول إنه نجم السماء ورجّح الطبري القول الأول وهو الصواب إن شاء الله.
(3) الميزان: جمهور المفسرين على أن الأول والثاني يعنيان العدل، والثالث يعني الميزان الذي يوزن به.
(4) ألّا تطغوا: ألا تتجاوزوا وتبغوا.
(5) ولا تخسروا: ولا تنقصوا.
(6) الأنام: الخلق عامة.
(7) ذات الأكمام: ذات البراعم التي يخرج منها الثمر.
(8) العصف: ورق الشجر والنبات. ومعنى الحبّ ذو العصف أي الزرع الذي ينتج حبّا ويكون في أوله ورقا.
(9) الريحان: هناك من قال إنه النبات ذو الرائحة المعروفة، وهناك من قال إنه الرزق والطعام وأن جملة وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ بمعنى الحبّ الذي(6/91)
يكون في بدئه ورقا والذي يصير حبا فيكون رزقا وطعاما وعلى كل حال فالكلمتان كانتا مفهومتي الدلالة عند السامعين.
(10) آلاء ربّكما: نعم ربكما وآياته.
وهذه الآيات استمرار للآيات السابقة في صدد تعداد نعم الله وعظمته:
فالشّمس والقمر يجريان بحسابه وتقديره. والشجر والنبات يخضعان لأمره وتصريفه.
وهو الذي رفع السماء فوق الأرض ومدّ الأرض وسخّرها لينتفع فيها الخلائق التي بثّها فيها. وجعل فيها فيما جعل الفاكهة والنخل والحبّ ذا العصف والريحان.
وقد تخلّل الآيات استطرادات إلى ما أوجبه الله على الناس: فقد أوجب عليهم العدل والإنصاف وحسن التعامل. وعدم بخس الكيل والوزن لما في ذلك من قوام العمران وطمأنينة المجتمع.
وانتهت الآيات بسؤال استنكاري يتضمّن تقرير كون كل ذلك لا يكون إلا من إله قادر عاقل حكيم عادل فأي آلاء الله محلّ للتكذيب والمماراة.
وفي الآية الأخيرة تنديد موجّه للكفار المكذّبين الذين يكابرون في الحقائق ويتعامون عن آلاء الله الباهرة ويظلون يكررون جحودهم وتكذيبهم. وقد جاء بصيغة التثنية لتشمل الإنس والجنّ منهم على ما يستلهم من ذكر الجنّ والإنس معا في الخطاب الموجّه إليهم في آيات تأتي بعد قليل. ولقد تكررت الآية الأخيرة المذكورة بعد مقاطع السورة وصارت كاللازمة مما يتضمّن معنى شدّة التنديد والتقريع.
ولقد قال المفسّرون «1» إن كلمة لِلْأَنامِ تشمل جميع ما خلقه الله من أحياء. ومع ما في هذا من وجاهة فإنه يتبادر لنا استلهاما من مضمون الآيات ومما احتوته من تنبيهات وواجبات أنه لا يمكن أن يكون موضوعها غير الجنس البشري وأن الكلمة تعني هذا الجنس بنوع خاص.
والتنبيهات والواجبات المذكورة من أمّهات الأخلاق الشخصية والاجتماعية
__________
(1) انظر تفسير البغوي وابن كثير.(6/92)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
التي تكررت في سور عديدة بأساليب متنوعة والتي هي من أمّهات أهداف الرسالة المحمديّة في صدد تعامل الناس مع بعضهم على أساس الحقّ والعدل والإنصاف وعدم بخس الناس وغشّهم والطغيان عليهم مما هو مستمر التلقين والمدى في كل ظرف ومكان.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 16]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16)
. (1) الصلصال: الطين اليابس الذي يرنّ إذا نقر عليه.
(2) الفخّار: الطين المطبوخ بالنار.
(3) مارج: قيل إنه اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل إنه المختلط بالدخان. ولعل الثاني أوجه لأن مارج من مرج بمعنى خلط أو مزج.
الآيات استمرار للسياق في بيان عظمة الله والتنديد بالمكذبين لها: فقد خلق الله الإنسان من طين يابس حتى صار له صلصلة إذا قرع عليه يشبه الفخار وخلق الجان من النار فما الذي يكذبه المكذبون من ذلك؟.
وأسلوب الآيات تقريري عام كسابقاتها كما هو ظاهر. ولقد ذكر خلق الإنسان من صلصال ومن طين والجن من نار في آيات سابقة في بعضها تطابق وفي بعضها تباين لفظي وتطابق جوهري. وكما قلنا في المناسبات السابقة نقول هنا بوجوب الوقوف من هذه الأخبار التكوينية القرآنية عند ما وقف القرآن دون تزيد مع ملاحظة أن ذلك بسبيل بيان عظمة الله وقدرته وبديع خلقه. ونرجّح أن السامعين يعترفون بأصلية تراب الإنسان ونارية الجنّ فذكروا بما يعرفونه ليستحكم التنديد بمماراة الممارين منهم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
.(6/93)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
والآيتان استمرار للسياق وبأسلوب تقريري عام كسابقاتهما أيضا. وقد قال المفسرون «1» فيما قالوه إن القصد من المشرقين والمغربين مشرقا الشمس ومغرباها، ومشرقا القمر ومغرباه في الشتاء والصيف، أو مشرقاهما ومغرباهما إطلاقا. وعلى كل حال فالقصد على ما هو المتبادر لفت نظر السامعين إلى ما يرونه من دقّة سير كل من الشمس والقمر شروقا وغروبا وما في ذلك من مشاهد قدرة الله وبديع صنعه. ولقد قال بعضهم إن عبارة المشرقين والمغربين تعني ما هو معروف اليوم من أن الشمس تشرق على نصف الكرة الغربي في حين تغرب عن نصفها الشرقي وتشرق على نصف الكرة الشرقي في حين تغرب عن نصفها الغربي.
واعتبروها دليلا قرآنيا على هذا الناموس الكوني أو أرادوا أن يستخرجوا هذا الناموس من النصّ القرآني.
ونحن نرى في هذا تمحّلا وتجوّزا وخروجا بالقرآن عن نطاق هدفه الهادي المنبّه إلى بديع كون الله ونواميسه مما يقع تحت مشاهدة الناس وحسب. ومما يمكن أن يورد على المتجوزين والمتمحّلين أن هذا كان سرّا خافيا عن البشر في وقت نزول القرآن لأنه إنما عرف بعد اكتشاف أميركا في القرن التاسع الهجري أو القرن الخامس عشر الميلادي. ولا يجوز أن يدّعي أحد أن هذا السرّ الذي كان من جملة نواميس الكون الجارية كان مغيّبا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يرو أحد أن النبي قال هذا السرّ لأحد من أصحابه ولا يجوز لأحد أن يدّعي أن النبي كتمه عنهم لأن كل هذا مناقض للقرآن الذي يقول فيما يقول وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] ووَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 25]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) .
__________
(1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والطبرسي والكشاف.(6/94)
(1) مرج: خلط ووصل.
(2) برزخ: حاجز.
(3) لا يبغيان: لا يطغى أحدهما على الآخر.
(4) الجواري: جمع جارية وهي سفينة البحر.
(5) كالأعلام: كالجبال.
والآيات استمرار في السياق والهدف كما هو واضح: فبتقدير الله تعالى يتصل البحران ببعضهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر كأن بينهما برزخ يحجزهما عن بعضهما. وقد يسّر الله للناس استخراج اللؤلؤ والمرجان منهما.
وبتقديره تسير المراكب العظيمة المشابهة للجبال فيهما أيضا فبأي هذه الآلاء يكذب المكذبون ويمارون؟.
وقد تعددت أقوال المفسرين في المقصود من البحرين: منها أنهما البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. ومنها أنهما البحر الأحمر وبحر الهند. أو شطّ العرب وخليج البصرة «1» أو خليج البصرة وبحر الهند. وقد روى الطبري مع هذه الأقوال قولا عن سعيد أنهما بحر في السماء وبحر في الأرض حجزت بينهما قدرة الله وينزل من الأول القطر على أصداف الثاني فيتكون اللؤلؤ والمرجان فيه. والأوجه أحد الأقوال السابقة. حيث يلتقي بحر مع بحر وحيث يخرج من كل منهما اللؤلؤ والمرجان ومهما يكن من أمر فالقصد كما هو المتبادر هو لفت الأذهان إلى ما يشاهده الناس من اختلاط مياه البحار والأنهار ببعضها دون أن يطغى بعضها على بعض.
وفي الآيات دلالة على أنه كان يجري في البحار التي تقع عليها بلاد العرب مراكب عظيمة. وكان يستخرج منها اللؤلؤ والمرجان. وأن هذا وذاك كان مشاهدا أو معروفا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنتفعا به. وموضع حديث عن قدرة الله وعظمته.
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن.(6/95)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)
وللشيخ محيي الدين بن العربي الصوفي تفسير للآيتين مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ جاء فيه: (مرج البحرين بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأجاج وبحر الروح المجرّد الذي هو العذب الفرات. يلتقيان في الوجود الإنساني. بينهما برزخ هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجرّدة ولطافتها ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها. لا يبغيان لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصتيه. فلا الروح يجرد البدن ويخرج به ويجعله من جنسه ولا البدن يجسد الروح ويجعله ماديا. سبحان الخالق القادر على ما يشاء) «1» .
وفي هذا ما هو واضح من الشطح الذي يبتعد به الشيخ عن معنى العبارة القرآنية الصريحة ودلالتها القطعية.
والشيعة يفسرون جملة مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بعلي وفاطمة رضي الله عنهما وجملة يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ بالحسن والحسين (رضي الله عنهما) «2» .
وفي هذا كذلك ما هو واضح من الشطط والتعسف.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 28]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
. هذا المقطع فصل جديد في الخطاب والتقرير مع اتصاله ببيان عظمة الله.
فالآيات السابقة احتوت تقريرات عن آلاء الله وكونه ونواميسه ونعمته على الإنسان ووصاياه له. وهذا المقطع احتوى تقريرا عن ذات الله. والأسلوب كسابقه تقريري عام وهدفه تقرير عظمة الله أيضا: فكل كائن سواه قابل للفناء وهو الباقي الذي لا يطرأ عليه زوال ولا تغيير. وتعبير وَجْهُ رَبِّكَ بمعنى ذات الله عزّ وجلّ هو تعبير أسلوبي مألوف من المخاطبات البشرية التي نزل القرآن بأسلوبها. وقد نبّهنا على ما ينبغي أن يفهم من كلمة (وجه الله) وأمثالها مع وجوب تنزيه الله عن مماثلة خلقه
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 3 ص 7.
(2) الصراع بين الإسلام والوثنية ج 1 ص 4 المقدمة.(6/96)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
في سياق الآية [88] من سورة القصص بما يغني عن التكرار.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 30]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
. وهذا المقطع من نوع المقطع السابق أيضا من حيث إنه تقرير عن ذات الله:
فكل من في السموات والأرض محتاج إليه وسائله. وتصريفه للأكوان وشؤون الخلق دائم لا سكون فيه.
ولقد روى البغوي عن مقاتل أحد علماء التابعين ومفسّريهم أن الآية الأولى نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا. وأسلوب الآية تقريري عام. والمقطع استمرار للسياق. فإن صحّ أن اليهود قالوا ذلك فإن الآية تكون احتوت ردّا عليهم في سياق عام ولا تكون قد نزلت لحدتها لأجل ذلك فيما هو المتبادر على أن مكية الآية والسورة وكون أكثر اليهود الممارين في المدينة يحمل على التوقف في الرواية.
ولقد روى الطبري بطرقه حديثا عن عبد الله الأزدي قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فقلنا يا رسول الله وما ذلك الشأن. قال: يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع أقواما ويضع آخرين» . وقد أورد ابن كثير هذا الحديث مرويا بطرق ابن عساكر وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء أيضا. والمتبادر أن الحديث بسبيل توضيح نبويّ مختصر مفيد لجانب من جوانب شأن الله عزّ وجلّ الدائم في كل أمر ومطلب من أمور ومطالب الكون والخلق وهو ما انطوى في الأسلوب الشامل الذي جاءت عليه الجملة القرآنية.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
.(6/97)
(1) أن تنفذوا: أن تخرجوا وتخلصوا وتتفلتوا.
(2) شواظ: قيل إنه الشرر أو اللهب.
(3) نحاس: ذكر الطبري أن العرب تسمي الدخان نحاسا بكسر النون. وذكر احتمال أن يكون المعدن المعروف الذي كان يسمى صفرا. وروى البغوي عن قتادة أن المقصود هو النحاس المذاب وهذا إنما يكون من شدّة الحرارة.
وهذه المقاطع فصل جديد آخر، ولكنه غير منقطع عن الفصول السابقة والسياق السابق. فالثقلان هما الإنس والجنّ. والسؤال في اللازمة موجه إلى المكذبين منهما. وقد وجّه الخطاب في الآيات إليهما مباشرة. واحتوت وعيدا وتحدّيا للمكذّبين منهما. فلسوف يفرغ الله لحسابهم على أعمالهم. ولن يستطيعوا أن ينجوا من قبضته ويهربوا من نطاق سلطانه من أي ناحية في السموات والأرض، ولن تتيسر لأحد النجاة إلّا ببرهان أي بإذن من الله تعالى وحجّة مقبولة عنده. وهي الإيمان والعمل الصالح كما هو المتبادر. ولسوف يرشقون بشواظ من النيران والمذاب من النحاس الحارّ فيغلبون أمام الله ويخذلون، ولا ينتصرون ولا يكون لهم أي غلبة ومخلّص.
ولقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون معظم أوصاف النعم والعذاب الأخرويين مستمدة من مألوفات الدنيا على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
والراجح أن الرشق بالنار والنحاس المذاب من هذا الباب. حيث يصحّ القول والحالة هذه أن العرب كانوا يعرفون أو يسمعون بأن ذلك من وسائل الحرب الشديدة. ولعلّها مما كان يعرف بالنار اليونانية ومواد القذف النارية الأخرى.
وتعبير سَنَفْرُغُ لَكُمْ تعبير أسلوبي كما هو المتبادر. فالله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن حتى يصحّ في حقه معنى الشغل والتفرّغ والفراغ. والمقصود منه كما قلنا الإنذار والتهديد بأن الله سوف يحاسبهم ويجزيهم بما يستحقون.(6/98)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
ولقد ذكر في سورة الجنّ وسورة الأحقاف وغيرهما شمول تكليف الله للجنّ وشمول حساب الآخرة وثوابها وعقابها لهم تبعا لذلك وأسوة بالإنس، ولما كان هذا مما أخبر به القرآن في جملة ما أخبر به من شؤون الجنّ المغيبة فقد صار من الواجب الإيمان به والوقوف منه عند ما وقف القرآن بدون تزيد. مع ملاحظة أن ذكر ذلك لا بدّ من أن يكون له حكمة ربانية. ولعلّ منها تقرير كون الجن- الذين يعبدهم العرب ويعوذون بهم ويشركونهم في الدعاء مما حكته آيات عديدة في سور سابقة هم أيضا- خاضعين لأمر الله ينال المحسن منهم ثوابه والمسيء عقابه في الآخرة.
ولقد وهم بعضهم أن بين هذه الآيات وبخاصة بين الآية الأولى منها وما يجري اليوم من محاولات الارتفاع في الفضاء والوصول إلى القمر والكواكب الأخرى شيئا من التعارض، حتى لقد أرسل لي أمين عام جماعة الإرشاد الإسلامية في شيبرون في جاوا أندينوسيا يسألني عن ذلك. وواضح من الآيات وشرحها أنها في صدد الآخرة وعذابها وإنذار الجنّ والإنس بهما. وننبه في هذه المناسبة إلى أنه ليس بين تلك المحاولات والنصوص القرآنية أي تعارض. وأن القرآن بما نبّه عليه في الآيات العديدة ومن تسخير الله تعالى السموات والأرض وما بينهما والشمس والقمر والنجوم هو في مقام الحضّ على بذل الجهد في سبيل معرفة كل شيء عن ذلك والانتفاع بكل ناموس أودعه الله في كونه والتنبيه على أن ذلك هو بسبيل معرفة عظمة الله وقدرته وبديع صنعه واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه. والله تعالى أعلم.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
. (1) وردة كالدهان: وردة بمعنى اللون الأحمر، وسميت الفرس الحمراء(6/99)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
بالورد من ذلك. أما الدهان فقيل إنه الدهن ومنه الزيت فتكون الجملة (حمراء بلون الزيت) وقيل إنه الجلد فتكون الجملة (حمراء بلون الجلد المدبوغ) .
(2) آن: شديد الحرارة.
وهذه المقاطع متصلة بالمقاطع السابقة. وهي بسبيل الوعيد بعذاب الآخرة ووصف أهواله على المجرمين المكذبين من الثقلين: فإذا ما جاء الأجل المعين في علم الله انشقت السماء فكانت حمراء مهيبة المنظر. وحشر الإنس والجن جميعا.
وعرف المجرمون بعلاماتهم الظاهرة معرفة تغني عن سؤالهم عن هوياتهم وذنوبهم. وأمر بهم فسيقوا مسحوبين من نواصيهم أو مجرورين من أقدامهم إلى جهنّم حيث يقال لهم هذه جهنّم التي كانوا يكذبون بها وحيث يظلون يتنقلون بين النار والماء البالغ نهاية الشدّة في الحرارة.
والوصف رهيب، والمتبادر أنه استهدف فيما استهدفه إثارة الفزع في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
. (1) أفنان: جمع فنن وهو الغصن اللين الدقيق.
(2) جنى الجنتين: ثمرهما.
(3) دان: قريب.(6/100)
(4) قاصرات الطرف: مرّ تفسيرها في سورة الصافات.
(5) لم يطمثهن: لم يفضضهن. والطمث هو دم الرحم. وأصل المعنى لم يستنزل دمهن أحد قبلهم من إنس وجان.
والمقاطع فصل جديد فيه بيان المصير الأخروي للذين يخافون الله ويتقونه بالإيمان وصالح الأعمال مقابل فصلي الإنذار والوعيد السابقين، وبيان مصير المجرمين الأخروي جريا على مألوف النظم القرآني. فهي والآيات السابقة سياق متسلسل. وعبارتها واضحة. والوصف الذي احتوته مشوق قوي. وقد استهدف فيما استهدفه كما هو المتبادر تبشير المؤمنين المتقين وتشويقهم. وإغراء غيرهم على الخوف من الله وتقواه والارعواء عن الغي والضلال.
وذكر الفرش التي بطائنها من إستبرق وتشبيه جمال نساء الجنة بالياقوت والمرجان قد يدلّ على أن هذه الأشياء مما يعرفها السامعون ويعرفون أنها عنوان الترف والبهاء والصفاء والجمال.
ولقد روى الشيخان في سياق آية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ عن عبد الله بن قيس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلّا رداء الكبر على وجهه في جنّة عدن» «1» حيث ينطوي في الحديث توضيح أو تعليل لتثنية الجنة فيه إشارة إلى تفاوت ما بين الجنتين.
ومع ذلك فالمفسرون يروون تأويلات أخرى منها أن واحدة للجنّ وأخرى للإنس. ومنها أن واحدة لمستحقيها وأخرى لأزواجهم. ومنها أن واحدة للنزهة وأخرى للسكن.
وعلى كل حال فإنه لا بدّ من أن يكون لورود الجملة بالنظم الذي وردت به حكمة ربانية في صدد التطمين والتشويق إلى ما أعدّه الله تعالى لمن يخشونه ويتقونه من النعيم الأخروي.
والخوف من مقام الله ذو مدى واسع إيجابي وسلبي حيث يشمل الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح في مختلف المجالات من ناحية واجتناب الإثم
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 224.(6/101)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
والفواحش والبغي من ناحية أخرى.
ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ يوما وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال:
وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي الدرداء. وروى بطرقه أنه قيل لأبي الدرداء في هذه الآية وإن زنى وإن سرق فقال إنه إن خاف مقام ربّه لم يزن ولم يسرق. حيث يبدو أن في الحديث الثاني توضيحا لما فهمه أبو الدرداء من الحديث الأول. وعلى كل حال فإن صحّ الحديث النبويّ الذي لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة فالأولى حمله على أن الزاني أو السارق إذا استشعر بخوف الله بعد عمله وندم وتاب وحسنت توبته وأصلح واصطلح نال رضاء الله وعفوه وصار مستحقا لما وعده لمن خاف مقامه.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
. (1) ومن دونهما: هناك من أوّلها بأنها في معنى من دونهما مرتبة وخطورة.
وهناك من أوّلها بأنها قربهما أو جنتان أخريان.
(2) مدهامتان: منظرهما ضارب إلى السواد من شدّة الاخضرار والنضرة.
(3) نضاختان: فوارتان. أو ممتلئتان أو الماء فيهما لا ينقطع عن النبع والفوران.
(4) خيرات: قيل إنها مخففة من خيّرات جمع خيّرة فتكون الجملة: نساء حسان مختارات أو خيّرات.(6/102)
(5) مقصورات في الخيام: قيل إنها بمعنى محبوسات محفوظات في خيامهن على أزواجهن فلا يخرجن منها لغيرهم.
(6) رفرف: قيل إنها الوسائد. وقيل إنها الطنافس والبسط، ووصف الرفرف (بالخضر) قد يلهم أنها جمع وأنها متكئات عالية من النبات الأخضر على ما هو معتاد في أيام الربيع.
(7) عبقري: قيل إنها كناية عن الطنافس والبسط. وقيل إنها وصف لكل جليل نفيس نادر حيا كان أم جمادا. وقيل إنها نسبة إلى بلد يصنع فيها الوشي.
وقيل إن عبقر بلد أو واد للجن في أساطير العرب ينسب إليه كل عجيب. ويستلهم من نظم الآية أن الكلمة وصف ثان لرفرف. فالرفرف التي يتكىء عليها المنعمون في هذه الجنات خضراء عجيبة في رونقها ومنظرها.
وهذا الفصل متصل بالسياق أيضا. وعبارة آياته واضحة هي الأخرى. وقد روى المفسرون فيما رووه «1» في مفهوم وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ إنهما دون الأوليين في المرتبة لأن المؤمنين متفاوتون في الأعمال فاقتضت الحكمة أن تكون جناتهم متفاوتة. وقد لا يخلو هذا من وجاهة. وفي القرآن آيات نبهت على التفاوت في درجات المؤمنين وجزائهم في الآخرة. منها ما مرّ في سورة الواقعة [الآيات 7- 39] ومنها آية سورة الحديد هذه: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) ، وورد أيضا أنهما جنتان أخريان قربهما وهذا أيضا وارد، ومتسق مع مفهوم الإنسان الدنيوي من تعدد الجنات والمنتزهات. وقد يؤيد هذا الاحتمال بالنسبة للمقام أنه ليس في وصف الجنتين السابقتين ونعيمهما ووصف هاتين الجنتين ونعيمهما فرق وتفاوت كما هو الحال في منازل السابقين وأصحاب اليمين الأخروية الموصوفة في سورة الواقعة مثلا.
__________
(1) انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والطبري.(6/103)
ولقد أورد ابن كثير في سياق آية: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ حديثا رواه عمر بن الخطاب (رض) قال: «جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمّد أفي الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها فاكهة ونخل ورمان. قالوا: فيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال: نعم وأضعاف. قالوا فيقضون الحوائج قال لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى» . وأورد حديثا آخر عن أبي سعيد الخدري (رض) قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب» وأورد في سياق جملة حور مقصورات في الخيام حديثا رواه البخاري جاء فيه: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كلّ زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» «1» . وأورد في سياق وصف الجنة وخدمها وما أعد لها وفي أهلها حديثا عن أبي سعيد جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء» . وروى الطبري عن ابن مسعود في تفسير الخيام حديثا جاء فيه:
(هي الدرّ المجوّف) ، وهناك روايات من هذا الباب عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما فنكتفي بما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونقول إن من الواجب التسليم بما ثبت عن رسول الله والإيمان بأن في ذلك حكمة سامية. ولعلّ من هذه الحكمة التشويق والترغيب. والله أعلم.
ولقد أورد البغوي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن عائشة (رض) قالت:
«كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلّا مقدار ما يقول اللهمّ أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» والمسلمون مدعوون للاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الثناء المأثور.
__________
(1) أورد الحديث صاحب التاج أيضا. انظر ج 4 ص 224 مرويا عن عبد الله بن قيس.(6/104)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
سورة الإنسان
في السورة تقرير وتذكير بخلق الإنسان بعد العدم ومنحه العقل والاختيار لاختباره. وإنذار للكفار وتنويه بالمؤمنين وبيان مصير كلّ منهم في الآخرة مع وصف رائع لمصير المؤمنين. وتلقين بتقوى الله والرأفة بالبؤساء. وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتهوين لموقف الكفار منهم ونعي عليهم لمحبتهم الدنيا وإهمالهم الأخرى.
وهذه السورة من المختلف في مكيتها ومدنيتها أيضا غير أن الطابع المكي قوي البروز عليها. ومعظم المفسّرين يروون مكيتها «1» . ولقد ذكر في عدد من تراتيب النزول المرويّة أنها نزلت بعد سورة الرحمن «2» . ولعلّ في ذلك قرينة على مكيتها أيضا وفي بعض آياتها قرائن بل دلائل قوية على مكيتها كذلك. وللسورة اسم آخر هو الدهر اقتباسا من كلمة الدهر التي جاءت في آياتها الأولى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
. (1) هل أتى: قيل إن الجملة في معنى قد أتى للتقرير. وقيل إنها في معنى ألم يأت كسؤال إنكاري وتقريري أيضا. والجملة تتحمل كلا من المعنيين ولا تتحمل غيرهما.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والطبرسي والنسفي والقاسمي والزمخشري والخازن.
(2) ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وترتيب السيوطي وترتيب الخازن وترتيب الحسين وعكرمة.(6/105)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
(2) أمشاج: وهي جمع مشج أو مشيج بمعنى أخلاط. وقيل القصد من ذلك تكوّن الإنسان من اختلاط ماءي الرجل والمرأة. وإن كلّ لونين اختلطا فهما أمشاج. وقيل إنها إشارة إلى ما يتقلّب فيه نشوء الإنسان من أطوار وهو جنين.
(3) نبتليه: نختبره، ومن الممكن أن تحمل على التعليل فيكون معناها لكي نختبره. ومن الممكن أن تحمل على التقرير فيكون معناها سوف نختبره.
الآيات تضمنت معنى التقرير والتذكير والعظة والتنبيه. فقد مرّ دهر طويل لم يكن الإنسان فيه موجودا ولا شيئا مذكورا. ثم خلقه الله من نطفة مختلطة متطورة.
وجعله سميعا وبصيرا، ثم أودع فيه قابلية التمييز واختيار السبيل الذي يسير فيه ليختبره في سيره واختياره ليظهر إما أن يكون شاكرا لله في إيمانه وعمله الصالح أو جاحدا شريرا.
وأسلوب الآيات تقريري ينطوي على عرض عام. وفيها توكيد لما قرره القرآن في مواضع كثيرة من قابلية الإنسان للتمييز واختيار الطريق الذي يسير فيه ومسؤوليته عن هذا الاختيار.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين الأخيرتين حديثا عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا» . وحديثا رواه الإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها» . حيث ينطوي في الحديثين توضيح نبوي داعم للتوكيد الذي ينطوي في الآيات وغيرها من قابلية الإنسان للتمييز والاختيار ومسؤوليته عن ذلك.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 6]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)
. (1) مزاجها: المادة التي يمزج بها الشراب.(6/106)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
هذه الآيات تتضمن النتائج التي تترتب على اختيار الناس لطريقهم بأسلوب إنذاري للجاحدين وتطمين تبشيري للصالحين. فقد أعدّ الله للأولين السلاسل والقيود والنار. أما الآخرون فلهم النعيم والتكريم في الجنات والأشربة اللذيذة التي يكون مزيجها الكافور.
والمتبادر أن مزج الشراب بالكافور مما كان مألوفا عند المترفين ومرغوبا فيه، فذكر ذلك جريا على مألوف النظم القرآني في ذكر أوصاف العذاب والنعيم الأخروي بما اعتاده السامعون، مع واجب الإيمان بحقيقة الخبر القرآني الغيبي.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 7 الى 10]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
. (1) مستطيرا: منتشرا أو واسعا أو شاملا.
(2) على حبّه: على شدّة الحاجة إليه والرغبة فيه.
(3) أسيرا: هي في أصلها الذي يؤسر في الحرب من الأعداء وقد تكون هنا بمعنى المملوك لأن غالبية المملوكين هم من أسرى الحرب حيث جرت العادة على استرقاق الغالب الأسرى.
(4) عبوسا: شديد الوطأة أو شديد التجهم والظلام.
(5) قمطريرا: شديد الكرب أو مثيرا للفزع.
والآيات متصلة بالسياق. وفيها وصف للأبرار الذين ذكرت الآية السابقة ما أعدّه الله لهم من نعيم وشراب لذيذ في الآخرة وحكاية لأقوالهم بسبيل التنويه، فهم يوفون بما ينذرونه على أنفسهم من أعمال بارّة. ويخشون عذاب يوم الآخرة وشرّه العظيمين. ويطعمون الطعام على شدّة حاجتهم إليه المساكين والأيتام والأرقاء ولسان حالهم يهتف بأنهم يطعمونهم دون انتظار شكر وجزاء منهم. وإنما ابتغاء(6/107)
وجه الله وتقرّبا إليه ومخافة اليوم العبوس المخيف الذي يقفون فيه أمامه.
وقد روى بعض المفسرين «1» أن هذه الآيات وما بعدها نزلت في علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة (رضي الله عنهما) في قصة طويلة حيث جاءهم في ثلاثة أيام متوالية مسكين ويتيم وأسير فكانا يحرمان أنفسهما مما أعداه لغذائهما من طعام الشعير الذي اقترضا ثمنه وكانا في أشد الحاجة إليه، فيعطيانه لهم ويبيتان على الطوى. وهناك من روى أنها نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو الدحداح لأنه فعل ما روته الرواية السابقة «2» وهناك من روى أنها نزلت في ابن عمر حيث كان مريضا واشتهى العنب فاشتروه له فجاء سائل فأمر بإعطائه له أول مرة وثاني مرة «3» .
والروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أن الطابع المكي قوي البروز عليها كما قلنا قبل.
والرواية الأولى مما نالت حفاوة المفسرين الشيعيين كثيرا «4» الذين ولعوا في صرف كثير من الآيات إلى علي (رضي الله عنه) وذريته بقطع النظر عن المناسبة والسياق. حتى لقد يخطر بالبال أن تكون رواية مدنية السورة أو الآيات من ذلك الباب. وقد نبهنا على أمثلة عديدة منه أيضا في مناسبات سابقة.
ومع احترامنا لعلي وزوجته ثم لسائر أصحاب رسول الله السابقين (رضوان الله عليهم) جميعا وما كانوا عليه من ورع وزهد وتقوى ورأفة بالمحتاجين، واعتقادنا بأن حبّ الخير وو البرّ فيهم قد يحملهم على التصدّق بطعامهم للمساكين والأيتام والأسرى والأرقاء على شدة حاجتهم إليه فإن أسلوب الآيات ومضمونها وروحها وطابعها المكي القوي كل ذلك يلهم أنها بسبيل وصف الأبرار الذين ذكروا في الآية السابقة مباشرة بصورة عامة. وفيها مع ذلك صورة رائعة واقعية لما كان
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن والبغوي.
(2) انظر الخازن والبغوي.
(3) انظر تفسير ابن كثير. [.....]
(4) انظر الطبرسي.(6/108)
يصدر من المؤمنين الأولين رضوان الله عليهم من إيثار للمساكين والمعوزين على أنفسهم ومن برّهم بهم على شدّة حاجتهم تقربا إلى الله تعالى. وقد احتوت آيات عديدة في سور مكية مثل هذه الصورة الرائعة مما نبهنا عليه في مناسباته مثل سور الواقعة والذاريات والمؤمنون والليل وغيرها وغيرها.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن فيما حكي عن الأبرار بهذا الأسلوب المحبب تلقينا مستمرا قويا بما يجب أن يتصف به المسلم من الرفق بالبؤساء والمحتاجين والأرقاء ومساعدتهم في كل ظرف ومن مراقبة الله وابتغاء مرضاته وعدم انتظار الشكر والجزاء من أحد على ما يفعله من خير وبرّ ومعروف، ثم بتحميل نفسه أقصى ما يمكن من الجهد في سبيل ذلك.
وبمناسبة التنويه بالذين يطعمون الطعام على حبّه المساكين واليتامى والأسرى نقول إن هذا الأمر قد تكرر في القرآن والحديث بحيث يقال إنه من المكارم الأخلاقية التي تبنتها الرسالة الإسلامية ودعت إليها في كل ظرف وموقف.
ولقد علقنا على ما أولاه القرآن والحديث من عناية باليتيم والمسكين والأسير أي المملوك في مناسبات سابقة فنكتفي بهذا التنبيه.
تعليق على موضوع النذر
وبمناسبة جملة يُوفُونَ بِالنَّذْرِ نقول إن النذر هو ما يوجبه المرء على نفسه من عمل فيه برّ وخير وقربى إلى الله أو يظنه كذلك. وهذا مما كان جاريا عند العرب وغيرهم قبل الإسلام. ومن ذلك ما حكته الآية [26] من سورة مريم فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) والآية [35] من سورة آل عمران إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وهناك روايات عديدة تدلّ على أن هذه العادة كانت شائعة عند العرب قبل الإسلام، كما قلنا، منها رواية المرأة التي نذرت ذبح ابنها عند الكعبة التي أوردناها في سياق تفسير الآيات [135- 140] من سورة(6/109)
الأنعام. وقد روى الخمسة حديثا عن عمر بن الخطاب قال: «يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبيّ أوف بنذرك فاعتكف ليلة» «1» . وروى أبو داود والترمذي أن امرأة قالت: «يا رسول الله إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوفي بنذرك» «2» وروى أبو داود والترمذي «أنّ امرأة أتت النبيّ فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدفّ قال أو في بنذرك» «3» .
وجملة يُوفُونَ بِالنَّذْرِ جاءت في مقام التنويه بالذين يفعلون ذلك. وبالتالي ينطوي فيها إقرار لفكرة النذر. وهذا منطوق في آية سورة البقرة هذه: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) وهو منطو في الأحاديث التي أوردناها كذلك.
وهناك أحاديث أخرى فيها تنويه وتنديد وتنظيم وتعليم وتشريع في صدد النذر. منها حديث رواه الخمسة إلّا مسلما عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» «4» . وحديث رواه البخاري والنسائي عن عمران بن الحصين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم. قال عمران لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه. ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون. ويخونون ولا يؤتمنون. ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن» «5» . وحديث رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه جاء فيه: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح فقال يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلّي في بيت المقدس ركعتين. قال صلّ هنا. ثم أعاد عليه فقال صلّ هاهنا. ثم أعاد عليه فقال شأنك إذا وزاد في رواية والذي بعث محمدا بالحقّ لو صليت هاهنا
__________
(1) التاج ج 2 ص 96.
(2) التاج ج 3 ص 74.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه ص 73- 75.
(5) انظر المصدر نفسه.(6/110)
لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس» «1» ، وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال:
«استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نذر كان على أمّه فتوفيت قبل قضائه فقال رسول الله فاقضه عنها» «2» . وحديث رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس قال:
«جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال إن أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبيّ لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض فإنّ الله أحقّ بالقضاء» «3» .
وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «بينما النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم فقال مروه فليتكلم وليستظلّ وليقعد وليتمّ صومه» «4» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكأ عليهما فقال النبيّ ما شأن هذا قال ابناه يا رسول الله كان عليه نذر المشي إلى بيت الله فقال اركب أيها الشيخ فإن الله غنيّ عنك وعن نذرك» «5» . وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن عقبة بن عامر قال: «نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله فاستفتيته فقال لتمش ولتركب» «6» . وحديث رواه الخمسة عن عمران بن الحصين عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد» «7» . وحديث رواه أبو داود والنسائي عن سعيد بن المسيب جاء فيه: «إن أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت سألتني عن القسمة فكلّ مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفّر عن يمينك وكلّم أخاك. سمعت رسول الله يقول لا يمين عليك ولا
__________
(1) التاج ج 3 ص 73- 75.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه ص 75- 76.
(5) انظر المصدر نفسه.
(6) انظر المصدر نفسه.
(7) انظر المصدر نفسه.(6/111)
نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي «قال رسول الله من نذر نذرا لم يسمّه فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين.
ومن نذر نذرا أطاقه فليف به» «2» . وحديث رواه النسائي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء. وما كان من نذر في معصية الله فذلك للشيطان فلا وفاء فيه ويكفره ما يكفر اليمين» «3» وحديث رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن كعب بن مالك قال: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» «4» . وحديث رواه أبو داود وأحمد أن كعبا أو أبا لبابة قال: «إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كلّه صدقة قال النبيّ يجزي عنك الثلث» «5» .
وهناك حديثان رواهما الخمسة واحد عن ابن عمر قال: «نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن النذر وقال إنه لا يردّ شيئا ولكنه يستخرج به من البخيل» «6» وثان عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» «7» .
والمتبادر أن الحديثين بسبيل تعليم المسلمين بأن لا يجعلوا النذر لأجل مطلب يريدون أن يقضى سواء أكان فيه جلب نفع أو دفع ضرّ. وينطوي في هذا
__________
(1) التاج ج 3 ص 75- 76. [.....]
(2) انظر المصدر نفسه ص 76- 77.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه. وكعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تخلّفوا عن رسول الله وذكرتهم آية التوبة [118] .
(5) انظر المصدر نفسه. وأبو لبابه هو الذي أرسل خبرا إلى مكة بعزم النبي صلّى الله عليه وسلّم على غزو مكة وأشارت إليه آيات سورة الممتحنة [1- 5] .
(6) المصدر نفسه ص 79.
(7) المصدر نفسه ص 73.(6/112)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
كما هو المتبادر قصد تعليمهم أن تكون نذورهم لله بدون شرط وذريعة. ومع ذلك فإن فحوى الحديثين لا يفيد النهي عن هذا النوع من النذور بل ويفيد إقراره بسبيل استخراج مال ينفق في سبيل الله والخير من البخيل ...
وهناك أحاديث أخرى رواها أئمة آخرون ولم ترد في الكتب الخمسة فيها شيء مما ورد في الأحاديث التي أوردناها «1» فاكتفينا بما أوردناه.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 11 الى 22]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
. (1) ذلّلت قطوفها: جعلت قريبة التناول إليهم.
(2) قوارير: أصل معناها الزجاج. وهي هنا تشبيه لصفاء الفضة ورقتها.
(3) قدروها تقديرا: جاءت حسب ما قدروه مما يفي رغباتهم أو ريّهم حين يشربون منها.
(4) سلسبيلا: معناها اللغوي غاية السلاسة والسهولة في الجريان.
(5) مخلدون: دائمون على أحسن الصفات من دون تغيير.
في الآيات تقرير لما يقابل الله تعالى به الأبرار الذين حكت الآيات السابقة أعمالهم وأقوالهم فقد نجاهم الله من شرّ ذلك اليوم وجعلهم نضرين مسرورين.
وأنزلهم الجنة وكساهم الحرير ولسوف يكونون فيها متكئين على السرر في طقس
__________
(1) انظر مجمع الزوائد ج 4 ص 185- 192.(6/113)
معتدل لا برد ولا حرّ. وقد ظللتهم الأشجار ودنت منهم قطوفها. ولسوف يطاف عليهم بأوان وأكواب من فضة غاية في الرقة والصفاء كأنها الزجاج. ولسوف يسقون فيها شرابا مزيجا بالكافور من عين غاية في السلاسة والروقان سميت من أجل ذلك بالسلسبيل. ولسوف يقوم بخدمتهم غلمان كاللؤلؤ جمالا لا يعتريهم تبدّل. ولسوف يلبسون ثيابا من حرير أخضر ويحلّون من الأساور الفضية، وفي الجملة حينما ينظر إليهم الناظر يندهش لما يراهم فيه من الملك الكبير والنعيم العظيم. ولسوف يقال لهم إن كل هذا كان لكم جزاء لأعمالكم وسعيكم المشكور.
والوصف أخّاذ رائع من شأنه أن يشيع في النفوس كل مشاعر السرور والانجذاب والطمأنينة والرضى والرغبة، وهو ما استهدفته الآيات فيما استهدفته سواء في السابقين الأولين من المؤمنين أم فيمن يسير على هداهم. وفيها حثّ وترغيب على ذلك بطبيعة الحال.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [20] حديثا رواه ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه» . حيث ينطوي في الحديث توضيح لجانب من الجوانب التي نوّه الله بها في الآيات من الملك العظيم الذي سوف ينعم به المؤمنون الذين يفعلون تلك الأفعال متساوق في تلقينه وتبشيره مع التلقين والتبشير القرآنيين.
وهناك أحاديث عديدة أخرى مرّت أمثلة كثيرة منها في وصف الجنة وصفا أخّاذا متساوقا مع ما احتواه القرآن من وصف أخّاذ ومنطويا على ما انطوى في الوصف القرآني في جملة ما انطوى فيه من تلقين وتبشير.
هذا، والمتبادر أن الأوصاف والمواد التي ذكرت في الآيات هي مما يعرفه السامعون كالقوارير والزجاج والفضة والأواني الفضيّة والأكواب والكؤوس الزجاجية والبلورية والزنجبيل ومزجه بالشراب وثياب الحرير الأخضر المعروف بالسندس والإستبرق. وقد يكون في ذلك دلالة على أن بعض فئات من أهل مكة وأغنيائها كانوا يجلبون هذه المواد من البلاد التي تصنعها ويستعملونها.(6/114)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 26]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
. هذه الآيات جاءت معقبة على سابقاتها مستهدفة تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في موقفه وتهوين أمر الكفار عليه:
1- فالله عزّ وجلّ هو الذي نزّل عليه القرآن.
2- وعليه أن يثبت وينتظر حكم الله ويستمر على ذكره في جميع أوقاته وعلى إقامة الصلاة له وتسبيحه وبخاصة في هدأة الليل.
3- وأن لا يعبأ بالكفار الآثمين أو يجنح إلى ملاينتهم والاستماع إلى إغراءاتهم.
وهذا الأسلوب مما تكرر في القرآن المكي منذ السور المبكرة. وتكراره يدلّ على تكرار البواعث والمواقف. وهذا متسق مع طبيعة مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا وفيه دلالة على أن الكفار كانوا في ظروف ومواقف عديدة يحاولون حمل النبي على الملاينة ثانيا.
وفي هذه الآيات قرينة بل دليل على مكية السورة لأنها تحتوي حكاية أحداث وصور مكية تكررت في السور المكية بنوع خاص. وفي الآية الأخيرة بخاصة قرينة أو دليل آخر. فالله تعالى قد فرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتفرغ في الليل لعبادته وذكره وقراءة القرآن في آيات سورة المزمل الأولى. وفي الآية مشابهة قوية لذلك. هذا في حين أن الله قد خفف من ذلك عليه وعلى المسلمين الذين حذوا حذوه في مكة بعد الهجرة إلى المدينة بسبب ما صار لهم من أعمال ومشاغل وأعذار على ما ذكرته الآية الأخيرة من سورة المزمل التي هي مدنية ألحقت بالسورة للمناسبة على ما شرحناه في سياق سورة المزمل.
ولقد روى البغوي عن قتادة أن المراد بالآثم والكفور أبو جهل حيث نهى النبي عن الصلاة وقال لئن رأيت محمدا يصلّي لأطأن عنقه. وعن مقاتل أن المراد(6/115)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
بهما عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة قالا للنبي إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله الآية.
والروايات محتملة الصحة. لأن الآيات فصل جديد، غير أننا لا نزال نرجّح أنها جاءت معقبة بسبيل تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وتهوين مواقف الكفار عليه جملة. ولا ننفي بهذا ما جاء في الروايات عن أبي جهل وعروض الوليد وعتبة. وقد روي ما روي عنهم في سياق آيات أخرى مما مرّ شرحه في مناسبات سابقة.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 27 الى 28]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
. (1) أسرهم: قوّتهم أو خلقهم.
الآيات تعقيب على سابقاتها: فالكفار والآثمون الذين هم موضوع الحديث يحبون الدنيا وأعراضها ويستغرقون فيها ويهملون التفكير في اليوم الآخر الآتي الهائل الشديد. ولن يعجزوا الله: فهو الذي خلقهم ومكّنهم وهو قادر على محوهم وتبديلهم بغيرهم إذا شاء.
وقد انطوى في الآيات تنديد بالكفار والآثمين وإنذار قوي لهم توكيدا للأمر بعدم الإصغاء لإغراءاتهم ولتثبيت النبي. وقد استهدفت فيما استهدفته تخويف الكفار وحملهم على الارعواء فيما هو المتبادر أيضا.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
.(6/116)
وهذه الآيات تعقيب على سابقاتها أيضا: فدعوة النبي ورسالته هما تذكير للناس وإيقاظ وليستا بقصد الإجبار والإبرام. فمن شاء تذكر واتعظ فسلك سبيل الله واستحقّ رضاءه، ومن أعرض وانحرف وأجرم وظلم كان له العذاب الأليم.
والمشيئة بعد لله تعالى العليم بأحوال الناس ونيّاتهم وطبائعهم، الحكيم فيما أمر ويسّر، الذي يعرف المستحق لرحمته فيشمله بها. ويعرف الظالمين فيكون لهم العذاب الأليم عنده.
وهذا الأسلوب قد تكرر في مواضع عديدة من السور المكيّة وفي المبكرة منها بنوع خاص. وقد استهدفت الآيات إنذار الكفار من جهة والتنويه بالمؤمنين من جهة وتطمين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والتسرية عنه من جهة بتقرير كون دعوته تذكرة وإيقاظا فمن شاء اتعظ وتذكّر وأناب إلى الله وليس هو مسؤولا عن الكافرين فلا موجب لحزنه إذا لم يستجيبوا وليكل أمرهم إلى الله العليم بهم القادر عليهم.
وليس في جملة وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ما ينفي قابلية الاختيار والمشيئة التي أودعها الله في الناس لأن ذلك مما أكّدته التقريرات القرآنية العديدة الحاسمة حتى صار من المبادئ المحكمة. وهذه القابلية والمشيئة مما شاء الله أن تكون للإنسان، فاختيار الناس الهدى أو الضلال هو من ذلك فلا يكون هناك تناقض فيما هو المتبادر لنا إن شاء الله.
والآية وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أيضا مما يدعم ما نقول حيث ينطوي فيها أن الله سبحانه وتعالى يعلم المستحق في رحمته وأنه يعامل الناس بمقتضى حكمته. وفي سورة الأعراف هذه الآية وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) وفي هذه الآية إيضاح صريح في صدد من يدخلهم الله في رحمته ويكون فيها ضابط محكم في هذه المسألة. وفي سورة التكوير آية مماثلة لآية وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وقد علقنا عليها بما فيه الكفاية ويزيل ما قد يرد على البال من استشكال والله أعلم.(6/117)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
سورة الزلزلة
في السورة إنذار بيوم القيامة وهوله وحسابه. وحثّ على الخير وتحذير من الشرّ بصورة عامة. ومن المفسّرين من روى مكيتها وحسب «1» ومنهم من قال إنها من المختلف على مكيته ومدنيته بسبب تعدّد الروايات «2» والطابع المكي قويّ البروز عليها بحيث يسوغ ترجيح مكيّتها إن لم نقل الجزم بذلك، بل ويلهم أنها من السور المبكرة في النزول. وتكاد تكون هي وسورة القارعة المتفق على مكيتها ونزولها مبكرة صورتين متماثلتين. ولقد جاء في حديث رواه الترمذي عن أنس أن قراءة هذه السورة تعدل نصف القرآن وفي حديث آخر عنه أنها تعدل بربع القرآن «3» .
وقد يكون التباين من الرواة. وعلى كل حال فقد يكون قصد التذكر بأهوال يوم القيامة والحثّ على الخير واجتناب الشرّ من الحكمة المتوخاة في الحديث والله تعالى أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .
__________
(1) انظر تفسير البغوي وابن كثير.
(2) انظر تفسير الخازن والنسفي والطبرسي والزمخشري والقاسمي.
(3) التاج ج 4 ص 21.(6/118)
(1) يصدر: يأتي.
في الآيات إشارة إلى يوم القيامة وهوله وحسابه: فالأرض ترتجف وتتشقق وتقذف ما في بطنها كأنها تتزلزل. والناس يتساءلون عما كان ويكون. ولا يلبثون أن يعرفوا أن الله قد حقق بذلك وعده بيوم القيامة والحساب. وحينئذ يهرعون جماعات جماعات ليروا نتائج أعمالهم ويوفوا عليها أجورهم كلّ بما قدّم من خير أو شرّ. فالذين يعملون خيرا مهما قلّ سيلقون خيرا ولا يضيع عليهم منه شيء.
والذين يعملون شرا مهما قلّ سيلقون شرا.
والسورة مع احتوائها حقيقة يوم القيامة والحساب الإيمانية هي سورة وعظ وترغيب وترهيب مطلقة التوجيه للناس عموما، واستهدفت كما هو المتبادر إثارة الخوف من ذلك اليوم وحمل الناس على الإقبال على العمل الصالح والابتعاد عن الأعمال السيئة وعدم الاستهانة بالشرّ مهما قلّ وعدم إهمال الخير مهما ضؤل.
وهي من هذه الناحية تنطوي على تلقين مستمر المدى.
طائفة من الروايات والأحاديث في سياق آيات هذه السورة
ولقد روى البغوي في سياق وتأويل جملة وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقيء الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» . والحديث إن صحّ فإن روايته لم تذكر أنه بسبيل تفسير الجملة.
كما أن أثقال الأرض التي في بطنها ليست فقط القاتل والقاطع والسارق. ولذلك نظل نرجّح التأويل الذي أوّلنا به الجملة.(6/119)
ولقد روى المفسر نفسه بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول عمل عليّ كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها» . وهذا الحديث مما ورد في جامع الترمذي أيضا «1» حيث ينطوي فيه تفسير نبوي فيه إنذار وتنبيه متساوقان مع ما احتوته السورة من ذلك.
ولقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا في سياق آيتي وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ جاء فيه: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الحمر- وقد أوضح الشارح أن السؤال عن ما إذا كان يجب على ما يقتنيه المسلم من الحمر زكاة- فقال لم ينزل عليّ فيها شيء إلّا هذه الآية الجامعة الفاذة وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «2» . حيث ينطوي في الحديث حثّ على عمل الخير ومن ذلك الصدقات مهما قلّت وبأي اسم كان ونهى عن الشرّ مهما تفه فيتساوق التلقين النبوي كذلك مع التلقين القرآني.
ولقد روى البغوي بطرقه عن مقاتل قوله إن الآيتين المذكورتين نزلتا في رجلين وذلك أنه لما نزلت وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه الثمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطى ونحن نحبّه وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا إثم فأنزل الله الآيتين يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر. ويحذرهم اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكثر.
والآيتان منسجمتان مع آيات السورة وهما بسبيل تبشير وإنذار عامين ومبدأين
__________
(1) التاج ج 4 ص 264.
(2) انظر المصدر نفسه.(6/120)
قرآنيين شاملين محكمين. والمتبادر من صيغة الرواية أنها بسبيل شرح ما ينطوي فيهما من بعض حكمة التنزيل.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآيتين حديثا عن أبي إدريس قال: «إنّ أبا بكر كان يأكل مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت هذه الآية فرفع يده من الطعام وقال إني لراء ما عملت من خير وشرّ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إن ما ترى مما تكره فهو بمثاقيل ذرّ الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذرّ الخير حتى تعطاه يوم القيامة» . وحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «أنزلت إِذا زُلْزِلَتِ وأبو بكر قاعد فبكى فقال له رسول الله: ما يبكيك؟ قال: يبكيني هذه السورة، فقال له: لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر الله لكم لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم» . فإذا صحّت الأحاديث فتكون الحكمة النبويّة قد توخّت تطمين المخلصين من المؤمنين في صدد ما قد يصدر منهم من هفوات والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «لما أنزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قلت يا رسول الله إني لراء عملي؟ قال: نعم، قلت: تلك الكبار الكبار؟ قال: نعم، قلت:
الصغار الصغار؟ قال: نعم، قلت: وأثكل أمي؟ قال: أبشر يا أبا سعيد فإنّ الحسنة بعشر أمثالها ثم إلى سبعمائة ضعف ويضاعف الله لمن يشاء والسيئة بمثلها أو يغفر الله ولن ينجو أحد منكم بعمله إلّا أن يتغمدني الله منه برحمة» .
فإن صحّ الحديث فتكون الحكمة النبوية قد توخت فيه التحذير من الكبائر والصغائر معا والتحذير كذلك من اعتداد الإنسان بأعماله ومنه على الله بها مع تأميل المؤمنين المخلصين في نفس الوقت بعفو الله ورحمته.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآيتين كذلك حديثا عن عائشة قالت:
«قلت يا رسول الله إن عبد الله بن جدعان كان يصل الرحم ويفعل ويفعل هل ذاك نافعه؟ قال: لا إنه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين» . وحديث عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: «ذهبت أنا وأخي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول(6/121)
الله إن أمّنا كانت في الجاهلية تقري الضيف وتصل الرحم هل ينفعها عملها ذلك شيئا؟ قال: لا» . وحديث جاء فيه: «إن سلمان بن عامر جاء رسول الله فقال: إن أبي كان يصل الرحم ويفي بالذمة ويكرم الضيف، قال: مات قبل الإسلام؟ قال:
نعم، قال: لن ينفعه ذلك. فولّى، فقال رسول الله عليّ بالشيخ، فجاء فقال له:
إنها لن تنفعه ولكنها تكون في عقبه فلن تخزوا أبدا ولن تذلوا أبدا ولن تفتقروا أبدا» . وحديث عن أنس جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيعطيه بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة» .
وهذه الأحاديث لم ترد بصيغها في كتب الأحاديث الصحيحة. وهذا لا يمنع صحّتها. وفحواها متّسق مع التقريرات والتلقينات التي انطوت في آيات عديدة والتي تنبّه على أن الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر شرط لا بد منه لنفع الأعمال الصالحة في الآخرة.(6/122)
سورة البقرة
مقدمة للسورة
في هذه السورة مواضيع عديدة وفصول ومواقف ومشاهد متنوعة، منها الحجاجية ومنها التنديدية ومنها التشريعية ومنها التعليمية ومنها التذكيرية ومنها الإيمانية ومنها الكونية. وفيها قصة خلق آدم وسجود الملائكة وكفر إبليس.
وسلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة المحمدية وأخلاقهم وربط ذلك بتاريخهم القديم. وبعض صور من تاريخهم بعد موسى وإشارة إلى المنافقين وتآمر اليهود معهم ضد الدعوة. وفيها تشريعات في القبلة والوصية والصيام والقتال في سبيل الله والحج والحيض والأنكحة والطلاق وعدة الزوجة المتوفى عنها زوجها والربا وتسجيل الأعمال التجارية والديون والحث على الإنفاق في سبيل الله. وقد تخللتها عظات وتلقينات وتعليمات إيمانية وأخلاقية واجتماعية، وانطوى فيها صور عديدة من العهد المدني وظروف المسلمين فيه.
وهي أطول سور القرآن عدد آيات وسعة حيز، وطابع العهد المدني بارز على فصولها وأسلوبها، وبعض فصولها منسجمة مع بعض بحيث يصح أن يقال إنها نزلت معا أو متتابعة. وبعض فصولها غير منسجمة ظرفا ولكنها منسجمة موضوعا مع بعض بحيث يصح أن يقال إنها نزلت في ظروف متباعدة. ولا يستبعد أن يكون بعضها نزل متأخرا وبعد نزول سور أو مجموعات قرآنية من سور أخرى ثم وضع بعضها وراء بعض بسبب التساوق الموضوعي. ولا يستبعد أن يكون بعضها أخر في الترتيب مع تبكيره في النزول وبعضها قدم في الترتيب مع تأخره في النزول حتى إن منه ما نزل قبيل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم مما تلهمه المضامين وتسوغه المقارنات. وكل هذا(6/123)
يسوغ القول إن فصول هذه السورة نزلت في فترات متفاوتة وإنها ألفت على الوجه الذي رتبت آياتها أو فصولها عليه تأليفا بعد أن نزلت جميع فصولها بل وربما بعد أن نزل كثير من السور والفصول المدنية الأخرى.
ولقد أثر حديث عن زيد بن ثابت (رضي الله عنه) أخرجه الحاكم ووصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين- وزيد هو الذي تولّى عمل تدوين المصحف بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي كان من كتّاب وحي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- جاء فيه «كنا نؤلف القرآن من الرقاع» وقد علق البيهقي على ذلك بقوله: يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» . مما فيه توضيح لما قلناه في صدد تأليف فصول هذه السورة بعد أن تكامل نزولها في ظروف متباعدة. وهذا يصدق على كل السور المدنية الطويلة على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها، حيث يبدو أن ظروف العهد المدني كانت تقتضي أن تدون فصول القرآن النازلة فيه متفرقة لأنها مواضيع متنوعة نزلت في مناسبات مختلفة ثم تؤلف السور منها.
وطابع البدء والختام على مطلع سورة البقرة وخاتمتها بارز حتى ليسوغ القول إنهما وضعا ليكونا كالإطار للسورة. ولعل الفصل الأول من السورة كان أول فصول السورة نزولا في المدينة وأول فصول القرآن المدني نزولا، مما قد يلهمه مضمونه فاعتبرت السورة من أجل ذلك في ترتيب النزول كأولى السور المدنية نزولا مثل سورة العلق التي اعتبرت في ترتيب النزول كأولى سور القرآن المكي نزولا لأن آياتها الخمس الأولى دون بقيتها هي أول القرآن نزولا.
ولقد أثر حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش» «2» وحديث آخر جاء فيه: «إنّ ملكا نزل من السماء فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
__________
(1) انظر الإتقان للسيوطي ج 1 ص 60.
(2) انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج ج 4 ص 13 و 14. [.....](6/124)
أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
لن تقرأ منهما حرفا إلّا أوتيته» «1» حيث يدل هذا دلالة قوية بل قاطعة على أن هذه السورة قد تمّ تأليفها على الوجه الذي ورد في المصحف في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ما نعتقده بالنسبة لسائر السور الطويلة المدنية التي فيها فصول مختلفة المواضيع نزلت في ظروف مختلفة ومتباعدة.
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في فضل سورة البقرة منها حديث جاء فيه: «لكلّ شيء سنام وإنّ سنام القرآن سورة البقرة» «2» . وهذا الحديث إذ يذكر سورة البقرة يدل أيضا على أنها كانت مؤلفة تامة في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والمجمع عليه أن تفوقها على غيرها في عدد الآيات والحيز من أسباب وضعها في أول المصحف بعد سورة الفاتحة التي وصفت بأنها مفتتح القرآن وبراعته الاستهلالية على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وليس من شأن هذا أن ينقض ما وضحناه من أن جعلها أولى سورة مدنية هو بسبب احتمال كون فصلها الأول هو أول فصول القرآن نزولا في المدينة، والله تعالى أعلم.
تعليق على ترتيب السور في المصحف
وننبه بهذه المناسبة على أن علماء القرآن قالوا إن ترتيب سور القرآن في المصحف قد جاء حسب أطوالها. حيث قدمت السور المسماة بالطوال ثم ما عرف بالمئين- أي التي عدد آياتها في حدود المائة تزيد قليلا أو تنقص قليلا- ثم ما عرف بالمثاني ثم ما عرف بالقصار ثم ما عرف بالمفصل أي القصار جدا «3» .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج ج 4 ص 13 و 14.
(2) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير وغيره.
(3) انظر أيضا الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 1 ص 60- 68. والمفصل هي السور القصيرة. وسمّيت كذلك لكثرة الفصل بينها. وهناك أقوال مختلفة في تعيين كل مجموعة من المجموعات الأربع، منها أن السبع الطوال هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف وقد ذكر الراوي أنه نسي السابعة. وهناك ما يذكر الأنفال والتوبة معا كسابعة وهناك ما يذكر سورة يونس كسابعة. والمئين بعد يونس إلى الكهف وبعدها المثاني.
والمفصل يبدأ في رواية بالحجرات وفي رواية بسورة (ق) وفي رواية بسورة الضحى.(6/125)
ويروي المفسرون «1» حديثا عن ثوبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني وفضّلني ربي بالمفصّل» «2» وهذا الحديث لم يرد في الصحاح، وصيغته لا تبعث الطمأنينة بصدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والملاحظ أن القول: إن سور القرآن رتبت على النحو المذكور آنفا أي الطوال فالمئين فالمثاني فالمفصل ليس دقيقا كل الدقة إلا بالنسبة لسورة البقرة فقط. فثانية السور في عدد الآيات هي سورة الشعراء مثلا غير أنها وضعت في عداد المثاني وبعد عدد كبير من السور التي منها ما هو أقل منها حيزا أي أقصر طولا فضلا عن كونه أقل في عدد الآيات مثل سورة الرعد وإبراهيم والحجر والفرقان والنور والمؤمنون والأنبياء والحج. وسورة الرعد وإبراهيم والحجر قد قدمت في الترتيب مع أن بعدها سورا كثيرة أكثر منها عدد آيات وأطول حيزا. ومثل هذا يلاحظ في سور عديدة أخرى في الطوال والمئين والمثاني والقصار والمفصل.
ولما كنا نعتقد أن ترتيب السور في المصحف قد تم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبإرشاده وهو بمصطلح علماء القرآن توقيفي «3» فنحن نعتقد أنه لا بد من أن يكون لهذا الترتيب حكمة وإن كانت قد خفيت علينا وعلى غيرنا.
هذا، والذي نرجحه أن تأليف السور على الصورة التي شرحناها إنما هو بالنسبة للسور المدنية فقط وبخاصة للطوال والمئين والمثاني منها دون السور المكية. ففي السور المكية وحدة مواضيع وتشابه قوي في الفصول. وهي قاصرة على الدعوة ومبادئها وتدعيماتها المتنوعة والحجاج حول ذلك، مما لا يقتضي أن ينزل فصل من سورة ثم يعقبه فصل من سورة أخرى قبل أن تتم فصول السورة التي
__________
(1) انظر تفسير الآية [87] من سورة الحجر في تفسير البغوي.
(2) انظر تفسير الآية [87] من سورة الحجر في تفسير البغوي.
(3) انظر المصدر السابق.(6/126)
قبلها. وهذا بالنسبة للسور الطويلة منها حتى التي فيها فصول تبدو غير مترابطة حيث إنها لا تخرج عما قلناه مما نبهنا عليه وأوردنا قرائنه في سياق تفسيرها. وهذا القول يكون أقوى بالنسبة للسّور الطويلة المسجعة منها التي تكون وحدة السبك والنظم فيها من دلائل هذه القوة. ويمكن أن يكون أقوى وأكثر بالنسبة للسور القصيرة والقصيرة جدا كما هو المتبادر باستثناء سورة العلق على التأكيد وسور القلم والمزمل والمدثر على الاحتمال، على ما شرحناه في سياق تفسيرها. يضاف إلى هذا أن السور المكية كانت قد تمت نزولا في آخر العهد المكي «1» .
ولا يتعارض هذا مع ما هو محقق من إضافة بعض الآيات المدنية إلى بعض السور المكية إذ أن هذه الآيات قد أضيفت إلى مناسباتها على ما شرحناه في سياقها في سور المزمل والأعراف والشعراء، والله سبحانه وتعالى أعلم «2» .
أما ما روي عن تدوين القرآن أو جمعه في زمن أبي بكر وعثمان (رضي الله عنهما) فليس ذلك جمعا وتدوينا وترتيبا جديدا. فالقرآن كان مدونا ومرتبا وكان لكثير من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصاحف. غير أن القرآن كان مفتوح الصحف لاحتمال نزول الوحي بقرآن جديد. فلما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يعد هناك احتمال لذلك رأى أبو بكر وعمر وكبار الصحابة أن يكون هناك مصحف إمام ليكون المرجع لما قد يكون من خلاف في المصاحف المتداولة فكتب هذا المصحف الذي بذلت الجهود العظيمة في كتابته وقورن وقوبل كل ما كان متداولا مخطوطا ومحفوظا من القرآن بسبيل ذلك «3» .
غير أن هذا على ما يظهر لم يحل المشكلة، لأن المسلمين كثروا وتفرقوا في البلاد وكانوا يكتبون مصاحفهم بخطوطهم. وكان يقع تباين في الكتابة وصار الناس في زمن عثمان (رضي الله عنه) يقرؤون قراءات متباينة نتيجة لذلك فرأى بعض كبار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلافيا لذلك أن يكتب المصحف من جديد بإملاء واحد
__________
(1) انظر كتابنا القرآن المجيد ص 52- 112 ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله.
(2) انظر كتابنا القرآن المجيد ص 52- 112 ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله.
(3) انظر كتابنا القرآن المجيد ص 52- 112 ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله.(6/127)
وخط واحد فتم ذلك ونسخ من هذا المصحف الجديد نسخ عديدة أرسلت إلى العواصم الإسلامية وأمر الناس بنسخ المصاحف عنها وإحراق ما هو متداول بين الأيدي من المصاحف المتباينة في الخطوط فكان هذا مما حفظ القرآن سليما على مدى القرون وتحققت به المعجزة القرآنية المنطوية في آية سورة الحجر هذه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [9] «1» . ولقد أوردنا ما يورد على ذلك وشرحنا الأمر شرحا يضعه في نصابه الحق إن شاء الله في سياق تفسير الآية المذكورة.
__________
(1) اقرأ كتابنا القرآن المجيد ص 52 وما بعدها. ونستطرد إلى القول إنه لا يعرف على وجه اليقين أن في الدنيا اليوم مصحفا من المصاحف التي نسخت عن المصحف الذي كتب بأمر عثمان وأرسلت إلى الأمصار الإسلامية. ولقد جاء في الجزء الأول من الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى خبر عن النسخة التي أرسلت إلى دمشق من هذه النسخ حيث روى المؤلف أن أبا القاسم التجيبي السبتي قال إنه رآها وعاينها في سنة 657 هجرية في مقصورة جامع بني أمية في دمشق المعروفة بقبة الشراب. ولقد نقل مؤلف الاستقصاء أيضا قولا للخطيب بن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن جاء فيه: إني اختبرت الذي في المدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطهما واحدا وقد كتب على ظهر المدني: هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وغيرهم ممن أشرف على تدوين هذا المصحف وقد روى المؤلف أن عبد المؤمن نقل المصحف العثماني من قرطبة إلى مراكش سنة 552 هجرية وصنع له كسوة من السندس المزركش بالذهب والفضة والمرصعة بأنواع الحجارة الكريمة واتخذ للحمل كرسيا على شاكلته ثم اتخذ للجميع تابوتا يصان فيه (الجزء الأول من الاستقصاء ص 50) وليس من الممكن أن يجزم أن نسخة قرطبة كانت أصلية لأنها لم تكن من عواصم الإسلام التي أرسل إليها النسخ في زمن عثمان (رضي الله عنه) .(6/128)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
(سورة البقرة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
. بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم وهي هنا للاسترعاء والتنبيه أيضا على ما رجحناه في أمثالها. وقد أعقبت الحروف إشارة تنبيه وتنويه إلى القرآن جريا على الأسلوب القرآني في معظم السور المبدوءة بالحروف المتقطعة.
وتعتبر ذلِكَ الْكِتابُ وإن كان قد يفيد من الوجهة الموضوعية ما نزل من القرآن إلى حين نزول الآية، غير أنه يجب أن يعتبر تعبيرا شاملا لجميع القرآن ما نزل منه وما سوف ينزل بعده كما هو المتبادر. وبعضهم يقف عند استعمال ذلِكَ ويقول: إن هذا للبعيد ولا يفيد أن القصد هو القرآن، وهذا تمحل لا مبرر له، فصيغة الآيات ومحتواها فيها الدلالة على أن المقصود هو القرآن الكتاب الذي يتلى على الناس.
وقد تضمنت بقية الآيات: تقرير كون القرآن هدى للذين يتقون الله ويرغبون في رضائه، والذين يؤمنون بما يسمعون فيه من الحقائق المغيبة عنهم ولو لم تدركها حواسهم أو يقم دليل مادي عليها لأنهم يؤمنون بأن القرآن من عند الله وهو الذي يخبر بها، والذين يقيمون الصلاة لله وينفقون مما رزقهم في وجوه البر،(6/129)
والذين يؤمنون بما أنزل الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم وبما أنزل كذلك على الأنبياء من قبله، والذين يوقنون بالحياة الآخرة وحسابها وجزائها. فهم السائرون في سبيل الله القويم وعلى هداه، وأنهم لهم الناجون الفائزون.
والآيات احتوت بيان الصفات التي يجب أن تتحقق في المؤمن الصالح وبشرى وتنويها لمن يتصف بها. وقد انطوت- كما هو المتبادر- على التنويه بالذين كانوا يؤمنون بالله ورسوله حين نزوله. وانطوت إلى هذا على تقرير كون كتاب الله إنما هو هدى لذوي النيات الحسنة الذين يراقبون الله ويتّقونه ويرغبون في رضائه.
وما تقرره هذه الآيات قد تكرر في الآيات المكية، غير أنه جاء هنا قويا محبوكا.
ولقد رجحنا في مقدمة السورة أن هذه السورة اعتبرت أولى سور القرآن نزولا لأن فصلها الأول هو أول القرآن المدني نزولا. وبدء هذا الفصل بالحروف المتقطعة يدل على أن هذه الآيات هي مطلع السورة، وتكون- والحالة هذه- أولى الآيات نزولا في المدينة والله أعلم.
وتعليقا على جملة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ نقول إن الله أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين في آية سورة الشورى [15] وآية سورة العنكبوت [45] بإعلان إيمانهم بما أنزل الله من كتاب فجاءت هذه الجملة لتقرر اتباع المؤمنين لهذا الأمر واتصاف المؤمن به.
ولقد بينا ما ينبغي أن تكون عليه العقيدة الإسلامية المنطوية في هذا الأمر بالنسبة للكتب المتداولة اليوم بين أيدي الكتابيين من نصارى ويهود في سياق تفسير سورتي الشورى والعنكبوت فلم نر ضرورة للإعادة أو الزيادة.
ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن جملة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عنت مؤمني أهل الكتاب. غير أن هناك مؤولين كثيرين قالوا إنها عنت المؤمنين بالرسالة المحمدية إطلاقا لأنهم أمروا بالإيمان(6/130)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
بكتب الله المنزلة على الأنبياء السابقين فآمنوا، ونرى هذا هو الأوجه وقد أخذنا به في شرح الآيات.
[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
. في الآيتين تقرير بأن الكفار لا يؤمنون سواء أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم لأن قلوبهم مغلقة عن فهم الحق، وآذانهم مسدودة عن سماعه، وأبصارهم معمية عن رؤية نوره، وقد استحقوا من أجل ذلك عذاب الله العظيم.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين والمتبادر أنهما جاءتا استطرادا تعليليا لموقف الكفار ومكابرتهم وللمقابلة بين موقفهم وموقف المتقين الذين اهتدوا بهدى القرآن. فهؤلاء ذوو رغبة صادقة في الهدى يخشون الله فآمنوا وصدقوا حينما سمعوا القرآن ورأوا أعلام الحق، في حين انفقدت النية الحسنة والرغبة الصادقة في الكفار فكأنما انغلقت قلوبهم وسدت آذانهم وعميت أبصارهم.
ومضمون الآيتين تكرر في مواضع عديدة من القرآن المكي، وقد أولناه هنا بما أولنا به ما يماثله في المواضع المكية لأن هذا هو المتسق مع روح القرآن وتلقينه ومضامينه ثم مع الإنذار بالعذاب العظيم للكفار ثم مع تعبير الَّذِينَ كَفَرُوا الذي هو صريح بصدور الكفر عنهم.
وفي آيات سورة يس هذه توضيح وتأييد: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) حيث تضمنت كون الكافرين هم الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم، وكون المؤمنين هم الذين رغبوا في اتباع الحق وآمنوا بالله واستشعروا خوفه.(6/131)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
هذا، وننبه هنا بهذه المناسبة إلى ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة من أن هذا إنما هو تسجيل لواقع أمر الكفار حينما نزلت الآيات وليس هو على سبيل التأييد لأن معظم الذين وصفوا به قد آمنوا فيما بعد في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه إنما يظل قائما بالنسبة للذين كفروا وماتوا وهم كفار.
وللشيخ محيي الدين بن العربي تفسير للآيتين جاء فيه: «يا محمد إن الذين كفروا ستروا محبتهم فيّ. دعهم فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك، لأنهم لا يعقلون غيري. وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه. وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعا لغيري. وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلا مني وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي. ولهم عذاب عظيم عندي.
أردهم بعد هذا المشهد السّنيّ إلى إنذارك وأحجبهم حتى كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى. أنزلتك إلى من يكفر بك، ويرد ما جئت به إليه مني في وجهك وتسمع فيّ ما يضيق له صدرك. فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك، فهكذا رضائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم» «1» .
وفي هذا من الشطح الذي يقلب به معاني العبارة القرآنية ويبتعد بها عن معناها ودلالتها القطعية ما هو ظاهر أيضا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 15]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) .
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 13 عزوا إلى تفسير ابن العربي المعروف بالفتوحات.(6/132)
(1) السفهاء: هنا بمعنى قاصري العقل والفهم والتمييز.
(2) شياطينهم: الذين يوسوسون لهم، والمتفق عليه أن المقصود هم اليهود.
يتفق المؤولون على أن الآيات تعني المنافقين وقد تضمنت صفاتهم ومواقفهم والرد عليهم والتنديد بهم: فهم الذين يقولون آمنا بألسنتهم وقلوبهم غير مؤمنة بقصد خداع الله والمؤمنين، في حين أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم، لأن الله يعرف حقائقهم ولأن هذه الحقائق غير خافية على المؤمنين. ولقد خبثت نياتهم ومرضت قلوبهم فازدادوا بخداعهم وكذبهم خبثا ومرضا واستحقوا عذاب الله الأليم بسبب ذلك. وهم إذا نصحوا ونهوا عن الإفساد بنفاقهم وخداعهم ودسهم وكيدهم أنكروا وادعوا الصلاح مع أن ما هم فيه هو الفساد بعينه، ولكنهم لا ينتبهون إلى ما هم فيه من تناقض. وهم إذا قيل لهم آمنوا إيمانا صحيحا قلبا وقالبا مثل غيرهم من المؤمنين الصادقين استكبروا وغمزوا المؤمنين الصادقين، ونعتوهم بالسفهاء وتساءلوا تساؤل المستهزئ عما إذا كان يصح أن يؤمنوا مثل إيمانهم. مع أنهم السفهاء لا غيرهم، ولكنهم لا يدركون حقيقة أمرهم. وهم الذين إذا لقوا المؤمنين سايروهم وخادعوهم وقالوا لهم إننا مؤمنون، ثم إذا خلوا إلى شياطينهم الذين يحرضونهم ويوسوسون لهم أكدوا لهم بقاءهم في جانبهم وأن ما يتظاهرون به ليس إلّا من قبيل الهزء والسخرية، فالله هو الذي يهزأ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون عن الحق لينالوا جزاءه الرهيب.
والآيات أولى الآيات المدنية التي احتوت إشارة إلى طبقة المنافقين التي نجمت في العهد المدني في وقت مبكر جدا بل قبل وصول النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة أو عقب وصوله مباشرة ولو لم ترد فيها كلمة النفاق أو المنافقين. لأن الوصف منطبق عليهم والمؤولون متفقون على ذلك. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. والمتبادر أنها استمرار في الاستطراد لإتمام سلسلة مختلف فئات الناس(6/133)
إزاء الدعوة المحمدية حين نزولها وهم المؤمنون الصادقون والكافرون المكابرون، والمنافقون الكاذبون المخادعون.
والوصف القوي الذي وصف به المنافقون في الآيات، والتنديد الشديد الذي ندد بهم فيها، يدلان على ما كان لظهور هذه الطبقة من خطورة وأثر. ولقد احتوت آيات قرآنية كثيرة في سور مدنية عديدة صورا كثيرة متنوعة عن حركة النفاق والمنافقين، وما كانوا يقفونه من مواقف ضد الإسلام والنبي صلّى الله عليه وسلّم ومصلحة المسلمين كانت حقا شديدة الخطورة والأثر على ما سوف نشرحه في مناسباته.
ولقد كان منافقون من أهل المدينة ومنافقون من الأعراب، غير أن نفاق منافقي المدينة هو الأبكر والأشد خطورة وأثرا. والأرجح أن الآيات إنما عنت هؤلاء.
ولقد ذكر المفسرون «1» أن كلمة شَياطِينِهِمْ مصروفة إلى اليهود، وهو وجيه ومتسق مع مفهوم الآيات، حيث يفهم منها أن المنافقين شيء وشياطينهم شيء آخر، حتى ولو كانوا زعماءهم، بل إن العبارة تفيد أن الموصوفين هم من الزعماء مما فيه توكيد للتوجيه. وفي القرآن المدني آيات كثيرة تؤيد أن المنافقين وزعماءهم خاصة كانوا حلفاء مع اليهود ضد الدعوة الإسلامية، وأن اليهود كانوا يوسوسون للمنافقين ويوجهونهم في طرق الكيد والمكر والتشكيك. من ذلك آيات سورة النساء هذه: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) «2» وآيات سورة محمد هذه: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
«3» .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
(2) المقصود من الكافرين هنا اليهود. انظر تفسير الآية في تفسير الخازن مثلا.
(3) هذه الآيات ليست كل ما ورد في هذا الصدد انظر آيات سورة المجادلة [14] وسورة الحشر [11] وسورة المائدة [52- 53] . [.....](6/134)
وهكذا يكون اليهود بعد أن قرر معظمهم جحود رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومناوأته على ما سوف يأتي في آيات أخرى من السورة قد وجدوا في الطبقة المريضة القلب الخبيثة النية من أهل المدينة الذين وسموا بالنفاق مجالا لدسائسهم فخالفوهم وظلوا يوسوسون لهم ويقفون معهم مواقف الكيد والدس والتعجيز ضد الدعوة وصاحبها والمؤمنين بها. ولم يضعف شأن النفاق والمنافقين إلّا بعد أن أظهر الله تعالى نبيه على اليهود ومكّنه منهم فأجلى بعضهم عن المدينة وبطش ببعضهم في المدينة والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام. غير أن حركة النفاق لم تزل بالمرة لأنها طبيعة من طبائع الاجتماع.
ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية واحتوائها صورة للمنافقين في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن في إطلاق الخطاب وتعميمه تلقينا عاما مستمر المدى بتقبيح الأخلاق والمواقف والأقوال المنسوبة للمنافقين والتي تبدر من بعض الناس في كل زمن ومكان.
ويقف بعضهم عند الآية الأخيرة بل ويتشاد أهل المذاهب الإسلامية فيها «1» .
ولسنا نرى فيها ما يتحمل توقفا ولا مشادة، وقد ورد من بابها جمل كثيرة في السور المكية وشرحنا مداها بما يزيل الإشكال فجملة وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ هي في معنى (ندعهم مستمرين فيه) لأنهم اختاروه لينالوا جزاءه العالي ولا نعني أن الله يفعل ذلك جزافا فيهم. ومن باب (يضل الله الظالمين) وجملة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ هي من قبيل المشاكلة الأسلوبية الخطابية، ومن باب وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] . فهم يستهزئوون بالله ورسوله وهم الأولى بالاستهزاء من الله ورسوله.
تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها
إن المستفاد من مضامين الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في هذه الحركة وأصحابها ومن روايات السيرة أن هذه الحركة نجمت قبل هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى
__________
(1) انظر تفسير الكشاف وفي ذيل تعليقات ابن المنير.(6/135)
المدينة. فقد التقى النبي مرتين ببعض زعماء قبيلتي الخزرج والأوس سكان يثرب (المدينة المنورة) في المواسم فدعاهم فآمنوا واتفق معهم على الهجرة إلى المدينة هو وأصحابه. وأرسل إليهم مصعب بن عمير (رضي الله عنه) نائبا عنه وقارئا وداعية للإسلام وإماما. فصار يدعو الناس ويساعده في دعوته الزعماء الذين آمنوا فانبرى له بعض أهل المدينة يناوئون دعوته ويعطلون عليها، وكان عبد الله بن أبي بن سلول أحد زعماء الخزرج وهم الأقوى والأكثر من قبيلة الأوس ثانية القبيلتين التي ينتسب إليهما معظم سكان المدينة على رأس هذه الحركة. وقد استطاع أن يؤثر على بعض أقاربه فانضووا إلى حركته. ولقد كان الخزارجة على وشك المناداة به ملكا على يثرب في الظرف الذي اتصل النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه ببعض رجال الأوس والخزرج وبايعوه على الإسلام ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وعاهدوه على النصر والدفاع فاعتبر حركة النبي وهجرته سببا في حرمانه من ذلك فحقد ونقم «1» . وهناك شخص قوي آخر تذكره الروايات من الأوس وهو أبو عامر المسمى بالراهب والذي كان من زمرة الموحدين الصابئين وتنصّر حيث حسد النبي على اختصاصه بالنبوة دونه وحقد عليه واستطاع أن يؤثر على بعض أقاربه وأن يكون هو وإياهم إلبا مع عبد الله بن أبيّ وزمرته. وإلى جانب هاتين الزمرتين في المدينة فقد كان في الأعراب الذين هم حول المدينة منافقون أيضا وإن كان الدور المؤذي الذي قام به المنافقون هو في الدرجة الأولى دور منافقي المدينة حيث كان إسلام الأعراب المنافقين يدور مع المنفعة، فإن رأوا في الإقدام منفعة أقبلوا وتضامنوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وإن رأوا خطرا تحايدوا وابتعدوا.
ولقد كانت مواقف منافقي المدينة ومكايدهم بعيدة المدى والأثر حتى لكأنه نضال قوي يذكر بما كان من نضال بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وزعماء مكة وإن اختلفت الأدوار والنتائج، إذ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ودائرة دعوته تتسع وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز. ولم يكن هؤلاء المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية بارزة وكانوا وظلوا قلة وكان شأنهم يتضاءل بنسبة تزايد
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 3 ص 335 و 336.(6/136)
قوة النبي صلّى الله عليه وسلّم واتساع دائرة الإسلام. وكان جل أقاربهم من المؤمنين المخلصين.
ومن جملتهم ابن كبيرهم عبد الله بن أبيّ الذي كان من أكابر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي أظهر استعداده لقتل أبيه إذا أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك في موقف من المواقف «1» .
وكانوا يتنصلون من النفاق ويحلفون أنهم مؤمنون مخلصون، ويؤدون فرائض الإسلام ويشتركون في الحركات الجهادية ولو على كره منهم على ما حكته آيات عديدة. منها آية سورة المنافقون هذه: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) وآيات سورة التوبة هذه: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وآية سورة التوبة هذه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وآية سورة التوبة هذه: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) .
وإنما كانوا يقومون بحركاتهم المؤذية المنافية للإيمان ومصلحة الدعوة الإسلامية والمسلمين بطرق مريبة ملتوية، ولا يتظاهرون بعض الشيء إلّا في الظروف الحرجة التي كانت تمرّ بالمؤمنين في بعض الأحيان.
وكل هذا جعلهم مدموغين بالنفاق وموضع سخط الله ورسوله وجمهور المؤمنين وغضبهم ونقمتهم ومستحقين للدرك الأسفل من النار إلّا إذا تابوا على ما جاء في آية سورة النساء [145] .
ويورد في صفات النفاق والمنافقين أحاديث نبوية منها ما ورد في كتب الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا
__________
(1) انظر المصدر السابق.(6/137)
اؤتمن خان» «1» . وحديث رواه الأربعة أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتى يدعها. إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «2» . والصفات حقا جماع من المنكرات الأخلاقية. والأحاديث تنطوي على التحذير منها وحثّ على تجنب الصفات التي تدمغ صاحبها بدمغة النفاق. ونرى أن ننبه بهذه المناسبة على أن المنافقين الذين نددت بهم الآيات التي نحن في صددها والآيات الكثيرة الأخرى هم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر على ما تلهم نصوص الآيات وعلى ما يقرره جمهور العلماء والمفسرين. وقد يصح أن يقال على ضوء ذلك إن من يتصف بالصفات المذكورة في الأحاديث، ولا يكون مستحلا لها من جهة، ويكون مؤمنا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر إيمانا صادقا من جهة أخرى لا يكون من مشمول تلك الآيات. ويكون قد ارتكب كبيرة يعاقب عليها ولا يخلد بها في النار إذا لم يتب ويصلح والله تعالى أعلم.
ونكتفي بهذا القدر من التعليق تاركين شرح صور أفعال المنافقين وأقوالهم ومواقفهم إلى مناسبة الآيات الكثيرة الواردة فيهم في السور التالية لهذه السورة.
تعليق على رواية في صدد الآية [14]
ولقد ذكر المفسر الخازن عزوا إلى ابن عباس أن الآية [14] نزلت في عبد الله ابن أبيّ وأصحابه المنافقين، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عبد الله لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر فقال:
مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول
__________
(1) التاج ج 5 ص 41.
(2) المصدر نفسه.(6/138)
الله، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله، فقال له علي: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فإن المنافقين شرّ خليقة الله تعالى، فقال: مهلا يا أبا الحسن إني لا أقول هذا نفاقا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم، ثم تفرقوا فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت فأثنوا عليه خيرا.
والصنعة قوية البروز على الرواية لأن هذه الأوصاف التي وصف بها الثلاثة (رضوان الله عليهم) إنما صاروا يوصفون بها بعد مدة طويلة من الهجرة إن لم نقل بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بل وبعد وفاتهم. ويخيل إلينا أنها حيكت لإبراز علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه هو وحده الذي فطن لنفاق المنافق، والرواية بعد تقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة انسجاما قويا في الفصل يدل على أنها نزلت مع آيات الفصل دفعة واحدة.
والذي نرجحه أن ما حكته الآية كان يقع من المنافقين عموما حينما كانوا يلتقون بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرين منهم خاصة وبغير أقاربهم الذين يمكنهم أن يتبسطوا معهم فجاء في الآية وصفا عاما من أوصافهم ومواقفهم.
تعليق على روايات الشيعة في صدد الآيات عامة
ومفسرو الشيعة «1» يروون روايات في سياق هذه الآيات عزوا إلى بعض أئمتهم مفادها أن هذه الآيات نزلت في الذين وافقوا على وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بولاية علي بن أبي طالب في حياة النبي بأفواههم دون قلوبهم ثم نقضوا ذلك وصرفوا الخلافة عنه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وطابع التزوير والكذب بارز على الروايات التي تنسب النفاق بل الكفر والعياذ بالله ومخالفة رسول الله إلى الجمهور الأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من
__________
(1) انظر كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 85 و 86.(6/139)
أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذين سجل الله رضاءهم عنه في الآية [100] من سورة التوبة التي كانت من أواخر ما نزل من القرآن. وحاشاهم أن يكونوا كذلك، ولا نستثني الروايات من الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله السابقين الأولين إلا بضعة أشخاص مع أن من الأمور اليقينية التي لا يكابر فيها الشيعة أن عليا والذين استثنوهم (رضي الله عنهم) بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة الأولين وتعاونوا معهم.
ولو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وصى بالولاية والخلافة بعده لعلي لكان هذا منهم مخالفة لوصيته وكفرا لأن الله أمر المؤمنين بطاعة رسوله وأخذ ما آتاهم والانتهاء عما نهاهم عنه وحاشاهم أن يفعلوا.
تعليق على ما جاء في بعض كتب التفسير في سياق جملة أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ من تقرير كون النساء سفهاء
إن كلمة السفهاء جاءت قبل هذه الآية في الآية [155] من سورة الأعراف وصفا من موسى عليه السلام لبعض قومه لأنهم طلبوا منه مطالب تعجيزية منها رؤية الله تعالى جهرة على ما فسره المفسرون وتؤيده آيات أخرى، هذا أولا. وثانيا إن المفسرين متفقون على أن معنى الكلمة هم ناقصو العقل والرشد والتمييز مطلقا. وثالثا إنهم رووا عن أهل التأويل أن المنافقين قصدوا بالكلمة المحكية عنهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبخاصة الأرقاء والضعفاء.
ومع ذلك فإن بعض المفسرين قالوا إن الكلمة هنا تعني النساء والصبيان وأوردوا في مناسبة ذلك قولا معزوا إلى ابن عباس وابن مسعود في صدد آية سورة النساء هذه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أن الله عز وجل (سمى النساء والصبيان سفهاء) للتدليل على كونها هنا أيضا عنت النساء لأن بعضهن آمن بالله ورسوله.
وواضح بادىء الأمر أن ذكر النساء في سياق الآية مقحم، ثم إن قول ابن(6/140)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
عباس وابن مسعود غير وثيق السند، وفيه غرابة لأنه يعزو تسمية النساء بالسفهاء لله تعالى وليس في القرآن شيء من ذلك. وهما بعد أفقه من أن يغيب عنهما أن الكلمة في الآية مطلقة تشمل كما هو المعقول والمتسق مع روح الآية ومقامها كل قاصري العقول ضعفاء الأحلام من رجال ونساء وصبيان. ولقد رد القرآن على قول المنافقين: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ قائلا: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وهذا يدعم ذلك لأن القائلين رجال فوصفهم الله بأنهم ضعاف العقول والأحلام. وقد يقال إن هناك أحاديث نبوية فيها وصف للنساء بأنهن ناقصات عقل ودين يوردها المفسرون في سياق هذه الآية وآية سورة النساء وغيرها بسبيل التدليل على صواب ما قالوه، ومن هذه الأحاديث ما هو صحيح. ولقد أوردنا هذه الأحاديث في التعليق الذي علقنا به على الآية [21] من سورة الروم والذي استطردنا فيه إلى بحث مساواة الرجل والمرأة ومركز المرأة والزوجة في القرآن وذكرناه ما يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله في صدد هذه الأحاديث وفي صدد ما قرره القرآن وخاطبها به من المساواة التامة مع الرجل في كل شأن من شؤون الدين والدنيا، ومن أهليتها التامة لكل ذلك، ومن تكليفها بكل ما كلف به الرجل، ومن ترتيب كل ما رتب عليه عليها بدون أي تمييز مما يتنافى مع وصف النساء بالسفهاء بصورة مطلقة، بالإضافة إلى الحقيقة القرآنية الكبرى وهي أن كل ما خوطب به المؤمنون والكافرون والمشركون والمنافقون من تلك الشؤون مما ليس فيه قرينة تخصيصية للذكور هو شامل للذكور والإناث معا، ولا يمكن أن يصح هذا في عقل عاقل إلا مع فرض الأهلية التامة للمرأة عقليا وروحيا وأخلاقيا وجبلة.
وقد يكون في بعض آيات القرآن في السور المدنية ما يوهم تعارضا شيئا ما مع هذا التعميم والإطلاق. ولكنه في حقيقته ليس من شأنه أن ينقضه على ما سوف نشرحه في مناسباته والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 16 الى 20]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
.(6/141)
(1) استوقد: بمعنى أوقد أو سعى حتى أوقد.
(2) صيّب: المطر الشديد الانهمار.
(3) قاموا: بمعنى أقاموا أي توقفوا عن السير.
الآيات كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها بسبيل وصف حالة المنافقين والتمثيل لهم والتنديد بهم:
1- فقد اشتروا الضلالة بالهدى فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا.
2- وإن مثلهم كمثل الذي أوقد نارا في الظلمة فلم تكد تضيء ما حوله حتى ذهب الله بنوره فعاد إلى الظلمات لا يبصر شيئا.
3- وأنهم صاروا بمثابة العمي والبكم والصمّ فلم يعودوا يرون الحق ولا يسمعونه ولا ينطقون به، فلا أمل في رجوعهم إليه.
4- وإن مثلهم كذلك كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق قد اكتفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق واصطكت أذناه من الرعد حتى إنه ليسدها بيده من شدته ويتخطف البرق عيونه فإذا لمع البرق وأضاء ما حوله سار، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائرا ذاهلا.
5- وإن الله لو شاء لأخذ سمعهم وأبصارهم فهو القادر على كل شيء والمحيط بالكافرين فلن يفلتوا منه.
والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها. وقد تضمنت تقرير كون(6/142)
الرسالة المحمدية جاءت نورا يهتدي به الناس وقد رآه المنافقون فاهتدوا به ثم غلب عليهم خبث نواياهم فكفروا أو نافقوا وعموا عن النور وخسروا.
ولقد أول جمهور المفسرين جملة ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بأن الله قد أطفأ النار التي أوقدوها فلم يعودوا يرون شيئا. ويتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على ما جرى عليه النظم القرآني وأن شرحنا للجملة آنفا هو أكثر اتساقا مع روح الآيات. فالنور الذي لاح هو نور الرسالة المحمدية ولم يكن الله ليطفئه. وإنما هم الذين غلبت عليهم نياتهم الخبيثة فلم يعودوا يرونه. وجملة اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى مما يدعم هذا التوجيه فقد أحرزوا الهدى بإيمانهم ثم باعوه واستبدلوا النفاق والضلال به فهم المسئولون عن النتيجة التي هي من فعلهم وكسبهم.
ونقول هذا ما قلناه في صدد وصف الكافرين في الآية السابقة لفصل المنافقين. ففي هذا الفصل تسجيل لواقع أمر المنافقين حينما نزلت الآيات، وليس على سبيل التأبيد إلّا للذين ماتوا على نفاقهم مع التنبيه على أن كثيرا منهم تابوا وحسن إسلامهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذكر البرق والرعد والصواعق روايات عن أهل الصدر الأول عن ماهيات هذه الظواهر. وقد أوردناها في سياق آيات الرعد [12- 13] والروم [24] التي وردت فيها هذه الكلمات. والروايات بعد غير وثيقة السند والبيانات لا تتسم بسمة العلم. والمتبادر أنها مما كان يقال عن هذه الظواهر في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرها وقت نزول القرآن. والآيات تسوق ما يعرفه الناس ويشاهدون آثاره على سبيل التمثيل والتنديد والوصف. والأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد وتخمين لا ضرورة لهما ولا طائل بالنسبة لأهداف الآيات ومقامها.
وللسيد رشيد رضا «1» تقرير وجيه في هذا الصدد حيث قال: إن ذلك ليس من مباحث القرآن. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار
__________
(1) انظر تفسيرها في الجزء الأول من تفسير المنار.(6/143)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
والاستدلال وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين وهذا متسق مع ما فتئنا ننبه إليه في المناسبات المماثلة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 24]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
. (1) وأنتم تعلمون: قيل إنها بمعنى وأنتم تعلمون أن الله هو خالق السموات والأرض ومالكها وقد حكت آيات عديدة اعترافهم بذلك. وقيل إنها بمعنى أنكم غير جاهلين وتستطيعون أن تميزوا الحق من الباطل والخطأ من الصواب، وكلا التأويلين وارد وسديد.
(2) شهداءكم: هنا بمعنى شركاءكم أو مناصريكم على الأرجح بقرينة جملة (من دون الله) .
في الآيات:
1- هتاف بالناس إلى عبادة الله ربهم الذي هو وحده المستحق للعبادة اتقاء لغضبه واستحقاقا لرضائه. فهو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مبسوطة ممهدة لتيسير الإقامة والحياة فيها. وبنى فوقها السماء وأنزل من السماء الماء فأخرج به لهم شتى أنواع الثمرات التي يقيمون بها أودهم وحياتهم.
2- ونهي لهم عن اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، ولا سيما أنهم يعلمون أنه الإله الأعظم مما يقتضي تنزيهه عن ذلك.
3- وتحدّ لهم فيما إذا كانوا في ريب من صحة ما أنزله الله على نبيه وصدق(6/144)
صلته به بالإتيان بسورة من مثله وبالاستعانة على ذلك بمن يريدون من الشركاء والأنصار.
4- ودعوة لهم إلى اتقاء النار التي أعدها للكافرين والتي سيكون الناس والحجارة وقودها بالإيمان والتصديق إذا عجزوا عن استجابة هذا التحدي لأن الحجة تكون قد لزمتهم مع التقرير بأنهم سيظلون عاجزين عن ذلك أبدا.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات والمتبادر أنها جاءت بمثابة التعقيب على الآيات السابقة. فبعد أن ذكرت هذه الآيات الفرق الثلاث للناس إزاء الدعوة النبوية جاءت لتهتف بهم جميعا بأسلوب مطلق بالإيمان والإذعان.
وتذكرهم بمشاهد قدرة الله في الكون وما فيه من منافع عظيمة ميسرة لهم واستحقاقه وحده للعبادة، وتنذر الذين يصرون على الجحود والعناد.
ولقد ذكر خلق السموات والأرض، وبناء السماء وبسط الأرض وجعلها فراشا مرارا في الآيات المكية وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار، وواضح أن هدفها هنا كما هو في الآيات المماثلة لفت نظر السامعين إلى مشاهدة قدرة الله تعالى في السماء والأرض، وما فيهما من منافع للناس.
ولقد روى بعض المفسرين عن ابن مسعود أن الحجارة التي ستكون من وقود النار الأخروية هي من الكبريت. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح والمشهد المذكور في الآية مشهد أخروي غيبي لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والأولى والحالة هذه الوقوف عند ما وقف عنده القرآن مع الإيمان به.
تعليق على تحدي الناس جميعا بالإتيان بشيء من مثل القرآن في أول العهد المدني
والتحدي بالإتيان بشيء من مثل القرآن قد تكرر في السور المكية، وهذه مرة ثانية يقرر فيها عجز الناس عن ذلك حيث قررت ذلك آية سورة الإسراء [88] مع فارق واحد هو أن آية سورة الإسراء قررت عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن وآية الجزء السادس من التفسير الحديث 10(6/145)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
البقرة التي نحن في صددها قررته عن الإتيان بسورة من مثله.
وتكرار التحدي بهذه القوة للناس جميعا في أوائل العهد المدني مع تقرير العجز بأسلوب التأييد ينطوي على أن هذا العجز استمر طيلة العهد المكي أولا ثم على معنى قوي بسبيل تلقين الشعور التام بالوثوق في صحة الرسالة النبوية وصلة القرآن بالوحي الرباني وصدوره عنه كما ينطوي على موقف القوة والاستعلاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم كما هو المتبادر.
ولقد علقنا على موضوع هذا العجز ومدى الإعجاز القرآني الذي عجز عنه الناس في سياق تفسير آية الإسراء المذكورة ثم في سياق تفسير الآية [51] من سورة العنكبوت فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر الآية 39 مكية
وقد رأينا بعض المستشرقين يزعمون أن هذه الآيات إلى آخر الآية [39] مكية لأن أسلوبها مشابه للأسلوب المكي. ولم نطلع على رواية ما قد تفيد هذا.
وتشابه المضمون الذي قد يكون واردا ليس كافيا لتصويب الزعم. ولا سيما أن معظم الناس في الجزيرة العربية وحول يثرب كانوا حين نزولها كفارا يتحملون الخطاب بهذا الأسلوب. وهذا فضلا عن معنى التعقيب الذي ذكرناه على الآيات السابقة وتحمله لهذا الأسلوب أيضا. وقد يكون القائلون استندوا إلى ما قاله بعض العلماء من أن كل جملة تبتدئ بيا أيها الناس تكون مكية. غير أن هذا القول اجتهادي شخصي غير متفق عليه. وقد استعمل هذا الخطاب في آيات مدنية لا خلاف في مدنيتها ولا تتحمل أي احتمال لذلك مثل مطلع سورة النساء.
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
.(6/146)
عبارة الآية واضحة، وفيها التفات إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بمثابة تنويه وبشرى ومقابلة لما أنذر الكفار به من نار وعذاب في الآخرة كما هو المتبادر. وهكذا تكون الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها. مع واجب الإيمان بحقيقتها الآتية.
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد وقال: إن الحاكم رواه في مستدركه وقال إنه صحيح على شرط الشيخين في معنى أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهو «إنهن مطهرات من الحيض والغائط والنخامة والبزاق» .
تعليق على جملة كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً
ولقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس وغيره أقوالا متعددة في تأويل جملة:
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً منها أن الكلام في صدد ثمر الجنة حيث يكون متشابها في اللون والشكل مختلفا في الطعم واللذة، فيظن المنعم أنه نفس ما أكله من قبل. ومنها أن الكلام في صدد تشبيه ثمر الدنيا بثمر الجنة، حيث يرى المنعم الذي يؤتى إليه به في الجنة مشابها لما اعتاده في الدنيا. وقد عقب المفسرون على القول الثاني بأنه يكون مشابها لثمر الدنيا في الشكل والاسم مختلفا عنه في الطعم واللذة ونحن نرجح القول الثاني لأن كلمة مِنْ قَبْلُ تنصرف إلى الدنيا أكثر فيما يتبادر لنا.
وفي الآيات المكية الكثيرة التي ذكرت فيها وسائل النعيم الأخروي تدعيم لهذا القول حيث ذكر في كثير منها أسماء كثير من الفواكه والثمار والأشربة
__________
(1) انظر تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.(6/147)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
والوسائل المعروفة في الدنيا مثل الرمان والنخل ولحم الطير والزنجبيل والكافور والمسك والأرائك والنمارق والزرابي والأكواب والصحاف والحرير واللؤلؤ إلخ ... إلخ. وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف ومشاهد الحياة الأخروية ووسائل نعيمها وعذابها مستمدة من مألوفات الناس في الدنيا لأن الفكر البشري لا يستطيع أن يفهم ما لم يكن قد رآه ودخل في نطاق تصوره المستمد من حواسه على ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة. مع واجب الإيمان بحقيقة الأوصاف والمشاهد الأخروية التي أخبر عنها القرآن وكونها في نطاق قدرة الله تعالى ومقتضى حكمته.
[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 29]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
. في الآيتين الأوليين: تقرير بأن الله تعالى لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما فوقها.
فالمؤمنون يقبلون على تدبر هذه الأمثال وتلقيها حقا لأنها وحي الله الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلّا الحق والحكمة. وأما الكافرون فهم الذين يتمحلون ويتساءلون، تمحّل المستخف المستهين وتساؤله عن مدى مراد الله منها. وإن الله ليهدي بالأمثال القرآنية كثيرين ويضل كثيرين، غير أن الذين يضلون بها هم الفاسقون المتمردون سيئو النية وخبثاء الطوية. الذين من صفاتهم نقض عهد الله من بعد(6/148)
توكيده وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض، ومن كان هذا شأنه فهو الخاسر الخائب حقا.
وفي الآيتين الأخيرتين: تعقيب تنديدي بالكفار في صيغة التساؤل الإنكاري عن جرأتهم على الكفر بالله وانحرافهم عن سبيله، وهو الذي أحياهم بعد أن كانوا أمواتا ثم يميتهم ثم يحييهم، وإليه مرجعهم في النهاية. كما أنه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ويتمتعوا، وهو الذي استوى بعد خلق الأرض إلى السماء فسواهن سبع سموات، وهو العليم بكل شيء.
وجمهور المؤولين الذين يروي الطبري وغيره أقوالهم على أن جملة وَكُنْتُمْ أَمْواتاً هي بمعنى كنتم عدما أو لا شيء، وهو تأويل وجيه.
ولقد روى المفسرون «1» عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتابعين روايتين كسبب لنزول الآية الأولى. واحدة تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون أو قال اليهود والمشركون معا: ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة، وإنه أجل من أن يضرب بها الأمثال. والثانية جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين اللذين وردا في الآيات السابقة أي مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً وكَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ للمنافقين قال المنافقون: الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال.
والمتبادر أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام ولا يرد على هذا كون المنافقين لم يذكروا وإنما ذكر الَّذِينَ كَفَرُوا فوصف المنافق المتفق عليه هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. وقد نعتهم القرآن بالكفر في آيات عديدة على ما ذكرناه في التعليق السابق عنهم. ولما كانت الآيات الثلاث منسجمة مع الآية الأولى موضوعا وهدفا، فالمتبادر كذلك أنها نزلت معا، وأن الآية الأولى لم تنزل لحدتها. وعلى ضوء هذه الرواية تبدو الصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة.
ومن المحتمل أن تكون نزلت بعدها بسبيل الرد والتنديد بالكفار لاعتراضهم
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن.(6/149)
وتمحلهم والتنويه بالمؤمنين لتصديقهم وحسن تلقيهم.
والرد ينطوي على حقيقة من الحقائق التي نبهنا عليها أكثر من مرة في المناسبات السابقة. وهي أن القرآن في أمثاله وتقريراته إنما يخاطب الناس بما يفهمونه وما هو مستمد من مألوفاتهم وأساليبهم لأجل التقريب لأذهانهم وإثارة انتباههم بقطع النظر عن ماهيته.
وأسلوب الآية الرابعة الأخيرة يلهم أولا أنه بسبيل تقرير ما هو واقع أمر الناس من انتفاعهم بما خلق الله في الأرض من مختلف الأسباب والوسائل، وثانيا أن السامعين يسلمون بذلك ويعترفون به، وثالثا أن فيه تنويها أو تكريما لبني آدم الذين هم أكثر خلق الله انتفاعا بما خلق الله في الأرض حتى لكأنه خلقه لهم ولعل فيه بالإضافة إلى ذلك هدف التدليل على ما قررته الآية التي قبلها من قدرة الله على إحياء الناس بعد الموت، ومن كون مرجعهم إليه. والتدليل على هذه النقطة الأخيرة منطو في شطر هذه الآية الذي يقرر أن الله أحيا الناس بعد أن كانوا أمواتا- أي عدما على ما أوله جمهور المفسرين «1» - مما يعترف به الكافرون المشركون حيث حكته عنهم آيات مكية عديدة. وفي كل هذا إلزام وإفحام للكفار وهو ما انطوى في السؤال التنديدي الإنكاري الذي بدأت به الآية الثالثة.
ولقد احتوت السور المكية تقريرات كثيرة مماثلة، والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره بالأسلوب الذي جاء به في مطلع العهد المدني وبمناسبة اعتراض المنافقين.
والفقرة الأخيرة من الآية الرابعة جاءت تتمة أو استطرادا على ما هو المتبادر. ولقد علقنا على ما فيها من خلق الله الأرض وما فيها والسموات السبع في مناسبات سابقة تعليقا يغني عن التكرار «2» .
__________
(1) انظر تفسير الطبري وابن كثير وغيرهما.
(2) انظر تفسير سور ق والإسراء وفصلت.(6/150)
تعليق على جملة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وما بعدها
وهذه الجملة من الجمل القرآنية المحكمة التي يصح أن تكون مفسرة لكل ما يأتي مطلقا من آيات الهدى والضلال، حيث ينطوي فيها تقرير كون الضلال هو نتيجة للفسق المنبثق عن سوء النية وخبث الطوية وفساد الخلق، وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية المحكمة في صدد كون الله قد بين للناس طريق الهدى والضلال بواسطة رسله وكتبه، وأودع فيهم قابلية التمييز والاختيار، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها، مما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة السابقة.
وفي الآية التي تلي هذه الجملة وصف قوي للفاسقين، ومظاهر فسقهم نحو الله والناس فهم ينقضون عهد الله من بعد ما ارتبطوا به، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من رحم، وفعل برّ وخير وتعاون وتضامن، ويفسدون في الأرض بأفعالهم وأقوالهم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن المؤولين السابقين في المقصود بالفاسقين منها أنهم المنافقون، ومنها أنهم كفار أهل الكتاب، ومنها أنهم الكفار من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين جميعا. بل هناك من قال إنهم الخوارج. والقول الأخير هو على ما هو المتبادر من وحي الأحداث والاجتهاد في التطبيق. والأفعال المنسوبة إلى (الفاسقين) في الآية تدل على أن المقصودين ليسوا الكفار والمشركين مطلقا وإنما الناقضين للعهد والقاطعين لما أمر الله به أن يوصل والمفسدين في الأرض. وقد يكون هذا يسوغ ترجيح المنافقين الذين كان نفاقهم بمثابة نقض لما عاهدوا الله ورسوله عليه من الإيمان. ومما أدى إلى حالة الكره والشقاق والقطيعة والبغضاء بينهم وبين أقاربهم ثم إلى حالة الاضطراب والبلبلة والفساد بما كان من مساعيهم الهادفة إلى إفساد حالة الإسلام والمسلمين،(6/151)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
وبخاصة بما كان من تآمرهم مع اليهود على ذلك.
ويتبادر لنا مع ذلك أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون عبارة الآية مطلقة ليكون تلقينها مستمر المدى في التنديد بهذه الأخلاق والمواقف وتقبيحها وخطرها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 39]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
. (1) أزلهما الشيطان عنها: قيل بمعنى ساقهم إلى ارتكاب الزلة. وقرأها بعضهم (أزالهما) من الزوال والإزالة من الجنة. وقيل: إن زلّ بمعنى ذهب، وأزلهما بمعنى نحاهما. وعلى كل حال فالعبارة تفيد أنها بمعنى إخراجهما من الجنة.
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى(6/152)
تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر.
والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغرائه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف (إذ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر. ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة (ص) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله.(6/153)
كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلّا القول إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
تعليق على الآية وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً والآيات التسع التالية لها
قلنا إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشرا.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً حديث عن ابن سابط عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة(6/154)
تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا. وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس: أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء فأرسل الله عليهم جندا من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة للتجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه لأن الله لما قال لهم إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً سألوه عنها فقال ذرية يخلف بعضها بعضا في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة (خليفة) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضا. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أن الله ألهمه أسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحس به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما ...
والحديث المروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء: «إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون(6/155)
الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ- يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] » . ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله: «إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] . وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا.
والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور» .
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات:
1- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في(6/156)
صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
2- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها لأنه لم يؤت من العلم إلّا قليلا.
3- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
4- تسليته النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان على إنكار ما أنكروا وبطلان ما جحدوا. فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين وهذا الوجه هو الذي يبيّن اتصال هذه الآيات بما قبلها وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب وكونه لا ريب فيه وفي الرسول وكونه يبلغ وحي الله تعالى ويهدي به عباده، وفي اختلاف الناس فيهما.
وفي كل هذا كثير من الصواب والوجاهة، وهو متسق مع ما فتئنا ننبه عليه في مختلف المناسبات السابقة.
وإذا كان من شيء يحسن أن يزاد إلى هذا فهو القول إن فحوى وروح المجموعتين يدلان على أنهما استهدفتا العظة والتدعيم للدعوة النبوية دون بيان(6/157)
الوقائع لذاتها، وأن الأولى إبقاؤها في هذا النطاق وعدم التزيد والتخمين في صدد ماهية ما احتوتاه.
ومما يتبادر لنا أيضا أن في آيات المجموعتين قصدا إلى تذكير بني آدم بتكريم الله لهم في اختيارهم ليكونوا أصحاب الشأن والأمر في الدنيا- وهو ما نرجحه من معنى جملة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وفي أمره الملائكة بالسجود لأبيهم وفي تعليم أبيهم الأسماء كلها مما لم يكن يعلمه الملائكة، وكون ذلك كله مما يوجب عليهم شكره والإخلاص له وحده. وقد يكون مما قصدته بيان حالة الملائكة للعرب الذين كانوا يعبدون الملائكة ويشركونهم مع الله ولهم في أذهانهم صورة فخمة حتى يرعووا ويخلصوا العبادة والاتجاه إلى الله وحده والله أعلم.
ولقد جاءت الآيتان الأخيرتان من المجموعة الثانية لتدعما كل ذلك أو تركزه بتذكيرهما بني آدم بأنهم معروضون في الأرض للامتحان بما يرسله الله تعالى إليهم من رسل يدلونهم على طريق الهدى، فمن اهتدى نجا وسعد ومن كفر وكذب هلك وشقي.
تعليق على تقديم تعليم آدم على مقطع الأمر بالسجود له
هذا ويلحظ أن المقطع الأول من المقطعين في الآية الذي فيه المحاورة بين الله عز وجل والملائكة وتعليم آدم قد سبق المقطع الثاني الذي فيه الأمر للملائكة بالسجود لآدم. في حين أن صيغة القصة في سورتي (ص) والحجر صريحة لأن الأمر بالسجود كان فوق خلق آدم وهذا يقتضي أن يكون تعليم آدم بعد ذلك. والله أعلم، بل ويقتضي أن يكون بعد هبوط آدم إلى الأرض وإيذانه بأن الله سوف ينزل هداه عليه وعلى ذريته فينجو المتبع له ويخسر المنحرف عنه. ويتبادر لنا بناء على ذلك أن في نظم المقطعين تقديما وتأخيرا وهذا مألوف في النظم القرآني ولا حمل للاستشكال بسبب تقدم المحاورة وخبر تعليم آدم للأسماء ونقول هذا في صدد الصيغة ونظمها. ونقول إن الموضوع كله من المتشابهات التي قال الله في آية سورة(6/158)
آل عمران السابعة: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. ونقول كما أوجبت الآية: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ونقف عند ذلك ثم نستشف الحكمة من الصيغة وهو ما قلناه هنا. وفي سياق قصة آدم في السورة الأخرى. وهو ما نرجو أن يكون فيه إنشاء الله الصواب والسداد والله أعلم، وندعو الله أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
تعليق على توبة آدم وحكمة ذكرها
ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه ليتوب عليه منها جملة: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الأعراف: [23] الواردة عن لسانهما في سورة الأعراف ومنها عبارات أخرى مماثلة ومنها أن آدم سأل ربه إن كان له توبة فقال له نعم فدعا ربه تائبا مستغفرا. ومنها رواية غريبة وهي أن الله علّم آدم أركان الحج وأمره بالطواف حول مكان الكعبة الذي كان ربوة حمراء سبعا ثم بصلاة ركعتين وطلب المغفرة. وليس لكل ما رووه سند وثيق، وليس من طائل في التخمين في أمر مغيب. وقد أخبرنا الله في الآيات أنه ألهمه أن يتوب عن ذنبه ففعل فتاب وتاب عليه، وكفى.
ونكرر هنا ما قلناه في سياق القصة في سورة طه من أنه قد تبادر لنا من حكمة ذكر قبول الله لتوبة آدم الرد على ما كان النصارى وما زالوا يعتقدونه من عقيدة عجيبة وهي تسلسل خطيئة آدم في ذريته من بعده وكون الله إنما أرسل ابنه الذي هو نفسه سبحانه وتعالى بعد مدة طويلة ليفتدي بني آدم من خطيئة أبيهم!.
ومفسرو الشيعة يروون روايات عديدة على هامش آيات القصة، من ذلك أن الشجرة التي نهى الله آدم وحواء عنها هي شجرة علم محمد وآل محمد الذين آثرهم
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الخازن والطبري وابن كثير وغيرهم.(6/159)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
الله عز وجل بها. وأن محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين كانوا يأكلون منها فلا يحسون بجوع ولا عطش ولا نصب ولا تعب. ومن ذلك إن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم لأنه كان في صلبه أنوار النبي وآله المعصومين المفضلين على الملائكة. ومن ذلك أن آدم رأى على العرش أسماء يتلألأ النور منها فسأل فقيل إنها أسماء أجلّ الخلق عند الله محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين فتوسل بهم إلى ربّه فقبل توبته. وطابع الصنع والهوى الحزبي بارز على هذه الروايات العجيبة التي يبدو منها شدة استغراق رواة الشيعة في الحزبية العمياء مهما بدا فيما يروونه من صنعة وغرابة «1» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 48]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
. (1) إنها لكبيرة: بمعنى إنها لشاقة أو ثقيلة أو مستثقلة.
(2) يظنون: هنا بمعنى يتوقعون أو يتيقنون.
(3) عدل: هنا بمعنى بدل معادل.
__________
(1) انظر كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 91 و 92 و 93 و 161 و 162 وانظر تفسير الطبرسي الذي نقلنا عنه بعض الروايات أيضا.(6/160)
تعليق على أولى الحلقات الواردة في يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات:
1- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
2- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
3- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
4- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
5- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم(6/161)
العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
6- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [44 و 45] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلّا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون «1» عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد حق وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن والبغوي وابن كثير والطبرسي. [.....](6/162)
كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [20 و 114] والأعراف [157] والرعد [36] والإسراء [107 و 108] والقصص [52- 55] والعنكبوت [48] والأحقاف [10] .
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [40- 48]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية.(6/163)
حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مثل العالم الذي يعلّم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء؟ قال: خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتاب فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» «2» . وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكفّ أو يعمل ما قال أو دعا إليه» . وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى في منامه رجلا يشدخ رأس رجل وكلّما التأم جرحه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار» «3» وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن كعب بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار» «4» . وحديث رواه الترمذي وابن
__________
(1) أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
(2) روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج ج 5 ص 203.
(3) التاج ج 4 ص 275- 277 والحديث طويل.
(4) التاج ج 1 ص 65 والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.(6/164)
ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تعلّم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار» «1» .
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز.
وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية.
ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية «2» . ولقد ذكر ابن
__________
(1) انظر المصدر السابق نفسه.
(2) مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أسماء (عبد الله بن صوريا- ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت- نعمان بن آصى إلخ اقرأ سيرة ابن هشام ج 2 ص: 140 و 142 و 149 و 151 و 152 و 157 و 160 و 161 و 163. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل يامين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.(6/165)
سعد في طبقاته «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيسا لها عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال: إني والله لا آمن يهود على كتاب. قال فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت لهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم» . حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر رواه البخاري عن أبي هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ... » حيث يفيد هذا بصراحة أن اليهود كانوا يحتفظون بأسفارهم باللغة العبرانية ويقرأونها بها ولا يمكن أن يكون هذا إلّا إذا كانوا عبرانيين أي إسرائيليين.
والمتبادر من وقائع التاريخ القديم أنهم جاءوا من فلسطين في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد على أثر الضربة الشديدة التي أنزلها بهم الرومان سنة 70 ب. م، والتي شتتت من بقي حيا منهم في آفاق الأرض، وقد نزلوا في المدينة وأماكن أخرى في طريق يثرب- الشام مثل وادي القرى، وخيبر، وفدك، ومقنا، والحرباء وتيماء. وقد امتلكوا الأرضين فيها واستثمروها وأنشئوا كثيرا من بساتين النخل والعنب بالإضافة إلى الزراعات الموسمية واشتغلوا بالتجارة والصناعة والرّبا. وقد شادوا الحصون والقلاع ليكون لهم بها منعة في الوسط الجديد الذي حلوا فيه والذي كان مباءة تجوال القبائل العربية. وتعلموا اللغة العربية والعادات
__________
(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 134.(6/166)
العربية واستطاعوا بما كان لهم من أموال ونشاط زراعي وتجاري وصناعي ومعارف دينية وغير دينية أن يحتلوا في نفوس العرب وبيئتهم مكانة وأن يصبحوا عندهم ذوي نفوذ وتأثير.
وننبه على أننا لا نريد أن ننفي أن يكون بعض عرب الحجاز قد تهودوا بتأثيرهم. غير أن ما يروى من أنه كان في الحجاز قبائل عربية متهودة، أو أن قبائل اليهود في المدينة بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، كانت أو كان بعضها عربا غير صحيح ويؤيد ذلك الوقائع والأحوال التي ذكرناها. وبخاصة توجيه الخطاب ليهود المدينة باسم بني إسرائيل.
على أن من الحقائق التاريخية المؤيدة بالآثار القديمة أن اليهودية قد تسربت من إسرائيليي الحجاز إلى اليمن في القرن الخامس بعد الميلاد واعتنقها بعض ملوك حمير وقبائلها «1» ، غير أنها توارت عن اليمن فيما نعتقد بعد غزو الأحباش النصارى لليمن في أوائل القرن السادس بعد الميلاد واستيلائهم عليها. وكان من أسباب هذه الغزوة اضطهاد ملك حمير وحكومته المتهودون نصارى اليمن ومحاولتهم إجبارهم على اعتناق اليهودية على ما شرحناه في سياق سورتي الفيل والبروج شرحا يغني عن التكرار. ونعتقد أن الأحباش طاردوا اليهودية واليهود وطردوهما عن اليمن أو أبادوهما. ومن الأدلة على ذلك أن الروايات لم تذكر شيئا عن وجود اليهود في اليمن في زمن بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين. ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث جاء فيه: «أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» كآخر وصية له. وروى الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج «2» أن عمر بن الخطاب أجلى عن اليمن نصارى نجران وعن الحجاز اليهود عملا بهذه الوصية ولم يرد شيء عن إجلاء يهود عن اليمن. وكل هذا يدعم ما قلناه. واليهود الذين كانوا
__________
(1) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي ج 3 ص 150- 273 وكتابنا تاريخ الجنس العربي ج 5 ص 88 وما بعدها.
(2) ص 29 و 40 و 42 وانظر أيضا فتوح البلدان للبلاذري ص 29- 41 و 70- 75 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 119- 121 وابن هشام ج 4 ص 345.(6/167)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
إلى عهد قريب في اليمن هم على الأرجح من مهاجري اليهود في العهود الإسلامية. والغالب أنهم ممن أجلي عن الأندلس بعد استيلاء الأسبان عليها حيث انتشروا في بلاد العرب من شمال افريقية إلى جنوب آسيا.
ونكتفي الآن بما تقدم عن اليهود على أن نزيد أحوالهم وأخلاقهم ومواقفهم شرحا في المناسبات الآتية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 61]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
.(6/168)
(1) بلاء: هنا بمعنى اختبار وامتحان.
(2) الفرقان: تعبير يراد به ما في كتاب الله من بيان وتفريق بين الحقّ والباطل والهدى والضلال.
(3) ظللنا عليكم الغمام: جعلنا السحاب ظلا عليكم يمنعكم من حرّ الشمس.
(4) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: تقديرها وما آذونا أو ما أضرونا بكفرهم وعنادهم وتعجيزهم وإنما آذوا وأضروا أنفسهم.
(5) رجزا: عذابا.
(6) لا تعثوا: لا تتمادوا ولا تسعوا.
(7) البقل: هو الخضرة مطلقا.
(8) فومها: قيل بمعنى الحنطة وقيل بمعنى الثوم.
(9) مصرا: تعددت الأقوال في تخريج ورود هذه الكلمة منونة مصروفة مع أنها جاءت في سور مكية غير منونة وغير مصروفة. وأوجه الأقوال أنها في السور المكية عنت القطر المعروف وأنها هنا عنت ما تعنيه الكلمة لغة وهو المدينة مطلقا أو المكان المعمور مطلقا.
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [47- 57]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو(6/169)
المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلما وعدوانا، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاما وتأثيرا بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولا عند اليهود السامعين أو واردا في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.(6/170)
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [55 و 56 و 61] والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول (حطة) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [58 و 59] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [161 و 162] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولا كثيرة عما كان من(6/171)
انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى (عليه السلام) ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول «1» .
والمتبادر من أسلوب الآية [61] أن جملة وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ليست استمرارا لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلا بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوما بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ... [167] .
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقا ولا حقا من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه
__________
(1) هذه التقريعات والإنذارات والتسجيلات مبثوثة في معظم الأسفار التي هي في متناول الجميع، اقرأ إذا شئت كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم.(6/172)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروسا يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم «1» قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع حواش وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات أو تلخيصها لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما وردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج.
[سورة البقرة (2) : آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
. تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ
عبارة الآية واضحة، وفيها تقرير لرضاء الله عن من آمن بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا وعمل الصالحات من أهل الملل المذكورة فيها وتبشير لهم.
ولقد روى الطبري أن الآية نزلت جوابا على سؤال من سلمان الفارسي للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد إسلامه عن مصير قوم من النصارى أخبروه ببعثته وكان من الممكن أن يؤمنوا لو التقوا به.
والمشكل في الأمر وضع الآية في سلسلة يعود ما قبلها وما بعدها إلى أحوال اليهود المعاصرين ومواقف الموجودين منهم في الحجاز من الرسالة الإسلامية وسيرة بني إسرائيل القديمة أولا، وكون اليهود بعد عيسى يعتبرون على ما تفيده نصوص قرآنية عديدة مثل آيات سورة آل عمران [52- 57] وآية سورة النساء [150] وآية سورة الصف [14] لأنهم كذبوا عيسى وكفروا به واستحقوا العذاب
__________
(1) انظر تفسير الطبري الذي استغرقت هذه التفصيلات فيه اثنتين وعشرين صفحة.(6/173)
ولم يعودوا يستحقون كيهود المصير المذكور في الآية إلّا إذا لم يكونوا مرتكبين المنكرات المعزوة إلى بني إسرائيل قديما وحديثا وماتوا كذلك قبل عيسى ثانيا وكون النصارى بعد بعثة النبي محمد يعتبرون كفارا إذ ظلوا يجحدون رسالته ولا يستحقون ذلك المصير كنصارى حتى لو لم يكونوا ممن سجل القرآن عليهم الكفر بقولهم إن الله هو المسيح ابن مريم أو إن الله ثالث ثلاثة أو إن المسيح هو ابن الله على ما تفيده آيات عديدة منها آيات سورة النساء هذه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) . ويقال هذا بالنسبة لليهود الذين بقوا على يهوديتهم بعد عيسى ثم بقوا عليها بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم بطبيعة الحال.
ومثل هذا كله يقال بالنسبة للصابئين الذين لم يؤمنوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولو كانوا متصفين بما وصفوا به في الآية.
ولقد قال السيد رشيد رضا: إن الآية بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة لها لكل من اتصف بما جاء فيها. وقال ابن كثير: إن الله تعالى لما بيّن حال من خالف أوامره وارتكب زواجره نبّه على أن من أحسن من الأمم السابقة وأطاع فإن له الجزاء الحسن. وكلا القولين وجيه ووارد ويفيد أن من جهة أن الآية جاءت بمثابة استطراد واستثناء وهذا مألوف في النظم القرآني وقد يكون سؤال ما ورد على النبي صلّى الله عليه وسلّم من سلمان الفارسي بعد نزول الآية فتلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم كجواب على السؤال الذي فيه سؤال عن حالة أناس صالحين من النصارى لم يدركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها نزلت لحدتها جوابا على السؤال. وهذا يجعلنا نرجح أن الآية في صدد بيان حالة اليهود الصالحين قبل بعثة عيسى وحالة النصارى الصالحين قبل بعثة محمد وحالة الصابئين قبل بعثة محمد كذلك والقرآن يتمم بعضه بعضا. ولما كان قد دعا جميع الناس بما فيهم اليهود والنصارى والصابئين(6/174)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
إلى الإيمان برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن والانتهاء عن ما هم عليه من انحراف عن الدين الحق والطريق القويم بآيات عديدة منها ما مرّ في سورة البقرة وفي السور السابقة ومنها ما سوف يأتي بعد. ولما كان طوائف مختلفة فيها يهود ونصارى وصابئون قد فهموا ذلك وآمنوا برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن على ما حكته آيات عديدة في سور مكية ومدنية مرّ بعضها وسيأتي بعضها بعد فلا يصح أن يوقف عند هذه الآية لحدتها وتؤخذ على ظاهرها ويتوهم متوهم أنها تنطوي على تقرير نجاة اليهود والنصارى والصابئين عند الله مع بقائهم على مللهم بعد البعثة النبوية إذا لم يؤمنوا بالنبي محمد والقرآن ويصبحوا من معتنقي الرسالة الإسلامية التي يمثلانها.
وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «1» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
. تعليق على الحلقة الثالثة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة ثالثة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في هذه السورة.
وفيها وصل ما انقطع بالآية [62] التي جاءت استطرادية. وفيها استمرار للخطاب الموجه لبني إسرائيل السامعين في صدد ما كان من آبائهم من مواقف منحرفة بضمير الجمع المخاطب توكيدا للّحمة الوثيقة بين السامعين والآباء الغابرين بقصد
__________
(1) التاج ج 1 ص 30.(6/175)
الإنذار والتحذير من أن يكرروا مواقف وانحرافات أولئك الآباء. ومن الممكن أن تكون نزلت بعد سابقاتها مباشرة أو بعد فترة ما فوضعت بعدها.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت حكاية ما كان من رفع الله الطور فوق بني إسرائيل وأخذه عليهم الميثاق بأن يتمسكوا بما أنزل الله إليهم من وصايا وتعليمات بقوة، ويظلوا يحافظون عليه ويذكروه حتى يتقوا غضب الله وما كان من انحرافهم عنه، وتذكيرا بالذين احتالوا في يوم السبت واعتدوا على حرمته من أولئك الآباء وما كان من غضب الله عليهم ومسخه إياهم قردة ليكون ذلك نكالا للمنحرفين في كل وقت وعبرة وموعظة للمتقين.
وأسلوب الآيات كأسلوب ما سبقها يلهم أن اليهود المخاطبين يسمعون أمورا معروفة متداولة بينهم عن آبائهم مما فيه توثيق لقوة الإنذار والتحذير لهم.
ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الله رفع فوقهم الطور بقصد قذفه عليهم لأنهم أبوا أن ينفذوا أمره فيدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة. وعن ابن عباس أن الله أنذرهم بقذف الجبل عليهم إذا لم يلتزموا بميثاقه. وروح العبارة تفيد أن الله رفع فوقهم الجبل فعلا. وهذا وارد في الآية [171] من سورة الأعراف. وعبارة هذه الآية تفيد أن ذلك كان من قبيل إظهار معجزة لهم حينما أمرهم بإطاعته والتزام وصاياه وعلى كل حال فالأسلوب التذكيري الذي وردت به العبارة القرآنية يفيد أن بني إسرائيل كانوا يسمعون أمرا واضح المدى في أذهانهم وواردا في بعض قراطيسهم على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف.
وعدوان بني إسرائيل على السبت ومسخ المعتدين قردة مما ورد في سورة الأعراف، وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.
والمتبادر أن جملة فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ قد عنت ما كان من عفو الله عنهم وتوبته عليهم بعد انحرافهم إلى عبادة العجل في حياة موسى ولجاجهم معه مما ذكر في الآيتين [52 و 54] من آيات الحلقة الثانية وما كان بعد ذلك من صلاح أحوالهم واستقامة أمورهم ردحا من الزمن.(6/176)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
هذا ومع أن ما في الحلقة هو في صدد بني إسرائيل فإن فيما احتوته تلقينا مستمرا للمسلمين أيضا كما هو شأن الحلقات السابقة سواء في وجوب التمسك بتعاليم الله وعدم الانحراف عنها، أم في عدم الاحتيال عليها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
. (1) فارض: هي البقرة المسنة.
(2) بكر: هي البقرة الفتية.
(3) عوان بين ذلك: متوسطة أو متناصفة في العمر.
(4) ذلول: بمعنى متمرنة على العمل مذللة له.
(5) تثير الأرض: تحرث الأرض.
(6) ولا تسقي الحرث: أي لا تستخدم في عملية إرواء الأرض.
(7) مسلّمة لا شية فيها: صافية ليس فيها بقعة ما: أي هي صفراء تمام الصفرة.(6/177)
(8) ادارأتم فيها: اختصمتم فيها وأنكرتموها وهي من درأ بمعنى منع وحجب وحال، وقيل بمعنى اختلفتم فيها.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية حيث قتل بعضهم شخصا وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلا من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير.(6/178)
سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعا في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في واد لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وعيوننا لم تر ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إسرائيل- كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم- وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالا وأخلاقا ونسبا يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع حواش وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصا لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا إن في القصة تلقينا مستمر(6/179)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تخريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات «1» . في واحدة أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمدا وعليا والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلّا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملا بالوصية حتى حصل على ما بشر به!. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [72 و 73] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [82] .
[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 82]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) .
__________
(1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 215 و 216. [.....](6/180)
(1) من بعد ما عقلوه: من بعد ما فهموه.
(2) بما فتح الله عليكم: قال المفسرون إن الجملة تعني ما يعرفونه من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق نبوته ودعوته.
(3) أميون: فسر الكلمة بعض المؤولين بأنهم الذين لا يحسنون القراءة والكتابة. وعزا بعضهم إلى ابن عباس تأويلا آخر لها وهو الذين غير ضليعين في أمور الدين وكتبه. وللكلمة معان أخرى وأقوال في أصلها أوردناها في سياق تفسير الآية [157] من سورة الأعراف.
(4) أمانيّ: قيل إنها بمعنى التمني والأمل بالعفو. وقيل إنها جمع أمنية بمعنى ما يشتهيه المرء ويطلبه وقيل إنها بمعنى القراءة الضعيفة. وقد وردت الكلمة في حلقة أخرى من السلسلة تفيد أنها التمني أو الظن، والذي نرجحه أنها في مقامها هنا بمعنى التخمين والظن بدليل جملة وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الواردة في نفس الآية التي وردت فيها.
(5) يكسبون: هنا بمعنى يجترحون من الإثم أو يقترفون.
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود(6/181)
في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم:
1- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن ثم يحرفون ما سمعوا تعمدا بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
2- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم آمنّا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم وقالوا لهم إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهانا ضدكم عند الله.
3- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علما يقينيا ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
4- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله ويزعمون أن النار لن تمسهم إلّا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جريا على الأسلوب القرآني:
فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهدا من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلا عما في ذلك من افتراء على الله، لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا وأن من آمنوا وعملوا صالحا فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفاتيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.(6/182)
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائيا موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي إلى المدينة.
والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه:
1- في صدد جملة وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاو تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
2- في صدد جملة: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبيّ حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
3- في صدد جملة: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية(6/183)
الأولى قد تكون أكثر انسجاما مع فحوى الآية مع القول أن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاما تاما. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذبا وتضليلا فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» «1» . حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضا مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوما علما يقينيا من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيرا مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائيا موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم
__________
(1) التاج ج 4 ص 43.(6/184)
آمنوا وحسن إسلامهم ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [199] والنساء [162] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلّى الله عليه وسلّم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) وهذه:
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) وهذه: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) «1» ، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءا لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ الأنعام: [90] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ السجدة: [23- 24] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ الجاثية: [16] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحيانا بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [40- 44] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثا على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلّى الله عليه وسلّم مرجعهم الأعلى
__________
(1) آيات البقرة هذه واردة في حلقة من حلقات هذه السلسلة، ولذلك يمكن القول إن ما جاء فيها يعبر عن أقوال اليهود وأن ذكر النصارى جاء فيها استطراديا.(6/185)
ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا- حقا أو باطلا- بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتامر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم في اليهود سندا وعضدا وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه وبأنه محتو حلّ المشاكل والخلافات التي يتعثر فيها الكتابيون وهم منهم باستشهاد الكتابيين على صحة رسالته استشهادا ينطوي على الثقة فيهم والتنويه بهم، ولما رآه من حسن استجابة الكتابيين وفيهم أناس من بني إسرائيل إلى دعوته واندماجهم فيها ووقوفهم منها موقف المصدق المؤمن المؤيد على ما احتوته آيات مكية عديدة أوردناها في مناسبات عديدة سابقة فلما رأى منهم ما رآه من الانقباض أولا والتنكر والصد وكتم الحق عن علم والتحالف مع الأعداء والدسائس والتشكيك تأثر تأثرا عميقا من خيبة أمله فيهم فرددته هذه الآيات وكثير غيرها في الحلقات السابقة والآتية.
وهذا القول يصدق على معظم اليهود، لأن هناك آيات مدنية ومكية تفيد أن بعضهم- ومنهم علماء راسخون في العلم- قد استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأحقادهم فيؤمنوا بالرسالة المحمدية التي عرفوا أنها حق ويصدقوا بالقرآن الذي عرفوا أنه من عند الله على ما جاء في آيات سورة آل عمران هذه: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وآية سورة آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) ، وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ(6/186)
مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
وآية سورة المائدة هذه: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) «1» ، وآية سورة الأحقاف المكية هذه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) .
تعليق على الآية بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
لقد وقف المفسرون عند هذه الآية من الحلقة واعتبروها شاملة المدى.
وهذا وجيه لأن عبارتها مطلقة رغم كونها بسبيل الرد على اليهود وتكذيبهم. ولقد تعددت الأقوال التي يروونها عن أهل التأويل أو يقولونها من أنفسهم في صددها.
من ذلك أن السيئة في الآية في معنى الشرك. وأن جملة وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ تعني استمراره في الشرك وعدم مفارقته له بالإيمان والتوبة. وهذا وجيه وصواب لأنه متسق مع وعيد الخلود في النار الذي جاء في الآية ومن ذلك أن السيئة تعني الكبيرة أيضا وأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار وهذا قول المعتزلة.
وهناك من قال إن خلود مرتكب الكبيرة في النار رهن باستحلاله لها، وهو الأوجه فيما هو المتبادر وهناك أحاديث نبوية تدعم هذا منها ما هو صحيح ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار
__________
(1) آيات سور آل عمران والنساء والمائدة وإن لم يكن فيها صراحة فإنها من سلسلة في حق بني إسرائيل كما جاء فيها بصراحة. وهناك آيات مدنية ومكية أخرى فيها خبر إيمان بعض أهل الكتاب لم يسبقها صراحة بأنهم من بني إسرائيل مع احتمال أن يكون منهم من بني إسرائيل مثل آيات سور القصص [52- 55] والإسراء [107- 108] والرعد [36] التي مر تفسيرها.(6/187)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان ... » «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمّتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنّة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ... » «2» والمفروض على ضوء صراحة الحديث الأول أن يكون الشخص دخل النار على ذنوب ارتكبها وهو مؤمن ولم يستحلّها وهذا ينسحب على الزاني والسارق الذي يدخل الجنة إذا مات لا يشرك بالله كما هو المتبادر. لأن الحديث لا يقول إنه لا يعذب أو لا يدخل النار قطّ، وإنما يقول إنه يدخل الجنة. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن» «3» . وشراح الحديث يحملون هذا الحديث على فرض أن يكون مرتكبو هذه الكبيرات وهم مستحلّون لها وهذا حقّ وصواب فيما هو المتبادر.
أما الذنوب التي يتوب عنها أصحابها توبة صادقة ولو كانت من الكبائر فمن حقهم أن يأملوا عفو الله وعدم دخول النار بسببها. وهناك آيات كثيرة تفتح باب التوبة وتعد بغفران الله لكل فئة من المذنبين بما فيهم المشركون والمنافقون والمحاربون لله ورسوله والمفسدون في الأرض والزناة والسارقون والقاتلون إلخ إذا ما تابوا توبة صادقة على ما شرحناه في تعليقنا على موضوع التوبة في تفسير سورة البروج، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) .
__________
(1) التاج ج 1 ص 26 و 27.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) التاج ج 3 ص 5.(6/188)
(1) قولوا للناس حسنا: بمعنى لتكن مخاطبتكم للناس بالحسنى. وقال المؤولون إن الجملة تشمل حسن التعامل مع الناس وقول الحق وفعل الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(2) ثم أنتم هؤلاء: هنا في مقام المنادى، والتقدير ثم أنتم يا هؤلاء.
(3) تظاهرون عليهم: تساعدون الغير عليهم.
تعليق على الحلقة السادسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سادسة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في السورة، وفيها عود على بدء في مخاطبة بني إسرائيل التي انقطعت بالآيات الالتفاتية السابقة، وذكر انحرافاتهم والتنديد بهم وربط حاضرهم في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته بأسلافهم القدماء.
وقد تضمنت تذكيرا بالعهود التي أخذها الله على بني إسرائيل وتنديدا بالحاضرين بسبب نقضهم لها:
1- فقد أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده وبالبرّ بالوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، وبقول الحق والصدق وحسن التعامل مع الناس وإقامة(6/189)
الصلاة وإيتاء الزكاة وأقروا بذلك وتعهدوا به ولكن أكثرهم نقض ولم يفعل بما عاهد الله عليه.
2- وقد أخذ الله عليهم العهد بالتضامن فلا يقتل بعضهم بعضا ولا يظاهر أحد منهم غريبا على أحد منهم فنقضوا العهد حيث سفك بعضهم دم بعض وأجلى بعضهم بعضا عن أرضه وظاهر بعضهم الغريب على بعض آخر بغيا وعدوانا. وفيما هم يفعلون ذلك وهو محرّم عليهم أصلا يناقضون أنفسهم ويفتدون الأسرى الذين أسرهم الغرباء بمساعدتهم ومظاهرتهم. وهكذا يكونون مؤمنين ببعض ما أمروا به وهو فك أسراهم من يد الغرباء وكافرين ببعض وهو سفك دم بعضهم وإجلاء بعضهم وأسر بعضهم والمظاهرة على بعضهم. ومن يفعل ذلك يستحق الخزي في الدنيا وأشد عذاب الله في الآخرة لأنه يكون بذلك قد سار سير من يرغب في منافع الدنيا وأعراضها دون أن يراقب الله ويذكر الآخرة وأهوالها. وبعبارة أخرى سير من يشتري دنياه بآخرته، ومثل هؤلاء لا يخفف عنهم عذاب الله ولا ينصرون في موقف من مواقفهم.
والآيات قوية في تنديدها وإفحامها، وقد روى المفسرون «1» في صدد الآية [84] أن بني النضير وبني قينقاع من يهود يثرب كانوا حلفاء للخزرج وأن بني قريظة كانوا حلفاء للأوس. وكان بين الخزرج والأوس خلافات تجرّ أحيانا إلى القتال، فكان كل من فريقي اليهود يقاتل مع حليفه فيقتل بعضهم بعضا ويأسر بعضهم بعضا ويجلي بعضهم بعضا ويظاهر كل فريق حليفه نتيجة لذلك. وكانوا
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم، وقد ذكر بعض هؤلاء أن بني قينقاع كانوا حلفاء الخزرج وأن بني النضير وبني قريظة كانوا حلفاء للأوس وهذا غلط فحلفاء بني قريظة هم الأوس أما بنو النضير وبنو قينقاع فقد كانوا حلفاء الخزرج. انظر الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص 147 وما بعدها، وانظر فصلي المنافقين واليهود في الجزء السادس من هذا الكتاب على أن هؤلاء المفسرين قد صححوا غلطهم دون انتباه في سياق تفسير سورتي الحشر والأحزاب حيث ذكروا أن بني قريظة كانوا حلفاء الأوس، وبني النضير كانوا حلفاء عبد الله بن أبيّ الزعيم الخزرجي المنافق.(6/190)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
حينما تهدأ الحرب وتنعقد الهدنة يتعاونون على فداء الأسرى اليهود فيما بينهم.
والرواية متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر. وفي ذلك صورة من صور الحياة الاجتماعية والسياسية اليهودية في البيئة العربية اليثربية وقرينة على ما كان من اندماج اليهود في الحياة العربية وتقاليدها أولا، وعلى قدم وجودهم في هذه البيئة ثانيا، وعلى أن اليهود لم يكونوا كتلة واحدة متضامنة، بل كانوا كتلا عديدة متعادية أيضا ثالثا.
وذكر بني إسرائيل في الآيات في سياق الإشارة إلى مخالفات قبائل اليهود مع العرب قرينة بل دليل على أن هذه القبائل كانت إسرائيلية الجنس. وفي أسفار الخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع من أسفار العهد القديم حكاية وصايا كثيرة وصى الله بها بني إسرائيل بواسطة موسى (عليه السلام) واتخذ عليهم الميثاق بها. ومن جملة ذلك ما جاء في الآية الأولى حيث ينطوي في ذلك إفحام وإلزام لليهود في زمن النبي الذين نزلت الآيات فيهم.
وكما انطوى في الحلقات السابقة تلقينات مستمرة للمسلمين انطوى في هذه الحلقة حيث تلقنهم وجوب القيام بعهد الله وميثاقه في كل ما أمر به من خير وبرّ ومعروف وحسنى وما نهى عنه من إثم وبغي وعدوان، والحذر من التناقض في ذلك، وما في هذا وذاك من دلالة على ضعف الإيمان والرغبة في منافع الدنيا العاجلة وعدم مراقبة الله مما يجعلهم يستحقون غضبه وعذابه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 96]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
.(6/191)
(1) قفينا من بعده: أرسلنا من بعده. وأصل معنى قفينا أردفنا وراءه وفي قفاه.
(2) غلف: قيل إنها بمعنى مسدودة. وقيل إنها بمعنى أوعية مملوءة لا محل للزيادة أو الاستزادة فيها.
(3) لعنهم الله: اللعن في الأصل بمعنى الطرد والحرمان من الخير والجملة هنا استدراك تنديدي بمعنى وحقيقة أمرهم أن الله لعنهم وجعلهم موضع سخطه وغضبه ونقمته.
(4) يستفتحون: يتفاخرون ويتعالون ويقولون إن الفتح والعاقبة لهم.
(5) فباءوا: فعادوا.
(6) قالوا سمعنا وعصينا: هذه حكاية حالهم على ما هو المتبادر، فقد تلقوا أمر الله ولكنهم عصوه بما بدا من انحرافاتهم.
(7) أشربوا في قلوبهم العجل: تمكنت عبادة العجل في قلوبهم.(6/192)
(8) بمزحزحه: بمبعده.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعا للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمنا.
وقد تضمنت الآيات ما يلي:
1- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم ثم أرسل إليهم من بعده رسلا عديدين ثم أرسل عيسى مؤيدا بالمعجزات وروح القدس. فكانوا- أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
2- وكانوا- أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا صادقا وتاما بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف لأن ما يتلوه النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم هو متطابق مع ما عندهم وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقا مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
3- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما(6/193)
جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغيا وحنقا لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
4- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
5- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم:
1- حيث تأمر النبي بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها:
2- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين. وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعا ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي(6/194)
هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمدا وبغيا مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيرا ما استشهد بالكتابيين- ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون «1» في جملة وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أقوالا معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريبا نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
__________
(1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي. وننبه على أن المفسرين أوردوا أقوالا أخرى مختلفة في الصيغة متفقة في الجوهر فاكتفينا بما لخصناه.(6/195)
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء: اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا.
فقال سلام بن مشكم من بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسدا وبغيا وغيظا فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.(6/196)
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [170] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقنا عليه بما رأيناه متبادرا، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقدا وغيظا وحسدا على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
تعليق على جملة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
في هذه الجملة موضوعان الأول: إتيان عيسى (عليه السلام) البينات، والثاني: تأييده بروح القدس. وفي صدد الأول فإن جمهور المفسرين على أن البينات هي المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإخباره بأمور مغيبة وخلقه من الطين كهيئة الطير ونفخه فيه ليصير طيرا مما ورد بصراحة في آيات في سورة آل عمران والمائدة. وندع الكلام على ذلك إلى تفسير هاتين السورتين لأن ذلك أكثر مناسبة. وفي صدد الثاني نقول إن جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قد تفيد لأول وهلة أن هذا شيء خاص بعيسى (عليه السلام) ، ولقد تكررت هذه الصدقية في آية سورة البقرة [253] والمائدة [113] ، وننبه أولا على أن تعبير روح القدس قد ورد في آية سورة النحل هذه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) التي يمكن أن تفيد خلافا لما يبدو من جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ بالنسبة لعيسى أن تأييد الله لعيسى بروح القدس في القرآن ليس محصورا به وأن القرآن قد ذكر أيضا أن الله قد أيّد نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم به. وثانيا: أن آية النحل تفيد أن بِرُوحِ الْقُدُسِ هو اسم الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم.(6/197)
وقد ورد هذا التعبير بلفظ الرُّوحُ الْأَمِينُ في آيات سورة الشعراء هذه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وفي آية سورة البقرة التي ستأتي بعد قليل اسم جبريل بوصفه الذي كان ينزل بالقرآن حيث يكون التعبير في سورتي النحل والشعراء كناية عن جبريل، ومع هذا فإن المفسرين قد أوردوا في تأويل جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الواردة في الآية والتي قد لا يكون معناها في معنى ما جاء في سورتي النحل والشعراء أقوالا عديدة، منها أن تأييد الله بمعنى تأييده بروحه وقوته ونصره، وأنه بمعنى تأييد الله له بجبريل. ومنها أنه تأييد الله له بالإنجيل. ومنها أن الجملة تعني إفاضة الله التقديس والطهارة على نفس عيسى (عليه السلام) ، وقد يكون أوجه هذه الأقوال القول الأول.
ولقد ورد تعبير (بروح القدس) في الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم والتي يعترف بها وحدها النصارى بأساليب ومناسبات متعددة بل وبمعان مختلفة أيضا على ما يفيده السياق الذي وردت فيه. فمن ذلك ما ورد في سياق حبل مريم في إنجيل متى (لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجتمعا حبلى من الروح القدس) . وفي إنجيل لوقا على لسان الذي بشر مريم بحبلها: (فأجاب الملاك وقال لها إن الروح القدس يحل عليك) . ومن ذلك في إنجيل متى على لسان عيسى: (من قال كلمة على ابن البشر يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلا يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي) . وفي إنجيل مرقس على لسان عيسى أيضا: (فإذا ساقوكم وأسلموكم فلا تهتموا من قبل بما تتكلمون به بل بما أعطيتم في تلك الساعة تكلموا لأنكم لستم أنتم المتكلمين ولكن الروح القدس) . و (وأما من جدف على الروح القدس فلا مغفرة له) . وفي إنجيل لوقا (ورجع يسوع من الأردن وهو ممتلىء بالروح القدس) . و (كان رجل في أورشليم اسمه سمعان وهو رجل صديق تقي كان ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه. وكان أوحى إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب) . وفي إنجيل يوحنا على لسان يوحنا المعمدان الذي هو النبي يحيى في القرآن: (إن الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه هو الذي يعمد بالروح القدس) .(6/198)
وبعض هذه العبارات الانجيلية قد يفيد أن روح القدس شخصية إلهية مقدسة. كما قد يفيد بعضها أنه روح ربانية تنزل لتأييد الأشخاص المؤمنين. أو أنه رسول رباني لتنفيذ أوامر الله وهذا المعنى الأخير مطابق لما جاء في القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة مريم.
ومعلوم أن هذا التعبير في العقيدة النصرانية يعني أحد أقانيم أو صور الذات الإلهية التي هي الأب والابن وروح القدس. وهذه الألفاظ وردت في الأناجيل المتداولة. ولكن تلك العقيدة ليست محبوكة بشكلها الراهن في أي إنجيل، وإنما هي من قرارات مجامع دينية انعقدت في القرن الرابع بعد الميلاد بأمر ورعاية الامبراطور الروماني بسبب ما كان بين رجال الدين النصراني من خلافات حول لاهوتية المسيح والروح القدس على ما شرحناه في سياق سورة مريم أيضا.
والمرجح أن هذا التعبير كان مستعملا من قبل نصارى العرب قبل الإسلام ترجمة عن اللغة الإنجيلية السريانية أو اليونانية.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن التعبير القرآني يضع الأمر في نصابه من وجهة نظر القرآن والعقيدة الإسلامية في عيسى (عليه السلام) حيث ينطوي في الجملة التي جاء فيها تقرير كون عيسى رسول من رسل الله وأن الجملة تعني تأييد الله إياه بروح وقوة منه اقتضت حكمة التنزيل تسميتها بِرُوحِ الْقُدُسِ ولا ضير على المسلم بل من واجبه أن يستعمل هذه التسمية في التعبير عن تأييد الله تعالى لعيسى (عليه السلام) لأن ذلك نص قرآني، مع الوقوف عند ذلك وإيكال مدى هذه الحكمة لله تعالى ودون أن يكون ذلك من المسلم تسليما منه بما استقرت عليه عقائد النصارى المجمعية من مدى ومعنى روح القدس لأن فحوى الجملة وروحها ومقامها في القرآن لا يمكن أن يتحمل ذلك. وهي صريحة كل الصراحة بأن روح القدس الذي يؤيد الله به عيسى غير ذاته وليس جزءا منه أو صورة له بأي حال كما هو في تلك العقائد. والقرآن هو الضابط المهيمن على الكتب السماوية التي ينسبها أهل الكتاب إلى الله ويتداولونها كما جاء صراحة في آية سورة المائدة: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فما يقرره هو(6/199)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
الحق وما يتناقض معه يكون محرفا بصورة ما لفظا أو معنى من وجهة العقيدة الإسلامية.
هذا، وننبه تعليقا على جملة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ في الآيات على أن في القرآن آيات كثيرة منها في سور مرّ تفسيرها ومنها في سور آتية تذكر أن الله قد أتى النبيين الآخرين ومنهم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم البينات وأرسلهم بالبينات وجاؤوا بالبينات. حيث يفيد هذا أن هذه الجملة ليست على سبيل حصر ذلك بعيسى (عليه السلام) وإنما جاءت في مقامها وبأسلوبها حسب ما اقتضته حكمة التنزيل وحسب. وأكثر ما ورد في صدد الأنبياء من ذلك ورد في معنى التعبير عن المعجزات الذي يتفق المفسرون على أن الجملة التي نحن في صددها عنت ذلك أيضا بالنسبة لعيسى (عليه السلام) .
[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)
. في الآية الأولى من هاتين الآيتين أمر رباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالرد على من يعلن عداءه لجبريل وتوكيد له بأن جبريل هو الذي ينزل القرآن على قلبه بإذن الله مصدّقا لما سبقه من كتب الله وليكون بشرى وهدى للمؤمنين. أما الآية الثانية ففيها تقرير إنذاري بأن الله عدو للكافرين الذين يكون منهم من يعادي الله ورسله وملائكته وبخاصة جبريل وميكال منهم.
تعليق على الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... والآية التالية لها
وقد روى المفسرون «1» في سياق طويل روايات عديدة مختلفة في الصيغ
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير وغيرهما، والطبري وابن كثير استوعبا جميع الروايات. والثاني ينقلها عن الأول تقريبا.(6/200)
والوقائع متفقة في الجوهر في صدد الآيتين، منها أن فريقا من اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسئلة عديدة ووعدوه بأن يتابعوه إذا أجاب عليها إجابات صحيحة فأجابهم إجابات اعترفوا بصحتها ثم سألوه عمن ينزل عليه بالوحي فقال جبريل فقالوا إنه عدونا وإنه ينزل بالخسف والشدة وإنه حال دون قتل بختنصر فكان سببا في حياته وتخريبه هيكلنا. ولو كان غيره الذي يأتيك لتابعناك. ومنها أن محاورة جرت بين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وفريق من اليهود قالوا له فيما قالوا إن جبريل عدونا وينزل بالخسف والحرب وإن ميكال سلمنا وينزل بالخصب. وأن جبريل وميكال عدوان لبعضهما وأن أولهما يقف إلى يمين الله وثانيهما إلى يساره فسفههما قائلا كيف يكونان عدوين وهما المقربان من الله، ثم نقل خبر المحاورة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآيتان.
وهناك حديث عن أنس بن مالك رواه البخاري جاء فيه «1» : «إنّ عبد الله بن سلام سمع بقدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاه فقال له: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال: أخبرني بهنّ جبريل آنفا، قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ثم قال له: أمّا أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاء اليهود فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا رسول الله، فقالوا:
شرّنا وابن شرّنا وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله» .
__________
(1) التاج ج 4 ص 36- 37.(6/201)
ويلحظ أن الآية الثانية قرنت جبريل وميكال معا في معرض إعلان عداء الله للذين يعادونهما في حين أن الروايات تذكر أن اليهود قالوا إن جبريل عدونا وميكال سلمنا وأن الحديث لم يذكر ميكال.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيتين وورودهما في سياق جملة طويلة على اليهود واختصاص جبريل وميكال بالذكر يلهم أنهما نزلتا بسبب محاورة جرت بشأنهما مع اليهود وأن هؤلاء أعلنوا عداءهم لهما أو لأحدهما فردت الآيتان عليهم كأنما تقولان: إذا كانوا أعداء لجبريل فليموتوا بغيظهم فهو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه هو وميكال صاحبا حظوة عند الله وأن معاداتهما هي كمعاداة الله وكفر به ومجلبة لعدائه.
وواضح من هذا أن الآيتين جزء من السلسلة والمتبادر أن الحادث وقع في أثناء نزول السلسلة وبعد نزول حلقاتها الأولى فتضمنت الآيات الرد عليهم والله أعلم.
هذا، وأسلوب الآية الأولى أسلوب توكيد وتطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين كما هو المتبادر منه. وهذه أول مرة يرد فيها ذكر جبريل بصراحة، وأنه هو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم. أما قبل ذلك فقد ورد بتعبير الروح الأمين في سورة الشعراء والروح القدس في سورة النحل. وجبريل لفظ معدول أو معرب عن جبرائيل المؤلفة من مقطعين (جبرا) و (ايل) والمقطع الثاني يعني الله في اللغات العربية القديمة. وفي تفسير الطبري ما يفيد أن هذا كان مفهوما كذلك عند أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم. وهكذا يكون معنى الاسم جبر الله أو قوة الله وقد ورد ذكره في الأناجيل بوصفه ملك الله الذي بشر زكريا بابنه يحيى «1» .
وأسلوب ذكره هنا يشعر بعظم مقامه عند الله وهذا ما يشعر به أسلوب ذكره للمرة الثانية في آية سورة التحريم التي نزلت في ظروف أزمة وقعت بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ونسائه وهي: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ
__________
(1) انظر الإصحاح الأول من إنجيل لوقا.(6/202)
وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) . ولقد ورد ذكر نزول الروح والملائكة ليلة القدر في سورة القدر. وأوردنا في سياق ذلك ما رواه المفسرون عن أهل التأويل من تأويل الروح بجبريل، واستنتجنا من ذلك أنه عظيم الملائكة. وقد ورد في نفس المعنى في آيات المعارج [4] والنبأ [38] . وهناك أحاديث عديدة تذكر أن جبريل هو الذي كان ينزل عادة بالقرآن وبأوامر الله على النبي. وقد أوردنا بعضها في مناسبات سابقة.
وميكال أيضا يذكر هنا للمرة الأولى والوحيدة، وهو أيضا معرب أو معدول عن ميكائيل. وقد ورد اسمه في حديث نبوي رواه أبو سعيد الخدري جاء فيه: «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السّماء ووزيران من أهل الأرض فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» «1» .
والمرجح وهو ما تعضده الروايات أن اسمي جبريل وميكال كانا يذكران في الأوساط الكتابية اليهودية والنصرانية وأن العرب قد عرفوهما بوصفهما من كبار ملائكة الله المقربين عن طريق هذه الأوساط قبل نزول القرآن، وقد عربوا اسميهما في صيغة عربية قبل ذلك أيضا على ما هو المتبادر.
وتعبير نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ قد ورد في آيات سورة الشعراء هذه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) وعلقنا على مدى هذا التعبير في سياق تفسير هذه الآيات بما يغني عن التكرار هنا بمناسبة ورود مثل هذا التعبير في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما، هذا بالإضافة إلى شرحنا لمدى الوحي الرباني الذي كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في سياق سورة القيامة.
ولقد أورد المفسران ابن كثير والقاسمي في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية، ومما أورده الأول حديث عزاه إلى صحيح البخاري عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب» ، ومما أورده الثاني حديث عزاه كذلك إلى البخاري عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله
__________
(1) التاج، ج 3 ص 281.(6/203)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
يقول من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله بتردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» «1» .
والمتبادر أن المفسرين أوردا ما أورداه في مناسبة ما جاء في الآية الثانية من إيذان الله بأن من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين الذين يكون منهم من يعاديه ويعادي رسله وملائكته. وفيها إيذان بمثل ما في الآية. أما بقية الحديث الثاني فمن الحكمة الملموحة فيها تطمين المؤمنين المخلصين وتبشيرهم وحثّ على الإخلاص لله تعالى والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 101]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)
. (1) نبذ: رمى ورفض ونقض وترك.
تعليق على الحلقة الثامنة من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة في اليهود
في الآية الأولى تقرير وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن الله أنزل إليه آيات القرآن بينات واضحات وأن الفاسقين المتمردين على الله الذين خبثت نياتهم
__________
(1) هذا الحديث ورد في التاج برواية البخاري والإمام أحمد ج 5 ص 188 و 189 ونرجح أن الحديث الأول هو جزء ملتبس من الحديث الثاني والله أعلم.(6/204)
وأخلاقهم هم فقط الذين يكفرون بها لأن فيها من الهدى والحق والوضوح ما لا يمكن أن يكابر فيه ذو نية حسنة ورغبة صادقة.
وفي الآية الثانية سؤال تنديدي يتضمن التقرير بأنهم كلما عاهدوا عهدا نقضه فريق منهم وتجاهله، بل إن ذلك دأب أكثرهم لأن إيمانهم بالله ضعيف واه فلا يبالون بنقض ما عاهدوا عليه باسمه.
وفي الآية الثالثة تقرير إخباري بأنهم لما جاءهم من عند الله رسول مصدق لما معهم تجاهل فريق من أهل الكتاب كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون من حقائقه شيئا.
وجملة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ تحتمل أن يكون الكتاب الذي نبذوه هو القرآن كما تحتمل أن يكون كتاب أهل الكتاب الذي يأمرهم بما جاءهم به الرسول مصدقا لما معهم أو الذي يعرفون منه صفات هذا الرسول وخبر رسالته وهم مأمورون فيه باتباعه. والاحتمال الثاني هو الأوجه حيث تستحكم به الحجة عليهم وهو ما رجحه غير واحد من المفسرين «1» .
وجمهور المفسرين متفقون على أن ضمائر الجمع الغائب في الآيتين الثانية والثالثة عائدة لليهود وبسبيل حكاية موقفهم من رسالة النبي والقرآن.
فالآيات والحالة هذه حلقة ثامنة من السلسلة، وفحواها الذي يماثل إجمالا ما وصف به اليهود ومواقفهم في الآيات السابقة يؤيد ذلك.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن ابن صوريا الحبر اليهودي قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتبعك بها فأنزل الله الآية [99] «والرواية ليست واردة في كتب الصحاح. والآية منسجمة في السياق بحيث يسوغ الترجيح بأنها لم تنزل لحدتها في مناسبة قول اليهودي.
ويتبادر لنا أنها بمثابة تمهيد لما احتوته الآيات التالية لها ولدمغهم بالفسق لأنه لا
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري والطبرسي والبغوي. [.....](6/205)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
يقف المواقف المذكورة بها إلّا الفاسقون. وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما روته الرواية عن موقف من مواقف حجاجهم ولجاجهم.
ومما أورده المفسرون في صدد العهد الذي نبذه فريق من اليهود المذكور في الآية الثانية أنه العهد الذي أعطوه لله تعالى بأن يعملوا ما في التوراة ومن جملة ذلك اتباع كل نبي يدعوهم إلى الله وشرائعه ومن جملتهم النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يجدونه مكتوبا عندهم على ما جاء تقريره في الآية [157] من سورة الأعراف، وقد رووا أنهم قالوا للنبي حينما ذكرهم بهذا العهد: إن الله لم يعهد إلينا فيك شيئا ولم يأخذ لك علينا عهدا.
وهذا وجيه ومتسق مع التقريرات القرآنية فيما هو المتبادر.
ومن المحتمل أن تكون الآية الثانية بسبيل ربط غابر اليهود بحاضرهم حيث أرادت القول إن في كل وقت يأخذ الله عهدا على بني إسرائيل أو يعاهدون فيه الله على عهد ينبذه فريق منهم وإن هذا كان شأنهم في الغابر وهو شأنهم اليوم.
وفي حالة صحة هذا الاحتمال كما نرجو تكون كلمة فريق في الآية بالنسبة للحاضرين شاملة لجميع اليهود. ولسنا نرى ورود كلمة (فريق) في الآية الثالثة ناقضا لهذا الاحتمال على ضوء التقريرات القرآنية التي مرت والتي تنسب الكفر والجحود إلى عامة بني إسرائيل الحاضرين. على أن من المحتمل أنه أريد بذلك استثناء الذين آمنوا وصدقوا منهم على ما ذكرناه وأوردنا الآيات الدالة عليه في نبذة سابقة عقدناها على أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية. وجملة: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ في الآية الثانية على كل حال تفيد أن النابذين هم الأكثر.
[سورة البقرة (2) : الآيات 102 الى 103]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
.(6/206)
(1) ما تتلو الشياطين على ملك سليمان: ما كانت تتلوه في عهد ملك سليمان.
(2) وما أنزل على الملكين: ما ألهموه وما تلقوه.
(3) بابل: اسم مدينة كانت عاصمة ملك الكلدانيين في العراق الذين كان منهم الملك نبوخذ نصر المشهور باسم بختنصر الذي نسف دولة اليهود في القدس ودمرها وسبى أهلها.
(4) خلاق: نصيب وحظ.
(5) شروا به أنفسهم: باعوا به أنفسهم.
(6) لمثوبة: الجملة بمعنى أنهم لو آمنوا واتقوا لكان ثواب ذلك من عند الله هو خير لهم.
تعليق على آية وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ... والآية التالية لها وهما الحلقة التاسعة من السلسلة واستطراد إلى هاروت وماروت والسحر وحقيقته وحكمه
جمهور المفسرين على أن ضمير وَاتَّبَعُوا عائد لليهود والآيتان معطوفتان على ما قبلهما الذي فيه تنديد بأفعال اليهود وأقوالهم مما فيه تأييد لذلك. وهكذا تكون الآيتان حلقة تاسعة من السلسلة. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل في(6/207)
نزول الآية الأولى روايات عديدة منها أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السحر وجادلوه وزعموا أن كتب السحر مروية عن سليمان. ومنها أنهم لما سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر أن سليمان من أنبياء الله تعجبوا وأنكروا وقالوا ما كان سليمان إلا ساحرا وأنه كان يضبط الإنس والجن والريح. والروايات طويلة، وما تقدم خلاصة لها وليس شيء من الروايات واردا في كتب الصحاح، ويلحظ أن الآية الأولى لم تقتصر على نسبة السحر إلى سليمان وأن الآية الثانية منسجمة مع الأولى وأن الآيتين بسبيل التنديد باليهود لأنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين من السحر ونسبوه إلى سليمان، واتبعوا كذلك أعمال السحر التي يعلمها هاروت وماروت. وهذا ما يجعلنا نتوقف في الروايات كسبب لنزول الآية ونرجح أن الآيتين استمرار في حكاية أفعال اليهود وانحرافاتهم والتنديد بهم، ويجوز أن تكونا نزلتا لحدتهما كحلقة جديدة، ويجوز أن تكونا نزلتا مع الآيات السابقة ونحن نرجح هذا وقد تضمنت الآيتان تقرير كون اليهود لم يقفوا عند نقض كل عهد، وعند نبذ كتاب الله وجحود رسالة رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء مصدقا لما معهم مع معرفتهم صدقه، بل اتبعوا ما كانت الشياطين يتلونه منذ عهد سليمان وأقوالهم وأفعالهم المأثورة التي كانوا يعلمون بها السحر. ونسبوا ذلك إلى سليمان كذبا فنسبوا بذلك إليه الكفر لأن أعمال السحر من الكفر. واتبعوا كذلك ما يتلو الملكان هاروت وماروت في بابل اللذان كانا يعلمان الناس السحر أيضا واللذان كانا مع ذلك لا يعلمان أحدا إلا بعد أن يقولا له إننا أو إن ما نعلمه فتنة وامتحان ويحذراه من الكفر ثم يتعلم منهما بعض الأعمال السحرية التي منها ما يفرق بين المرء وزوجه والتي تضرّ المتعلمين ولا تنفعهم والتي لا تضرّ مع ذلك أحدا إلا بإذن الله.
فاليهود اتبعوا ما يتلو الشياطين وهاروت وماروت وهم يعلمون أن الذي يسير في مثل هذه الطرق والأساليب مستحق لخزي الله وعذابه ومحروم من رضائه في الآخرة. ولبئس ما باعوا به أنفسهم. في حين أنهم لو آمنوا وصدقوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأيدوا الحق واتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم لكان ذلك خيرا ووسيلة قربى وثواب لهم عند الله.(6/208)
والآيتان قويتا التعبير والتنديد وقد رجحنا أنهما في صدد اليهود السامعين المعاصرين. وينطوي فيهما والحالة هذه أن من هؤلاء من كان يتعاطى السحر ويعزوه إلى سليمان وهاروت وماروت. ولقد أوردنا في تفسير سورة العلق حديثا ذكر فيه اسم ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم مما فيه تأييد لذلك.
ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة طه نصوصا من أسفار العهد القديم فيها حكاية عن الله في شجب السحر والعرافة والنهي عنهما ورجم من يتعاطاهما وبهذا يستحكم التنديد الذي تضمنته الآيات باليهود.
وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة معزوة إلى ابن عباس وغيره في صدد السحر الذي كان ينسبه اليهود إلى سليمان متفقة المدى على اختلاف في الصيغ خلاصتها أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويوحون بما يسمعونه إلى الكهان ويزيدون عليه أكاذيب كثيرة وأنهم كانوا يعلمونهم السحر أيضا. وأن الكهان كتبوا ذلك وفشا في الناس حتى علم به سليمان فصادر هذه الكتب ودفنها تحت عرشه وأنذر كل من يتعاطى السحر ويزعم أن الشياطين يعلمون الغيب بالقتل. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى الكهنة فقال لهم إني أريد أن أدلكم على كنز لا ينفد، فإن سليمان إنما كان يضبط الناس والجن والريح والطير والوحوش بالسحر. وإن كتب سحره مدفونة تحت عرشه فحفروا فوجدوها وصاروا يتداولونها ويتعاطون السحر على أن ذلك من صنع سليمان وظلوا على ذلك إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومهما كان من أمر هذه الروايات فإن الآية الأولى قد تضمنت حكاية ما كان من تعاطي اليهود السحر ونسبته إلى سليمان. وإن المتبادر أن ذلك مما كان متداولا في أوساط بني إسرائيل ومما كان يسمعه العرب أو بعضهم منهم وفي صدد هاروت وماروت نقول إن في تفسير الطبري وغيره أحاديث وروايات وبيانات كثيرة في ذلك. من ذلك أن اليهود كانوا يزعمون بالإضافة إلى زعمهم أن سليمان كان(6/209)
يعلم السحر ويعلمه أن جبريل وميكال أيضا كانا يعلمانه. وهناك من قرأ لام الملكين بالكسر وقال إن اليهود عزوا السحر إلى داود أيضا حيث يكون الملكان هما داود وسليمان، وأن العبارة القرآنية بسبيل نفي السحر وتعليمه عنهما أو عن الملكين جبريل وميكال ونسبة السحر وتعلمه إلى رجلين من البشر كانا في بابل وهما هاروت وماروت ومن ذلك أن نعت هاروت وماروت بالملكين هو على سبيل التشبه لأنهما كانا يظهران الصلاح ويعلمان الناس السحر بعد تحذيرهم فشبهوهما بالملائكة أو لأنهما كانا صاحبي سمات ووقار فشبهوهما بالملوك على اختلاف قراءة اللام بالفتح أو الكسر.
وإلى هذا فهناك أحاديث عديدة مختلفة الصيغ والطرق متفقة المدى معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء في صيغة يرويها الإمام أحمد عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ آدم عليه السلام لمّا أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي ربّ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) . قالوا ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله لهم: هلمّوا ملكين منكم حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا: ربّنا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومثّلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا: والله لا نشرك بالله شيئا أبدا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبيّ تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبيّ. فقالا:
لا والله لا نقتله أبدا. ثم ذهبت ورجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبيّ، فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا أبيتماه عليّ إلّا قد فعلتماه حين سكرتما.
فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا» . وعقب ابن كثير على هذا الحديث الذي نقلناه عنه بقوله: هكذا رواه أبن أبي حاتم وابن حبّان في صحيحه.
وهو حديث صحيح كل رجاله ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير، وأورد ابن كثير صيغة أخرى فيها نوع العذاب وهو أن الملكين جعلا في بكرات من(6/210)
حديد في قليب مملوءة نارا. وهناك رواية تذكر أن الذي أمر بحبسهما وعذابهما في بابل هو سليمان. وبعض الصيغ أن الملائكة لما اعترضوا قال لهم الله إنه ركّب في بني آدم الشهوات فيها يقعون في الآثام فقالوا لو ركّبتها فينا لما وقعنا فيها فركّبها في اثنين منهما هما هاروت وماروت وأهبطهما إلى الأرض فأثما مع المرأة وارتكبا الآثام الأخرى.
وهناك حديث طويل يرويه ابن كثير عن عائشة جاء فيه: أن امرأة من أهل دومة الجندل جاءت إليها عقب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانت تريد أن تقصّ عليه أمرها وتستعتبه. فقصّته عليها وهي تبكي خائفة أن تكون أثمت وخلاصته أن زوجها غاب عنها فذهبت إلى عجوز ساحرة لتعيده إليها فأركبتها كلبا أسود وركبت مثله فلم تلبثا أن وصلتا إلى بابل ورأتا هاروت وماروت معلّقين من أرجلهما وطلبت منهما أن يعلّماها السحر فقالا لها إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي فأبت وظلّت تلحّ عليهما حتى علّماها بعض أعمال السحر حيث جعلاها تبذر حبا فينضج فتحصده فتطحنه فتخبزه في يوم واحد.
وليس شيء من هذه الأحاديث والروايات التي اكتفينا بما أوردناه منها- لأنها متماثلة- واردا في الصحاح وفيها ما هو ظاهر من الغرائب التي توجب التحفظ والتوقف. والصيغ الأولى لا تنطبق على فحوى الآية حيث لا تذكر تعليم هاروت وماروت السحر للناس والتلفيق في الصيغة الأخيرة واضح. ولقد أورد ابن كثير الذي لخصنا عنه الروايات قولا عن سالم بن عبد الله بن عمر جاء فيه أن المروي عن أبيه ليس مرويا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما هو مروي عن كعب الأحبار. ثم قال وسالم أثبت عن أبيه من نافع عن مولاه. وقال المفسر القاسمي عن جميع الروايات إنها من قصص القصاصين واختلاق اليهود. وأورد هذا المفسر أقوالا للرازي وابن حزم وأبي مسلم فيها تفنيدات قوية في بطلان صحة نسبة السحر وتعليمه إلى الملائكة نقلا وموضوعا. وكلام السيد رشيد رضا في الموضوع في تفسيره متطابق إجمالا مع ذلك. ومهما يكن من أمر فالآيتان هما بسبيل حكاية ما كان يتعاطاه اليهود من أعمال السحر ومزاعمهم وتكذيب لهم والتنديد بهم. وما جاء عن هاروت وماروت(6/211)
جاء استطرادا، وما دام أنه ليس في ذلك أثر نبوي صحيح فالأولى الوقوف عند ما وقف عنده القرآن وعدم الأبوه للأخبار غير الوثيقة التي فيها ما فيها من غرائب، وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها وبخاصة هاروت وماروت كان مما يتداول عند سامعي القرآن من عرب ويهود فاقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكرهما على سبيل تدعيم التنديد باليهود الذين يتبعون ما عرف عنهما من أعمال السحر.
والمتبادر أن الاسمين معربان عن لفظين أعجميين ونعتقد أنهما معربان بصيغتهما قبل نزول القرآن وفي هذا توثيق لما قلناه من أن خبرهما لم يكن مجهولا والله تعالى أعلم.
والآيتان وإن كانتا في صدد اليهود وآثامهم ومواقفهم فإنهما تنطويان على تلقين مستمر المدى شأن الفصول السابقة والقصص القرآنية عامة. ومن هذا التلقين أنه لا يجوز للمؤمنين أن يعتقدوا أن السحر يضرّ أحدا بغير إذن الله، وأن الذين يتعاطونه آثمون عند الله ولن يكون لهم حظ ونجاة في الآخرة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين بعض الأحاديث المتساوقة مع هذا التلقين منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه: «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر» وحديث رواه الإمام أحمد عن جندب الأزدي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّ الساحر ضربة السّيف» وحديث رواه البخاري عن بجيلة قال: «كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كلّ ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر» . وهناك حديث رواه الخمسة ذكر السحر فيه بعد الشرك من جملة الموبقات السبع التي نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها حيث روي أن النبي قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» «1» .
وقد يكون من الحكمة في ما احتوته الآيتان والأحاديث أن الناس إذ يرجعون إلى السحرة لتحقيق مطالب ليست في نطاق الجهد الإنساني العادي، وإذ يتعاطى
__________
(1) التاج ج 4 ص 81.(6/212)
السحرة السحر بزعم أنهم قادرون على تحقيق تلك المطالب يكون الأولون قد انصرفوا في مطالبهم عن الله عز وجل الذي هو وحده القادر على تحقيق تلك المطالب والذي لا يجوز لمؤمن أن يرجع في تحقيقها إلى غيره ويكون ذلك منهم في معنى الشرك بالله ودعاء غيره. ويكون الآخرون قد ارتكسوا في ما فيه الكذب والتدجيل والضرر الخلقي والحسي والتشجيع على ذلك للانصراف عن الله عز وجل ودعاء غيره.
وفي كتب التفسير وبخاصة ابن كثير استطراد مسهب في السحر وأنواعه وصوره وحقيقته وأثره وحكمه وأقوال المذاهب الإسلامية فيه. والمستفاد منها «1» :
أولا: إن حقيقة السحر وأثره من المسائل الخلافية في المذاهب الإسلامية حيث يذهب المعتزلة والشيعة إلى أنه لا حقيقة له، وكونه تخييلا وتمويها وشعوذة، وحيث يذهب أهل السنة إلى أن له حقيقة وأثرا ولكن أثره لا يكون إلا بإذن الله، وكلا الفريقين يستند إلى النصوص القرآنية. وقد نبه ابن كثير على أن أبا حنيفة يذهب المذهب الأول ويقول إنه لا حقيقة للسحر.
وليس في القرآن نصّ صريح بحقيقته وأثره إلا جملة: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وليس هناك أحاديث صحيحة في حقيقة السحر وأثره إلّا الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في حادث سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الفلق. ولقد قرأنا لابن كثير تخريجا للنصّ القرآني المذكور آنفا يقول فيه إن الساحر يخيل لزوج من الزوجين سوء منظر الزوج الثاني وسوء خلقه فيؤدي ذلك إلى الفراق. ولا يخلو هذا من وجاهة فيما نرى، ويتسق مع مذهب أبي حنيفة والمعتزلة والشيعة. ولقد علقنا على حديث حادث سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما فيه وضع الأمر في نصابه المتبادر لنا إن شاء الله بما يغني عن التكرار.
وثانيا: إن حكم السحر مختلف فيه حيث ذهب بعضهم إلى أن تعلم السحر لذاته غير محظور شرعا إذا كان لأجل اتقاء أذاه ولم يعمل به، وحيث ذهب بعضهم
__________
(1) انظر أيضا تفسيري الزمخشري والطبرسي ففيهما مشاركة لما في تفسير ابن كثير.(6/213)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
إلى أن ذلك محرّم شرعا وأن الاعتقاد بحلّه كفر.
وفحوى الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث التي أوردناها في جانب الرأي الثاني فيما يتبادر لنا.
وثالثا: إن معظم أئمة المذاهب متفقون على كفر الساحر المسلم ووجوب قتله إذا لم يتب دون الساحر الكافر إلا إذا أدى سحره إلى قتل نفس، وأنهم متفقون كذلك على تكفير من يراجع السحرة ويطلب منهم تحقيق مطلبه ولم يقل أحد بقتله.
والظاهر أن الذين ذهبوا إلى قتل الساحر قد أخذوا بحديث الإمام أحمد الذي أوردناه قبل. أما كفر من يراجع الساحر فليس فيه نصّ صريح قرآني أو نبوي ويكون والحالة هذه منوطا باستحلال ذلك إلا أن يكون القائلون قذ قاسوا هذا على حالة من يراجع عرّافا أو كاهنا حيث روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديثا جاء فيه: «من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد» «1» . وقد يكون القياس وجيها، ولقد أورد مؤلف التاج صيغة أخرى لهذا الحديث رواها الإمام أحمد جاء فيها: «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» «2» وواضح أن هذا النص يتناقض مع نص الكفر الوارد في الصيغة الأولى، ويظهر أن الذين قالوا بالكفر لم يأخذوا به، والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 110]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) .
__________
(1) التاج ج 3 ص 201.
(2) التاج ج 3 ص 201.(6/214)
(1) راعنا: ارعنا سمعك أو راقبنا وهي من الرعاية أو المراعاة.
(2) انظرنا: انظر إلينا.
(3) ننسها: قيل إنها من النسيان، بمعنى نجعل حافظها أو ذاكرها ينسى.
وقيل إنها من الإنساء وهو التعليق والتأجيل، وقرئت ننسئها وننسأها وننسكها أيضا: أي ننسيك إياها.
تعليق على الحلقة العاشرة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون «1» في صدد الآية الأولى أي [104] ولفظ (راعنا) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والخازن.(6/215)
معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو (الرعونة) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلّى الله عليه وسلّم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ (راعنا) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) . ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأضربنّ عنقه. فقالوا له:
ألستم أنتم تقولونها له؟.
وقد روى المفسّرون «1» في صدد الآية الثالثة أي الآية [106] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلّى الله عليه وسلّم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم: إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه وأن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية ردا عليهم حيث تضمنت تقريرا ربانيا بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل حكما ويبدله بآخر أو ينسي أحدا آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعا لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلا للاستغراب ولا مجالا للدس، والسامع يعلم أو النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والنسفي والقاسمي.(6/216)
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالا للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديدا. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [142- 150] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية «1» .
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [108] موجهة إلى اليهود لأنهم طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء «2» وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا «3» . وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحدا منهم
__________
(1) انظر الإتقان للسيوطي ج 2 ص 22، وانظر أيضا تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير فهما يذكران أن تبديل سمت القبلة من النسخ. ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله: «كان أول ما نسخ القرآن القبلة» .
(2) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. والجواب المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم منقول من تفسير الطبري برواية أبي العالية.
(3) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. والجواب المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم منقول من تفسير الطبري برواية أبي العالية.(6/217)
قال: يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة. وقد أعطاكم وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
النساء: [110] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلّا هالك» فأنزل الله الآية [2] .
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)
فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
هي في سورة النساء المتأخرة كثيرا في النزول عن ظروف نزول هذه الآية وهذا فضلا عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماما على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذارا لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [109] نزلت في حيي بن أخطب(6/218)
وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسدا للعرب واجتهادا في ردّ الناس عن الإسلام.
والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصرا على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان باديا منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [105 و 109] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين دينا هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفا قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [104] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام.
وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي.
وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعوته.(6/219)
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [109] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذارا لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة آل عمران والأنفال والأحزاب والفتح والحشر، وقد لحظ المفسرون هذا ونبهوا عليه بدورهم.
والمتبادر أن ما جاء في الآية [110] قد أريد به تلقين المسلمين عدم الاهتمام والاغتمام بدسائس اليهود ومكائدهم، فعليهم أن يقوموا بواجباتهم نحو الله والناس فهو المطلوب منهم وسيكون ما يقدمونه بين أيديهم من خير عدة لهم في الآخرة.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن فيها تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى مثل سابقاتها بالإضافة إلى ما نبهنا عليه سواء أفي تعليمها أدب الكلام والاستماع، أم في تحذيرها من الألفاظ التي تحدث امتعاضا ولو لم يكن مقصودا أم في الشك بعد الإيمان وإثارة المواضيع التي لا طائل من ورائها أو يكون من ورائها تشويش وبلبلة. أم في الاستماع لوساوس ذوي النوايا الخبيثة الذين يصدرون عن حقد وحسد ومكابرة في الحق ولا يطيب لهم إلا الكيد والدس وإثارة الشبهات وإضعاف القلوب والعزائم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [108] بعض الأحاديث المتساوقة معها مدى وتلقينا. من ذلك حديث رواه مسلم جاء فيه: «إنّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» «1» . وحديث رواه الشيخان عن
__________
(1) أورد هذا الحديث مؤلف التاج ج 4 ص 95.(6/220)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
المغيرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» «1» .
وحديث رواه الشيخان والترمذي جاء فيه: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «2» . وحديث روي عن أنس بن مالك قال: «نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع» .
ونرى محلا للتعليق على الأحاديث والآية التي تساق الأحاديث في سياقها، فالذي يتبادر لنا من الآية أن المنكر من السؤال هو ما فيه تمحّل وتكلف وتشكيك وتعجيز وتنطع. وليس له ضرورة من حاجة ومصلحة وعلم ودين. ويلمح هذا من الأحاديث الثلاثة الأولى. وحديث أنس إن صح وابن كثير لا يذكر سندا ومسندا له فيكون زيادة في الورع وخشية من الوقوع في نطاق ما أنكره الله على المسلمين.
وبناء على ما تقدم فإن السؤال عن ما في كتاب الله وسنة رسوله من أحكام وعلم في مختلف الأمور ولا يكون فيه تمحل وتكلف وتعجيز وابتغاء فتنة ويكون فيه مصلحة عامة وخاصة مباحة لا يمكن أن يدخل في ما نهى الله ورسوله عنه. وهناك آيات كثيرة أنزلها الله وأحاديث كثيرة صدرت عن رسول الله بناء على أسئلة واستفتاءات دون أن يرافقها لوم وتثريب وإنكار مما فيه تأييد لهذه النقطة التي تبدو من تحصيل الحاصل وفي السور التي سبق تفسيرها أمثلة كثيرة، وفي السور الآتية أمثلة كثيرة أيضا. وفي كتب الحديث أمثلة كثيرة. وقد أوردنا كثيرا من ذلك في السور السابقة وسنورد كثيرا منها في السور الآتية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) .
__________
(1) هذا الحديث لم يورده مؤلف التاج.
(2) أورد مؤلف التاج هذا الحديث ج 2 ص 100.(6/221)
(1) أمانيهم: تمنياتهم أو ظنونهم وأوهامهم.
تعليق على آية وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ... إلخ وما بعدها إلى الآية [113] وهي الحلقة الحادية عشرة من السلسلة
في الآيات:
(1) حكاية لقول كل من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلّا أبناء ملتهم.
(2) وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتحديهم وطلب البرهان على صدق قولهم بأسلوب يقرر عجزهم عن ذلك.
(3) وتقرير بأن هذا القول من قبيل الظن والتمني وهوى النفس.
(4) ووضع للأمر في نصابه الصحيح: فالذين يحوزون رضاء الله ويستحقون الأجر والثواب عنده ولا يكون عليهم خوف ولا حزن هم الذين يسلمون أنفسهم إليه فيؤمنون به وحده ويخضعون لأوامره ويتقونه ويحسنون فيما يفعلون.
(5) وحكاية لما كان يقوله كل من اليهود والنصارى في حق بعضهم حيث كان اليهود يعتبرون أنفسهم هم المهتدون وينكرون أن يكون النصارى على شيء من الحق، وحيث كان هؤلاء يقفون من اليهود نفس الموقف، وتنديد بالفريقين معا فأقوالهم كأقوال الجاهلين الذين يتخبطون في الظلام وليس عندهم شيء من العلم في حين أن بين أيديهم كتاب الله يتلونه، وأن المفروض أنهم يعرفون حقائق الأمور وليس من اللائق أن يصدر ذلك الكلام عنهم.
(6) وتعقيب على ذلك يتضمن تقرير كون الله سوف يحكم يوم القيامة فيما يختلف فيه الفريقان فيؤيد الحق وأصحابه ويخذل الباطل وأصحابه.(6/222)
وقد روى المفسرون «1» أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران إلى المدينة للقاء النبي ومناظرته، وأن فريقا من أحبار اليهود شهدوا مجلس المناظرة وقال الفريقان فيه في حقّ بعضهم ما ذكرته الآية. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح.
ولم يذكر المفسرون شيئا عن مناسبة الآية الأولى. وقد تقتضي الرواية أن يكون ما حكته هذه الآية من جملة ما قاله كل من الفريقين في المجلس أيضا، لأنه من باب واحد وإن اختلفت الصيغة.
وننبه إلى أن سلسلة طويلة من سورة آل عمران حكت مجلس مناظرة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والنصارى، وروى المفسرون أنهم وفد نصارى نجران. وقد جاء فيها بعض آيات يمكن أن تفيد أن مجلسا ما شهده بعض اليهود مع وفد نجران على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير آيات آل عمران فلم يعد والحالة هذه محل لذكر مشاهد مناظرة نصارى نجران أو بعضها في هذه السورة ولا سيما أن قدوم هذا الوفد كان في أواسط العهد المدني. وكان اليهود قد أجلوا جميعهم تقريبا عن المدينة قبل ذلك. يضاف إلى هذا أن الآيات في مكانها وسياقها ومضمونها تبدو كأنها جزء من السلسلة الطويلة الواردة في السورة في حق اليهود في أوائل العهد المدني، واستمرار في حملة التنديد بدسائس اليهود ومواقفهم وأقوالهم.
لذلك نحن غير مطمئنين لما روي من صلة وفد نجران بهذا الموقف.
ونرجح أن الآيات هي في الدرجة الأولى في صدد مواقف اليهود وأقوالهم وأن ذكر النصارى فيها إما أن يكون بسبب قول مماثل صدر عن النصارى في موقف ما فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم استطرادا، وإما أن يكون حكاية حال صادقة وهذا ما نرجحه لأن الذين تمسكوا بنصرانيتهم لا بد من أنهم كانوا يظنون أنفسهم أنهم الناجون أصحاب الجنة وأن اليهود منحرفون عن شرائعهم وليسوا على شيء من
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير.(6/223)
الحق، وسياق الآيات الخاص باليهود ومواقفهم يرجح ما نقول فيما نرى ونرجو أن يكون هو الصواب.
والآية الثانية أي الآية [111] تحتوي تقرير المعنى الذي قررته الآية [62] كما شرحناها بشمول أوسع. فالدعوة النبوية القرآنية قائمة على الدعوة إلى الله وإسلام النفس إليه وحده والعمل الصالح الحسن. فاليهود والنصارى وغيرهم مدعوون إليها. فمن اعتنقها نال رضاء الله ونال أجره وأمن من الخوف والحزن، ويدخل في ذلك المؤمنون برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وعقيدة اليهود في النصارى، والنصارى في اليهود المحكية في الآية [110] كانت وما تزال واقعة ومشاهدة. وفيها تدعيم لقوة الرسالة المحمدية فكل منهما يسفّه الآخر ويراه على باطل وضلال. والناجي منهما هو الذي يسلم وجهه لله ويعمل الصالحات. وهذا حال الذين يستجيبون إلى تلك الرسالة وينضوون إليها لأنها تدعو إلى الحق وتبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. وتضع كل شيء في نصابه الحق وتحل الإشكالات التي يرتكس فيها كل من النصارى واليهود سواء أفي نظرة كل من الفريقين إلى عيسى (عليه السلام) - وفي إحداهما إفراط كبير وفي أخراهما بغي كبير- أم في مناقضة شرائع الله وكتبه وتحريفها والانحراف عنها وتغدو هي المنار الهادي والملاذ الواقي والطريق القويم الوسط الذي لا عوج فيه ولا تعقيد ولا انحراف ولا غلو ولا إفراط ولا بغي مصداقا لهذه الآية من هذه السورة: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً البقرة: [143] ولآية المائدة هذه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... [48] .
والتدعيم بهذا الشرح يبدو قويا رائعا كما هو واضح، وتزداد قوته وروعته حينما يذكر أن التوراة والإنجيل المنزلين من الله تعالى على موسى وعيسى (عليهما السلام) واللذين لم يصلا إلى عهدنا قد ذكرا صفة الرسول الأمين وأمرا أهلهما باتباعه كما جاء في آية سورة الأعراف [157] ، وأن عيسى (عليه السلام) بشّر بنبي(6/224)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
من بعده اسمه أحمد كما جاء في سورة الصف، مما يتضمن أمرا باتباعه بطبيعة الحال. ولقد جاء الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي قال فيه: «والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» حاسما في هذا الباب.
ولقد تعددت الأقوال المروية في المقصودين في جملة: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ حيث روى الطبري عن عطاء أنهم الأمم السابقة لليهود والنصارى والتوراة والإنجيل. وعن السدي أنهم مشركو العرب الذين كانوا يقولون إن محمدا ليس على شيء، وهذه الأقوال لم ترد في الصحاح وإن كانت مما تتحمله الجملة ونحن نرجح القول الثاني لأن روح الجملة قد تلهم أنها في صدد واقع حاضر.
وهذا لا ينقض بطبيعة الحال ما قلناه في الشرح من أن المراد بالجملة تقوية التنديد باليهود والنصارى بتشبيههم بالجاهلين الذين يلقون الكلام جزافا بدون علم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
. (1) سعى في خرابها: سعى في تعطيل الشعائر الدينية فيها.
الآية الأولى تضمنت تنديدا شديدا بمن يمنع الناس من ذكر الله في مساجده ويسعى في تعطيل إقامة شعائر الله فيها، مع أن أمثال هؤلاء ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين. وإنذارا لهم بما يستحقون من الخزي والهوان في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.(6/225)
والآية الثانية تضمنت تقرير كون المشرق والمغرب لله، وأن عابد الله والمتجه إليه يجده أينما ولّى وجهه، فالله سبحانه غير محصور في جهة دون أخرى وهو واسع الملك والحكم عليم بحقائق الأمور ومقتضياتها.
ومن المؤولين من أوّل جملة وَجْهُ اللَّهِ برضائه وتوجيهه ومنهم من أوّلها بذاته ومنهم من أوّلها بوجوده وكل من هذه التأويلات وارد ومن الواجب الوقوف عند ذلك دون تزيد على ما نبهنا عليه في مناسبة الآية [89] من سورة القصص التي ورد فيها كلمة وَجْهُ بمعنى وجه الله تعالى.
تعليق على آية وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ والآية التي بعدها وهما الحلقة الثانية عشرة من سلسلة بني إسرائيل
لقد تعددت الروايات والأقوال التي يرويها ويذكرها المفسرون في صدد كل من الآيتين، فمن ذلك في صدد أولاهما أنها للتنديد ببختنصر البابلي الذي هدم معبد بيت المقدس وبالنصارى والروم الذين ساعدوه على ذلك لحقدهم على اليهود الذين قتلوا يحيى بن زكريا (عليهما السلام) ، ومن ذلك أنها للتنديد بالنصارى الذين كانوا يطرحون الأذى في ذلك المعبد ويمنعون الناس عن الصلاة فيه، ومن ذلك أنها للتنديد بالروم الذين خربوا ذلك المعبد، ومن ذلك أنها للتنديد بالمشركين الذين صدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين عن المسجد الحرام يوم الحديبية «1» .
وفي بعض هذه الأقوال تهافت وغرابة وبعد مناسبة مثل مساعدة النصارى لبختنصر مع أن بختنصر سابق لميلاد المسيح وليحيى بن زكريا بستة قرون. ومثل طرح النصارى الأذى على المعبد ومنعهم من الصلاة فيه مع أن المعبد هدم وصار أطلالا في زمن الروم قبل أن يستطيع النصارى فعل شيء بل كانوا هم أيضا مضطهدين.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي. [.....](6/226)
ورواية كونها في صدد منع قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بعيدة أيضا لأن هذا كان في السنة السادسة وبعد التنكيل باليهود وإجلائهم عن المدينة. وهذه الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت فقط فيما كان اليهود لا يزالون موجودين في المدينة وعلى شيء من القوة والحيوية.
ومما أوردوه في صدد الآية الثانية أنها ردّ على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وقالوا إن محمدا قد ضيّع على المسلمين صلاتهم. ومن ذلك أنها نزلت في النجاشي حين توفي قبل أن يصلي إلى القبلة. ومنها أنها نزلت لتخيير المسلمين بتوجيه وجوههم في الصلاة أنى يريدون وأن ذلك كان قبل فرض التوجه نحو البيت الحرام. ومنها أنها نزلت في مناسبة صلاة بعض المسلمين في ليلة مظلمة دون تيقنهم من القبلة ومراجعتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك. ومعظم الروايات لم ترد في الصحاح. وهناك حديث رواه الترمذي عن عامر بن ربيعة قد يؤيد الرواية الأخيرة جاء فيه: «كنّا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلّى كلّ رجل منّا على حياله. فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1» . والحديث يقتضي أن تكون الآية نزلت منفردة مع أنها منسجمة مع سابقاتها ومع السلسلة. ويتبادر لنا من سياق السلسلة أن رواية كونها للردّ على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة عن المسجد الأقصى قوية الاحتمال والصحة. وأن ذلك يشمل الآية الأولى أيضا. وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد تنديدي وإنذاري للرد الذي احتوته الآية الثانية على اليهود وأن لهذا الرد صلة بالآية [106] من الحلقة التاسعة التي رجحنا أنها في صدد نسخ القبلة وتحويل سمتها عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.
ومما يدعم توجيهنا إن شاء الله كون الآيتين غير منفصلتين عن السلسلة الطويلة التي ما فتئت تذكر دسائس اليهود وتعطيلهم وجحودهم وتندد بهم. ثم الآيات [124- 129] الآتية بعد قليل والتي فيها تنويه بالكعبة وبنائها من قبل
__________
(1) التاج ج 1 ص 137.(6/227)
إبراهيم وإسماعيل بأمر الله لتكون مثابة للناس وأمنا ومكانا للطائفين والعاكفين والركع السجود مما ينطوي فيه تبرير لتحويل سمت القبلة إليها. ثم الآيات [141- 150] التي تذكر إنكار اليهود لتحويل القبلة وتشكيكهم المسلمين في صلواتهم وفي نبيهم. وقد قالوا لهم فيما قالوه إنه يأمرهم بشيء ثم يعدل عنه وهذا ليس من شأن الأنبياء وأن استقبال المسجد الأقصى إذا كان خطأ فيكون قد أضاع صلواتهم وإن كان صوابا فيكون في عدوله عنه إضاعة لصلواتهم أيضا «1» فجاءت الآيتان لتنددا باليهود لأنهم يمنعون الناس عن ذكر الله في مساجد الله ويسعون في خرابها والمسجد الحرام منها على اعتبار أن إهماله من المسلمين بالمرة بمثابة خرابه.
ولتطمئنا المسلمين بأن الله تعالى موجود في كل مكان وليس منحصرا في اتجاه بيت المقدس. وبأن الأمر في جوهره هو عبادة الله الموجود في كل مكان. والمتبادر إذا صح هذا كما نرجو أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية حينما أخبره عامر بما كان من أمرهم في الليل فالتبس الأمر عليه أو على الرواة وظنوا أنها نزلت جوابا على السؤال.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين «2» في جملة: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ فمن ذلك أن الذين يعطلون مساجد الله هم الأحرى ألا يدخلوها إلا خائفين من بطش المسلمين. ومن ذلك أن الأحرى بهم أن يدخلوها خائفين من هيبة الله فكيف يكونون مفسدين ومخربين لها وهذا هو ما اختاره السيد رشيد رضا، ونحن نراه الأوجه.
ومع خصوصية الآيات ففيها تلقينات سامية مستمرة المدى سواء في تقريرها حرية العبادة لله وأماكنها، وتنديدها بمن يحول دونها ويعتدي عليها بالتخريب والتعطيل أم في تقريرها سعة أفق الدين الإسلامي واهتمامه للجوهر دون العرض.
ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآية الثانية نسخت بالآية:
__________
(1) انظر تفسير آيات سورة البقرة [142- 150] في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(2) انظر المصدر نفسه.(6/228)
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [144] التي تأتي بعد قليل. وقد يكون هذا في محله من حيث الموضوعية. غير أن الآية قد جاءت في معرض الرد على دس اليهود وشغبهم ويظل مداها محتملا لسعة أفق الإسلام على ما ذكرناه آنفا فيما هو المتبادر والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» «1» . وروى عن ابن عمر حديثا فيه توضيح وإن لم يرد في الصحاح جاء فيه: «إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة» والحكمة الملموحة في الحديث الأول التوسيع على المسلمين وعدم المشقة عليهم في التحري والتدقيق. وتقرير كون الواجب عليهم هو الاتجاه نحو سمت الكعبة.
وهناك حديث رواه الخمسة عن جابر قال: «كان النبيّ يصلّي على راحلته حيث توجّهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة وفي رواية كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسبّح على الراحلة قبل أيّ وجه توجّه ويوتر عليها غير أنه لا يصلّي عليها المكتوبة» «2» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على راحلته تطوّعا أينما توجّهت به وهو جاء من مكة إلى المدينة ثم قرأ ابن عمر وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وقال أنزلت في هذا» «3» . وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» «4» . وفي الأحاديث توسيع على المسلمين في صلواتهم التطوعية التي يصلونها على ظهور رواحلهم مستمد من سعة الأفق المنطوي في الآية. ويصح أن يقاس عليه الصلوات التطوعية في البواخر والقطارات والطيارات كما هو المتبادر والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج ج 1 ص 136 وممن رووا الحديث مع الترمذي الحاكم والدارقطني.
(2) المصدر نفسه ص 137.
(3) التاج ج 4 ص 37.
(4) المصدر السابق نفسه.(6/229)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 119]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
. تعليق على الحلقة الثالثة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في الآيتين الأوليين: حكاية بأسلوب تنديدي لقول الذين يقولون إن الله اتخذ ولدا وتنزيه له عن ذلك. فهو الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما من العدم على هذا النظام البديع وهو الذي يخضع له كل ما فيهما. وهو الذي يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ومثل هذا الإله منزه ومستغن عن الولد والشريك والندّ.
وفي الآيتين الأخريين:
1- حكاية لاقتراح بعض الجاهلين أن يكلمهم الله أو تأتيهم منه آية بأسلوب فيه تحدّ وتعجيز.
2- وردّ تنديدي عليهم فهم في اقتراحهم وتعجيزهم كالذين من قبلهم وهذا مظهر من مظاهر تشابه القلوب والأخلاق.
3- وتنبيه إلى أن الله تعالى إنما أنزل آياته بينات لمن يريد أن يؤمن به ويرغب في الاهتداء إليه. وأن الله إنما أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم داعيا إلى الحقّ وبشيرا ونذيرا وحسب.
4- وتسلية للنبي فهو غير مسؤول عن إيمان الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم واستحقوا النار بوقوفهم موقف التعجيز والمكابرة.(6/230)
وقد تعددت أقوال وروايات المفسرين «1» في من عنته الآيات فقالوا إنهم النصارى، وقالوا إنهم اليهود، وقالوا إنهم المشركون. وكل من هؤلاء قد نسب الولد لله سبحانه وتعالى وفي سورة التوبة آية تحكي عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) أما دعوى المشركين والنصارى فقد حكتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد حكت آيات مكية ومدنية كثيرة تحدي المشركين واليهود النبي بالإتيان بالمعجزات ومنها ما هو من نوع ما ذكرته الآية الثانية «2» .
غير أن عطف الآيات على ما قبلها وكونها من سلسلة طويلة في حق بني إسرائيل وأفعالهم ومواقفهم يجعلنا نرجح أن اليهود هم المقصودون في الآيات.
ولعل جملة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قرينة على أن المقصود هم اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى أن يريهم الله جهرة تارة وأن يكلمهم الله تارة وأن يأتيهم بالآيات تارة على ما ذكرته بعض آيات السلسلة على سبيل التذكير والتنديد. وبهذا الذي نرجو أن يكون صوابا تكون هذه الآيات حلقة من سلسلة الآيات الواردة في يهود بني إسرائيل أيضا.
ولقد ورد أن وصف اليهود بجملة لا يَعْلَمُونَ فيه نظر، لأنهم كانوا يوصفون بأهل العلم وأهل الكتاب ووصفوا بذلك في القرآن. وقد أجاب القاسمي على هذا جوابا سديدا وهو أن الله تعالى نفى عنهم العلم بطلبهم ما طلبوا لأن ذلك لا يطلبه من عنده علم، وقد يصح أن يزاد على هذا أن النفي من قبل التبكيت والتنديد والله أعلم.
ولقد روى الطبري في صدد الآية الثالثة عن محمد بن كعب القرظي وابن
__________
(1) انظر تفسيرها في كتب التفسير السابقة الذكر.
(2) انظر آيات سورة آل عمران [183] والنساء [153] والأنعام [158] والنحل [33] والفرقان [21] .(6/231)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
جريج أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثا فأنزلها الله» . وقد فند الطبري الرواية وأول الجملة بتأويل مماثل لتأويلنا.
وهذه الجملة قد تكررت في مقامات عديدة نصا أو معنى ولا سيما في العهد المكي للهدف نفسه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة ويظهر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها في هذا المقام في صدد ما كان من شدة إنكار اليهود وجحودهم ودسائسهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمّا شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ ولدا» «1» . وفي الحديث تنديد رباني بالمشركين والجاحدين لليوم الآخر بأسلوب آخر غير الأسلوب القرآني الذي تكرر ذلك كثيرا لحكمة يعلمها الله ورسوله.
[سورة البقرة (2) : الآيات 120 الى 123]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
. تعليق على الحلقة الرابعة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في هذه السورة
وجّه الخطاب في الآية الأولى للنبي صلّى الله عليه وسلّم لتقرر له فيها بأن اليهود والنصارى
__________
(1) التاج ج 4 ص 37 و 38 فصل التفسير.(6/232)
لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ويسير على طريقتهم، ولتأمره بالرد عليهم بأن هدى الله الذي هداه إليه هو الهدى الصحيح ولتنبهه بأنه لو اتبع أهواءهم بعد ما جاءه من العلم الذي فيه الحق والهدى لتخلّى الله عن نصرته ولما وجد له من دونه وليا ولا نصيرا.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ممن آتاهم الله الكتاب. فهؤلاء هم الذين يعرفون الحق الذي فيه ويسيرون على هداه ولا يمارون فيه، أما الذين يكفرون بالحق والهدى منهم فإنهم الخاسرون.
وفي الآيتين الثالثة والرابعة خطاب إنذاري وتذكيري موجه إلى بني إسرائيل ليذكروا نعمة الله عليهم وما كان من تفضيله إياهم على الناس وليتقوا هول اليوم الآخر الذي لا تغني فيه نفس عن نفس، ولا يقبل فيه بدل ولا عدل، ولا تنفع فيه شفاعة ولا يكون لأحد نصر من أحد.
ولقد ذكر المفسرون في صدد الآية الأولى أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يطلبون من النبي صلّى الله عليه وسلّم المهادنة ويأملون أن يتبع ملتهم ويراودوه على ذلك ليؤمنوا به. ومما ذكروه كذلك أن كلا منهم كان يطلب منه الثبات على استقبال المسجد الأقصى لأنه قبلتهم حتى يؤمنوا برسالته فنزلت للرد عليهم وتحذير النبي صلّى الله عليه وسلّم من وساوسهم. ويتبادر لنا أن اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى في الآية وأن ذكر النصارى هو للتعبير عن لسان حال الذين تمسكوا بنصرانيتهم كما رجحنا ذلك بالنسبة للآية: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وأن اليهود قد اضطربوا وانفعلوا حينما تحول سمت القبلة عن قبلتهم إلى المسجد الحرام فحاولوا خداع النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إغراءه، والخطاب موجه لبني إسرائيل فقط في الآيتين الأخريين حيث يدعم هذا ترجيحنا كون اليهود هم الموضوع الرئيسي في السلسلة الطويلة وكون ذكر النصارى هو من باب الاستطراد.
ولقد روى المفسرون أربعة أقوال في من عنتهم الآية الثانية، منها قولان عن ابن عباس واحد يذكر أنهم جماعة من الأحباش آمنوا وقدموا المدينة مع جعفر بن(6/233)
أبي طالب حين رجع من الهجرة الأولى، وواحد يذكر أنهم جماعة من الروم فيهم بحيرا الراهب، وقول عن الضحاك أنهم الذين آمنوا من اليهود مثل عبد الله بن سلام. وقول عن عكرمة أنهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. ورواية الحبشة بعيدة لأن جعفر رجع بعد صلح الحديبية وإجلاء اليهود عن المدينة والآيات تفيد أنهم كانوا ما يزالون فيها. وجماعة النصارى ورد فيها آيات في سورة المائدة، ونعت الجماعة بالذين آتيناهم الكتاب يجعل صرفها إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير سائغ. والسياق في اليهود بحيث يسوغ الترجيح بكونهم من اليهود الذين آمنوا. وفي سورة النساء آية صريحة بأن بعض الراسخين في العلم من اليهود آمنوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهي الآية [162] .
ولقد اختلف المفسرون في عائدية ضمير الغائب في بِهِ في الآية الثانية.
فمنهم من قال إنه عائد إلى القرآن ومنهم من قال إنه عائد إلى كتب أهل الكتاب.
والمقام يتحمل هذا وذاك ونحن نرجح القول الأول الذي عبر عنه بكلمة الْعِلْمِ في الآية الأولى. فتكون الآية الثانية بذلك مع ظرفية نزولها قد انطوت على تقرير عام مستمر المدى بأن كل من يتلو كتب الله حق تلاوتها وتفهمها حق الفهم من أهل الكتاب لا بد من أن يؤمن برسالة محمد وبما أنزله الله عليه. وهذا تقرير صادق دامغ، ولقد أخبرنا الله في آيات عديدة مثل الأنعام [19 و 100] والأعراف [157] والصف [6] أن اليهود والنصارى يجدون صفات محمّد في التوراة والإنجيل وأن عيسى بشّر به، وأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن القرآن منزل من الله. ولقد كانت هذه الآيات تتلى علنا ويسمعها أهل الكتاب وقد علموا ما فيها من حق وصدق فآمن منهم من استطاع أن يتغلب على أنانيته ومنافعه وإذا كان أهل الكتاب اليوم يقولون إن ذلك ليس في التوراة والإنجيل فإن التوراة والإنجيل ليسا في أيديهم وقد فقدا، وإن ما في أيديهم مكتوب بأقلام متأخرة وقد طرأ عليها تحريف وتبديل وشيبت بالتناقض على ما شرحناه في سياق شرحنا للتوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف.(6/234)
هذا وننبه على أنه ليس من محل للتوهم من سبك جملة: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مال إلى اتباع ملة اليهود أو النصارى فالجملة أسلوبية ورد مثلها في مقامات عديدة بهدف تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وبثّ الثقة والحذر في نفسه وحسب.
ولعل من مقاصد التحذير من اتباع أهواء اليهود والنصارى التنبه على ما كانوا عليه حين نزول الآيات من خلاف ونزاع وانقسام إلى شيع وأحزاب في الدين وانحرافات وشذوذ عن الأصل الذي تتطابق معه الدعوة الإسلامية. ثم الاستدراك لما عسى أن يوجه إلى القرآن والنبي من نقد بسبب الحملة عليهم وتقرير ضلالهم بعد تقريرهما هذا التطابق، وتقرير كون التطابق هو مع الأصل الصافي الذي حرفوه وانحرفوا عنه.
وإلى هذا ففي هذا التحذير تلقين جليل مستمر المدى في وجوب الثبات على الأصل الصافي للرسالة المحمدية التي يمثلها القرآن والسنة وعدم الانحراف عنهما واتباع الهوى وتأويلهما كما فعل الكتابيون ذلك.
ومع أن جملة يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ هي في صدد أهل الكتاب وكتبهم فإن أهل التأويل والمفسرين وقفوا عندها لاستنباط حكم عام منها على المسلمين بالنسبة للقرآن وقالوا إنها توجب عليهم أن يتدبروا أحكامه ويتمعنوا في محتواه ويتبعوا أوامره ونواهيه حق الاتباع. وأوردوا قولا لابن مسعود جاء فيه: «والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرّف الكلام عن مواضعه ولا يتناول شيئا على غير تأويله» . وذكر القاسمي الذي نقلنا عنه هذا أن قولا مثله مروي عن ابن عباس أيضا وهذا حق في ذاته بل هو تحصيل حاصل بدون ضرورة إلى استنباطه من الجملة التي لا شك في أنها في صدد أهل الكتاب وكتبهم.
وقد يناسب هذا إشارة إلى ما عليه جمهور المسلمين من تلاوة للقرآن تلاوة آلية للتعبد وحسب، ومع أن تلاوة القرآن لذاتها وسيلة قربى إلى الله فإنهم على(6/235)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
الأعم الأغلب يتلونه بدون تدبر ولا تذكر ويخالفون أحكامه وأوامره ونواهيه ومواعظه وعبره قولا وفعلا. وليس هذا من تلاوة القرآن حق تلاوته في شيء، والله أنزله ليتدبر الناس آياته وليخرجهم من الظلمات إلى النور قولا وفعلا وسلوكا وإيمانا، ولقد روى مسلم وأبو داود عن أبي ذرّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه. هم شرّ الخلق والخليقة» «1» . ورواية أبي داود هي: «سيكون من أمّتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يدعون إلى كتاب وليسوا منه في شيء» «2» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 129]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
. (1) ابتلى: امتحن.
(2) مثابة: مرجعا ومحجا.
__________
(1) التاج ج 5 ص 285 و 286 وقد يصح الاستدراك أن هذا الوصف هو بنوع خاص للمتعمدين والله أعلم.
(2) التاج ج 5 ص 285 و 286 وقد يصح الاستدراك أن هذا الوصف هو بنوع خاص للمتعمدين والله أعلم.(6/236)
(3) مقام إبراهيم: مكان أو حجر كان في فناء الكعبة معروف بهذا الاسم.
(4) مصلى: محل صلاة.
(5) العاكفين: العكوف بمعنى الإقامة. ثم صار منها اصطلاح وهو التعكف بمعنى الإقامة في الحرم أو المسجد بقصد العبادة.
(6) القواعد: الأسس. والتعبير يشمل الأسس وما عليها.
(7) الحكمة: ما فيه الصواب والسداد.
(8) يزكيهم: يطهر نفوسهم.
تعليقات على الآية وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [129] وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في هذه الآيات:
1- إشارة تذكيرية إلى أن الله تعالى كان أمر إبراهيم عليه السلام بفعل بعض الأمور على سبيل الاختبار ففعل ذلك كما ينبغي فاستحق رضاءه، وقال له إني جاعلك للناس إماما وقدوة فسأل ربّه أن يكون هذا الفضل شاملا لذريته أيضا فأجابه إن الظالمين أي المنحرفين الباغين منهم لا يصحّ أن ينالوه.
2- وتقرير بأن الله قد جعل البيت أي الكعبة مثابة ومحجا للناس جميعهم وبأنه أمر باتخاذ مقام إبراهيم مكان صلاة.
3- وإشارة إلى ما كان من أمر هذا البيت في البدء، حيث اختص الله مكانه ليكون معبدا ومنطقة أمن وسلام، وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا هذا المكان ويهيئاه ويبنياه ليكون مكان طواف وعكوف وركوع وسجود للناس جميعا، وحيث صدعا بالأمر ورفعا قواعد البيت ودعوا الله أن يتقبل منهما خدمتهما وأن يهديهما(6/237)
إلى معرفة ما يجب عليهما من المناسك ويساعدهما على أدائها وأن يجعلهما مسلمين له وحده وأن يجعل ذريتهما أيضا أمة مسلمة منقادة له وحده. وأن يبعث فيها رسولا منها يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وكل ما فيه الصواب والسداد ويطهر نفوسهم وينقذهم من الضلال ويرشدهم إلى الحق والخير والهدى. وأن يجعل البلد الذي فيه البيت آمنا لا يقع فيه بغي ولا ظلم ولا سفك دم، وأن يرزق من يكون مؤمنا من أهله بالله واليوم الآخر من الثمرات وييسر لهم الرزق الرغد.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات التي قد تبدو الآيات فصلا مستقلا لا علاقة له باليهود والسياق الطويل السابق. غير أن الحلقة التي جاءت بعدها عادت إلى ذكر اليهود ومواقفهم وأقوالهم والتنديد بهم ثم جاءت بعدها حلقة أخرى احتوت موضوع تبديل القبلة إلى اتجاه الكعبة ونددت باليهود لموقفهم من هذا التبديل موقف النقد والتشكيك مما يجعل هذه الآيات غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق ومما يسوغ القول إن فيها تبريرا وتدعيما للتبديل المذكور وردا على موقف اليهود منه في بيان صلة الكعبة بالله تعالى وإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وفضلها وكونها جعلت بأمر الله منذ القديم مثابة للناس ومحجا ومكان عبادة وطواف وسجود وركوع له.
وهذا فضلا عن شمول جملة لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لليهود من بني إسرائيل المنحرفين عن الحق والهدى بل فضلا عن احتمال كون المقصود بها هم هؤلاء وبخاصة المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم موضوع الكلام في الدرجة الأولى.
وكل هذا جعلنا نسلكها في عداد الحلقات الواردة في هذه السورة فيهم.
ولقد أورد المفسرون «1» أقوالا عديدة في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم معزوة إلى بعض علماء التابعين وتابعيهم. منها أنها قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس في الجبهة وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.(6/238)
ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول. ومنها أنها حلق العانة والختان ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقصّ الشارب والاغتسال يوم الجمعة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. ومنها أنها عبادة الكوكب ثم القمر ثم الشمس التي أداها ثم ارتدّ عنها لأفولها ثم النار التي ألقي فيها ثم الهجرة ثم الختان. وقد قال الطبري إنه لم يصح من ذلك شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيجوز أن تكون هذه أو غيرها وبعضها أو جميعها وهو كلام صائب. ويبدو أن ما قيل في صدد ذلك من باب التخمين وليس من وراء اكتشاف الكلمات بالتخمين من طائل. والأولى أن يكتفى بالقول إنها أوامر ونواه ربانية أمر الله بها خليله عليه السلام فأداها على النحو الذي أمره بها. وإن كان من شيء يمكن أن يقال بالإضافة إلى هذا فهو أن الروايات تذكر أن العادات الجسدية المذكورة في أول الأقوال مما كان ممارسا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإضافة إلى الطواف والسعي. وظلت تمارس في الإسلام منها ما كان بأمر قرآني وهو الطواف والسعي ومنها ما كان بتعليم نبوي قولي وفعلي. فمن الجائز أن يكون التخمين بالنسبة لهذه العادات مستمدا من ذلك وأن يكون أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا وظلوا ينسبونها إلى إبراهيم (عليه السلام) والله أعلم.
وكلمة ذُرِّيَّتِي الواردة في الآية [124] تشمل كما هو المتبادر جميع المنتسبين إلى إبراهيم بالنبوة وأبناء إبراهيم الذين خلفوا ذريته هم اسحق وإسماعيل وزمران ويقشان ومدان ومدين ويشاق وشوما إذا صح ما ورد في سفر التكوين بالنسبة للستة الآخرين. أما إسحق وإسماعيل فقد نسبهما القرآن لإبراهيم فيجب الإيمان بذلك، والمشهور المتداول أن بني إسرائيل من ذرية إسحق وأن العرب العدنانيين الذين منهم القرشيون من ذرية إسماعيل على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
ولقد أول المؤولون على ما رواه الطبري جملة لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ بأنها بمعنى لا يكون من الظالمين من ذرية إبراهيم من يرضى الله أن يكون إماما للناس أو أنها بمعنى استثناء الظالمين مطلقا من ذريته من مدى عهد الله له. ويتبادر لنا أن حكمة الله في هذا الاستثناء هدفت إلى إحباط تبجح المنتسبين بالبنوة إلى إبراهيم(6/239)
إذا كانوا منحرفين عن ملته وطريقته وجادة الحق التي كان يسير عليها والانقياد إلى الله وإسلام النفس له وحده. ومن المحتمل أن يكون أريد بهذا في المقام والسياق اللذين وردت فيهما الآية بنو إسرائيل الذين وقفوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم موقف البغي والظلم والجحود. والذين كانوا يتبجحون بأنهم على هدى وأنهم أئمة وقدوة للناس حيث أريد تكذيبهم في دعاويهم هذه برغم انتسابهم إلى إبراهيم (عليه السلام) ، وهو احتمال قوي في ما يتبادر لنا والله أعلم.
أما كلمة ذُرِّيَّتِنا الواردة في الآية [128] فقد قال الطبري وغيره إنها عنت العرب، وروح الآية التي وردت فيها الكلمة تلهم صواب ذلك. ومما يؤيده أيضا اشتراك إسماعيل في الدعوة لأن إسماعيل هو الذي ينتسب إليه العدنانيون ثم القرشيون من العرب على ما ذكرناه قبل.
ولقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة جاء فيه: «إنّ نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال: نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام» . والحديث لم يرد في الصحاح وإن كان القرآن يؤيد فحواه في الجملة التي نحن في صددها وفي آية سورة الصف [6] على أننا نقول مع ذلك إن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم من دون ريب أن رسالته من مقتضيات حكمة الله الأزلية قبل إبراهيم ودعوته. وإنه يتبادر لنا من حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وفي الحديث إذا صح أن القصد من ذلك بالإضافة إلى واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من كلام إبراهيم في صدد ذريته توكيد الصلة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والأرومات التي انحدر منها وبين إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) . وهناك حديث نبوي صحيح رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» «1» .
ومثل ما تقدم يقال بالنسبة لحكاية دعاء إبراهيم في الآية [126] بأن يجعل
__________
(1) التاج ج 3 ص 205. [.....](6/240)
الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [127] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل.
ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفا بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفا باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه: «وافقت ربّي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى ... إلخ» . وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [35- 41] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستندا إلى مشاهدة حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة.
وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) . وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم في صدد جملة وَأَرِنا مَناسِكَنا في الآية [128] أن المقصود منها مناسك الحج وهي(6/241)
الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى (وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في منى) ومحل ذبح القرابين إلخ إلخ ... وأن كل هذا مما أنشأه بدءا إبراهيم (عليه السلام) . وأوردوا بيانات في أسباب ذلك وكيفيته معزوة إليهم وقد أجّلنا تلخيص ذلك وشرح هذه المناسك إلى مناسبات أكثر ملاءمة في هذه السورة.
وواضح أن في كل ما تقدم تدعيما لنبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ولفضل الكعبة ومنطقتها. وفي الوقت نفسه تدعيما وتبريرا لحادث تبديل اتجاه القبلة عن المسجد الأقصى إلى الكعبة وهو ما تضمنته آيات سابقة على ما نبهنا عليه وما تضمنته آيات أخرى آتية بعد قليل. وفيه كذلك ردّ على اليهود الذين حاولوا التشويش والتشكيك والدسّ في ظرف ذلك الحادث الذي أثار غيظهم على ما سوف يأتي شرحه.
ولعل لجملة وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى في مقامها معنى هاما في صدد تبديل القبلة حيث انطوى فيها إشارة إلى صلة إبراهيم بالكعبة وأثره عندها الذي كان قبل البعثة وما زال في إبانها مشهودا مشهورا باسم مقام إبراهيم وتبريرا بكونها هي الأولى باتخاذها قبلة، فضلا عن ما في تقرير كون إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا قواعدها من كل ذلك. ولقد خطر لنا خاطر نرجو أن يكون صوابا إن شاء الله وهو احتمال أن يكون الأمر المنطوي في الجملة تعبيرا آخر لاتخاذ الكعبة قبلة لأنها كانت من إنشاء إبراهيم وكان مقامه عندها مشهودا مشهورا والله أعلم.
هذا، وفي الآيات تلقينات مستمرة المدى، منها ما احتوته جملة لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من تقرير بأن الله تعالى لا يمكن أن يرضى عن الظلم الذي يتجسد في البغي والجور والعدوان والانحراف عن جادة الله وشرائعه، ولا عن إمامة ظالم وحكمه، وبأنه لا يصح أن يكون لظالم عهد، وبأن انتسابه إلى آباء صالحين لا يبرر شيئا من ذلك.
ومنها ما احتوته جملة وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ من تقرير كون تمتع الكافر بالدنيا لا يتنافى مع الحكمة الربانية ولا يصح(6/242)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
أن يعدّ دليلا على رضاء الله عنه، وقد تكررت هذه التلقينات في مواضيع كثيرة في السور المكية على ما نبهنا وعلقنا عليه في مناسباته. حيث يبدو التساوق بين التقريرات القرآنية المكية والمدنية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 135]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
. (1) سفه نفسه: أضاع عقله أو نفسه وامتهنها. وأصل السفه خفة العقل وعدم القدرة على التمييز.
تعليق على الحلقة السادسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود
في الآيات الثلاث الأولى:
1- تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها.
2- وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته: فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه(6/243)
فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه.
وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معا: فهؤلاء أمة مضت في سبيلها، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه.
وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهوديا أو نصرانيا وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصا مستقيما والذي لم يكن مشركا أحدا مع الله.
ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمرارا للسياق وأن ذكر النصارى جاء استطرادا هنا إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها.
وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [133] ثانيا يدعمان ذلك ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [134] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة(6/244)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم.
وما قلناه في تأويل جملة وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين لأن كلّا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.
[سورة البقرة (2) : الآيات 136 الى 141]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
. (1) فإنما هم في شقاق: فإنما هم مشاقون متعنتون أو فإنما هم في اختلاف ونزاع وتفرق في الرأي.(6/245)
(2) صبغة الله: كناية عن ملّة الله وطريقته وفطرته ودينه على ما ذكره الجمهور.
تعليق على الحلقة السابعة عشرة من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم
في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب.
وقد تضمنت:
1- أمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار أحد منهم وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.
2- وتعقيبا على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهانا على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة.
3- والتفاتا خطابيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.
4- وهتافا بلسان حال النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.
5- وأمرا للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالا تنديديا عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعا.(6/246)
6- وأمرا ثانيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.
7- وأمرا آخر له بسؤال المحاجين سؤالا تنديديا آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى حينما يقولون إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هودا أو نصارى فقط.
8- وأمرا ثالثا له بسؤالهم سؤالا فيه تسفيه لمغالطتهم- الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.
9- وأمرا رابعا له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله وهو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.
أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد.
ولقد روى المفسرون «1» أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى (عليه السلام) ، وأن بعضها نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالا وثيقا. وقد احتوت تعليما ربانيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها، والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير مثلا.(6/247)
وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضا من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد. لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحا لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معا. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية.
ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم وبكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا وأمر النبي والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة.
ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة.
والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل: إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [139] قرينة بل دليلا حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا(6/248)
بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ في الآية [140] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن وَالْأَسْباطِ هم أسباط بني إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافا لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن» وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [15 و 16 و 48 و 49] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها.
ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثا عن أبي هريرة جاء فيه:
«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال(6/249)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... إلى آخر الآية» «1» .
والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى وينسحب ما قلناه على ذلك أيضا والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 152]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) .
__________
(1) التاج ج 4 ص 43.(6/250)
(1) السفهاء: هي في مقام التبكيت ونسبة خفة العقل والمكابرة والسخف إلى القائلين.
(2) ما ولّاهم: ما صرفهم.
(3) وسطا: عدولا وبعيدين عن مساوئ الإفراط والتفريط.
(4) شطره: ناحيته ووجهته.
(5) وجهة: طريقة أو اتجاه يتجهون إليه.
(6) هو موليها: هو متوليها أي متجه إليها.
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [141- 152] وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي:
1- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس. وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يعلن جوابا على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
2- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم: فالله تعالى قد جعلهم بهداه(6/251)
عدولا وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلّى الله عليه وسلّم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
3- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولّاه هذه القبلة حيث يأمره بأن يولّي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
4- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم: فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد.
ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
5- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريرا من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب: فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
6- واحتوت الآية السابعة تقريرا لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيرا بهذه(6/252)
المشاهد المختلفة وليس عليهم إلّا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
7- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيدا مكررا ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا وإلى المؤمنين ثانيا: فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعا لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
8- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطابا موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلا مستقلا، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود «1» .
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن والنسفي والطبرسي وابن كثير إلخ ...(6/253)
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة.
ولقد روى المفسرون أن نفرا كبيرا من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا له ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون: إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [147] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح لأن الآية مطلقة من جهة ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان.
وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم «1» رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين «2» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل: وددت أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له: إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسله. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم «3» عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر الدعاء
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والطبرسي.
(2) انظر تفسير الطبرسي.
(3) انظر تفسير ابن كثير.(6/254)
والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا «1» وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال هو يشهد أنه صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعا. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججا وتبريرا وإقرارا وتطمينا كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ... إلخ [142] على آية: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ... إلخ [144] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في مكة يتجه إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانوا يقومون بطقوسهم الوثنية حول الكعبة ففرح اليهود وصاروا يزهون على النبي والمسلمين باتباعهم قبلتهم واعتبارهم ذلك اعترافا منهم بأنهم
__________
(1) التاج ج 4 ص 44 ونص الحديث برواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن البراء:
«صلّينا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم صرفنا نحو الكعبة» (التاج ج 1 ص 135) ومع ذلك ففي الطبري والخازن وابن كثير روايات تذكر أن التحول كان لثلاثة عشر أو لثمانية عشر شهرا. وأنه كان يوم الاثنين أو الثلاثاء في نصف رجب وأنه كان في صلاة الظهر في مسجد بني سلمه حيث صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالناس ركعتين نحو المسجد الأقصى وتحوّل مصلى الركعتين الثانيتين نحو الكعبة وهذا يفيد أن الوحي بالتحويل كان أثناء الصلاة.(6/255)
على الهدى وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين يقتبسون هداهم منهم. ولقد روى الطبري أن تحول النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الكعبة إلى المسجد الأقصى حينما جاء إلى المدينة كان تألفا لليهود. كما روي أن الأنصار كانوا يصلون قبل وصول النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وطيلة عامين إلى بيت المقدس حيث يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم باتجاهه نحو هذا البيت حينما وصل قد أقرّهم على عملهم. والروايات لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها وليس بينها تناقض. وفقد يكون اتجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى سمت بيت المقدس حين وصوله للأسباب المذكورة جميعها فلما وقف اليهود منه موقف الجحود والتعطيل والدس ثم صاروا يزهون عليه وعلى المسلمين حزّ ذلك في نفسه وفي نفس المسلمين وانبثقت في نفسه أمنية التحول عن سمت بيت المقدس ولا سيما إنه قد ظهر من اليهود ما أيأسه منهم وصار ينتظر وحيا ربانيا بالتحول. والآية الثالثة والأحاديث والروايات التي أوردناها تدعم ذلك بوجه الإجمال. وقد يمكن أن يزاد على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حين صار يائسا أو كاليائس من اليهود تراءى له أن اتجاهه إلى قبلتهم مما يضعف قوة دعوته للعرب وأن عودته إلى قبلته الأولى مما يؤلف قلوبهم كما أنه كان يعرف مكانة الكعبة بيت الله القديم الذي يرتبط به العرب والذي كان من منظمات الوحدة الروحية فيما بينهم بسبب اشتراكهم جميعا في حجه وأداء المناسك عنده. والذي هو في الوقت نفسه متصل بإبراهيم وما يزال أثره متداولا باسم مقام إبراهيم وقد كانت ملّة إبراهيم من عناوين رسالته. وهو أولى الناس بها كما جاء في آية سورة آل عمران [68] فكان ذلك مما جعله يتمنى أن يوجهه الله إلى الكعبة.
ولعل فقرة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ في الآية التاسعة أي [150] مما يتصل بهذا المعنى أيضا.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس «1» في صدد آية: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أن بعض المسلمين قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله الآية. ومما رواه المفسرون «2» في صدد
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 45.
(2) انظر تفسيرها في الخازن.(6/256)
ذلك أيضا أن اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه وإن كانت على ضلالة فقد دنتم لله بها مدة ومن مات عليها فقد مات على ضلالة.
ولا تناقض بين الرواية والحديث حيث يمكن أن يكون الذين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فعلوا تأثرا بكلام اليهود وتشكيكهم.
وهكذا حاول اليهود أن ينفثوا سمومهم بالانتقاد والتشكيك والدّس نتيجة لما شعروا به من شدة الضربة الأدبية التي وجهت إليهم بتحويل سمت القبلة.
ولقد روى الطبري في صدد جملة: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ...
إن بعض المسلمين ارتدوا بسبب تحويل القبلة وأظهر كثير من المنافقين نفاقهم وقالوا ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا، وقال المشركون تحيّر محمد، وقال المسلمون بطلت صلواتنا السابقة فكان تحويل القبلة فتنة وتمحيصا لإخلاص المؤمنين. ولا مانع من صحة الروايات وإن لم ترد في الصحاح وحديث البخاري والترمذي مما يؤيد ذلك.
ويلاحظ أن الآية هي في صدد اختبار المؤمنين في القبلة السابقة وليست في صدد القبلة الجديدة. والذي يتبادر لنا من روح الآية وفحواها أن المسلمين كانوا يشعرون بشيء من الغضاضة أو عدم الارتياح بسبب اتجاههم إلى بيت المقدس.
فلما أمر الله بالتحول اقتضت حكمة التنزيل أن يرد في الآية ما ورد على سبيل التنبيه. ومن المحتمل أن يكون شعور المسلمين هذا كان بسبب زهو اليهود كما أن من المحتمل أن يكون بسبب شدة تعلقهم بالكعبة وهي التي درجوا أن تكون معبدهم ومحجّهم منذ الأزمنة القديمة.
ولقد تعددت الأقوال في مدى جملة: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ منها أن الاتجاه يكون نحو سمت باب الكعبة أو نحو الميزاب وأورد ابن كثير حديثين في ذلك منهما واحد أخرجه الحاكم في مستدركه عن ابن عمر وواحد أخرجه ابن(6/257)
مردويه عن ابن عباس. ومنها أن الاتجاه يكون نحو سمت الكعبة أو المسجد الحرام على اختلاف جهاته. وهذا هو ما عليه الأكثرون على ما ذكره هذا المفسر الذي أورد حديثا رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وحديثا آخر عن ابن عباس أن رسول الله قال: «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من منى» . وفي الحديثين تأييد للقول الثاني والحديث الأول رواه الترمذي والحاكم وصححه «1» . والقول الثاني الذي عليه الأكثرون هو الأكثر اتساقا مع مدى الجملة القرآنية كما هو المتبادر والله أعلم.
وفي الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى. من ذلك التنديد بالذين يشوشون على دعوة الإصلاح ودعاته بقصد التعطيل والكيد والمكر وبما قرّ من الأهواء والمآرب. وبخاصة إذا ما كانوا يفعلون ذلك عن عمد وعلم. وتقبيح لذلك، ومنه حثّ المسلمين على الثبات على ما أمرهم الله ورسوله به دون أبوه لغيرهم من الملل الذين يحاولون زلزلتهم عنه، وبيان لما في الاستجابة لهم أو التأثر بهم من إثم وضرر في دينهم ودنياهم. ومنه حثّ المسلمين على أن تكون الخيرات هي ما يجب أن يستبقوا ويسابقوا الغير عليه. ومنه بثّ القوة في قلوبهم والإهابة بهم بأن لا يخشوا معارضيهم وأعداءهم وأن لا تكون خشيتهم إلّا لله وحسب، وبذلك فقط ينصرهم على أعدائهم ويتمّ نعمته عليهم ويهديهم إلى ما فيه العزة والقوة والسداد.
ومثل هذه التلقينات متكررة متوالية في مختلف المناسبات مما مرّ منه أمثلة عديدة.
مدى تبديل القبلة في الرسالة الإسلامية
هذا ومن الحق أن ننبه في هذا المقام على ما يبدو في تبديل القبلة من خطورة وبعد مدى في الرسالة الإسلامية والتاريخ الإسلامي. فقد أكسب الرسالة الإسلامية شخصية مستقلة إن صح التعبير بعد أن كان استقبال المسجد الأقصى
__________
(1) انظر التاج ج 1 ص 136.(6/258)
يجعل شيئا من التموج أو التمازج في أفق ومدار شخصية أهل الكتاب. وقد خلد قدسية الكعبة ومركزيتها فغدت متجه العرب في حياتهم الدينية الجديدة في جميع أنحاء الجزيرة أشد وأقوى وألزم مما كانت لهم قبل هذه الحياة أولا. ومتجه المسلمين في جميع أنحاء العالم على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وبلادهم وناظما لوحدتهم الروحية ثانيا. وكان كذلك عنوانا على إبقاء مناسك الحج والكعبة إذ صارت ركنا مفروضا من أركان الإسلام بعد تصفيتها من شوائب الوثنية ومشاهدها.
وننبه على أمر هام، وهو أن ما قلناه من اكتساب الرسالة الإسلامية شخصية مستقلة هو بالنسبة للموضوع وحسب، وإلا ففي القرآن آيات كثيرة جدا مؤيدة لاستقلال هذه الشخصية. بل القرآن جميعه بسبيل ذلك. وكل ما بينها وبين الملل الكتابية السابقة من قاسم مشترك كونها مثلها مستندة إلى كتاب رباني منزل على رسول الله هدف فيما هدف إلى تصحيح الانحرافات التي ارتكست فيها هذه الملل.
احتمال أن يكون التبديل في بدئه إلهاما ربانيا
وهناك مسألة مهمة أخرى في صدد تبديل القبلة، فالروايات تذكر أن جملة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ في الآية [143] هي بسبيل تطمين المؤمنين الذين خافوا على الميتين منهم من أن تكون عبادتهم السابقة قد ضاعت حيث قال لهم اليهود إذا كنتم في استقبال المسجد الأقصى على خطأ فقد ضاعت عبادتكم السابقة وإذا كنتم على صواب فسوف تضيع عبادتكم الآتية. وفحوى الآية يؤيد ذلك وينبه المؤمنين في الوقت نفسه إلى أن القبلة التي كانوا عليها كانت اختبارا لهم. وهذا يعني أنها نزلت بعد التبديل. وهذا يقال بالنسبة للآية [142] والتي روت الروايات أنها نزلت حينما أخذ اليهود يتساءلون عن أسباب التحويل ويشككون المسلمين فيه. فإما أن تكون هاتان الآيتان قد نزلتا لحدتهما بعد التحويل وأن يكون في نظم آيات الفصل تقديم وتأخير، وإما أن تكون هذه الآيات قد نزلت جميعها معا بعد التحويل للرد على انتقاد اليهود ودسائسهم وطمأنة النبي والمسلمين وتثبيتهم(6/259)
وتبرير التحويل وهذا ما نرجحه استئناسا بالآيات السابقة منذ آية النسخ [106] التي استلهمنا منها أنها في صدد هذا التحويل وتبريره والرد على اليهود وتسفيههم.
وإذا صحّ هذا فيسوغ أن يقال إن التبديل كان في بدئه إلهاما ربانيا غير قرآني.
ولعل رواية التبديل التي تذكر أنه وقع أثناء ما كان النبي يصلي الظهر أو العصر مما قد يؤيد ذلك. وليس بين هذا القول وبين الحديث الذي رواه البخاري عن البراء والذي أوردناه سابقا تناقض فيما نرى. إذ يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ألهم التبديل أثناء الصلاة ثم نزل عليه القرآن بعدها. ورواية كون جملة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ لتطمين المسلمين هي حديث رواه البخاري أيضا عن ابن عباس وخوف المسلمين إنما كان بعد التبديل كما هو المتبادر.
وفي القرآن شواهد عديدة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يلهم العمل ثم ينزل القرآن بتثبيته وتبريره. ومن الأمثلة على ذلك غزوة بدر وفي الآيات التي نزلت في هذه الغزوة جملة: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ الأنفال: [7] وليس ذلك في القرآن مما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأنفال التي نزلت في صدد هذه الغزوة. ومن الأمثلة كذلك عزيمة النبي صلّى الله عليه وسلّم على زيارة الكعبة التي انتهت بصلح الحديبية، فإن سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى هذه العزيمة وتبريرا لها نزلت بعد صلح الحديبية «1» .
ولقد رويت أحاديث أخرى في صدد استقبال القبلة بعضها وارد في الصحاح وبعضها لم يرد. وقد رأينا من المفيد إيراد بعضها في المناسبة، من ذلك حديث رواه البخاري والنسائي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته» «2» . وروى الخمسة عن جابر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على راحلته حيث
__________
(1) هناك شواهد عديدة أخرى سوف ننبه عليها في مناسباتها فاكتفينا بالشاهدين.
(2) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137.(6/260)
توجّهت به فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة» «1» . وفي رواية: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على الراحلة قبل أيّ وجه توجّه غير أنه لا يصلّي عليها المكتوبة» «2» .
وروى أصحاب السنن عن جابر قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» «3» . وروى الخمسة:
«السجود أخفض من الركوع» «4» . وفي هذه الأحاديث رخص نبوية يسار عليها ويوقف عندها. وروى الخمسة عن أبي أيوب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولّها ظهره شرّقوا أو غرّبوا» «5» وروى الخمسة أيضا عن ابن عمر قال: «ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام» وفي رواية قاعدا على لبنتين «6» . وقد تكون الصورة في هذا الحديث للضرورة ويكون الأمر في الحديث الذي قبله هو الأصل في التعليم والتنزيه. وروى الترمذي عن عامر بن ربيعة حديثا جاء فيه: «كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلّى كلّ رجل منّا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ البقرة:
[115] » «7» . ومن المحتمل أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا الآية من قبل إقرارهم على ما فعلوا فيكون في ذلك سنة يسار عليها أيضا والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... إلخ
ولقد قال المفسرون «8» بناء على بعض الروايات إن هذه الآية هي في صدد يوم القيامة حيث يشهد النبي صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين بأنه بلغهم الرسالة ويشهد المسلمون بأنهم بلّغوها وبلّغوها للناس. والآية تحتمل هذا غير أنه يتبادر لنا مع
__________
(1) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137.
(2) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137. [.....]
(3) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137.
(4) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137.
(5) المصدر نفسه ص 81.
(6) المصدر نفسه ص 81.
(7) المصدر نفسه ص 137.
(8) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير.(6/261)
ذلك من روح الآية وفحواها أنها بسبيل التنويه بما كان من عناية الله في الدعوة الإسلامية وبما حملته هذه الدعوة لمتبعيها من عظيم التبعات وجعلتهم فيه من خطير المركز. وبالتالي أنها بسبيل مركز وواجب المسلمين في الحياة الدنيا أيضا.
وتعبير وَسَطاً يعني فيما يعنيه الخيرية في كل شيء والاعتدال في كل شيء وعدم التفريط والإفراط، وعدم الغلو والتقصير وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية، مما فيه خير دين ودنيا، وكل هذا متمثل في الرسالة الإسلامية حيث قامت على أسس وقواعد ومبادئ وأحكام وتقريرات وخطوط عامة حلت بها ما في مختلف النحل من مشاكل وتعقيدات وخلافات وتناقضات متصلة بعقيدة الله وحيث حكت من الطقوس المعقدة والتكاليف والأغلال الشديدة وحيث واءمت بين الدنيا والآخرة والمادية والروحية والعقل والقلب والعلم والدين، وحيث فتحت الآفاق للإنسان في مختلف المجالات لا يمنعه مانع من أي جهد وتصرف في حدود الإيمان والاعتدال والحق. وحيث تطابقت مع طبائع الأشياء ونواميس الكون ومقتضيات المنطق والعقل. وحيث جمعت بين حظ الدنيا وحظ الآخرة وأباحت كل طيب وحرمت كل رجس وخبث ومنعت الاستغلال والاحتكار والحرمان والاستعلاء والتمييز والبغي والتجبر. ودعت إلى كل فضيلة ونهت عن كل رذيلة فجعلها كل ذلك خير رسالة أخرجت للناس ومتطابقة مع كل زمن وظرف ومطلب. ومرشحة للعمومية والخلود مما انطوى تقريره في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) وآية سورة الأنبياء هذه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) .
ولقد قلنا في صدد الآية الأخيرة من سورة الحج التي فيها جملة: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [78] أنها عنت العرب واستدللنا على ذلك بما احتوته الآية من تذكير العرب بأبوة إبراهيم لهم. وفي جملة: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ(6/262)
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
البقرة: [151] من الحلقة التي نحن في صددها دليل على أن العرب هم المقصودون أيضا في الخطاب في جملة:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً الواردة في الآية [143] من آيات الحلقة.
ولقد علقنا على ما في ذلك من خطورة ونبهنا على حدود ذلك وما للمسلمين عامة من شأن وتبعات أيضا في سياق تفسير آية الحج المذكورة فلم نر حاجة إلى التكرار.
تعليق على الآية كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ...
وفي الآية [151] توضيح للمهمة التي حملها الله تعالى لرسوله بالنسبة لأتباعه، وتنويه بها بأسلوب قوي نافذ. فالله قد أمره أن يتلو عليهم آياته ويفهمهم ما في كتابه ويطهر نفوسهم وقلوبهم بتعليمه وإرشاده وسنته. ويعلمهم ما فيه الحكمة أي الصواب والسداد والخير والحق في سلوكهم وتصرفهم وسائر شؤونهم.
وقد انطوى في هذا إيجاب إيماني بتلقي كل هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والسير وفاقه.
ويكون ما يلقيه النبي صلّى الله عليه وسلّم من كل ذلك جزءا لا يتجزأ من رسالته التي يجب على كل مؤمن أن لا ينحرف عنها.
ولقد أوردنا في التعليق الذي علقنا به على الآية [44] من سورة النحل الآيات القرآنية التي توجب اتباع الرسول وطاعته وتقرر أن سننه الفعلية والقولية هي مرجع المسلمين الثاني بعد القرآن في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية كما شرحنا فيه جهود رجال الحديث الأولين رحمهم الله في تتبع هذه السنن وتمحيصها وتدوينها وضوابط الصحيح منها وما فيها من رائع التعليم والبيان والتلقين والهدى(6/263)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
والحكمة والسداد المتساوقة مع مبادئ القرآن وتلقيناته والمتممة لها. والموقف الذي يجب على المسلم أن يقفه تجاه ما لا يدركه عقله منها إذا لم يتناقض مع تلك الضوابط وهذه المبادئ والتلقينات فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
هذا وبمناسبة ورود جملة رَسُولًا مِنْكُمْ في الآيات نذكر أن مثل هذه الجملة ورد في الآية [112] من سورة النحل أيضا وعلقنا عليها وأوردنا ما روي وقيل في مداها فنكتفي كذلك بهذا التنبيه دون التكرار.
[سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
. وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين:
1- لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب.
2- ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم.
3- ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها.
4- ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس. ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله.(6/264)
والآيات تبدو فيما احتوته فصلا جديدا لا صلة له بالسياق السابق موضوعيا.
وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة. ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم. وإذا صح هذا الفرض ونرجو أن يكون صحيحا فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلا بعد فصل في مناسبات ملائمة، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعها بعدها.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ... وما بعدها [153- 157] وما فيها من تلقين
وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد والروايات لم ترد في الصحاح. وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم. غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين. والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر «2» . وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن.
(2) انظر الطبقات لابن سعد ج 3 ص 44- 49 حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر.(6/265)
ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين وهم في أول عهد هجرتهم.
فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر لأن الله مع الصابرين وناصرهم، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه. ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة.
أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عند ما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع. ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها. ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا، لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي.
وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [168- 171] من سورة آل عمران، وقد رأينا تأجيل إيرادها والتعليق عليها إلى(6/266)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
تفسير هذه الآيات لأنها أكثر تناسبا بسبب ما فيها من صراحة بذلك.
وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة. وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معا في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنّا لله وإنّا إليه راجعون اللهمّ أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها» . وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب» وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه» . وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها» حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع. وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك.
[سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
. (1) الصفا والمروة: قيل إن الصفا جمع الصفاة وقيل العكس أيضا. وقيل إن(6/267)
معناها الصخرة الملساء وقيل بل الصخرة اليابسة. وصفوان تثنية لها. والمروة هي الصخرة الرخوة أو الصخرة الصغيرة. وتجمع على مرو ومروان تثنية لها. والصفا والمروة صخرتان قريبتان من الكعبة بينهما نحو أربعمائة متر.
(2) فمن حج البيت: شرحنا معنى الحج في تفسير سور الحج والبيت هنا كناية عن الكعبة وقد مرّ ذكره في سورة قريش وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
(3) اعتمر: من الاعتمار وهي في اللغة قصد الشيء أو المكان والتردد عليه وإعماره وزيارته. ومنه (العمرة) وهي النسك الإسلامي المعروف أي زيارة الكعبة.
وتعبير (اعتمر) زار الكعبة زيارة عمرة.
(4) لا جناح عليه: الجناح من الجنوح وهو الانحراف أو الإثم، والجملة بمعنى لا إثم عليه.
تقرر الآية أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ومظاهر عبادته. وأنه لا إثم على من طاف بينهما إذا حجّ البيت أو اعتمره. وأن الله تعالى شاكر لكل من تطوع وزاد على المطلوب في العبادة وعمل الخير وهو العليم بنيات الناس ومقاصدهم.
وجملة فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [158] تفيد أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ويكون في أشهر الحج المحددة وهو فرض أو ركن لا بدّ منه لتمام فريضة الحج وقد أيدت فرضيته هذه الجملة في آية سورة آل عمران: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) والنوع الثاني هو (الاعتمار أو العمرة) ويكون في غير أشهر الحج وهو سنة نبوية وسوف نزيد كل هذا شرحا في سياق آيات آتية في هذه السورة.
تعليق على الآية إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... إلخ
هناك أولا حديث رواه الخمسة في نزول هذه الآية عن عروة قال: «قلت لعائشة: ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا. وما أبالي ألّا أطوف(6/268)
بينهما. فقالت: بئسما قلت يا ابن أختي، طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطاف المسلمون وإنما كان من أهلّ لمناة الطاغية التي بالمشلّل لا يطوفون بين الصفا والمروة فأنزل الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [158] . فلو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه ألّا يطوف بهما. قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن فأعجبه وقال: إنّ هذا العلم. وقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقول إن هذا من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة. فأنزل الله تعالى الآية. قال أبو بكر: فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء» «1» . وهناك صيغ أخرى لهذا الحديث برواية الخمسة «2» وبرواية الطبري أيضا وليس بينها تعارض. وهناك إلى هذا روايات تذكر أن الصفا والمروة كانتا مكان طواف وسعي في الجاهلية وأنه كان على إحداهما صنم اسمه (أساف) وعلى ثانيتهما صنم اسمه (نائلة) وأن العرب كانوا يقربون عندهما القرابين أو يتمسحون بهما في طوافهم. وأن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بينهما بسبب ذلك ومن الروايات ما يذكر أن أهل تهامة كانوا لا يطوفون بينهما «3» .
والآية تلهم على كل حال أنها نزلت في صدد الحثّ على الطواف بينهما ورفع الحرج عن الطائفين. ومن المحتمل أن تكون نزلت بناء على سؤال أو بسبب التحرج من الطواف بينهما بعد الإسلام. وصيغة الآية تدل على أن هذا الطواف كان من تقاليد الحج الرئيسية الراسخة عند غالبية العرب. وروى المفسرون روايات تفيد أن ذلك متصل بأولية سكنى إسماعيل وأمّه في وادي مكة حيث عطش فأخذت تركض بحثا عن الماء بين الصفا والمروة، وقد ذكرنا ذلك بتفصيل أوفى في سياق تفسير سورة إبراهيم. والراجح أن هذا مما كان متداولا بين العرب. وأن مما كان
__________
(1) التاج ج 4 ص 45 و 46.
(2) التاج ج 2 ص 121 و 122.
(3) انظر كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.(6/269)
متداولا أيضا كون الطواف بين الصفا والمروة من مناسك الحج المتصلة بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ومما روي «1» أن الآية نزلت في ظروف زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين لمكة قبل الفتح بناء على صلح الحديبية الذي تمّ في السنة السادسة بعد الهجرة. غير أن وضع الآية في موضعها قد لا يؤيد الرواية التي لم ترد في الصحاح. وقد يدل على أنها نزلت في أوائل العهد المدني بناء على سؤال أو تحرج على ما جاء في الأحاديث والروايات.
ومن المحتمل أن تكون الآية وضعت في مكانها لأنها تخاطب المسلمين مثل ما سبقها من آيات، كما أن من المحتمل أن يكون ذلك لنزولها بعد الآيات السابقة لها مباشرة والله تعالى أعلم.
وما تقدم قد يسوّغ القول إن من المسلمين من كان يذهب إلى الحج في موسمه أو يذهب إلى مكة فيزور الكعبة معتمرا في غير موسم الحج قبل فتح مكة.
وهذا قد يستفاد أيضا من آيات سورة الحج التي فيها ذكر بعض مناسك الحج والتي سبق تفسيرها، ومن آيات في سورة البقرة تأتي بعد فيها ذكر بعض المناسك. ومن آية في سورة آل عمران فيها فرض الحج على المستطيع ومن آيات في سورة المائدة فيها ذكر بعض المناسك. فإن جميع هذه السور نزلت قبل ذلك الفتح. والله تعالى أعلم.
وهناك اختلاف بين علماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية في حكم الطواف بين الصفا والمروة على ما شرحه المفسرون وبخاصة الطبري وابن كثير حيث يذهب فريق إلى أنه واجب ولا تجوز عنه فدية، وحيث يذهب فريق إلى أنه عمل تطوعي يجوز تركه، وحيث يذهب فريق إلى أنه سنة وتصحّ الفدية عنه.
وقد رجح الطبري القول الأول وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد علم مناسك
__________
(1) انظر تفسير الطبرسي.(6/270)
الحج وعلم الطواف بين الصفا والمروة فيما علمه وأداهما فوجب على المسلمين اتباعه. ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال: «قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فطاف بالبيت سبعا وصلّى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» . وروى النسائي والترمذي عن جابر قال: «قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكة فطاف بالبيت سبعا وقال اتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى فصلّى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه ثمّ قال: نبدأ بما بدأ به الله فبدأ بالصفا وقرأ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» «1» . وعلى ضوء هذا يكون القول الأول الذي رجّحه الطبري هو الأوجه. ووصف الصفا والمروة بشعائر الله في الآية قد يدعم ذلك والله تعالى أعلم.
وفي الحديث الطويل الذي يرويه مسلم عن جابر عن حجة الوداع النبوية «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف بين الصفا والمروة راكبا على راحلته» «2» . واستند بعض الفقهاء إلى هذا فأجازوا الطواف بينهما للمسلم وهو راكب. وقيده بعضهم بالعذر، وقد يكون هذا هو الأوجه لأن المسافة قصيرة لا تتحمل الركوب إلا بالنسبة للمعذور. وهناك حديث يرويه مسلم عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما طاف على راحلته ليراه الناس وليشرف عليهم وليسألوه» «3» . وهذا قد يدعم ذلك.
ويطلق على الطواف بين الصفا والمروة تعبير (السعي) أيضا. وهذا مما ورد في حديث ابن عمر الذي أوردناه آنفا. والمؤولون متفقون على أن معناه المشي بسرعة أو هرولة وهناك حديث يرويه الشيخان عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما سعى إلى مشي بسرعة أو هرولة ليري المشركين قوته «4» . والممارس منذ عهد الخلفاء الراشدين أن يمشي الطائف مسافة ويسعى أو يهرول مسافة.
__________
(1) التاج ج 4 ص 45- 46.
(2) التاج ج 2 ص 141- 145. [.....]
(3) أورد الحديثين القاسمي وعزا أولهما إلى مسلم وثانيهما إلى الشيخين.
(4) المصدر نفسه.(6/271)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
ولقد شرحنا في سياق سورة الحج حكمة الله في إبقاء تقاليد الحج السابقة للإسلام بعد تجريدها من شوائب الشرك والقبح فنكتفي بهذا التنبيه في هذا المقام.
[سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
. في الآيات حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والدلائل التي بينها الله تعالى في كتبه التي أوحى بها إلى أنبيائه باستثناء الذين يتوبون عن ذلك ويتلافون خطأهم فإن الله يتوب عليهم وعبارة الآيات واضحة.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
روى الطبري وغيره أن بعض المسلمين سألوا نفرا من اليهود عمّا في التوراة من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم فكتموا أو أبوا أن يجيبوهم فأنزل الله الآيات. والرواية لم ترد في الصحاح. وفحوى الآيات يلهم أنها أوسع شمولا لأن التنديد يتناول ما بيّن الله من بينات وهدى. وبعد قليل تأتي آيات فيها بحث عن الأطعمة الحيوانية المحرمة وحملة على الذين يكتمون ما في كتاب الله حيث يلوح أن بين الحملة في هذه الآيات والحملة الآتية صلة موضوعية ما. وهذا بالإضافة إلى ما احتوته حلقة آيات تحويل القبلة والحلقات التي قبلها من تنديد قارع باليهود لكتمهم الحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم حيث يسوّغ القول أيضا إنها قد تكون بسبيل التنديد بهم من أجل ذلك. وعلى كل حال فإنه يصح أن يقال إن هذا الفصل ينطوي على(6/272)
مواقف مناوأة يهودية للدعوة النبوية بقصد التشكيك والدس.
ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة مباشرة فوضعت في مقامها ومن المحتمل أن يكون وصفها بسبب توافق ما فيها من موضوع مع ما كان قبل فصل الطواف من مواضيع متصلة بمواقف اليهود والله أعلم.
والحملة شديدة قارعة مما قد يلهم أن المواقف التي نزلت في صددها كانت شديدة الوقع والأثر.
ومع ما هو مرجح من أن موضوع الآيات هو اليهود ومواقفهم فقد جاءت مطلقة حيث يبدو أن حكمة الله اقتضت ذلك لتشمل كل من يكتم ما أنزل الله من الهدى والبينات الواردة في كتبه سواء أكانوا من أهل الكتب السابقين أم من المسلمين. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا نبويا رواه أيضا أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «1» . ونرى أن ننبه على أمر مهم في صدد الحديث النبوي. ففيه الحق من دون ريب غير أن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها لا تشترط السؤال لاستحقاق لعنة الله واللاعنين على الكاتم بل توجب على كل من يعلم ما في كتاب الله من هدى وبينات أن يبينها سواء أسئل أم لم يسأل، وفي آية سورة آل عمران هذه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [187] توكيد لذلك فيما يتبادر لنا والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن جملة وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ تعني الملائكة أو غير الإنس والجن من خلق الله. ولم يرو هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ويتبادر لنا أن الجملة أسلوبية لبيان كون الكاتمين يستحقون لعنة كل من خلقه الله إطلاقا من باب التسديد والتشميل وهي من باب الجملة الثانية في الآية التالية وبأسلوب آخر، والله أعلم.
__________
(1) انظر التاج ج 1 ص 58.(6/273)
وفحوى الآية الثالثة في مقامها قد يفيد أن صفة الكفر تلصق بالذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه والله أعلم.
والاستثناء الوارد في الآية الثانية جليل التلقين ومن حكمته الملموحة أن يكون وسيلة إلى حمل الكاتم على الارعواء، فإذا ما كتم عالم ما عنده من علم الله وكتابه وأسباب الهدى إليه استحقّ اللعنة الشاملة، فإذا ما ارعوى وندم وتاب تاب الله عليه.
وفي الآيات توكيد أو تأييد لما نبهنا عليه أكثر من مرة في مناسبات سابقة من أن ما احتوته آيات القرآن من حملات شديدة على الكفار وما وصفتهم بها من قوة القلب وعمى البصيرة وعدم الاهتداء واستحقاقهم لعنة الله إنما هو تسجيل لواقع أمرهم حين نزولها وأنه إنما يظل واردا ولازما بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار.
استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم
ولقد وقف المفسرون عند هذه الآيات، فمنهم من أجاز لعن الكفار عامة في الحياة بعد الممات بدون تعيين، ومنع لعن كافر بعينه لأنه لا يعلم إلا الله ما إذا كان تاب قبل الموت فصار في نطاق الاستثناء الذي جاء في الآية الثانية. وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين. ومنهم من أجاز لعن كافر بعينه إذا ما كان متيقنا من كفره عند لعنه لأنه يكون مستحقا للعن وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين بأعيانهم. ويتبادر لنا أن الرأي الأول هو الأوجه.
لأن المرء لا يعلم حالة الناس وسرائرهم علما يقينيا يجعله على يقين بأن الذي يلعنه منهم بعينه مستحق للعنة حقا. وهناك أحاديث نبوية نراها تدعم هذا الرأي من ذلك حديث رواه الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله» «1» . وحديث رواه البخاري عن أنس جاء فيه: «لم يكن
__________
(1) التاج ج 5 ص 33 و 34.(6/274)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّابا. كان يقول عند المعتبة ما له ترب جبينه» «1» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قيل يا رسول الله ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة» «2» . وحديث رواه أبو داود عن سمرة جاء فيه: «من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه» «3» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» «4» .
ولقد جعلت هذه الأحاديث كثيرا من العلماء يذهبون إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يلعن قطّ، وأنه ليس في الآيات التي نحن في صددها إيعاز بلعن أحد وإنما هي من قبيل الوعيد الرباني ويتحاشون عن لعن أحد معيّنا كان أم غير معيّن.
وتطرق بعضهم إلى ما درج عليه بعض المسلمين من لعن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وما درج عليه الشيعة من لعن كثير من أصحاب رسول الله وجميع ملوك ورجال وقواد بني أمية وما في ذلك من بغي وعدوان ومخالفة للسنة النبوية. بل وخروج عن ربقة الإسلام من حيث إن من يلعن من لم يكن مستحقا يقينا اللعنة عادت اللعنة إليه ومن نعت بالكفر من لم يكن كافرا يقينا باء بالنعت. وفي كل هذا وجاهة ظاهرة. وللإمام ابن تيمية في كتابه منهج السنة ومختصره المنتقى كلام قوي وسديد في هذا الباب.
استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات
ويصرف الشيعة هذه الآيات إلى علي (رضي الله عنه) وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون إن الله قد بيّن صفاته وخلقه في الكتاب وإن فيها إنذارا لمن يكتم ذلك ويكفر به بعد أن بينه الله للناس في الكتاب. برغم ما هو ظاهر من مدى الآيات واتفاق المفسرين على أنها في صدد اليهود وعدم وجود أية مناسبة بين السياق وبين زعمهم الذي مؤداه أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبخاصة كبارهم قد أسقطوا من
__________
(1) التاج ج 5 ص 33 و 34.
(2) التاج ج 5 ص 33 و 34.
(3) التاج ج 5 ص 33 و 34.
(4) انظر المصدر نفسه.(6/275)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
كتاب الله صفات عليّ وخلقه، فاستحقوا ما احتوته الآيات من وصف وإنذار رهيبين. والتعسف والزور بارزان على هذا الكلام كما هو المتبادر «1» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
. عبارة الآيتين واضحة وقد تضمنتا تقرير وحدة الله المتصف بشمول الرحمة، ودلائل وحدانيته وعظمته، فيما في السموات والأرض من نواميس وآيات باهرة مما يقع عليها نظر السامعين ومما يستمتعون به منها من منافع عظيمة متنوعة يدركها العاقل المتدبر من الناس وتجعله موقنا باستحقاق الله وحده للخضوع والعبادة.
والآيتان مما تكرر كثيرا في السور المكية فحوى ومقصدا، ولقد علقنا على مثلهما في تلك السور تعليقات كافية فلا نرى ضرورة للتكرار.
ولقد روى المفسرون «2» أن الآية الأولى نزلت بناء على طلب المشركين وصف الله وأن الآية الثانية نزلت بناء على طلبهم البرهان على ما قررته الآية الأولى والروايات لم ترد في الصحاح. ولقد حكت آيات مكية كثيرة اعتقاد المشركين بوجود الله وكونه هو الخالق للأكوان المدبر لها الرازق النافع الضار. فليس مما يحتمل أن يطلبوا ما ذكرته الروايات فضلا عن أن أسلوبهما لا يتسق كثيرا مع هذه الروايات. والذي يتبادر لنا أنهما جاءتا معقبتين على ما سبقهما فالآيات السابقة أنذرت الذين يكتمون بينات الله ويصرون على الكفر بالنار وسجلت عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فجاءت هاتان الآيتان لتبينا ما في الكون من آيات دالة على وجود الله وعظمته وما في الكفر به من سخف وضلال.
__________
(1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 86.
(2) انظر تفسيرهما في الطبري والطبرسي.(6/276)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
على أن هذا لا يمنع احتمال أن تكون الآيتان مقدمة للآيات التالية لها التي احتوت اتخاذ بعض الناس شركاء لله.
ومن المحتمل أن تكون الآيتان وما بعدهما قد نزل بعد الفصل السابق فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعهما بعدها في ترتيب آيات السورة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
. (1) الأسباب: هنا بمعنى الروابط التي تربط بينهم، ومن معاني السبب الحبل أو ما يربط الشيء بآخر.
في الآيات:
1- إشارة تنديدية إلى الناس الذين يتخذون مع الله شركاء وأندادا يعبدونهم ويحبونهم مثل عبادة الله وحبه.
2- وتنويه استدراكي بالمؤمنين به وحده الذين كل حبهم موجه إليه.
3- وتنبيه إنذاري بما سوف يكون من أمر أولئك الظالمين المشركين يوم القيامة حينما يرون العذاب فيتيقنون أن القوة جميعها لله. ولسوف يتنصل ويتبرأ المتبوعون من التابعين وتتقطع الروابط التي كانت تربطهم ببعض. ولسوف يندم التابعون ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتبرأوا من تابعيهم كما تبرأوا منهم. وهكذا يشعر الجميع بالحسرة على انحرافهم وسوء أفعالهم ولن يكون لهم خروج من النار.(6/277)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وفحواها وروحها يقوّيان احتمال أن تكون الآيتان السابقتان مقدمة أو تمهيدا لها على سبيل تسفيه وتسخيف الذين يشركون بالله غيره مع ما هو ماثل في الكون من دلائل عظمته ووحدانيته.
والصورة التي ترسمها الآيتان الثانية والثالثة قوية. وقد تكرر ورودها في سور مكية عديدة والمتبادر أنها استهدفت هنا ما استهدفته مثيلاتها وهو حمل التابعين بنوع خاص وهم الأكثرية الكبرى على الارعواء قبل فوات الوقت والندم الذي لا يجدي.
[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 173]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
. (1) طيبا: الطيب ضدّ الخبيث، والخبيث من الطعام كل نجس وفاسد وضار.
(2) الفحشاء: كل ما قبح من الأفعال.
(3) ألفينا: وجدنا.
(4) ينعق: من النعق. وهو التصويت بقوة ونعق الراعي إذا صاح بغنمه زاجرا. والجملة التي وردت فيها الكلمة هي لتشبيه حالة الكافرين بحالة الحيوان(6/278)
الذي يسمع الصوت ولا يفهمه.
(5) باغ: من البغي.
(6) عاد: من العدوان.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد:
فأولا: وجّه للناس عامة هاتفا بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه.
وثانيا: وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي: فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيها فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون.
وثالثا: وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة ولا يكون سيء النية باغيا فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال.
وتبدو الآيات فصلا جديدا، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعا ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعا للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.(6/279)
وقد روى المفسرون «1» أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة، حيث يرجح استلهاما من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [170] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجيا ووجاهيا بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [172- 173] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل، وآيات الأنعام [134- 145] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار المشركين. وآيات النحل [112- 117] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذارا لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دورا إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين.
ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام
__________
(1) انظر ابن كثير والطبرسي والخازن.(6/280)
والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [171] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد.
وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى.
ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا تجدد المواقف والمناسبات وثانيا ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته.
ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى إنّ كلّ مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: «تليت هذه الآية عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة.
فقال: يا سعد أطبّ مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به» . وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال: «أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟(6/281)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
قال: لا. قال: فما شأنك؟ قال: حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود:
هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك» .
وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
. (1) فما أصبرهم على النار: من باب التعجب.
(2) لفي شقاق بعيد: لفي خلاف عظيم بعيد عن الحقّ قائم على قصد المشاقة والمنازعة.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت تقريعا وإنذارا شديدين للذين يكتمون ما أنزل الله في كتبه وتقرير كونهم في شذوذهم وخلافاتهم فيها منحرفين بعيدين عن الحق على اعتبار أن سبيل الله والحق لا تتحملان خلافا ولا نزاعا ولا شقاقا.
ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن المقصود بالآيات اليهود أو أحبارهم لأنهم كانوا يكتمون ما في كتب الله عندهم من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم. والرواية ليست من الصحاح ومع أنها تنطوي على حقيقة الواقع من أحبار اليهود وقد أشير إلى مثل ما ذكرته عن اليهود في آيات سابقة. فإن الذي يتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الفصل السابق. ويخطر للبال على ضوء السياق أن اليهود استشهدوا على صحة ما ورد تحريمه في القرآن من الأطعمة الحيوانية المحرمة وهو ما ورد في آيات سورة الأنعام [93] وسورة النحل [115] لتكون الحجة أقوى(6/282)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
وألزم على الكفار المشركين. ولعل هؤلاء طلبوا استشهادهم فلم يشهدوا بالحق الذي في كتبهم والذي بينه وبين ما حرمه القرآن تطابق ما وكتموا ذلك بقصد التعطيل والتشكيك فاستحقوا التنديد والإنذار الرهيبين هنا وفي الفصل الذي جاء بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة لأن السياق متصل والله تعالى أعلم.
ولقد جاءت الآيات هنا مطلقة كسابقاتها أيضا لتكون شاملة لكل من يكتم كتاب الله. وما أوردناه في سياق الآيات السابقة من تنبيهات وأقوال وأحاديث يورد هنا بتمامه بطبيعة الحال مع التنبه إلى ما في جملة وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا في الآيات التي نحن في صددها من تشديد أقوى في التنديد في حالة توخّي المنافع الدنيوية الخبيثة من الكتمان حيث يزيد هذا من إثم الكاتم وجريمته ويجعل عقوبته عند الله تعالى مضاعفة.
[سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
. (1) البرّ: قرئت بفتح الباء وقرئت (البار) أيضا، وقدّروا وراء البرّ الثانية محذوفا بحيث تكون الجملة «ولكن البرّ برّ من آمن بالله واليوم الآخر» .
(2) على حبه: على شدة الرغبة فيه والحرص عليه.
(3) وفي الرقاب: وفي سبيل شراء العبيد وعتقهم أي تحرير الرقاب.
(4) البأساء والضراء: أوقات الشدة والمصائب والمحن.
(5) البأس: هنا بمعنى الحرب.
عبارة الآية واضحة، وهي موجهة إلى السامعين والمرجح الذي تلهمه روحها(6/283)
أن المقصود هم المؤمنون، لتنبههم إلى أن البرّ ليس في توجيه الوجوه إلى المشرق والمغرب ولكنه هو ما ذكرته الآية من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة وكتب الله وأنبيائه وإعطاء المال المحبب للنفس للمحتاجين وبنوع خاص لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولأجل تحرير الرقيق وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في المحن والشدائد وفي ميدان الحرب، فالذين يفعلون ذلك هم الصادقون المتقون.
تعليق على الآية لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... وما فيها من تلقين
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية. من ذلك ما رواه الطبري عن قتادة أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن البرّ فأنزل الله الآية. وروى الطبري عن قتادة رواية أخرى تفيد أن اليهود كانوا يصلّون قبل المغرب وأن النصارى كانوا يصلّون قبل المشرق فنزلت الآية لبيان حقيقة البرّ.
وروى الطبرسي أنه لما حوّلت القبلة أكثر اليهود والنصارى الخوض في ذلك وقيل فيما قيل إن البرّ وطاعة الله هما التوجه في الصلاة فأنزل الله الآية. وروى عن قتادة أيضا أنها نزلت في اليهود خاصة لأنهم هم الذين أكثروا الخوض في تحويل القبلة.
وليس شيء من الروايات من الصحاح والرواية الأخيرة مع ذلك هي الأكثر ورودا استئناسا بالسياق والله أعلم.
ولما كانت المواضيع التي احتوتها الآيات التالية لهذه الآية مواضيع جديدة غير متصلة بالسياق السابق وكان اليهود هم موضوع الكلام في الدرجة الأولى في الفصول السابقة لها باستثناء الآيات [153- 158] التي فيها تثبيت للمؤمنين وموضوع الطواف بين الصفا والمروة فتكون هذه الآية خاتمة قوية للسياق الطويل الذي بدأ من الآية الأربعين واحتوى حلقات عديدة في صدد مواقف اليهود ضد الدعوة الإسلامية وجحودهم ودسائسهم وربط حاضرهم بغابرهم. وقد استغرق(6/284)
أكثر من ثلث السورة، وتضمن صور المرحلة الأولى من مراحل الاحتكاك بين النبي صلّى الله عليه وسلّم واليهود في العهد المدني التي كانت قاصرة على الجدل والنقاش والمناظرة والتنديد والإنذار والتي يبدو من خلالها مع ذلك ما بذله اليهود من قوة النشاط المعادي للدعوة الإسلامية في مختلف المجالات وما قصده القرآن من فضح هذا النشاط وإحباطه وهدم المركز القوي الثقافي والديني والسياسي والمالي الذي كان يتمتع به اليهود في الأوساط العربية. ولقد احتوت السور النازلة بعد هذه السورة صورا مماثلة لصور هذه المرحلة ثم صورا للعداء الخطير الذي انتهى إلى الاشتباكات الحربية حتى أظهر الله نبيه والمؤمنين عليهم وساعدهم على تطهير المدينة منهم. وخضد شوكتهم في القرى الأخرى في نهاية السنة السادسة من العهد المدني على ما سوف نشرحه في المناسبات الآتية.
والآية فصل جامع رائع من جوامع القرآن وروائعه. وقد احتوت تقرير أهداف الدعوة الإسلامية الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية بأسلوب قوي نافذ.
ولقد ذكرت هذه الأهداف بأساليب متنوعة في القرآن المكي مما يؤكد الاتساق التام بين القرآن المكي والقرآن المدني. ولقد علقنا عليها في المناسبات العديدة التي ذكرت فيها بما يغني عن التكرار. غير أن في الآية خصوصية جليلة جديرة بالتنويه والتنبيه وهي تقريرها كون أهداف الدعوة الحقيقية والجوهرية ليست الأعراض والأشكال والمظاهر وإنما هي الصدق في الإيمان والعمل والقيام بالواجب نحو الله ومساعدة المحتاجين على اختلافهم من أقارب وأباعد والوفاء بالعهد والصبر عند المحن والثبات في الجهاد والتضحية بالمال والنفس. وفي هذا ما فيه من قوة حيوية الدعوة وعظمتها ومرشحاتها للعمومية والخلود. وينوه بنوع خاص بخاتمة الآية التي تقرر أن المتصفين بما فيها من صفات هم الصادقون المتقون، ولقد شرحنا سابقا مدى التقوى والصدق وما في الآية من صفات مما يماثل ذلك حقا وصدقا.
ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث في سياق هذه الآية فيها توضيح لبعض عباراتها وتساوق مع تلقيناتها. منها حديث رواه الحاكم في مستدركه عن ابن(6/285)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وآتى المال على حبّه أن تعطيه وأنت صحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر» «1» . وحديث رواه ابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: في المال حقّ سوى الزكاة ثم قرأ الآية» «2» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «ليس المسكين هذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه» «3» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
. (1) كتب: هنا وفي غير مكان بمعنى فرض على الأغلب.
(2) القصاص: مقابلة العمل بمثله.
(3) وأداء إليه: الجمهور على أن الجملة تعني أداء الدية في حالة العفو.
الآيتان موجهتان إلى المسلمين. وقد احتوت أولاهما: إيجاب القصاص في
__________
(1) روى الشيخان والنسائي هذا الحديث بهذه الصيغة: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أيّ الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» التاج ج 2 ص 36.
(2) روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة: «سألت أو سئل النبيّ عن الزكاة فقال: إن في المال لحقا سوى الزكاة ثم تلا الآية» . التاج ج 2 ص 39.
(3) روى مؤلف التاج هذا الحديث برواية الخمسة إلا الترمذي بهذه الصيغة: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» التاج ج 2 ص 38. [.....](6/286)
حوادث القتل التي تقع بينهم كفرض مكتوب عليهم فأوجبت قتل الحرّ القاتل بالحرّ المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. وأوردت احتمال العفو عن القاتل من قبل ولي المقتول وإباحته. وذكرت ما يجب في مثل هذه الحال وهو التزام الحق والإحسان من جانب القاتل المعفو عن دمه فيسير في التعويض ودفع الدية لأهل القتيل وفق المعروف وبدون عطل وبخس. وبينت أن هذه الإباحة تخفيف من الله ورحمة منه بالمسلمين. وأنذرت من يستغل ذلك فيعتدي ويبغي على غيره. وقد تضمنت ثانيتهما: بيان حكمة إيجاب القصاص فذكرت أن في القصاص حياة للمجتمع حيث يكون وسيلة من وسائل تقوى الله والارتداع عن الظلم والعدوان وإراقة دماء الناس. ووجهت الكلام في آخرها إلى أولي العقول فيهم الذين يستطيعون إدراك هذه الحكمة والعمل بمقتضاها. الجملة التي احتوت هذه الحكمة من روائع الوجائز والحكم القرآنية التي يمكن أن تكون سندا لكل تشريع وتنفيذ جزائي في الدنيا.
والآيتان فصل جديد لا صلة له بالسياق السابق. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الآية السابقة لهما فوضع بعدها بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم.
تعليق على آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ... إلخ والتالية لها
ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيتين، منها أنه كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية وكان الحي الأقوى قد نذر بأن يقتل من عدوه الحرّ بالعبد والرجل بالأنثى والحرّ بالحرّ. وبأن يجعل دية جراحاته مضاعفة. فلما أسلم الحيان حكما النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلتا ومنها أن العرب في جاهليتهم كانوا طبقات، وكان أشرافهم يغالون في القصاص والدية ويضاعفونهما بالنسبة لمن هم أقل شرفا وقوة، وأن بعض العرب رفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلتا ومنها أن اليهود كانوا يقاصون بدون عفو وأن النصارى كانوا لا يقاصون فنزلتا لبيان حكم الإسلام الوسط بينهما. ومنها(6/287)
أنه كان قوم من العرب إذا قتل عبد قوم آخرين رجلا منهم لم يرضوا بقتل العبد حتى يقتلوا سيده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا منهم لم يرضوا بقتل القاتلة حتى يقتلوا رجلا من عشيرتها «1» . والروايات ليست من الصحاح غير أن مضمون الآية الأولى يلهم احتمال نزول الآيتين في إحدى الحالات المروية عن العرب وبخاصة في الحالة الأخيرة لحل المشكل الدموي الواقع الذي رفع أمره إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومع ترجيحنا خصوصية المناسبة فالذي يتبادر من صيغة الآيتين أنهما نزلتا لتكونا تشريعا عاما للتطبيق في الظروف المماثلة. وهذا شأن معظم الآيات التشريعية والتعليمية.
والآيتان هما أولى الآيات التي تحمل طابع التشريع والتقنين في شأن من شؤون الحياة وهو طابع خاص بالعهد المدني، وما ورد في الآيات المكية من أوامر ونواه في هذه الشؤون يحمل طابع الحثّ والعظة والزجر والإنذار والتنديد. وسبب ذلك واضح فالمسلمون في مكة كانوا قلة فلم يكن إمكان ولا مجال للتقنين والتشريع. وقد تغير هذا في العهد المدني حيث كثر المسلمون وصار النزاع والخلاف على شؤون الحياة مما يكثر بينهم. وقد صار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا في مركز الرئيس والقائد والقاضي معا فانفسح المجال واقتضى الحال التشريع تمشيا مع الظروف واستجابة للمناسبات وحلا للمشاكل والوقائع وجوابا على الاستفتاءات والاستعلامات والمراجعات.
وننبه بهذه المناسبة على أمر هام وهو أن معظم ما نزل به تشريع وتقنين من شؤون الحياة في العهد المدني قد نزل به بأمر ونهي وزجر وحثّ وإنذار وتبشير في القرآن المكي. ومن جملة ذلك حظر القتل بغير حق وتقرير حق ولي المقتول بالقصاص مما ورد في سور الإسراء والأنعام والفرقان. وفي هذا ردّ على الأغيار الذين يحلو لهم غمز النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن بغيا وتعصبا وحقدا فيقولون: إن هناك
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي إلخ.(6/288)
تناقضا في الدعوة وأهدافها وسيرها بين العهدين. فالأسلوب المدني هو إيجاب تطبيقي للمبادىء والأحكام التي قررتها الآيات المكية مما ينطوي فيه كل الحكمة والحق والصواب ومقتضيات الحياة ثم الانسجام التام بين قرآني العهدين.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض الأحاديث والاجتهادات الفقهية نوجزها ونعلق عليها بما يلي:
1- المؤولون والمفسرون متفقون على أن حكم الآية الأولى هو في صدد القتل العمد. وهذا متبادر من فحواها أما القتل الخطأ فقد ذكر حكمه في إحدى آيات سورة النساء وسيأتي شرح ذلك في مناسبة.
2- إن من المؤولين والمفسرين من قال إن حكم الآية قد نسخ بحكم النفس بالنفس مطلقا، الذي ورد في آية سورة المائدة هذه: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... إلخ [45] وهذه الآية حكاية لما كتبه الله على بني إسرائيل في التوراة وليست تشريعا للمسلمين على ما تلهم الآيات التي جاءت بعدها. ونظرية (شرع ما قبلنا شرع لنا) ليس مما يمكن التسليم به استنادا إلى الآيات المذكورة على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
ويتبادر لنا أن جملة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ الواردة في الآية الثانية قد تضمنت تعديلا لحكم الأولى فصار القصاص أي قتل القاتل العمد مطلقا هو الحكم المبدئي العام. وهناك أحاديث نبوية تؤيد هذا التعديل. منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» «1» . وحديث رواه أبو داود عن قيس بن عباد في صدد كتاب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر» «2» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 17.
(2) ورد هذا الحديث في تفسير القاسمي عزوا إلى أبي داود وفي التاج ج 3 ص 31 حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي فيه: «لا يقتل مسلم بكافر» .(6/289)
ولقد استند أبو حنيفة وآخرون إلى بعض هذه الأحاديث مع مبدأ القصاص فقرروا أن المسلم يقتل بالمسلم إطلاقا سواء أكان القاتل أو القتيل رجلا أو امرأة أو عبدا أو أمة، وخالف بعضهم هذا الرأي وقالوا لا يقتل الرجل بالمرأة ولا الحرّ بالعبد استنادا إلى نص الآية الأولى.
ويتبادر لنا أن الآية الأولى إنما نزلت لحل مشكلة دموية قائمة بأوصاف معينة وأن الرأي الأول المستنبط من أحاديث نبوية ومن مبدأ القصاص مطلقا هو الأوجه.
ولم نطلع على أثر نبوي يدعم الرأي الثاني وهناك أحاديث فيها صراحة أكثر تدعم الرأي الأول منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه: «كتب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن في جملة ما كتب أن الرجل يقتل بالمرأة» «1» . وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه» «2» .
ومن رأي أبي حنيفة استنادا إلى مبدأ القصاص المطلق أن المسلم يقتل بالكافر الذمي أو المعاهد والأكثرون على أن المسلم لا يقتل بالكافر. وهذا مما يدعمه حديث سبق إيراده.
3- مما رواه المفسرون عن المؤولين أن جملة: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ هي في صدد من يقتل قاتلا بعد العفو عنه وأخذ الدية منه. وقد استند إليها بعضهم فأوجبوا قتل من قتل قاتلا بعد العفو وأخذ الدية. وهناك أحاديث نبوية تساق في تأييد ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» «3» . وحديث رواه أبو شريح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أصيب بقتل يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتصّ وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار
__________
(1) التاج ج 3 ص 14.
(2) المصدر نفسه ص 31.
(3) أورد هذا الحديث ابن كثير ومعنى لا أعافي لا أعفي من القصاص رجلا قتل قاتلا بعد أخذ الدية عن القتل الذي قتله.(6/290)
جهنّم خالدا فيها» «1» . والمتبادر أن الرابعة هي قتل القاتل بعد العفو وأخذ الدية.
والراجح أن هذا يكون في حالة تعدد أولياء القتيل وعفو بعضهم وقبولهم بالدية دون الآخرين. والجمهور على أن عفو بعض الأولياء وقبولهم بالدية يمنع القصاص وهذا وجيه ومؤيد لما رجحناه من وجه المسألة.
4- ومما رواه المفسرون في جملة: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أنها في معنى أن لولي القتيل الذي يعفو ويقبل بالدية أن يطالب بها بالمعروف أي بدون عنف وأن على القاتل وأهله أن يؤدوا الدية بالحسنى بدون إبطاء ونقص، وهذا سديد وجيه.
والجمهور متفقون على أن لأولياء القتيل أن يعفوا عن دم قتيلهم بدون دية أيضا، وهذا حقّ متبادر من روح الآية.
وهكذا تكون الآية قد انطوت على تلقين جليل في حالة العفو. فالله تعالى إذا أباح العفو فإن ذلك منه تخفيف ورحمة فلا يجوز للمسلمين أن يسيئوا استعمال هذه الرخصة. وعليهم أن يسيروا في أداء ما يترتب عليهم وفي مقاضاته بالحسنى والمعروف والحق. وهذا عدا ما في مبدأ إباحة العفو والصيغة المحببة التي ورد بها من تمشّ مع طبيعة الأمور وملاحظة مصلحة الناس وحالاتهم في مختلف الظروف أيضا من تلقين جليل آخر.
5- وأكثر أئمة الفقه على أنه إذا اشترك أكثر من واحد في قتل قتيل فإنهم يقتلون به. وقد أورد ابن كثير خبرا يفيد أن عمر قتل سبعة في غلام وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. وقال ابن كثير إنه لا يعرف لهذا مخالف من الصحابة.
وينسب إلى الإمام أحمد عدم تجويز قتل الجماعة بالواحد. ويتبادر لنا أن الرأي الأول أوجه إذا ما ثبت أن الجماعة اشتركوا فعلا في القتل وليس هناك بينة أو دليل على واحد بعينه أكثر من غيره والله أعلم.
__________
(1) التاج ج 3 ص 15.(6/291)
6- والجمهور على أن الوالد لا يقتل بابنه. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه الترمذي عن سراقة قال: «حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه. وفي رواية لا يقتل الوالد بالولد» «1» .
7- والجمهور على أن القتل العمد المستوجب للقصاص هو الضرب بدون كفّ حتى الموت. وأن القاتل إذا ضرب ثم كفّ قبل الموت ثم مات المضروب بعد فترة ما نتيجة للضرب فيكون قتله (شبه عمد) ولا يستوجب قصاصا وإنما يستوجب دية مثل دية العمد في حالة عفو أولياء القتيل عن دم قتيلهم المقتول عمدا. وهناك من قال: إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو قتل عمد. وهناك من قال إن القتل لا يحسب قتل عمد إلا إذا كانت آلة الضرب حديدية. أما إذا كان الضرب بالعصا أو الحجر أو السوط فهو شبه عمد وإن لم يكفّ الضارب حتى الموت. والاختلاف في المذاهب هو لسبب اختلاف في الأحاديث النبوية المروية.
وقد صوب الطبري قول من قال: إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو عمد ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله أعلم.
8- والأحاديث مختلفة أيضا في تقدير الدية للعمد في حال العفو ولشبه العمد، فمنها ما يفيد أنها مئة من الإبل ومنها ما يفيد أنها اثنا عشر ألف درهم ومنها ما يفيد أنها ألف دينار أو ثمانمائة دينار. ومما روي أنها استقرت في زمن عمر على أن تكون على أهل الإبل مئة وعلى أهل البقر 200 وعلى أهل الشاة 2000 وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة 12000 درهم وعلى أهل الحلل 100 حلة «2» .
والمتبادر أن التقدير والتنويع متأثران بالظروف القائمة وأن من السائغ أن يكونا متبدلين حسب كل ظرف والله أعلم.
__________
(1) التاج ج 3 ص 31.
(2) انظر المصدر نفسه ص 9- 11 وفي هذا المصدر أحاديث أخرى في الدية ليس فيها فروق جوهرية.(6/292)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
وهناك أحاديث نبوية تفيد أن دية المرأة المسلمة نصف دية الرجل «1» . وأبو حنيفة أخذ بحديث «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» دون هذه الأحاديث فذهب إلى أن دية المرأة المسلمة نفس دية الرجل ونرى هذا هو الأوجه والله أعلم.
وهناك أحاديث تفيد أن دية الكافر الذمي والمعاهد هي نصف دية المسلم وأحاديث تفيد أنها مثل دية المسلم «2» ، فمن الفقهاء من أخذ بهذا ومنهم من أخذ بذاك.
9- وهناك تشريع نبوي يعرف بالقس امة. ويطبق في حالة وقوع جريمة قتل لا يعرف قاتله معرفة يقينية حيث يحلف خمسون من أهل القتيل على رجل بعينه فيقتص منه وإلا فيحلف خمسون من أهل المتهم على براءته «3» . وقد أخذ بعض الفقهاء بهذا التشريع في حين قال بعضهم إن القصاص لا يكون بالقس امة وإنما يجب فيها الدية إذا أقسم أهل القتيل ومع أن الجمهور في جانب الرأي الأول فإن الرأي الثاني لا يخلو من وجاهة من حيث إن اليمين لا يصح أن يكون في مقام اليقين العياني، والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
. (1) إذا حضر: بمعنى إذا دنا.
(2) خيرا: هنا بمعنى المال، أو المال الكثير.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 15.(6/293)
(3) جنفا: ميلا وانحرافا عن الحق.
في الآيات: إيجاب الوصية على كل مسلم- حينما يدنو أجله وكان عنده فضل من مال- لوالديه ولأقاربه. وتنبيه على وجوب تنفيذ ذلك على وجه عادل من دون جنف على أحد وعلى الوجه المعروف بأنه الأفضل والأولى. وإنذار لمن يحرف أقوال الموصي أو يبدلها أو يكتمها أو يعطلها. وحثّ على الإصلاح بين ذوي العلاقة بالوصية إذا ما رئي من الموصي نية جنف أو إثم أو ظلم مخالفة للحق.
والآيات فصل جديد بأسلوب تشريعي كسابقة، ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة لنزولها وتلهم أنه لم يكن للآباء ولبعض طبقات الأقارب أنصبة معينة ومقررة في التركات وكان هؤلاء وأولئك عرضة للعوز والحرمان فاقتضت الحكمة تنزيل الآيات في مناسبة من المناسبات المتصلة بذلك والمتبادر أنها نزلت قبل نزول آيات المواريث الواردة في سورة النساء لأن هذه الآيات عينت للآباء والأخوة والبنات أنصبة معينة في التركات وفي هذا كما هو المتبادر صورة تطورية للتنزيل القرآني.
ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل قد نزل بعد فصل القصاص فوضع بعده، كما أن من المحتمل أن يكون وضعه بعده بسبب المماثلة التشريعية.
تعليق على آيات الوصية
ولقد اختلفت أقوال المفسرين «1» ومن رووا أقواله من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم في مسألة نسخ هذه الآيات. فهناك من قال إن آيات المواريث الواردة في سورة النساء والحديث النبوي المشهور الذي جاء فيه: «إن الله أعطى
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير، وأكثرهم استيعابا للأقوال هو الطبري.(6/294)
كلّ ذي حقّ حقّه وإنّه لا وصيّة لوارث» «1» قد نسختها. ومنهم من قال إنها لم تنسخ وإن حكمها قائم. ومنهم من قال إن آيات المواريث والحديث النبوي قد نسخ الوصية للوارثين فقط دون غيرهم من الأقارب. والقول الأخير هو الأوجه كما هو المتبادر. ومن القرائن على استمرار حكم الوصية بعد نزول آيات المواريث في سورة النساء أن هذه الآيات كررت التنبيه على وجوب تنفيذ وصية الميت وأداء ما عليه من دين قبل توزيع التركة. وهناك كثير من طبقات الأقارب قد لا ينالهم من الإرث نصيب مثل الأخوة في حال وجود الأبناء الذكور والآباء ومثل الأحفاد حينما يكون لهم أعمام ومثل الأعمام والعمات والأخوال والخالات في حال وجود ورثة أقرب كالآباء والأبناء الذكور إلخ إلخ ... حيث تكون الوصية لهؤلاء حلّا لمشكلتهم وسدا لعوزهم لأنهم محجوبون عن الإرث وفي هذا ما فيه من حقّ وروعة وجلال.
والآية الأولى قوية التعبير حتى جعلت الوصية فرضا وحقا على من يتقي الله تعالى ولعل هذا من مفردات التشريع الإسلامي وخصوصياته.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود حديثا عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «ما حقّ امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده» «2» .
وقد أورد الطبرسي في سياق تفسير الآيات حديثا نبويا جاء فيه: «من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهلية» وحديثا آخر جاء فيه: «من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته وعقله» وحديثا عن علي بن أبي طالب جاء فيه: «من لم يوص عند موته لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية» .
وقد أورد الطبري قولا عن الضحاك أحد علماء التابعين جاء فيه: «من مات
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 243. وروى هذا الحديث الترمذي عن أبي أمامة. [.....]
(2) انظر المصدر نفسه ص 241، وقد أورد ابن كثير قولا لابن عمر بعد أن أورد الحديث المذكور جاء فيه: «ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ذلك إلّا وعندي وصيتي» .(6/295)
ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية» . وقولا آخر جاء فيه: «فإن لم يكن له قرابة فيوصي لفقراء المسلمين» .
وفي كل ما تقدم من الروعة والجلال ما هو ظاهر حيث ينطوي في ذلك قصد إلى توزيع الثروة وعدم احتكارها في أيدي الورثة. وحضّ على عمل البرّ والخير وصلة الرحم، حتى لقد ذهب بعضهم استنادا إلى قوة الآيات والأحاديث إلى أن الذي يهمل الوصية يكون مضيعا لفرض من فروض الله تعالى على ما ذكره الطبري.
ولقد أثرت أحاديث وأقوال عن الحد الذي يجب فيه هذا الواجب، فهناك حديث نبوي مشهور رواه الخمسة عن سعد بن أبي وقاص قال: «مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني فقلت: يا رسول الله إن لي مالا كثيرا ولا يرثني إلّا ابنتي، أفأوصي بمالي كلّه؟ قال: لا. قلت: فبثلثيه؟
قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث. والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس» «1» . وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمران بن الحصين جاء فيه: «إنّ رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجزّأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرقّ أربعة وقال له قولا شديدا» حيث يفيد هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز الثلث فقط «2» .
وهناك حديث يرويه القاسمي عن الإمام أحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لوصية رجل بمال كثير ليتيم له وحدد له الثلث على الأكثر أو أقل مما أراد أن يوصي به.
وهناك أقوال يرويها ابن كثير والطبري وغيره من المفسرين عن بعض
__________
(1) التاج ج 2 ص 242.
(2) المصدر نفسه، وننبه على هامش هذا الحديث أن الرقيق كان يعتبر مالا، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يرد بعمله تعطيل عتق الرقيق لذاته، والنبي صلّى الله عليه وسلّم من هذه الناحية أجلّ وأسمى والقرآن الذي أنزل عليه يحثّ على ذلك في مناسبات عديدة وإنما قصد إلى الرفق بورثة الرجل.(6/296)
أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم. منها أن عليّ بن أبي طالب دخل على ابن عمّ له يعوده فقال له: إني أريد أن أوصي، فقال له: لا توص فإنك لم تترك خيرا فتوصي. وكان ما عنده ما بين السبعمائة والتسعمائة درهم. ومنها أن رجلا استفتى عائشة وكان عنده أربعمائة دينار فقالت له: ما أرى فيها فضلا. ومنها أن قتادة حدد جملة: (إن ترك خيرا) بألف درهم فما فوق. وأن ابن عباس حددها بستين دينارا وطاووسا حددها بثمانين دينارا. ومن المحتمل أن تكون تحديدات ابن عباس وطاووس بل وقتادة وعلي بعد ترتيب الأعطيات للمسلمين في زمن عمر وبعده بحيث يكون المبلغ المحدد خارجا عن حاجة المسلم الضرورية. ومع هذا فيصح أن يقال إن هذه المقادير عرضة للتبدل تبعا لتبدل الظروف. وأن ما يعدّ كثيرا نوعا ما في ظرف قد يكون قليلا لا غناء فيه ولا يتحمل توصية في ظرف آخر والله تعالى أعلم.
ومهما يكن من أمر فالفهم العام الذي يستفاد من الأقوال ومن روح الآية أن جملة: (إن ترك خيرا) تعني إن ترك مالا كثيرا نوعا ما يتحمل فرز قسم منه لغير الورثة من الأقارب والمحتاجين. وفي هذا ما فيه من الحكمة والسداد بحيث يكون الحكم هو على أن الذين يتركون مثل هذا المال واجب الوصية على أن لا يكون أكثر من ثلث ما تركوه. وحديث المماليك الستة يفيد أن لولي أمر المسلمين وقاضيهم أن يمنع إجازة وصية تزيد عن الثلث.
وفي الآية الثانية إنذار لمن يبدلون الوصية أو يعطلون تنفيذها لأن في ذلك إجحافا لذي حقّ مكتسب ومنعا للخير والبرّ المنطويين في الوصية أو تغييرا للوجهة التي أحب صاحب الحق وهو صاحب المال أن يضع ماله فيها.
وروح الآية الثالثة وفحواها هما بسبيل منع الضرر من قبل الموصي ببعض ورثته أو تفضيل بعض على بعض بسائق من الحقد أو الهوى. وفي هذا ما فيه من حكمة وحق. ومن الأمثلة التي أوردها الطبري أن يوصي الأب لابن أحد أولاده دون غيره في حياة أبيه أو توصي المرأة لزوج إحدى بناتها، لأن الحال في الحالتين(6/297)
سيعود إلى والد أو والدة الحفيد، وهما ورثة لا تجوز لهما الوصية ومن الممكن أن تورد أمثلة أخرى مماثلة. ولقد روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل ليعمل أو المرأة لتعمل بطاعة الله تعالى ستين سنة ثم يحضرها الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار» «1» . وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الجنف في الوصية من الكبائر» وهذا الحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية والله أعلم.
ولقد أورد الطبري قولا لابن عباس بعدم جواز وإجازة الوصية التي فيها ضرر. وقولا لقتادة أن للحاكم أن يردّ الوصية التي فيها الضرر ومجانبة للحق والعدل. وأورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
يردّ من صدقة الحائف في حياته ما يردّ من وصية المجنف عند موته. والحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية أيضا والله أعلم.
وفي تفسير الطبري أقوال لبعض أهل العلم من التابعين في صدد نوع الموصى لهم. منها أن نصّ الآية يحصر الوصية للأقارب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء وأن من الواجب الالتزام بذلك. ومنها ما يجيز الوصية لغير الأقارب في حالة وجود أقارب مع شرط أن يكون الأقارب من جملة الموصى لهم. وأن الموصي إذا وصّى لغير أقاربه وكان له أقارب فيكون للحاكم أن ينتزع ثلثي ما وصّى به لغير أقاربه ويردّهما إلى الأقارب. وقد يكون القول الأول مطابقا لحرفية الآية. غير أنه يجب أن يلاحظ أولا أن الوصية للأقارب في الآية كانت قبل نزول آيات المواريث وأنها بقيت محكمة للأقارب غير الورثة. وثانيا أن الأصل في الوصية لغير الورثة هو سدّ حاجة المحتاج منهم كما يلهمه سلك أولي القربى في سلك اليتامى والمساكين في آية سورة النساء هذه: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8) وإن هذه الآية تلهم جواز
__________
(1) التاج ج 2 ص 241.(6/298)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
بل وجوب الوصية للمحتاجين من غير الأقارب أيضا والله تعالى أعلم.
وقد شجعت الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة الوسطاء على التدخل بين الموصي الذي يريد بوصيته الضرر أو يخشى منه ذلك والإصلاح بينهم. وفي هذا ما فيه من حكمة سامية بسبيل منع الضرر وإقرار ما فيه الخير والمصلحة لمختلف الفرق. وقد قال المفسرون إن هذا التشجيع مستمر المدى بعد موت الموصي أيضا بحيث يتدخل وسطاء الخير للإصلاح بين الورثة والموصى لهم حتى يزال الجنف والضرر اللذين يكونان في الوصية. وفي هذا وجاهة وصواب تؤيدهما جملة:
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بالنسبة للمتدخل للإصلاح حيث تنطوي على تبرئة الوسيط من إثم تبديل الوصية الذي أنذر به المبدلون لها في الآية الثانية، لأن فعله بسبيل الخير والإصلاح الذي هو من أهداف الدعوة الإسلامية والمبادئ القرآنية والنبوية.
وعبارة الآية الثالثة يمكن أن تتناول أي مسلم قادر على الإصلاح كما يمكن أن تشمل ولي أمر المسلمين. وفي هذا ما فيه من توسيع فسحة الإصلاح ودفع الأذى والضرر والجنف.
[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 187]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
.(6/299)
(1) فمن تطوع خيرا: من زاد في مقدار الفدية المعين.
(2) فمن شهد منكم الشهر: أقام فيه ولم يكن مسافرا.
(3) الرفث: كناية عن الجماع.
(4) تختانون أنفسكم: تخونون أنفسكم وتظلمونها.
(5) باشروهن: كناية عن الجماع أيضا.
(6) حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر: كناية عن بزوغ الفجر الصادق الذي يفرق بين ظلمة الليل وضوء النهار، ويساعد على التمييز بين الأبيض والأسود.
تعليقات على آيات الصيام مع شروح متنوعة في صدد الصيام ورمضان
الآيات تحتوي فرض الصيام وحدوده وفوائده ورخصه، وعبارتها واضحة وهي فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد فصل الوصية التشريعي فوضعت بعده، أو أن تكون وضعت بعده للمماثلة التشريعية كما كان الأمر بالنسبة للآيات السابقة.
والصيام من العبادات الرياضية الروحية القائمة على حرمان الجسم في سبيل تصفية النفس، وهو ممارس على أشكال متنوعة منذ الأزمنة القديمة ومفروض على(6/300)
اليهود والنصارى، وهذا ما أشارت إليه الآية الأولى «1» . وكثير من الأمم غير الكتابية تمارسه أيضا، ومما لا ريب فيه أن لهذه العبادة الرياضية الروحية إلهامات ومزايا وفضائل سواء في تعويدها الصائمين تحمّل الحرمان تحمّلا تطوعيا لا رقيب عليه ولا محاسب إلا إيمان الصائم وضميره وما في هذا من وسيلة لتصفية النفس وتقوية الروح والإرادة ومغالبة الأهواء وكبح الشهوات. أم في تذكيرها بالمحرومين وما يقاسونه من آلام العوز والحرمان وما يؤدي هذا إليه من رقة النفس وإثارة الرغبة في البرّ والخير والمعونة والإحسان. فلا غرو أن يكون من فرائض الإسلام الذي انطوت فيه الدعوة إلى كل فضيلة ومكرمة وإلى قيام الإنسان بواجباته نحو الله والناس بكل وسيلة ومناسبة، ثم إلى كبح جماح الشهوات وتصفية النفس وإعدادها لتلقي فيض الله ومدده وروحانيته.
ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة في فضل الصيام وآدابه فيها الترغيب والبشرى والحضّ والتشجيع. منها حديث جاء فيه: «إنّ الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» «2» . وحديث ثان جاء فيه: «كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربّه فرح بصومه» «3» وفي رواية: «كلّ عمل ابن آدم مضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عزّ وجلّ: إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به من يدع شهواته وطعامه لأجلي» . وحديث ثالث جاء فيه: «قال أبو
__________
(1) في أسفار العهد القديم والجديد المتداولة اليوم نصوص عديدة في ذلك. انظر الإصحاح 2 من سفر عزرا و 58 من أشعيا و 1 و 3 من يوئيل و 8 من زكريا و 17 من إنجيل متى و 4 من لوقا و 6 و 11 من رسالة بولس الثانية لأهل كورنتوس.
(2) رواه النسائي وأحمد. انظر التاج ج 2 ص 42 وكثير من أهل الملل الأخرى كانت قبل الإسلام وما زالت تمارس نوعا من الصوم كما يستفاد من مدوناتها.
(3) رواه الخمسة التاج ج 2 ص 43.(6/301)
أمامة، قلت: يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به؟ قال: عليك بالصيام فإنّه لا مثل له» «1» . وحديث رابع جاء فيه: «ألا أدلّك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين» «2» . وحديث خامس جاء فيه: «ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين» «3» . وحديث رواه الخمسة وأحمد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه، وفي رواية أحمد: وما تأخّر» «4» .
وهناك حديثان مهمّان في صدد آداب الصائم وأخلاقه أحدهما رواه الخمسة إلا مسلما جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» «5» . وثانيهما رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ربّ صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلّا السهر» «6» .
ولقد اقتضت حكمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشريع زكاة الفطر لتكون مطهرة للصائمين مما قد يكونون ألموا به أثناء صومهم من هفوات حيث روى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللّغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» «7» . وحديث رواه الخمسة عن ابن
__________
(1) رواه النسائي والحاكم والتاج ج 2 ص 46.
(2) رواه الترمذي التاج ج 2 ص 46.
(3) التاج ج 5 ص 106 و 107.
(4) التاج ج 2 ص 44.
(5) المصدر نفسه ص 56 و 57.
(6) انظر المصدر نفسه.
(7) انظر المصدر نفسه ص 22 و 24. والمراد بالصلاة صلاة العيد وفي التاج حديثان في صدد مقدار الزكاة أحدهما عن ابن عباس يذكر أن الزكاة صاع من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح حيث يبدو أن القمح كان أغلى من الشعير والتمر. وثانيهما يذكر أن عليا رضي الله عنه قال: أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعا من كلّ شيء. وطبيعي أن هذا المقدار هو الحدّ الأدنى. [.....](6/302)
عمر قال: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحرّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة» «1» .
وهناك أحاديث في فضل إطعام الطعام في رمضان والحثّ عليه، منها حديث رواه الترمذي وأحمد عن زيد بن خالد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فطّر صائما كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئا» «2» . وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أم عمارة قالت: «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فقدمت له طعاما فقال: كلي، فقالت: إنّي صائمة. فقال: إنّ الصائم تصلّي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، وربّما قال: حتى يشبعوا. وفي رواية: الصائم إذا أكل عنده المفاطير صلّت عليه الملائكة» «3» .
وهناك حديث عن جود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخاصة في رمضان ومدارسته القرآن مع جبريل فيه رواه الشيخان عن ابن عباس قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبيّ القرآن وفي رواية فيدارسه القرآن، فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة» «4» .
وهناك حديث في صدد الإفطار عمدا رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه» «5» .
__________
(1) التاج ج 2 ص 57.
(2) التاج ج 2 ص 57.
(3) المصدر نفسه ص 57 و 58.
(4) المصدر نفسه ص 63.
(5) المصدر نفسه ص 63.(6/303)
ومع أن جملة: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ هي في صدد الصوم وسياقه فإن إطلاقها ينطوي على تلقين عام يشمل مختلف شؤون المسلمين الدينية. ولقد علقنا على هذا المعنى في سياق الآية [78] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي كتب التفسير روايات وأقوال عن أهل التأويل وأئمة الفقه في صدد آيات الصيام وأحكامه نوجزها ونعلق عليها بما يلي:
1- قال المفسّرون ورووا «1» في صدد جملة: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إن صيام رمضان كان هو المفروض على أهل الكتاب وإن ذلك متصل بسنة إبراهيم وإن الصيام كان يبدأ من النوم بعد الإفطار إلى عتمة اليوم التالي. وإن ذلك شقّ عليهم فغيروا وبدّلوا كما قالوا إن الصيام كتب على المسلمين كما كتب على كل الناس وإن الصيام الأول كان ثلاثة أيام من كل شهر. وليس لما قالوه سند وثيق، والذي يتبادر لنا أن القصد من العبارة هو المماثلة، فقد كان لليهود والنصارى ولغيرهم أوقات صيام معينة فأشير إلى ذلك في سياق فرض الصيام على المسلمين.
2- وقالوا ورووا في صدد جملة: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ إن الصيام فرض لأول مرة ثلاثة أيام من كل شهر وكان هذا مما فرض على أهل الكتاب وأن هذا مما كان يفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون تطوعا ثم فرضا ثم نسخ بفرض شهر رمضان.
ومما قالوه ورووه أيضا أن جملة: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ هي أيام رمضان وإن جملة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هي بدل بياني لتلك الأيام وليست ناسخة. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه وأن جملة فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير في تفسير الآيات، وأكثرهم استيعابا الطبري وابن كثير. وجميع ما أوردناه في النبذ مقتبس من هذه الكتاب وبخاصة من الطبري وابن كثير.(6/304)
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الأولى في الآية [184] قرينة على ذلك لأنها تفيد أن الأيام المعدودة معينة العين.
3- وقالوا ورووا في صدد جملة: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ عدة أقوال منها إن هناك محذوفا مقدرا وهو (لا) قبل يطيقونه لأن في هذا بيانا لحكمة الرخصة والفدية. ومنها إن معنى يُطِيقُونَهُ هو (يتحملونه بجهد ومشقة) وهم الشيوخ والمرضى الذين لا يرجى برؤهم. ومنهم من أدخل معهم الحبالى والمرضعات إذا خفن على أنفسهن. ومنها إن الصيام فرض في البدء على التخيير فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا مع التنبيه الرباني على أن الصيام هو خير من الإفطار وأن ذلك نسخ بالآية [185] التي خلت من رخصة الإفطار وأوجبت الصوم على من شهد الشهر وقصرت الرخصة على المريض والمسافر بشرط القضاء. ولقد جاء في هذا الصدد حديث عن سلمة بن الأكوع جاء فيه أنه لما نزلت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فنسختها «1» . ومع ذلك فإن بعض المفسرين لا يسلمون بأن هذه الآية نسخت ما قبلها ويقولون إن حكم الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ باق.
وأوردوا حديثا عن ابن عباس رواه البخاري وأبو داود والنسائي بنصوص ثانية.
ونصّ البخاري: «ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان» ونصّ أبي داود: «هي رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة. وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا» ونصّ النسائي: «لا يرخّص إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يشفى» «2» .
والمتبادر أن الفدية الدائمة لا تصح إلّا ممن لا يطيق الصيام في أي وقت بسبب مرض لا يشفى أو سنّ متقدمة. أما الحبلى والمرضعة فيكون حكمهما إذا
__________
(1) التاج ج 2 ص 48 رواه الخمسة.
(2) انظر المصدر نفسه ص 70.(6/305)
خافتا على نفسيهما الضرر والخطر حكم المريض الموقت الذي رخصت له الآية بالإفطار على أن يقضي الأيام في وقت عافيته بعد والله تعالى أعلم. وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن رجل قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجة فإذا هو يتغذى قال: هلمّ إلى الغذاء، فقال: إني صائم. قال: هل أخبرك عن الصوم؟ إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم ورخص للحبلى والمرضع» «1» والمتبادر أن وضع الصوم هو وضع موقت بقرينة أنه جمع المسافر أيضا، والمسافر يقضي الصوم بنص الآية.
4- ومما قالوه ورووه أن جملة: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ بمعنى جمع الفدية إلى الصيام كما قالوا إنها بمعنى الزيادة في الفدية لأن طعام مسكين واحد هو حدّ أدنى، ويتبادر لنا أن القول الأخير هو الأوجه.
5- ومع كل ذلك فإنه يتبادر لنا والله أعلم أن الذين لا يطيقونه بسبب الشيخوخة والمرض الدائم الذي لا يبرأ منه صاحبه أو الذي يزيده الصوم شدة سيدخلون في عداد عدم التكليف: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ولا يقتضي هذا فدية. وأن الفدية كانت لمن يطيق الصوم على التخيير بينها وبين الصوم بدليل جملة وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ لأن هنا لا يصح أن يقال إلّا لمن يطيق الصوم وأنها نسخت بالآية التالية على الوجه المشروح الذي تؤيده بعض الأحاديث الصحيحة التي أوردناها والله أعلم.
6- والجمهور على أن طعام المسكين هو طعام يوم كامل من أوسط ما يطعم الصائم أهله. وأنه يصح أن يعطى بدل عن الطعام نصف صاع من برّ أو تمر، وقد يقاس على هذا فيقال إنه يصح أن يعطى بدل نقدي حسب الظرف والمكان.
7- ومن المعاني التي ذكرها الخازن لجملة: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أنها بمعنى من رأى منكم الهلال غير أن الجمهور على أن معناها من
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 70.(6/306)
كان مقيما غير مسافر. وهذا هو الأوجه الذي قد تؤيده جملة: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ التي جاءت بعد الجملة.
8- وهناك أحاديث عديدة في صدد الصوم والإفطار في رمضان غير الحديث الذي أوردناه آنفا، منها حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس جاء فيه:
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس، وكان صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، وفي رواية: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى فيه ليراه الناس فأفطر حتى قدم مكة. وذلك في رمضان فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأفطر. فمن شاء صام ومن شاء أفطر» «1» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أنس قال: «سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وفي رواية كانوا يرون أن من وجد قوة فصام فحسن ومن وجد ضعفا فأفطر فحسن» «2» . وحديث رواه الخمسة عن جابر قال: «وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلّل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البرّ الصوم في السفر» «3» .
وحديث رواه مسلم والنسائي عن أنس قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فصام بعض وأفطر بعض فتحزم المفطرون وعملوا وضعف الصوّام عن بعض العمل فقال رسول الله: ذهب المفطرون اليوم بالأجر» «4» . وهناك حديثان يرويهما الطبري لم يردا في الصحاح واحد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» . وثان عن حمزة الأسلمي جاء فيه: «أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: إنما هي رخصة من الله لعباده فمن فعلها فحسن جميل ومن تركها فلا جناح عليه» .
__________
(1) التاج ج 2 ص 68 و 69.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه.(6/307)
ولقد تعددت المذاهب بناء على ذلك ففريق من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم وأئمة الفقهاء ذهبوا إلى كراهية الصوم في السفر وقالوا: إن الله تصدّق على عباده برخصة الإفطار فلا يجوز ردّ صدقته. وفريق جعل ذلك في الخيار فمن شاء صام ومن شاء أفطر. وهناك فريق حبّذ عدم السفر في رمضان لئلا يضطرّ إلى الإفطار وقال: إنه إذا حلّ رمضان على مقيم وصام ثم سافر فعليه أن يستمرّ في الصوم.
9- ولم نطلع على أثر نبويّ في صدد حدّ المرض والسفر اللذين يباح فيهما الإفطار. فهناك حديث رواه البخاري جاء فيه: «كان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في أربعة برد» «1» . وحديث رواه أبو داود جاء فيه: «كان ابن عمر يخرج إلى الغابة فلا يقصر ولا يفطر» «2» . ومما قاله المؤولون والفقهاء إن حدّ المرض هو تمكن الظن بضرر النفس وازدياد العلّة أما حدّ السفر فمنهم من قدره بسير ثمانية فراسخ ومنهم من قدره بستة عشر فرسخا.
والذي يتبادر لنا من روح الجملة القرآنية ومن الأحاديث النبوية أن الرخصة بالإفطار للمسافر والمريض الموقت ويدخل في ذلك الحبالى والمرضعات والنفساء إنما هي بسبب الجهد والمشقة تمشيا مع المبدأ القرآني الذي يقرّر أن الله لا يكلّف نفسا إلا وسعها وأن الله يريد بالناس اليسر لا العسر. وأن الأمر موكول لتقدير المسلم المفروض أنه مخلص لدينه وواجباته الدينية، وأن الصيام في الأصل عمل ذاتي لا رقيب عليه إلا الله وإيمان المؤمن. ولقد جاء النص القرآني مطلقا مما ينطوي فيه حكمة بالغة متمشية مع الحكمة القرآنية العامة التي جرت على ترك تعيين الأشكال في الأعمّ الأغلب لظروف الأشخاص من الأزمنة والأمكنة. والعبرة قائمة اليوم بالنسبة للسفر في تبدل وسائط النقل ووسائل الأسفار، بل وهذا يشاهد في المرض نتيجة لتقدم الطب، فالمقاييس والأحوال تتغير بتغير الوسائل والظروف،
__________
(1) التاج ج 2 ص 69 والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ مشي ساعة ونصف. [.....]
(2) انظر المصدر نفسه.(6/308)
ولكن المبدأ القرآني يظل قائما ويكون هو الحكم في هذه المسائل كما هو في أمثالها وفي هذا ما فيه من القوة والروعة ومرشحات الخلود. وعلى ضوء هذا يمكن القول إن حدّ السفر والمرض المبيحين للإفطار هو المشقة المحققة التي قد تؤدي إلى الضرر. وإن الأولى أن يأخذ المسلم بالرخصة وأن لا يتكلف مشقة ولا يعرض نفسه للخطر والله تعالى أعلم.
10- ومما قاله المؤولون في جملة وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أنها في صدد الأيام التي يفطرها المريض والمسافر حيث يكون صومها عند الإقامة والشفاء، إتماما لعدة شهر رمضان وهذا وجه سديد.
11- وفي صدد كيفية قضاء الأيام التي يفطرها المريض والمسافر روى الدارقطني وابن الجوزي وصححه حديثا عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قضاء رمضان إن شاء فرّقه وإن شاء تابع» «1» .
12- ونستطرد إلى مسألة تشغل المسلمين في جميع أقطارهم كل سنة، وهي مسألة رؤية القمر لبدء الصيام والانتهاء منه. ولقد روى الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غمّ عليكم فاقدروا له» «2» . ولفظ الترمذي: «لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دون رؤيته غيابة فاكملوا ثلاثين يوما» وفي رواية البخاري: «فإن غمّ عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين» وفي رواية: «فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين يوما» «3» . وهناك أحاديث أخرى منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا يعني مرّة تسعة وعشرين ومرّة ثلاثين» «4» . وحديث رواه أبو داود والدارقطني وصححه عن حسين بن الحارث قال: «خطب أمير مكة ثم قال عهد إلينا رسول
__________
(1) التاج ج 2 ص 71.
(2) انظر المصدر نفسه ص 50 و 51.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه.(6/309)
الله صلّى الله عليه وسلّم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما» «1» .
وحديث آخر رواه أبو داود وأحمد عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«اختلف الناس في آخر يوم رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بالله أنهما رأيا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلّاهم» «2» . وحديث رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله أني رأيته فقام وأمر الناس بصيامه» «3» . وحديث رواه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني رأيت الهلال فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمّدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذّن في الناس فليصوموا» «4» .
وروح الأحاديث تلهم أن القصد هو التيقن من دخول الشهر ونهايته. وأن رؤية واحد من المسلمين في مكان تكفي لصيام المسلمين وإفطارهم في مكان آخر وبخاصة إذا كان المكانان متساويين أو متقاربين في المطالع. وأنه ليس من الضروري أن تثبت الرؤية في كل بلد لحدته. ولقد روى الخمسة إلّا البخاري عن كريب حديثا جاء فيه: «إنّ أمّ الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام وقضيت حاجتها واستهلّ عليّ رمضان وأنا في الشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت إلى المدينة آخر الشهر فسألني ابن عباس متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية.
فقال: ولكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت:
أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . «5» .
__________
(1) المصدر السابق ص 51 و 52 ومعنى ننسك بالرؤية: نصوم بالرؤية.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه.
(5) انظر المصدر نفسه.(6/310)
ويتبادر لنا أن هذا اجتهاد من ابن عباس قائم على احتمال الظن أن يكون مطلع القمر في الشام غير مطلعه في المدينة، وليس في الأحاديث النبوية المروية ما يدعمه بصراحة، وليس من شأنه أن ينقض الحكم المستلهم من الأحاديث التي أوردناها. وقد يكون عدم رؤيتهم الهلال في المدينة لسبب سحاب أو عجز عن الرؤية، وما دام أن من الثابت اليقيني اليوم أنه ليس فرق كبير في المطالع بين البلاد العربية في آسيا وأفريقيا بل وبين البلاد الإسلامية الآسيوية الإفريقية والأوروبية القريبة منها وأن الفرق لا يعدو أن يكون ساعة أو ساعتين بحيث يكون الشهر في اليوم التالي مؤكد الدخول في جميع هذه البلاد فإن ثبوت رؤية القمر في بلد منها كاف لبدء الصيام وانتهائه في البلاد الأخرى. وهذا صار يمكن العلم به في دقائق معدودة بحيث يكون خبر أول بلد يرى فيها القمر يؤخذ به في البلاد الأخرى صوما وانتهاء، بل وإنه لمن السائغ ما دام القصد الشرعي هو التثبت من دخول الشهر ونهايته أن يكون ذلك بناء على الحساب الفلكي الرياضي المستند إلى علم وثيق أو على رؤية الهلال بواسطة منظار المراصد الفلكية إذا تعذرت الرؤية العيانية المعتادة والله تعالى أعلم.
وفي هذا خلاص من البلبلة التي يقع المسلمون فيها في كل سنة من جراء تمسكهم بالحرف وإهمالهم الجوهر فيه فيكون صيامهم وإفطارهم واحدا في كل بلادهم. وقد وصل علم الفلك إلى درجة بعيدة جدا من الدقة والضبط، وساعد اللاسلكي على اتصال البلاد ببعضها في لمحة البصر ولم يكن من هذا شيء من قبل. وفي التقريرات والمبادئ القرآنية ما يبيح للمسلمين بأخذ كل ما فيه مصلحة وتيسير ولم يكن فيه معصية وتعطيل. وفي الآية التي نحن في صددها تلقين عظيم في هذه المسألة بالذات حيث قررت أن الله إنما يريد بالمسلمين اليسر ولا يريد بهم العسر وكل ما يريده منهم هو إتمام عدة الشهر الذي أمروا بصيامه وذكر الله وعبادته لأن في ذلك رشدهم وصلاحهم وخيرهم.
13- وقالوا ورووا في صدد الآية [187] : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ(6/311)
إِلى نِسائِكُمْ
إلخ ... عدة أقوال وروايات منها: إن الصيام كان يبدأ عند النوم في عتمة المساء فلا يجوز للمسلم أن يرفث ويأكل ويشرب إذا ما استيقظ ولو كان ذلك قبل الفجر، بل وكان من غلبه النوم قبل الإفطار يظل طاويا ولو استيقظ قبل الفجر وإن ذلك كان تطوعا من المسلمين واجتهادا فأنزل الله الآية رفقا بهم وتحليلا لما حرموه على أنفسهم. ومنها إن ذلك كان بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن بعض المسلمين ومنهم عمر بن الخطاب نكحوا وأكلوا وشربوا بعد الاستيقاظ من النوم قبل الفجر فراجعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم تائبين خائفين فأنبهم، ثم نزلت الآية بالعفو والتوبة والتخفيف. ومنها إن الآية لم تنزل منفصلة وإن الله قد أعلم المسلمين فيها في سياق فرض الصيام عليهم أنه قد أحل لهم الأكل والشرب والرفث ليلة الصيام إلى الفجر لأنه علم أنهم قد يظلمون أنفسهم ويخونونها لو لم يحلّ لهم ذلك. ولقد روى البخاري عن البراء قال: «لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كلّه. وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله الآية» «1» . وروى البخاري وأبو داود والنسائي عن البراء أيضا قال: «كان أصحاب محمد إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءت امرأته فلما رأته قالت خيبة لك. فلما انتصف النهار أغمي عليه فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية ففرحوا بها فرحا شديدا. وفي رواية كان الناس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وصاموا إلى القابلة فاختان رجل نفسه فجامع امرأته وقد صلّى العشاء ولم يفطر فأراد الله أن يجعل ذلك يسرا لمن بقي ورخصة ومنفعة، فأنزل الآية «2» .
ويتبادر لنا أن جملة فَالْآنَ ثم جملة فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ في الآية قد تؤيدان ما جاء في الحديث الثاني وما روي عن عمر، ولا يمنع هذا أن يكون ما
__________
(1) التاج ج 4 ص 48 و 49.
(2) التاج ج 2 ص 47 و 48.(6/312)
روي في الحديث الأول قد وقع أيضا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية ليكون فيه تيسير للمسلمين في الصيام. وفي هذه الحالة تكون الآية قد نزلت منفصلة عن أخواتها بعد مدة ما ثم ألحقت بها للمناسبة.
14- وقالوا ورووا في صدد: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ إن بعض المسلمين الذين كانوا ينذرون الاعتكاف في المساجد ليلا ونهارا في شهر رمضان أو بعض أيامه كانوا يخرجون ليلا من المسجد فينكحون ثم يغتسلون ويعودون فنهوا عن ذلك. ولم نر قولا آخر في هذا الصدد. ويظهر أن بعض المسلمين خالفوا حدود سنة الاعتكاف التي سنها النبي لأصحابه كما خالفوا أمره بعدم الأكل والشرب والجماع بعد النوم فاحتوت الآية النهي عن ذلك.
ونقول استطرادا: إن من المفسرين من جعل المباشرة الجلدية دون الجماع في حكم الجماع المنهي عنه، والذي هو مفسد للصوم إطلاقا في حالة الاعتكاف وغيرها. ومنهم من ألحق التقبيل والمعانقة، ومنهم من أباح كل ذلك. استنادا إلى حديث رواه الخمسة عن عائشة (رضي الله عنها) جاء فيه: «كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقبّل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه» «1» . وهناك حديث آخر رواه أبو داود والبيهقي وصححه عن أبي هريرة جاء فيه «2» : أن رجلا سأل النّبي عن المباشرة فرخص له وأن شخصا آخر سأله عنها فنهاه وكان الأول شيخا والثاني شابا.
والذي يتبادر لنا أن الجوهري في المسألة هو ملك الإرب مع التيسير للهو والتحبب. وأن من لا يظن في نفسه القدرة على ذلك فالمنع هو الحكم. بل يتبادر لنا أن المنع هو الأولى في كل حال من باب الاحتياط، لأن الإنزال في حالة المباشرة في اليقظة مفسد للصيام بالإجماع.
وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في الاعتكاف في رمضان فيها توضيح لما جاء في هذه النبذة. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت:
«كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله ثم اعتكف أزواجه
__________
(1) التاج ج 2 ص 65.
(2) التاج ج 2 ص 65. [.....](6/313)
من بعده» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعتكف في كلّ رمضان عشرة أيام فلمّا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما» «2» .
وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف طرح له فراش أو وضع له سرير وراء اسطوانة التوبة» «3» . وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت:
«كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» «4» . وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عائشة قالت: «السّنة على المعتكف ألّا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمسّ امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلّا لما لا بدّ منه. ولا اعتكاف إلّا بصوم ولا اعتكاف إلّا في مسجد وجامع» «5» . وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في المعتكف: «هو يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلّها» «6» . وحديث رواه الطبراني والبيهقي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال:
«سمعت صاحب هذا القبر يقول: «من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين. ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين» «7» . وحديث رواه البيهقي عن الحسين بن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين» «8» .
وهناك حديث يساق في صدد قضاء سنّة الاعتكاف في غير رمضان وفيه صورة لكيفية الاعتكاف رواه الخمسة إلا الترمذي عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يعتكف صلّى الفجر ثم دخل معتكفه. وإنه أمر بخبائه فضرب فأراد الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبائه فضرب فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر نظر فإذا الأخبية فقال: آلبرّ تردن؟ فأمر بخبائه فقوّض وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكفه في
__________
(1) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع.
الموطأ ص 174.
(2) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع.
الموطأ ص 174.
(3) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع.
الموطأ ص 174.
(4) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع.
الموطأ ص 174.
(5) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع.
الموطأ ص 174.
(6) التاج ج 2 ص 97.
(7) التاج ج 2 ص 97.
(8) التاج ج 2 ص 97.(6/314)
العشر الأول من شوال» «1» .
15- وقد قالوا ورووا في صدد جملة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنها عنت أن القرآن أنزل دفعة واحدة في رمضان إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل منجّما، وهذا القول قيل في سياق الآية: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) في سورة القدر والآية: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [3] في سورة الدخان وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار. ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة أحاديث نبوية تذكر نزول القرآن وصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل في رمضان أيضا وكأنها تساق لتأييد هذا القول. منها حديث برواية الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ صحف إبراهيم نزلت في أول ليلة من رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة خلت والقرآن لأربع وعشرين» وحديث مروي عن جابر جاء فيه: «إن الزبور نزل لثنتي عشرة مضت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة» وهذه الأحاديث لا تعدّ من الصحاح، والثاني بخاصة لا يستند إلى سند معروف. ويجوز التوقف فيها. وصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى الأصلية (عليهم السلام) ليست في أيدينا. وبالنسبة للقرآن الذي في أيدينا كما نزل نقول إن هذا القول بالإضافة إلى كونه غير مفهوم الحكمة هو غير منسجم مع حقيقة كون فصول القرآن كانت تنزل في مناسبات أحداث السيرة المتجددة والمتبدلة. ولقد روى المفسرون عن الشعبي في تأويل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ سورة القدر [1] أنها بمعنى إنا بدأنا بإنزاله، وهذا هو ما تطمئنّ إليه النفس كما ذكرنا ذلك في تعليقنا على هذه المسألة في سورتي الدخان والقدر، والمتفق عليه المؤيد بحديث عائشة في أولية الوحي الذي أوردناه في تفسير سورة العلق أن الآيات الخمس الأولى من هذه السورة هي أول ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في ليلة القدر إحدى ليالي أواخر رمضان على ما شرحناه في تفسير سورة القدر.
والذي يتبادر لنا أن الآية التي نحن في صددها قد قصدت ذلك للتنويه ببركة شهر
__________
(1) المصدر السابق ص 94.(6/315)
رمضان وفضله لأنه كان فيه أعظم الأحداث الإسلامية وأكثرها بركة وخيرا وهو إعلان النبي صلّى الله عليه وسلّم نبوته واتصال الوحي الرباني به وتلقيه عنه أولى آيات القرآن الذي فيه الهدى والبينات والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل.
والمتبادر أن فرض صيام هذا الشهر المبارك على المسلمين متصل من ناحية ما بذلك الحادث العظيم حيث اقتضت حكمة التنزيل فرض صيامه عليهم ليكون لهم شهر عبادة خالصة لله تعالى يؤدونها في مشارق الأرض ومغاربها سنويا إلى ما شاء الله لهذه الدنيا أن يدوم فيها معنى الشكر وواجبه على رحمة الله ونعمته وفيها معنى التذكير المتجدد بهذه الرحمة والنعمة، بالإضافة إلى ما فيها من حكم اجتماعية ونفسية وبدنية وتعبدية على ما ذكرناه قبل.
ونستطرد إلى القول في صدد شهر رمضان فنقول: إننا ذكرنا في سياق تفسير سورة القدر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف اعتكافاته الروحية في غار حراء في شهر رمضان قبل نزول الوحي عليه وأن التحنّث- أي التعبد والاعتكاف في شهر رمضان- كان ممارسا من قبل بعض الورعين المتقين في مكة «1» . فيسوغ القول والحالة هذه أنه كان لشهر رمضان خصوصية دينية ما وإن لم يعرف كنهها بجزم فاقتضت الحكمة الربانية اختصاصه بنزول القرآن والوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم لأول مرة ثم بفرض صيامه على المسلمين.
16- ورووا في صدد الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ... إلخ عدة روايات. منها أنها نزلت جوابا على سؤال من أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين الله؟ أو على سؤال سائل: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ أو على سؤال سائل عن أي الساعات التي يحسن أن يدعى الله فيها. وليس للروايات سند وثيق.
ويتبادر لنا أن الآية غير منفصلة عن الآيات السابقة وأنها بمثابة استطراد وتنبيه: فالله قد أمر عباده بالصيام فعليهم أن يستجيبوا له ويؤمنوا به ففي ذلك خيرهم ورشدهم وعليهم أن يتيقنوا أنه قريب منهم إذا دعوه فإنه يستجيب لدعوتهم وعلى كل حال
__________
(1) انظر أيضا تاريخ الطبري ج 2 ص 48.(6/316)
ففي الآية معالجة نفسية للمسلمين تبثّ فيهم الأمل في فضل الله ونصره وتيسيره وتوفيقه واليقين في الاستجابة لهم إذا دعوه في الملمات والحاجات. ولقد أورد المفسرون وعلماء الحديث في سياق هذه الآية أحاديث عديدة فيها توكيد لهذا المعنى. وقد ورد بعضها في الكتب الخمسة «1» . منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن سلمان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ ربّكم حييّ كريم، يستحيي من عبده إذا دعاه أن يردّ يديه إليه صفرا» «2» . وحديث رواه الترمذي عن عبادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلّا أتاه الله إيّاها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم. فقال رجل من القوم: إذا نكثر؟ قال:
الله أكثر» «3» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلوا الله من فضله فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن يسأل. وأفضل العبادة انتظار الفرج» «4» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي» «5» . وحديث رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أنّ الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» «6» .
17- وقالوا في صدد جملة: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ إنها تشير إلى شدة المخالطة بين الأزواج وصعوبة الصبر وإن فيها تعليلا للإباحة. وعلى كل حال فإن فيها أيضا على ما يتبادر لنا تنويها بعلاقة الزوجين ببعضهما وما يجب أن تقوم هذه العلاقة عليه من الصفاء والتعاطف والتوادّ والتمازج حتى يغدوان كشخص واحد وروح واحدة وقلب واحد. وهذه المعاني انطوت في آيات عديدة سابقة نبهنا عليها وخاصة آية سورة الروم [21] والأعراف [189] .
18- وقالوا ورووا في صدد جملة: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أنها تتمة
__________
(1) أكثر المفسرين استيعابا لهذا ابن كثير وقد نقلنا ما أوردنا من الأحاديث من التاج لأن بين ما أورده ابن كثير وبين ما جاء في التاج بعض التباين واكتفينا بما نقلناه عن التاج لأنه جامع للكتب الخمسة وفيه الكفاية.
(2) التاج ج 5 ص 100- 104.
(3) التاج ج 5 ص 100- 104.
(4) التاج ج 5 ص 100- 104. [.....]
(5) التاج ج 5 ص 100- 104.
(6) التاج ج 5 ص 100- 104.(6/317)
للترخيص الرباني في الرفث والأكل والشرب إلى الفجر، كما قالوا ورووا أنها في معنى ابتغوا الخير الذي أراده الله لكم في الصيام. والمتبادر أن القول الأول هو الأكثر ورودا والله أعلم.
19- وقالوا ورووا في صدد جملة: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ إن معنى الشطر الأول (حتى يظهر بياض النهار بعد الفجر) . وأوردوا في تأييد ذلك حديثا رواه البخاري والترمذي عن عدي بن حاتم قال: «قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال بل هو سواد الليل وبياض النهار» «1» . أما معنى الشطر الثاني فالمتفق عليه أنه دخول الليل الذي يباح به الإفطار هو غروب الشمس.
ولقد استنبط الفقهاء من الآية عدم جواز مواصلة الصوم إلى اليوم التالي بدون إفطار. وهناك أحاديث عديدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها نهي عن الوصال تؤيد ذلك.
من ذلك حديث يرويه الطبري عن أبي سعيد قال: «سمعت رسول الله يقول لا تواصلوا، فأيّكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السّحر» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة في صيغ عديدة منها: «إيّاكم والوصال مرتين، قيل إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني فاكلفوا من العمل ما تطيقون» «2» . والحكمة الملموحة في الأحاديث هي الإهابة بالمسلمين لئلا يحملوا أنفسهم ما لا يطيقون. وأن يسيروا في عباداتهم بما هو اليسر دون العسر، وما دام الله تعالى قد جعل حد الصيام اليومي دخول الليل فالأولى التقيد بذلك.
هذا، وهناك تشريعات نبوية في صدد صيام رمضان حكى عنها القرآن وصارت تتمة لأحكام هذا الصيام نشير إليها بإيجاز في ما يلي:
1- تشريع للحائض بالإفطار على أن تقضي الأيام التي تفطر بها في أيام أخر
__________
(1) التاج ج 4 ص 48.
(2) رواه الأربعة، التاج ج 2 ص 64.(6/318)
غير رمضان «1» . وليس هناك أثر نبوي عن حالة النفاس في رمضان والمتبادر أنها تقاس على حالة الحيض والله أعلم.
2- استحباب نبوي للسحور وحثّ عليه ووصفه بالغذاء المبارك «2» .
3- صلاة التراويح، إن الأحاديث النبوية المروية تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجعلها سنّة ملزمة متواصلة، وكان يصلّيها بعض الليالي ويتركها بعض الليالي حتى لا تكون كذلك ولم يحدد عددها، ولم تصبح معتادة وبإمامة إمام إلّا في شطر من خلافة عمر (رضي الله عنه) لإقبال الناس عليها مع صلاتهم منفردين. ومما يروى أنها كانت ثلاثا وعشرين ركعة» .
9- وليس في الحجامة أي فصد الدم أثناء الصوم بأس على ما جاء في بعض الأحاديث النبوية «4» .
10- استطرد السيد رشيد رضا إلى قطرة العين وحقنة الشرج، وأورد كلاما للإمام ابن تيمية جاء فيه أن هناك من يقول بإفسادهما للصوم ومن يقول بعدم ذلك وأن الأظهر أنهما لا تفطران. لأنه لم يرو أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديثا ما من أي رتبة في منع ذلك، وأنهما ليس فيهما تغذية قياسا على الأصل المنهي عنه. ولا يخلو الكلام من سداد. وقد نبّه السيد رشيد رضا على أن حقنة التغذية مفسدة للصوم خلافا لذلك وهذا سديد. ولم يذكر حقنة العلاج في العضل والوريد ويرى أن عدم إفسادها للصوم من باب أولى والله أعلم.
11- والمستفاد من الأحاديث أن مجامعة الرجل امرأته في يوم رمضان توجب كفارة ومغلظة أي عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين إن لم يقدر على عتق
__________
(1) جاء ذلك في حديث رواه الخمسة عن معاذ عن عائشة. التاج ج 2 ص 71.
(2) جاء ذلك في أحاديث عديدة رواها الخمسة مجتمعين ومنفردين، التاج ج 2 ص 54.
(3) انظر التاج ج 2 ص 58 و 59 و 60.
(4) المصدر نفسه ص 54.(6/319)
رقبة أو إطعام ستين مسكينا «1» إن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين. فضلا عن أنه مفسد للصيام ويجب قضاء اليوم «2» .
12- هناك أحاديث تجبر قضاء أيام الفطر في رمضان عن الميت أو تحثّ عليه أو تحثّ على إطعام مسكين عن كل يوم أفطره الميت «3» .
13- يكره الصيام أو يحرم في يوم الشك، وهو اليوم الذي يشك أنه من شعبان «4» .
14- هناك أحاديث تنهى عن الصيام يومي عيدي الفطر والأضحى، وأيام التشريق أي ثاني وثالث ورابع أيام عيد الأضحى «5» .
15- وهناك أحاديث تحثّ على الصيام التطوعي في غير رمضان ولكنها تنهى عن المواصلة فيه. وتحثّ بخاصة على صيام التاسع والعاشر من المحرم ويوم النصف من شهر شعبان. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم كثيرا في شهر شعبان ورجب ويصوم التسع الأوائل من شهر ذي الحجة أحيانا والتاسع على الأغلب. والأيام الستة الأولى من شوال بعد يوم العيد ويحث على ذلك «6» . ولا قضاء على من يفطر في صوم تطوعي إلّا إذا كان نذرا «7» .
16- وصلاة العيدين سنّة نبوية بعد شروق الشمس وهي ركعتان وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصليها في مصلّى عام غير مسجده ويأمر جميع الناس بشهودها بما فيهم النساء من مختلف الأسنان والحيض وإن كن في الحيض لا يصلين «8» .
__________
(1) ص 66.
(2) ص 79.
(3) ص 71 و 72.
(4) ص 78.
(5) ص 78.
(6) ص 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 90، 91. [.....]
(7) ص 92.
(8) ص 92.(6/320)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
[سورة البقرة (2) : آية 188]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
. (1) فريقا: هنا بمعنى قسما أو بعضا.
في الآية نهي موجه للسامعين المخاطبين عن أكل أموال بعضهم بالباطل أو التوسل بها مع الحكام بقصد أكل شيء من أموال بعضهم بغير حقّ وعن عمد وعلم وبيان ما في ذلك من إثم.
تعليق على الآية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ... إلخ
والآية فصل تشريعي جديد كما هو ظاهر، وقد تلهم روحها أن الخطاب فيها موجه إلى المؤمنين وإن كان إطلاقه يفيد تلقينا مستمر المدى وشاملا لجميع الناس، وقد يكون هذا الفصل نزل بعد فصل الصيام فوضع بعده أو يكون ذلك للمماثلة التشريعية.
وقد روى المفسرون «1» أن الآية نزلت في مناسبة شكاية أحد المسلمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم على آخر غصب له أرضا. فكلفه بإقامة البينة فعجز فكلّف المدعى عليه باليمين فهمّ بأن يحلف فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا إنه إن حلف على ما ليس له ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض. ثم قال: إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم ألحن «2» بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقضي له قطعة من نار فليتحمّلها أو يذرها» . فارتدع المدعى عليه عن اليمين وسلّم الأرض إلى صاحبها المدعي فلم تلبث أن نزلت الآية.
__________
(1) انظر تفسير الآية في الخازن.
(2) أحذق وأبلغ في الكلام وتنميقه.(6/321)
وفي الكتب الخمسة ثلاثة أحاديث فيها ما جاء في رواية الخازن مع زيادات موضحة مفيدة دون أن يذكر فيها أن الآية نزلت في المناسبة المذكورة في رواية الخازن.
أولها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي جاء فيه: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الحضرميّ: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها وليس له فيها حقّ. فقال النبي للحضرميّ: ألك بيّنة؟ قال: لا. قال: فلك يمين؟ قال: يا رسول الله إنه فاجر لا يبالي بما حلف ليس يتورّع عن شيء. فقال: ليس لك منه إلّا ذلك. فانطلق الرجل ليحلف فقال رسول الله: لئن حلف على مالك ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض» «1» . وثانيهما رواه أبو داود عن أم سلمة قالت: «أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجلان يختصمان في مواريث لهما ليست لهما بيّنة إلّا دعواهما فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم من قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار.
فبكى الرجلان وقال كلّ منهما حقّي لك. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخّيا الحقّ ثم استهما ثم تحالا. وفي رواية: إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه» «2» . وثالثهما حديث عن أم سلمة يرويه الخمسة جاء فيه:
«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» «3» .
ومهما يكن من أمر فإن الآية قد تلهم أنها نزلت بسبب حادث مشابه لما جاء في رواية الخازن أو الحديثين الأولين. وقد جاءت بصيغة عامة فيكون التوجيه أو التلقين الذي احتوته هدى للمسلمين في كل زمن وزاجرا لهم عن الارتكاس فيما نهت عنه إيمانا ويقينا وتقوى.
__________
(1) التاج ج 3 ص 54.
(2) المصدر نفسه ص 53 و 61.
(3) المصدر نفسه ص 53 و 61.(6/322)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
وينطوي في الآية النهي عن شهادة الزور والتزوير والحجة الباطلة المزوقة والدعوى المنمقة الخادعة التي تصور الحق باطلا والباطل حقا عن عمد وعلم بل وينطوي فيها نهي عن استحلال المسلم مال أخيه بأية وسيلة من وسائل الباطل من غشّ وتغرير وكذب وغبن وافتعال وأيمان وقمار وسرقة ورشوة وخيانة إلخ.
وقوة الزجر والتوجيه في الآية ملموحة ومتسقة مع شدة اهتمام القرآن لإقرار الحق وتوطيده وقيام العدل والإنصاف بين الناس والزجر عن الباطل والبغي والاحتيال والتزوير وتقبيح كل ذلك. وهذه القوة منطوية في الأحاديث النبوية حيث يتساوق التلقين القرآني والنبوي في هذا الأمر كما يتساوق في جميع الأمور.
ولقد رأى بعض المفسرين في تعبير وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ معنى الرشوة والقصد إليها. وهذا المعنى أو القصد منطو في الآية سواء أدلّ هذا التعبير بالذات عليه أو لم يدلّ. وفي هذا أيضا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين النبوي حيث روى أبو داود وأحمد والترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الراشي والمرتشي في الحكم» «1» .
[سورة البقرة (2) : آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
. (1) الأهلّة: جمع هلال. ومع ذلك فإن المتبادر أنها تعني حركات القمر وصوره خلال الشهر وتوالي ذلك شهرا بعد شهر.
في الآية:
1- حكاية لسؤال وجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الأهلّة.
__________
(1) التاج ج 3 ص 50.(6/323)
2- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالإجابة بأنها لأجل تنظيم مواقيت الناس وحساب أيامهم ولأجل معرفة مواقيت الحج أيضا.
3- وتنبيه للسائلين أو السامعين إلى أنه ليس في دخول البيوت من ظهورها برّ حقيقي مقرّب إلى الله وإنما البرّ الحقيقي هو تقوى الله والتزام حدوده وأمر لهم بدخول البيوت من أبوابها وبتقوى الله ليتمّ لهم الفلاح والسعادة.
والآية فصل جديد آخر، وعليه سمة تشريعية، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد سابقتها فوضعت بعدها أو أنها وضعت بعدها للمماثلة التشريعية.
وقد روى المفسرون «1» أن شطر الآية الأول نزل بمناسبة سؤال عن الحكمة في تبدل حالات القمر وأسرار ذلك، وأن شطرها الثاني نزل جوابا على سؤال آخر عن الحكم في تقليد من تقاليد الحج القديمة. وذلك أن العرب أو أهل يثرب كانوا حينما ينوون الحج ويحرمون له يحرمون على أنفسهم الاستظلال بسقف ما فإذا ما احتاجوا إلى شيء في بيوتهم أو أرادوا أن يدخلوا لبيوتهم فلا يدخلونها من الأبواب لئلا يظللهم السقف وإنما يصعدون إلى السطوح وينزلون منها إلى فناء البيت أو يخرقون خرقا في الجدار.
وهناك حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء جاء فيه: «كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها» . ولفظ مسلم: «كانت الأنصار إذا حجّوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلّا من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه فلاموه فنزلت الآية.
ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآية نزلت في مناسبة سؤالات في صدد ما ذكر فيها. ويتبادر لنا أن المسألتين عرضتا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أو سئل عنهما في ظرف واحد قبل نزول الآية فنزلت الآية للإجابة عليهما معا، والتناسب ملموح بين المسألتين كما هو ظاهر مما قد يدعم ذلك.
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير.(6/324)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
ويلوح لنا خاطر في صدد (السؤال عن الأهلّة) إذا كان أراد السائل حقا كما روي معرفة أسرار تقلّب حالات القمر ونواميسه. وهو أن الجواب القرآني جاء على طريقة أسلوب الحكيم. فالسائل سأل عن السرّ فأجيب بما هو مفيد له وللناس من حكمة ذلك وينطوي في هذا إذا صح الخاطر اهتمام القرآن ببيان المفيد الحكيم والتجاوز عما لا حاجة إلى بيانه أو لا طائل من بيانه من النواميس الكونية «1» .
والشطر الثاني من الآية ينطوي على إلغاء ذلك التقليد لما فيه من مشقة وعبث لا فائدة له. مقررا أنه ليس فيه شيء من البرّ، ومنبها إلى أن تقوى الله هي الجوهرية ووسيلة البرّ والفلاح الحقيقة.
وهذا متسق مع ما شرحناه في سورة الحج من حكمة الإبقاء على تقاليد الحج القديمة حيث ألغي منها ما فيه قبح أو عبث وجرّد ما أبقي عليه من شوائب الوثنية والشرك.
وهكذا يكون قد انطوى في هذا الشطر وهو يلغي هذا التقليد حكمة تشريعية من جهة وتلقين جليل مستمرّ المدى بأن الجوهري والبرّ الحقيقي عند الله هو تقواه والتزام حدوده دون الأشكال والأعراض والمظاهر، وهو ما انطوى في آيات عديدة سبق تفسيرها وبخاصة آية سورة البقرة [177] .
[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) .
__________
(1) رأينا القاسمي يورد هذا الخاطر أيضا ولم نكن اطلعنا عليه قبل.(6/325)
(1) حيث ثقفتموهم: الثقف في اللغة: الحذق والإصابة. والكلمة هنا بمعنى حيث وجدتموهم أو أصبتموهم وقدرتم عليهم.
(2) الحرمات: هنا بمعنى الأماكن والظروف المحرّمة دينيا.
في الآيات:
1- أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله.
2- ونهي عن العدوان بدءا وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.
3- وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم.
4- وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة.
5- ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة.
6- وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة.
7- وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله.
8- وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم.
9- ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم.
10- وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام(6/326)
أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وعليهم في هذه الحال أيضا أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم.
11- وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين لأن في التقصير فيهما تعريضا لأنفسهم للهلاك، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم.
تعليقات على الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وما بعدها إلى آخر الآية [195]
والآيات فصل جديد، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك، فتضمنت تبريرا حيث قالت إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقا للحرمة من القتل والقتال فيهما.
ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلّى الله عليه وسلّم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في(6/327)
شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصا لهم.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جوابا على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي:
1- واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.
2- عدم جواز بدئهم أحدا غير عدو وغير معتد بقتال.
3- واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني.
4- حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد وشرط ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل.
5- واجب الإنفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعا للاشتباك الفعلي وحيث يكون التقصير في ذلك معرضا للتهلكة والخطر.(6/328)
6- اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سببا مبررا لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وإنها لمبادىء في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءا أو عدوانا لحمل الناس على الإسلام.
ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [39- 43] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله والردّ على البغاة المعتدين لنقول إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لردّا آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضا مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.
ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتىء القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجابا، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.
كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة(6/329)
أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق- وهذا ما تعنيه جملة: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على ما ذكره المؤولون- عظيم المغزى من أجل ذلك.
ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاء للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيدا حيث قال له: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا النساء: [84] وإن جملة: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة: [195] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة» «1» . وفي سورة التوبة هذه الآية:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) وتنطوي على صورة مألوفة دائما وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائما وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة
__________
(1) هذه الرواية يرويها أصحاب السنن أيضا بهذه الصيغة الجليلة المغزى عن أسلم النجيبي قال: «كنا بمدينة الروم فبرز لنا صف عظيم منهم وخرج من المسلمين لهم مثلهم أو أكثر فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرّا إن أموالنا قد ضاعت وإن الله أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه الآية يرد علينا قولنا حيث عنت أن الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو هو التهلكة. وما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى استشهد ودفن في أرض الروم» . التاج ج 4 ص 51.(6/330)
مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه موالاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [261] وآية سورة الحجرات [15] وآية سورة محمد [38] وآية سورة التوبة [88] وغيرها وغيرها.
ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [190] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي: (ومن ألقى إليكم السلم وكف يده) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة: وَلا تَعْتَدُوا تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري- الأطفال- والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلا لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [90- 91] وسورة الممتحنة [8- 9] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته.
ولقد قال بعض المفسرين «1» عزوا إلى بعض التابعين أن كلمة وَالْفِتْنَةُ في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير فَإِنِ انْتَهَوْا يعني الانتهاء عن الشرك، وأن الآيات تأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين إلى أن يسلموا ويزول الشرك إطلاقا. وروح الآيات ومضمونها لا يساعدان على هذا لأنها تأمر المسلمين بقتال من يقاتلهم مع عدم الاعتداء من جهة، وعدم القتال عند المسجد الحرام أو في الشهر الحرام إلا إذا قوتلوا فيهما من جهة، وبمقابلة العدوان بمثله وظروفه والوقوف عند هذا الحد من جهة. وبعبارة أخرى إن المسلمين غير مأمورين فيها بالاستمرار في القتال إلى أن يسلم الأعداء أي أن يصبحوا مسلمين.
وهذا مؤيد بآيات عديدة وبروايات عديدة معا تتضمن تقرير كون النبي صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(6/331)
هادن وعاهد بعض المشركين ومنهم العدو المعتدي بدءا الذي أمر بقتالهم. فمن الآيات آية سورة النساء التي أوردناها آنفا. وآية التوبة هذه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) وهذه: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) ومن حوادث السيرة اليقينية صلح الحديبية بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وقريش الذين كانوا في حالة عداء وحرب.
أما التأويل الأوجه المستلهم من روح الآيات القرآنية لجملة: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فيما يتبادر لنا هو قتالهم حتى نضمن حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المستجيبين إليها، ولجملة فَإِنِ انْتَهَوْا التي تأتي بعد هذه الجملة بخاصة هو انتهاء المشركين من موقف العداء والبغي وإخلائهم بين الناس وحرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين.
وقد قيدنا الجملة بالتي وردت في الآية [193] لأن جملة فَإِنِ انْتَهَوْا في الآية [192] قد تكون حقا بمعنى (فإن أسلموا) بقرينة جملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التي جاءت بعدها. ولسنا نرى في هذا نقضا لقولنا الأول إذا اعتبرنا الآيات جميعها (وحدة) حيث يصح القول إن الآيات أمرت المسلمين بالاستمرار في قتال الذين يقاتلونهم حتى يسلموا أو ينتهوا من موقف البغي والعدوان. ويقوم بينهم وبين المسلمين عهد سلم وسلام. وفي سورة الأنفال آيات فيها نفس الحالتين على ما يتبادر لنا وهي: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) ، وهذه الآيات نزلت بعد وقعة بدر.
واستمرت حالة الحرب قائمة بين المسلمين وكفار قريش الذين عنتهم إلى السنة(6/332)
السادسة فعقد النبي صلّى الله عليه وسلّم بينه وبينهم صلحا زالت به هذه الحالة، ولو كانت الآيات بسبيل الأمر بالاستمرار إلى أن يسلموا لما وقع ذلك كما هو المتبادر.
ومن الجدير بالذكر أن كلمة (الفتنة) واشتقاقاتها قد تكررت في القرآن بمعان عديدة غير أنها لم تأت بمعنى الشرك بصراحة أو دلالة واضحة. وقد جاءت بخاصة بمعنى إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم مثل آية سورة البروج هذه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) وآية سورة النحل هذه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) وهذا المعنى هو المقصود فيما نعتقد في الآيات وبه يتضح معنى الجملة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ في الآية [191] أي أن إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم بخاصة في الشهر الحرام والمسجد الحرام هو أشد نكاية من القتل والقتال وأشد خرقا لحرمة الشهر الحرام والمسجد الحرام وأكثر تبريرا للقتال فيهما. حتى لو سلمنا جدلا أن الآية تأمر بقتال الأعداء حتى ينتهوا عن شركهم ويسلموا فإن ذلك يكون بالنسبة للأعداء الذين يقاتلون المسلمين والذين يحق للمسلمين أن يحددوا الشروط التي يكفون بها عنهم ولا يمكن أن يعني قتال كل مشرك بدءا حتى يسلم إذا لم يقاتل المسلمين مما أيدته وقائع السيرة النبوية تأييدا قاطعا، وقد قلنا (ولو سلمنا جدلا) للمساجلة وحسب. وفي صلح النبي صلّى الله عليه وسلّم للمشركين المسمى بصلح الحديبية دليل قاطع على أن الجملة لم تكن تعني إيجاب قتال المشركين والكفار حتى يسلموا.
ولقد قال المفسرون «1» : إن التحديدات والشروط الواردة في الآيات قد نسخت بآيات أخرى جاءت في سورة التوبة وأمرت بقتال المشركين إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مثل هذه الآية: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(6/333)
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ومثل هذه الآية: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) . والذي يتمعن في سياق الآيتين يجد أنهما في موضوع الذين عاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم نقضوا وغدروا وحسب وإن الله قد حدد الشرط الذي يجب أن يتحقق للكفّ عنهم نتيجة لنقضهم وغدرهم. ويورد المفسرون جملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً الواردة في آية سورة التوبة [36] في معرض تأييد قولهم. مع أن لهذه الجملة تتمة تمنع ذلك وهي: كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ومما يؤيد قولنا آية سورة الممتحنة هذه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) وهذه الآية لا تحتوي تأييد ما نقوله فقط، بل وتحثّ على البرّ والإقساط لمن يقف من المسلمين موقف المسالمة والحياد من الكفار والمشركين إطلاقا. ومن الجدير بالذكر أنه لم يرو أي خبر بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاتل أو أمر بقتال مشركين مسالمين أو حياديين أو معتزلين أو رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين. والذي يدرس وقائع الجهاد في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع جماعة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأرا لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها أو بناء على نكث عهد أو مظاهرة للعدو وتآمر معه ضد المسلمين. ولو كان قتال كل كافر أو كل مشرك مبدأ إسلاميا قرآنيا أو نبويا لاقتضى أن يقاتل النبي كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنّه وموقفه وهذا لم يحصل إطلاقا لا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا في خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم) .
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن بريدة حديثا جاء فيه: «إن
__________
(1) انظر وقائع الجهاد وغزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم وسراياه في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد وفي الأجزاء 2 و 3 و 4 من سيرة ابن هشام والجزء الثاني من تاريخ الطبري. [.....](6/334)
النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال له: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم.
ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحوّلوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة نبيه فلا تجعل لهم ذلك ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك. فإنّكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله ورسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تقبل منهم ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» «1» ويلفت النظر في هذا الحديث جملة: (إذا لقيت عدوك من المشركين) حيث يتسق هذا مع تلقين الآيات التي نحن في صددها من أن القتال هو للعدو المقاتل وحسب «2» .
ولقد شرحنا هذا الموضوع في سياق تفسير سورة (الكافرون) وبسبيل تقرير ما احتوته السورة من حرية التدين في الإسلام شرحا وافيا أيضا فنكتفي هنا بما تقدم.
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 327- 328.
(2) هناك أحاديث نبوية في صدد عدم قتال وقتل النساء والأطفال والشيوخ، منها حديث رواه أبو داود عن أنس قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: انطلقوا باسم الله وعلى ملّة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة» . ومنها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى عن قتل النساء والصبيان» التاج ج 4 ص 328. ومثل هذا مأثور في وصية أبي بكر رضي الله عنه حينما وجه الجيوش إلى الشام. انظر الموطأ ج 1 ص 247.(6/335)
تعليق على الشهر الحرام
وحرمة المسجد الحرام وأمنه قد أشير إليهما في آيات مكية عديدة ثم في بعض آيات من هذه السورة وسورة المائدة وقد علقنا عليها في تفسير سورة قريش بما فيه الكفاية.
غير أن الشَّهْرُ الْحَرامُ يذكر هنا لأول مرة، فنقول بمناسبة ذلك إن كلمة الْحَرامُ هي في نفس معناها بالإضافة إلى المسجد أي إنها تعني حرمة الشهر وتقديسه وأمنه وتحريم القتال فيه. وهذا المعنى منطو في الآيات التي ورد فيها التعبير في غير هذه الآيات في هذه السورة وغيرها من السور المدنية. وهذا التعبير يطلق على أربعة أشهر من الأشهر القمرية العربية. وقد ذكر عددها في آية التوبة هذه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) .
وقد ذكرت أسماء هذه الأشهر في حديث رواه البخاري عن أبي بكرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «1» .
والثلاثة المتواليات المذكورة هي أشهر الحج عند العرب قبل الإسلام.
وحرمتها وقدسيتها وتحريم القتال فيها متصلة بذلك. وكانت بمثابة هدنة دينية عامة ليتمكن العرب الذين كانوا يأتون إلى الحج من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب وخارجها ممن في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق من القدوم إلى مكة والعودة إلى منازلهم أثناءها دون خوف ولا حرج. أما شهر رجب فقد كان يقوم فيه موسم ديني خاص بأهل الحجاز وتسميته برجب مضر على ما جاء في الحديث دليل على
__________
(1) التاج ج 2 ص 136.(6/336)
ذلك فمدته كافية لقبائل مضر النازلة في الحجاز وما جاوره. وليس في الروايات بيان بماهية هذا الموسم ولكن هناك تقليدا إسلاميا بما يسمى الزيارة الرجبية وهي أداء العمرة في شهر رجب. ومن المسلمين من يرحل إلى مكة ليؤدي منسك العمرة في رجب. والآية [158] من هذه السورة التي سبق تفسيرها تذكر بصراحة أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ونوع يسمى العمرة. والنوع الأول يكون في موسم الحج والثاني في غير موسم الحج. ولعل الموسم الديني المضري الحجازي قبل الإسلام الذي كان يقوم في رجب هو موسم لزيارة الكعبة في غير موسم الحج.
ولعل التقليد الإسلامي بما يسمى الزيارة الرجبية متصل بذلك والله تعالى أعلم.
وظاهر من هذا أنه كان للعرب مصلحة عظمى دينية واجتماعية واقتصادية في الأشهر الحرم ولذلك كانوا على ما تلهمه الآيات وترويه الروايات «1» يتشددون في حرمتها وعدم إخلال هدنتها المقدسة حتى بلغ بهم الأمر إلى تحريم الصيد لأن فيه سفكا للدماء. فإذا حلت صار الناس في أمن شامل فلا نزاع ولا قتال ولا خوف. وما كان هذا ليكون لولا صبغتها الدينية. وقد أكد القرآن حرمتها وقداستها وأشار إلى ما فيها من مصلحة كبرى كما جاء في آية سورة التوبة [36] التي أوردناها قبل، وآية سورة المائدة هذه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) وهذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) . وذلك جريا على مبدأ الإبقاء على الصالح المفيد من التقاليد ولم يأذن بالقتال فيها إلّا لردّ عدوان ودفع ظلم وكفالة حرية الدعوة الإسلامية.
__________
(1) اقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص 281 وما بعدها.(6/337)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
وليس في آية التوبة المذكورة آنفا ولا في الحديث النبوي ما يفيد قدم هذه الأشهر حيث اقتصرت على القول إن من الأشهر أربعة حرما. ولكن فيها ما يفيد صفتها الدينية وإقرارها. وأسماء الأشهر عربية فصحى، وهذا يدل على أنها أو على أن هذه الأسماء ليست قديمة لأن اللغة العربية الفصحى لا يمتد تحققها إلى أكثر من مائتي سنة قبل البعثة النبوية على ما تفيده الدراسات الأثرية «1» . وسنزيد هذا الموضوع شرحا في سياق تفسير آية سورة التوبة المذكورة وآية النسيء التي تأتي بعدها.
[سورة البقرة (2) : آية 196]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)
. (1) الحج والعمرة: معنى الكلمتين اللغوي متقارب وهو الزيارة والتوجه والقصد. ثم صار لهما صيغة دينية قبل البعثة واستمرت بعدها. وفريضة الحج ركنان في أشهر الحج واحد زيارة الكعبة وتسمى عمرة وواحد الوقوف في عرفة ولا يتم الحج إلا بالركنين. ويتبادر لنا والله أعلم أن جمع الأمر وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قد قصد به الركنان. وقد تكون جملة: تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ دليلا أو قرينة على ذلك وسوف نزيد هذا شرحا فيما بعد.
(2) فإن أحصرتم: الإحصار هو منع مانع ما. ومعنى الجملة فإن منعتم وحالت أسباب قاهرة دون أدائكم الحج والعمرة.
__________
(1) انظر كتابنا الجزء الخامس من تاريخ الجنس العربي المذكور آنفا، ص 281 وما بعدها.(6/338)
(3) ما استيسر: ما تيسر.
(4) الهدي: ما ينذر للذبح قربانا لله في الحج والعمرة من الأنعام. وسمّي هديا على اعتبار أنه هدية لله وبيته.
(5) محله: المكان الذي يحل الذبح فيه ويجوز أن يكون معنى الكلمة المكان والزمان معا اللذان يحل الذبح فيهما. وفي سورة الحج آية تفيد المكان وهو الكعبة: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) أما الزمان فقد عينته السنة وهو بعد الحج أو بعد العمرة.
(6) نسك: الأصل في معناه التعبد. ولكنه هنا ما يقرّب إلى الله من الأنعام كفّارة عن عدم أداء بعض مناسك الحج وطقوسه أو الإخلال بها.
(7) فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج: الذي يتحلل من الإحرام بعد الطواف والسعي للمدة الباقية إلى وقت الوقوف بعرفة حيث يحل له ما يحظر على المحرم الذي يظل محرما بعد العمرة إلى انتهاء الحج.
(8) لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام: لمن لم يكن مقيما مع أهله في منطقة المسجد الحرام إقامة دائمة. فهذا له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج بدون كفارة.
في هذه الآيات تشريعات في مناسك العمرة والحج:
1- فعلى المسلمين أن يقوموا بواجب الحج والعمرة بنية عبادة الله والتقرب إليه، وأن يتموا مناسكهما.
2- فإذا خرج مسلم من منزله قاصدا القيام بهذا الواجب الديني ثم أحصر في الطريق ومنع عن الوصول لأسباب قاهرة فيكتفي بتقريب ما تيسر له من ذبائح يقربها لله. وليس له أن يحلق رأسه إلّا بعد أن تصل القرابين إلى المكان الذي ينبغي ذبحها فيه لأن حلق الرأس هو من محللات الإحرام ولا يكون إلّا بعد ذبح القربان.
ويرخص لمن كان مريضا أو به أذى من رأسه أن يتحلل من الإحرام ويفعل ما فيه وقاية له من ازدياد المرض أو شفائه منه ودفع الأذى عن رأسه من لبس ثياب وحلق(6/339)
شعر وتغطية رأس وتطيب وغير ذلك على أن يقدم فدية عن هذه الرخصة فيصوم أو يتصدق أو يذبح قربانا. وإذا تيسرت أسباب الأمن وبلغ المسلمون المسجد الحرام فعلى الذين يتمتعون بحريتهم في الفترة الواقعة بين العمرة والحج- أي الذين يدخلون منطقة الحرم محرمين فيؤدون العمرة أي يطوفون حول الكعبة ويسعون بين الصفا والمروة ثم يتحللون من إحرامهم ويتمتعون بما هو محظور على المحرمين:
كالنساء والطيب والتزين والثياب العادية إلخ إلى وقت الحج الأكبر والوقوف في عرفة والإحرام له- أن يقرّبوا قربانا لله مقابل ما تمتعوا به من رخصة إذا لم يكونوا من سكان منطقة المسجد الحرام. فإذا لم يقدروا على تقريب القربان فعليهم مقابل ذلك صوم عشرة أيام ثلاثة منها في موسم الحج وسبعة بعد الرجوع إلى منازلهم.
وانتهت الآية بالحثّ على تقوى الله والتحذير من عقابه الشديد في حالة تجاوز حدوده والتقصير في طاعته وتقواه.
تعليقات على آية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... إلخ
وسمة التشريع بارزة على الآية كمثيلاتها السابقة، ونرجح أن بينها وبين الآيات السابقة لها صلة موضوعية بشكل ما. وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في عام الحديبية حينما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بقصد زيارة الكعبة ومنعهم أهل مكة وانتهى الأمر بعقد الصلح وتأجيل الزيارة للسنة القابلة، وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة.
ويلحظ أن في الآية أحكاما عديدة ومطلقة في صدد مناسك الحج. وقد جاء بعدها آيات أخرى في أحكام الحج وسبقها آيات فيها إشارة إلى بعض تقاليد الحج السابقة وإلغاء لها. فهذا يسوغ التوقف في صحة الرواية كمناسبة لنزول الآية وترجيح نزولها قبل عام الحديبية بزمن طويل ولأجل بيان أحكام مناسك الحج والعمرة المتنوعة وصلتها بالآيات السابقة والآيات اللاحقة بحيث يمكن القول إن(6/340)
الآيات [189- 203] سلسلة واحدة نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
وإذا صح هذا- والقرائن تؤيد صحته إن شاء الله- فتكون مناسك الحج والعمرة قد فرضت على المسلمين وبينت لهم قبل عام الحديبية ويكون بعض المسلمين كانوا يتمكنون من الوصول إلى مكة وأداء مناسك الحج والعمرة منفردين قبل فتح مكة. وفي آية الطواف بين الصفا والمروة التي مرّ تفسيرها ما يمكن أن يكون قرينة من قرائن صحة هذا الاحتمال. وفي الآية الثانية من سورة المائدة التي نزلت على الأرجح قبل فتح مكة قرينة أقوى أو دليل على ذلك وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ المائدة: [2] ولقد أراد بعض المسلمين أن يحج بعد منع المشركين النبي والمسلمين من زيارة الكعبة عام الحديبية فحاول بعض آخر منعهم من ذلك انتقاما لمنع المشركين لهم. وهذا ما انطوى في جملة وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ...
المائدة: [2] إلخ.
أما جملة فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فإنها في هذه الحال تشير إلى احتمال منع من أراد الحج والعمرة من المسلمين بسبب مرض شديد أو بسبب ما كان قائما من حالة العداء والحرب بين المسلمين من جانب وأهل مكة من جانب آخر.
ولقد روي «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما منعه أهل مكة مع المسلمين من أداء العمرة عام الحديبية على ما ذكرناه آنفا نحر هديه في الحديبية وتحلل من الإحرام أي حلق رأسه ولبس ثيابه العادية وأمر المسلمين بذلك. وعلى ضوء هذه الرواية التي يؤيدها حديث رواه البخاري عن ابن عمر «2» يتبادر لنا أن الكلام من جملة وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ إلى آخر الآية مستأنف وليس تتمة لأول الآية. فالمنع إذا كان
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 147- 149.
(2) انظر التاج ج 2 ص 151 وابن هشام ج 3 ص 355- 369.(6/341)
بخاصة خوفا من عدو أو خطر قتل وقتال وأسر يحول دون بلوغ الهدي محله في حين أن جملة وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ تنهى عن التحلل من الإحرام بحلق الرأس قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي ينبغي أن يذبح فيه وهو منطقة الكعبة. وإذا صح هذا فيكون أول الآية قد احتوى حكما في حالة المنع وهو تقريب القرابين في المحل الذي وقف فيه المسلم ثم احتوت بقيتها أحكاما متنوعة في حالة الأمن وعدم المنع القهري.
وعدم حلق الرأس أثناء الإحرام وما يدخل في مداه مما نهت عنه السنّة من لبس الثياب المخيطة والتطيب والجماع إلخ ... وكذلك تقريب القرابين إلى الله في موسم الحج وزيارة العمرة كل ذلك من المناسك التي كانت متبعة قبل الإسلام على ما تلهمه روح الآيات والروايات المروية فثبتت في الإسلام مع بعض الرخص والتيسير اتساقا مع المبدأ القرآني الذي يقرر أن الله إنما يريد بالمسلمين اليسر لا العسر ولا يكلّفهم إلا وسعهم.
وروح الآية التي نحن في صددها تسوغ القول إن الأصل في مناسك الحج هو القران بين العمرة والحج أي بقاء الحاج محرما بدون تحلل بعد زيارة الكعبة (العمرة) إلى يوم الوقوف في عرفة، وإن الرخصة بالتمتع بين وقتيهما هي تعديل أو تيسير إسلامي. وقد يكون إيجاب الكفارة على المتمتعين قرينة أو دليلا، وإيجاب الكفارة على الذين يتمتعون بهذه الرخصة من غير سكان منطقة المسجد الحرام ناشىء على ما علله المفسرون من أن الذي يجب عليه الدخول إلى منطقة الحرم محرما هو غير هؤلاء السكان. وهم الذين تجب عليهم الكفارة إذا تمتعوا في الفترة بين العمرة والحج. أما سكان هذه المنطقة فلا إحرام عليهم إلا حينما يحل وقت الوقوف في عرفة حيث يحرمون ويؤدون ركن العمرة ثم يقفون في عرفة ثم يعودون منها فيطوفون ويسعون ويتحللون. أما قبل ذلك فإن لهم أن يظلوا غير محرمين ولا كفارة عليهم.
وجملة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ تتضمن إتمام عملين هما الحج والعمرة.(6/342)
والعمرة هي زيارة الكعبة على ما هو مشهور يقيني. أما كلمة الْحَجَّ فقد جاءت هنا مطلقة. وجاءت كذلك في سورة الحج وفي آيات أخرى في هذه السورة.
وجاءت مع الْبَيْتَ في الآية [158] من هذه السورة وسبق تفسيرها وفي آية سورة آل عمران هذه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [97] وهذه الجملة تتضمن فرضية العمرة في موسم الحج.
وما دامت العمرة هي زيارة الكعبة فتكون كلمة الْحَجَّ المطلقة التي جاءت مع كلمة العمرة قد عنت شيئا آخر وهو ما فسّر في الأحاديث بأنه الوقوف في عرفة.
الذي عرف يقينا أنه يجب أن يكون في التاسع من شهر ذي الحجة. والراجح أن كلمة يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ في آية سورة التوبة الثالثة: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) قد عنته.
وقد روى أصحاب السنن حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «الحجّ الحجّ يوم عرفة» وعلى ضوء هذا يمكن القول إن جملة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ تعني أن فريضة الحج الإسلامية ركنان هما العمرة أي الطواف والسعي في أشهر الحج والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. وقد ذكرت فرضية حج البيت في القرآن ولم تذكر فرضية الوقوف في عرفة بصراحة قطعية فيه فاقتضت حكمة الله ورسوله إتمام ذلك بالحديث والله أعلم. وليس من تعارض بين زيارة الكعبة في موسم الحج التي هي ركن من أركان الحج الإسلامي في موسم الحج وبين الزيارة التي تكون للكعبة في غير موسم الحج التي انطوى ذكرها في الآية [158] من سورة البقرة وشرحنا مداها.
وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية وصحابية وتابعية فيها توضيح لمدى الآيات وأحكام وسنن متصلة بها نوجزها ونعلق عليها بما يلي:
1- هناك إجماع على أن فرض الحج والعمرة على المستطيع هو مرة واحدة في العمر. وهذا مستند إلى الآية الأولى من هذه الآيات وآية سورة آل عمران [97](6/343)
وأحاديث نبوية عديدة «1» . ويستفاد من الأحاديث أن من المستحب أن يحج المسلم أكثر من مرة تطوعا وتقرّبا إلى الله «2» .
2- هناك من يقول إن العمرة سنّة ومن يقول إنها فرض استنادا إلى أحاديث مختلفة الصيغ، ويلوح أن القول بسنيتها ملتبس من كونها تصح أن تكون في غير موسم الحج على ما انطوى في الآية [158] من سورة البقرة وشرحنا إياها السابق.
وقد أداها النبي صلّى الله عليه وسلّم في غير موسم الحج. وأن فرضيتها كركن ثان من أركان فريضة الحج في موسم الحج هي الأوجه المستفادة من آية آل عمران [97] ومن أحاديث نبوية أخرى «3» ومن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها.
3- هناك أحاديث نبوية عديدة في خطورة فرض الحج والعمرة وعظم ثوابهما حتى لقد وصف الحج في بعضها بالجهاد» .
4- هناك أحاديث توجب التعجيل بأداء هذا الفرض حذرا من المرض أو العجز أو الموت قبل ذلك «5» » .
5- ليس في الأحاديث وقت معين لأداء فريضة العمرة في موسم الحج إلا وجوب إتمامها قبل الوقوف في عرفة وهو الركن الثاني لفريضة الحج. وهناك أحاديث توجب قضاءها بعد الوقوف في عرفة لمن فاتته قبل هذا الوقوف لعذر ما والحيض من الأعذار التي لا تجيز الطواف في حالته «6» .
6- هناك اختلاف في مدى الاستطاعة التي يكون الحج بها فرضا واجب الأداء. وهناك قول إنها الاستطاعة البدنية فقط. وهناك من يزيد عليها توفر الزاد
__________
(1) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في التاج ج 2 ص 100 و 146.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر المصدر نفسه ص 146 و 147.
(4) انظر المصدر نفسه ص 98- 101.
(5) انظر المصدر نفسه.
(6) انظر المصدر نفسه ص 116 و 125.(6/344)
والراحلة وهذا مما جاء في بعض الأحاديث النبوية «1» . وهناك من يزيد على هذا وذاك أمن الطريق. وهناك من يزيد على كل هذا أن يكون المسلم مالكا لنفقة تكفيه للسفر فاضلة عن نفقة عياله وعن سداد دين عليه. وأكثر المذاهب على أنها استطاعة بدنية ومالية وأن المالية يجب أن تكون كافية لنفقة السفر وفاضلة عن نفقة العائلة في الغياب وعن سداد الدين. وليس هناك أحاديث تعارض هذا الذي عليه الأكثر. وهو الأوجه مع زيادة ضرورية تخطر لبالنا وهي أن يكون من أراد الحج ذا مهنة أو مرتب يضمن له ولأسرته المعيشة أما إذا لم يكن له ذلك فيجب أن يكون متوفرا له رأس مال يضمن ربحه معاش أسرته بصورة مستمرة والله تعالى أعلم.
7- المستفاد من الأحاديث أن يصح أداء فريضة الحج والعمرة عن المريض والميت بشرط أن يكون البديل قد حج عن نفسه سابقا.
8- لقد ذكر (الهدي) في الآية مرتين، والهدي في المرة الأولى هو الهدي الواجب على كل حاج تقربه بين يدي حجه تقربا وطاعة. ويكون من الضأن والماعز والبقر والإبل وهدي البقر والإبل يسمى بدنة والواحدة منهما يجزي عن سبعة حجاج في قول وعشرة في قول آخر حسب اختلاف نصوص الأحاديث، والذبح يكون في موسم الحج بعد النزول من عرفة، وهناك ما يفيد وجوب الهدي على من يزور الكعبة في غير موسم الحج أيضا ويكون ذبحه بعد إتمام الطواف والسعي اللذين هما المعني بهما بالعمرة أو حج البيت.
والذبح يكون في منطقة الحرم مطلقا في الحالات العادية. أما في حالة قيام حالة منع وإحصار تحول دون إتمام المسلم واجب العمرة أو الحج فيذبح هديه في المكان الذي أحصر فيه على ما تفيده الآية والأحاديث معا.
والمستفاد من أقوال المجتهدين والمؤولين أن الإحصار هو السبب القاهر الذي يمنع الحاج من الوصول إلى مكة لأداء العمرة في غير موسم الحج أو أداء
__________
(1) انظر الأحاديث في التاج ج 2 ص 101. [.....](6/345)
العمرة والحج في موسم الحج. وإن ترجيح خطر الطريق يعد إحصارا ومانعا شرعيا وقد أدخل بعضهم استنادا إلى بعض الأحاديث النبوية «1» المرض الشديد والكسر والجرح وموت الراحلة وفقد الزاد والنفقة أو نفادهما والتوهان في الطريق أو الخطأ في حساب الأيام من الأعذار التي يصح فيها حكم الإحصار. ولقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون زيارة الكعبة التي كانوا أزمعوا أن يقوموا بها في السنة الهجرية السادسة ومنعهم كفار قريش حينئذ تمّ عقد بينهم صلح الحديبية الذي كان من شروط السماح لهم بالزيارة في السنة القابلة فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون بهذه الزيارة وسميت عمرة القضاء، أي كانت قضاء حيث يفيد هذا أن الإحصار لم يسقط واجب الزيارة والحج عن المسلم وإنما كان عذرا للتأجيل وظل من واجب المسلم الذي يحول المنع والإحصار بينه وبين الزيارة والحج في موسم الحج أن يقوم بهما حال ما يزول الإحصار.
9- وقد قلنا إن (الهدي) ذكر مرتين في الآية وما سبق هو في صدد المرة الأولى أما المرة الثانية فهي في معنى الفدية التي تجب على الحاج إذا تمتع بالعمرة إلى الحج. أي أن هذا الهدي غير الهدي الأول الواجب على كل حاج تقربا وطاعة. وقد نصت الآية على جواز عشرة أيام بدلا من هذا الهدي في مقام الفدية إذا لم يستطع الحاج تقديم الهدي فدية. ونصت على استثناء أهل الحرم من ذلك وقد مرّ شرح ذلك وأسبابه في سياق شرح الآية سابقا فلا موجب للتكرار.
10- لقد كان الحجاج قبل الإسلام يحرمون أكل هديهم، وظل ذلك مستمرا ردحا ما بعد الإسلام فأباح الله للمسلمين الأكل من الهدي بالإضافة إلى إطعام المساكين والفقراء منه رحمة وتيسرا على ما جاء في آيات سورة الحج التي سبق تفسيرها.
11- والمذاهب متفقة استنادا إلى الأحاديث النبوية على أن الوقوف في عرفة في موسم الحج والطواف حول الكعبة وبين الصفا والمروة وهو ما عرف بالعمرة
__________
(1) انظر الأحاديث في التاج ج 2 ص 105.(6/346)
لأول مرة في موسم الحج وغيره يجب أن يكون في لباس الإحرام. ولباس الإحرام للرجال ثياب غير مخيطة وغير مطيبة بالطيب، وبنعلين لا يستران الكعب. أما النساء فقد نهت الأحاديث عن النقاب والقفازين وأباحت لها أن تلبس ما تشاء من الثياب غير المطيبة وغير المعصفرة. ومعنى هذا أن المرأة تحرم سافرة الوجه واليدين. ومن السنّة أن يغتسل المسلم ويتطيب قبل الإحرام «1» .
12- والمستفاد من الأحاديث أن الحاج في موسم الحج والمعتمر في غير موسم الحج من غير أهل الحرم والمسجد المكي يجب أن يدخل إلى منطقة الحرم المكي محرما. وهناك أحاديث تعين حدود الإحرام لكل جهة من جهات الجزيرة العربية ومن يأتي منها من ورائها فلأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرى المنازل ولأهل اليمن يلملم. ومن كان من دون هذه المواقع فيكون إحرامه من موقعه ومنهم أهل مكة الذين هم ملتزمون بالإحرام حين أداء العمرة والحج والوقوف في عرفة في موسم الحج «2» .
ولقد ذكر المفسرون استنادا إلى الروايات وفي سياق آية سورة الأعراف هذه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) أن العرب قبل الإسلام كانوا يتحرجون من الطواف والسعي بثيابهم العادية تحرجا من أن يكونوا قد اقترفوا ذنوبا وهي عليهم أو تحرجا من أن يقترفوا ذنوبا وهي عليهم بعد الطواف. فيستأجرون مآزر من سدنة الكعبة تسمى المآزر الأحمسية نسبة إلى كلمة الحمس التي كان سدنة الكعبة يتسمون بها. ومن لم يجد أو من لم يستطع طاف في حالة العري لأنه كان على الذين يطوفون بثيابهم أن يرموها فكانوا يضيقون بها. ومن المحتمل كثيرا أن يكون تقليد الإحرام الإسلامي معدلا عن ذلك ومتصلا به والله أعلم.
__________
(1) في هذا الصدد أحاديث عديدة رواها أصحاب الكتب الخمسة، انظر التاج ج 2 ص 103 إلى 110.
(2) هناك أحاديث رواها أصحاب الكتب الخمسة في ذلك انظر التاج ج 2 ص 103 و 104.(6/347)
13- ومن السنّة أن يهتف الحاج والزائر بعد الإحرام بالتلبية وصيغتها المأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» «1» .
14- والآية التي نحن في صددها صريحة في حظر حلاقة الشعر إبان الإحرام.
وفي سورة المائدة آيات تحظر صيد البرّ إبانه أيضا وهذا ما سوف نشرحه شرحا أوفى في مناسبة آيات المائدة وهناك أحاديث تحظر الجماع والزواج والخطبة والتطيب أيضا إبانه «2» . وكل هذا يصبح حلالا مباحا بعد حلّ الإحرام الذي يستفاد من الأحاديث والأقوال أنه نوعان: الأول بعد الطواف والسعي والثاني بعد النزول من عرفة.
ولم نطلع على قول في صدد الاغتسال، ويتبادر لنا أنه محظور أسوة بالطيب وعدم الحلاقة. والمتبادر أنه يكون واجبا في حالة الجنابة من الاحتلام إبّان الإحرام والله أعلم.
15- والمستفاد من الأحاديث أن لمن أراد الحج في موسمه أن يهلّ بالعمرة فقط أو يهلّ بالعمرة والحج معا. والنوع الأول يسمى إفرادا، والثاني يسمى قرانا «3» . والأول هو الذي يصح أن يحل فيه الحاج من إحرامه بعد إتمام العمرة أي الطواف والسعي. ثم يحرم ثانية في اليوم الثامن من ذي الحجة ويذهب للوقوف في عرفة في التاسع محرما. ومع ذلك فالآية قد احتوت تيسيرا لمن أهلّ بالعمرة والحج معا ثم مرض أو آذته هوام رأسه من طول الشعر والوسخ حيث أجازت أن يحلّ ويفدي عن حلّه بصدقة أو صيام أو نسك. وهناك حديث يفيد أن الصدقة طعام ستة مساكين والنسك هو ذبح شاة والصيام هو ثلاثة أيام «4» . والجمهور على أن الحاج في الخيار في نوع الفدية.
__________
(1) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في ذلك في التاج ج 2 ص 111.
(2) انظر المصدر نفسه ص 108.
(3) انظر المصدر نفسه ص 112 و 113- 114 وانظر ص 153.
(4) المصدر نفسه.(6/348)
ولقد خطر لبالنا أن يكون هذا محل قياس بحيث يباح للمريض والمتيقن من الخطر والضرر على صحته من الإحرام ومحرماته أن يطوف ويسعى ويقف في عرفات بدون إحرام ومحرمات الإحرام ويفدي عن ذلك استئناسا بالمبادىء القرآنية التي تقرر أن الله لا يكلّف نفسا إلا وسعها وتبيح المحرمات للمضطر وتهتف بأن الله لا يريد أن يجعل على المسلمين في الدين من حرج وأنه يريد بهم اليسر دون العسر والله تعالى أعلم.
16- والسنن المأثورة أن العمرة طواف سبعة أشواط حول الكعبة ثم صلاة ركعتين ثم طواف سبعة أشواط بين الصفا والمروة. وتكون الأشواط الثلاثة الأولى مشيا والأربعة هرولة. مع تقبيل الحجر الأسود أو لمسه أو الإيماء إليه في كل شوط. وليس من مانع من الطواف والسعي راكبا أو محمولا.
17- والمتفق عليه أن الطواف الواجب بالإحرام هو للمرة الأولى حين الزيارة في غير الموسم أو في الموسم، ويستحب الطواف والسعي أكثر من مرة في حالة الإحرام وبدونها أيضا «1» .
18- والمتفق عليه استنادا إلى الأحاديث أن المرأة تقوم بكل مناسك الحج في حالة حيضها ونفاسها إلا الطواف والسعي إلى أن تطهر. وإذا فاتها وقت العمرة إلى قبل الوقوف في عرفة وهي في هذه الحالة قضتها بعد الطهر «2» .
ونكتفي بما تقدم مما هو متصل بمدى الآية وتوضيح لأحكامها دون استفتاء يخرج عن المنهاج الذي ترسمناه هذا. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل يثرب التي سميت بالمدينة المنورة وحرمتها ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها وشد الرحال والصلاة فيه وزيارة قبره الشريف «3» . فصارت زيارة هذه المدينة والصلاة في مسجد
__________
(1) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في صدد ذلك في التاج ج 2 ص 117 وما بعدها.
(2) انظر المصدر نفسه ص 116 و 125.
(3) انظر المصدر نفسه ص 166- 168 والتاج ج 1 ص 209.(6/349)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
النبي صلّى الله عليه وسلّم وزيارة قبره الشريف مما درج عليه المسلمون في كل وقت وبخاصة حجاجهم حينما يأتون إلى مكة لأداء فريضة العمرة والحج.
[سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 203]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201)
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
. (1) فمن فرض فيهن الحج: من اعتزم الحج وأوجبه على نفسه.
(2) رفث: قيل إنها كناية عن الجماع ودواعيه وذيوله. وقيل إنها بمعنى كل فحش من قول أو عمل وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. ومن القرائن على وجاهته أن الجماع لا يحرم على الحاج في حالة الحل والتمتع بين العمرة إلى الحج على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
(3) فسوق: عصيان وإثم.
(4) جدال: هنا بمعنى النزاع والمهاترة.(6/350)
(5) أفضتم: من الإفاضة وهي السير السريع. وهذا اصطلاح يطلق على حركة العودة من عرفات إلى المشعر الحرام ثم من المشعر الحرام إلى منى.
(6) المشعر الحرام: المشعر هو المكان المعين الذي يؤدى عنده نسك من المناسك الدينية إطلاقا. وهنا تعني مكانا معينا بين عرفات ومنى يعرف بالمزدلفة.
في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه:
فأولا: قررت أن للحج أشهرا معينة، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه.
وثانيا: نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر.
ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير.
وثالثا: أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها(6/351)
أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.
تعليقات على الآية الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ... والآيات الست التالية لها
الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي:
1- في صدد الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال:
«أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» «1» . وروى الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الحجّ أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» «2» . ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [190- 195] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثا صحيحا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) التاج ج 2 ص 104.
(2) مجمع الزوائد ج 3 ص 218.(6/352)
في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكرناه في سياق الآية [197] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم.
ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضا في تعليقاتنا على الآية [190- 195] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [25- 32] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.
2- ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالا شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك دينا وإيمانا. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه» .(6/353)
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.
3- لقد صرف معظم المفسرين كلمة الرَّفَثُ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وهناك من قال إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج بجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.
4- لقد روى البخاري في صدد جملة وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى حديثا عن ابن عباس قال: «كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» «1» . ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة وَتَزَوَّدُوا في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة (الخير) التي سبقت كلمة (وتزودوا) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.
5- روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ قال: «إن الناس في أول الحجّ كانوا
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 101.(6/354)
يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» «1» . وروى أبو داود حديثا جاء فيه: «سأل رجل رسول الله عن ذلك فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليه وقرأها عليه وقال لك حجّ» «2» . ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ «3» . ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها. والآية [196] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ حيث يمكن أن يقال أيضا إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.
وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
6- والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركنا لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
__________
(1) التاج ج 2 ص 103. وفي فصل التفسير في التاج حديث عن ابن عباس برواية البخاري في هذه الصيغة: «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت الآية» التاج ج 4 ص 52. [.....]
(2) التاج ج 2 ص 103.
(3) التاج ج 2 ص 103.(6/355)
و (عرفات) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية إنها جمع (عرفة) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم (عليه السلام) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال: عرفته من الوصف وليس شيء من هذا واردا في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا: إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليدا سابقا للبعثة، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديثه الذي أوردناه قبل: «الحجّ الحجّ يوم عرفة» «1» .
وجملة: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ في الآية الثالثة من سورة التوبة التي عنت على ما عليه الجمهور يوم عرفة قد يدلان على أن الوقوف في عرفات يوم التاسع من ذي الحجة كان المنسك الرئيسي في تقاليد الحج قبل الإسلام فأبقي على ذلك في الإسلام لما فيه من المعاني الرائعة حيث يكون الناس جميعا في صعيد واحد وفي ثياب الإحرام الطاهرة التي لم تشهد دنسا ولا فاحشة، ولا جهدا من جهود الدنيا ومشاكلها متساوين لا يتميز رئيس عن مرؤوس ولا سيد عن مسود ولا غني عن فقير ولا أبيض عن أسود. قد قطع الجميع صلاتهم بالدنيا وشهواتها وفوارقها ومشاكلها ومشاغلها مستشعرين عظمة الله وربوبيته هاتفين بكونه الأكبر من كل شيء مهللين له معلنين له إخلاصهم وشكرهم له وحده وفقرهم إليه وحده من الصباح إلى المساء. وهو موقف من أروع المواقف الروحانية التي يملك على الإنسان مشاعره وترتفع به إلى أفق الملأ الأعلى.
وجملة: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ تتضمن أن الوقوف في عرفات
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 127- 128.(6/356)
أمر حتمي معروف مسلم به ومعمول به، وكل ما هنالك أنه ليس في القرآن أمر صريح قطعي في ذلك مثل فرضية حج الكعبة فكان الحديث النبوي متمما لذلك.
والوقوف في عرفات تعبير اصطلاحي، والفقه الإسلامي لا يشترط أن يكون الحاج في هذا اليوم واقفا أو قاعدا في عرفات والشرط الوحيد هو أن يكون فيه بلباس الإحرام.
ولقد كانت إفاضة الحجاج من عرفات إلى النزول أو العودة منه تتم بإشارة زعيم من أسرة معينة، ثم أصبحت في الإسلام بإشارة الأمير الذي يكون الحج بإمرته. وكان أول أمير للحج في الإسلام أبا بكر (رضي الله عنه) نائبا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في السنة الهجرية التاسعة. ثم كان النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه في السنة العاشرة التي سميت حجته فيها حجة الوداع لأن الله تعالى توفاه بعدها بقليل ثم صارت للخلفاء من بعده ثم لمن ينيبه صاحب السلطان في الحجاز عنه. ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطبة مسهبة في حجة وداعه وعظ ونبّه وعلّم وذكر فيها فصار ذلك تقليدا لأمراء الحجّ أو من ينيبونهم عنهم «1» .
7- والمشعر الحرام الذي ذكر في الآية [198] وأمر المسلمون فيها بذكر الله عنده هو مكان بين عرفات ومنى. فالحجاج حين يفيضون من عرفات يتوقفون في هذا المكان الذي سمي أيضا (المزدلفة) ويبيتون فيه ليلة العيد مهللين مكبرين ثم يفيضون منه إلى منى. وواضح من التسمية أن للمكان حرمة دينية والراجح أن هذا متصل بتقاليد الحج قبل الإسلام. والمزدلفة في سفح جبل (ثبير) ومن المحتمل أن يكون للعرب قبل الإسلام بعض الأصنام في هذا الجبل كانوا يذهبون إلى زيارتها والتبرك بها بعد عودتهم من عرفات فأبقى الإسلام على تقليد التوقف فيها مع تسميتها بالمشعر الحرام وأمر المسلمين بذكر الله فيه لقلبه من مكان وثني إلى مكان يرتفع فيه ذكر الله وحده. ولقد روى البخاري وأبو داود عن عمرو بن ميمون قال:
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 200 وما بعدها و 272 وما بعدها و 319 وما بعدها وانظر التاج ج 2 ص 140 وما بعدها.(6/357)
«شهدت عمر صلّى الصبح بجمع ثم قال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير وإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس» «1» .
8- وفي صدد جملة: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ روى الخمسة عن عائشة قالت: «كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمّون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله عزّ وجلّ نبيّه أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها» «2» . ويلحظ أن الحديث غير متسق شيئا ما مع مدى الآية. لأن الآية تفيد أن الأمر في الجملة القرآنية هلّ بالإفاضة من المشعر الحرام. ويتبادر لنا من روح الآية أن فريقا من الناس ويجوز أن يكونوا القرشيين أو سدنة الكعبة وأقاربهم منهم كانوا يترفعون عن الناس في وقوفهم وطريق إفاضتهم من المزدلفة أو يسلكون طريقا خاصا بهم فأمرت الآية المسلمين جميعا بالإفاضة من الطريق الذي يسلكه سائر الناس بدون تمايز أحد على أحد لأي سبب كان، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل والله تعالى أعلم.
والروايات تذكر أن الإفاضة من المزدلفة أيضا كانت تتم بإشارة من زعيم عربي من أسرة معينة، فحلّ محلّه في الإسلام أمير الحج كما صار ذلك شأن الإفاضة من عرفات.
9- والجمهور على أن جملة: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ تعني إذا ذبحتم قرابينكم حيث يبادر الحجاج بعد نزولهم صباح العيد من المزدلفة إلى منى إلى ذبح هديهم ويتحللون من الإحرام بالحلاقة أو تقصير الشعر وبلبس الثياب العادية ويصبح حلالا ما كان محظورا عليهم في مقام الإحرام. ومنهم من ينزل إلى مكة قبل التحلل فيطوف طواف الإفاضة الذي أوردنا ما فيه من حديث في سياق
__________
(1) التاج ج 2 ص 139 و (جمع) كان يطلق على الموقف في المزدلفة على ما يفيده حديث رواه أبو داود والترمذي عن علي، انظر أيضا التاج ج 2 ص 139.
(2) التاج ج 4 ص 39.(6/358)
الآية السابقة ثم ينحر هديه وقد سمّي اليوم الأول من العيد وهو اليوم العاشر من ذي الحجة بيوم النحر وعيد النحر وعيد الأضحى بناء على ذلك.
10- أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ المذكورة في الآية الأخيرة هي على ما عليه الجمهور والتواتر أيام العيد. ويقضيها الحجاج في منى في حالة الحل. وتسمى الأيام التالية لليوم الأول من العيد بأيام التشريق ويرمي الحجاج فيها الجمرات.
وهي حصوات صغيرة تقذف على أماكن ثلاثة معينة في منطقة منى، وتسمى هذه الأماكن بالعقبات أيضا. وعدد الحصوات تسع وأربعون يرمي الحاج في اليوم الأول كلا من العقبات الثلاث بسبع حصوات وفي اليوم الثاني بسبع حصوات، وفي اليوم الثالث يرمي العقبة الثالثة فقط بسبع حصوات. ويكبر الله عند رمي كل حصوة، وهناك حديث يذكر أن النحر والحل من الإحرام يكون بعد رمي العقبة الأولى للمرة الأولى في صباح يوم العيد بعد الوصول إلى منى من المزدلفة رواه الخمسة عن أنس قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلّاق خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس» «1» . وبعض الحجاج يتعجلون العودة فلا يحبون أن يبقوا لليوم الثالث فسمحت لهم الآية بذلك. وقد روى أصحاب السنن حديثا عن أبي البدّاح عن أبيه قال: «رخّص رسول الله لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمون في أحدهما وفي رواية رخّص النبي صلّى الله عليه وسلّم للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما» «2» . وفي ترخيص الله ورسوله تلقين جليل مستمر المدى ومتساوق مع تلقينات القرآن المتكررة وهو الاهتمام بالجوهري من أهداف الإسلام وهو تقوى الله وحسن النية دون الأعراض والأشكال.
والمفسرون يروون عن أهل التأويل والأخبار أن رمي الجمرات هو تقليد إبراهيمي حيث إن إبليس تراءى لإبراهيم (عليه السلام) حينما أخذ ابنه ليذبحه
__________
(1) التاج ج 2 ص 132 وحلاقة الشعر أو تقصيره صورة من صور التحلّل من الإحرام وهناك أحاديث أخرى في هذا الموضوع انظر ص 130- 137.
(2) المصدر نفسه ص 138.(6/359)
تنفيذا لأمر الله في منامه «1» ليزين له الامتناع عن ذلك فكان يرجمه في كل موقف من المواقف الثلاثة، وهذا لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى كل حال فهذا تقليد كان من تقاليد الحج قبل الإسلام لم يعرف سببه معرفة يقينية فأقره الإسلام ليكون وسيلة إلى ذكر الله وتكبيره.
وقد ورد ذكر أيام التشريق في حديثين صحيحين روى أحدهما مسلم وأحمد عن نبيشة الهذلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى» «2» وروى ثانيهما أصحاب السنن عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب» «3» . وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن صوم أيام التشريق على ما ذكرناه في فصل الصيام في هذه السورة.
والتشريق في اللغة هو عرض اللحم للشمس، والمتبادر أن التسمية بسبب ما كان ينحر في أيام التشريق من الأضاحي التي كان يلقى بلحومها على الأرض معرضة للشمس وليأخذها من يشاء. وقد كان من تقاليد العرب قبل الإسلام أن لا يأكل صاحبها منها ويدعها للفقراء والوحوش والنسور والصقور فأباح الله لهم الأكل منها على ما شرحناه في تفسير سورة الحج.
11- وقد روى المفسرون في سياق جملة: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أن العرب قبل الإسلام كانوا في أيام التشريق يعقدون مجالس للمفاخرة بآبائهم فأمر الله المسلمين أن يذكروا الله فيها كما يذكرون آباءهم أو أكثر، وقد يكون هذا واقعا وفي الجملة مغزى لطيف كما يتبادر لنا وهو عدم النهي عن ذكر الآباء حيث تكون الحكمة اقتضت ذلك من باب التكريم للآباء الذي تكرر الأمر به في آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور المكية.
12- وما جاء في الآيات [200- 202] محتمل أن يكون بسبب اشتراك غير
__________
(1) ذكر هذا المنام في سورة الصافات، وانظر تفسيرها في ابن كثير والخازن.
(2) التاج ج 2 ص 78.
(3) التاج ج 2 ص 78.(6/360)
المسلمين مع المسلمين في الحج حين نزول الآيات التي يرجح أنها نزلت قبل فتح مكة، ومحتمل أن يكون بسبيل بيان طبائع الناس عموما من حيث أن بعضهم لا يهمه إلّا تحقيق مطالبه وتأمين منافعه في الدنيا. وقد انطوى في الآيات تنديد بهؤلاء وإنذار لهم وتطمين للآخرين الذين يرجون من الله الفضل والحسنى في الدنيا والآخرة معا، حيث يعدهم الله بالاستجابة. ولقد روى الشيخان عن أنس قال: «كان أكثر دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» «1» . وروى مسلم والترمذي حديثا آخر عن أنس قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيّاه؟ قال: نعم، كنت أقول اللهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا. فقال رسول الله: سبحانه لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال: فدعا الله له فشفاه» «2» . حيث ينطوي في الحديثين تعليم نبوي متساوق مع التعليم القرآني.
والجملة الدعائية القرآنية من جوامع الدعاء لأن كلمة (حسنة) مطلقة المدى تشمل كل نوع من أنواع الخير في مختلف المجالات ويتبين من هذا حكمة كونها أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي الآية التالية لها إيذان بأن الله تعالى يحب لعباده أن يكون لهم حظّ ونصيب في الدنيا في مختلف مجالات الخير والصلاح والنجاح والقوة والنفع والمال في الدنيا بالإضافة إلى حظهم المضمون لهم وحدهم في الآخرة.
وهذا انطوى تقريره في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها.
ويلفت النظر إلى ما في التعليم القرآني والنبوي معا من مغزى رائع، ودلالة على ما انطوت عليه الدعوة الإسلامية من سعة الصدر والمرونة والتطابق مع مصالح البشر وطبائع الأشياء. فليس في الإسلام دعوة إلى الزهد في الدنيا والانصراف عنها مطلقا وطيباتها وخيراتها وزينتها مباحة للمسلمين ضمن حدود الاعتدال والنية
__________
(1) التاج ج 5 ص 109.
(2) التاج ج 5 ص 109.(6/361)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
الحسنة والبعد عن المنكر. ومن ثم فإن المسلمين أمروا بأن يدعوا لأجل جمع خير الدنيا والآخرة لهم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
. (1) ألدّ الخصام: أشد الناس في العداوة والخصومة.
(2) يهلك الحرث والنسل: كناية عن الإيغال في الفساد والعدوان وأثرهما في الناس والبلاد.
(3) أخذته العزة بالإثم: كبر عليه قول الناس له اتق الله وأخذته حمية النفس والاعتداد بها وحملته على الإصرار على الإثم.
(4) يشري نفسه: يبيع نفسه، والمعنى يقدم على تضحية نفسه.
في هذه الآيات: وصف لفريقين من الناس أحدهما يظهر غير ما يبطن ويتظاهر بالإخلاص ويقسم على ذلك الأيمان حتى يجعل سامعه يعجب به ويكاد يصدقه في حين أنه شديد العداء والخصومة، وحين تمكنه الفرصة يشتد في الظلم والفساد خلافا لما يحب الله من الصلاح ويكرهه من الفساد. وحينما يوعظ وينبه إلى ما في عمله من شرّ وإثم ويطلب منه الكفّ عنه وتقوى الله يسخط ويزداد في الإثم والبغي شفاء لنفسه واستكبارا من أن يوعظ ويدعى إلى التقوى. فهذا الفريق مصيره جهنم وبئست هي من مأوى ومضجع. وثانيهما هو الذي يتحمل الأذى في سبيل الله ولو أدى إلى التضحية بنفسه تحصيلا لرضاء الله.
وانتهت الآيات بالتنبيه إلى أن الله رؤوف بعباده، وقد صرف بعض(6/362)
المفسرين «1» هذا التنبيه إلى الفريق الثاني بقصد بيان ما استحقه عند الله من رأفة ورحمة وحسن جزاء ولا يخلو هذا من وجاهة. ولقد قال بعضهم إن جملة: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا تعني في شؤون الحياة الدنيا ولا يخلو هذا من وجاهة.
تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والآيات الأربع التالية لها
والآيات كما يبدو فصل جديد، ولعلّها متصلة بالآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد.
وقد روى المفسرون»
أن القسم الأول من الآيات نزل في الأخنس بن شريق أحد زعماء المشركين الذي قدم إلى المدينة فجلس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وصار يقسم له أنه محبّ له وأنه يريد أن يسلم ثم حنث في يمينه وبيت أحد خصومه فأحرق زرعه وأهلك مواشيه وعقر دوابه. وهناك رواية «3» أخرى تفيد أنها نزلت في جماعة من المنافقين شمتوا لمصاب المسلمين في سرية أحاط بها المشركون تقاتلوا حتى استشهد معظمهم «4» . ورووا أن القسم الثاني أي الآية الأخيرة نزلت في صهيب الرومي الذي فدى نفسه بماله ونجا بدينه من مكة. وقد روى القاسمي حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «أقبل صهيب مهاجرا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم جلا، وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي كلّ سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم. وإن شئتم دللتكم على مالي
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري. [.....]
(2) انظر تفسير المنار.
(3) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير والبغوي.
(4) انظر كتب التفسير السابقة وتفسير القاسمي معها.(6/363)
بمكة وخلّيتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ربح البيع ربح البيع. ونزلت الآية» «1» . وهنا من يروي أنها نزلت في المهاجرين الذين تخلوا عن موطنهم وأموالهم في سبيل الله مطلقا «2» .
والروايات لم ترد في الصحاح وعلى كل حال فالآيات بسبيل المقارنة بين منافق ومخلص وموقف كل منهما. ومن المحتمل أن يكون حدث حادثان متناقضان من منافق ومخلص من نوع ما ورد في الروايات قبل نزول الآيات فنزلت لتشير إليهما منددة بالأول منوهة بالثاني.
وأسلوب الآيات مطلق حيث ينطوي فيها تلقين مستمر المدى بشأن كل من النموذجين اللذين لا ينعدمان في كل ظرف ومكان.
ووصف المنافق قوي نافذ، وفيه جملة لاذعة، فأمثال هذا الشخص يكون عادة أشدّ الناس ضررا أو فسادا في المجتمع الذي يكون فيه سواء أمن ناحية السلوك العام أم السلوك الخاص.
ولقد ذكر رشيد رضا أن بعضهم أوّل جملة وَإِذا تَوَلَّى بمعنى الولاية والحكم. وحتى لو لم يكن هذا التأويل هو المقصود فإن الآيات بإطلاقها تتحمل أن تكون الصورة التي وصفتها في فئات مختلفة من الناس من حكام وزعماء وعلماء وأفراد على اختلافهم ومشاغلهم. ويكون التنديد والإنذار الشديدين فيها والتلقين باجتناب الصفات التي وصف بها متفاوتا في الشدة حسب تفاوت المتصفين بالصفات والقدرة على الكيد والضرر والفساد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا عن عائشة ورد في التاج برواية الشيخين والترمذي جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» «3» . وفي الحديث تنديد سيق بصفة اللدد والخصومة وإن كان مدى الجملة
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) التاج ج 5 ص 41.(6/364)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
في الآية أوسع وأشد نكاية من حيث إن الموصوف بها يتظاهر بحسن النية والصلاح والرغبة في الخير والإصلاح ويجتهد في توكيد ذلك بتزويقه الكلام وزلاقة اللسان والحلف بالله في حين يكون فاسد الطوية شرير القصد لا يألو جهدا في الكيد والفساد والمكر إذا ما واتته الفرصة. والصورة في الآيات أشد نكاية وضررا من صورة المنافق العادي الذي وصف في أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الأربعة عن ابن عمر جاء فيه: «إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «1» فيما هو المتبادر، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 209]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
. (1) السلم: يصح في سينها الفتح والكسر والكسر أشهر. ويصح في معناها الصلح والسلام أو الإسلام لله وهي هنا بالمعنى الثاني على رأي جمهور المفسرين.
في الآيتين:
1- دعوة للمؤمنين للاستمرار على الإسلام الذي دخلوا فيه وإسلام النفس لله إسلاما تاما والطاعة لجميع أوامره.
2- وتحذير لهم من اتباع الشيطان والسير في ما يزينه وتنبيه إلى أنه عدو شديد العداء لهم لا يمكن أن يوسوس إلا بما فيه إثمهم وضررهم.
3- وإنذار لهم في حالة انحرافهم عن طريق الحق بعد ما جاءتهم آيات الله وبيناته واضحة جليّة. فإن الله عزيز قادر على التنكيل بالمنحرفين حكيم لا يأمر ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصواب.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.(6/365)
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً والآية التالية لها
وقد تعددت الروايات في نزولهما «1» . منها أنهما نزلتا في مؤمني اليهود الذين آمنوا بالنبي من جهة وظلوا متمسكين بأحكام التوراة وتلاوته من جهة.
ومنها أنهما أنزلتا في المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام وقلوبهم غير مؤمنة ومنها أنهما نزلتا في بعض المسلمين المتهاونين في أحكام الإسلام وواجباته.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة، وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أنهما في صدد شيء من قبيل ما جاء في الرواية الثالثة.
ولعل هذا متصل بما احتوته الآيات السابقة من وصف موقف المنافق والمخلص.
وقد أريد بهما توكيد وجوب الإخلاص لله وحده. وعدم اتباع وساوس الشيطان التي لا يتبعها إلا المنافقون المفسدون.
وإذا صحّ هذا كما نرجو فتكون الآيتان معقبتين على الآيات السابقة ليكون فيهما هتاف للمسلمين المتهاونين، ونرجح أنهما لم تنزلا لحدتهما وأنهما استمرار للسياق وجزء منه والله أعلم.
ومهما يكن من ظرف نزول الآيتين فإنهما انطوتا على تلقين جليل مستمر المدى ودعوة قوية دائمة للمسلمين بوجوب إسلام النفس لله في جميع أمورهم والإخلاص له وعدم الانحراف عن هذه الجادة المستقيمة وعدم الاندماج في المكائد والدسائس الباعثة على القلق والاضطراب والتفكك بين المسلمين جماعة وأفرادا وفي كل ظرف ومكان، وكون ذلك وحده هو الطريق القويم المؤدي إلى النجاة.
__________
(1) انظر تفسيرهما في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير.(6/366)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
[سورة البقرة (2) : الآيات 210 الى 211]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)
. (1) ظلل: جمع ظلة وظلال والمعنى في قطع من الغمام.
(2) الغمام: السحاب الأبيض الخفيف.
(3) نعمة الله: كناية عن هدى الله وآياته.
في الآيتين:
1- تساؤل استنكاري وتقريعي عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام ينتظرون نزول الله والملائكة في قطع من الغمام ليخاطبوهم مباشرة.
2- وإنذار لهم بأن وقوع ذلك إيذان بقضاء الله وعذابه عليهم على ما جرت عادة الله الذي ترجع إليه الأمور أولا وآخرا.
3- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بسؤال بني إسرائيل في معرض الاستشهاد عما أتاهم الله من آيات ودلائل واضحة كثيرة.
4- وإنذار لمن يبدل نعمة الله المتمثلة في آياته وبياناته ومقاصدها بعد ما جاءته واضحة فإن الله شديد العقاب ينتقم بمن يقدم على هذا الإثم العظيم.
ولم نطلع على رواية في نزول هاتين الآيتين، والذي يتبادر لنا أن الضمير في يَنْظُرُونَ راجع إلى الذين يترددون وينحرفون ويزلون عن الإسلام لله والطاعة التامة له والذين وجهت الآيتان السابقتان إليهم الإنذار. وعلى هذا فيمكن أن يقال إن الآيتين جاءتا معقتبين أيضا على الآيتين السابقتين واستمرارا لهما. ولما كنا خمنا صلة الآيتين السابقتين بما قبلهما أيضا فتكون هاتان الآيتان جزءا من السلسلة أو الفصل الجديد الذي بدأ بالآية [204] .(6/367)
ومع أن أسلوب السؤال هو تقريعي أكثر منه تقريريا لطلب واقع نزول الله والملائكة فإن طلبا مثل هذا قد وقع على سبيل التعجيز من كفار قريش على ما حكته آية سورة الفرقان هذه: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) كما أن طلب استنزال الملائكة ليؤيدوا النبي قد تكرر من أولئك الكفار على ما حكته آيات كثيرة مرت في سور عديدة «1» . ولعل استشهاد بني إسرائيل في هذا الموقف متصل بقصد التذكير بحادث جرى لآبائهم وحكته آية البقرة [55] حيث قال لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة. ولعل هذا الاستشهاد ينطوي كذلك على التذكير بما كان من بني إسرائيل من تحريف وتبديل لآيات الله وتنكيل الله بهم على ذلك مما حكته آيات عديدة في سورة البقرة وغيرها. وليس من المستبعد أن يكون لليهود يد في موقف التردد وعدم التصديق بجميع ما بلغه النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي بدا من بعض المؤمنين أو المتظاهرين بالإيمان أو عدم الإخلاص التام لله. ويد كذلك في وسوسة طلب المعجزات من النبي صلّى الله عليه وسلّم من مثل نزول الله والملائكة في الغمام بقصد التشكيك والتعطيل فاقتضت حكمة التنزيل طلب الاستشهاد بهم بأسلوب ينطوي فيه التذكير بما وقع لآبائهم من قبل وربما الإنذار لهم أيضا.
ومع ما يمكن أن يكون للآيتين من خصوصية زمنية وموضوعية فإن فيهما تلقينا مستمر المدى بتقبيح مواقف المكابرة والتمحل والتعجيز والانحراف عن جادة الحق الواضحة التي بينتها وهدت إليها آيات الله.
ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآيات في صدد يوم القيامة ومشاهدها وليست الروايات وثيقة. وفحوى الآيات وصلتها بأسبقها أسلوبا وموضوعا يحمل على التوقف فيها ويجعل ما شرحناه هو الأكثر وجاهة وورودا والله أعلم.
__________
(1) انظر مثلا آيات سور الأنعام [8] والحجر [7] وهود [17] والفرقان [7] والإسراء [92] .(6/368)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
[سورة البقرة (2) : آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
. تشير الآية إلى استغراق الكفار في الحياة الدنيا واغترارهم بما تيسر لهم من أسباب اليسر والنعيم فيها وما ساقهم هذا إليه من السخرية بالمؤمنين وتنقصهم لهم. ثم تقرر أن المتقين من المؤمنين سوف يكونون فوقهم يوم القيامة مكرمين عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب.
وقد روى المفسرون «1» أن الآية نزلت في بعض رؤساء قريش الذين بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان هؤلاء من رجال الله لبسط لهم الرزق. كما رووا أنها نزلت في بعض رؤساء المنافقين أو رؤساء اليهود في المقصد نفسه، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والذي يتبادر لنا أن الآية هي أيضا استمرار للآيات السابقة ولم تنزل كآية مستقلة. فالكفار والمنافقون والمنحرفون عن أوامر الله والمبدلون لآياته ونعمته إنما يفعلون ما ذكرته الآية بوساوس الشيطان وتزيينه من جهة واغترارا بما تيسر لهم من وسائل القوة والاستمتاع بالدنيا من جهة أخرى. وليس من مانع أن تكون قصدت زعماء كفار قريش أو زعماء كفار اليهود أو زعماء المنافقين الكافرين بقلوبهم لأن صدور ذلك من كل منهم محتمل.
وتعبير وَالَّذِينَ اتَّقَوْا قوي الدلالة في مقامه، ولا سيما أن الآيات السابقة تنعى على بعض الذين آمنوا أو تظاهروا بالإسلام ترددهم وعدم إسلامهم النفس لله إسلاما صادقا فليس كل من يقول آمنّا يستحقون الحظوة عند الله وإنما الذين اتقوا منهم أي الذين أخلصوا كل الإخلاص وسلّموا أمرهم وأنفسهم لله كل التسليم ولم يترددوا ولم يكابروا في اتباع جميع ما أمر الله ونهى، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير.(6/369)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
ولقد قلنا في الشرح إن الكفار يفعلون ما ذكرته الآية بوساوس الشيطان وهذا مستلهم من النهي الوارد في الآيات السابقة عن اتباع خطوات الشيطان.
وقد يصح أن يكون في العبارة القرآنية بسبب بنائها على المجهول تقرير بكون الكفر مما يزين لصاحبه الحياة الدنيا أيضا والله أعلم.
تعليق على جملة وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ
وهذه الجملة تأتي لأول مرة، وقد تكررت في سور أخرى بعد هذه السورة والمتبادر من مقامها وروحها أنها بسبيل الردّ على تبجح الكفار بما تيسر لهم من سعة الرزق. وتقرير كون ذلك ليس هو مظهر حظوة لهم عند الله وإنما هو مظهر من مظاهر النواميس التي أقام الله المجتمع الإنساني عليها. ولقد تكرر تبجح الكفار بذلك في صور ومناسبات متنوعة فحكته عنهم آيات عديدة في سور سابقة وردته عليهم بأساليب متنوعة على ما مرّ شرحه «1» .
[سورة البقرة (2) : آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
. (1) أمة واحدة: نوعا واحدا في الدين أو سائرون على طريق واحد فيه أو مفطورون على فطرة واحدة.
__________
(1) انظر آيات سورة الفجر [15- 30] وطه [131] وسبأ [35- 37] والمؤمنون [55- 61] وتفسيرها في أجزاء سابقة.(6/370)
تعليق على آية كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...
روى المفسرون «1» عن أهل التأويل أن في الفقرة الأولى من الآية محذوفا مقدرا وأن تقدير الجملة هكذا: «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ... » وهذا وجيه وفي الجملة جملة لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ حيث تكون الجملة قرينة على صواب التقدير. وفي سورة يونس آية فيها تدعيم لذلك أيضا وهي:
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) .
وقد رووا عن بعض أهل التأويل أن جملة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أنها بمعنى كان الناس كفارا أو على ضلال. فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين. كما رووا عن بعض آخر أنها بمعنى كان الناس أمة واحدة على فطرة التوحيد التي فطرهم الله عليها فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين. وروح الآية مع ملاحظة مقام جملة: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فيها تجعل القول الثاني أكثر وجاهة. وقد يدعم ذلك آية سورة الروم هذه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) .
وعلى ضوء هذه الأقوال الوجيهة فإن الآية في صدد تقرير أن الناس كانوا قبل بعثة النبيين أمة واحدة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإيمان به وحده ثم اختلفوا وتناقضوا فبعث الله النبيين إليهم داعين إلى الحقّ والهدى وأنزل عليهم الكتب التي احتوت بيان الطريق الحقّ الواضح الذي فيه حل لما طرأ بينهم من خلاف ونزاع على ذلك، وأنه كان من الذين جاءتهم كتب الله وبيناته من اختلفوا في تأويل ما جاءهم بغيا وعدوانا وانحرافا عن طريق الحقّ والصواب وانسياقا وراء المآرب والشهوات. وأن الله قد هدى الذين حسنت نياتهم وصفت قلوبهم وأسلموا
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.(6/371)
إليه وآمنوا بما جاءهم منه من دون عناد ولا بغي إلى الحق الذي اختلف فيه أولئك المنحرفون الباغون. وذلك نعمة ورحمة من الله الذي يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآية ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة واستمرار لها وتعقيب عليها. وأنها في صدد التذكير بما كان من أمر اختلاف الأمم غير الأمة الإسلامية فيما جاءها من كتب الله والتنويه بما كان من هداية الله للذين آمنوا بالرسالة المحمدية إلى الحق الذي اختلفوا فيه، وتحذير لهؤلاء في الوقت نفسه من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة المختلفة في مناسبة ذكر ما كان من تردي بعضهم وانحرافه وعدم إسلامه وإخلاصه التامين مما انطوت حكايته أو الإشارة إليه في الآيات السابقة بأسلوب التنديد والإنذار.
ومع أن أسلوب الآية تقريري عام لبيان طبيعة البشر وما كان من اختلافهم على الحق ونزاعهم فيه منذ الأزمنة القديمة اندفاعا وراء المآرب والأهواء فالمتبادر أنها في صدد ما وقع فيه اليهود والنصارى بخاصة من نزاع وشقاق وتأويلات خرجوا بها عن دائرة الحقّ والهدى وكتب الله وما احتوته الرسالة المحمدية والقرآن من البيان الواضح للحقّ والهدى الذي يمكن به تمييز الحقّ من الباطل والهدى من الضلال وإرجاع كل شيء إلى نصابه الحقّ، والتنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بهما واتبعوا الحقّ والهدى اللذين انطويا فيهما فصاروا بذلك أمة وسطا عدولا.
والآية قوية رصينة، فيها تقرير قوي لوحدة الحقّ وعدم تحمله للخلاف والنزاع حينما تحسن النيات وتتحقق الرغبات الصالحة. وحملة على الذين يختلفون فيه- وبخاصة ممن يكونون قد أوتوا علما ومعرفة- اندفاعا وراء الأهواء والمآرب واستكبارا عن الاستجابة إلى الحق واتباعه. وفيها كذلك تنويه بحسني النية صالحي السريرة الذين يرون الحق فيتبعونه ويتمسكون به، وفي هذا ما فيه من التلقين الجليل المستمر المدى. وفيها كذلك إيذان رباني ذو مغزى خطير في صدد(6/372)
الرسالة المحمدية يتضمن كون الله تعالى قد هدى الذين آمنوا بهذه الرسالة والقرآن إلى الحق الذي اختلف فيه الذين أوتوا الكتاب من قبلهم تتجه للمآرب الباغية التي كانت تغريهم. وبعبارة أخرى فيها تقرير بأن الرسالة المحمدية والقرآن قد جاءا ليقررا الحق والصواب فيما اختلفوا فيه وضابطين لهما. وفيهما حل للمشكلات والتعقيدات والخلافات التي ارتكسوا فيها والتي لم تكن في أصل دين الله وهداه.
وأسلوب الآية يوحي بكل طمأنينة ووثوق بما تضمنته من هذه التقريرات.
ويوحي للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي أنزلت عليه وللمؤمنين الذين آمنوا به بأنهم على هدى الله وصراطه المستقيم.
ولقد جاء مصداق ذلك في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) وما شرحناه في سياق تفسير آيتي يونس [19] والروم [30] المشار إليهما آنفا من ناحية ما له صلة بهذه الآية. ولم نر حاجة إلى إعادته هنا، ويحسن بالقارىء أن يرجع إليه لتتم إحاطته بالموضوع.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا برواية البخاري عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو الله إذا قام في الليل يصلي فيقول: «اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما أختلف فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . وفي الحديث صورة لشدة حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على اتباع الحق والتماسه من الله تعالى بأن يهديه إليه ويثبته عليه. وللمؤمنين أسوة حسنة في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وهناك حديث آخر يورده ابن كثير وقد ورد في التاج برواية الشيخين والنسائي عن أبي هريرة في صدد يوم الجمعة جاء فيه: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا، وهذا- أي الجمعة- يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد(6/373)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
غد» «1» . والحديث وإن كان كما قلنا في صدد يوم الجمعة فالمتبادر أنه ليس مما يصح أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتبر أن الحق الذي اختلفوا فيه وهدى الله المؤمنين إليه هو يوم الجمعة فقط كما يوهم الحديث. وكل ما في الأمر أن هذا من جملة ذلك والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
. جمهور المفسرين على أن حرف (أم) هو في مقام السؤال وروح الآية يلهم صحة ذلك، ليكون والحالة هذه في الآية سؤال استنكاري موجّه للمؤمنين عما إذا كانوا يظنون أنهم قد استحقوا الجنة بمجرد إسلامهم دون أن يثبتوا على ما سوف يصابون بمثل ما أصاب المؤمنين من قبلهم من المكاره والشدائد والأخطار التي هزتهم هزا قويا وآذتهم أذى كبيرا وجعلتهم يلجأون إلى الله هم ورسلهم متسائلين متى يأتيهم نصره. وتنبيه تطميني بأن نصر الله قريب.
ومن المفسرين من جعل التنبيه جوابا ربانيا للذين تساءلوا عن نصر الله من الأمم السابقة. ومن المفسرين من جعله تطمينا للمؤمنين الذين وجه إليهم السؤال.
ومن المفسرين من جعله جوابا وتطمينا ربانيا مطلقا في صدد الحالة التي احتوت الآية وصفها، وكل ذلك محتمل ووجيه.
تعليق على الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ...
وقد روى المفسرون في نزول الآية روايات «2» ، منها أنها نزلت في مناسبة
__________
(1) التاج ج 1 ص 245.
(2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير. [.....](6/374)
ظروف زحف قريش وأحزابهم على المدينة مما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الخندق حيث اشتد كرب المسلمين وزلزلوا زلزالا شديدا على ما ذكرته آيات سورة الأحزاب هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) . ومنها أنها نزلت في مناسبة المصاب الذي أصيب به المسلمون في وقعة أحد مما احتوى تفصيله سورة آل عمران. ومنها أنها نزلت بمناسبة ما نال المهاجرين من شدة وحرمان. والروايتان الأوليان بعيدتان عن ظروف نزول هذه الآية وترتيبها في سورة البقرة ولا سيما أن قصة وقعتي أحد والخندق قد وردت في سورتي آل عمران والأحزاب، والرواية الثالثة مناسبة لظروف نزول الآية أكثر وننبه على أنه ليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة.
ولقد ورد لبالنا احتمالات أخرى في ظرف وسبب نزول الآية مستلهمة من السياق. منها احتمال أن تكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة فتكون بمثابة تعقيب وتنبيه وحثّ للمؤمنين على الثبات والتمسك بما جاءهم والدفاع عنه مهما أوذوا في سبيله وإعلامهم بأن رضاء الله لن ينال إلّا بالجهد والجد والصبر والإسلام التام له. ومنها احتمال صلتها بما صار يقع من المهاجرين من شهداء في السرايا التي كان يسيرها النبي صلّى الله عليه وسلّم والغزوات التي كان يقودها في السنة الأولى والثانية من الهجرة وقبل وقعة بدر. وقد أشرنا إلى ذلك في سياق تفسير الآيات [152- 156] من هذه السورة التي نبّه فيها المسلمون إلى أنهم سيبتلون بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وحثّوا فيها على الصبر.
وبعد قليل تأتي آيات فيها إشارة إلى قتال وقع بين المهاجرين والمشركين مما قد يدعم ذلك. وفي حال صحة الاحتمالين أو صحة الرواية الثالثة تكون الآية فصلا جديدا فيه تمهيد لما يأتي بعده. ويكون وضعها في مقامها لمناسبة ما احتوته(6/375)
الآيات السابقة من خطاب للمسلمين، أو لأنها نزلت بعدها.
ومهما يكن من أمر ففي الآية إعلان للمؤمنين بما سوف يقع عليهم من الشدة. ودعوة لهم إلى توطين النفس على الصبر والتحمل. وتنبيه على أن هذا كان من شأن من قبلهم من المؤمنين وأنبيائهم. وبشرى بنصر الله في النهاية. وتقرير بأن هذا النصر لن ينال إلّا بالصبر والتضحية. وفي كل هذا تلقينات وعظات نفسية جليلة مستمرة المدى، ومنبع لا ينضب يمد النفس المؤمنة بالقوة المعنوية. وقد تكرر هذا في مقامات عديدة، ومنه ما مرّ في سور سابقة منها آيات سورة العنكبوت [1- 3] .
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا ورد في التاج برواية البخاري وأبي داود عن خبّاب قال: «أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسّد بردة في ظلّ الكعبة فشكونا إليه وقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فجلس محمرّا وجهه فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه. والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنّكم تعجلون» «1» . والحديث مكي كما يستفاد من مطلعه. وفيه مظهر رائع من قوة إيمان الرسول بما هو عليه من الحق وبنصر الله إياه في عهد مكة برغم ما كان يحدق به وبأصحابه من أخطار ويقاسونه من شدة. وينطوي فيه ما ينطوي في الآية من تنبيه وتطمين ومعالجة روحية، وفيه بشرى قد تحققت بنصر الله وتمام أمر الله فكان ذلك معجزة نبوية أو مصداقا لنبؤة النبي صلّى الله عليه وسلّم الصادقة. والآية التي نحن في صددها مدنية، والمتبادر أنها نزلت في ظرف مماثل للشعور بالشدة الذي كان المؤمنون يشعرون به في مكة حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل للتطمين والبشرى.
__________
(1) التاج ج 4 ص 54.(6/376)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
[سورة البقرة (2) : آية 215]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
. في الآية حكاية لسؤال أورد على النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الوجوه التي يحسن الإنفاق فيها وأمر له بالإجابة بأن ما يمكنهم أن ينفقوه فلينفقوه على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وتنبيه إلى أن الله يعلم كل خير يفعلونه.
وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية نزلت في رجل طاعن في السن اسمه عمر بن الجموح كان ذا مال كثير سأل رسول الله بماذا يتصدق وعلى من؟ والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة.
والآية على كل حال فصل جديد يحتوي سؤالا وجوابا تعليميين مما هو كثير في سورة البقرة بخاصة والسور المدنية بعامة. وسمة التشريع بارزة عليها ومن المحتمل أن تكون وضعت في ترتيبها لأنها نزلت بعد سابقتها أو للمماثلة الخطابية والتشريعية بينها وبين سلسلة الآيات السابقة.
ولقد روى المفسرون «2» عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآيات بعض الروايات منها أن الآية في صدد النفقات التطوعية، ومنها أنها نزلت قبل فرض الزكاة ثم نسخت بالزكاة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة ولقد كانت الزكاة ممارسة كفرض ملازم للصلاة في العهد المكي على ما استلهمناه وذكرناه في تعليقنا على الزكاة في تفسير سورة المزمل حيث يجعل هذا القول الثاني محل توقف ويجعل القول الأول هو الأوجه. وفي السور المكية آيات كثيرة حثّت على التصدق على المساكين وأبناء السبيل واليتامى إلى جانب الآيات التي تنوّه بإيتاء الزكاة وتحثّ عليها وهذا يدعم القول الأول أيضا.
ولقد مرّ في هذه السورة آيات فيها أمر رباني بالوصية للوالدين والأقربين وفي هذه الآية حثّ على الإنفاق عليهم في حياتهم أيضا. حيث يسوغ القول إن بعض
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن.
(2) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن.(6/377)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
المسلمين كانوا يقصرون في واجبهم نحو آبائهم والمحتاجين من أقاربهم وغيرهم فاقتضت الحكمة إيجاب الإنفاق عليهم في معرض الجواب على السؤال. توكيدا للحثّ الرباني المتكرر.
وإيجاب الإنفاق على الوالدين والأقربين يأتي لأول مرة، والأسلوب التعليمي يجعل ذلك مستمر المدى شاملا لكل وقت بطبيعة الحال. والمتبادر أن كلمة وَالْأَقْرَبِينَ أوسع من الزوجات والأولاد. بحيث يقال إن الآية حثت على الإنفاق على كل قريب يكون في حاجة من غير الذين تجب على المرء نفقته. ومع أن المتبادر أن الوالدين مما يجب على المرء النفقة عليهم فإن ذكرهما متصل على ما نرجح بمواقف عقوقية كان يقفها بعضهم من والديهم.
وهناك أحاديث عديدة منها ما هو صحيح يحسن أن تساق في هذا المقام، منها حديث رواه أبو داود جاء فيه: «قيل يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أمّك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك، حقّ واجب ورحم موصولة» «1» . وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإنّ صلة الرحم محبّة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» «2» .
[سورة البقرة (2) : آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
. تعليق على آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ... إلخ
عبارة الآية واضحة، ولم نطلع على رواية في سبب نزولها وهي كما يبدو
__________
(1) التاج ج 5 ص 8 و 10 ومثراة في المال بمعنى مكثرة له أو مباركة فيه منسأة في الأثر بمعنى مطولة في العمر أو مباركة فيه.
(2) التاج ج 5 ص 8 و 10 ومثراة في المال بمعنى مكثرة له أو مباركة فيه منسأة في الأثر بمعنى مطولة في العمر أو مباركة فيه.(6/378)
فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت في ترتيبها أو أنها وضعت في هذا الترتيب للمماثلة الخطابية والتشريعية والآيتان التاليتان لهذه الآية نزلتا على ما يفيده فحواهما وتدعمه الروايات في مناسبة قتال بين بعض المسلمين والمشركين اشتبه أن يكون في الشهر الحرام، وقد رجح الشيخ محمد عبده على ما رواه صاحب تفسير المنار رشيد رضا أن تكون هذه الآية والآيات التالية لها نزلت معا، وهو ترجيح وجيه.
ونص الآية صريح في فرض الجهاد على المسلمين، وإذا كانت جاءت بدون حدود وشروط فإن هذا لا يعني أن على المسلمين القتال بدون حدود وشروط.
فإن هناك آيات عديدة احتوت ذلك، منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي.
وجمهور العلماء على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض كفى، وهذا وجيه ومنسجم مع آيات عديدة أخرى منها آية سورة النساء هذه: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) وآية سورة التوبة هذه: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) .
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن قيام البعض الذي يكفي يجب أن يكون كافيا لحصول المراد من الجهاد وهو دفع العدوان وإرغام العدو وقهره. فإن لم يكن كذلك فلا يجوز لأحد من المسلمين القادرين على القتال أن يتخلّف بحجة أن هناك من يقاتل، ويقع على المتخلّفين في هذه الحالة إثم التقصير في فرض من فروض الإسلام الرئيسية.
وأسلوب الآية ينطوي على علاج نفساني قوي وتلقينات جليلة في صدد فرض القتال: فالقتال مما تستثقله النفوس عادة ولكنه ضرورة لا مناص منها في(6/379)
مثل حدوده وشروطه الإسلامية. وفيه الخير العميم من مختلف النواحي. وورود الآية في عهد مبكر من الهجرة- ونرجح أنها نزلت في السنة الهجرية الأولى استلهاما من الآيات التالية لها- تبرز حكمة هذا العلاج حيث كان المسلمون ما يزالون قلّة كما يظهر لنا على ما اقتضته حكمة التنزيل من إيجاب قتال أعدائهم حتى يوقعوا هيبتهم في قلوبهم ويشعروهم بعزمهم على مقابلة عدوانهم عليهم بالمثل.
ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يتولى تنظيم القتال وانتداب الناس إليه. وكان هذا شأن خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم) حيث يصح القول إن أمر تنظيم القتال وتوقيته واستنفار الناس إليه منوط بولي أمر المسلمين وسلطانهم.
ولقد روى الطبري عن عطاء أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله فقط، وهو قول عجيب، والجمهور على أنها للمسلمين عامة. وروى عن ابن عباس أنها نسخت حينما قال المسلمون سَمِعْنا وَأَطَعْنا وهو ما حكي عن لسانهم في آخر هذه السورة. وقد فنّد الطبري هذا القول ونرجح أنه منحول لابن عباس فهو أفقه من أن يقول ذلك.
ويروي رشيد رضا عن بعض المفسرين دون ذكر اسم ومصدر أن جملة:
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تعني جميع التكاليف التي أمر الله بها، وجملة: وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ تعني جميع ما نهى المسلمون عنه.
وقد فنّد هذا القول قائلا إنه ليس من مسلم صادق يكره تنفيذ ما أمر الله ويحب عمل ما نهى عنه والتفنيد في محلّه. والجملتان بسبيل معالجة نفسية على ما شرحناه آنفا والله أعلم.
ولقد ورد بعد هذه الآية آيات ثم ورد في سور مدنية أخرى آيات أخرى قوية في الحثّ على القتال في سبيل الله وبيان ما للمجاهدين من ثواب ومنزلة وبشارات ربانية لهم في الدنيا بالإضافة إلى الآخرة ثم في التنديد بمن يتباطأ ويتقاعس ويبطىء عن القتال أو يفرّ منه. وفي تقرير كون الجهاد في سبيل الله مقياسا لإيمان المؤمن المخلص مما سوف تأتي نصوصه وشرحه ومداه في مناسباته في هذه(6/380)
السورة وغيرها ومما ينطوي فيه ما أسبغته حكمة التنزيل على هذا الركن الإسلامي العظيم من عناية وخطورة.
ولقد رويت أحاديث نبوية منها الصحيحة فيها مثل ذلك أيضا منها حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة جاء فيه: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيله وإيمانا به أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي.
والذي نفس محمد بيده لوددت أنّي أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل» ولفظ البخاري لوددت أنّي أقتل في سبيل الله فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل» «1» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه: «من مات ولم يغز ولم تحدّثه به نفسه مات على شعبة من نفاق» «2» .
وهناك حديث رائع متصل بمدى الآية رواه أبو داود عن ثوبان: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت» «3» . وفي كل هذا تساوق بين التلقين القرآني والتلقين النبوي كما هو ظاهر.
هذا، وهناك أمر آخر يحسن أن نذكره في صدد فرض القتال على المؤمنين
__________
(1) التاج ج 4 ص 292 و 293.
(2) المصدر نفسه ص 295.
(3) التاج ج 5 ص 295، وفي كتب الحديث أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردنا.(6/381)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
حيث روى الطبراني عن أنس بن مالك قال: «قالت أمّ سليم يا رسول الله اخرج معك إلى الغزو؟ قال: يا أمّ سليم، إنّه لم يكتب على النساء الجهاد. قالت: أداوي الجرحى وأعالج العين وأسقي الماء، قال: نعم إذا» . والحديث ليس من الصحاح ولقد ورد في كتب الأحاديث الصحيحة أحاديث عديدة كما روت روايات السيرة والتاريخ روايات عديدة تذكر أن النساء المسلمات في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعده كن يذهبن مع الرجال فيحملن للمقاتلين الماء والزاد ويداوين الجرحى والمرضى ويحملن أحيانا السلاح ويقاتلن فإذا صح حديث الطبراني فيكون في صدد فرضية القتال واختصاص ذلك بالرجال دون النساء فرضا وتكليفا وليس فيه ما يمنع تطوع المرأة المسلمة في مختلف الأساليب الجهادية وقد كان ذلك فعلا في مختلف أدوار التاريخ الإسلامي في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعده والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 217 الى 218]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
. (1) المسجد الحرام: معطوفة على جملة- وصدّ عن سبيل الله- أي وصدّ عن المسجد الحرام.
في الآية الأولى:
1- حكاية لسؤال أورد على النبي صلّى الله عليه وسلّم عما إذا كان يجوز القتال في الشهر الحرام، وأمر بالإجابة بأن القتال فيه خطير وكبير عند الله غير أن الصدّ عن سبيل الله ودعوته والكفر به والصدّ عن المسجد الحرام وإلجاء أهله إلى الخروج منه بالأذى(6/382)
والإعنات هما أكبر عند الله من القتال فيه. كما أن الفتنة أي إجبار المسلمين على ترك دينهم بالقوة والأذى هي أكبر عند الله من القتال فيه وكل هذا كان يقع من الكفار في الشهر الحرام.
2- وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى المؤمنين بأن الكفار لن يتوانوا عن قتالهم وإيقاع الأذى عليهم بكل وسيلة وفي كل وقت حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.
3- وإنذار لمن يتأثر بهم فيرتدّ عن دينه ويموت كافرا، فأولئك يبطل الله جميع ما عملوه من خير، ويكون مصيرهم الخلود في النار.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، فهؤلاء إنما كانوا يرجون بما فعلوا رحمة الله، وإن الله لمحقق رجاءهم وغافر لما يمكن أن يكون بدر منهم من خطأ لأنه غفور رحيم.
تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ ... إلخ والآية التالية لها
وقد روى المفسرون «1» أن الآية الأولى نزلت جوابا على دعاية تشويشية قام بها كفار مكة بمناسبة قتال وقع بين سرية أرسلها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيادة عبد الله بن جحش لرصد قافلة قرشية فقتلت بعض رجالها وأسرت بعضهم واستولت على العير.
وادعى كفار قريش أن الحادث وقع في أول رجب حيث كان القتال محرما في الأشهر الحرم التي كان رجب منها وعظيم الخطورة عند العرب فاستغل أولئك الكفار ذلك وصاروا يتساءلون تساءل المستنكر العائب عن الأمر ويقولون إن محمدا وأصحابه يستحلون الشهر الحرام حتى لقد عاتب النبي صلّى الله عليه وسلّم رجال سريته
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(6/383)
وقال لهم ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فاضطربوا وخافوا فأنزل الله الآية التي فيها الحكم والفرج.
والرواية ذكرت في أقدم كتب السيرة «1» وفي جميع كتب التفسير والتاريخ القديمة وهي متسقة مع فحوى الآية وروحها.
ولقد روى الطبري وغيره أنه لما نزلت الآية الأولى طمع المهاجرون في الأجر فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟
فأنزل الله الآية الثانية. وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. ولسنا نراها متسقة مع فحوى الآية ومقامها ويتبادر لنا أنها نزلت مع الأولى كتعقيب عليها من جهة ودفاع عن رجال السرية من جهة أخرى. فهم إنما أقدموا على ما أقدموا عليه جهادا في سبيل الله ورجاء رحمته ورضوانه. فهم بالثناء والتنويه أحقّ من الملامة والتثريب.
ويظهر أن بعض المسلمين قد تأثروا بدعاية الكفار فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآية الأولى ما تضمنته من تنبيه وإنذار بالإضافة إلى ما تضمنته الآية الثانية من ثناء على رجال السرية وتنويه بهم، واتصال الآيتين موضوعيا بالآية السابقة ظاهر. وهو ما جعل الشيخ محمد عبده يرجح نزول الآيات الثلاث معا على ما ذكرناه قبل قليل.
ولقد انطوى في الجواب الذي احتوته الآية الثانية حملة شديدة على كفار قريش ورد لاذع محكم على ما أثاروه من دعاية. فهم أقل الناس حقا في اللوم والانتقاد. وتصرفاتهم الأثيمة مع المسلمين حينما كانوا في منطقة المسجد الحرام وفي أثناء الأشهر الحرم من أذى وكفر وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وفتنة المسلمين أشدّ وأكبر من القتال في الشهر الحرام الذي يثيرون بسببه الدعاية ويوجهون العيب والانتقاد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 48 وابن هشام ج 2 ص 238- 240.(6/384)
والآية الثانية تلهم أن هذه السرية مؤلفة من المهاجرين فقط، وهو متسق مع ما ورد من روايات عديدة عن جميع السرايا التي سيرها النبي صلّى الله عليه وسلّم والغزوات التي قادها قبل وقعة بدر. وهذه السرية كانت آخرها قبل هذه الوقعة «1» . فالأنصار اشتركوا لأول مرة في القتال في وقعة بدر وبعد فرض القتال على المسلمين كافة بأسلوب مطلق صريح. أما قبل ذلك فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكلفهم على اعتبار أن الاتفاق بينه وبينهم هو على الدفاع عنه في بلدهم، وأن العداء المبرر للقتال إنما كان بين المهاجرين وقومهم القرشيين.
هذا، وفي الآيتين عظات وتلقينات أخلاقية واجتماعية مستمرة المدى مع ما لهما من خصوصية زمنية:
1- فالدفاع عن حرية الدعوة وردّ البغي والعدوان وقتال البغاة المعتدين في كل ظرف وزمن واجب ومبرر، وبخاصة إذا كان هؤلاء شديدي الأذى والخصومة.
2- ومن الناس من يتناسى تصرفاته الآثمة الشديدة الأذى والضرر ويندفع في التهويش على الآخرين لأخطاء أخف من جرائمهم فلا ينبغي أن يؤخذ الناس بذلك ويتغافلوا عن سيئات المجرمين وآثامهم.
3- ومن الناس من يتمسك بالأشكال ويحاول تغليبها على اللباب والجوهر مع أن الواجب الاهتمام بهذه دون تلك.
4- والمعول هو على مقاصد الناس ونياتهم، فإذا بدا من أناس عمل خالفوا فيه العرف والعادات عن حسن نية ورغبة في الخير وأداء الواجب فينبغي أن لا يلاموا على تلك المخالفة بل لهم حق الثناء والتسامح.
ويضاف إلى هذه العظات والتلقينات ما في الآية الثانية من تنويه مطلق بالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله رجاء رحمته، حيث ينطوي في ذلك أيضا تلقين مستمر المدى لجميع المسلمين في كل مكان وزمان بالتأسي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 43- 48.(6/385)
وأصحابه (رضي الله عنهم) الذين آمنوا وهجروا وطنهم وتخلّوا عن أموالهم ومساكنهم وعشائرهم وذوي أرحامهم في سبيل الله ودينه رجاء رحمته دون أن يكون لهم من وراء ذلك مأرب خاص إلا نصرة الله وإعلاء كلمته.
حكم المرتد عن دينه من المسلمين
وبمناسبة ما جاء في الآية الأولى من الآيتين من إنذار للذين يرتدون عن دينهم من المؤمنين ويموتون كفارا نقول إن عقوبة هؤلاء لم تبق في الشرع الإسلامي أخروية وحسب فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تشريع دنيوي واجب الاتباع لأنه مما سكت عنه القرآن من ذلك حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «1» . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من بدّل دينه فاقتلوه» «2» .
والجمهور على وجوب استتابة المرتدّ وأنه لا يقتل إلّا إذا أبى التوبة وأصرّ على الارتداد وهذا هو الحق والصواب والمتسق مع تلقينات القرآن في صدد التوبة على ما شرحناه في تعليقنا عليها في سورة البروج.
ولقد ذهب الإمام مالك إلى أن الزنادقة لا يستتابون لأنهم إذا تابوا كانوا كاذبين في توبتهم «3» . ونحن نرى الاستتابة واجبة بالنسبة للجميع فالله تعالى هو وحده عالم ما في القلوب ولا يجوز إزهاق النفس بالتخمين مهما كان محتملا.
وليس من سبيل على من يقول إني مسلم وإني تائب بقطع النظر عمّا في قلبه على ما جاء في آية سورة النساء [94] التي سوف يأتي شرحها بعد.
ولقد روى الإمام مالك عن عبد القاري أنه قال: «قدم على عمر بن الخطاب
__________
(1) التاج ج 1 ص 17.
(2) التاج ج 3 ص 17.
(3) الموطأ ج 2 ص 165. [.....](6/386)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال:
قربناه فضربنا عنقه. قال عمر: هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كلّ يوم رغيفا ثم استتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ ثم قال: اللهمّ إني لم أحضر، ولم آمر ولم أرض إذ بلغني» «1» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
. (1) الخمر: الجمهور على أن الخمر ليس اسم شراب معين، وإنما هو اسم عام للمسكر على اعتبار أنه يخمر العقل أي يغطي عليه. ومن التعاريف أن كل ما غلا واشتد وقذف الزبد من عصير الفواكه والثمار هو خمر.
(2) الميسر: هو القمار، وقيل إنه من (اليسر) لأنه أخذ مال الآخر بيسر وسهولة كما قيل إنه من (اليسار) أي صار موسرا. وقيل إنه فعل خاص أي يسر بمعنى قمر. والياسر هو الذي كان يجزىء لحم الجزر التي كانت تذبح للقمار والمراهنة. والجمهور على أن الميسر كناية عن كل أنواع القمار وأنه يدخل فيه المراهنات.
(3) العفو: أوجه الأقوال أن الكلمة هنا بمعنى الفضل الزائد عن الحاجة، وهو ما عليه الجمهور.
(4) أعنتكم: أرهقكم أو شقّ عليكم.
__________
(1) الموطأ ج 2 ص 165 وأبو موسى كان قاضيا من قبل عمر على البصرة.(6/387)
في الآيتين: حكاية لأسئلة ثلاثة أوردت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأجوبة عليها:
1- فقد سئل عن حكم الخمر والميسر فأمر بالإجابة بأن فيهما إثما كبيرا وفيهما كذلك منافع للناس ولكن إثمهما أكبر من نفعهما.
2- وسئل عما يتصدق به المتصدقون فأمر بالإجابة بأن عليهم التصدق مما يكون فاضلا وزائدا عن حاجتهم.
3- وسئل عما ينبغي أن يسلك مع اليتامى فأمر بالإجابة بأن الواجب هو عمل ما هو صالح ومصلح لهم، وأن ليس من بأس في مخالطتهم فهم إخوان للسائلين.
ولقد انتهت الآية الأولى بالتنبيه إلى أن الله إنما يبين آياته للمسلمين على أمل أن يتفكروا فيما ينجيهم ويسعدهم ويهديهم في الدنيا والآخرة. وانتهت الآية الثانية بالتنبيه إلى أن الله يعلم نيات الناس وسرائرهم ويعلم المفسد من المصلح منهم.
وأنه توخّى التيسير عليهم ولو شاء لأوجب عليهم ما فيه إعنات وإرهاق لهم، فهو العزيز القادر والحكيم الذي يأمر بما فيه الصواب والحكمة.
ومن المحتمل أن يكون التنبيه الذي احتوته الآية الأولى في صدد ما جاء فيها والذي احتوته الآية الثانية في صدد ما جاء فيها كما أن من المحتمل أن يكون التنبيهان في صدد ما جاء في الآيتين من أجوبة.
تعليقات على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... والآية التالية لها وتلقيناتها في صدد اليتامى والصدقات
والآيتان فصل تشريعي جديد، وقد وضعتا بعد الآيات السابقة إما لأنهما نزلتا بعدها أو للمماثلة التشريعية على ما هو المتبادر.
وقد روى المفسرون «1» أن السؤال الأول كان من عمر بن الخطاب حيث
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(6/388)
سأل الله أن ينزل في الخمر بيانا شافيا كما روي أن بعض المسلمين جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا له: أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل سالبة للمال. وأن السؤال الثاني كان من معاذ بن جبل ورفيق له أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: إن لنا أرقاء وأهلين فعلى من ننفق؟ وأن السؤال الثالث كان من جماعة كانوا أوصياء على بعض اليتامى فلما نزل وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
الأنعام: [152] في سورتي الإسراء والأنعام انطلق كل من عنده يتيم فعزل ماله عن ماله، ثم شق عليهم الأمر فسألوا رسول الله فأنزل الله الآيات. وفي رواية أن هذا كان حينما نزلت آيات سورة النساء [2- 11] التي تنهى عن أكل أموال اليتامى وتبديل طيبها بالخبيث وتنذر من يفعل ذلك وتأمر بحفظها ودفعها لهم.
والرواية التي تذكر سؤال عمر فقط هي الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة دون غيرها ويلحظ أنها في صدد الخمر مع أن في الآيات مسائل أخرى. وآيات النساء نزلت بعد هذه الآيات، والموضوع ليس محصورا في أموال اليتامى.
وعلى كل حال فالمتبادر أن المسائل المذكورة في الآيات مما كان يسأل عنها المسلمون في العهد النبوي فأنزل الله الآيات لتوضيح الأمور وحدة متكاملة.
هذا، ولقد قال المفسرون في صدد ما ذكرته الآية الأولى من نفع الخمر والميسر أن نفع الخمر هو ما كان يحدثه من نشوة وما كان يعود على صانعيه وأصحاب الثمار التي يصنع منها. وأن نفع الميسر هو ما كان يعود على الرابح من ربح ... وعلى كل حال فإن أسلوب جواب السؤال الأول يدل على ما كان للخمر والميسر من رسوخ وانتشار في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره، وما كان لذلك من تأثير في حياة هذه البيئة اقتصاديا واجتماعيا وأن المتبادر أن الإشارة إلى ما لهما من منافع إنما أتت من ذلك أي أنها تقرير للواقع وليست بقصد الإقرار والتبرير.
والسؤال والجواب عن الخمر والميسر هما خطوة أولى تبعتها خطوات أخرى في التشديد ثم في التحريم في آيات في سورتي النساء والمائدة على ما سوف نشرحه في مناسبتهما.(6/389)
ولقد انطوى الجواب هنا على استكراه تعاطيهما حيث ذكر إثمهما أولا ووصف بأنه أكبر ثانيا. وشدد في وصفه فذكر أنه أكبر من نفعهما. وهذا مؤيد لما قلناه آنفا من أن ذكر منافعهما هو إقرار للواقع وليس للتبرير. والمتبادر أن اقتصار الجواب على ذلك في الخطوة الأولى إنما كان بسبب ذلك الواقع حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في التشديد والتحريم حينما صارت حالة الإسلام والمسلمين تتحمل ذلك. وهناك أحاديث عديدة في صدد الخمر والميسر فيها توضيح وأحكام أجّلنا إيرادها والتعليق عليها إلى تفسير آيات سورة المائدة [91- 92] لأنها أكثر ملاءمة معها.
وننتقل الآن إلى السؤال الثاني وجوابه فنقول إن هناك أقوالا عديدة يرويها المفسرون عن أهل التأويل في صدده. منها أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يعطيه المسلمون للنبي صلّى الله عليه وسلّم من صدقاتهم وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر فيها كجواب على سؤالهم بأن يأخذ منهم الفضل الزائد أو ما يستطيعون أن يعطوه قليلا كان أو كثيرا.
وفي آية في سورة الأعراف التي سبق تفسيرها جملة تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يأخذ العفو.
ومن الأقوال المروية مع ذلك أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يتصدق به المسلمون بصورة عامة فأمروا بأن يعطوا ما فضل عن حاجتهم في قول، وما لا يكون فيه إجهاد لأموالهم وأنفسهم في قول. واليسير في قول وأطيب ما عندهم وأفضله في قول. وجميع هذه الأقوال واردة والجملة القرآنية تتحملها. وقد صوب الطبري أنها في صدد الأمر الثاني وأن العفو ما كان زائدا عن الحاجة. والتصويب في محله ومتساوق مع السؤال فيما يتبادر لنا. ويكون في الجواب والحالة هذه توجيه ومغزى عظيمان بعيدا المدى إذ يؤمر المسلم بأن يتصدق بما يكون زائدا عن حاجته لمن هم في حاجة من المسلمين أقارب كانوا أم أباعد. وليس بعد هذا شيء أسمى ولا أقوى في إيجاب التكافل بين المسلمين. وهناك أحاديث عديدة في صدد ذلك منها حديث رواه مسلم عن عبد الله بن جرير في موقف جاء النبي جماعة في حالة سيئة من العوز فدعا المسلمين إلى التصدق قائلا: «ليتصدق امرؤ من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه، من صاع تمره، حتى ولو بشقّ تمرة» . وحديث(6/390)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
رواه الخمسة جاء فيه: «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك» ، وحديث آخر رواه الشيخان عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شرّ لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى» «1» .
هذا، ومن المؤولين من أول الجملة بالزكاة المفروضة ومنهم من أولها بالصدقة التطوعية، وقد صوب الطبري القول الثاني إلى جانب الزكاة المفروضة وهو تصويب سديد.
وجواب السؤال الثالث جدير بالتنويه من حيث إنه ينطوي على رفع الحرج عن المسلمين في أمر شاق عليهم مع التشديد والإنذار. ففي عدم المخالطة بين اليتامى وأوصيائهم بمعناها الدقيق حرج ومشقة، والله لا يريد ذلك للناس والمطلوب الجوهري هو عمل ما فيه الصلاح والمصلحة لليتامى، وعليهم أن يعلموا أن الله تعالى عليم بنيّاتهم وبمن يريد الإصلاح والفساد منهم، وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى في شأن اليتامى بخاصة وفي كل شأن آخر بعامة مما تكرر تقريره في آيات كثيرة بأساليب متنوعة.
[سورة البقرة (2) : آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
. (1) لا تنكحوا: لا تتزوجوا.
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 35.(6/391)
(2) لا تنكحوا: لا تزوجوا وكلمة النكاح ومشتقاتها في القرآن بمعنى الزواج وليست بمعنى الجماع.
في الآية:
1- نهي موجّه للمسلمين عن التزوج بالمشركات وعن تزويج المشركين بناتهم.
2- وتنبيه بأسلوب المقارنة إلى أن الأمة المؤمنة خير وأصلح للمسلم من حرة مشركة مهما كان لها من المزايا والصفات مما يعجبه، وأن العبد المؤمن خير وأصلح من حرّ مشرك مهما كان له من المزايا والصفات مما يعجبها.
3- وتعليل لهذا التفضيل بأن المشركين بأفعالهم وتصرفاتهم إنما هم دعاة للنار فلا يصح الاتصال بهم والتناكح معهم، والله فيما يأمر به وينهى عنه إنما يدعو إلى الجنة والمغفرة ويبين آياته للناس لعلّهم يذكرون ما يجب عليهم اتباعه واجتنابه.
تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...
الآية فصل تشريعي جديد، وضع بعد الفصول السابقة للمماثلة التشريعية أو لتوالي النزول على ما هو المتبادر. وقد روى المفسرون في نزولها رواية تذكر أنّ واحدا من المسلمين أعجبته مشركة فاستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتزوج منها، وأخرى تذكر أن عبد الله بن رواحة لطم عبدة سوداء له ثم فزع إلى النبي فأخبره فسأله عنها فقال له إنها تصلي وتصوم وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال له هذه مؤمنة فأقسم ليعتقنّها وليتزوجها ففعل فعابه بعضهم فأنزل الله الآية تحبيذا لما فعل.
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، وقد يكون ما ورد فيها قد وقع فكان مناسبة لنزول الآية بأسلوبها المطلق لتكون تشريعا عاما. ولقد كان بين مسلمي العرب ومشركيهم أرحام واشجة ومصاهرات قائمة قبل الإسلام وامتد ذلك(6/392)
إلى ما بعده. حتى لقد بقي إلى ما بعد صلح الحديبية مما انطوى في بعض الآيات إشارات إليه مثل آية سورة الممتحنة [10] وسورة التوبة [23] «1» . وآية الممتحنة صريحة بأنه كان للمهاجرين زوجات كافرات إلى حين نزولها فأمروا بعدم الإمساك بعواصمهن. ولقد روي أن زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقيت في مكة ردحا من الزمن بعد الهجرة في عصمة زوجها أبي العاص الذي لم يكن آمن. وكان من أسرى المشركين في وقعة بدر فأرسلت قلادتها لافتدائه»
. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت وضع حد لذلك بهذه الآية. وإذا كانت هذه الآية نزلت قبل آية الممتحنة وهو ما نرجحه والله أعلم فتكون قد هدفت إلى منع إنشاء زواجات جديدة بين المسلمين والمشركين إلى أن نزلت سورة الممتحنة بعد صلح الحديبية فقررت الآية التي نحن في صددها عدم حلّ المسلمات للمشركين والمشركات للمسلمين وأمرت بفصم عصمة الزواجات القائمة بينهم.
ويروي بعض المفسرين «3» عن بعض أهل التأويل أن الآية كانت عند نزولها شاملة لجميع غير المسلمين بما فيهم الكتابيون لأن اعتقاد اليهود ببنوة العزير لله والنصارى ببنوة المسيح وألوهيته يجعلهم داخلين في عداد المشركين. كما يروي بعضهم عن بعض أهل التأويل أن الآية هي في حق مشركي العرب. وأصحاب القول الأول قالوا إن الآية نسخت في حق أهل الكتاب جزئيا بآية سورة المائدة الخامسة التي أحلت للمؤمنين التزوج بالحرائر من الكتابيات والآية تتحمل كلا القولين.
ويلحظ أن الآية احتوت تعليلا وحكمة تشريعية، وهذا من أساليب القرآن الهادفة إلى الإقناع والبيان. ومن مدى التعليل أن المشركين يدعون إلى ما يؤدي
__________
(1) آية سورة التوبة في صدد عدم تولي الكافرين ولو كانوا أزواجهم وزوجاتهم. وآية سورة الممتحنة صريحة في النهي عن عدم التمسك بعصم الكوافر وعدم حلّ المسلمات للمشركين.
(2) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 296- 304.
(3) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والطبرسي.(6/393)
إلى النار من الكفر والفسوق ويسلكون سبيلهما والتزاوج مظنة الإلفة والمودة.
وهذا يوجد التوافق في المطالب والمسيرة فصار من الواجب أن لا يتزاوج المسلمون والمشركون حتى لا ينحرف المسلمون وذراريهم إلى سبل غير الله من وثنية وتقاليد وثنية خلقية واجتماعية، والله تعالى أعلم. وهذه المحاذير منتفية في ما اقتضته حكمة التنزيل من نسخ حكم هذه الآية بإحلال تزوج المسلمين من الكتابيات على ما سوف نزيده شرحا في تفسير المائدة.
وروح الآية بل وفحواها يفيد أن النهي هو عن التزوج بالمشركات الحرائر وتزويج المشركين بالمسلمات. والمتبادر أن هذا لا يشمل استفراش ملك اليمين من الإماء المشركات ويدعم هذا حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد قال: «بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعثا يوم حنين إلى أوطاس فظهروا عليهم وأصابوا فيهم سبايا فتحرّج بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عن غشيانهن من أجل أزواجهم المشركين فأنزل الله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ النساء: [24] أي فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهنّ» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره.
ولا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة» «2» .
وفي تفضيل الأمة المؤمنة على الحرّة المشركة والعبد المؤمن على الحر المشرك تلقين قرآني جليل بما ضمنه الإسلام للأرقاء المؤمنين من رفعة المركز والوجاهة. وهذا يضاف إلى عناية القرآن بتحرير العبيد بمختلف الأساليب والحثّ على الرفق بهم وما ورد من أحاديث نبوية في صدد ذلك مما شرحناه في تعليقنا على موضوع الرقيق في تفسير سورة البلد.
ومن الجدير بالتنبيه في هذه المناسبة أن القصد من العبد المؤمن والأمة
__________
(1) التاج ج 2 ص 284 و 285.
(2) انظر المصدر نفسه.(6/394)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
المؤمنة اللذين دخلا الإسلام وهما في حالة الرقّ، والمؤمن والمؤمنة الحران لا يسترقان إنشاء في أي حال. والأسير الكافر إذا أسلم قبل أن يقرر ولي أمر المؤمنين مصيره يصبح حرا. هذا وهناك أحاديث في صدد الزوجين اللذين يسلم أحدهما أو يرتدّ أحدهما أجلنا إيرادها وشرحها إلى تفسير سورة الممتحنة لأنها أكثر ملاءمة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
. (1) أذى: يمكن أن تكون الكلمة بمعنى عارض مرضي مؤذ، ويمكن أن تكون بمعنى القذارة والنجاسة.
(2) حرث لكم: التعبير على وجه المجاز، والقصد منه أن المرأة مزرعة لنسل الرجل.
تعليقات على آية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ... والآية التالية لها
في الآية الأولى: حكاية لسؤال ورد على النبي صلّى الله عليه وسلّم عن حكم حيض النساء، وأمر بالإجابة بأنه أذى وبوجوب اعتزال النساء في أثنائه وعدم قربهن حتى يطهرن.
وحينئذ يحل لهم إتيانهن من حيث أمرهم الله وتنويه بالتوابين الذين يتقيدون بأوامر الله والمطهرين الذين يبتعدون عن النجاسات والأقذار ويحبهم.
وفي الآية الثانية تقرير موجه للمسلمين بأن نساءهم حرث لهم ولهم أن يأتوا(6/395)
حرثهم أنى شاءوا. ثم احتوت مواعظ لهم، فعليهم أن يراقبوا الله ويتقوه في جميع أعمالهم وأن يذكروا دائما أنهم ملاقوه وواقفون بين يديه، ثم أمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتبشير المؤمنين الصادقين المستجيبين لهذه المواعظ بحسب العواقب.
ولقد روى المفسرون أحاديث وأقوالا في نزول الآيتين ومداهما. من ذلك حديث يرويه الترمذي عن أنس قال: «كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها ولم يجلسوا معها في بيت. فسئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله الآيات فأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يؤاكلوهنّ ويشاربوهنّ وأن يكونوا معهنّ في البيت وأن يفعلوا كلّ شيء إلّا النكاح. فقالت اليهود: ما يريد محمّد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء عبّاد بن بشر وأسيد بن حضير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبراه بذلك وقالا: يا رسول الله أفننكحهن في المحيض؟ فتمعّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظننّا أنه غضب عليهما فاستقبلتهما هدية من لبن فأرسل لهما رسول الله فسقاهما فعلما أنه لم يغضب» «1» . وحديث ثان يرويه الترمذي والبخاري عن جابر قال: «كانت اليهود تقول: من أتى امرأته في قبلها من دبرها كان الولد أحول، فنزلت:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» «2» . وحديث ثالث يرويه الترمذي عن ابن عباس قال: «جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا رسول الله هلكت! قال: وما أهلكك؟ قال: حوّلت رحلي الليلة. فلم يردّ عليه رسول الله، فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أقبل وأدبر واتّق الدبر والحيضة» «3» . وهناك روايات لم ترد في كتب الأحاديث منها أن العرب كانوا لا يساكنون الحائض في بيت ولا يأكلون معها في إناء، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله الآية. ومنها أن بعضهم كان يأتي النساء في الحيض من أدبارهن فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله الآيات.
__________
(1) التاج ج 4 ص 55 وج 1 ص 103 و 104. ويفعل اليهود ذلك لأنهم مأمورون به في شريعتهم فخففه الله ورسوله عن المسلمين. اقرأ سفر الأحبار في أسفار العهد القديم وبخاصة الإصحاح 15.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر المصدر نفسه.(6/396)
ومهما يكن من أمر فالنصّ ظاهر بأن أناسا سألوا رسول الله عن المحيض فنزلت الآيات بالإجابة مع بعض التفصيل. ويجوز أن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها للتماثل الظرفي والتشريعي، ويجوز أن تكون وضعت في ترتيبها للتماثل التشريعي ويجوز أن تكون بعض الآيات تليت في سؤال من أحد عن شيء ما مما يتعلق بإتيان النساء في المحيض أو في أدبارهن أو اعتزالهن فظنّ الرواة أنها نزلت على أثر السؤال والله تعالى أعلم.
هذا في صدد نزولها، أما في مداها:
فأولا: إن المفسرين يروون عن أهل التأويل أن المنهي عنه هو الجماع، والآية قد تفيد ذلك، والحديث المروي عن أنس يفيد ذلك صراحة. وهناك حديث يرويه الطبري عن عائشة جوابا على سؤال عما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضة: «كلّ شيء إلّا الجماع وفي رواية إلّا الفرج» وهناك حديث يرويه الشيخان عن ميمونة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيض» «1» .
وثانيا: في جملة حَتَّى يَطْهُرْنَ فقد قرئت الطاء والهاء بالتشديد والفتح.
وقرئت الطاء بالتسكين والهاء بالضم، واختلف الفقهاء بحسب ذلك. فمن رجح القراءة الأولى أوجب عدم الجماع حتى ينقطع الحيض وتغتسل الحائض. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع عند انقطاع الحيض بعد غسل الفرج فقط.
وثالثا: في جملة فَإِذا تَطَهَّرْنَ فاختلف الفقهاء تبعا لاختلافهم في قراءة الجملة السابقة. فمن رجح القراءة الأولى أوجب الاغتسال الشرعي قبل الجماع وبعد انقطاع الدم. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع دون اغتسال شرعي.
والجملتان تتحملان المذهبين غير أن الذي يتبادر لنا أن المذهب الثاني أكثر اتساقا مع فحوى الآية، فهي تقرر أن المحيض أذى وتأمر بعدم قرب النساء أثناءه فإذا
__________
(1) التاج ج 1 ص 104. وهناك أحاديث أخرى في مثل ذلك عن عائشة، والمباشرة هي تماس البشرة بالبشرة والمداعبة البدنية ولو بالذكر دون الجماع.(6/397)
انقطع الدم انقطع الأذى وزال المانع. ولا يتوقف هذا على الاغتسال الشرعي ويكفي غسل الفرج والله تعالى أعلم.
وننبه على أن هناك أحاديث توجب كفارة مالية على من يواقع زوجته وهي حائض منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذي يأتي امرأته وهي حائض فقال: يتصدق بدينار أو نصف دينار. وفي رواية أبي داود: «إذا أصابها في أوّل الدّم فدينار وإذا أصابها في آخره فنصف دينار» «1» . وهناك من أخذ بهذه الأحاديث وهناك من أوجب الالتزام بالنهي القرآني وهو الاعتزال إلى أن يطهرن. والظاهر أن هؤلاء لم يثبت عندهم الأحاديث. وفي الأحاديث إذا صحت معالجة الحالة قد تكون اضطرارية وقد تفيد أن النهي ليس من قبيل التحريم وإنما من قبيل استهداف بيان ما في ذلك من أذى وقذارة، والله تعالى أعلم.
ورابعا: في صدد جملة فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أقوالا منها أنها بمعنى آتوهن من فروجهن. أو أنها بمعنى آتوهن بعد أن أمركم الله باعتزالهن. وقد يكون التأويل الأول هو الأوجه والله أعلم.
وخامسا: في صدد جملة نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تداولها بعض المؤولين على ما يرويه الطبري وغيره أنها تبيح للرجل إتيان زوجته على أي كيفية وفي أي وقت في الليل والنهار، ومقبلة ومدبرة ومستلقية أو محبية أو على شق أو قاعدة أو قائمة على شرط أن يكون الإيلاج في الفرج وتجنب الدبر. وأولها بعض المؤولين بأنها تبيح للرجل إتيان امرأته من دبرها أو قبلها. وقد روى القول الثاني عن ابن عمر وروى عنه نقيضه أيضا. والجمهور على القول الأول، وحديث ابن عباس عن مراجعة عمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم صريح بإيجاب اتقاء الدبر. وهناك أحاديث أخرى منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا أو امرأة من دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد» . وحديث
__________
(1) التاج ج 1 ص 105.(6/398)
رواه أصحاب السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ملعون من أتى المرأة في دبرها» . وهناك أحاديث أخرى وهذا ما يجعلنا نشك فيما روي عن ابن عمر بأنه أجاز إتيان المرأة في دبرها ونصدق ما روي عن إنكاره ذلك. وبالإضافة إلى هذه الأحاديث فإنه يتبادر لنا أن الآية لا تفيد غير ذلك فالحيض من القبل والنهي هو عن قرب النساء في الحيض، وقد شبهت النساء بالحرث أي الأرض التي تزرع لتخرج ثمرا، وهذا إنما يكون من القبل.
وليس في الأحاديث النبوية حدّ وعقوبة على من يأتي النساء من أدبارهن.
وقد يصح أن يقاس هذا على اللواط وعقوبته على ما شرحناه وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق قصة لوط في سورة الأعراف شرحا يغني عن التكرار.
وقد يرد قول إن هذا قد لا يشمل الأزواج استنادا إلى مبدأ درء الحدود بالشبهات من حيث أن يكونوا أخذوا بتأويل من تأويلات جملة: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ومع أننا لا نرى ذلك فإن ما عليه من الأزواج يكونون على كل حال موضوع الإنذار النبوي الرهيب الذي وصمهم بالكفر ولعنهم. أما الأحاديث التي يستمد منها الفقهاء مبدأ درء الحدود بالشبهات فمنها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام لئن يخطىء بالعفو خير من أن يخطىء بالعقوبة» «1» . وحديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا» «2» . وحديث رواه ابن مسعود مرفوعا جاء فيه:
«ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» «3» .
هذا، والسنّة المتواترة المجمع عليها أن الحائض تسقط عنها الصلاة وتفطر في رمضان على أن تقضي في غيره عدة الأيام التي أفطرتها. وهناك حديث رواه الخمسة عن معاذة قالت: «سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي
__________
(1) التاج ج 3 ص 21. [.....]
(2) نيل الأوطار للشوكاني.
(3) نيل الأوطار للشوكاني.(6/399)
الصلاة؟ فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» «1» .
ويستتبع هذه السنّة سنّة أخرى مجمع عليها وهي أن على الحائض عند ما ينقطع الحيض عنها أن تغتسل قبل أن تصلي، أي لا يكفي الوضوء لصلاتها، وهناك حديث رواه الترمذي في صدد قراءة الحائض للقرآن عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن» «2» .
وقد رأينا من المفيد أن نستطرد إلى عارضين ينزل فيهما الدم من قبل المرأة، الأول يسمى الاستحاضة وينزل في غير وقت الحيض وأحيانا يستمر نزوله. وفي حديث رواه الخمسة عن عائشة حكم لهذا العارض حيث رووا أن عائشة قالت:
«إنّ فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا إن ذلك عرق وليس بالحيضة. ولكن دعي الصلاة بقدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلّي وفي رواية إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي الدم وصلّي وفي رواية الترمذي وتوضّئي لكلّ صلاة.
وفي رواية أبي داود لتنظر عدّة الأيام والليالي التي كانت تحيض بهنّ من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلّي» «3» . وهناك حديثان آخران في ذلك منهما حديث رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها قالت: «يا رسول الله إني أستحاض، فقال لها: إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلّي فإنما هو عرق» . وروي الثاني عن أصحاب السنن أن حمنة بنت جحش قالت: «أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني من الصلاة والصوم؟ قال: أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك؟
__________
(1) التاج ج 2 ص 106 و 107.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) التاج ج 1 ص 108 وجملة (لتستثفر) أي تتحفظ بثوب بعد وضع شيء في الفرج يمنع سيلان الدم إلى الأرض.(6/400)
قال: فاتخذي ثوبا. قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثجّ ثجا. قال: سآمرك بأمرين أيّهما فعلت أجزى عنك من الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم. إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله تعالى ذكره، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزئك. وكذلك فافعلي كلّ شهر كما يحضن النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهنّ فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجّلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين وتؤخّرين المغرب وتعجّلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي. وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك قال رسول الله وهذا أعجب الأمرين إليّ» «1» .
ويلحظ أن الشطر الثاني من هذا الحديث فيه إيجاب اغتسال لكل صلاة والأول ليس فيه ذلك، وصيغة الحديث تجعل للمرأة الخيار في ذلك. والحديث الأول الذي رواه الخمسة لا يوجب إلّا الغسل من الحيض وميقاته واكتفى بالأمر بالتوضّؤ للصلاة للمستحاضة وهذا هو الأقل حرجا.
وقد يتبادر لنا أن يكون الأمر بالاغتسال في الشطر الثاني من الحديث الأخير قد قصد الوضوء وفي هذا يكون التوفيق بين الأحاديث وبين الشطر الأول والشطر الثاني من الحديث، والله تعالى أعلم.
ولقد روى أبو داود حديثين عن عكرمة يفيد أن الاستحاضة لا تمنع الزوج من إتيان زوجته وجاء في أحدهما: «كانت أمّ حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها» «2» . وجاء في ثانيهما: «أن حمنة بنت جحش كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها» «3» . وقد قال الإمام مالك: إن هذا مما هو متفق عليه «4» .
__________
(1) التاج ج 1 ص 109 و 110.
(2) المصدر نفسه ص 111.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) الموطأ ج 1 ص 31.(6/401)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
والأمر الثاني في الاستطراد هو حالة النفاس التي يسيل الدم فيها للمرأة عقب الولادة ويستمر مدة طويلة. وهناك حديثان روى أحدهما الترمذي وأبو داود عن أم سلمة قالت: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين يوما تطلي وجهها بالورس من الكلف» «1» . وثانيهما رواه أبو داود عنها أيضا قالت: «كانت المرأة من نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقضاء صلاة النفاس» «2» .
والمشاهد أن الدم لا يستمر مع كل النساء أربعين يوما، فمنتهى ما يشاع عنهن في أقل من ذلك فيكون الأربعون يوما في الحديث هو الحد الأعلى ويكون الحكم وفاق ذلك على ما هو المتبادر. ولم نطلع على أحاديث في صدد وجوب اغتسال النفساء وصومها، وقد يصح والحالة هذه قياس حالتها على الحائض بحيث يجب عليها الاغتسال إذا انقطع الدم عنها وطهرت وقضاء ما تفطره من رمضان أثناء ذلك والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
. (1) عرضة: مانعا معترضا لمنع الخير.
(2) أن تبرّوا: قيل إنها بمعنى أن تفعلوا الخير والبرّ إطلاقا وقيل إنها بمعنى أن تبرّوا أرحامكم. والإطلاق يجعل المعنى الأول أكثر وجاهة.
(3) اللغو: هو ما لا طائل ولا فائدة منه من القول. واللغو بالأيمان هو ما يرد في عرض الكلام من صيغ لا يقصد بها يمين مثل بلى والله ولا والله، على ما
__________
(1) التاج ج 1 ص 107.
(2) انظر المصدر نفسه.(6/402)
رواه البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) «1» .
في الآية الأولى: نهي موجّه للمسلمين عن عدم جعل أيمانهم بالله وسيلة لعدم البرّ والإصلاح بين الناس والانصراف عن عمل ما فيه تقوى الله. فالله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم. وفي الثانية: تقرير موجه إليهم أيضا بأن الله تعالى لا يؤاخذهم بما يصدر منهم من الأيمان التي لا يتعمدون فيها شيئا ولا يقترفون بها ذنبا ولا تعقدها قلوبهم بمنع وإيجاب ونفي وإثبات. وإنما يؤاخذهم بما قصدت قلوبهم كسبه وفعله. وهو على كل حال غفور لمن تاب وأصلح، حليم لا يتسرع بالغضب والعقوبة ليكون في ذلك فرصة لمن حسنت نيته.
تعليق على الآية وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ... والآية التالية لها
والآيتان فصل تشريعي جديد، وقد وضع بعد ما سبقه للمماثلة التشريعية أو لنزوله بعده.
وقد روى بعض المفسرين «2» أن الآية الأولى نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه- زوج أخته- ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته. كما روى بعضهم «3» أنها نزلت في أبي بكر حين حلف أن لا يساعد قريبا له اندمج في حديث الإفك في حقّ عائشة (رضي الله عنها) .
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، والمتبادر أن الآية الثانية نزلت مع الأولى كتبرير للنهي الذي احتوته الآية الأولى أو فتوى لليمين التي
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 70. وقد روى أبو داود وابن حبّان والبيهقي ذلك عن عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا انظر الصفحة نفسها.
(2) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي.
(3) انظر تفسير الطبري والخازن. [.....](6/403)
يحلفها المسلم فيعتذر بها عن فعل الخير والإصلاح وما تقتضيه تقوى الله.
وفحوى الآيتين قد يتسق مع إحدى الروايتين المرويتين، غير أن يمين أبي بكر المروية قد وقعت في أواسط العهد المدني وأشير إليها في آية سورة النور هذه:
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) وهي من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة عن حديث الإفك على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
وفي الآية التالية لهاتين الآيتين إشارة إلى الذين يؤلون من نسائهم أي يحلفون بعدم القرب من نسائهم حيث يتبادر أن هناك صلة موضوعية بين هاتين الآيتين والآيات التالية لهما والله تعالى أعلم.
ولقد احتوت الآيتان على كل حال تعليمات قرآنية بشأن الأيمان إطلاقا، وفيهما تلقينات رائعة جليلة في عدم جواز حلف الأيمان للامتناع عن فعل الخير والإصلاح وما تقتضيه تقوى الله من أعمال سلبية وإيجابية وفي عدم جواز احتجاج المرء بيمين صدر منه للامتناع عن ذلك أو لفعل ما فيه إثم وضرر للغير ثم في تقرير كون الله عز وجل إنما يحاسب الناس على ما يصدر منهم أو يتعمدون فعله من إثم في سياق الأيمان وكون ما ليس فيه ذلك يعده الله لغوا لا يؤاخذهم عليه.
وينطوي في التلقين الأول تقرير عدم جواز التقيد بالأيمان للامتناع عن الخير أو فعل الإثم. وفي سورة المائدة آية احتوت بيان الكفارة على اليمين التي يحلفها المسلم ثم توجب عليه الظروف أو واجب فعل الخير والامتناع عن الأذى للنفس أو الغير الرجوع عنها وهي هذه: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) وهي متممة للتعليم القرآني الوارد في هاتين الآيتين كما هو المتبادر. وقد نزلت في صدد جماعة من المؤمنين(6/404)
حلفوا أن يتخلوا عن طيبات الحياة تورعا وتقربا إلى الله فنهتهم الآية السابقة لها عن تحريم ما أحلّه الله لهم وأمرتهم بالرجوع عن يمينهم والتكفير عنها.
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد اليمين والرجوع عنه وكفارته واليمين الكاذبة رأينا من المفيد إثباتها في هذه المناسبة. من ذلك حديث رواه الثلاثة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحلف منفّقة للسلعة ممحقة للبركة» «1» . وفي رواية مسلم: «إياكم والحلف في البيع فإنه ينفّق ثم يمحق» «2» . وحديث رواه الخمسة عن أبي موسى قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان فاستحملناه فحلف ألا يحملنا ثم قال: والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلّلتها» «3» . وحديث رواه مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفّر عن يمينه» «4» . وحديث رواه أصحاب السنن عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنث» «5» . وحديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال رجل مسلم أو مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان» «6» وحديث رواه أبو داود عن عمران عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ مقعده من النار» «7» . وحديث رواه أبو داود والنسائي عن سعيد بن المسيب قال: «إنّ أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت سألتني عن القسمة فكلّ مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك.
__________
(1) التاج ج 2 ص 179.
(2) التاج ج 2 ص 179.
(3) التاج ج 3 ص 68- 71. ومعنى استثنى: قال إن شاء الله.
(4) التاج ج 3 ص 68- 71. ومعنى استثنى: قال إن شاء الله.
(5) التاج ج 3 ص 68- 71. ومعنى استثنى: قال إن شاء الله.
(6) التاج ج 3 ص 68- 71. ومعنى استثنى: قال إن شاء الله.
(7) المصدر نفسه ص 69، واليمين المصبورة تعني أن يحلف المرء على أمر أنه وقع وهو كاذب. وعرف هذا باليمين الغموس الذي يعد من الكبائر على ما ورد في حديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس» . التاج ج 3 ص 68.(6/405)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
كفّر عن يمينك وكلّم أخاك، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم إلا فيما لا تملك» «1» . وللنسائي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء وما كان في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ويكفّره ما يكفّر اليمين» »
. ويصح أن يقاس اليمين على هذا كما هو المتبادر.
وهناك أحاديث أخرى في حظر اليمين بغير الله يحسن أن تساق في هذا المقام أيضا، منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله ألا إنّ الله عزّ وجلّ ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «3» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر: سمع رجلا يحلف بالكعبة فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حلف بغير الله فقد أشرك» «4» .
هذا، ولقد كتبنا تعليقا على ما أعاره القرآن من اهتمام للإصلاح بين الناس في تفسير سورة الشورى فنكتفي بهذا التنبيه في مناسبة ما ورد من ذلك في هذه الآية.
ولقد قيل «5» في تأويل كلمة (عرضة) قول آخر وهو أن الجملة بسبيل النهي عن التعريض باسم الله في مواقف الحنث واللغو والإكثار من اليمين باسمه لتغرير الناس والكذب عليهم والإكثار من اليمين ولو كانت بارّة صادقة. ومع ما في هذا القول من وجاهة وتلقين بليغ فإن النفس تطمئن بالمعنى الأول كما أن روح الآية تلهمه أكثر وهو ما عليه الجمهور.
[سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
__________
(1) التاج ج 3 ص 76.
(2) المصدر نفسه ص 77.
(3) المصدر نفسه ص 67- 68 وهناك أحاديث أخرى في هذا الباب.
(4) انظر المصدر نفسه.
(5) انظر تفسير الخازن.(6/406)
(1) يؤلون: من الإيلاء بمعنى القسم (آلى على نفسه وآليت على نفسي) وقد صار له معنى اصطلاحي وهو القسم على عدم مجامعة الزوجة.
(2) تربص: انتظار.
(3) فاءوا: رجعوا عن القسم.
(4) الطلاق: معناه اللغوي المفارقة، وقد صار له معنى اصطلاحي وهو فراق الزوجين عن بعضهما.
في الآيتين تعليمات أو تقريرات تشريعية في شأن الإيلاء: فالذين يحلفون بأن لا يجامعوا زوجاتهم لا يصح أن يستمروا على ما أقسموا عليه إلّا أربعة أشهر، فإما أن يرجعوا عن يمينهم ويعودوا إلى نسائهم والله غفور رحيم يقبل التوبة ويعامل بالرحمة، وإما أن يعزموا الطلاق والله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم.
تعليق على الآية لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... إلخ والآية التالية لها
والآيتان فصل تشريعي جديد، وهو بدء فصل طويل في الطلاق. وقد يكون وضعه في ترتيبه للمماثلة أو لنزوله بعد ما سبقه.
ولم نطلع على رواية في نزوله، والمتبادر أنه حدث حادث إيلاء فرفع أمره إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الحكم فيه. وقد قلنا إن الآيتين السابقتين متصلتان بما بعدهما لأن في اليمين على عدم قرب الزوج لزوجته شيئا مما يخالف الإصلاح وتقوى الله فإذا صح هذا فيكون بدء الفصل التشريعي الآيتين السابقتين وهو فصل طويل على ما سوف يأتي.
وإيلاء الزوج على زوجته عادة من عادات العرب قبل الإسلام، فقد كان(6/407)
الأزواج إما بسائق الغضب وإما بسائق الكراهية وإما لمآرب أخرى مثل ابتزاز أموالها ومنعها من التزوج من غيره والتصرف بنفسها أو لكثرة ولادتها البنات أو إبقائها في بيته لتكون خادمة ومربية لأولادها إلخ ... يحلفون بعدم الاتصال الجنسي بأزواجهم فتصبح محرّمة عليه لا هي زوجة ولا هي مطلقة. وقد وضعت الآيتان الأمر في نصابه الحق فليس للزوج أن يتحكم بزوجته تحكما كيفيا ليشفي به غلّ نفسه أو يضمن النفع على حساب ضررها. ولا يصح للمؤلي أن يحتج باليمين الصادرة منه للإضرار والحيف: فإما أن تكون يمينا صدرت عن فورة آنية وبغير قصد وتعمد وحينئذ لا يجوز أن يمتد أثرها لأكثر من أربعة أشهر في حال كحد أقصى، وإما أن تكون صدرت عن نية إضرار وأذى وحينئذ يجب أن ترد إلى الزوجة حريتها وأن تحمى من الأذى والضرر بالطلاق إذا لم يرعو الزوج ويعود إلى الحق والواجب وهذا الشرح المستلهم من روح الآيتين والآيتين السابقتين لهما معا يؤيد ما قلناه من الصلة والانسجام بينهما ويبرز المبدأ الجليل الذي تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة بحماية الزوجة ومنع الإضرار بها وظلمها واستغلالها.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة في تأويل الآيات ومدى تطبيق حكم الإيلاء. منها حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس قال: «آلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نسائه فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ليلة ثم نزل، قالوا: يا رسول الله آليت شهرا فقال الشهر تسع وعشرون» «1» . وحديث رواه البخاري جاء فيه: «كان ابن عمر يقول في الإيلاء لا يحلّ لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق» «2» . وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس قال: «إذا حرّم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفّرها، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» «3» . وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت:
«آلى رسول الله من نسائه وحرّم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفّارة» «4» .
__________
(1) التاج ج 2 ص 316 و 317 والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
(2) التاج ج 2 ص 316 و 317 والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها. [.....]
(3) التاج ج 2 ص 316 و 317 والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
(4) التاج ج 2 ص 316 و 317 والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.(6/408)
وبالإضافة إلى الأحاديث التي اكتفينا منها بما تقدم ففي كتب التفسير روايات عن أهل التأويل في صدد تطبيق الآيات وحكمها نوجزها ونعلق عليها كما يلي:
1- هناك من قال إنه إذا مرت الأشهر الأربعة دون مراجعة صارت الزوجة مطلقة سواء نطق الزوج بالطلاق أم لم ينطق. وهناك من قال إنه لا بد من أن ينطق بالطلاق لأن فحوى الآية يجعله بين أمرين إما الرجوع قبل انتهاء المدة وإما الطلاق. وهناك من قال إن الزوج إذا لم يطلق أو يرجع خلال المدة طلق عليه الحاكم عند انتهائها وإن للزوجة مراجعة الحاكم لتخييره بين الرجوع والطلاق قبل انتهاء المدة فإن لم يرجع وانتهت المدة طلق الحاكم عليه. والمتبادر أن القول الأخير هو الأوجه لأن هدف الآية منع وقوف الحيف على الزوجة وعدم بقائها معلقة تحت رحمة الزوج.
2- هناك من قال إن الرجوع عن الإيلاء في المدة لا يكون صحيحا إلا بالوقاع. وهناك من قال إنه يصح بالإشهاد على الرجوع فقط. وهناك من توسط وفصل. فقال إذا كان هناك مانع للوقاع من مرض أو حيض أو سفر أو سجن فيكون الإشهاد مجزيا. وقد يكون هذا هو الأوجه على شرط أن يواقع إذا زال العذر.
ويكفّر عن يمينه كدلالة عملية على الرجوع عنها. أما إذا لم يكفر ولم يواقع إذا زال العذر فيظل الإشهاد كلاما بدون دليل ويكون ضرر الإيلاء قد تحقق.
3- هناك من قال إن مرور الأشهر الأربعة بدون رجوع يكون بمثابة تطليقة بائنة. تملك بها الزوجة نفسها فإذا أراد زوجها أن يعود إليها كان ذلك رهنا برضائها وبعقد ومهر جديدين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجا غيره قبل ذلك إذا كانت هي المرة الأولى أو الثانية ولها الحق أن لا تقبل عودته إليها وأن تتزوج غيره بعد أن تنتهي عدتها وتكون هذه العدة حيضة واحدة «1» . وهناك من قال إنها تطليقة عادية رجعية يحق للزوج المراجعة بدون عقد ومهر جديدين استنادا إلى حكم
__________
(1) لأنها لأجل استبراء الرحم فقط، ولأن تحديد حيضات ثلاث للمطلقات هو بقصد إفساح المجال للمراجعة.(6/409)
الطلاق المبين في الآيات التالية على ما سوف يأتي شرحه. وهذه الآيات تذكر حكم المطلقات إذا طلقهن أزواجهن مرة أو مرتين حيث يكون لهم مراجعتهن قبل انقضاء العدة مع شرط أن يكون قصدهم الإصلاح وليس الضرر. وورود الآيات بعد آية الإيلاء وبعد جملة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ قد يجعل القول الثاني هو الأوجه والله أعلم.
4- هناك من قال إن الزوج لو حلف أن لا يضرب امرأته أربعة أشهر ولم يواقعها بعد انتهاء المدة لا يكون موليا، لأن حكم الآية هو في الذين يولون بدون تحديد للمدة حيث حددت لهم أربعة أشهر يفيئون خلالها أو يطلقون أو يطلق عليهم. وهناك من قال إنه يكون موليا إذا تجاوز الأشهر الأربعة بدون وقاع، ونرى القول الثاني هو الأكثر وجاهة واتساقا مع روح الآية وهدفها.
5- هناك من قال: إن مدة الإيلاء وأحكامه واحدة في حقّ الحرّ والعبد. لأن الأمر متصل بالطبيعة الجنسية. وهناك من قاس الأمر على حدّ الزنا على الإماء وهو نصف حد الحرائر كما جاء في آية سورة النساء: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) ولم نطلع على حديث نبوي خاص. وهناك حديث في صدد عدد تطليقات الأمة المتزوجة وعدتها حيث روى أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» . في حين أن طلاق الحرة هو ثلاث وعدتها ثلاث حيضات كما جاء في آيات سورة البقرة التالية لهذه الآيات.
وقد يكون ذلك القياس استئناسا بذلك في محله فيكون مدة تربص الأمة التي يولي زوجها منها شهرين وليس أربعة والله أعلم.
6- والجمهور على أن الإيلاء يمين، وإنه إذا حلف الزوج لمدة غير محدودة وفاء قبل أربعة أشهر يكفّر عن يمينه حيث يكون قد حلف على شيء ورأى خيرا منه فرجع عن يمينه كما جاء في الأحاديث النبوية. أما إذا حلف لمدة أربعة أشهر أو أقل وفاء قبل انقضائها فلا يدخل الأمر في شمول الآية لأنه لا يكون قد رجع عن(6/410)
اليمين وحقت عليه الكفارة. وهناك من أوجب الكفارة عليه لأن الزوج يعتبر راجعا عن يمينه وقد يكون القول الأول أوجه والله أعلم.
وجملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قد تلهم أن الله تعالى لا يستحسن الإيلاء على كل حال مهما كانت المدة، ويعده هفوة قد يغفرها إذا تاب الزوج عنها وراجع زوجته في المدة أو قبلها. ويدعم هذا عتاب الله لرسوله حينما آلى من زوجاته على ما حكته آيات سورة التحريم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) والأحاديث التي أوردناها في مطلع النبذة عند إيلاء النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كفر عن يمينه، وقد يفيد هذا آيات التحريم هذه أيضا. ولعل النبي صلّى الله عليه وسلّم آلى بدون مدة ثم رجع فكفّر عن يمينه، والله تعالى أعلم.
حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته
هناك حالات عديدة من ذلك رأينا أن نستطرد إليها في مناسبة موضوع آيات الإيلاء. فقد روى الإمام مالك عن سعيد بن المسيب أحد علماء التابعين قوله:
«أيما رجل تزوّج بامرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخيّر فإن شاءت أقرّت وإن شاءت فارقت» وقوله: «من تزوّج امرأة فلم يستطع أن يمسّها فإنه يضرب له أجل سنة فإن مسّها وإلا فرّق بينهما» وروى الإمام مالك: «أن ابن شهاب سئل متى يضرب الأجل فقال من يوم الترافع إلى السلطان» وعقب الإمام مالك على هذه الأقوال فقال: أما الذي قد مسّ امرأته ثم اعترض عنها فلا يضرب له ولا يفرّق بينهما» «1» .
ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك والاجتهادات تفيد أن للزوجة أن ترفع أمرها للسلطان إذا لم ترض بما واجهته من حالات وإن للسلطان أن يضرب أمدا للزوج ثم يفرق بينهما إذا لم يتغير الموقف إيجابيا. وهي اجتهادات سديدة مع توقفنا في
__________
(1) التاج ج 2 ص 300.(6/411)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
اجتهاد مالك الأخير وترجيحنا أن للزوجة إذا شاءت أن ترفع أمرها للسلطان في الحالة المذكورة أيضا إذا لم يكن سبب الامتناع مرضا يمكن الشفاء منه. أي إذا كان الامتناع تعففا أو من مرض لا يمكن الشفاء منه والله أعلم.
ونقطة أخرى نتوقف فيها، وهي القول إن السلطان يضرب للزوج سنة فحكمة الله قدرت لمن يحلف أن لا يقرب زوجته مدة أربعة أشهر وخيرته بين الرجوع وبين الطلاق. ولذلك نرى الأوجه أن يكون الأجل الذي يضربه السلطان أربعة أشهر من يوم رفع الأمر إليه والله تعالى أعلم.
وحالة أخرى رواها مالك والشافعي عن عمر قال: «أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها صداقها كاملا وله الرجوع به على وليّها الذي أنكحه إيّاها» . وعقب الإمام مالك على ذلك بما مفاده أن الولي إذا كان يعلم ذلك فالغرم عليه وإن لم يكن يعلم فليس عليه غرم وترد المرأة ما أخذت من صداقها ويترك لها قدر ما تستحل به «1» . وهذا يعني أن الزواج يفسخ بين الزوجين.
ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك، واجتهاد مالك سديد في ما نرى والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
. (1) قروء: جمع قرء. وقيل إنه الحيضة كما قيل إنه الطهر من الحيضة.
تعليق على الآية وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ
لم نطلع على رواية نزول الآية، ويتبادر لنا أنها استطراد لبيان حكم من
__________
(1) التاج ج 2 ص 299- 300.(6/412)
يطلقها زوجها تعقيبا على ما سبقها من تخيير المولي من زوجته بين الإفاءة والطلاق على ما شرحناه قبل قليل.
والآية في ذات الوقت مطلع فصل تشريعي في الطلاق ولقد احتوت هي وبقية آيات الفصل كثيرا من المواعظ والتنبيهات في صدد حقوق الزوجة ورعايتها وعدم الجنف عليها وضررها مما فيه دلالة على ما أعارته حكمة التنزيل للحياة الزوجية ولحقوق الزوجة من عناية عظيمة. وما هدفت إليه من تركيز العلاقة الزوجية على أساس الحق والتراضي والوفاق والإصلاح. ولقد روى أبو داود والحاكم وصححه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبغض الحلال عند الله الطلاق» . وهذا يفسر ما احتوته آيات الفصل من آيات وإلهام بكون إباحة الطلاق على كراهيته هي من قبيل اختيار أهون الشرّين. والشرّ الأكبر هو ما يصيب الحياة الزوجية من شقاء وعناء وبلاء وشقاق وكيد وتفكك في حالة تعذر حسن المعاشرة والوفاق والتقصير في الواجبات والحقوق بين الزوجين سواء أكان ذلك من الطرفين أم من طرف واحد.
ولقد أمرت الآية المطلقات بأن يتربصن بأنفسهن حتى تمضي عليهن ثلاثة قروء. وأن لا يكتمن خبر حملهن إن كن حاملات فهذا مقتضى صدق إيمانهن بالله ورسوله، وقررت أن أزواجهن أحقّ بردهن أثناء ذلك إن كان قصدهم الإصلاح وأن لزوجاتهم عليهم من الحقوق مثل ما لهم عليهن فيما هو مشروع وغير منكر مع تقرير أن لأزواجهن عليهن درجة. وفيما يلي شرح وتوضيح آخران لمدى الآية وأحكامها:
1- لقد عرّف المؤولون (التربّص) المذكور بالآية باسم (العدة) أيضا وقد سماه القرآن كذلك في إحدى آيات سورة الطلاق. فتكون عدة المطلقة التي يجب عليها أن تتربص بنفسها طيلتها هي ثلاثة قروء. وفي سورة الطلاق تتمة لذلك حيث جعلت العدة في إحدى آياتها لمن لا تحيض بسبب من الأسباب ثلاثة أشهر وهي تقدير لمدة القروء الثلاثة. وحيث جعلت العدة للحامل وضعها لحملها. وفي(6/413)
النقطة الأخيرة توضيح لمدى جملة: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ الواردة في الآية التي نحن في صددها. فقد يكون الحمل جديدا وحينئذ تمتد عدة المطلقة الحامل أكثر من ثلاثة أشهر. وإذا لم يكن جديدا فالإخبار به أيضا يكون ضروريا حتى لا يتأخر الزوج في ردّ مطلقته وتفوته الفرصة لأنها تكون قد انتهت عدتها بالوضع.
2- ويطلق الفقهاء على الطلاق الذي يمكن أن يرد المطلق زوجته في عدته المذكورة طلاقا رجعيا. وهم متفقون على أن الرّد يتم بدون عقد ومهر جديدين.
فإذا انقضت العدة ولم يرد المطلق مطلقته يسمى الطلاق بائنا ويتوقف ردّ المطلقة على مهر وعقد جديدين. وهذا وذاك في التطليقة الأولى والتطليقة الثانية. فإذا طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا آخر على ما جاء في آيات تالية.
3- وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» . فيكون في الحديث توضيح لحالة الأمة التي سكت عنها القرآن وصار هذا تشريعا نافذا. ونعني بالأمة هي التي تكون متزوجة زواجا شرعيا بغير مالكها وقد أجاز القرآن ذلك في إحدى آيات سورة النساء.
والمتبادر أن حالة الأمة الاجتماعية هي التي لو حظت في هذا التشريع. وقد جعل القرآن حدها على الزنا نصف حدّ الحرة على ما جاء في آية سورة النساء نفسها. وقد يكون هذا التشريع القرآني سند التشريع النبوي في تنزيل مدة الحيضات وعدد التطليقات بالنسبة للأمة. وإذا لوحظ أن التشريع القرآني والنبوي هدفا إلى إنهاء حالة الرقّ على ما شرحناه في سياق سورة البلد بدا أن التشريع القرآني والنبوي في حالتي الأمة المذكورتين آنفا هو معالجة لأمر اجتماعي قائم لم تر حكمة التشريع بدّا من اعتباره. وينتهي حينما يتحقق ذلك الهدف.
4- من أهل التأويل من قال إن القرء هو الطهر ومنهم من قال إنه الحيض.(6/414)
والفرق بين القولين كما هو المستفاد من شروح المفسرين هو أن الزوج يستطيع أن يراجع زوجته قبل تطهرها من الحيضة الثالثة في حالة الأخذ بالقول الأول. أما في حال الأخذ بالقول الثاني فإن طروء حيضتها الثالثة قبل المراجعة يجعل مراجعتها ممتنعة بدون عقد ومهر جديدين لأن الفرصة تكون قد ذهبت والطلاق صار بائنا.
ويروي الطبري أن عمر بن الخطاب طلق امرأته فلما تهيأت للاغتسال من حيضتها الثالثة هتف بأنه راجعها فصحّت مراجعته. حيث يكون قد أخذ بالقول الثاني.
ويروي الطبري أن رجلا استفتى زيد بن ثابت فأفتاه بأن امرأته إذا دخلت في حيضتها الثالثة بانت منه حيث يكون قد أخذ بالقول الأول. وليس هناك حديث نبوي وثيق صريح في ذلك. ولذلك ظل المذهبان ممارسين.
5- لقد جعلت الآية الزوج أحقّ بردّ زوجته أثناء العدة. ولكن شاءت رحمة الله أن يكون حقّه مشروطا بقصد الإصلاح إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً بحيث يلهم النص القرآني حقّ الزوجة المطلقة بالاطمئنان لحسن نية مطلقها ورغبته في الإصلاح وحقها بالامتناع عن الموافقة على الرجوع إذا لم يحصل عندها ذلك الاطمئنان.
ولقد نهت آية أخرى تأتي بعد قليل عن إمساك الزوج مطلقته في أثناء عدتها أي عن ردها إليه بقصد الضرر والعدوان. وعدت ذلك ظلما وهزؤا بآيات الله. وهذا مما يدعم الاستلهام السابق. ولقد ذكر القاسمي في تفسيره أن المراجعة تكون محرمة إذا لم تكن بنية الإصلاح استدلالا من النص القرآني. ولعل في جملة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ما يؤيد ذلك أيضا. فكما أن للرجل الحق والحرية في عدم المراجعة حتى يصل الأمر إلى البينونة بعد انقضاء العدة فإن للزوجة مثل هذا الحق إذا تيقنت أن زوجها لا يريد بمراجعتها وفاقا ولا إصلاحا.
وهذا الحق للزوجة لا ينتقض فيما نراه بجملة: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ الواردة في الآية بعد الجملة السابقة. حيث يتبادر لنا من روح الجملة أنها في صدد تقرير عام في الحياة الزوجية وأن هذه الدرجة هي قوامة الزوج على زوجته وحقه في طاعتها له في هذه الحياة وأن المهر الذي دفعه أولا والنفقة التي يضطلع بها ثانيا(6/415)
من مبررات هذه الدرجة على ما تلهم آية سورة النساء هذه: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) ويعزى هذا القول إلى ابن عباس أيضا. ولعل كون الرجل هو الذي يملك حق الطلاق ويملك حق التزوج بأكثر من زوجة من مظاهر هذه الدرجة. ومما قاله رشيد رضا في سياق تفسيره للآية: «إن الحياة الزوجية حياة اجتماعية ولا بدّ لكل اجتماع من رئيس لأن المجتمعين لا بد من أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إليه في الخلاف لئلا يعمل كل فرد ضد الأمر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل نظامهم، والرجل أحق بالرئاسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله فجعل الله له هذه الدرجة» . وفي هذا السداد وفيه توضيح لمعنى جملة: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في آية النساء [34] .
ولقد كان النساء وما زلن ولسوف يظللن يشعرن في قرارة أنفسهن على الأقل في صلاحية الرجل لهذه الدرجة في هذا المعنى مهما بلغن من درجات في العقل والعلم والمال والقوة حيث يبدو في ذلك إعجاز التقرير القرآني. هذا مع التنبيه على أنه ليس في أسلوب الآية فضلا عن فحواها ما يمكن أن يفيد أن هذه الدرجة التي جعلت للرجل على المرأة يصح أن تكون استعلاء وتحكما وقهرا.
6- ونستطرد فنقول: إن المتبادر أن جملة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أوسع شمولا من حق الزوجة في عدم الموافقة على المراجعة إذا اعتقدت أن مطلقها لا يريد بذلك إصلاحا. وأنه مما ينطوي فيها تقرير حقها في أن يكون لها على الرجل كل ما عليها له من طاعة وأمانة وعفة وإخلاص وحسن معاملة ومودة واحترام وثقة وتكريم وبرّ وترفيه ومراعاة مزاج ورعاية مصلحة وقضاء ما لا يستطيع قضاءه من مصالح وحاجات. واعتباره إياها شريكة حياته في مختلف نواحيها(6/416)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
ومعاملتها على هذا الاعتبار. وكل هذا حقّ الرجل على زوجته. وكلمة بِالْمَعْرُوفِ في مقامها بليغة المدى لأن هذه الكلمة تعني كل حقّ متعارف عليه وليس فيه منكر، وبالمقدار المتعارف عليه وهذا لا يقاس بزمن بعينه بل يظل يتبدل ويتطور حسب تبدل ظروف الحياة الاجتماعية وتطورها والضابط العام فيه هو أن لا يحرّم حلالا ولا يحلّ حراما.
ولقد قال المفسر الخازن في هذا الصدد: «وذلك أن حقّ الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل من الزوجين يراعي حق الآخر فيما له وما عليه. وأن على الزوج أن يقوم بجميع حق زوجته ومصالحها» . وقال الطبري: «وهذه الجملة من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمة» . وقال رشيد رضا بالإضافة إلى ما نقلناه عنه: «إن هذه الجملة تعطي الرجل ميزانا يزن معاملته به لزوجته في جميع الشؤون والأحوال وتقرر أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء وأن ما من عمل تعمله المرأة للرجل إلّا وعلى الرجل عمل يقابلها به إن لم يكن مثله في شخصه فهو مثله في جنسه.
فهما متماثلان في الحقوق والأعمال كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل أي إن كلا منهما بشر تام له عقل يفكر في مصالحه وقلب يحب ما يلائمه ويسرّ به ويكره ما لا يلائمه وينفر منه. وليس من العدل أن يتحكم أحد الزوجين في الآخر ولا تكون الحياة الزوجية سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين للآخر والقيام بحقوقه» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
.(6/417)
تعليق على الآية الطَّلاقُ مَرَّتانِ ... إلخ والآية التالية لها
في الآيتين تنبيه على أن الطلاق الذي يصح الرجعة فيه يجب أن لا يكون أكثر من مرتين. وإن من واجب الزوج إذا طلق أن يمسك زوجته بإحسان أو يسرّحها بإحسان. وإنها لا تحلّ له إذا طلقها مرة ثالثة إلا بعد أن تنكح زوجا غيره ويطلقها الزوج الجديد ويظن الزوجان القديمان أنهما سيقيمان حدود الله. وأنه لا يجوز لزوج أن يأخذ شيئا مما أعطاه لزوجته إلّا إذا هي أرادت أن تفدي منه نفسها.
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في صدد نزولهما، ففي صدد:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ روى الطبري عن ابن عباس أن رجلا قال لامرأته لا آويك ولا أدعك تحلّين. فقالت له: كيف تصنع؟ فقال:
أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك فمتى تحلين. فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله الآية» «1» . وحيث روى الطبري عن قتادة: «أن الرجل كان يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك فيراجع في العدة فجعل الله حدّ الطلاق ثلاث تطليقات» . وفي صدد: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلى آخر الآية. روى المفسرون أنها نزلت في شأن جميلة بنت أبيّ كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها رسول الله: يا جميلة ماذا كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا إلا أني كرهت دمامته. فقال لها: أتردين الحديقة؟ قالت: نعم، فردت الحديقة وفرق النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهما» «2» .
__________
(1) هناك حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس جاء فيه: «كان الرجل إذا طلّق امرأته فهو أحق بمراجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ بقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ التاج ج 2 ص 310 ويلحظ أنه ليس في هذا الحديث أن الآية نزلت في مناسبة معينة.
(2) روى البخاري والنسائي هذا الحديث بدون ذكر أن الآية نزلت في هذا الشأن. انظر التاج ج 2 ص 315.(6/418)
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت معا جملة واحدة أو متتابعة لتوضيح الأحكام المتصلة بالزواج والطلاق. ولم ينزل كل منها لحدتها بناء على حوادث وقعت وإن كان يصح القول إن حكمة الله اقتضت تنزيلها في هذا الفصل بسبب مثل الحوادث المذكورة في الروايات. ويلحظ أن الحديثين الصحيحين اللذين أوردناهما في الذيل لا يذكران أن الآيات نزلت لحدتها بناء على الحوادث والله أعلم.
ولقد روى الطبري حديثا عن ابن زيد جاء فيه: «إن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أرأيت قوله تعالى الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ فقال له: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» . وفي الجواب حكمة بالغة. وفيما يلي شرح وتعليق على مدى الآيات:
1- إن جملة الطَّلاقُ مَرَّتانِ ذات مغزى هام في صدد التطليق. ومما أثر من السنة النبوية والصحابة أن الزوج الذي يريد أن يطلق زوجته كان يطلقها للمرة الأولى طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها. ثم إذا لم تزل أسباب الطلاق عنه أو عادت ثانية يطلقها للمرة الثانية طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انتهاء العدة، فإذا لم تزل أسباب الطلاق أو عادت طلقها للمرة الثالثة ويكون الطلاق بائنا لا تحل المطلقة لمطلقها إلا بعد أن تنكح زوجا آخر. وينطوي في هذا كما هو واضح حكمة التنزيل الجليلة في إعطاء الفرصة للزوجين للتروي فإذا وقعت التطليقة الثالثة فيكون معنى ذلك تعذر التراضي والوفاق ويصبح الفراق أمرا ضروريا لصالح الزوجين وتكون شريعة الطلاق بهذه الصورة في غاية الحكمة والصواب.
وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن ابن عمر أنه طلّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء» . وهذا الحديث مع نصّ الآيات قد يلهم عدم نفاذ الطلاق البات أو الطلاق الثلاث مرة واحدة كما(6/419)
أن نص الآية قد يلهم أن هذا النوع من الطلاق ليس هو طلاقا قرآنيا. ويدعم هذا القول بقوة آية سورة الطلاق الأولى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) والفقرة الأخيرة قوية المغزى في صدد احتمال تراجع الزوجين أثناء العدة وحكمة الأمر بتطليق النساء لعدتهن وإحصاء العدة وعدم خروج النساء من بيوت مطلقيهم وعدم إخراجهم لتسهيل وقوع ذلك الاحتمال. ولقد روى النسائي بسند جيد عن محمود بن لبيد قال: أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جمعا فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله ... » ولقد روى مسلم وأبو داود وأحمد حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم» «1» . وفي الحديثين تدعيم لما قلنا.
على أن هناك حديثا رواه أبو داود والترمذي والشافعي عن ركانة بن عبد يزيد أنه: «أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له: إني طلقت امرأتي البتة. فقال: ما أردت بها؟ قال:
واحدة. قال: والله قال: والله. قال: فهو ما أردت» «2» . واعتبر النبي تطليقه البات تطليقة رجعية. وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت: «إن زوجها طلّقها ثلاثا ولم يجعل لها نفقة فشكت أمرها إلى رسول الله فقال لها: ليس لك عليه نفقة» «3» .
وهناك حديث يرويه الخمسة عن عائشة قالت: «إنّ امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي وإني
__________
(1) التاج ج 2 ص 332.
(2) المصدر نفسه ص 312.
(3) المصدر نفسه ص 331.(6/420)
نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» «1» . والشاهد في الحديث أن زوجا طلق زوجته باتا فاعتبرت نفسها أنها صارت حرة فتزوجت غيره ولم يرو اعتراض لرسول الله على ذلك.
فقد يكون في هذه الأحاديث ما يلهم توضيحا وتعديلا نبويين لما لم يأت بصراحة قطعية في القرآن. حيث يمكن أن يقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب من الرجل لأن طلاقه كان اعتباطيا وإنه لم يعترض على طلاق بنت قيس لأنه عرف أنه كان تصميما، وأنه كان يمكن أن يجيز طلاق ركانة الباتّ لو قال إنه أراد طلاقا باتا. ففي كل هذا ما يمكن أن يكون سندا لنفاذ التطليق الثلاث أو البات مرة واحدة إذا كان هناك تصميم من الزوج على ذلك. ولعل عمر بن الخطاب حين أجاز ذلك أجازه بالاستناد إلى الآثار النبوية من جهة وبالنسبة لمن يكون مصمما على الفراق البات من جهة ثانية. لأن الحكمة من المراجعة هي إفساح المجال للوفاق والتراضي، وتصميم الزوج على الفراق البات تفسير بأن ذلك متعسر. وهنا يكون حكم الجملة القرآنية: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ بحيث يقال إن نفاذ الطلاق الثلاث أو البات مرة واحدة منوط بنية الزوج فإن قال: إني أريد الفراق البات أجيز عليه وإن قال إنه ليس في نيته الفراق البات اعتبر تطليقة رجعية واحدة والله أعلم.
ومع ذلك فإن الآيات وصراحتها ومداها هنا وفي سورة الطلاق مع بعض الأحاديث التي أوردناها أقوى من هذه الآثار التي تذكر أو تسند إجازة الطلاق الثلاث والطلاق البات. والتي ليس فيها صراحة قطعية شاملة والله تعالى أعلم.
2- وجملة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ التي وردت في الآية [229] ثم تكررت في الآية [231] وفي آية سورة الطلاق الثانية قد جاءت حقا في صدد موقف الزوج الذي طلق زوجته طلاقا رجعيا كما هو النص والسياق. غير أنها فيما نعتقد مطلقة المدى بطلاق وبدون طلاق. وأنها احتوت مبدأين عظيمي الروعة في
__________
(1) التاج ج 2 ص 313.(6/421)
الأساس الذي يجب أن تكون عليه العلاقة الزوجية وهي الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان. فالله تعالى قد خلق الإنسان من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن كل من الزوجين للآخر على أساس المودة والرحمة وكل معاملة وسلوك تعورف على أنهما حق وواجب ومتسقان مع المودة والرحمة، فإذا تعذر تحقيق هذا المبدأ الإيجابي فهناك المبدأ السلبي وهو التسريح بإحسان أي الفراق بالحسنى من غير مضارة ولا أذى ولا تهجير ولا إرهاق ولا تشاتم ولا شقاق.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن مخالفة الزوج لهذين المبدأين اللذين انطويا في الجملة إثم ديني عظيم عند الله، وقد عبرت الآية [231] التي تأتي بعد قليل عن ذلك تعبيرا قويا جدا. فعدم الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان سواء أفي حالة الزواج من حيث الأصل أم في حالة المراجعة في الطلاق الرجعي يعني أن الزوج يتلاعب بآيات الله ويحتال عليها ويتخذها هزوا والعياذ بالله. وقد يبرر هذا أن يقال إن من حق المرأة التي تتعرض لذلك أن ترفع أمرها للقضاء ليضع الأمر مع الزوج في نصابه الحق بتحقيق أحد المبدأين وحماية الزوجة من الأذى والإعنات والضرر والعدوان. وتدعم هذا فيما يتبادر لنا آية سورة النساء هذه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) «1» ، ثم آيات سورة النساء هذه: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا
__________
(1) الآية الأولى نزلت في صدد قوامة الرجل على المرأة وحقه في تأديبها إذا نشزت والآيات الأخرى نزلت في صدد الرجل الذي يريد أن يتزوج على امرأته ناشزا عنها. ولكن الآيات يصح أن تساق في المقام الذي سقناه فيها لتدعيم ما أردنا قوله ونؤجل شرح مدى الآيات إلى مناسباتها.(6/422)
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) «1» .
وهناك اصطلاح فقهي يعرف ببيت الطاعة، وتسير بعض الحكومات الإسلامية في تطبيقه. ومبدأه أن للزوج حقّ مراجعة القضاء إذا امتنعت زوجته عن مساكنته لسبب من الأسباب وأن للقاضي أن يجبر الزوجة على مساكنة زوجها إذا ما استعدّ للإنفاق عليها وهيأ لها بيتا تتوفر فيه الحياة والأمن والطمأنينة. ويتم ذلك بواسطة الشرطة حين اقتضاء الأمر. حيث تقبض الشرطة على الزوجة فتأخذها عنوة إلى هذا البيت. ونعتقد أن هذا متناقض مع المبدأ القرآني الجليل: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وأن الزوجين إذا تشاقا وتنازعا فإما أن يصطلحا ويتوافقا بالرضاء والمعروف والحب أو يتفارقا بالرضاء والمعروف والحب. وكل ما يكون للزوج إذا ما لم يرد أن يطلقها أن يمتنع عن الإنفاق عليها والله تعالى أعلم.
وسنزيد هذا الأمر شرحا في مناسبات آتية.
3- ولقد نبهت الآية [230] على عدم جواز محاولة الزوج استرداد شيء من المال الذي أعطاه لزوجته في سياق طلاقها أو إرجاعها. أو بكلمة أخرى نهت عن اتخاذ الطلاق وسيلة إلى ابتزاز مالها وهذا مناف للمبدأين اللذين احتوتهما جملة:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وفي ذلك حماية ربانية للزوجات يجب على الأزواج أن يلتزموا بها. ومع ذلك فقد احتوت الآية فرصة للزوجة لاسترداد حريتها إذا شذّ زوجها عن المبدأين ولم ترد أن ترفع أمرها إلى القضاء لإجباره على ذلك.
وفي فداء نفسها بشيء من المال. وقد أجازت الآية ذلك بالمعنى القوي الذي انطوى في جملة: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
4- وتسمى هذه الفرصة في الفقه خلعا، وقد روي حديثان فيهما خبر حادثين للخلع. أحدهما رواه الترمذي وصححه جاء فيه: «اختلعت الربيع بنت
__________
(1) المصدر السابق نفسه.(6/423)
معوّذ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن تعتدّ بحيضة» «1» . وثانيهما حديث جميلة زوجة ثابت بن قيس الذي أوردناه في الفقرة الأولى من هذا البحث حيث أمرها برد حديقته إليه وهي مهرها على ما يستفاد من نصّ الحديث مقابل تطليقه إياها تطليقة. ولقد روى أصحاب السنن حديث جميلة بشيء من الفرق حيث جاء فيه:
«اختلعت امرأة ثابت بن قيس فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم عدّتها حيضة» «2» . ويتبادر لنا أن حديث أصحاب السنن هو الأكثر اتساقا مع أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لجميلة بأن ترد عليه حديقته. وبالتالي أن مسألة جميلة كانت هي أيضا خلعا وافتداء لنفسها توافقا مع الآية التي نحن في صددها. ونرى أنه يصح أن تسمى هذه الفرصة (بالحق المقابل) لحق الزوج في فراق زوجته بالطلاق. فحكمة الله اقتضت أن يكون الطلاق في يد الزوج فيطلق زوجته إذا كرهها أو ساءت معاشرتها أو لسبب ما. فجاءت هذه الآية لتعطي رخصة للمرأة بأن تخلص هي أيضا من زوجها إذا كرهته أو ساءت معاشرته أو لسبب ما. وفي الأحاديث أن الزوجات راجعن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الأزواج بالتطليق وأخذ الفداء. وهذا يلهم أن للزوجة إذا لم يقبل الزوج أخذ فداء وخلاص زوجته منه بالتي هي أحسن أن تراجع الحاكم وأن للحاكم أن يأمر الزوج بقبول الفداء والتطليق. وفي كل ذلك ما فيه من تسوية وعدل وإنصاف.
والجملة صريحة بأن هذه الرخصة أو الفرصة إنما تكون عند غلبة الخوف والظن من عدم قيام الزوجين بما يجب عليهما من حقوق الزوجية تجاه بعضهما.
وقد أول المفسرون ذلك بالشقاق والنشوز، والمعنى يتسع لأكثر من ذلك من مضارة وإعنات وضرب وإهمال ومرض وعاهة دائمة ودمامة وكراهية إلخ وفي حديث جميلة تدعيم لذلك.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه:
«أيّما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنّة» ، وأورد
__________
(1) التاج ج 2 ص 316. [.....]
(2) انظر المصدر نفسه.(6/424)
الطبري حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن المختلعات المنتزعات هنّ المنافقات» . والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولا مانع من صحتها لأنها تتسق مع روح التلقينات القرآنية. وفيها تلقين زجري بليغ يوزن به شكوى الزوجات وظروف رغبتهن في الاستفادة من فرصة افتداء النفس التي أتاحتها الآية [230] وسميناها (الحق المقابل) وتكون واردة بالنسبة لمن لا يكون لديها سبب معقول من سوء سيرة وخلق ومعاملة واضطهاد وعجز عن الإنفاق وغيره من الواجبات الزوجية.
5- وهناك خلاف بين الفقهاء والمؤولين فيما إذا كان الخلع فسخا أو طلاقا فالذين يذهبون إلى أنه فسخ يعتبرون الزوجة قد بانت عن زوجها ولم يعد له حق المراجعة لها وأصبحت مالكة لنفسها تتزوج بمن تشاء بعد عدتها مع جواز تراجع الزوجين إذا تراضيا بعقد ومهر جديدين ودون أن تنكح زوجا آخر. ولا يعد ذلك في عداد مرات التطليقات الثلاث التي لا يجوز أن تعود الزوجة إلى زوجها بعدها دون أن تنكح زوجا آخر. والذين يذهبون إلى أنه طلاق اعتبروه طلاقا عاديا رجعيا يصح للزوج أن يعود إلى زوجته أثناء عدتها ويعد في عدد مرات التطليقات الثلاث. والجمهور على المذهب الأول والأحاديث المروية باعتداد المخلوعة بحيضة واحدة تدعم هذا المذهب حيث تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتبر الخلع فسخا وبينونة فلم يفرض على الزوجة التربص بنفسها ثلاثة قروء التي هي عدة للمراجعة وإنما فرض عليها عدة لاستبراء رحمها فقط وهي حيضة واحدة. وهذا المذهب هو الأوجه فيما نراه. فالفدية باب فتحه الله للزوجة للتخلص من زوجها الذي يشذ عن مبدأ الإمساك بإحسان أو التسريح بإحسان أو الذي تكرهه ولا تطيق الحياة معه لسبب ما أخلاقي أو جسماني أو سلوكي. فكيف يكون له بعد أخذ الفدية حق للمراجعة؟ وقد يكون أصحاب المذهب الثاني استندوا إلى حديث جميلة الأول الذي أمر النبي فيه الزوج بتطليقها تطليقة. وقد علقنا على ذلك ورأينا في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم برد المهر على الزوج وهو الحديقة عملية خلع وفسخ وليست عملية طلاق عادي والله تعالى أعلم.(6/425)
6- وهناك من قال إن جملة وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ... إلخ قد نسخت بآية سورة النساء وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) . وقد فنّد الطبري القول وتفنيده في محلّه، فذلك مقام وهذا مقام آخر.
7- لقد قال الزمخشري إن الخطاب في جملة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ هو للأئمة والحكام. وهذا القول ظاهر الوجاهة، فحلّ الأمر عن طريق القضاء هو أدعى إلى حسن التقدير. ويدعم هذا حديث جميلة زوجة ثابت الذي ذكر أنها راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمرها فتوسط وحلّ المشكلة وكان هو قاضي المسلمين.
8- وهناك فرصة أخرى للزوجة لاسترداد حريتها من زوجها على ما يقرره بعض الأئمة وهي أن تشترط أن يكون أمر طلاقها بيدها ويقبل الزوج ذلك وتسمى الزوجة في هذه الحالة (المتوفية) «1» ، أي التي يفوض الزوج لها تطليق نفسها، وهناك حديث رواه الترمذي والنسائي وأبو داود يفيد أن ذلك كان مما جرى في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم بصيغة (أمرك بيدك) حيث جاء في الحديث عن حماد بن زيد: «قلت لأيوب هل علمت أن أحدا قال في (أمرك بيدك) إنها ثلاث إلا الحسن. فقال: لا.
اللهم غفرا إلا ما حدثني عن قتادة عن كثير مولى بني مرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ثلاث) . والحديث يفيد أولا أن جعل الطلاق بيد الزوجة مما جرى وسوغ في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وثانيا أن المرأة إذا استعملت حقها فطلقت نفسها فيكون طلاقها باتا.
9- والضمير في جملة فَإِنْ طَلَّقَها الأولى في الآية [230] عائد إلى الزوج الأول الذي طلق مرتين. وتعني أنه إن طلقها ثالث مرة فلا تحل له حتى تنكح زوجا آخر كما جاء في الآية. أما الضمير في الجملة الثانية فهو عائد إلى
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير مثلا.(6/426)
الزوج الجديد. وهكذا تكون هذه الآية قد فتحت بابا للمراجعة بين الزوجين المطلقين بعد التطليقة الثالثة أيضا إذا تأكدا من أنهما قد استفادا من تجربة الفراق وأنهما سوف يكونان على تراض ووفاق ويقيمان حدود الله. وهذا متسق مع التلقينات التي انطوت في الآيات نصا وروحا.
ولم نطلع على أثر نبوي في صدد الزواج الثاني الذي يقع بين مطلقين قديمين بعد أن تنكح الزوجة المطلقة زوجا آخر ثم يطلقها لسبب من الأسباب. ويتبادر لنا أنه يكون محلا لجميع الحدود والشروط التي تنطوي في أصل التشريع على اعتبار أنه نكاح جديد والله أعلم.
10- والمتفق عليه أن عدة الزوجة التي يطلقها زوجها للمرة الثالثة أو التي يطلقها زوجها تطليقة ثم لا يراجعها أثناء عدتها ويكون طلاقها بائنا هي حيضة واحدة للاستبراء لأن القروء الثلاثة أو الأشهر الثلاثة هي عدة للمراجعة. فإذا لم يكن محل لها فيكفي حيضة واحدة لاستبراء الرحم.
11- والمتبادر أن ما جاء في الفقرتين السابقتين مباشرة ينسحب على الأوجه التي تطلّق طلاقا باتا أو طلاقا ثلاثا لمرة واحدة ويكون نافذا في نطاق ما شرحناه في الفقرة (1) من هذا البحث.
12- والجمهور على أن الزواج الجديد يجب أن يكون تاما ويقع فيه جماع.
ولا يكفي أن يكون صوريا، وهذا مستلهم من روح الآية التي هدفت على ما هو المتبادر إلى إعطاء فرصة للزوجين لتجربة جديدة لكل منهما أو لأحدهما حتى إذا صارت مراجعة كان ذلك نتيجة للتجربة. وهناك حديث يرويه الشيخان وأصحاب السنن عن عائشة قالت: «إن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي وإنما معه مثل الهدبة. قال رسول الله لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة.
لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» «1» . وحديث آخر رواه النسائي من بابه
__________
(1) التاج ج 2 ص 313.(6/427)
جاء فيه: «جاءت العميصاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها فلم يلبث أن جاء زوجها فقال هي يا رسول الله كذابة وهو يصل إليها ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول فقال رسول الله ليس ذلك لك حتى تذوقي عسيلته» «1» .
ولنا تعليق على هذين الحديثين فشرط الجماع يكون لازما في حالة إمكانه فعلا، وهذا ما يفيده نصّ الحديثين. وهناك حالة ترد وهي عدم تمكن الزوج الجديد من مجامعة زوجته لعاهة أو قصور، ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك.
ويتبادر لنا من نصّ الحديثين أن حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم كان سيختلف لو ثبت قول الزوجتين وأنه كان يسمح لهما الرجوع إلى زوجيهما الأولين إذا ما طلقهما الزوجان الجديدان. أو اختلعتا منهما. لأن نصّ القرآن هو نكاح زوج آخر أي تزوج زوج آخر. وهدف ذلك هو التجربة ويكون هذا النص قد تحقق ولو بغير جماع ما دام هذا غير مستطاع من قبل الزوج الجديد. وللزوجة مراجعة القاضي في حالة عدم استطاعة الزوج الجديد المجامعة وللقاضي أن يأمره بطلاقها أو خلعها أو يطلق عليه استئناسا بنص الحديثين والله تعالى أعلم. ويتبادر لنا أن هذا ينسحب على الزواج الجديد إذا مات الزوج الجديد قبل أن يتاح له جماع، والله تعالى أعلم.
13- ونستطرد في هذه المناسبة إلى الزواج المعروف بالتحليل والتواطؤ فيه وروح الآية يلهم أنها انطوت على هدف إفساح الفرصة للتروي والتجربة كما قلنا قبل. وزواج التحليل والتواطؤ لا يضمن تحقيق هذا الغرض. وفيه على ما يبدو تحايل على التشريع القرآني وحكمته. وقد حرّمه بعض الأئمة وكرهه بعضهم.
وقال بعضهم إن المحلل والزوجة التي دخل عليها يرجمان. وأجازه بعضهم استنادا إلى ظاهر النص «2» من حيث إن زواج التحليل برغم أنه تواطؤ فهو زواج شرعي بعقد ومهر وتنفيذ وطلاق شرعي في النتيجة. ولعل هؤلاء لا يستلهمون روح الآيات التي تحث على الإبقاء على رابطة الزوجية واحترامها وتأمر بالتروي والمراجعة وتستهدفهما. ويفرضون أن يكون التطليق البات أو الثلاث النافذ كان
__________
(1) انظر المصدر نفسه.
(2) انظر ابن كثير والخازن وغيرهم.(6/428)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
نزوة وانفعالا. ومع ما يمكن أن في هذا من وجاهة فإن النفس تطمئن بكراهية هذا الزواج بل وحرمته لأنه تحايل بشع على كل حال.
وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن عبد الله قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المحلّ والمحلّل له» . وفي تفسير ابن كثير أحاديث كثيرة في صدد ذلك رواها أئمة غير أصحاب الكتب الخمسة. منها حديث أخرجه الحافظ الجوزجاني عن ابن عباس قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نكاح المحلّل فقال: لا. إلّا نكاح رغبة لا نكاح دسة. ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها» . وحديث أخرجه الحاكم عن ابن عمر أنه قال: «كنّا نعدّ هذا النكاح سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
وحديث آخر أخرجه الحافظ الجوزجاني عن عمر أنه قال: «لا أوتى بمحلّل ولا محلّل له إلّا رجمتهما» . وحديث رواه البيهقي: «أن عثمان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلّها لزوجها ففرّق بينهما» وحديث أخرجه ابن ماجه عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال:
هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له» .
[سورة البقرة (2) : آية 231]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
. (1) ضرارا: بقصد الإضرار.
تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ...
في الآية تنبيه وتحذير وإنذار لمن يحاول إرجاع مطلقته أثناء عدتها استفادة(6/429)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
من الحق الذي أعطته له الآية [229] . ولقد جاء في هذه الآية شرط بصيغة (إن أرادوا إصلاحا) وقد شرحنا ذلك شرحا وافيا فالظاهر أن رحمة الله وحكمته اقتضتا الإيحاء بالآية بأسلوبها القوي الصاعق لتوكيد هذا الشرط ولتفرض على الأزواج حسن النية والالتزام بمبدأ الإمساك بالمعروف أو التسريح بمعروف إذا ما طلقوا زوجاتهم وتنذر الذين يشذون عن ذلك بقصد الإضرار ونية العدوان. وننبه إلى ما في ذلك من استهزاء بكتاب الله وتحايل على أحكامه.
التلقين العام المنطوي في جملة وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً ...
وجملة وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ.
في الآية وإن كانت جاءت في صدد تحذير الأزواج من التحايل على زوجاتهن وإنذارهم فإن إطلاقها ينطوي على تلقين شامل لكل أمر بحيث تنطوي على نهي المؤمنين على التحايل على أوامر الله وآيات كتابه وتحميلها ما لا تحتمل والتلاعب فيها وصرفها عن أهدافها السامية بقصد جلب النفع للنفس وإيقاع الضرر للغير بغيا وعدوانا والآية وتلقينها تسوغ أن يقال إن الزوجة المطلقة تستطيع أن تمتنع من قبول مراجعة زوجها لها إذا أيقنت أنه لا يريد بذلك إصلاحا، أو كانت له نية سوء في المراجعة، والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)
. (1) لا تعضلوهن: معنى العضل لغويا الحبس والمنع والتضييق. ومعنى الجملة لا تمنعوهن بالإكراه وتمسكوهن بالرغم عن رغبتهن عن الرجوع إلى أزواجهن.(6/430)
تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ
لقد روى المفسرون في صدد نزول هذه الآية حديثا رواه البخاري والترمذي عن معقل بن يسار جاء فيه: «إنه زوّج أخته رجلا من المسلمين على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فكانت عنده ما كانت ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطّاب فقال له يا لكع أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها والله لا ترجع إليك أبدا. فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إليه فأنزل الله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ الآية، فلما سمعها معقل قال سمعا وطاعة لربّي. ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك» «1» .
والآية معطوفة على السياق واستمرار له. ويتبادر لنا والله أعلم أنها نزلت معا. ولا يمنع هذا أن يكون قد حدث ما ورد في الحديث فالتزم الأخ أمر الله وزوّج أخته بعد أن عضلها. وقد احتوت الآية تعليما عاما للمسلمين بعدم ممانعة زوجة مطلقة من الرجوع إلى زوجها إذا ما تراضى الزوجان في صدد ما رسم الله.
وتنبيها على أن هذا هو الأزكى والأطهر في علم الله وحكمته. وجملة إِذا تَراضَوْا تؤكد حق الزوجة المطلقة في الرضاء والموافقة على مراجعة زوجها إذا ما أراد أن يراجعها، ويكون ذلك منوطا برضائها أيضا، والله أعلم.
وقد احتوت الآية تنبيها للمسلمين عن منع زوجة مطلقة من الرجوع إلى زوجها، وجملة: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ جديرة بالتنويه في صدد الأمر حيث ينطوي فيها ضرورة التأكد من رضاء كل من الزوجين بالرجوع إلى الآخر وتوافقهما على ذلك على ما فيه الخير والمصلحة مما فيه قيد احترازي لضمان صلاحية الرجعة وخيرها.
وفي هذا التعليم القرآني تبدو الحكمة البالغة التي تبدو في جميع حالات التشريع الأخرى.
__________
(1) التاج ج 4 ص 56.(6/431)
تعقيب عام في صدد الطلاق وإناطته بالقضاء
وظاهر مما تقدم أنه ليس من الطلاق القرآني ما يجري على ألسنة الناس من يمين بالطلاق بسائق الغضب أو الإكراه والتهديد أو التعامل مع الناس أو الأيمان التي يحلفها الزوج بالطلاق للناس حتى بدون إكراه ولا تهديد ولا غضب على أنه يفعل كذا ولا يفعل كذا أو لم يفعل كذا أو الأيمان التي تصدر في حالة اللاوعي من سكر أو غيبوبة وإغماء وعته وجنون ومرض شديد يجعله في تلك الحالة ما دام ليس هناك نية للفراق وسبب مبرر له بين الزوجين من نزاع وخصام ونشوز واستحالة توفيق وإصلاح وامتزاج وتعايش. لأن الآيات صريحة العبارة والتوجيه بأن الطلاق إنما أبيح على كونه أبغض الحلال إليه عند نية وقصد الفراق ولأسباب مبررة له. وعند استحالة التوفيق والإصلاح بين الزوجين. ولقد روى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ النكاح والطلاق والرجعة» «1» . وإزاء النصوص القرآنية وتلقيناتها نميل إلى التوقف في هذا الحديث وما من بابه إلا أن يكون صدر عن رسول الله في ظرف خاص به من قبيل الزجر. وهو على كل حال غير ما ذكرناه مما يجري على الألسنة في الحالات التي ذكرناها. وكثير من العلماء ومنهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم يعتبرون مثل هذه الأيمان أيمانا عادية إذا حنث فيها الحالف يكفرها بكفارة اليمين العادية ولا يرتبون عليها فراقا وطلاقا، ولابن القيم في أعلام الموقعين فصول قيمة في هذا الباب.
__________
(1) التاج ج 2 ص 309، وروى الطبري هذا الحديث بهذه الصيغة: «من طلّق أو أعتق أو نكح جادا ولاعبا جاز عليه» . وهناك حديث يرويه عن الحسن قال: «كان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعبا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
من طلّق لاعبا أو أعتق لاعبا جاز عليه. وفي ذلك نزلت: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وفي تفسير ابن كثير صيغ عديدة من هذا الباب. والصيغة الواردة في الكتب المعتبرة هي التي أوردناها في المتن.(6/432)
وينتقد بعض الأغيار إباحة الإسلام للطلاق وحينما يمعن المنصف من غير المسلمين بالأسلوب الرائع الحكيم الذي أبيح به إذا ما كان هو الحل الوحيد الذي لا مندوحة عنه بعد أن تكون قد بذلت كل الجهود للتوفيق ومنحت الفرص الكافية المتكررة للتروي والتوفيق لا يمكن إلا أن يسلم بما فيه من روعة وحكمة وصلاح.
ولا يكابر في ذلك إلا مكابر مغرض حتى ليصح أن يقال إن الطلاق نعمة من نعم الله في بعض الحالات التي تنقلب الحياة الزوجية فيها إلى جحيم وشقاء مقيم، وقد انطوى هذا المعنى السامي في آية النساء هذه التي جاءت بعد آيتين وصّتا ببذل الجهد في الإصلاح والتوفيق: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) حيث يكون الفراق عند استحالة التوفيق والإصلاح والصلح خيرا للطرفين من دون ريب.
والتقاليد النصرانية الدينية تحرّم الطلاق إلا في حالة جرم الزنا المشهود. وما تزال كنائسها تشدد في ذلك في حين نرى الدول النصرانية قد أباحته وأساغ ذلك الجمهور الأعظم من النصارى ومارسوه بمقياس واسع حتى صار مجونا وميوعة أكثر منه بحثا عن الراحة والخلاص من شقاء أكيد. حيث ينطوي في ذلك حاجة المجتمع الإنساني إلى ذلك العلاج الذي جاء في التشريع الإسلامي الذي رشحه الله ليكون دين البشرية جمعاء في كل زمان ومكان على أحسن وأقوى وأحكم الصور.
ولقد ذكرنا قبل قولا للزمخشري أن آية: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ... هي خطاب للحكام والأئمة أي إنهم هم الذين يجب أن يرفع إليهم هذا الأمر لتقديره.
ولقد احتوى القرآن آيات فيها نفس المدى مثل آية سورة النساء هذه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وفي سورة الطلاق هذه الآية: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ والاستشهاد وإقامة الشهادة إنما يكونان لأجل النظر في الأمر من جانب القاضي. فكل هذا وما ورد من أحاديث كثيرة مرّت طائفة منها تذكر مراجعات(6/433)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
الأزواج والزوجات للنبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه في شؤون الطلاق والإيلاء والظهار والنفقة والرضاع إلخ إلخ ... وتدخلهم في حل المشاكل بينهم يسوغ القول إنه ليس من مانع شرعي من إناطة أمر الطلاق بالقضاء الشرعي، وإذا ما أخذ بهذا يكون في ذلك تمام الصورة الحكيمة حيث يتاح درس الأسباب والموقف من جانب القاضي الشرعي فيصدر حكمه أو توجيهاته نتيجة لها.
وما يقال إن أسرار الناس لا يصح أن تفشى ولو للقضاء في غير محله.
فالقضاء مؤتمن على أسرار الناس. وهناك حالات كثيرة فيها أسرار وتناط شرعا وقانونا بالقضاء. ويمكن أن يجاب على ما يقال من أن الله قد أباح للزوج أن يطلق زوجته ولا يصح حرمانه من هذا الحق مستقلا، وإذا ما استعمل حقه هذا ولم ينفذ عاشر زوجته حراما. إن الناس في عهد النبي وخلفائه كانوا يراجعونهم في ذلك ويسيرون وفق فتاواهم. وفي القرآن عبارات تجعل للقضاء موقفا وكلمة في هذا الشأن. وإذا ما أقر ولي أمر المسلمين هذا استنادا إلى تلك التوجيهات القرآنية والآثار النبوية صار ذلك ملزما. وصار تطليق الأزواج بدون واسطة القضاء لغوا شأن طلاقهم الذي لا ينفذ على ما ذكرناه في مطلع هذا التعقيب، والله أعلم.
ولقد أقرّ هذا وطبق بقانون في الجمهورية التونسية التي تدين غالبيتها بالإسلام. والمتبادر أن أولي الحل والعقد والشورى وافقوا على ذلك استنادا إلى دراسات واستنباطات شرعية لعلها ما ذكرناه أو لعل منها ما ذكرناه.
[سورة البقرة (2) : آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
. (1) حولين: عامين وأصل الكلمة من (حال) بمعنى التنقل من شيء إلى شيء.(6/434)
(2) فصالا: فطاما. وأصل الكلمة بمعنى المفارقة بعد الوصال والاتصال.
(3) أن تسترضعوا أولادكم: أن تعطوهم لمرضعات غير أمهم لإرضاعهم.
(4) إذا سلمتم ما آتيتم: المقصود بالتعبير إذا أديتم ما ضمنتم أو ما اتفقتم عليه أو ما استحق عليكم من الأجر على ما ذهب إليه الجمهور. وبعض المفسرين قال إن ذلك بالنسبة للمرضعة، وبعضهم قال: إنه بالنسبة لأم الولد، وهذا هو الأوجه الذي يتسق مع روح الآية، وهو قول الطبري.
لم نطلع على رواية في نزول الآية وهي معطوفة على ما سبقها والمتبادر أنها استمرار لها في تشريع مسائل أخرى في حالات الطلاق والسياق يقتضي أن يكون المقصود من (الوالدات) الوالدات المطلقات وهو ما يؤيده فحوى الآية أيضا.
تعليق على الآية وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ... إلخ
والآية تضمنت تعليمات وتشريعات في صدد الأمهات المطلقات وأولادهن:
فهي:
1- تقرر أن على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إذا أراد الوالدان أن يكون الرضاع تاما لأن ذلك هو مدة الرضاع التام.
2- تحمل الوالد نفقة الأم طيلة مدة الرضاع بما فيه الكفاية حسب العرف والأمثال مع تنبيهها إلى عدم جواز تكليف أحد بأكثر من وسعه وطاقته.
3- تنهى عن تعمد المضارة والمكايدة بسبب الولد من قبل الأب للأم أو من قبل الأم للأب.
4- توجب نفقة الرضاع وعدم المضارة على ورثة الأب في حالة وفاته أثناء مدة الرضاع.
5- تسوغ الفطام قبل تمام الحولين بشرط أن يكون ذلك بالتشاور والتراضي بين الأب والأم.(6/435)
6- تسوغ كذلك استرضاع الولد من مرضعة غير الأم إذا أراد الوالد والأم على أن يؤدي الوالد أجرة إرضاع الأم لابنها عن المدة التي أرضعته وأجرة المرضعة الجديدة حسب العرف والأمثال.
وقد انتهت الآية معقبة على ذلك بأمر وجهته للمخاطبين ويشمل الأزواج والزوجات معا بتقوى الله والتزام حدوده وبالتنبيه إلى أنه مطلع على كل ما يعملونه عليم ببواعثه ومقاصده، وفي التعليمات أو التشريعات من الحق والعدل والحكمة ما هو ظاهر.
وفي كتب التفسير أقوال معزوة إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم واستنباطات فقهية في أحكام ومدى الآية نوجزها ونعلق عليها بما يلي مع التنبيه على أنها تلهم أن المقصود بكلمة (الوالدات) هو الوالدات المطلقات، وهذا ما يقتضيه السياق:
1- هناك من قال إن من واجب الوالدين بصورة عامة أن يستمرا في إرضاع طفلهما حولين كاملين وإن إنقاص ذلك بدون عذر شرعي حرام. وفحوى الآية لا يتحمل ذلك وإنما هو من قبيل الحث، وتقرير كونه الأفضل.
2- وهناك من قال إن الفصال في مدة أقل من سنتين منوط باتفاق الوالدين بحيث لا يجوز الفصال برغبة أحدهما دون موافقة الآخر. وهذا ما تفيده العبارة القرآنية. وهناك من قال إن جملة وَتَشاوُرٍ تعني مشاورة أهل الخبرة في أمر الفطام قبل تمام الحولين. ولا يخلو هذا من وجاهة، ولا يعني هذا نفي إيجاب التشاور والتوافق بين الوالدين بطبيعة الحال.
3- هناك من استنبط من الآية أن الوالدة غير مجبورة على إرضاع ولدها إلا في حالة الضرورة. وجملة وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ تنطوي على إيجاب ذلك على الوالدة فيما يتبادر لنا. ورفع الحرج عن الاسترضاع من غير الأم إذا أراده الوالدان كما ذكرت الآية قد تؤيد ذلك أيضا. غير أنه ورد آية في سورة الطلاق في صدد الوالدات المطلقات قد تفيد صواب ذلك القول وهي: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ(6/436)
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) فلعل حادثا أو سؤالا وقع فاقتضت حكمة التنزيل توضيح الأمر، مع التنبيه على أن الحالة هي في صدد الوالدات المطلقات.
5- هناك من قال إن جملة وَعَلَى الْوارِثِ تعني وارث الولد ومن قال إنها تعني وارث الوالد في حال موته أثناء رضاع ابنه. والقول الثاني هو الأكثر ورودا لأن الولد لم يكن قد صار موروثا.
6- وهناك من قال إن هذه الجملة تشمل جميع الوارثين بما فيهم الولد.
وهذا في محله وتكون نفقة الرضاع والحالة هذه على التركة.
7- هناك من قال إنه إذا لم يكن للوالد المتوفى مال وجبت نفقة الرضاع على عصبته. فإن لم يكن لهم مال صارت الأم مجبرة على إرضاع ولدها بدون أجر، ويلوح لنا أن نفقة إرضاع اليتيم الفقير ثم نفقة معيشته إذا لم يترك أبوه مالا تقع على عاتق بيت المال الذي جعل الله فيما يدخله من صدقات وغنائم وفيء نصيبا للفقراء واليتامى على ما ذكر في آيات سور الأنفال والتوبة والحشر.
8- ومما ذكره المؤولون على سبيل المثال من مضارة الوالد بولده أن ترفض الأم إرضاع ولدها وتقذفه لوالده ولو كان فقيرا. وأن تطالبه بما لا يستطيع من نفقة وتهدده بالولد للحصول على ما تريد منه ومن مضارة الوالدة بولدها أن ينزع الوالد ولدها منها لإثارة حزنها وأن يقدم لها الزهيد من النفقة مع قدرته على الأفضل.
9- وهناك من قال إن ما في الآية من أحكام بشأن الرضاع ومدة الاسترضاع والتشاور في الفصال وواجبات الأم والأب في ظروف ذلك ثم واجبات ورثة الأب بعد موته تشمل الوالدات إطلاقا سواء أكن مطلقات أم غير مطلقات. والآية هي كما قلنا في صدد المطلقات ومع ذلك فلا يخلو القول من وجاهة بصورة عامة والله تعالى أعلم.
وفي سورة الطلاق آيات فيها إيجاب بقاء المطلقة في بيت زوجها طيلة عدتها ونهي عن إخراجها وخروجها وتقرير نفقة سكنها على الزوج واستمرار ذلك بالنسبة(6/437)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
للمطلقة الحامل مع تقرير نفقة معيشتها إلى أن تضع حملها وأدائها أجرة رضاع طفلها على ما سوف نشرحه ونورد ما فيه من أحاديث في مناسبتها فجاء ذلك متمما للتشريع الذي انطوى في الآية التي نحن في صددها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 235]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
. (1) يذرون: يتركون.
(2) أزواجا: بمعنى زوجات.
(3) يتربصن بأنفسهن: ينتظرن.
(4) عرضتم: لمحتم دون تصريح.
(5) أكننتم في أنفسكم: نويتم في قلوبكم.
(6) لا تواعدوهن سرا: معنى الجملة اللغوي النهي عن ضرب موعد سرّي لاجتماع الخاطب بالأرملة. وقيل إن الجملة بمعنى لا تغروهن بالجماع ولا تهيجوهن بذلك حتى يرضين بالزواج منكم. وقيل لا تصارحوهن بالزواج ولا تشددوا عليهن حتى يعدنكم بأن لا يتزوجن غيركم. والجملة التي بعدها تسوغ القول أنها تنهى عن التحدث لهن بما يخدش الحياء، وكل هذا منهي عنه في المواعدة السرية.
(7) ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله: أي لا تعقدوا النكاح رسميا إلّا بعد انقضاء المدة المذكورة.(6/438)
تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ... والآية التالية لها
في الآيتين أحكام بشأن الزوجة المتوفى عنها زوجها:
1- فعليها أن تنتظر على نفسها أربعة أشهر وعشر ليال.
2- وليس على أولياء الزوجة ولا على الزوجة نفسها من بأس فيما تفعله في نفسها بعد انقضاء هذه المدة مما هو متفق على العرف والأخلاق الكريمة فالله خبير بنوايا الناس وأعمالهم.
3- وليس على من يريد أن يتزوج بالأرملة حرج في التلميح لها في أثناء هذه المدة برغبته في التزوج منها ولا في نيته على ذلك في سريرته. فالله يعلم أن هذا شيء طبيعي ومعقول على شرط أن يلتزم الرجل الحشمة والمعروف في الكلام بصدده وأن لا يستعمل أساليب الإغراء المستهجنة المغايرة للوقار والحياء ولو مساررة بينه وبينها وأن لا يعقد النكاح فعلا إلا بعد انتهاء العدة. فالله يعلم ما يفعله الناس وما يبيتونه في أنفسهم وعليهم أن يحذروه ويراقبوه. وهو إلى هذا غفور حليم يغفر لمن حسنت نيته ولم يتعمد الخروج على حدوده ولا يأمر بما فيه الحرج والإعنات.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيتين وهما وإن كانتا ليستا من أحكام الطلاق كالآيات السابقة فإنهما احتوتا أحكاما تدخل في نطاق الموضوع بصورة عامة. فإما أن تكونا نزلتا بعد ما سبقهما وإما أن تكونا وضعتا في مكانهما للمماثلة التشريعية والموضوعية.
وفي كتب الحديث والتفسير أحاديث وتأويلات في صدد هاتين الآيتين نوجزها ونعلق عليها بما يلي:
1- هناك من قال إن الآية الأولى قد نسخت الآية [240] من هذه السورة(6/439)
التي جاء فيها: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ولو أنها جاءت في موضع متقدم. ويساق في صدد ذلك حديث رواه الخمسة عن زينب بنت أم سلمة قالت: «سمعت أمي تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ قال: لا. ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر. وكانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول. قال حميد راوي الحديث عن زينب لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ قالت: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شرّ ثيابها ولم تمسّ طيبا ولا شيئا حتى تمرّ بها سنة ثم تؤتى بجلد دابة حمار أو شاة أو طير فتفتضّ به ثم تخرج. فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره» «1» . وقد عدّ بعضهم الآية على ضوء هذا الحديث ناسخة للآية [240] لأنها جعلت المدة أربعة أشهر وعشرا بدلا من حول كامل. وهناك حديث رواه أبو داود عن ابن عباس يذكر أن الآية [240] نسخت بهذه الآية «2» . غير أن هناك من قال إن حكم الآية [240] ظل محكما لأنها في حق الأرملة التي تريد أن تبقى في بيتها سنة كما كان الأمر قبل الإسلام. وهناك حديث يرويه البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: «قلت لعثمان: والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج قد نسختها الآية التي سبقتها فلم تكتبها أو تدعها؟ قال يا ابن أخي: لا أغيّر شيئا منه عن مكانه» «3» . وليس في جواب عثمان تأييد للنسخ وكل ما يفيده وهذا مهم أن ترتيب الآيتين كان منذ زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبأمره.
ومهما يكن من أمر فإن حديث زينب يفيد صحة ما ذهب إليه أصحاب القول الأول بشرط أن يعدل فيقال إن في الآية تعديلا للمدة من سنة إلى أربعة أشهر
__________
(1) التاج ج 2 ص 329 و 330 والحفش المخدع الحقير. ومعنى تفتضّ به تمسح به قبلها وجسمها من أثر الدم والقذر.
(2) التاج ج 4 ص 56.
(3) المصدر نفسه.(6/440)
وعشر ليال. وهذا هو المستفاد من حديث ابن عباس أيضا. وهذا لا يمنع أن يكون في القول الثاني وجاهة على ما سوف نشرحه في تفسير الآية [240] .
ونرى من واجبنا أن نقول كلمة في صدد نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم للأرملة أن تكتحل إذا شكت عينها. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم أوسع صدرا وأفقا من منع ذلك إذا كان بسبب مرض.
وكل ما يمكن أن يقال إنه ظن أن الكحل للزينة أو أراد أن لا يفتح بابا للتأويل في صدد إحداد الزوجة على زوجها والله تعالى أعلم.
2- هناك من قال إن مدة الأشهر الأربعة والعشر هي مدة انتظار ولا يسميها مدة إحداد. لأن الآية لا تسميها كذلك وتستعمل كلمة يَتَرَبَّصْنَ وهناك من سماها مدة إحداد استنادا إلى بعض أحاديث نبوية منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت: «كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا. ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا معصفرا، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذة من كست أظفار» «1» .
والقول الثاني هو الأوجه على ضوء الأحاديث ولا سيما إن المدة لا يمكن أن تكون لاستبراء الرحم الذي يكفي له حيضة واحدة قياسا على عدة المختلعة والمطلقة بتاتا أو ثلاث مرات أو المطلقة طلاقا بائنا على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة.
3- وهناك من قال إنه ليس في الآية ما يمنع الأرملة من أن تفعل ما تشاء أثناء عدة الإحداد إلّا عدم التزوج، غير أن الأحاديث المروية عن أم عطية وغيرها صريحة بأن الأربعة منهية عن التطيب والتزين والتكحل ولبس الثياب المفرحة والمعصفرة. وهناك حديث يرويه الإمام أحمد يرويه القاسمي يذكر أن امرأة قتل زوجها فاستأذنت النبي صلّى الله عليه وسلّم في التحول إلى أهلها لأنها بعيدة عنهم ولأنه لم يترك لها نفقة ولا مالا. فأذن لها أولا ثم دعاها فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك نعيّ زوجك فيه حتى يبلغ الكتاب أجله» . وهناك من أوجب استنادا إلى الحديث عدم
__________
(1) التاج ج 2 ص 329 والكست نبات ذو رائحة ينبت في أظفار يذهب الرائحة الكريهة.
وهناك أحاديث أخرى عن غير أم عطية، انظر ص 330.(6/441)
خروجها وهناك من لم ير في الحديث إيجابا عليها، ونحن نرى هذا هو الأوجه ونفسر الحديث بأنه قصد بذلك أن تظل في بيت زوجها مدة الإحداد وحسب ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن للمرأة حاجات ومصلحة لا بدّ من خروجها إليها، والله أعلم.
4- قال المؤولون: إن الأرملة الحامل تتبع في مدة تربصها أو حدادها حكم آية سورة الطلاق هذه: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإذا تأخر وضعها عن المدة المعينة في الآية استمر تربصها وإن تقدم انتهى أجلها. ومع أن آية سورة الطلاق قد جاءت في صدد عدة المطلقات فإن هناك حديثا رواه الخمسة عن أبي هريرة قال: «اجتمع أبو سلمة وابن عباس وهما يذكران أن المرأة تنفس (أي تلد) بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين وقال أبو سلمة: قد حلت بالوضع فأرسلوا فسألوا أم سلمة فقالت: نفست سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن تتزوج» «1» . وقد أخذ بهذا معظم المذاهب ولا سيما إن الجملة في آية سورة الطلاق مطلقة. وقصد التيسير والتخفيف من الحكمة الملموحة في الحديث النبوي الذي كان لبيان حالة سكتت عنها الآية التي نحن في صددها، وقد يتأخر وضع الحامل إلى أكثر من أربعة أشهر وعشر فتكون مجبرة على التربص بنفسها إلى أن تلد. وقد يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في تشريعه لاحظ ذلك فشاءت حكمته أن يخفف عنها إذا ولدت قبل انتهاء المدة مقابل ما هو شاق حينما تطول مدة وضعها، والله تعالى أعلم.
5- وفي صدد التعريض بخطبة الأرامل أثناء العدة روي عن أهل التأويل صيغ عديدة بما يحسن أن يقوله الخاطب للأرملة مثل إنك لأهل للزواج وإنك إلى خير. وإني عليك لحريص، وإني لفي حاجة إلى النساء وأجازوا إرسال هدية للأرملة تكون بمثابة تعريض بالخطبة وكل هذا وجيه.
__________
(1) التاج ج 2 ص 328. وأبو سلمة إما أن يكون غير أبي سلمة زوج أم سلمة الأول زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإما أن يكون الصحيح ابن أبي سلمة لأن أبا سلمة مات في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم والحادث وقع بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم.(6/442)
ويلفت النظر إلى جملة: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً ففيها نهي عن مواعدة الأرملة سرا أو مساررتها إلا في نطاق الوقار والحشمة والمشروع من القول، وهذا تأديب قرآني واجب الالتزام به، والله تعالى أعلم.
6- هناك من قال إن الضمير في جملة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عائد إلى الحكام وأولياء الأرملة. وإنها تتضمن تقرير حقهم في منعها من الإخلال بأحكام الحداد المذكورة في الآية والأحاديث قبل انتهاء المدة. وهناك من قال إنه عائد إلى الأولياء والأرامل معا بسبيل التنبيه على أنه لا حرج على الجميع بأن تفعل الأرملة بنفسها ما تشاء من أمور مشروعة. ويلحظ أن رفع الجناح هو عما يفعلن من أمور مشروعة حين بلوغ الأجل، ولا علاقة له بما قبل ذلك. وهذا يجعل القول الثاني هو الأكثر وجاهة وورودا، ومع ذلك فإن القول الثاني لا يخلو من وجاهة وبخاصة في حق الحاكم في منع زواج في وقت نهى عنه القرآن، والله تعالى أعلم.
7- والأكثر على أن جملة فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ تعني الزواج بعد انتهاء المدة. وهناك من قال إن فيها دليلا على حرية الأرملة في تزويج نفسها بدون ولي وإذن منه. وهناك من استند إلى جملة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ السابقة لهذه الجملة فأوجب الولي وإذنه على كل حال ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه لأن النص القرآني أكثر صراحة وحسما. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه: «الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها» «1» .
8- هناك من قال إن مدة حداد الأمة المتوفّى عنها زوجها أو سيدها إذا كانت مستفرشة له هي نصف مدة الحرة، وهناك من قال إنها نفس المدة، وقد يكون القول الثاني هو الأوجه لأن الآية مطلقة ومع ذلك فالقول الأول لا يخلو من وجاهة قياسا على عدد تطليقاتها وعدة طلاقها على ما ذكرناه قبل.
9- هناك من أوجب للمرأة المتوفى عنها زوجها نفقة طيلة مدة حدادها.
وقال إن ذلك دين على التركة قياسا على المطلقة التي جعل لها ذلك في آية سورة
__________
(1) التاج ج 2 ص 266.(6/443)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
الطلاق هذه: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) . وهناك من لم يوجب لها لأنها صارت صاحبة حقّ إرثي في تركة زوجها. وهو الربع إن لم يكن ولد والثمن إن كان ولد على ما جاء في آية سورة النساء السابعة. وقد تطمئن النفس بالقول الثاني أكثر لأن هناك فرقا واضحا بين حالة المطلقة التي لا ترث وحالة الأرملة الوارثة والله أعلم.
10- في حالة الزوجة التي يموت زوجها قبل أن يدخل بها أورد ابن كثير حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وصححه الترمذي يفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى في مثل هذه الحالة بحق الزوجة في مهر كامل وفي إيجاب مدة الإحداد عليها وفي حقها في إرث زوجها «1» فيكون العمل به والله تعالى أعلم.
11- وهناك حالة أخرى هي حالة المرأة التي فقدت زوجها ولا تدري أين هو حيث روى الإمام مالك عن عمر أنها تنتظر أربع سنين ثم تعتدّ أربعة أشهر وعشرا ثم تحلّ أي تتزوج. وعقب الإمام مالك قائلا: «إن تزوجت بعد انقضاء مدتها فدخل بها زوجها الجديد أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأول إليها إذا ظهر بعد ذلك» «2» . ولقد روى البخاري عن ابن المسيّب قوله: «إذا فقد الزوج في الصف في القتال فتتربّص امرأته سنة» «3» وروى البخاري عن الزهري قوله: «إذا كان الزوج أسيرا يعلم مكانه فلا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله. فإذا انقطع خبره فسنته سنّة المفقود» «4» ولم نطلع على أثر نبوي في هذه الحالة والاجتهادات سديدة والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) .
__________
(1) انظر التاج ج 2 ص 273. [.....]
(2) المصدر نفسه ص 327.
(3) المصدر نفسه ص 327.
(4) المصدر نفسه ص 327.(6/444)
(1) متّعوهن: أعطوهن شيئا نافعا من مال أو ثياب بمثابة تعويض.
في هاتين الآيتين أحكام في الطلاق قبل الدخول: فليس من بأس على الأزواج إذا طلقوا زوجاتهم قبل الدخول بهن. فإذا كان وقع ذلك قبل أن يسمي لهن مهرا يستحققن تعويضا يكون متناسبا مع قدرة الرجل المالية ومع ما هو معروف معتاد بالنسبة للأمثال. وهذا حق على المحسنين أي الذين يتوخون في أعمالهم المقاصد الحسنة. وإذا كان وقع بعد تسمية المهر يستحققن نصف المهر ما لم يعفون عنه أي لم يتنازلن عنه أو يتنازل الذي بيده عقدة النكاح. والتنازل أقرب لتقوى الله ورضائه. ويجب على الناس أن لا ينسيهم الموقف ما بينهم من علاقات الفضل والمودة وما يجب عليهم تجاه بعضهم من حسن تعامل وتسامح ورغبة في كسب الفضل. والله بصير بما يعملونه فعليهم أن لا يعملوا إلّا ما فيه رضاؤه وتقواه.
تعليقات على الآية لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ... والآية التالية لها
الآيتان متصلتان بالسياق، وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها.
والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة ولا مانع مع ذلك من صحتها. وحينئذ تكون الآية الثانية نزلت معها لبيان حكم من يسمي مهرها أيضا، وقد وضعت الآيتان في ترتيبهما للتناسب الموضوعي أو لنزولهما بعد الآيات السابقة.
ويلفت النظر إلى ما احتوته الآيتان من حثّ على التقوى والإحسان والتسامح(6/445)
والعفو وعدم نسيان الفضل بين الذين يكون لهم صلة بالموقف مما هو متساوق مع ما احتوته الآيات السابقة وهادف مثلها إلى تنبيه المسلم إلى واجباته في ذلك في هذا الموقف الذي يكون عادة من المواقف النفسانية الحرجة.
ويتبادر لنا أن عدم اشتراط سبب للتطليق قبل الدخول لا يعني أنه لا بأس على الرجل أن يطلق بغير باعث صحيح وعادل واستجابة للنزوة والفورة والهوى الشخصي على ما تلهمه روح الآيات عامة التي يجب على المسلم أن يجعلها هي الضابط له في مثل هذه الحالة أيضا أي أن يكون غير متعمد للأذى والمضارة والمكايدة وغير شاذ عن مقتضى الحق والعدل. وأن يكون ذاكرا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .
وفي كتب التفسير أحاديث وأقوال وتأويلات في صدد الآيتين ومداهما وأحكامهما نوجزها ونعلق عليها بما يلي:
1- إن بعضهم قرأ تَمَسُّوهُنَّ بضم التاء مع ألف بعدها (تماسوهن) وقالوا: إن هذه الكلمة بمعنى تشارك بدني الزوجين في التماس. وعلى كل حال فالجمهور على أن الجملة القرآنية بمعنى الجماع.
2- لقد عزي إلى أبي حنيفة أن الزوج إذا خلا بزوجته ولم يكن هناك مانع من الجماع من حيض أو عاهة رحم فإن خلوته معها تعد دخولا وتستحق كامل مهرها إذا طلقها. ويتبادر لنا أن هذا غير متسق مع النص القرآني الذي يجعل المسيس شرطا لاستحقاق المهر الكامل بعد الطلاق والله أعلم.
3- الجمهور على أن ال فَرِيضَةً بمعنى المهر.
4- الجمهور على أن المطلقة المسمى مهرها لا تستحق متعة. غير أن هناك آية أخرى تأتي بعد قليل مطلقة في إيجاب المتعة للمطلقات. وقد جعل هذا بعض المجتهدين يقولون بحقها بالمتعة والله أعلم.
5- تعددت صفات المتعة، فهناك من قال أعلاها خادم ثم بعض الفضة ثم(6/446)
الكسوة. وأوسطها ثياب المرأة في بيتها. وهناك من عين خمارا ودرعا وجلبابا وملحفة وإزارا. وروى بعضهم عن الحسن أنه متع مطلقة له بعشرة آلاف درهم.
وهناك حديث لم يرد في الكتب المعتبرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج أميمة بنت شرحبيل فلما دخلت عليه وبسط إليها يده كأنما كرهت فأمر بتجهيزها وكسوتها بثوبين.
وحديث لم يرد كذلك في الكتب المعتبرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أحد أصحابه الذي طلق زوجته قبل الدخول أن يمتعها ولو بقلنسوة.
ومهما يكن من أمر فإن جملة وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ تسوغ القول إن المقدار متموج حسب حالة الزوج الاجتماعية والمالية، وأن القادر على الأحسن لا يصح أن يعطي الزهيد البخس.
6- هناك من قال مع ذلك إن متعة من لم يسم مهرها يجب أن تعدل نصف مهر مثلها استنباطا من إيجاب نصف المهر إذا كان مسمى، وهذا وجيه مع ملاحظة تلقين العبارة القرآنية السابقة ومداها بالنسبة لحالة الزوج والزوجة الاجتماعية والمالية.
7- هناك من قال إن جملة: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ تعني ولي الزوجة ومن قال إنه الزوج، والجمهور على الثاني وهو الأوجه. بل مؤيد بروح الآية وفحواها. فولي الزوجة لا يملك عقدة النكاح ملكا تاما في جميع الحالات وموافقة البكر البالغة شرط والثيّب أحق بنفسها من وليها «1» على ما جاء في الأحاديث. والزوجة هي التي تقبض مهرها وتتصرف به على ما قررته آيات عديدة في سورة النساء. وفي جملة يَعْفُونَ دليل. فالجملة تعني الزوجة المطلقة وهذا يعني أن القرآن قرر حقها المستقل في ذلك وليس من حكمة لشرط عقد وليّها وهي موجودة والمهر حق واجب للزوجة ولا يملك الولي التنازل عنه في أي حال.
8- وجملة إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ على ضوء ما
__________
(1) من ذلك: لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن والثيب أحق بنفسها من وليها وإذن البكر سكوتها (انظر التاج ج 2 ص 266) .(6/447)
تقدم تعني التنازل من جانب الزوج عن النصف الثاني من المهر المسمى ومنحه للزوجة كاملا. والتنازل من جانب الزوجة عن النصف المستحق لها لأنها لا تستحق جميع المهر حتى تتنازل عنه.
9- هناك من صرف جملة وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إلى الزوج بسبيل حثه على منح كامل المهر لمطلقته. فهو المنفق والدافع للمهر وقد فضله الله درجة فصار عليه أن يؤدي حق هذا التفضيل. ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان هذا لا يتنافى مع احتمال كون الجملة موجهة للزوجين معا بسبيل حثّ كل منهما على التسامح والمفارقة بالحسنى.
10- لقد استنبط بعضهم من الآية الأولى جواز عقد النكاح قبل تعيين المهر. فإذا تم الدخول ولم يسم مهر وجب للزوجة مهر أمثالها ولها نصف مهر أمثالها إذا لم يتم الدخول وهذا وجيه سديد.
11- هناك من قال إن المفوضة بطلاق نفسها إذا طلقت نفسها قبل الدخول لا تستحق الذمة، ولم نطلع على أثر نبوي وراشدي في ذلك. ومع أن المتبادر أن مصدر الطلاق لم يتغير وهو الزوج بتفويضه زوجته بطلاق نفسها وأن حقه في التطليق قائم وأن صفة المطلقة لا ترتفع عن التي تطلق نفسها بموجب التفويض فإن ذلك القول وجيه من حيث إنه ليس من محل للتعزية والترضية في هذه الحال وهما من أهداف المتعة. ومع ذلك نقول إن إطلاق النص القرآني في الآية [242] التي تأتي بعد قليل بخاصة يسوغ القول إنها تستحق المتعة والله أعلم.
12- في صدد صفة الطلاق قبل الدخول عزا الإمام مالك إلى أبي هريرة وابن عباس رأيا مفاده أنه إذا كان طلاقا مطلقا بدون عدد يعد الطلاق بائنا، عدته حيضة ويجوز للزوج أن يرجع إلى زوجته بعقد ومهر جديدين إذا شاءا أو تراضيا.
وإذا كان طلاقا باتا ثلاثا أو لثالث مرة فتكون بينونة كبرى ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره «1» . ولم نطلع على أثر نبوي والرأي سديد وجيه فيما هو المتبادر.
__________
(1) انظر الموطأ ج 2 ص 47- 48.(6/448)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
13- هناك من قال إن متعة المطلقة التي لم يسم مهرها هي على سبيل الندب لا الإيجاب، وهناك من قال إنها واجبة، واستلهم أصحاب القول الأول صيغة الآية، واستلهم أصحاب القول الثاني الآية [242] التي فيها كلمة (حقا) والتي تأتي بعد قليل. ونحن نرى هذا هو الأوجه والله أعلم. وفي سورة الأحزاب هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) والنص مطلق مثل إطلاقه في الآية [242] وفي هذا تدعيم لوجاهة القول والله تعالى أعلم. ولقد قال أصحاب هذا القول إن من حق المطلقة التي لم يسم مهرها أن ترفع أمرها إلى الحاكم وأن على هذا أن يحكم لها بالمتعة وأن الزوج يحبس بها حتى يؤديها. وأنه إذا مات قبل أدائها تكون دينا على تركته وهذا وجيه تبعا لوجاهة القول لأنه نتيجة له، والله تعالى أعلم.
وفي آية الأحزاب التي أوردناها تتمة للتشريع الذي احتوته الآيتان حيث يظهر أن بعضهم سألوا فنزلت الآية لترفع العدة عن المطلقة قبل المسّ. لأن العدة في الأصل لاستبراء الرحم وفسح المجال للمراجعة ولا محل لهذا وذاك في هذه الحالة ويكون للمطلقة أن تتزوج حالا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
. في الآيتين: أمر موجه إلى المسلمين بالمحافظة على الصلوات وبخاصة الصلاة الوسطى وأدائها في أوقاتها. وقيامهم فيها خاشعين خاضعين لله وحده وتنبيه على أنه لا ينبغي أن يمنعهم من ذلك مانع حتى في حالة الخوف والخطر. فعليهم في هذه الحالة أن يؤدوا الصلاة أثناء ركوبهم إذا كانوا راكبين أو مشيهم إذا كانوا مترجلين. فواجب ذكر الله وأداء حقه في العبادة مترتب عليهم يجب أن يؤدوه في(6/449)
حالتي الأمن والخوف فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمونه وعليهم شكره وذكره.
تعليق على الآية حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ... إلخ والآية التي بعدها
والآيتان فصل مستقل لا صلة به بالسياق السابق ولا باللاحق، وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الظهر بالهجير وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فلا يكون وراءه إلّا الصف أو الصفان فقال لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة فنزلتا لتحثا على وجوب إقامة الصلاة في أوقاتها في أي حال، ومن المحتمل أن تكون الآيتان قد نزلتا بعد الآيات السابقة لها فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعها في مقامها ولو لم يكن بينها وبين السياق مناسبة وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني.
ولقد تعددت الأقوال في الصلاة الوسطى، فمنها أنها صلاة الظهر لأن وقتها وسط النهار، وقد يتفق هذا مع الحديث المروي عن زيد، ومنها أنها صلاة الفجر لأنها متوسطة بين صلاتي النهار الظهر والعصر وصلاتي الليل المغرب والعشاء.
وهي أشق من غيرها، ومنها أنها صلاة العصر. وقد روى المفسرون مع كل قول أقوالا وأحاديث معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقد عزي القول بأنها صلاة الفجر إلى ابن عباس في روايات عديدة، وعزي القول بأنها صلاة الظهر إلى زيد بن ثابت. غير أن القول بأنها صلاة العصر مؤيد بأحاديث أقوى، فقد روى أصحاب الخمسة حديثا عن علي (رضي الله عنه) جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا ثم صلّاها بين العشاءين» «1» . وقد روى الترمذي حديثا عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة الوسطى صلاة العصر» «2» وقد روى الترمذي
__________
(1) انظر التاج ج 1 ص 123.
(2) انظر التاج ج 1 ص 123.(6/450)
حديثا عن أبي يونس مولى عائشة (رضي الله عنها) جاء فيه: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الآية: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فآذنّي فلما بلغتها أعلمتها، فأملت عليّ (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وقالت سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» .
وهكذا يكون تأويل الصلاة الوسطى بصلاة العصر هو الأوجه المؤيد بأحاديث صحيحة وهو ما عليه الجمهور ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة منها ما هو صحيح فيها تنويه بصلاة العصر وإنذار لمن تفوته مما فيه تساوق مع التلقين القرآني، من ذلك حديث رواه البخاري والنسائي عن بريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» «2» . وحديث رواه الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» «3» .
ولقد روى الزمخشري في سياق الآية رواية تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجلس إلى أصحابه بعد صلاة العصر فيتحلقون حوله ويستمعون إلى عظاته وأحاديثه ويتذاكرون فيما بينهم من أمور وما يكون من شؤون. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح ولا يمنع هذا من صحتها حيث ينطوي فيها توضيح ما لاهتمام كتاب الله ورسوله بهذه الصلاة والله أعلم.
وما تقدم هو في صدد الفقرة الأولى من الآية الأولى وفي صدد الفقرة الثانية منها أي: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) روى البخاري والترمذي حديثا عن زيد بن أرقم قال: «كنّا نتكلّم في الصلاة يكلّم أحدنا أخاه في حاجته حتى نزلت فأمرنا بالسكوت» . حيث ينطوي في الحديث ما فهمه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعملوا به من تلقين الآية. وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير تفيد أن الأمر بذلك كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا. منها حديث أخرجه مسلم جاء فيه: «إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلّم في الصلاة: إن هذه الصلاة لا يصحّ فيها شيء من كلام
__________
(1) التاج ج 4 ص 57.
(2) التاج ج 1 ص 123.
(3) التاج ج 1 ص 123.(6/451)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله» . وحديث آخر وصف بالصحيح عن ابن مسعود قال: «كنا نسلّم على النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيردّ علينا فلما قدمنا سلمنا عليه فلم يردّ عليّ فأخذني ما قرب وما بعد فلما سلّم قال إني لم أردّ عليك لأني كنت في الصلاة وإن الله يحدث ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة» .
وحديث آخر يرويه الحافظ أبو يعلى: «إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلّموا» .
والتلقين المنطوي في الجملة القرآنية على ضوء الأحاديث هو تنبيه المؤمنين إلى وجوب استحضار الله عز وجل وحده في أذهانهم حينما يكونون في الصلاة وعدم إشغالها بأي شيء آخر عن ذلك لأنه من المقاصد المهمة في الصلاة.
وفي صدد فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً نقول إنها في صدد إيجاب الصلاة في كل حال في أوقاتها. وإساغة لإقامتها في الخوف في حالة السير مشيا وفي حالة الركوب. وفي سورة النساء آيات أخرى في صدد ذلك سوف نزيد هذا الموضوع شرحا ونورد ما ورد فيه من أحاديث في مناسبتها.
[سورة البقرة (2) : آية 240]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
. (1) وصية: قرئت بالفتح على تقدير (فليوصوا وصية) وقرئت بالرفع على اعتبار الإيجاب والحكم.
وتبعا لاختلاف قراءة (وصية) يكون في الآية أمر للأزواج بأن يوصوا حين(6/452)
تحضرهم الوفاة بأن ينفق على زوجاتهم من بعدهم حولا كاملا وبأن لا يخرجن من مسكنهن طيلة هذه المدة أو يكون فيها أمر رباني بإيجاب تنفيذ ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن فيها تسويغا لخروجهن قبل نهاية المدة إذا شئن، ورفعا للحرج عن ذي العلاقة والولاية فيما يفعلنه في أنفسهن من التصرفات المشروعة وتنبيها على أن الله تعالى عزيز تجب طاعته حكيم لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة.
وروح الآية وفحواها يلهمان أن ما تقرره للزوجة هو واجب على ورثة زوجها وتركتها سواء أوصى هو بذلك أم لم يوص. وأن معنى مَتاعاً هنا هو نفقة معيشتها.
تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ...
والآية فصل تشريعي من باب الفصول التي سبقت ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد السياق السابق فوضعت في ترتيبها أو وضعت في ترتيبها للمماثلة التشريعية. ولقد روى الخازن أنها نزلت في امرأة رجل من الطائف هاجر إلى المدينة مع أبويه وزوجته فمات فلم تعط زوجته شيئا من ميراثه وكان ذلك قبل نزول آيات المواريث في سورة النساء، فرفعت أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى الآية فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبقوها في بيتها سنة وينفقوا عليها.
والرواية لم ترد في كتب الصحاح ويلحظ أنها لا تتسق تماما مع فحوى الآية ويتبادر لنا أنها في شأن أرملة أراد أهل زوجها إخراجها وامتنعوا عن النفقة عليها.
ولا يمنع هذا أن تكون طبقت على الجملة التي رواها الخازن.
ويروي الطبري عن ابن عباس وآخرين أن حكم هذه الآية كان جاريا قبل نزول الآية [234] من هذه السورة وقبل نزول آيات المواقيت في سورة النساء.
وأنها نسخت فأنقصت المدة إلى أربعة أشهر وعشر في الآية [234] وحملت الأرملة نفقة نفسها لأنها صارت ترث من زوجها. ويروي الطبري عن مجاهد(6/453)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
وآخرين أيضا أن حكم الآية ظل محكما لمن تشاء من الزوجات البقاء في بيت زوجها المتوفى سنة مع إيجاب نفقتها، ويبقى حكم الآية [234] وما ورد في صددها من أحاديث أوردناها قبل محكما بالنسبة لهذه الزوجة. وقد صوب الطبري القول الأول غير أن الذي يتبادر لنا استلهاما من مجيء هذه الآية بعد الآية [234] أن القول الثاني هو الأوجه وليس هناك حديث وثيق بالنسخ. أما مسألة نفقتها طول السنة فالذي يتبادر لنا أن نسخها بآية المواريث هو وجيه وآية المواريث نزلت بعدها والله أعلم.
وعلى صحة استنتاج بقاء الآية محكمة في حق الزوجة في البقاء في بيت زوجها المتوفى عنها سنة كاملة وعدم الحرج مع ذلك من خروجها أثناء هذه المدة فالذي يتبادر لنا مع الآية ومقاصدها أنها لو خرجت لحاجتها ثم أرادت أن تعود إلى بيت زوجها لإتمام مدة السنة فلها ذلك، والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
. في الآيتين توكيد لحق المتعة والتعويض للمطلقات في نطاق العرف والعادة والأمثال. وتقرير كون هذا واجب الأداء على المتقين لغضب الله والراغبين في رضائه. وبيان بأن الله ينزل آياته ليعرف المؤمنون منها ما يجب عليهم فيعقلوه ويسيروا وفقه.
وقد روى المفسرون «1» أن الآيتين نزلتا بسبب فهم بعض المسلمين من جملة حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ الواردة في الآية [236] أنهم غير ملزمين بالمتعة فإن أحبوا متعوا وإلّا فلا واجب عليهم، والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكنها محتملة الصحة. وقد وضعت الآيتان في ترتيبهما للتناسب والتقارب الموضوعي وربما
__________
(1) انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.(6/454)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
نزلتا بعد سابقتهما. وقد صارتا خاتمة للفصول التشريعية المتعلقة بالطلاق والترمل وأسلوبهما متسق مع أسلوب الآيات السابقة المتعلقة بالموضوعين مستهدف ما استهدفته من حماية المرأة وتوكيد حقها.
ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون في المطلقات اللاتي عنتهن الآيتان. فهناك قول بأنهن المطلقات قبل المسيس اللاتي لم يسم لهن مهر تثبيتا لحقهن الذي ذكر في الآية [236] والذي اختلف في استحبابه ووجوبه. وهناك قول بأنهن المطلقات عامة بما فيهن المدخول بهن. وقد أورد أصحاب القول الثاني آية سورة الأحزاب هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) كدليل على قولهم.
وإطلاق العبارة في الآية وعلى ضوء آية سورة الأحزاب قد يجعل القول الثاني هو الأوجه. ويمكن أن يقال على ضوء هذا إن حكمة التنزيل قد شاءت أن يكون في إمتاع المطلقة المدخول بها والتي يمضها الطلاق ويحزن نفسها على كل حال تعزية وترضية وفي هذا تمام البرّ والرحمة وهو ما يلحظ في التشريعات السابقة بصورة عامة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
. في الآيات تذكير بقصة جماعة من ألوف فروا من ديارهم خوفا من الموت فلم يفدهم فرارهم شيئا حيث أماتهم الله دفعة واحدة ثم أحياهم ليعرفوا قدرته وفضله. فالله هو صاحب الأفضال على الناس ولو كان أكثرهم لا يشكرونه.(6/455)
وأعقب القصة أمر موجه إلى المسلمين بالقتال في سبيل الله، وتنبيه لهم على أن الله سميع لكل ما يقولون عليم به. وحثّ لهم على إقراض الله قرضا حسنا مما ينطوي فيه حثّ لهم على إنفاق المال في سبيل الله وتنويه بمن يفعل ذلك وبشرى بأن الله يرده إليه أضعافا مضاعفة وتنبيه على أن بسط الرزق وقبضه بيد الله وأن مرجع الناس جميعا إليه مما ينطوي فيه توكيد في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله أيضا.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ... إلخ وعلى الآيتين التاليتين لها
الآيات فصل جديد ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها، الصلة ملموحة بين الآية الأولى والآيتين التاليتين لها على ما سوف نشرحه بعد، وهذا ما جعلنا نعرضها معا.
وقد روى المفسرون «1» أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في مجلس من مجالسه: من تصدّق فله مثلاه في الجنّة. فقال أبو الدحداح الأنصاري:
يا رسول الله لي حديقتان إن تصدقت بإحداهما فإن لي مثليها في الجنة؟ قال: نعم.
قال: وأم الدحداح والصبية معي؟ قال: نعم. فتصدق بأفضل حديقتيه فنزلت الآية.
ولم نطلع على سبب نزول الآيتين اللتين قبلها، والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل واحد منسجم ومتساق المدى، وقد احتوت الآية الأولى منها قصة بسبيل بيان أن الفرار من الموت لا يقي منه، والثانية احتوت أمرا للمسلمين بالقتال مما ينطوي فيه تنبيه على عدم التهيب من ذلك خوفا من الموت. والثالثة احتوت حثا على الإنفاق في سبيل الله الذي هو من لوازم الجهاد وضروراته. ولا يمنع هذا أن تكون قصة أبي الدحداح صحيحة ولكن الأكثر احتمالا واتساقا مع نص الآية أن تكون
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والطبري والخازن.(6/456)
وقعت بعد نزول الآيات حيث استجاب إلى ما فيها من حثّ وتشويق.
ولقد روى الطبري وغيره روايات متنوعة عن القصة المذكورة في الآية الأولى مختلفة الصيغ متفقة المدى. منها رواية عن ابن عباس أنها في صدد أربعة آلاف أو ثلاثين ألفا فروا من قريتهم من الوباء أو من الجهاد خوفا من الموت فأماتهم الله، فمر عليهم نبيّ فدعا الله أن يحييهم فأحياهم ليثبت لهم أن موتهم وحياتهم في يد الله وأمره. ومنها رواية عن أشعث بن أسلم البصري في سياق طويل لا يخلو من إغراب مفادها أن يهوديين أخبرا عمر بن الخطاب أن هذه قصة جماعة من بني إسرائيل خرجوا من مدينتهم ألوفا حذر الموت من الوباء فأماتهم الله حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي لينادي عليهم ففعل فأحياهم الله تعالى.
ولقد ورد في الإصحاح 37 من سفر نبوءة حزقيل أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم خبر فيه بعض المشابهة لهذه القصة. حيث يبدو أن مما كان يتداوله اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قصصهم القديمة. والراجح أن سامعي القرآن من المسلمين أو بعضهم كان يعرفها من اليهود فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بها على سبيل تخفيف استشعارهم بالخوف من الموت وحضهم على القتال والإنفاق في سبيل الله مما ورد في الآيات في ظرف كان بعضهم يتهيب من ذلك أو يتلكأ فيه. ولقد احتوت الآيات [218، 262، 272] من سورة البقرة التي سبق تفسيرها إشارة ما إلى ذلك. والمتبادر أن بعضهم ظل مع ذلك يتهيب ويتكرر فاقتضت الحكمة معالجة الأمر مجددا في الآيات، ولقد جاء بعد هذه الآيات فصل فيه قصة طلب بني إسرائيل تعيين ملك عليهم ليقاتلوا تحت لوائه أعداءهم ونكث أكثرهم عن ما قطعوه على أنفسهم من عهد القتال مما نرجح أنه سيق استطرادا لتدعيم أمر القتال والإنفاق الذي احتوته الآيات الثانية والثالثة كما هو شأن الآية الأولى. وبعبارة أخرى إنه جاء تدعيما للمعالجة التي اقتضتها حكمة الله.(6/457)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
استطراد إلى الفرار من الوباء
لقد استطرد ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى إلى موضوع الفرار من الوباء وأورد حادثا في زمن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وحديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم رواه الشيخان عن ابن عباس جاء فيه: أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال عمر لابن عباس: ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين في الاختلاف فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبّح على ظهر فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان عمر يكره خلافه. نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا لها عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيّبا في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه، فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف» «1» . وفي الحديث تعليم صحيح نبوي بليغ يجب الالتزام به.
[سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 252]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) .
__________
(1) التاج ج 3 ص 172- 173.(6/458)
(1) طالوت: تعريب شاؤول المذكور في سفر صموئيل.
(2) بسطة في العلم والجسم: إشارة إلى ما كان عليه طالوت من جسامة حيث روى سفر صموئيل أنه كان أطول الناس قامة.
(3) التابوت: هنا هو صندوق كان بنو إسرائيل يحفظون فيه الذخائر(6/459)
الدينية المقدسة منذ عهد موسى وهرون.
(4) سكينة من ربكم: طمأنينة تطمئن بها نفوسكم يبعثها إليكم ربكم.
(5) فصل: بمعنى سار.
(6) من لم يطعمه: من لم يذقه ويشرب منه.
(7) الذين يظنون أنهم ملاقو الله: الذين يتيقنون من لقاء ربهم.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ... إلخ والآيات التالية لها من [246- 252]
الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى (عليه السلام) ، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغا للحروب الدفاعية وتقريرا لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيدا وجه الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطرادا للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فورا وبدء المجموعتين بجملة أَلَمْ تَرَ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين(6/460)
والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلا.
وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّا، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيرا.
وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سيق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معا.
ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصرا عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود.
والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالا وثيقا، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين(6/461)
ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى.
وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال.
وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل.
ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحا، وتداولت الأيام بينهم.
ثم كان للفلسطينيين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيرا من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكا فأقام عليهم(6/462)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحه بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصاف بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة «1» . وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضابا في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية.
[سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
. تعليق على الآية تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ... إلخ
عبارة الآية واضحة ولم نطلع على رواية في نزولها، والمتبادر أنها جاءت استطرادية وتعقيبية وتعليلية معا لما احتوته الآيات السابقة. ومتصلة بموضوعها
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري مثلا. [.....](6/463)
ويتبادر لنا أنها تضمنت تقرير ما يلي: إن الله قد أرسل رسله بآياته وبيناته، فكان يقتضي أن يؤمن الناس جميعا ولا يختلفوا، ولا يكون بينهم نزاع وقتال وفساد في الأرض وأحقاد. ولكن مشيئة الله في خلقه اقتضت أن يكون الناس ذوي قابليات اختيارية ومتفاوتة فكان منهم نتيجة لذلك الكافر والمؤمن، والخبيث والطيب، ومن الطبيعي أن يكون بينهم خلاف وقتال ومن الطبيعي أن يدعى المعتدى عليه إلى القتال لدفع شر المعتدي وأذاه وليكون التوازن بدفع الناس بعضهم ببعض. والله قادر على أن لا يكون الناس أنواعا متفاوتين مختلفين ولكن حكمته اقتضت أن يكونوا مختارين غير مجبرين فكان هذا التنوع والتفاوت والخلاف والقتال.
والآية بهذا البيان المستلهم من روحها ومن روح التقريرات القرآنية عامة تنطوي على جليل التلقين وحكيم التعليل.
ولعل اختصاص موسى بالذكر تلميحا- في جملة مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وعيسى تصريحا هو بسبب ما احتوته الخلاصة القرآنية عن بني إسرائيل في معرض العبرة والتذكير أولا وبسبب ما كان يقع في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبله من اختلافات ومنازعات وفتن وقتال بين اليهود فيما بينهم وبين النصارى فيما بينهم ثم بين اليهود والنصارى أيضا مما ذكرته روايات التاريخ القديم «1» وقد أشير إلى ما
__________
(1) كان اليهود منقسمين إلى طوائف عديدة، وقد وقع في زمن المكابيين قبل ولادة المسيح فتن وقتال بين ما يعرف بالصدوقيين وما يعرف بالفريسيين ثم كان مثل ذلك بين اليهود الإسرائيليين والسامريين غير الإسرائيليين الذين كانوا في فلسطين والذين يمتون إلى أصل عراقي وكانوا يدينون بالديانة الموسوية. وكان النصارى منقسمين كذلك إلى طوائف عديدة، وكان يقع شقاق وقتال بينها وبخاصة بين ما يعرف باليعقوبيين والملكانيين أو أصحاب العقيدة الواحدة والعقيدة الثنائية في المسيح وإلى هذا وذاك كان يقع بين اليهود والنصارى وبين السامريين والنصارى قتال أيضا وظل كل هذا مستمرا إلى زمن البعثة النبوية.
انظر الجزء الثاني والرابع والخامس من كتابنا «تاريخ الجنس العربي» وانظر كتابنا «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم» والمجلد الثاني والثالث والرابع من «تاريخ سورية» للمطران الدبس.(6/464)
بينهم من خلاف ونزاع وبغضاء وعداء في آيات كثيرة مكية ومدنية منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي.
وقد قال المفسرون «1» في صدد تعبير وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ إن المقصود به التنويه بفضل النبي صلّى الله عليه وسلّم ورفعة درجته على سائر الأنبياء.
ولقد قال الخازن في صدد ذلك إنه لم يؤت نبي من الأنبياء آية أو معجزة إلا وأوتي نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك ثم أخذ يشير إلى ما روي من معجزاته التي أعظمها وأظهرها القرآن والكلام للمفسر نفسه. ثم أورد حديثا عن أبي هريرة رواه الشيخان أيضا جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» وحديثا ثانيا عن جابر رواه الشيخان كذلك جاء فيه:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» . وحديثا آخر عن أبي هريرة رواه أصحاب السنن جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فضلت على الأنبياء بستّ:
أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلائق كافة، وختم بي النبيّون» . ولقد تساءل ابن كثير عما يمكن أن يورد من نقض بين ما ورد من أحاديث في تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من حديث جاء فيه: «استبّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي وقال: أيّ خبيث، وعلى محمد صلّى الله عليه وسلّم. فجاء اليهودي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.(6/465)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور فلا تفضلوني على الأنبياء، وفي رواية: لا تفضلوا بين الأنبياء» . ثم قال ابن كثير:
والجواب على ذلك من وجوه: أحدها أن يكون ذلك قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر، والثاني أنه قال ذلك من باب التواضع، والثالث أنه نهى عن التفضيل في مثل الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر، والرابع أنه أراد بذلك النهي عن التفضيل بسائق العصبية.
ومع إيماننا التام العميق بعظم فضائل سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ورفعة شأنه ودرجاته عند الله وما ميزه الله عن غيره من الأنبياء من الميزات العظيمة التي ذكرت في القرآن بأساليب متنوعة في السور المكية والمدنية معا وذكرت في هذه الأحاديث وأحاديث أخرى سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة، فإننا نلحظ أن التعبير هنا مطلق عام ومن قبيل ما جاء في آية سورة الإسراء هذه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) وليس هناك آثار وثيقة متصلة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه تفيد أن هذا التعبير هنا هو عائد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
هذا، ولقد ورد في سورة البقرة وفي سلسلة بني إسرائيل آية فيها نفس الجملة التنويهية التي وردت في هذه الآيات في حقّ عيسى (عليه السلام) وعلقنا عليها تعليقا يغني عن التكرار.
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
. (1) خلّة: مودة وصداقة.
عبارة الآية مفهومة ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها، والمتبادر أنها ليست منقطعة عن السياق بل فيها عود على بدء وربط بين الدعوة إلى القتال والإنفاق في سبيل الله التي تضمنتها الآيتان اللتان سبقت فصل بني إسرائيل. والحث فيها قوي،(6/466)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
وبعض المفسرين «1» قالوا إنها في صدد الزكاة ونرجح أنها عامة الحثّ حيث يدخل فيها الزكاة الواجبة والصدقات التطوعية في مختلف الوجوه وجملة مِمَّا رَزَقْناكُمْ هي في صدد التنبيه إلى أن في أيدي القادرين على الإنفاق من مال هو من رزق الله وفضله فمن واجبهم أن يأتمروا بأمر الله وينفقوا مما رزقهم وفي هذا مغزى جليل. وقد تكرر بأساليب أخرى في سور عديدة مكية ومدنية.
وتعبير وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يحتمل أن يكون في صدد المصير الأخروي وبيان كون الكفار بكفرهم هم الذين يظلمون أنفسهم ويعرضونها لنكال الله في الآخرة. وهذا تكرر بأساليب أخرى في سور عديدة مكية ومدنية. ويحتمل أن يكون تعبير وَالْكافِرُونَ في معنى الجاحدين بنعمة الله الذين يبخلون في الإنفاق من المال الذي رزقهم الله إياه، فهم في ذلك ظالمون لأنفسهم منحرفون عن جادة الحق والإيمان. ويحتمل أن يكون بسبيل تقرير كون الكافرين هم الذين لا ينفقون مما رزقهم الله فيظلمون أنفسهم بالمصير الرهيب الذي سوف يصيرون إليه في الآخرة حيث لا ينفع المرء إلّا عمله دون ما شفاعة أحد أو خلّة مع أحد والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
. (1) القيوم: القائم الدائم بالأمر والمراقبة.
(2) سنة: الحالة بين اليقظة والنوم، وهي أول النوم.
(3) يؤوده: يعجزه أو يشق عليه أو يثقل عليه.
__________
(1) انظر تفسيرها في الخازن.(6/467)
تعليق على آية الكرسي
الآية من جوامع الآيات القرآنية وروائعها في صدد تقرير وحدة الله وكمال صفاته وإحاطته وقدرته. فهو الإله الذي لا إله غيره. الحي الدائم الحياة، والقيم الدائم القيام بأمر خلقه، الذي تنزه عن أي نوع من أنواع الغفلة عن ذلك بما يحدثه النوم أو النعاس، الذي له ما في السموات والأرض، والذي لا يشفع أحد عنده إلّا بإذنه ورضائه، والذي يعلم ما بين أيدي كل خلقه وما خلفهم دون أن يكون لأحد إحاطة ما بشيء من علم إلّا ما شاء هو، والذي وسع كرسيه السموات والأرض ولا يشق عليه حفظهما، والعلي العظيم الذي لا يداني علوّه وعظمته شيء.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآية، ويحتمل أن تكون متصلة بما سبقها. فالله الذي يفعل ما يريد وهو ما قررته الآية السابقة لها هو المنفرد في الألوهية المتصف بجميع صفات الكمال ويحتمل أن تكون متصلة بما بعدها فالله الذي يجب الإيمان به والكفر بسواه وهذا ما جاء في الآيات التي بعدها هو ذلك المتصف بهذه الصفات وليس ما يمنع أن تكون متصلة بما قبلها وبما بعدها معا.
فالسياق متصل ببعض سواء أكانت الآيات نزلت دفعة واحدة أم متتابعة. أم كان ترتيبها ترتيبا موضوعيا، وهذه الاحتمالات مما تلهم صيغة الآية وموضوعها والآيات السابقة واللاحقة معا. ولقد عرفت هذه الآية بآية الكرسي، وأثرت أحاديث عديدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها، منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لكلّ شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيّدة آي القرآن هي آية الكرسي» «1» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي بن كعب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا المنذر أيّ آية معك من كتاب الله أعظم؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فضرب على صدري وقال: ليهنك
__________
(1) التاج ج 4 ص 16.(6/468)
العلم يا أبا المنذر» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذرّ جاء فيه: «قلت: يا رسول الله أيّ ما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم» «2» .
وهذه هي المرة الأولى والوحيدة التي وردت فيها كلمة (الكرسي) منسوبة إلى الله تعالى. وقد وردت في سورة (ص) منسوبة إلى سليمان (عليه السلام) ، وأصل الكلمة المقعد أو السرير الذي يجلس عليه المرء.
ولقد تعددت الأحاديث والأقوال التي يرويها المفسرون في صفة كرسي الله عز وجل هو كما هو شأنه في صدد العرش والقلم واللوح على ما شرحناه في تفسير سور القلم والتكوير والبروج. وليس فيما يوردونه عن كرسي الله حديث صحيح، وفيما يوردونه ما لا يخلو من غرابة ولا ينسجم مع صفات الله وتنزهه. فمن ذلك مثلا ما يرويه الطبري عن السدي قال: «السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يديّ العرش، ويجلس الله على العرش والكرسي موضع قدميه» .
وحديث يروى عن ابن زيد لم يرد في كتب الصحاح عن النبي قال: «والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلّا حلقة ملقاة بأرض فلاة» .
وحديث يرويه الطبري عن عبد الله بن خليفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن كرسيّه وسع السموات والأرض وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، وإن له أطيطا كأطيط الرحل الحديد إذا ركب» .
وإلى جانب هذه الأحاديث وأمثالها يورد المفسرون عن أهل التأويل ما يفيد أن الكلمة مستعملة على سبيل المجاز وأن المقصود منها بيان عظمة ملك الله وسلطانه. وهذا هو الأظهر المنسجم مع صفات الله وتنزهه كما هو المتبادر. وفي اللغة (كرس الرجل) بمعنى كثر علمه. وقد رأى بعضهم بين هذا وبين مقام حكمة
__________
(1) التاج ج 4 ص 15.
(2) انظر تفسير ابن كثير وفي هذا التفسير وغيره أحاديث أخرى في آية الكرسي فاكتفينا بما أوردناه.(6/469)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
كرسيه صلة ما فقال إن الجملة قد تعني إحاطة علم الله بما في السموات وما في الأرض. ومهما بدا في هذا من تكلف فإنه لا يخلو من وجاهة والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
. (1) الطاغوت: جاء في القرآن مرادفا للشيطان. وجاء بمعنى الأوثان وجاء بمعنى الشركاء وأصل معنى الكلمة شديد الطغيان، والطغيان هو الظلم والبغي والعدوان، وجاء كناية عن كاهن أو ساحر أو قاض يهودي «1» .
تعليق على الآية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ... إلخ والآية التالية لها
في الآيتين: هتاف بالناس أن لا إكراه في الدين ولا قسر عليه، وأن قد تبين الرشد من الغي والهدى من الضلال بما أنزل الله من آيات بينات فالذي يختار الإيمان ويسلك طريق الرشد ويكفر بالطاغوت فيكون قد نجى نفسه واستمسك بعروة متينة لا تنفصم والله سميع لكل ما يقوله الناس عليم بنواياهم وأعمالهم.
وتقرير تعقيبي: فالله هو ولي الذين يؤمنون به ينصرهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، والطاغوت هو ولي الذين كفروا بالله يقودهم إلى الظلمات ويبعدهم عن النور وهؤلاء هم أصحاب النار الذين استحقوا الخلود فيها.
وقد روي أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام أسود
__________
(1) انظر آيات النساء [51 و 60] والمائدة [60] والأعراف [27] ففيها كل هذه المعاني.(6/470)
وكان يريد إكراهه على الإسلام فرفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت. وهناك روايات وأقوال أخرى، منها أن نساء الأنصار كن ينذرن إن ولدن ذكرا أن يجعلنه في اليهود أو النصارى ابتغاء طول عمره فنشأت منهم ناشئة على ذلك فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام فرفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت. ومنها أنه كان لأنصاري ابنان تنصّرا على يد تجار من الشام وهاجرا إليها فأراد أبوهما اللحاق بهما لردهما إلى الإسلام فنزلت «1» . وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والانسجام تام بين الآيتين وفحواهما تقريري عام، ويتبادر لنا أنهما غير منقطعتين عن السياق وبخاصة عن آية الكرسي بحيث يرد أن تكون حكمة التنزيل شاءت تنزيلهما مع تلك الآية أو بعدها لبيان ما في الآية من الدلائل الباهرة على عظمة الله وكمال صفاته ووحدانيته ووجوب عبادته وحده واتباع رسوله الذي أرسله مبشرا بدينه، وأن هذا لا يحتاج إلّا إلى رغبة صادقة بدون إكراه بعد أن ظهر الرشد من الغي والهدى من الضلال بهذه القوة والنصاعة. وهذا لا ينفي أن تكون بعض الأحداث التي روتها الروايات قد كانت ترفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فتلا الآية الأولى كحكم فصل في الموقف فالتبس الأمر على الرواة، والله أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون ويقولونها في مدى الآية الأولى.
من ذلك أن حكم الآية خاص بأهل الكتاب وبغير العرب فلا يجوز إكراههم على الإسلام إذا قبلوا الجزية، وأنها منسوخة بالنسبة لمشركي العرب فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل. ومن ذلك أن الآية نزلت قبل الإذن بالقتال وإن الإذن نسخها بالنسبة للجميع فصار لا يقبل من أحد إلّا الإسلام ويكرهون عليه. ثم أذن القرآن بأخذ الجزية من أهل الكتاب وحسب.
وليس شيء من هذه الأقوال واردا في كتب الصحاح، ولقد عالجنا هذا الموضوع في تعليق مسهب عقدناه في تفسير سورة (الكافرون) في صدد حرية التدين في الإسلام لكل ذي نحلة، وانتهينا إلى أن هذا المبدأ المنطوي في سورة
__________
(1) انظر الروايات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.(6/471)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
(الكافرون) ثم في الآية التي نحن الآن في صددها أمر محكم غير منسوخ. وأن قتال المسلمين لغيرهم هو بالنسبة للأعداء المعتدين وأن على المسلمين أن يكفوا عن قتال عدوهم إذا انتهوا عن موقفهم العدائي العدواني بالإسلام أو بالصلح كجزية أو بدون جزية حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين دون تفريق بين كتابي وعربي وغير عربي ومشرك وأيدنا ذلك بالآيات والأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه.
والآيتان في حد ذاتهما جملة تامة، وورود المبدأ القرآني الجليل فيهما وبعد سياق أمر المؤمنين فيه بالقتال والإنفاق في سبيل الله ذو معنى خاص حتى تؤكد محكمية هذا المبدأ كما هو المتبادر.
وفي عبارة فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ بعد عبارة قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ينطوي تقرير كون الناس لهم عقول وإرادة اختيارية يستطيعون أن يميزوا بها بين الرشد والغي والهدى والضلال وكون اختيار الإيمان أو الكفر بعد ذلك هو من مكتسبات أصحابهما وهم الذين يتحملون تبعاتهما.
وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة التي مرت أمثلة عديدة منها كما أنه يدعم المبدأ القرآني الذي ينطوي في الآيات.
[سورة البقرة (2) : آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
. (1) حاجّ: حاجج وجادل.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ... إلخ
في الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية إلى قصة الملك الذي جادل إبراهيم في الله(6/472)
اغترارا بما كان له من ملك وسلطان، وقد قال له إبراهيم: إن ربي يحيي ويميت، فرد الملك قائلا مغالطا: أنا أيضا أفعل مثله فأقتل من أشاء فيموت وأعفو عمن أشاء فيحيا. فعمد إبراهيم إلى حجة لا تتسع للمغالطة فقال له: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الملك الكافر أمام التحدي وعجز. وانتهت الآية بتقرير أن الله لا يهدي القوم الظالمين أي الذين غلبت عليهم صفة الظلم والانحراف.
وجمهور المفسرين «1» على أن هذه المحاججة وقعت بين إبراهيم وبين نمرود ملك بابل في سياق تمرد إبراهيم على الوثنية وإعلانه إيمانه بالله وحده وإسلامه النفس إليه وقد عزوا ذلك إلى علماء الأخبار من التابعين وتابعيهم، وهذه القصة ككثير غيرها مما يتصل بإبراهيم غير واردة في سفر التكوين مثل جميع القصص التي وردت في القرآن في صدد مواقف إبراهيم مع أبيه وقومه ومواقفهم معه على ما نبهنا عليه في سور سبق تفسيرها. ولا يمنع هذا أن تكون وردت في أسفار كانت متداولة بين اليهود بل هذا ما نعتقده على ما شرحناه في المناسبات المماثلة السابقة وتكون القصة والحالة هذه مما يعرفه العرب السامعون.
وورود القصة بعد تقرير صفات الله وعظمته ووضوح الرشد من الغي يلهم أنها قد استهدفت التذكير والعظة وهذا هو شأن القصص القرآنية. كأنما أريد أن يقال إنه إذا كان أناس يقفون من دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الله وحده موقف المكابرة والعناد ويعمون عن الرشد مهما أفحمتهم البينات فقد كان ممن سبقهم من يقف مثل هذا الموقف. والفقرة الأخيرة من الآية توثق هذا التوجيه بما فيها من نعي على الظالمين وتنديد بهم نعيا وتنديدا ينطويان على تقرير كون عدم إسعاد الظالمين المنحرفين عن جادة الحق وهدايتهم هو بسبب ما غلب عليهم من خبث وارتكسوا فيه من ظلم وانحراف حيث يمنعهم ذلك من الاهتداء بهدي الله ونوره. وقد تكون الفقرة منطوية في ذات الوقت على قصد التسرية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا تجاه مواقف
__________
(1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والكشاف.(6/473)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
العناد والمكابرة التي كان يقفها الظالمون البغاة، وهم أكثر العرب وزعماؤهم في الظرف الذي نزلت فيه الآية والذي يرجح أنه أوائل العهد المدني.
وفي كتب التفسير بيانات على هامش هذه القصة مروية عن علماء الأخبار من التابعين وتابعيهم مشوبة بالإغراب والخيال. وجاء فيها ما جاء أن اسم هذا الملك هو نمرود بن كنعان وأنه أول من تجبر وادعى الربوبية. وأنه أحضر سجينين محكومين بالإعدام فعفى عن أحدهما وأعدم الآخر وكان هذا تصديقا لما قاله إنه هو أيضا يحيي ويميت وأن هذا الملك هو الذي أمر بإلقاء إبراهيم في النار وأن الله سلط على جيشه بعوضا ستر السماء فأكل لحومهم وشرب دماءهم ثم سلط عليه بعوضة دخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ثم هلك.
وأنه بنى صرحا إلى السماء فدمره الله وأن هذا هو ما أشير إليه في آية النحل: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [26] .
وعلى كل حال فإن هذه البيانات قد تؤيد ما قلناه من أن هذه القصص كقصص إبراهيم (عليه السلام) الأخرى التي لم ترد في سفر التكوين ووردت في القرآن مما كان متداولا في البيئة العربية عن طريق اليهود على الأرجح فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها بالأسلوب الذي جاءت به تعقيبا على الآيات السابقة وللمقاصد التي نبهنا عليها والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
. (1) لم يتسنه: لم يتغير من مرّ السنين.(6/474)
(2) ننشزها: نرفعها. وقرئت بالراء بمعنى نحييها أو نطهرها.
تعليق على الآية أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ... إلخ
وفي هذه الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية بقصة ثانية وهي قصة شخص مرّ على مدينة مدمرة خاوية فتساءل تساؤل المستبعد اليائس كيف يمكن أن يحيي الله هذه المدينة؟ فأماته الله مئة عام ثم أحياه وسأله كم لبثت؟ فقال: يوما أو بعض يوم ظنا منه أنه كان نائما فقال الله تعالى له: بل مئة عام كاملة. وإنك لترى طعامك وشرابك لم يتغيرا طيلة هذه المدة في حين أن حمارك قد مات ولم يبق منه إلا عظام نخرة. وها أنا آمر فتجتمع عظامه ثم تكتسي لحما ثم تدب فيها الروح فيكون ذلك آية لك وللناس على قدرة الله على ما تستبعده وتتساءل عنه، وحينئذ اقتنع الرجل بقدرة الله على كل شيء وأعلن اعترافه بها.
وروح الآية وفحواها يلهمان أن الرجل كان مؤمنا وأهلا لوحي الله وخطابه، وأنه قال ما قال في حالة نفسية بائسة.
ويروي المفسرون عن علماء الأخبار أن القصة من قصص بني إسرائيل وقد رووا عنهم تفصيلات مسهبة لها فيها شيء مما ورد في بعض أسفار العهد القديم المتداولة اليوم مع شيء غير وارد فيها. وفي هذا وذاك إغراب وخيال وخلاصة ذلك أن الذي مرّ بالقرية هو أحد أنبياء بني إسرائيل مع اختلاف في اسمه بين العزير وأرميا بن حلقيا الذي قال بعضهم إنه الخضر. مع التركيز على رجحان كونه أرميا وكون القرية هي بيت المقدس. وأن قوله كان بعد تدمير بختنصر ملك بابل لهذه المدينة وسبيه أهلها حيث وقف على أطلالها باكيا نادبا يائسا من عمرانها ثانية.
فأماته الله مائة عام مع حفظ جسده من البلى وكان حماره هلك بعده وكان معه زوادة من تين وعنب وماء ثم بعثه الله من موته وأنشر عظام حماره وبعث فيه الروح وهو يعاين ذلك ليثبت له أنه مات مائة عام حيث ظن أنه نام طول النهار فقط وأيد ظنه عدم تغير زوادته وليثبت له كذلك أن الله قادر على إحياء المدينة كما أحيا(6/475)
الحمار بعد هلاكه وتفتت أعضائه وعظامه. وأن الله لم يلبث أن أمر ملكا عظيما من ملوك الفرس ليرسل قومه ويعمروا بيت المقدس ففعل، وأن ذلك قد تم أثناء موت أرميا فلما أحياه الله ورأى معجزة الحمار والزوادة ثم شاهد ما كان من تجدد عمران المدينة. وننبه على أن هذه القصة لم ترد في الأسفار وإنما الذي ورد في الأسفار بكاء أرميا ومراثيه على خراب القدس ثم سماح ملك الفرس الذي قوض مملكة بابل لمن شاء من المسبيين من الإسرائيليين بالعودة إلى القدس وتجديدها ففعلوا «1» .
وعلى كل حال فرواية علماء الأخبار من الصدر الأول لهذه القصة بإسهاب استغرق في تفسير الطبري ثلاث عشرة صفحة تدل على أنها مما كان متداولا في أوساط اليهود ثم في البيئة العربية عن طريقهم في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم. ونعتقد أن ذلك مما كان واردا في بعض القراطيس اليهودية التي لم تصل إلينا.
وفي صدد القصة نرى من واجب المسلم أن يقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده وأن يؤمن أنه لا بد لإيرادها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة يمكن أن يكون منها قصد التمثيل على تنوع مواقف الناس من الله تعالى. فالملك الكافر أنكر الله وقدرته واغتر حتى ظن نفسه ندّا لله وهذا الرجل سارع إلى الاعتراف بقدرة الله حينما رأى الدليل لأنه حسن النية راغب في الحق. وهكذا تتصل الآية بسابقتها وتتصل الآيتان بالسياق جميعه اتصال تذكير وتمثيل وموعظة وتسرية، وتستحكم الحجة القرآنية على السامعين لأن ما فيها متسق مع حوادث يعرفونها.
ولقد أريد صرف هذه القصة إلى مفهوم معنوي ورمزي، ونحن لا نطمئن إلى مثل هذا الأسلوب ولا نرى فيه طائلا. فالقصة لم تكن مجهولة كما تلهم روح الآية والروايات التي وردت في سياقها معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فأوردت على سبيل التذكير والتمثيل والعظة، والله أعلم.
__________
(1) انظر سفر الملوك الثاني في الطبعة البروتستانتية الإصحاح 24 و 25 وسفري نبوءة أرميا ومراثي أرميا وسفري عزرا ونحميا.(6/476)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
. (1) فصرهن إليك: اضممهن إليك. ومما قيل في معنى (صرهن) قطعهن.
من التصرية بمعنى القطع. أو إنها بمعنى إمالة وجوههن إليه لذبحهن لأن الذبح يكون كذلك.
تعليق على الآية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ... إلخ
وفي هذه الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية إلى قصة ثالثة، حيث سأل إبراهيم ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى بعد ما يموتون فسأله عما إذا كان غير مؤمن بقدرته حتى يسأل ذلك فأكد إيمانه ولكنه أبدى رغبته في الاطمئنان العياني فأمره حينئذ أن يمسك أربعة من الطيور ويذبحها ويقطع أجزاءها ويوزعها على جبال مختلفة ثم يدعوها إليه فتأتي إليه حية مسرعة. وانتهت الآية بخطاب موجه إليه ليعلم أن الله عزيز لا يعجزه شيء، حكيم لا يفعل إلا ما فيه الصواب والسداد.
ومع أن الآية لم تذكر نتيجة التجربة فإنها منطوية في أسلوبها كما هو المتبادر والمقدر على أن إبراهيم فعل ما أمره الله وأن الأجزاء تجمعت وعادت إليها الحياة بقدرة الله وسعت إلى إبراهيم (عليه السلام) .
ولقد روى الطبري وغيره عن علماء الأخبار روايات وبيانات في صدد محتوى الآية. منها رواية في صيغ عديدة متقاربة تفيد أن إبراهيم (عليه السلام) رأى جيفة قد بليت وتقسمتها الرياح والسباع والجوارح فقال سبحان الله كيف يحيي(6/477)
الله هذه. أو قال: ربّ قد علمت أنك قادر على ذلك فأرني كيف يكون. ومنها أنه لما انتهى من محاججة الملك الكافر وقع في نفسه أن يسأل الله كيف يحيي الموتى. ومما روي في صدد تنفيذ الأمر أن الله أمره أن يأخذ ديكا وطاووسا وغرابا وحمامة ويقطعها ويخلط لحومها بريشها ودمائها ويجعل على كل جبل جزءا من هذا الخليط ثم يناديها ففعل فأخذت أجزاء كل طير تتجمع حتى تم التجمع ثم دبت فيها الحياة وجاءت إليه ساعية.
وليس شيء مما رواه المفسرون واردا في كتب الصحاح ولكن هذه البينات المروية من صدر الإسلام تفيد أن القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره. وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين المتداول اليوم قصة فيها شيء من التشابه مع هذه القصة خلاصتها أن الله لما بشر إبراهيم بأن نسله سيكون كثيرا لا يحصى، قال له: وكيف أعرف ذلك وأنا عقيم، وليس لي وريث من صلبي؟ فقال له: خذ عجلة ثنية وعنزة ثنية وكبشا ثنيا ويمامة وشطرها أنصافا ثم اجعل كل شطر قبالة صاحبه وتقف القصة في السفر عند هذا الحد.
ومهما يكن من أمر فيمكن أن يقال إن القصة انطوت على موقف نبي من أنبياء الله المعروفين أبدى رغبة في الاطمئنان العياني لقدرة الله فحقق الله رغبته.
ومن الجائز ونحن نرجح ذلك أن تكون القصة التي وردت في سفر التكوين شيئا مشابها لها كانت مما يتداوله اليهود في أسفار أخرى وأن سامعي القرآن كانوا يعرفونها عن طريقهم.
وفي صدد القصة ذاتها نقول هنا كما قلنا قبل: إن من واجب المسلم أن يقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده بالأسلوب الذي وردت به وأن يؤمن بأن في ذلك حكمة قد تكون أو قد يكون منها التذكير بموقف آخر من مواقف المؤمنين بالله وقدرته السامعين يعرفونه لأحد عظام أنبياء الله الذين كان ملء سمعهم وكانوا ينتسبون إليه ليكون فيه العظة والعبرة لهم ثم لسامعي القرآن وقارئيه عامة، والله تعالى أعلم.(6/478)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
ونرجح أن القصص الثلاث نزلت متتابعة ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك، بل لا نستبعد أن تكون نزلت دفعة واحدة لتكون بمثابة تعقيب على الآيتين [256 و 257] وبينهما لبيان مواقف متنوعة لكافر ومؤمنين، والله تعالى أعلم.
وهذه القصة والتي قبلها تنطويان على تبرير الرغبة في الطمأنينة والاستزادة من معرفة آلاء الله ومشاهد عظمته وبراهين قدرته إذا لم تكن منبعثة عن خبث ومكر وجحود ومكابرة. فليس ما يمنع المؤمن من ذلك وليس في هذا ما يمكن أن يكون دليلا أو مظهرا على شك المؤمن في إيمانه بالله وقدرته. فالشك والإيمان لا يمكن أن يجتمعا وكل ما هناك أنه يصح أن يود المؤمن رؤية ما يجعل يقينه الغيبي يقينا عيانيا. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا نبويا جاء فيه: «نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي» .
وروى المفسرون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك حينما رأى ناسا يظنون أن إبراهيم شكّ في قدرة ربّه وإيمانه به، وأوّلوا الحديث على ضوء هذه الرواية بقصد نفي الشك عن إبراهيم وكأنما أراد أن يقول نحن لا نشك فأولى بإبراهيم أن لا يشك «1» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 274]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) .
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 59 وذيلها وانظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي.(6/479)
(1) منا: الكلمة هنا بمعنى تعداد النعمة على المنعم عليه على سبيل التفضل وتحميل الجميل.(6/480)
(2) الأذى: هنا بمعنى أي عمل أو قول أو إشارة فيها جرح نفس المتصدق عليه وأذيتها.
(3) صفوان: الصخرة الملساء.
(4) وابل: المطر الكثير المنهمر.
(5) صلدا: أجرد أو أملس.
(6) لا يقدرون على شيء مما كسبوا: لا يحصلون على شيء مما زرعوه ولا ينتفعون به.
(7) ربوة: الأرض السمينة العميقة التراب أو الأرض المرتفعة عن الماء الجارف.
(8) طل: الرذاذ أو المطر الخفيف أو الندى.
(9) إعصار فيه نار: كناية عن الريح الشديدة الحارة أو ريح السموم.
(10) الطيبات: هنا بمعنى الثمر الجيد لا الرديء ولا الفاسد.
(11) ولا تيمموا: ولا تقصدوا.
(12) الخبيث: هنا بمعنى الشيء الرديء من الثمر.
(13) إلا أن تغمضوا فيه: إلا أن تأخذوه على كره وغضاضه إذا أهدي أو أعطي لكم أو تبخسون ثمنه عن ثمن الجيد حينما تتقاضون مالكم على أصحابها من دين وحقوق.
(14) الحكمة: هنا بمعنى الإصابة والسداد في القول والعمل.
(15) الذين أحصروا في سبيل الله: قيل إنّها تعني الذين حبسوا أنفسهم أو حبسوا على الجهاد. وقيل إنها بمعنى الذين حصروا أو حوصروا من العدو في أرضه.
(16) ضربا في الأرض: بمعنى سعيا في سبيل الرزق.
(17) التعفف: عدم الطلب والسؤال.
(18) إلحافا: تشديدا بالسؤال والطلب.(6/481)
تعليقات على الآية مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... إلخ وما بعدها من [261- 274]
في هذه الآيات:
1- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعا الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
2- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
3- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
4- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه لأنه ليس صادرا منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.(6/482)
5- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقانا ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفا سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلا أو طلا.
6- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياء ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
7- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلّا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
8- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعدا إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
9- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.(6/483)
10- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحث الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهدا بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
11- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن إعطاءها خفية أفضل وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
12- وخطاب موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعا فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين: فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إذا ما كان ابتغاء وجه الله وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
13- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
14- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقا بحيث يصح أن يقال إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقا في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلا رائعا في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على(6/484)
الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معا.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [261] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهما) من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوما من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [267] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [272] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [271] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [273] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [276] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنويها بعلي بن أبي طالب لأنه كان ينفق ماله في الليل والنهار والسر والعلن وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح باستثناء حديث رواه الترمذي في صدد الآية [267] حيث روى عن البراء قال: «كنّا معشر الأنصار أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته وكان(6/485)
الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه بالمسجد. وكان أهل الصفة يأكلون منه وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يأتي أحدهم بالقنو فيه الشيص والخشف فأنزل الله الآية» «1» . ويمكن أن يورد ملاحظات على بعض هذه الروايات مثل كون الآية [261] في صدد ما أنفقه عثمان وعبد الرحمن في غزوة تبوك التي كانت في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم بينما الآيات كما يبدو مبكرة. والروايات المروية في صدد الآيات [267 و 272 و 274] منطبقة على الآيات وقد تكون صحيحة، وحديث البراء يدعم صحة الرواية المروية في نزول الآية [267] .
على أننا نلحظ من جهة أخرى أن آيات الفصل منسجمة مع بعضها وتؤلف مجموعة أو وحدة مترابطة بحيث يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. ونرجح أن فيها عودا على بدء وأنها متصلة بأول الفصل السابق الذي فيه دعوة إلى القتال والإنفاق في سبيل الله وأن الآيات التي جاءت بين هذه وتلك جاءت على سبيل الاستطراد والتمثيل والموعظة. وهو أسلوب مألوف في القرآن ولا يقتضي هذا أن تكون جميع هذه الفصول نزلت دفعة واحدة إذ من المحتمل أن تكون نزلت متتابعة أو شيئا بعد شيء ثم وضعت في ترتيب وسياق واحد للتناسب أو التقارب. ولا يمنع هذا أن يكون شيء مما ذكرته الرواية المروية في صدد الآيات [267 و 272 و 274] كان يقع في ظروف نزول الآيات فاحتوت الآيات تنبيهات ومواعظ في صددها.
ولقد احتوت الآيات من بليغ التلقينات وجليل المواعظ والتوجيهات ما بلغ الذروة العليا التي لا يطاولها شيء في بابها والتي تظل عنوانا خالدا من عناوين التلقينات القرآنية الخالدة سواء أفي التنبيه والتشديد على تقبيح المن والأذى وتفضيل الكلمة الطيبة على الصدقة التي يرافقها منّ وأذى، أم في إيجاب الإنفاق من الطيب الحلال دون الخبيث. والتنبيه على أن الله هو الذي ييسر للناس ما ينالونه من رزق، فهو ماله وعليهم أن ينفقوا الطيب الحلال منه، أم في الحث
__________
(1) التاج ج 4 ص 60- 61.(6/486)
الشديد على الإنفاق في سبيل الله أولا وعلى الفقراء إطلاقا في أي وقت وحال ثانيا، وبقطع النظر عن الجنس والدين لأن المتصدق إنما يتصدق قربة عن نفسه وابتغاء وجه الله وأن الهدى الله فلا ينبغي أن يضيع الفقير ويحرم لمجرد أن دينه غير دين الغني، أم في التنبيه على فضل إخفاء الصدقات لتكون خالصة لوجه الله غير مؤذية وجارحة للمتصدق عليه، أم في التنبيه على أن الامتناع عن التصدق هو من وساوس الشيطان وتخويفه صاحب المال من الفقر مع أن الله يعد المتصدقين المغفرة وزيادة الفضل، أم في وجوب الاهتمام للفقراء الذين يتعففون عن السؤال أو الذين يمنعهم حبسهم أنفسهم على سبيل الله ومصلحة المسلمين أو حبس الظروف القاهرة لهم عن التكسب وضمان رزقهم، أم في التنبيه على أن التزام وصايا الله هو من الحكمة البليغة التي يجب أن يتذكرها ويعمل بها ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة، أم في التنبيه على أن المنحرفين منها هم الظالمون لأنفسهم الذين لا يمكن أن ينصرهم الله أم في التشويق العظيم المنطوي في وعد الله عز وجل بمضاعفة أجر ما ينفقه المسلم أضعافا مضاعفة.
وإذا لوحظ أن في القرآن المكي والمدني آيات كثيرة أخرى في الحضّ على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء والمساكين والتنويه بمن يفعل ذلك والتنديد بمن يقصر في ذلك مما مرّت أمثلة كثيرة في السور التي سبق تفسيرها وما يأتي في سور آتية يظهر عظم عناية حكمة التنزيل بهذين الأمرين الخطيرين من حيث إن الأول هو سبيل قوة الإسلام والمسلمين ودفع العدوان عنهما وضمان عزتهما وحريتهما والدعوة إلى الدين الإسلامي ومبادئه وما يؤدي ذلك إليه من انتشار هذا الدين الذي رسخه الله ليظهر على الدين كله وكل هذا منطو في تعبير سَبِيلِ اللَّهِ ومن حيث أن الثاني هو سبيل سد حاجة المعوزين من المسلمين الذين يؤلفون طوائف كبيرة جدا في كل مجتمع وإيجاب ذلك على الميسورين الذين هم الأقلية حتى لا تتعطل الدعوة إلى الإسلام ولا يتعرض المسلمون للأخطار والعدوان وحتى تخف المرارة في نفوس تلك الطوائف ضد الأقلية الموسرة ويتفادى بذلك اضطراب المجتمع الإسلامي.(6/487)
وإذا لوحظ أن القرآن قرر في هذه الآيات وأمثالها مما سبق تفسيره وما يأتي في سور أخرى أن ما في أيدي أصحاب الأموال من أموال هي أموال الله وأنه إنما جعلهم مستخلفين فيها وأنه هو الذي رزقهم بها ويسرها لهم بدا جانب آخر من روعة التلقين القرآني فيه تخفيف لوقع الإنفاق والأمر به على النفوس وإيذان للأغنياء بأنهم ليسوا إلا وكلاء على مال الله فيجب عليهم أن يطيعوا أمر صاحبه وينفقوه فيما يأمرهم به، وبأنهم ليس لهم حقّ في المنّ على من يعطونه إياه من عباد الله وأذيتهم بسبب ذلك.
ولقد روى المفسرون في سياق آيات هذه السلسلة أحاديث نبوية عديدة فيها هي الأخرى توجيهات وتلقينات بليغة المدى متسقة مع توجيهات الآيات وتلقيناتها وتوضيح لما سكت عنه القرآن. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة المعتبرة ومنها ما ورد في كتب ومساند أئمة آخرين. من ذلك حديث رواه الطبري في صيغ عديدة ومن طرق مختلفة في سياق الآية [268] عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ للشيطان لمّة من ابن آدم وللملك لمّة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) «1» .
ومن ذلك حديث أورده ابن كثير في صدد الآية [263] برواية مسلم عن أبي ذرّ قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب» «2» . وحديث آخر في صدد الآية أورده ابن كثير بإخراج ابن مردويه جاء فيه: «لا يدخل الجنّة منّان» وأورد ابن كثير في صدد الآية [270]
__________
(1) هذا الحديث رواه الترمذي أيضا في سياق الآية [268] ، انظر التاج ج 4 ص 61.
(2) انظر هذا الحديث في التاج 2 ص 39 و 40 وانظر هذا الحديث في التاج ج 3 ص 40. [.....](6/488)
حديثا رواه الشيخان أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه منهم رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفقه يمينه» «1» . وأورد ابن كثير في سياق الآية [273] حديثا عن سعد بن أبي وقاص قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت درجة أو رفعة» . وأورد ابن كثير في سياق الآية [268] حديثا رواه البزار عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيّب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن تبارك وتعالى بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه أو فصيله» «2» . وحديثا آخر رواه البزار جاء فيه: «إن الخبيث لا يكفّر الخبيث ولكن الطيب يكفّر الخبيث» «3» . وهناك أحاديث يرويها المفسرون في صدد التنديد بالإلحاح والإلحاف في السؤال وفي سياق ما جاء في الآية [273] من التنويه بالذين لا يسألون الناس إلحافا منها حديثان أوردهما الطبري عن قتادة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول إن الله يحبّ المتعفّف ويبغض السائل الملحف» و «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله تعالى كره لكم ثلاثا: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» .
وفي كتب التفسير أحاديث أخرى من باب بما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه.
وهناك أحاديث أخرى في تعريف المسكين ومن تحلّ عليه الصدقة ومن يحلّ له السؤال أجلنا إيرادها إلى تفسير آية مصارف الصدقات في سورة التوبة لأنها أكثر ملاءمة. وهناك أحاديث كثيرة في الإنفاق ووعد الله بالإخلاف على المنفقين أوردنا طائفة منها في سياق تفسير الآية [39] من سورة سبأ فلم نر ضرورة لإيرادها ثانية في مناسبة ما في الآيات من حثّ على الإنفاق وتنويه بالمنفقين واكتفينا بهذا التذكير. وبمناسبة التنديد بالذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الوارد في الآية [264] نذكر أننا أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الماعون ونكتفي بهذا التذكير دون إيرادها ثانية.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) انظر هذين الحديثين في مجمع الزوائد ج 3 ص 112.
(3) انظر هذين الحديثين في مجمع الزوائد ج 3 ص 112.(6/489)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
ولقد استطرد رشيد رضا في مناسبة الآية [273] إلى ذكر بعض طوائف المسلمين يعيشون في الزوايا والتكايا عيشة تبطل وكسل على ما يوقف عليها من طعام ومال بزعم أنهم متفرغون لعبادة الله ومشبهين أنفسهم بأهل الصفة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين روي أن الآية نزلت في شأنهم على ما ذكرناه قبل برغم ما في الآية من صراحة بأنهم أحصروا في سبيل الله. وأدخل في استطراده مشايخ الطرق ومريديهم الذين لا يعملون ولا يتكسبون ويعيشون على الناس وذكرنا ما يفعله هؤلاء من فرض أنفسهم على الناس وما يقدمون عليه من أذى وانتقام من الذين لا يضيفونهم ولا يهدون إليهم الهدايا وندد بهم ونبه على ما في ذلك كله من شذوذ عن نصوص وتلقينات كتاب الله وأحاديث رسوله، وفي هذا حق وسداد مع القول إن هذه الصورة آخذة بالتضاؤل.
[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
. (1) الربا: أصل معنى الكلمة الزيادة والنمو وفي الآيات جملة فيها هذا(6/490)
المعنى وهي يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وهذا المعنى ملموح في آية سورة الروم [39] . ثم صارت علما على أخذ زيادة على مال متجانس بدون عوض ولو كان المال دينا.
(2) الذي يتخبطه الشيطان من المس: تشبيه بحالة المصروع حيث كان الناس من القديم يعتقدون أن الصرع هو مسّ جني فخوطبوا بالتعبير المألوف عندهم.
(3) يمحق الله الربا: يذهب ببركة مال الربا ويتلفه.
(4) فأذنوا بحرب من الله ورسوله: إنذار لهم وتنبيه بأنهم إن لم يتركوا الربا يكونوا في حالة حرب مع الله ورسوله.
(5) وإن تبتم: فإن كففتم عن تعاطي الربا.
(6) نظرة: انتظار وإمهال.
(7) ميسرة: حالة اليسر.
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات:
1- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
2- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات: فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقا يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
3- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات: فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين.
والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.(6/491)
4- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة:
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
5- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حربا.
6- وأمر آخر موجه إليهم أيضا: فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
7- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
8- وجملة وَإِنْ تُبْتُمْ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [275] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.(6/492)
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ الروم: [39] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون «1» أن الآية [278] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [281] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكا وموضوعا، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاما وثيقا، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولا، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري «2» حديثا في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه:
«آخر آيه نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم آية الرّبا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [281] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولقد روي أن النبي قال في
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري.
(2) انظر التاج ج 4 ص 62.(6/493)
حجة وداعه فيما قال «1» : «إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به، لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قاله المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا «2» أحاديث وروايات وأقوالا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفا بالربا في الإسلام وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلا أو وزنا أو نوعا بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ امرأ آخر ذهبا أو فضة أو برّا أو تمرا وأخذ بدل الذهب ذهبا وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برّا وبدل التمر تمرا بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء دينا مؤجلا. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنسا ووزنا وكيلا. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيرا أو تمرا أو أعطى شعيرا فتقاضى بدله برّا أو نقدا من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية (ربا التفاضل) وفي العملية المؤجلة (ربا النسيئة) . ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم
__________
(1) انظر ابن هشام ج 4 ص 275 والتاج ج 2 ص 143، وحديث حجة الوداع طويل مروي عن جابر بن عبد الله.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير والطبري.(6/494)
إذا كان يدا بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» «1» . وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال: التمست صرفا بمائة دينار فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة. وعمر يسمع فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والبرّ بالبرّ ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء» «2» .
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم يرون الزيادة ربحا سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعا وشراء فنبهت الآيات على الفرق بين العملين لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافا مضاعفة ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته.
وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) .
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافا مضاعفة كخطوة أولى ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريما حاسما. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا
__________
(1) التاج ج 2 ص 194.
(2) التاج ج 2 ص 194.(6/495)
الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) . وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سائر المسائل بالأسلوب الذي كان يتلاءم مع كل من العهدين المكي والمدني.
ولقد استهدفت الآيات التي نحن في صددها- بالإضافة إلى تشنيعها بالربا وتحريمه- بثّ روح البرّ والتسامح والتكافل بين المسلمين. فإذا ما ضاق الأمر على امرئ فاحتاج إلى ما يفرج به ضيقه وجب أن ينال حاجته من أخيه القادر برّا ورحمة وأريحية بدون عوض أو زيادة. وإذا استحق دين على امرئ وكان معسرا وجب أن ينال التسامح والإمهال برا ورحمة وأريحية بدون عوض أو زيادة كذلك، وإذا كان إعساره شديدا وجب على الدائن أن يتنازل عن دينه صدقة لوجه الله. وفي هذا ما فيه من الروعة والجلال والتلقين المستمر المدى.
ومشهد المحتاجين والمعسرين وما يتعرضون له من إرهاق المرابين واستغلالهم وما يجرّه الربا في مثل هذه الظروف من خراب ودمار ويثيره من أحقاد وضغائن ويسببه من ذلة وهوان واضطراب وقلق من المشاهد المعروفة التي تثير دائما الآلام والاشمئزاز وتجعل وجه المجتمع الذي تقع فيه كالحا قاسيا، وتبرر الحكمة الربانية في منع أسبابها هذا الأسلوب القوي الحاسم وتبرز قصد البرّ والرأفة والمعونة والتسامح والتصدق، وبكلمة ثانية التكافل الاجتماعي بين المسلمين يجعل ذلك التلقين الجليل قويا جليلا بليغا.
ومما ذكره المفسرون أن الاشتغال بالربا من شأنه أن يضعف الرغبة في العمل والنشاط الاقتصادي والتجاري لأنه ربح يأتي بيسر وسهولة كالميسر. وهذا أيضا(6/496)
تعليل وجيه يضاف إلى التعليلات السابقة.
وفي سورة النساء آية تذكر أن الله قد نهى بني إسرائيل عن الربا وهي:
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) . ونصوص أسفار العهد القديم المتداولة متباينة ففي بعضها نهي عن أخذه من بني إسرائيل فقط كما جاء في الإصحاح (22) من سفر الخروج و (23) من سفر التثنية. وفي بعضها نهي مطلق وتنديد بأخذه كما جاء في الإصحاح (14) من المزامير و (28) من الأمثال و (18) من نبوءة حزقيل. ونرجح أن نصّ السفرين الأولين محرف ما دام القرآن يذكر أن الله قد نهاهم عنه مطلقا والأسفار الأخرى تؤيد ذلك.
وآية النساء على كل حال تقرر أنهم خالفوا شريعة تحريم الربا وتعاطوه في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ممتدا إلى ما قبله.
ولقد كان العرب المتمولون يتعاطونه كذلك على ما تفيده الآيات ويأخذونه أضعافا مضاعفة. ولقد كان مما فشا في مختلف البيئات في غير جزيرة العرب أيضا. وقد ارتكس فيه النصارى كما ارتكس اليهود وكان مترافقا في كل بيئة بتلك المشاهد المريرة المدمرة. فلا غرو أن حرمته الشريعة الإسلامية التي هدفت فيما هدفت إليه إلى إقامة مجتمع إنساني يضمّ مختلف الأجناس والألوان والطبقات ويسوده التعاطف والبرّ والتراحم والتعاون، ويمتنع فيه الناس عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل وبدون جهد تحريما حاسما وشاملا مع الإنذار الرهيب القاصم.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في التحذير من الربا وإنذار متعاطيه، منها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن جابر قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده قال هم سواء» «1» . وحديث أخرجه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أعان ظالما ليدحض به حقا فقد برىء من ذمّة الله ورسوله، ومن أكل درهما من ربا فهو مثل ثلاث وثلاثين زنية ومن نبت لحمه
__________
(1) التاج ج 2 ص 194.(6/497)
من سحت فالنار أولى به» «1» . وحديث رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة ذكر فيه أن «أكل الربا من جملة الموبقات السبع التي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باجتنابها» «2» .
هذا، وروح الآيات والأحاديث وما روي من مشاهد الربا ومآسيه ومضاعفاته كل ذلك يلهم أن الربا قد حرّم بهذا الأسلوب القاصم بسبب تلك المشاهد والمآسي والمضاعفات.
ولقد ارتكس العالم عامة والمسلمون منهم في ذلك حتى صار الربا بلاء عاما لا يكاد يتفلّت منه أحد بصورة من الصور ولا سيما في ظل نظام المصارف الذي عمّ كل الأقطار. مما كشف الله عن عيبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في حديث رواه الإمام أحمد عن الحسن عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا، فقيل له: الناس كلّهم؟ قال: من لم يأكله ناله غباره» «3» . ولقد شهدنا في حياتنا ممولين يستغلون عوز الفلاحين وغيرهم فيداينونهم المائة بمائة وثلاثين بل وأربعين وخمسين لسنة واحدة بل لموسم زراعي واحد، ويستغرق الربا جميع ما لهم من أرض وعقار وماشية ويشتد عليهم خناق العوز والمذلة وسمعنا من مثل ذلك كثيرا من آبائنا في بلادنا ومن غيرهم في البلاد العربية الأخرى. ولقد وجد المرابون بعض المشايخ الجهال الذين كانوا يفتونهم في عملهم بزعم إخراج عملياتهم من نطاق الربا المحرم حيث يجرون عملية بيع صورية عن المبلغ الزائد الذي يكتبونه في سند الدين. ولقد شهدنا أغنياء كثيرين فأصبحوا فقراء أذلاء بعد أن كانوا واسعي الثراء محاطين بالتكريم والتبجيل بسبب استغراقهم في الدين ورباه. ولقد شهدنا في الوقت نفسه مصير كثيرين ممن كانوا يأكلون الربا إلى مثل ذلك المصير. ولقد عرفنا أن الله كان يلحظ بعنايته الذين يؤتون الزكاة ويتصدقون
__________
(1) مجمع الزوائد ج 4 ص 117.
(2) التاج ج 4 ص 81.
(3) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق تفسير الآية وقال: «كذا روى أبو داود والنسائي وابن ماجه» .(6/498)
عن إخلاص وإيمان ولا يتعاطون الربا فينمي أموالهم ويقيهم شرّ النكبات والخسائر أو يعوض عليهم ما أصابهم من ذلك. فتحققت لنا المعجزة القرآنية المنطوية في جملة يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ صدق الله العظيم.
وإنه لمن واجب علماء المسلمين ودعاة الإصلاح وأولياء الأمر الصالحين أن يتداعوا لإيجاد مخرج للمسلمين من هذا البلاء العام الذي يرتكسون فيه ويعيشون خلاله في حالة حرب على الله ورسوله وفي لعنة الله ورسوله والعياذ بالله.
والحكومات الإسلامية اليوم تسمح للمصارف بالعمل بفوائد معتدلة أو زهيدة ولأجل تنمية الأعمال التجارية والزراعية والصناعية وتفريج أزمات الناس وتحريرهم من استغلال المرابين الجشع. ويتحقق بذلك فوائد ومنافع للناس ولا ندري إن كانت هذه الحكومات قد وجدت مسوغا شرعيا لذلك ولا سيما إن هذا كان في زمن دولة الخلافة العثمانية التي كانت تغلب عليها الصيغة الدينية ولو بالمظاهر والتي كانت تجتهد في أخذ فتاوى من العلماء لمثل هذه الأمور. وقد أنشأت في أواخر عهدها مصرفا زراعيا حكوميا بهدف تخليص الفلاحين من استغلال المرابين الفاحش. وكانت تقرضهم المال بفائدة كانت تعد زهيدة ومقدارها تسعة في المائة ونعتقد أنها استندت في ذلك إلى فتاو شرعية. ولقد كان من نتيجة جهود أساطين فقهائها تلك الموسوعة الفقهية الهامة الشهيرة التي عرفت باسم «مجلة الأحكام الشرعية» والتي احتوت قواعد فقهية لمختلف المعاملات ومن المستحسن هذا الأمر على ضوء ذلك دراسة عميقة لعل الدارسين يجدون ذلك المخرج المنشود.
هذا، وبعض المؤولين قالوا إن جملة وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ هي في صدد الربا موضوع الكلام وإنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة. وليست في صدد الدين بصورة عامة الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة إلخ ... في حين قال بعضهم إنها تشمل الدين مطلقا. والجملة(6/499)
مطلقة بحيث يكون الرجحان للقول الثاني فيما يتبادر لنا. وقد أورد هؤلاء أحاديث في صدد التيسير على المعسر مطلقا مما فيه تأييد للقول الثاني. من ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن أسعد بن زرارة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سرّه أن يظلّه الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه فلييسر على معسر أو ليضع عنه» «1» . وحديث رواه الإمام نفسه عن بريدة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من أنظر معسرا فله بكلّ يوم مثله صدقة، وفي رواية مثلاه صدقة» «2» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» «3» . وفي الأحاديث بالإضافة إلى تأييدها الإطلاق حثّ على التسامح والبرّ وتنويه بفضيلة إنظار المعسرين والتساهل معهم مما يتساوق مع التلقين القرآني.
تعليق على جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ...
لقد كانت هذه الجملة موضوع جدل كلامي بين أهل السنة والمعتزلة حيث أثبت الأولون حقيقتها وأنكرها الآخرون. ومما قاله الزمخشري إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية وتابعه في ذلك الطبري والبيضاوي. ولقد أورد المثبتون أحاديث نبوية منها ما ورد في الصحاح ولكنا لم نلمح منها ما في الجملة من مدى ومعنى. مثل حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها واقرأوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «4» آل عمران: [36] . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى
__________
(1) أورد هذه الأحاديث ابن كثير وهناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه. [.....]
(2) أورد هذه الأحاديث ابن كثير وهناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه.
(3) أورد هذه الأحاديث ابن كثير وهناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه.
(4) التاج ج 4 ص 65.(6/500)
ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «1» .
ولقد قلنا إننا لم نلمح في الأحاديث أنها متساوقة مع مدى الجملة حيث نرى أن الجملة عنت الصرعة التي يرتمي بها المصاب على الأرض وتجعله يتخبط، والمتداول بين الناس أن هذا من مسّ الشيطان. ولقد عقد القاسمي في تفسيره فصلا طويلا بذلك استشهد بأقوال الإمامين ابن تيمية وابن الجوزي وبفصل للبقاعي بسبيل إثبات مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية وأورد حديثا طويلا أورده البقاعي في ذلك من إخراج الدارمي لم يرد في كتب الصحاح ونرى التوقف فيه أولى لأن فيه إغرابا شديدا. ومما ساقه البقاعي بسبل إثبات حقيقة ذلك ما ورد في الأناجيل المتداولة اليوم من حوادث عديدة نذكر ما كان من إخراج عيسى (عليه السلام) الجنّ والشياطين من المرضى المصابين بالصرع والجنون، والأناجيل المتداولة تورد روايات فيها غثّ وسمين وحقيقة وخيال وذكريات ولا يصح سوقها بسبيل إثبات ذلك.
ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف فيها بين أهل السنة والمعتزلة فقال إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه وإنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة. وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل عليه في العلم لأجل تصحيح الروايات الآحادية وإن القرآن أرفع من أن يعارض العلم.
وهذا كلام سديد من دون ريب، وقد يصح أن يضاف إليه أولا: إن الآية في مقامها لا تتحمل هذا الجدل. وإن كلام الزمخشري ومن تابعه في الأصل متسق مع ما تكرر كثيرا في القرآن من كون حكمة التنزيل جرت على مخاطبة سامعيه للمرة الأولى بما هو معروف ومسموع ومعتقد به عندهم وعند الأمم الأخرى التي يتصلون بها أو يعرفون أخبارها.
__________
(1) المصدر السابق.(6/501)
وثانيا: إنا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما أخبره القرآن والأحاديث الصحيحة من أمور الجن والشياطين واجب على المسلم شأن سائر الأخبار الغيبية التي تذكر في القرآن والأحاديث مع إيكال ما لا يدركه العقل الإنساني من ذلك إلى الله سبحانه والقول آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا آل عمران: [7] ومع الإيمان بأنه لا بد لذكر ما ذكر بالأسلوب الذي ذكر به في القرآن والأحاديث الصحيحة من حكمة، ولعلّ من ذلك هنا قصد التنديد والإنذار وليس هذا الأمر يعد من الأمور المحكمة التي لا يسع المسلم جهلها وليس له ولا عليه أن يتكلف فيها على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.
وإنه لمن واجب علماء المسلمين ودعاة الإصلاح وأولياء الأمر الصالحين أن يتداعوا لإيجاد مخرج للمسلمين من هذا البلاء العام الذي يرتكسون فيه ويعيشون خلاله في حالة حرب مع الله ورسوله وفي لعنة الله ورسوله والعياذ بالله.
وبعض المؤولين قالوا إن جملة وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [280] هي في صدد الربا موضوع الكلام وأنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة وليست في صدد الدين بصورة عامة الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة إلخ. وبعضهم قالوا إنها تشمل الدين مطلقا والجملة مطلقة بحيث يجعل ذلك الرجحان للقول الثاني فيما يتبادر لنا. ولا سيما إن المفسرين يوردون أحاديث نبوية في ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن أسعد بن زرارة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سرّه أن يظلّله الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه فلييسّر على معسر أو ليضع عنه» .
وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن بريدة قال: «سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: من أنظر معسرا فله بكلّ يوم مثله صدقة وفي رواية في كلّ يوم مثلاه صدقة» وحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أراد أن تستجاب(6/502)
دعوته وأن تكشف كربته فليفرّج عن معسر» . وحديث أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتي الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ قال: ما عملت لك يا ربّ مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها. قالها ثلاث مرات ثم قال عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسّر على الموسر وأنظر المعسر فيقول الله عز وجل أنا أحقّ من ييسّر ادخل الجنة» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان بن عفان قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أظلّ الله عبدا في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه من أنظر معسرا أو ترك لغارم» «1» وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من قيح جهنم» «2» .
وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن هذا لا يمنع صحتها. وهي متسقة مع النص القرآني وفيها من الحثّ على التسامح والبرّ والتنويه بفضيلة إنظار المعسرين والتساهل معهم ما يتساوق مع التلقين القرآني.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب وحديثا رواه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في صيغتين متقاربتين عن عمر بن الخطاب أنه خطب المسلمين يوما فقال: «إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم» ، وجاء في الصيغة الثانية: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض قبل أن يفسّرها لنا فدعوا الربا والريبة» . والحديث بصيغتيه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ونحن نتوقف في هذا الحديث. فالله سبحانه قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ النحل: [44] ومن واجب المسلم أن يعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قام بهذه المهمة. والأحاديث الصحيحة العديدة في الربا ومداه
__________
(1) النصوص السابقة من تفسير ابن كثير.
(2) من تفسير القاسمي.(6/503)
تصح أن تورد كدليل على ذلك. ولا يبدو في الآيات غموض ولا إشكال والله تعالى أعلم.
ولقد كانت جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ موضوع جدل مذهبي كلامي حيث أنكر الزمخشري وفقا لمذهب المعتزلة حقيقة الأمر وقال: إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية، وغمز الذين يعتقدون حقيقة ذلك وقال إن إنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. وقد تابعه البيضاوي والطبرسي في قوله وحيث ردّ أهل السنة على هذا القول وأوردوا بعض الأحاديث التي منها ما ورد في الكتب الصحيحة من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها. واقرأوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «1» آل عمران: [3] . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «2» . ومما لم يرد في تلك الكتب حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التقطوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشّياطين» «3» . وقد قابل القاضي ابن المنير غمز الزمخشري بالشتيمة فقال هذا خبطهم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون. وقد عقد القاسمي فصلا طويلا في تفسيره للآية على هذه المسألة واقتبس من كتاب زاد المعاد لابن القيم نبذة طويلة فيها استشهاد ببعض أقوال وأفعال الإمام ابن تيمية بسبيل إثبات صحة وقائع مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية. واقتبس القاسمي كذلك نبذة من مؤلف للعلامة البقاعي بسبيل تأييد ذلك فيها أولا بعض أحاديث نبوية أخرجها الدارمي ولم ترد في الكتب الصحيحة منها حديث مروي عن ابن عباس جاء فيه: «إن امرأة جاءت بابن لها إلى
__________
(1) التاج ج 4 ص 65.
(2) التاج ج 4 ص 65.
(3) حاشية ابن المنير على تفسير الزمخشري الجزء 1، الطبعة الأولى، المكتبة التجارية.(6/504)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا. فمسح رسول الله صدره ودعا فثعّ ثعّة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى» . وحديث عن جابر قال: «خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فركبنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلّنا فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا يأخذه الشيطان كلّ يوم ثلاث مرات فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال: اخسأ يا عدوّ الله أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها» . وذكر البقاعي في نبذته أن هذا الحديث أخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك كان في حرة واقم ومما جاء في صيغة الطبراني عن جابر: «فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيّها ومعها كبشان تسوقهما فقالت: يا رسول الله اقبل مني هديتي فو الذي بعثك بالحقّ ما عاد إليه بعد. فقال: خذوا منها واحدا وردّوا عليها الآخر» . وقال البقاعي في نبذته: إن هذا الحديث رواه أيضا البغوي في شرح السنة عن يعلي بن مرة (رضي الله عنه) . وذكر القاسمي أن البقاعي ساق بعد ذلك ما جاء في الإنجيل قال وذلك كثير جدا. يعني ما وقع للمسيح (عليه السلام) من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك «1» . وقال إنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا كافيا لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان. وقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف المذهبي فيها بين أهل السنة والمعتزلة وقال إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه. وأنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة. وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما
__________
(1) في الأناجيل قصص كثيرة عن حالات الصرع والجنون بسبب مسّ الشياطين والجن ودخولهم في أجسام أصحابها وإخراج المسيح لها وشفائهم من مرضهم. انظر مثلا:
الإصحاحات 4 و 9 و 12 و 17 من متى. و 3 و 5 من مرقس. و 4 و 6 و 8 و 9 و 11 من لوقا. وفي الإصحاح 22 من سفر الخروج و 20 من سفر الأحبار من أسفار العهد القديم شجب للسحر والعرافات وأصحاب التوابع من الجن.(6/505)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل عليه في العلم لأجل تصحيح الروايات الآحادية. وإن القرآن أرفع من أن يعارضه العلم. وهذا كلام سديد من دون ريب. وقد يصح أن يضاف إليه:
أولا: إن الآية في مقامها لا تتحمل هذا الجدل وإن كلام الزمخشري ومن تابعه في الأصل متسق مع ما تكرر كثيرا في القرآن من كون حكمة التنزيل جرت على مخاطبة سامعيه للمرة الأولى بما هو معروف ومسموع ومعتقد به عندهم وعند الأمم الأخرى التي يتصلون بها أو يعرفون أخبارها.
وثانيا: إننا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة إن الإيمان بما أخبره القرآن والأحاديث الثابتة من أمور الجن والشياطين واجب على المسلم شأن سائر الأخبار الغيبية مع إيكال ما لا يدركه العقل الإنساني من ذلك إلى الله سبحانه والقول آمنا به كلّ من عند ربنا ومع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ما ذكر بالأسلوب الذي ذكر به في القرآن والثابت من الحديث من حكمة. ولعل من ذلك هنا قصد التنديد والإنذار. وليس هذا الأمر بعد من أمور الشريعة الإسلامية المحكمة والأساسية التي لا يسع المسلم جهلها وليس له ولا عليه أن يتكلف فيها على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
.(6/506)
(1) بالعدل: هنا بمعنى الحق والصدق والتمام.
(2) الإملال: مرادف للإملاء وهنا بمعنى الإقرار والاعتراف أو التقرير.
(3) يبخس: ينقص أو يكتم.
(4) سفيها: ناقص العقل والتمييز إما بسبب مرض أو بسبب شيخوخة أو بسبب الطفولة.
(5) ضعيفا: مريضا أو عاجزا جسمانيا أو لعي في لسانه إلخ.
(6) أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى: بمعنى أن تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
(7) لا يأب الشهداء: لا يمتنعوا عن الاستجابة والشهادة.
(8) أدنى ألّا ترتابوا: أكثر ضمانا لعدم الارتياب والشك.
تعليقات على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ... والآية التالية لها
في الآيتين تعليمات للمسلمين بما يفعلونه في ظروف الدين والبيع:
1- فعليهم إذا تداينوا بدين إلى أجل معين أن يكتبوا بالدين وثيقة.
2- وعلى الكاتب أن يكتب الوثيقة بالحقّ ولا يجوز له أن يمتنع عن كتابتها على هذا الوجه لأن الله الذي يأمره بذلك هو الذي علمه.(6/507)
3- وعلى الذي عليه الدين أن يقرر للكاتب ما عليه ليكتبه وأن يتقي الله فيما يقرره ولا ينقص منه شيئا. وإذا كان ناقص التمييز أو عاجزا عن التقرير أو مريضا فعلى وليّه أن يقرر الحق الذي عليه ليكتبه الكاتب.
4- وعلى المسلمين أن يستشهدوا على وثيقة الدين رجلين منهم أو رجلا وامرأتين ممن يرضون وتطمئن إليهم نفوسهم. وجعل امرأتين مع الرجل في حالة عدم وجود رجلين هو لتذكر إحداهما الأخرى إذا نسيت.
5- ولا يجوز للشهود أن يمتنعوا عن الشهادة إذا دعوا إليها.
6- وعلى المسلمين أن لا يتهاونوا في كتابة وثائق الدين سواء أكان قليلا أو كثيرا فإن ذلك هو الأفضل والأعدل عند الله والأضمن لعدم الارتياب والشك فيما بينهم.
7- ولا مانع من عدم تدوين المعاملة التجارية إذا كانت فورية لا دين فيها، أحدهم يسلم السلعة والآخر يدفع الثمن.
8- وعلى أن يستشهدوا شهودا على ما يقع بينهم من بيوع.
9- ولا يجوز في أي حال مضارة كاتب أو شهيد أو أذيتهما بالقول والفعل فذلك إثم وعصيان لأوامر الله.
10- وإذا كان الطرفان أو كلاهما على أهبة سفر ولم يجدا كاتبا يكتب وثيقة الدين فيحسن أن يقوم مقام الوثيقة رهن يسلمه المدين إلى الدائن.
11- وإذا ائتمن الواحد آخر في حالة عدم إمكان كتابة سند الدين فيكون بدل ذلك رهن من المستدين إلى حين الأداء. وعلى المؤتمن أن يحقق ظن صاحبه في أمانته فيؤدي إليه ما ائتمنه عليه بحق وعدل.
12- ولا يجوز لأحد كتمان شهادته في أي أمر، ومن يكتمها فإنه آثم القلب.
13- وعلى المؤمنين على كل حال أن يتقوا الله ويراقبوه فيما يقوم بينهم من معاملات. فهو الذي يعلمهم ما يحسن لهم ويساعد على توثيق مصالحهم، وهو العليم بكل شيء الخبير بما يعملونه.
والآية الأولى أطول آية في القرآن. وقد روى ابن كثير رواية معزوة إلى(6/508)
شعيب بن المسيب أنه بلغه أن هذه الآية أحدث القرآن عهدا بالعرش أي آخر ما نزل من القرآن. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالا استطراديا. فقد ذكر في الآيات السابقة الدين والبيع فأوحى بالآيتين للتشريع والتسليم في صدد ذلك. والراجح أنهما نزلتا بعد تلك الآيات مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الموضوعي والزمني.
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس: أن الآية الأولى نزلت في السلم إلى أجل معلوم (وهو شراء غلة معينة في موسم آت بثمن معجل) وأنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وأنه روى حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» غير أن الإطلاق في جملة إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يلهم أنه جاء كذلك ليكون شاملا لكل نوع من الدين.
وروعة التعليم والتشريع في الآيتين ظاهرة قوية لا تحتاج إلى إطناب. وقد روعي فيها تعليم المسلمين توثيق أمورهم التجارية، وتوطيد الحق والعدل فيما بينهم فيها، وعدم تركها فوضى بسبب ما ينتج عنها من مشاكل وخلافات وشحناء.
وبالتالي تلقينهم تنظيم أمورهم الدنيوية على الوجه الذي يكفل لهم الحق والعدل والطمأنينة والثقة وعدم النزاع. وجملة أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها
تلهم أن كتابة المعاملات التجارية الفورية أفضل وأن الاستثناء هو للتيسير والتخفيف.
وفي كتب التفسير أقوال وروايات عن أهل التأويل في مدى أحكام هذه الآيات نوجزها ونعلق عليها كما يلي. وهناك نقاط لم نطلع على قول فيها رأينا كذلك أن نوردها ونذكر ما يتبادر لنا فيها-:
1- لقد روى المفسرون قولين في مدى الأمر بكتابة الدين والاستشهاد عليه.
أحدهما أنه من باب الاستحباب والتشويق، وثانيهما أنه على سبيل الإيجاب.
ويتبادر لنا من روح الآية وفحواها وتوكيدها المتكرر ورفع الحرج عن عدم كتابة(6/509)
التجارة الحاضرة والمعاملة الفورية مع تفضيل الكتابة أن القول الثاني هو الأوجه.
2- ورووا كذلك قولين في مدى واجب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد. أحدهما أنه على سبيل التخيير والندب وثانيهما على سبيل الإيجاب. وقد يكون القول الأول هو الأوجه لأن الكاتب والشاهد شخصان حران لا يصح إرغامهما على ما لا يريدانه من كتابة أو شهادة. أما حين يقبل الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد على الواقعة بناء على طلب صاحب المصلحة فالجمهور متفقون على أن يكون حينئذ من الواجب على الكاتب أن يكتب بالعدل وعلى الشاهد أن يلبي الدعوة ويشهد بالحق. ولا يكون هذا على سبيل الاستحباب والتخيير وهذا سديد وواضح من العبارة القرآنية أيضا.
3- والمتبادر من العبارة القرآنية أن الشهود المعنيين هم الذين طلب منهم أن يحضروا ويشهدوا على الواقعة وقد تقع معاملات بين طرفين ويكون أناس حاضرين الواقعة صدفة ولم يحضر الطرفان شهودا خصيصين. ولم نطلع على قول في مثل هذه الحالة. والمتبادر أن من واجب هؤلاء أداء الشهادة إذا ما دعوا إليها ولا يصح لهم أن يمتنعوا ويكتموا لأن في ذلك إضاعة لحقّ قد لا يثبت بدون شهادتهم.
4- والمفسرون يروون أقوالا عديدة في مدى جملة وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ منها أن المعني بهذا الأمر الكاتب والشاهد. وأن الجملة توجب عليهما عدم مضارة صاحب المصلحة والحق. وعلى الكاتب أن يكتب بالعدل والشاهد أن يشهد بالحق. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة. فلا يجوز لهم إرغام الكاتب على الكتابة ولا شخصا ما على المجيء والشهادة على العملية ويسبب لهما بذلك ضررا في إضاعة وقت وخسران عمل. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة من جانب آخر وهو أنه لا يجوز لهم أن يضاروا ويؤذوا الكاتب على كتابته بالعدل والشاهد على شهادته بالحق. وروح الآية تلهم أن القول الأخير هو الأكثر ورودا ووجاهة.
5- والمتبادر أن الإشارة إلى واجب الإملاء والتقرير على ولي السفيه(6/510)
والعاجز والمريض تنطوي على كون أقوال هؤلاء واعترافاتهم في حق أنفسهم غير نافذة. وقد تفيد العبارة القرآنية أن المقصود من (الولي) الذي يجب أن ينوب عن هذه الفئات في الإملاء والتقرير هو الذي له حق الولاية على هذه الفئات بسبب درجة قرابته لهم. غير أن الجمهور على أن القضاء الشرعي مخول في إقامة الأولياء أيضا على أمثال هذه الفئات ليكونوا مسؤولين عن رعاية حقوق هذه الفئات ومصالحها. وهذا حقّ وصواب. وحتى بالنسبة للذين تخولهم قرابتهم الولاية حيث يكون الأولى أن تكون ممارستهم للولاية بعلم وإقرار القضاء حتى يكونوا مسؤولين أمامه، والله أعلم.
6- وقد روى المفسرون في صدد جملة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أنها في صدد حفظ الأمانات وردها إلى أصحابها وعدم المماراة فيها وتبديدها إطلاقا. ومنها أنها في صدد الرهن الذي يعطيه المدين للدائن عوضا عن سند الدين حينما تتعسر كتابته على ما جاء في الآية: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ حيث توجب الجملة على الدائن فقط الرهن سليما بدون تبديد على اعتبار أنه أمانة في يده ورده إلى المدين كما هو حينما يرد هذا ما عليه من دين. ومنها أن ذلك في حالة تعسر الكتابة وتعسر الرهن واعتماد الدائن على أمانة المدين وحسب. حيث توجب الجملة على المدين قيامه بحق من ائتمنه على ماله ورده إليه. وفحوى العبارة ومقامها متسقان أكثر مع المعنى الثاني وقد يتسقان مع المعنى الثالث أيضا. والمعنى الأول وارد الوجوب دائما وفي كل حال. وليس بينه وبين المعنيين تعارض وقد أوجبت آية سورة النساء [58] ردّ الأمانات إلى أهلها. ونوهت آيات مكية عديدة بمن يرعى أمانته وعهده كما جاء في آيات المؤمنون [8] والمعارج [29] .
7- وجمهور المفسرين على أنه ينطوي في جملة مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ شرط تحقق العدالة في الشهود. أو أن ذلك هو المقصود من الجملة أي يجب أن يكونوا من المعروفين بالاستقامة غير المتهمين في ذممهم. ومع ما في هذا من(6/511)
وجاهة فإنه يتبادر لنا أن الجملة أوسع مدى بحيث تنيط استشهاد الشهود بثقة المستشهدين ورضائهم النفسي والقلبي.
8- وكلمة مِنْ رِجالِكُمْ في صفة الشهود تفيد وجوب اختيارهم من المسلمين مع توفر العدالة وطمأنينة صاحب المصلحة. ولقد روى المفسرون أقوالا في شمول العبارة للأرقاء المسلمين. حيث قال بعضهم بالشمول وبعضهم حصر الشهادة في أحرار المسلمين. ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه فقد خاطب القرآن المؤمنين بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا بدون تمييز بين الأرقاء والأحرار. واعتبرهم جميعا بعضهم من بعضهم وبعضهم أولياء بعض في آيات عديدة مثل آية سورة آل عمران [195] والتوبة [71] وكان المؤمنون الذين عنتهم هذه الآيات خليطا من أحرار وأرقاء. وفي إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية فصل في ذلك قرر فيه أنه ليس هناك أي أثر وثيق برفض شهادة العبد المسلم. وأنه يدخل في شمول كلمة رِجالِكُمْ. وفي جملة وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ في سورة الطلاق وقال إن الميزان العادل وكتاب الله وسنّة رسوله وإجماع الصحابة على قبول شهادته. وروي عن أنس بن مالك قوله: «ما علمت أحدا ردّ شهادة العبد» «1» .
9- ولقد تطرق بعض المفسرين إلى جواز وعدم جواز شهادة واستشهاد غير المسلمين في سياق هذه العبارة أيضا، وأوردوا أقوالا مختلفة منها منع ذلك بناء على صراحة العبارة هنا وقالوا إن المسلم لا يشهد عليه إلا مسلم ولا ينبغي له أن يستشهد إلا مسلما. ومنها إجازة ذلك استنادا إلى آية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) غير أن الذين قالوا بالمنع قالوا إن آية المائدة منسوخة بآية البقرة التي نزلت بعدها. وهناك من قال إن الحالة التي نزلت فيها آية المائدة تتسع
__________
(1) انظر أعلام الموقعين ج 2 ص 49.(6/512)
لذلك لأنها حالة سفر وغربة قد لا يكون فيها شهود مسلمون. ولابن القيم فصول في هذا الباب أنكر فيها نسخ آية المائدة لأنها في صدد حالة تتحمل استشهاد وشهادة غير المسلمين «1» . وهذا حق.
ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وعقد فصلا طويلا لها انتهى به إلى ترجيح شهادة غير المسلمين على المسلمين إذا كان حق المسلم لا يثبت إلا بها.
وقال فيما قال: إن البينة في الشرع أعمّ من الشهادة وإن كل ما يتبين به الحق بينة كالقرائن المنطقية، وإن شهادة غير المسلم يمكن أن تدخل في معنى البينة المستدل عليه بالكتاب والسنة واللغة إذا كان يتبين بها الحق للحاكم. وفي هذا حق وسداد فيما هو المتبادر. وليس هناك فيما اطلعنا عليه أثر نبوي صحيح يمنع شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن مطعونا في أمانته وعدله. وكل ما اطلعنا عليه حديث رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ردّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه وردّ شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم» وفي رواية أنه قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» «2» .
وقد يضاف إلى هؤلاء المشهور بالفسق وقاذف المحصنات على ما جاء في آية سورة الحجرات هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وفي آيات النور هذه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) .
ومع ذلك فإن من الممكن استدراك أمر على ضوء آية سورة المائدة، وهو إنه إذا كان الشهود مختارين اختيارا ومدعووين دعوة للشهادة فالأولى أن يكونوا
__________
(1) انظر إعلام الموقعين ج 1 ص 74.
(2) التاج ج 3 ص 56. ومعنى (ذو الغمر) ذو الحقد والعداوة. والقانع هو التابع أو الخادم فلا تجوز شهادته على مستخدميه أو لهم وتجوز لغيرهم أو عليهم.(6/513)
مسلمين ما دام هذا ممكنا. فإن لم يكن هذا ممكنا أو إذا كانت الواقعة التي يراد الاستشهاد عليها فورية ولم يشهدها غير مسلمين فتكون شهادتهم سائغة إذا كانوا عدولا غير متهمين لأن الحق يضيع على صاحبه بدون ذلك، والله تعالى أعلم.
10- وعبارة فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ تفيد اعتبار شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد وقد عللت الآية هذا مما ينطوي فيه الإشارة إلى مشاغل المرأة وما تؤدي إليه من غلبة النسيان عليها. ولقد زاد المفسرون على التعليل القرآني تعليلا آخر وهو نقص عقل المرأة واستندوا في ذلك إلى الحديث النبوي الذي يصف المرأة فيه بنقص العقل ويدلل على ذلك بأن الله جعل شهادتها نصف شهادة الرجل والذي أوردناه في سياق تفسير الآية [21] من سورة الروم وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. وذلك التعليق يجعلنا نعتقد أن التعليل المنطوي في الآية هو الوارد الحق. ثم يجعلنا نقول إن جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في الآية ليس من شأنه أن يخلّ بما منحه الله للمرأة المسلمة في القرآن من حقوق وقرره لها من أهلية يجعلانها مثل الرجل في أمور الدين والدنيا سواء بسواء باستثناء الحياة الزوجية، ومركز الرجل المتفوق درجة فيها عليها مما شرحناه في سياق آية الروم المذكورة وفي مناسبات سابقة أخرى وفي سياق تفسير آيات فصل الطلاق في هذه السورة، ومما سوف نزيده شرحا في مناسبات أخرى في سور آتية.
11- ولقد قلنا في الفقرة (3) إن العبارة القرآنية تفيد أن الشهود المعنيين فيها هم شهود يختارهم صاحب المصلحة ممن يرضى ويدعوهم لشهود الحادثة والشهادة عليها. وفي ضوء ذلك يرد سؤال عن حكم الحالة التي تكون فورية ويكون شاهدها امرأة واحدة أو امرأتان أو رجل وامرأة ولم يكن الظرف يتيح إحضار شهود أو يفيد فيه ذلك. وهذه حالات تقع كثيرا في مختلف الأحداث والظروف. والمتبادر أنه يجب الأخذ بشهادة المرأة أو المرأتين أو المرأة والرجل ويكون ذلك في مقام البينة التي يثبت بها الحق ويكون عدم الأخذ بها مما يضيع الحق. والله ورسوله لا يرضيان عن ذلك وليس في الآية ولا في القرآن ولا في الأحاديث ما يمنع ذلك. ولقد تطرق ابن القيم إلى هذه الحالة أيضا ونقل عن(6/514)
الإمام ابن تيمية تسويغه الأخذ بشهادة المرأة فيها. وأورد حديثا وصفه بالصحيح عن عقبة بن الحرث: «أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائلا: تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فقالت إنها أرضعتنا فأمره بفراق امرأته. فقال إنها كاذبة فقال دعها عنك» «1» .
وعقب على هذا بقوله إن في هذا قبولا بشهادة المرأة الواحدة وإن كانت أمة.
12- لقد استطرد المفسرون بمناسبة الآية إلى شهادة النساء في غير شؤون الدين. وأوردوا أقوالا لبعض علماء التابعين وبعض أئمة الفقه ولأنفسهم تفيد أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود ولو في نطاق النصاب المذكور في الآية فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ولا تقبل إلّا في الأموال وما من العادة أن تعرفه وتشهده كالولادة والرضاع والبكارة والثيوبة ونحو ذلك. وليس في القرآن ما يؤيد هذا القول ولم نطلع على حديث صحيح يؤيده كذلك، والحديث الذي أوردناه قبل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه أبو داود والترمذي (الفقرة 9) ينص على كون المردود شهادتهم هم الخائن والخائنة والزاني والزانية وذو الغمر والقانع (التابع) لمستخدميه. وآيات سورة الحجرات والنور التي أوردناها في الفقرة المذكورة ترد شهادة الفاسق وقاذف المحصنات وحسب.
وكل هذا يجعلنا نتوقف في منع قبول شهادة المرأة في الحدود والعقوبات.
ولقد ناقش ابن القيم «2» هذه المسألة أيضا وانتهى إلى القول إن النصوص القرآنية والآثار النبوية لا تقيد شهادة المرأة في أمور دون أمور وإن شهادتها تصح في جميع الشؤون. واستشهد في ذلك إلى جملة وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ في الآية [2] من سورة الطلاق وإلى جملة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ
__________
(1) ورد هذا الحديث في التاج بروآية البخاري والترمذي بهذا النص: «قال عاقبة بن الحرث:
تزوجت امرأت فجاءتنا امرأت سوداء فقالت أرضعتكما فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته وقلت له إنها كاذبة. فأعرض، فأتيته من قبل وجهه وقلت: إنها كاذبة، قال: كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك» التاج ج 2 ص 366. [.....]
(2) التاج ج 1 ص 76 وبعدها.(6/515)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ في آية سورة المائدة [106] قائلا: إن المتفق عليه أن كل خطاب بصيغة الجمع المخاطب المذكور للمؤمنين في القرآن يشمل المؤمنين والمؤمنات حقا إذا لم يكن فيه قرينة مخصصة وهذا حق وصواب. وقد يكون من الدلائل عليه جملة:
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ [282] في الآية التي نحن في صددها دون آيات الطلاق والمائدة. ويصح أن يقال إن جملة: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ في آية سورة النساء وجملة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ في آية سورة النور [4] من هذا الباب. وهذا كله يسيغ القول أيضا إن شهادة المرأة في غير مسألة الدين معادلة لشهادة الرجل مع التذكير بما أوردناه في الفقرتين 10 و 11 في صدد هذه المسألة.
وإذا لحظنا أن من الحدود حدّ الزنا الذي أمرت آية النساء [15] استشهاد أربعة عليه وأن احتمال مشاهدة المرأة لهذه الجريمة أقوى بدا لنا ذلك المنع أكثر غرابة. ولا ندري ماذا يقول المانعون إذا لم يكن مشاهدو جرائم القتل والزنا والسرقة وهي التي قرر القرآن لها العقوبات والحدود غير نساء. فهل تذهب هذه الجرائم هدرا بغير عقاب، وإن الله ورسوله ليأبيان ذلك والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
. في الآية: تقرير بمطلق ملكية الله تعالى وتصرفه بما في السموات والأرض.
وتنبيه موجه للسامعين بأنه محيط بكل ما يبدونه ويخفونه ومحصيه عليهم ومحاسبهم به ثم معاملهم بما تشاء حكمته فيغفر ويتجاوز عمن يشاء ويؤاخذ ويعذب من يشاء وهو القادر على كل شيء في جميع الأحوال.(6/516)
تعليق على الآية لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ...
وقد روى الطبري أقوالا عديدة معزوة إلى ابن عباس وبعض التابعين وتابعيهم تفيد أن هذه الآية متصلة بالشهادة وأدائها وكتمها. وهو الموضوع الذي احتوته الآيات السابقة وقال الطبرسي: إن الآية استمرار للآيات السابقة فيما احتوته من تنبيه وتذكير وإنذار. وهذا لا يخرج عما رواه الطبري.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ومع ذلك فقد تكون وجيهة ويكون فيها بالتبعية توكيد الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية. وإن كان إطلاق العبارة فيها يثير شيئا من التردد. فإذا صحت الأقوال فتكون حكمة التنزيل قد اقتضت أن تأتي العبارة مطلقة الشمول لتكون عامة. والله تعالى أعلم.
تعليقات وأحاديث في صدد هذه الآية
1- في صدد ما جاء في الآية من أن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء نقول: إن الذي ينسجم مع حكمة الله وتقريرات القرآن الكثيرة وأهدافه أن الغفران الإلهي إنما يكون للمؤمنين المتقين ذوي النوايا الحسنة. وإن العذاب الإلهي إنما يكون لمنحرفين عن الحق والهدى من كفار ومنافقين وطغاة وظالمين.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا ورد أيضا في التاج برواية الشيخين وهذا نص التاج الذي ليس فيه فرق جوهري مع نص الطبري: «قيل لابن عمر:
كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول يدنو أحدكم من ربّه حتى يضع كنفه عليه فيقول أعملت كذا وكذا فيقول نعم ويقول أعملت كذا وكذا فيقول نعم فيقرّره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى صحيفة حسناته. وأما الكفار فينادى على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين(6/517)
كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين» «1» .
ومع استغرابنا لسوق هذا الحديث في سياق الآية التي يروي الطبري عن أهل التأويل أنها في صدد الشهادة المذكورة في الآيات السابقة لأنه لا يبدو صلة ما بينه وبين الشهادة إلّا من بعيد جدا، فإن فيه شيئا من التوضيح لما ورد في الآية من كون محاسبة الله لعباده هي على ما يبدونه مما في أنفسهم أو يخفونه من عزمات الشر وسيء النيات كما أن فيه دعما لما قلناه من أن الله تعالى إنما يغفر للمؤمنين المخلصين ويعذب الكافرين الظالمين. ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مشاهد أخروية فإن من الحكمة الملموحة في الحديث تبشير المؤمنين المخلصين وإنذار الكفار الظالمين.
2- ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت الآية هلعوا من احتمال مؤاخذة الله لهم وتعذيبهم على خطرات النفس ووساوسها. وهرعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلين: هلكنا إذا كان الله مؤاخذنا على ما نحدث به نفوسنا. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم بالإذعان لله وتفويض الأمر إليه، ففعلوا فلم تلبث أن نزلت الآيتان اللتان بعدها فنسختاها.
ولقد روى المفسرون ذلك بصيغ عديدة، ومنها صيغة رواها البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «لما نزلت لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...
إلخ اشتد ذلك على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتوه ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا. بل قولوا سمعا وطاعة غفرانك ربّنا وإليك المصير قالها مرتين. فلما قالها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله الآية التالية لها فكرروها فلما فعلوا ذلك نسخ الله تلك الآية وأنزل الآية الثانية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ... إلخ وقرأوها فلما قالوا رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا،
__________
(1) التاج ج 5 (كتاب القيامة والجنة والنار- محاسبة الله لعباده) . كنفه عليه: ستره ولطفه.(6/518)
قال: نعم، ولما قالوا: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال نعم، ولما قالوا: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.
قال: نعم. ولما قالوا: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) . قال: نعم» «1» .
وقد يلحظ أن قول أبي هريرة إن الآيتين الثانيتين نسختا الآية التي نحن في صددها يتحمّل التوقف لأن الآية الثانية من الآيتين ثبتت كون الإنسان يحاسب على ما كسب من قول وفعل وهذا يدخل في معنى وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ في الآية التي نحن في صددها. ولقد روى الطبري حديثا عن ابن عباس جاء فيه: إن الآية الثانية من الآيتين نسخت الوسوسة وثبتت القول والفعل مما فيه دعم لما قلناه.
ولقد روى الطبري في الوقت نفسه عن ابن عباس حديثا جاء فيه: «إن الآية لم تنسخ وإن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول إني أخبركم بما أخفيتم في نفوسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم وأما أهل الشكّ والريبة والنفاق والكفار فيخبرهم ويعذّبهم» . وهناك روايات أخرى يرويها الطبري أيضا عن مجاهد والربيع وغيرهما تفيد أن الآية لم تنسخ.
وتعليقا على هذه الروايات دون الأولى نقول:
أولا: إن الآية موجهة للمؤمنين دون الكفار الذين ماتوا وهم كفار لأنهم خارجون عن نطاق الغفران ومخلدون في النار بنصوص قرآنية قطعية ومتكررة.
وثانيا: إن جملة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ تؤيد بقوة قول النسخ الجزئي الذي جاء في قول ابن عباس الأول بحيث يصحّ التوقف في ما جاء في الأقوال الأخرى.
وهناك حديث صحيح يرويه الخمسة بهذه الصيغة «تجاوز الله لأمتي عما حدّثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» . وحديث آخر صحيح أيضا يرويه
__________
(1) التاج ج 4 ص 62- 64.(6/519)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
الخمسة عن ابن عباس جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يروي عن ربّه: «قال الله:
إن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبتها له حسنة وإن همّ بسيئة فعملها كتبتها له سيئة واحدة» . وهذا يدعم قول النسخ الجزئي، ومن الحكمة الملموحة فيه تبشير المؤمنين وتطمينهم وتحذير من السيئات على كل حال.
[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
. (1) إصرا: عهدا ثقيل الوطأة.
تعليق على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة
عبارة الآيتين واضحة، لا تحتاج إلى أداء آخر.
ويلحظ أن في الأولى تقريرا عن لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بإيمانهم وقولهم سمعنا وأطعنا. وإن في أول الآية الثانية تقريرا عن الله عز وجل بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ثم دعاء بلسان المؤمنين.
ومثل هذه الصورة القرآنية تكرر بأساليب متنوعة في سور سابقة وعلقنا عليها بأن الإيمان بأن جميع ما في القرآن من صور كلامية هو من وحي الله عقيدة واجبة على المؤمنين. وهذا ما يقال بالنسبة لهاتين الآيتين اللتين اقتضت حكمة التنزيل(6/520)
إيحاءهما بالأسلوب الذي أوحيتا به. وبعبارة أخرى إن الآيتين قد أوحيتا صيغة قرآنية فيها تعليم رباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بما يقولونه ويدعون به وفيها تقرير رباني خفّف به وقع الآية السابقة للآيتين التي هلع لها المؤمنون أو عدلت أو نسخت به، والله تعالى أعلم.
ولقد أوردنا آنفا حديثا رواه الأربعة عن أبي هريرة ذكرت فيه المناسبة التي نزلت فيها هاتان الآيتان، وليس هناك ما ينقض ذلك أو ما فيه مباينة لذلك فيحسن الوقوف عنده.
ولقد جاءت الآيتان في ذات الوقت خاتمة قوية لسورة البقرة التي احتوت أسس الدعوة الإسلامية وأهدافها وكثيرا من التشريعات والتلقينات والمبادئ التعبدية والاجتماعية والأخلاقية وإعلانا قويا لإيمان النبي والمؤمنين بكل ما أنزل إليهم. وإذعانهم لكل ما أمروا به ونهوا عنه. وطابع الختام على الآيتين بارز كشأن كثير من خواتيم السور الأخرى، ولقد احتوى مطلع السورة تنويها بالمتقين الذين يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وتبشيرا لهم بالفلاح. وهكذا يرتبط أول السورة بآخرها وتبدو صورة من صور الحكمة الربانية النبوية في تأليف السورة.
ولقد أثرت في التنويه بهذه الخاتمة أحاديث نبوية منها حديث أورده ابن كثير في سياق تفسيرها معزوا إلى مسلم عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قطّ قال: فنزل منه ملك فأتى النبيّ فقال له أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منها إلّا أوتيته» «1» . ومنها حديث رواه الأربعة عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» «2» . ومنها حديث أورده ابن كثير من
__________
(1) انظر الحديثين في التاج ج 4 ص 13 و 16 والحديث الأول لم يرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ويمكن أن يقال إنه قد يكون فيه مشهد روحاني شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعين بصيرته فأخبر به أصحابه وسمعه منه ابن عباس أو سمعه ممن سمعه فأخبر به والله أعلم.
(2) انظر الحديثين في التاج ج 4 ص 13 و 16 والحديث الأول لم يرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ويمكن أن يقال إنه قد يكون فيه مشهد روحاني شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعين بصيرته فأخبر به أصحابه وسمعه منه ابن عباس أو سمعه ممن سمعه فأخبر به والله أعلم.(6/521)
إخراج الإمام أحمد وابن مردويه عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش» . ولقد جاء في الحديث الذي أوردناه في سياق الآية السابقة عن أبي هريرة أن الله تعالى كان يقول نعم بعد كل مقطع من الدعاء الذي حكته الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. ولقد أخرج الطبري وأورد أحاديث أخرى عن ابن عباس مثل هذا الحديث بفروق يسيرة.
ولو لم يكن أحاديث نبوية فإنه يصح أن يقال إن الله تعالى حين شاءت حكمته أن يعلم المؤمنين الدعاء الوارد في الآية وأن يحكيه عن لسانهم في كتابه الكريم تكون حكمته قد شاءت أن يستجيب الله إلى هذا الدعاء إذا ما صدر من أعماق قلوب عباده، والله تعالى أعلم.
والآيتان جملة تامة احتوتا مبادئ قرآنية محكمة تكرر تقريرها في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة. منها: العقيدة الإسلامية وهي الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله بدون تفريق والسمع والطاعة وإسلام النفس إطلاقا لله. ومنها: أن الله عز وجل قد جعل الإنسان أهلا وذا قابلية لاكتساب أعماله ورتب عليه نتائج ذلك. فما اكتسبه من أعمال سيئة فجريرتها عليه وما اكتسبه من أعمال سنية فله أجره عليها. ومنها: أن الله تعالى لا يؤاخذ عباده على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان. ومنها: أن الله تعالى جعل الشريعة الإسلامية خالية من التكاليف الشديدة التي فرضت على الملل السابقة. ومنها: أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يحملها ما لا طاقة لها به. ومنها: أن الله مولى المؤمنين ووليهم وأنهم منصورون على الكافرين ومعفوّ عنهم ومغفور لهم ومشمولون برحمته إذا ما آمنوا واتقوا وأخلصوا حقّ الإيمان والتقوى والإخلاص.
وقد تكون صيغة الآية الثانية لا تنطوي على تقرير هذه المبادئ تقريرا مباشرا. غير أن الله وقد شاءت حكمته أن يعلم المؤمنين أن يدعوه بما دعوه تكون قد شاءت أن يستجيب لهم وتغدو مبادئ قرآنية. وهذا مدعوم الحديث الصحيح الذي أوردناه وفيه سبب نزول الآية، فضلا عن أن هذه المبادئ مما(6/522)
تكرر تقريرها في القرآن تقريرا ربانيا مباشرا مما مرّ منه أمثلة كثيرة وعلقنا عليها وأوردنا أحاديث نبوية متساوقة معها. ومبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعها مقرر لأول مرة في آية سورة الأعراف [42] ومبدأ كون الله أرسل رسوله ليضع عن الناس الإصر والأغلال التي كانت عليهم مقرر في الآية [157] من سورة الأعراف أيضا.
ومبدأ عدم مؤاخذة الله للمسلمين على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان متسق مع مبدأ عدم تكليف الله نفسا غير وسعها وعدم تحميلها ما لا طاقة لها به.
ومثل هذا يقال بالنسبة لمبدأ عدم مؤاخذة الله الناس بما نسوه أو فعلوه خطأ.
فإن ذلك متسق مع هذا المبدأ أيضا. وهناك حديث رواه ابن ماجه في سننه وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» .
ونختم كلامنا عن هذه السورة بترديد الدعاء: «ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين» . ونسأل الله أن يكون دعاؤنا خالصا وأن يستجيب لنا والحمد لله ربّ العالمين.
[تمّ بتوفيق الله تعالى الجزء السادس ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع وأوله تفسير سورة الأنفال]
__________
(1) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق الآية، وقد أورده مؤلف التاج أيضا، انظر ج 1 ص 29.(6/523)
فهرس محتويات الجزء السادس
تفسير سورة الحج 7 تعليق على تسميات اليهود والنصارى والمجوس والصابئة 21 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...
مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج 34 تعليق على موضوع النذر 40 تعليق على الأمر باجتناب قول الزور 45 استدلال على ممارسة المسلمين الحج قبل فتح مكة 46 دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام 47 تعليق على جملة لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ... 52
تعليق على خطورة أمر القوانين قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عليها 53 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ ... وما يليها 55 التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات 58 تعليق على جملة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ 62 تعليق على الآيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ... 65
تلقين الآية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... وما يليها 68 تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ وجرأة النبي 75 تعليقات على الآيتين الأخيرتين من السورة 78 تعليق على جملة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 83 تعليق على جملة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ 87 تفسير سورة الرحمن 89 تفسير سورة الإنسان 105 تعليق على موضوع النذر 109 تفسير سورة الزلزلة 118 طائفة من الروايات والأحاديث في سياق آيات هذه السورة 119 تفسير سورة البقرة 123 مقدمة للسورة 123 تعليق على ترتيب السور في المصحف 125 تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها 135 تعليق على رواية في صدد الآية [14] 138 تعليق على روايات الشيعة في صدد الآيات عامة 139 تعليق على ما جاء في بعض كتب التفسير في سياق أَنُؤْمِنُ ... 140
تعليق على التحدي بإتيان شيء من مثل القرآن 145 تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات مكية 146 تعليق على جملة كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ 147 تعليق على جملة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وما بعدها 151 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ... وما بعدها 154(6/524)
تعليق على تقديم تعليم آدم على الأمر بالسجود له 158 تعليق على توبة آدم وحكمة ذكرها 159 تعليق على أولى الحلقات الواردة في يهود بني إسرائيل 161 تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [40- 48] 163 جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب 165 تعليق على الحلقة الثانية في يهود بني إسرائيل [47- 57] 169 تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ... 173
تعليق على الحلقة الثالثة في يهود بني إسرائيل 175 تعليق على الحلقة الرابعة في يهود بني إسرائيل 178 تعليق على الحلقة الخامسة في يهود بني إسرائيل 181 استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية 184 تعليق على الآية بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ... 187
تعليق على الحلقة السادسة في يهود بني إسرائيل 189 تعليق على الحلقة السابعة في يهود بني إسرائيل 193 تعليق على جملة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ... 197
تعليق على الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... وما يليها 200 تعليق على الحلقة الثامنة في يهود بني إسرائيل 204 تعليق على الحلقة التاسعة في يهود بني إسرائيل 207 تعليق على الحلقة العاشرة في يهود بني إسرائيل 215 تعليق على الحلقة الحادية عشرة في يهود بني إسرائيل 222 تعليق على الحلقة الثانية عشرة في يهود بني إسرائيل 226 تعليق على الحلقة الثالثة عشرة في يهود بني إسرائيل 230 تعليق على الحلقة الرابعة عشرة في يهود بني إسرائيل 232 تعليق على الحلقة الخامسة عشرة في يهود بني إسرائيل 237 تعليق على الحلقة السادسة عشرة في يهود بني إسرائيل 243 تعليق على الحلقة السابعة عشرة في يهود بني إسرائيل 246 تعليق على الحلقة الثامنة عشرة في يهود بني إسرائيل 251 مدى تبديل القبلة في الرسالة الإسلامية 258 احتمال أن يكون التبديل إلهاما ربانيا 259 تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... 261
تعليق على الآية كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا ... 263
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا ... وما بعدها 265 تعليق على الآية إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... 268
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ... وما بعدها 272 استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم 274 استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات 275(6/525)
تعليق على الآية لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... وما فيها 284 تعليق على آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ ... وما بعدها 287 تعليق على آيات الوصية 294 تعليق على آيات الصيام ورمضان 300 تعليق على الآية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ ... 321
تعليق على الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... وما بعدها 327 تعليق على الشهر الحرام 336 تعليق على آية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... 340
تعليقات على الآية الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ... وما يليها 352 تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ... وما يليها 363 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ ... 366
تعليق على جملة وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 370 تعليق على جملة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... 371
تعليق على الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ... 374
تعليق على آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ 378 تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ... وما يليها 383 حكم المرتد عن دينه من المسلمين 386 تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... وما يليها 388 تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ... وما يليها 392 تعليق على الآية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... وما يليها 395 تعليق على الآية وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ... وما يليها 403 تعليق على الآية لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... وما يليها 407 حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته 411 تعليق على الآية وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ 412 تعليق على الآية الطَّلاقُ مَرَّتانِ ...
وما يليها 418 تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ ... 429
التلقين المنطوي في جملة وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ ... 430
تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ ... 431
تعقيب عام في صدد الطلاق وإناطته بالقضاء 432 تعليق على الآية وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ... 435
تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... وما يليها 439 تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ ... وما يليها 445 تعليق على الآية حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ ... وما يليها 450 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ ... 453(6/526)
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ... وما يليها 456 استطراد إلى الفرار من الوباء 458 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... وما يليها 460 تعليق على الآية تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ ... 463
تعليق على آية الكرسي 468 تعليق على الآية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ...
وما يليها 470 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ ... 472
تعليق على الآية أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ... 475 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي ... 477
تعليقات على الآية مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ... وما يليها 482 تعليق على آيات الربا 491 تعليق على جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ ... 500
تعليقات على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ ... وما يليها 507 تعليق على الآية لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... 517
تعليقات وأحاديث في صدد هذه الآيات 517 تعليق على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة 520(6/527)
الجزء السابع
السور المفسرة في هذا الجزء «1» 1- الأنفال 2- آل عمران 3- الحشر 4- سورة الجمعة 5- الأحزاب
__________
(1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.(7/5)
سورة الأنفال
في هذه السورة إشارات على سبيل الموعظة والعتاب والتذكير إلى وقعة بدر وظروفها ومشاهدها وما كان لها من آثار في المسلمين والكفار. وفيها تشديد وتوطيد لسلطان النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته. وتوطيد للوحدة الإسلامية والإخلاص للمصلحة العامة وعدم التأثّر بأي اعتبار شخصي أو أسروي في سبيل ذلك. وإنذار شديد للمخالفين والكفار والغادرين والخائنين. وحثّ على الاستعداد للعدو وقتاله والثبات أمامه إلى أن يرعوي وتتوطد كلمة الله وحرية دينه مع الدعوة المكررة إلى الإسلام والارعواء ومقابلة الميول السلمية بمثلها. وفيها تشريع لخمس الغنائم الحربية وتخصيصه للمصالح الإسلامية العامة والمحتاجين.
وفصول السورة منسجمة متسلسلة السياق مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة عقب وقعة بدر.
وقد روي أن الآيات [30- 36] مكية، ونحن نشك في هذه الرواية لأن الآيات منسجمة في سياقها موضوعا وسبكا. وقد شكّ في ذلك مفسرون آخرون أيضا.
وبعض رواة ترتيب نزول السور المدنية يذكرون هذه السورة ثانية السور نزولا وبعضهم يذكرونها ثالثة بل بعضهم يذكرونها رابعة «1» . وعلى كل حال فإن نزولها عقب وقعة بدر يكاد يكون يقينيا وتلهمه فحوى آياتها بقوة وهو المتفق عليه. وهذه الوقعة كانت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسنة وشهور قليلة
__________
(1) انظر ثبت ترتيبات النزول في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.(7/7)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
مختلف على عددها. ولما كانت آيات البقرة [217- 218] نزلت في صدد سرية عبد الله بن جحش على ما ذكرناه في سياقها في الجزء السابق وهي آخر سرية سيّرها النبي قبل وقعة بدر فيكون ترتيبها كثانية السور نزولا مقاربا وإن لم يمكن أن يقال إنه صحيح كل الصحة. وهذا التحفظ بسبب آيات في سورة آل عمران وهي قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) التي يكاد يجمع الرواة على أنها في صدد إنذار يهود بني قينقاع التي احتوت سورة الأنفال آيات يجمع الرواة كذلك على أنها في صدد حصار هؤلاء اليهود وإجلائهم ثم بسبب احتمال نزول فصول عديدة من سورة البقرة بعد سورة الأنفال حيث احتوت سورة البقرة فصولا عديدة متأخرة في النزول كثيرا على ما نبهنا عليه في مقدمتها والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
. (1) الأنفال: جمع نفل. وهو في أصله الزيادة على ما هو حق وواجب، ومنه نوافل العبادات. ومنه ما يعطى زيادة عن الحق من الغنائم. وكان يطلق كذلك على ما يفد من أسلاب الحرب من دواب وسلاح ومتاع. وصار جمعها (الأنفال) مرادفا لكلمة غنائم الحرب. وقد روي حديث جاء فيه أن النبي قال لأصحابه حينما(7/8)
ندبهم إلى الخروج إلى القافلة القرشية التي كانت في طريقها إلى مكة في ناحية بدر: اخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموهما والمتبادر أن التعبير استعمل على اعتبار أن الأنفال عطاء من الله للمسلمين.
(2) ذات بينكم: دخيلة نفوسكم وسرائركم.
في الآيات:
1- حكاية لسؤال وجهه المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن غنائم الحرب.
2- وأمر بالإجابة بأنها لله والرسول.
3- وتعقيب على الجواب بأمر موجّه إلى السائلين بتقوى الله ومراقبته وإصلاح سرائرهم وإطاعة الله ورسوله إن كانوا مؤمنين حقا.
4- ووصف للمؤمنين حقا: فهم الذين يستشعرون بخوف الله وهيبته حينما يذكر اسمه. ويزدادون إيمانا حينما تتلى عليهم آياته. ويتوكلون عليه. ويفوضون الأمر إليه. وهم الذين يؤدون واجب الصلاة له. وينفقون مما رزقهم في وجوه البرّ والخير. فهؤلاء هم المؤمنون حقا المستحقون للدرجات الرفيعة عند الله والذين لهم المغفرة والرزق الكريم لديه.
وأسلوب الآيات قوي رائع من شأنه أن ينفذ إلى أعماق العقول والقلوب.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة
ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيات «1» . منها المتفق في الجوهر مع اختلاف في الصيغة ومنها المختلف. ولقد أخرج الإمام أحمد حديثا عن عبادة بن الصامت جاء فيه: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدوّ فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون. وأقبلت طائفة على العسكر
__________
(1) اقرأ تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والقاسمي والزمخشري واقرأ سيرة ابن هشام ج 2 ص 242 وما بعدها، وخاصة 324 وما بعدها.(7/9)