إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
لنا أنها في معنى أن النجاة هي للذين تداركتهم رحمة الله فاهتدوا وآمنوا وعملوا الصالحات والله أعلم.
[سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 57]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
. (1) شجرة الزقوم: سبق تعريفها.
(2) المهل: دردي الزيت ورديئه.
(3) اعتلوه: احملوه بعنف وسوقوه.
(4) السندس والإستبرق: نوعان من الحرير. والكلمتان معرّبتان عن لغة أعجمية.
جاءت هذه الآيات في أثر الآيات السابقة استمرار للكلام أو تعقيبا وتدعيما لبيان مصير كل من الكافرين والمؤمنين يوم الفصل.
1- فلسوف يكون طعام الكافر الأثيم شجرة الزقوم الكريهة الطعم الذي يشبه طعم عكر الزيت ويغلي في البطون كغلي الماء فوق النار.
2- وسيأمر الله عز وجل الموكلين بالعذاب بأخذه وسوقه وإلقائه في وسط النار وصب الماء الشديد الحرارة فوق رأسه والاستهزاء به قائلين له هذا مقامك أيها العزيز الكريم أو يا من كنت تزعم لنفسك العزة والكرامة. فذق ثمرة كفرك(4/554)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
وغرورك. فهذا تحقيق ما كنت تشك وتماري فيه.
3- وسيكون المتقون في مقام الآمن فيحلون في الجنات والعيون ويلبسون ثياب الحرير ويتكئون على السرر متقابلين ويتمتعون بكل فاكهة ويتزوجون بالحور العين وقد وقاهم الله الموت مرة ثانية وكتب لهم الخلود في هذا النعيم وحماهم من عذاب النار وكل ذلك بفضل الله ورحمته، وهذا هو الفوز العظيم.
ووصف مصير الفريقين قوي رائع من شأنه إثارة الخوف في الكفار وبعث الطمأنينة والغبطة في المؤمنين. وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانية المنطوية فيها عن المشهد الأخروي.
[سورة الدخان (44) : الآيات 58 الى 59]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
. (1) ارتقب: بمعنى اصبر أو انتظر.
جاءت الآيتان معقبتين على وصف مصيري الكفار والمؤمنين. وخاتمتين للسورة والموقف الجدلي الحجاجي معا، وقد وجه الخطاب فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه إنما جعل القرآن بلسان النبي صلى الله عليه وسلم لعلّ السامعين يتعظون به لأنه بلغتهم، وإذا لم يتعظوا فلينتظر النبي صلى الله عليه وسلم ولينتظر الكفار معا أمر الله وقضاءه فهو واقع لا ريب فيه.
وفي هذا إنذار للكفار وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم استهدف به بثّ الثقة والقوة والأمل في نفسه كما هو المتبادر.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآيات [48- 50] نزلت في أبي جهل الذي قال في مجال الافتخار حينما أنذره النبي صلى الله عليه وسلم بآيات سورة العلق [15- 16] :
أيوعدني محمد والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها. وقد روى ابن كثير عن عكرمة صيغة أخرى من هذه الرواية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم له: إنّ الله تعالى أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع أنت ولا(4/555)
صاحبك من شيء، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم. ومع احتمال أن يكون مثل هذه المحاورة جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وصدر عن أبي جهل هذا القول فإنّ الآيات كما يبدو وحدة متماسكة متصلة بما قبلها وما بعدها وعلى سبيل الإنذار والتبشير بمصيري الكفار والمؤمنين بحيث يصح القول إنها لم تنزل في هذه المناسبة، وكل ما يمكن أن يكون أنها احتوت ردّا لاذعا شامتا على اعتداد أبي جهل وأمثاله بأنفسهم وعزتهم.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق ذكر شجرة الزقوم ووصفها حديثا عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيّها الناس اتقوا الله حقّ تقاته، فلو أن قطرة من الزّقوم قطرت على الأرض لأمرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن تكون طعامه وليس لهم طعام غيره» . حيث ينطوي في الحديث توضيح ترهيبي إنذاري نبوي متسق مع الترهيب الإنذاري الذي احتوته الآيات.
وفي الآية الأولى دليل جديد يضاف إلى الأدلة الكثيرة التي نبهنا عليها على أن لغة القرآن كانت مفهومة عند أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره من العرب بل كانت لغتهم التي هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على السندس والإستبرق
وما قلناه في صدد وسائل النعيم الأخروية في سياق سورة الزخرف وغيرها ينحسب على الوصف الوارد في هذه الآيات. وإن كان من شيء يصحّ أن يزاد فهو أنه لما كان الإستبرق والسندس كلمتين معرّبتين عن الفارسية أو الرومية على اختلاف الأقوال، ولما كانت روح الآيات تلهم أن ما يرمزان إليه من نوع النسيج الحريري كان معروفا وممارسا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره فإنه يسوغ القول إن في ذلك دلالة على ما كان من صلات تجارية وغير تجارية بين أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وفي الأقطار المجاورة لجزيرة العرب، وعلى اقتباس العرب لكثير من وسائل الحياة التي كان يتمتع بها أهل تلك الأقطار، وهو ما قامت عليه الأدلة الكثيرة القرآنية وغير القرآنية.(4/556)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
سورة الجاثية
في السورة صور عن مواقف وأقوال الكفار وعنادهم وتعصبهم الأعمى في صدد الدعوة النبوية والبعث والحساب. وحملة شديدة عليهم وإنذار بالخزي والعذاب الأبدي وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتثبيت لهم ودعوتهم إلى التسامح.
وتذكير بحالة بني إسرائيل وتعداد ما لله على الناس من أفضال وما في بعض مشاهد الكون من دلائل على عظمة الله وربوبيته الشاملة.
وفصول السورة مترابطة متساوقة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [14] مدنية وانسجامها في سياقها موضوعا وسبكا يحمل على الشك في الرواية.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
. (1) الرزق: هنا كناية عن المطر الذي فيه رزق الناس ومعيشتهم.
(2) تصريف الرياح: هنا بمعنى تسييرها.
ابتدأت السورة بالحاء والميم للتنبيه والاسترعاء على ما نبهنا عليه في أمثالها. وأعقبها تقرير رباني فيه توكيد بأن الكتاب الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم(4/557)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
هو تنزيل من الله العزيز الحكيم جريا على النظم القرآني الذي مرّ في السور المماثلة.
ثم أخذت الآيات تلفت نظر السامعين إلى مشاهد عظمة الله وقدرته في الكون مما هو ماثل للناس وتحت نظرهم وحسهم.
1- ففي السماء والأرض من المشاهد والمظاهر والنواميس آيات ربانية من شأنها أن تجعل من يريد الحق أن يؤمن بالله من خلالها.
2- وفي خلق الناس وما هو مبثوث في الأرض من أحياء آيات ربانية من شأنها أن تبعث اليقين بالله في من يريد اليقين.
3- وفي اختلاف الليل والنهار ونزول المطر وإحياء الأرض بعد موتها وتسيير الرياح آيات ربانية من شأنها أن تقنع كل من يتعقل ويتفكر.
ثم جاءت الآية الأخيرة تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وتقول له إن الله سبحانه ينزل الكتاب عليه لينبه الناس بواسطته إلى هذه الآيات. فإذا لم يتأثروا ويدركوا ويؤمنوا ويوقنوا فما هو الحديث الذي يمكن أن يؤثر فيهم ويحملهم على التعقل والإيمان واليقين بعد حديث الله وآياته.
وأسلوب الآية الأخيرة الاستنكاري ينطوي على تنديد موجه إلى الكفار كما ينطوي على تقرير عناد هؤلاء وإصرارهم على الجحود لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، لا سيما وهم لا ينكرون أن الله هو خالق السموات والأرض وخالقهم ومدبر الكون وما فيه. ويدل على أن مطلع السورة قد جاء بمثابة مقدمة وتمهيد لحكاية موقف الكفار الذي احتوته الآيات التالية مما هو متسق مع نظم السور السابقة.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
.(4/558)
(1) أفاك: كذّاب أو مفتر.
(2) رجز: أشد العذاب.
بعد ذلك المطلع التمهيدي جاءت هذه الآيات تحمل حملة شديدة على الكفار بسبب موقفهم من آيات كتاب الله تعالى وقد تضمنت:
1- تنديدا بالمفتري الكاذب الأثيم الذي تتلى عليه آيات الله، ويلفت فيها نظره إلى مشاهد عظمة الله وقدرته في الكون ثم يصر مستكبرا على جحوده كأنه لم يسمع شيئا. وإذا بلغه منها شيء قابله بالهزء والسخرية. فلأمثال هذا: الويل والبشرى بالعذاب الشديد الموجع المهين، وهم لاحقون بجهنم حقا ولن يفلتوا منها. ولن يغني عنهم ما هم فيه في الدنيا من مال وولد وزعامة وقوة، ولا ما اتخذوه من دون الله من أولياء وشركاء وشفعاء.
2- وتنبيها إلى أن آيات كتاب الله التي يتلوها رسوله على الناس هي هدى لكل من حسنت نيته وسلم قلبه وأراد الحق، أما الذين بيتوا العناد والكفر فلهم غضب الله وعذابه.
والآيات تنطوي على حكاية شدة عناد الكفار، أو بالأحرى زعماؤهم وأصحاب الوجاهة والثروة فيهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وآيات القرآن، وتصور شدة مكابرتهم في الحقّ ومقابلتهم ما كانوا يسمعون ويعلمون من آيات الله بالاستخفاف والتصامم.
وقد روى بعض المفسرين أن الآيات عنت النضر بن الحارث الذي كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس ويقول إن أحاديثه أحسن من أحاديث محمد. وهذه الرواية رويت في مناسبات عديدة، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة ومهما يكن من أمر فإن مجيء الآيات بضمائر الجمع يفيد أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك ليشمل(4/559)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
التنديد والإنذار جميع الكفار أو جميع الزعماء لتماثلهم وتضامنهم في الموقف الموصوف.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإنها على ما هو المتبادر تنطوي على تلقين جليل مستمر المدى في تقبيح المكابرة والعناد أمام الحق والحقيقة، وعدم تعقل الإنسان ما يسمعه وغفلته عنه أو تهربه منه على العمياء مندفعا في ذلك بالمكابرة والعناد.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 13]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
. في الآيتين عود على بدء في صدد التذكير ببعض نواميس الكون وفوائدها للناس:
1- فالله سبحانه هو الذي سخّر لهم البحر ويسّر لهم سير الفلك فيه لابتغاء فضل الله والحصول على أسباب الرزق مما يوجب عليهم شكره.
2- وهو الذي سخّر لهم ما في السموات وما في الأرض من نواميس وقوى لينتفعوا بها ويبتغوا بها من فضله كذلك، وفي هذا من آيات رحمة الله وبرّه ما فيه لمن يتفكر ويتدبر.
والآيات متصلة بما سبقها واستمرار لها كما هو واضح، وهي في صدد المعنى الذي نبهنا عليه في سورة لقمان لتسخير الله تعالى السموات والأرض لبني الإنسان بأسلوب أقوى وأوضح. وتتضمن في الوقت نفسه دعوة للناس إلى إدامة التفكير في النواميس والقوى الكونية والانتفاع بما أودعه الله فيهم من قوى للاستفادة منها في مختلف المجالات والصور.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 15]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
.(4/560)
(1) أيام الله: القصد منها بلاء الله وعذابه. وكلمة الأيام كانت تستعمل عند العرب كناية عن أيام الحروب، وجملة أيام العرب تعني حروبهم، وقيل إن الجملة تشمل نعم الله ونقمه معا وإن معناها لا يبالون بما يقال بأن النعم والنقم من الله.
في الآيتين:
1- أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمؤمنين إنه يحسن بهم أن يكظموا غيظهم إزاء الكفار الذين يتجاهلون بطش الله وانتقامه ولا يتوقعونهما ويصدرون فيما يفعلونه عن ذلك وأن يتسامحوا ويغضوا عما يأتونه من أفعال ويقفونه من مواقف نتيجة له.
2- وتقرير بأن الذي يعمل العمل الصالح إنما يعمله لنفسه، والذي يعمل السيء إنما يتحمل هو تبعته. وبأن مردّ الناس جميعهم إلى الله حيث يجزى كل منهم بما عمل.
والآية الثانية تعقيب على الأولى وتدعيم وتعليل لما احتوته من الأمر بالكظم والغفران كما هو المتبادر. وهي من الآيات الصريحة الحاسمة والمحكمة بأهلية الإنسان للعمل الصالح والسيء بما أودعه الله فيه من إرادة وقابلية وباستحقاقه الجزاء وفاقا لكسبه واختياره.
تعليق على آية قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [14] مدنية، وروى بعض المفسرين أنها نزلت في مناسبة شتم أحد المشركين لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مكة وتفكير هذا بمقابلته والتنكيل به. كما روى بعضهم أنها نزلت في المؤمنين(4/561)
الذين رأوا ازدياد أذى المشركين عليهم في مكة فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمقابلة «1» .
والروايتان تنقضان رواية مدنية الآية. ويلاحظ من ناحية ثانية أن الآيتين منسجمتان، وأن الثانية متممة للأولى، وأن مضمون الآيتين متسق مع ما احتوته آيات مكية عديدة من الحثّ والصفح والصبر. لذلك فنحن نشك في مدنية الآية، بل نجزم بعدم صحة رواية ذلك. أما ما ذكرته الروايتان من مناسبة النزول فقد يكون صحيحا حيث إنه من الممكن أن يكون عمر بن الخطاب أو غيره قد أنفوا من تحمل شتيمة الكفار وأذاهم فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمقابلة فاقتضت حكمة الله تهدئتهم. غير أن الذي يتبادر لنا أن الآيتين غير منقطعتين عن السياق السابق وأنهما في صدد موقف الكفار من آيات الله وسخريتهم وعنادهم. ونميل إلى القول إن بعض المسلمين قد تساءلوا عن حكمة الله في الصبر عليهم أو قد فكروا في الجنوح إلى مجادلة الكفار أو الرد عليهم بشيء من العنف فاقتضت حكمة التنزيل تهدئتهم والأمر بترك الأمر لله تعالى. وفحوى الآيات السابقة مما يقوي هذا التوجيه حيث احتوت صورة شديدة لموقف الكفار.
وحكمة أمر الله ظاهرة سواء أكان الأمر بعدم المقابلة على الأذى والشتيمة أم بعدم العنف في الجدل والدعوة. فبالنسبة للأمر الأول فقد كان المسلمون قلة ضئيلة وكان خصومهم أشد قوة ومالا وعددا فلو سمح لهم بالمقابلة لتطور الأمر وهيىء للكفار فرصة لضربهم ضربة ساحقة قد يكون لها على الدعوة أسوأ العواقب. وبالنسبة للأمر الثاني فالأوامر القرآنية المكية ظلت تتوالى- وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة- بوجوب الاكتفاء بالإنذار والتبشير والترغيب والترهيب والتذكير والتنديد والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والعنف في الدعوة أو الدفاع عنها مخالف لذلك.
ولقد قال المفسرون إن هذه الآية نسخت بآيات القتال المدنية، وقال الطبري إن هذا مجمع عليه عند أهل التأويل. ولقد قيل هذا في كل أمر في الآيات المكية
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن.(4/562)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
بالإغضاء والصفح والصبر في القرآن المكي. وفي القول وجاهة إذا قيد بما احتوته آيات القتال المدنية من شروط وحدود مثل مقاتلة المعتدين على المسلمين والناكثين بعهودهم معهم والطاعنين في الدين الإسلامي والصادين عنه بالقوة والفتنة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) . ومع ذلك فإن الآية الأولى تظل على ما يتبادر لنا مستمد تلقين للمسلمين في التسامح والكظم والإغضاء وضبط النفس تجاه مواقف غير المسلمين غير المستحبة وفي الظروف التي تتحمل ذلك ولا يترتب عليه ذل أو صدّ أو استمرار في الأذى والعدوان. ولا يتناقض هذا مع الآيات المدنية التي فيها تنظيم لعلاقة المسلمين بغير المسلمين على ما سوف نشرحه في مناسباته.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 20]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
. (1) الحكم: بمعنى الحكمة أي كل ما فيه السداد والصواب والنظر الصائب من أمر وقول وفعل.
(2) الشريعة: بمعنى الطريقة أو المنهج.
(3) من الأمر: المقصد من الجملة (من أمر الدين) .
عبارة الآيات واضحة، ويبدو أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة:
1- فمع أن الله تعالى قد آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وفضلهم على الناس في ذلك فإن هذا لم يمنعهم من الاختلاف والنزاع(4/563)
بعد ما جاءهم من العلم بغيا بغير حق.
2- ولسوف يقضي الله بينهم يوم القيامة فيؤيد الحق وأهله ويزهق الباطل وأهله.
3- ولقد جعل الله النبي على طريق واضح من الحق والهدى فعليه وعلى المؤمنين أن يسيروا فيها ولا ينحرفوا عنها ولا يختلفوا ويتنازعوا فيها كما فعل بنو إسرائيل ولا يتبعوا أهواء الجاهلين ولا يعبأوا بمواقف الكافرين الظالمين. فهؤلاء بعضهم أولياء بعض ولن تغني عنهم ولا يتهم لبعضهم من الله شيئا.
4- والله إنما هو ولي الذين يتّقونه ويلتزمون حدوده.
5- وإن في هذه التقريرات لبصائر للناس وهدى من شأنها أن تحملهم على التدبر والارعواء وفهم الأمور على وجهها الحق، وفيها بصورة خاصة الهدى والرحمة لمن حسنت نيته ورغب في الحق وشعّ نور اليقين في قلبه.
والآيات تنطوي على التهدئة والتثبيت والتطمين والبشرى للمسلمين كما هو واضح، ومن هنا جاء معنى التعقيب فيها على الآيات السابقة كما هو المتبادر.
وفي تقرير اختلاف بني إسرائيل- بغيا بعد ما جاءهم من العلم- إشارة إلى انحرافهم عن شرائع الله ووصاياه بعد ما كان لهم عند الله بسبب التزامهم ذلك المكان المفضل وأغدق عليهم عنايته في أشكال متنوعة حيث يتضمن ذلك:
1- التنديد بهم.
(2) وتقرير كونهم فقدوا بانحرافهم وبغيهم وتحريفهم لكتب الله مزية التفضيل التي منحهم إياها مما فيه تأييد لما قلناه في سياق تفسير السورة السابقة.
3- وقد يكون فيه إلى ذلك تحذير للمسلمين من الوقوع فيما وقعوا فيه وهذا قد تكرر كثيرا في الآيات المكية والمدنية.
هذا، ونكرر في صدد عبارة وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة من اتفاق المؤولين والمفسرين من أن ذلك بالنسبة للعالمين في(4/564)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
الزمن الذي شاءت حكمة الله أن يفضلهم فيه بسبب استقامتهم وليس على سبيل الشمول والاستمرار، وما ذكرناه في مدى تقرير اختلاف بني إسرائيل بغيا منهم مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 22]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
. (1) اجترحوا: اقترفوا أو ارتكبوا أو فعلوا، وفي سورة الأنعام وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [60] .
في الآية الأولى تساؤل فيه معنى التنديد بالذين يقترفون الأعمال السيئة ثم يتوهمون أنهم سيظلون بدون حساب وسؤال أو يكونون هم والذين يعملون الأعمال الصالحة سواء في مركز واحد في الحياة وبعد الممات وتوبيخ لهم على هذا التوهم الذي يقعون فيه.
وفي الآية الثانية تقرير بأن الله تعالى إنما خلق السموات والأرض بالحق وأن من الحق أن تجزى كل نفس بما كسبت دون جنف ولا إجحاف.
وفي الآيتين على ما يتبادر عودة على بدء إلى ما احتوته الآيات التي سبقت فصل بني إسرائيل أولا وتعقيبا على ما احتواه هذا الفصل وما بعده من تعقيب ثانيا.
وهما والحالة هذه استمرار في السياق والموضوع. وقد استهدفتا تطمين المؤمنين الصالحين وإنذار الكفار المسيئين، وتنبيها موجها إلى العقل على عدم إمكان تسوية المسيئين مع المحسنين وخلق الله للكون عبثا.
وهذه المعاني قد تكررت في القرآن ومرت أمثلة عديدة من ذلك في السور السابقة وفيها بطبيعة الحال حثّ مستمر المدى والتلقين على الإيمان والعمل(4/565)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
الصالح وتثبيت للمؤمنين الصالحين وإنذار للمسيئين في كل مكان وزمان، وبيان لحكمة البعث والجزاء الأخرويين وكون الإيمان والعمل الصالح واجتراح السيئات من مكتسبات الإنسان التي يجزي جزاء عادلا عليها وفاقا لها.
[سورة الجاثية (45) : آية 23]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
. في الآية لفت نظر فيه تنديد موجه إلى السامع لحالة الذي اتخذ من هواه إلها له عن علم وبينة وعناد فاستحق خذلان الله حتى غدا كمن ختم على سمعه فلا يسمع وعلى قلبه فلا يفهم وجعل على بصره غطاء فلا يرى. وانتهت بسؤالين أولهما يتضمن معنى التقرير بأن مثل هذا وأمثاله لن يستطيع أحد أن يهديهم بعد أن انصرف عن الله وانصرف الله عنه، وثانيهما يتضمن التنديد بالسامعين الذين لا يتدبرون هذه الحقيقة على وضوحها أو يتضمن الحث على تدبرها.
وفي الآية تعقيب على الآيات السابقة كما هو المتبادر كأنما أريد بها التقرير بأن ما وجه فيها إلى العقول والقلوب من خطاب ولفت نظر لن يؤثر في الكفار لأن موقفهم موقف المتعمد للجحود، ولأنهم يتعامون ويتصاممون وينصرفون عن التدبر في آيات الله عنادا ومكابرة.
تعليق على آية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ.. إلخ
والمقصود من تعبير اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إما أن يكون الإشارة إلى تحكم الهوى والغرض في المرء حتى يصبح مطيعا وخاضعا له كأنما هو إلهه. وإما تقرير كون ما عليه من عقائد وعبادات وعادات باطلة قائما على هوى النفس دون الحق والحقيقة. والآية تتحمل هذا وتتحمل ذاك وإن كنا نرجح الأول. والمقصود من تعبير وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أن ما هو عليه من موقف باطل جاحد ليس ناشئا عن جهل في الحق والحقيقة وإنما عن مكابرة وعناد مع العلم بهما ويكون معنى(4/566)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
الجملة أن إضلال الله له إنما كان بسبب نيته الخبيثة من قبيل وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة.
وقد توهم الآية أن فيها تأييسا للنبي صلى الله عليه وسلم من الكفار بسبب موقف المكابرة والعناد المتعمد، ولسنا نرى محلا لذلك التوهم. فالآيات ظلت تتوالى على النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستمرار في الدعوة والتذكير والإنذار رغم استمرار الكفار في عنادهم ومكابرتهم. والاستمرار في ذلك هو مهمة الرسالة العظمى التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم من حيث المبدأ والأصل. وهذا لا يمنع أن تكون انطوت على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه وتثبيته كما هو شأن كثير من الآيات المماثلة أو المقاربة، بل إن ذلك هدف رئيسي من أهدافها فيما هو المتبادر.
والآية في حدّ ذاتها تضمنت تلقينا مستمر المدى بالتنديد بكل مكابر جاحد للحق والحقيقة أو محرّف لهما أو منحرف عنهما لا سيما إذا كان صادرا في ذلك عن هوى في النفس ومرض في القلب وخبث في الطوية وعن عمد وتصميم. وهذه صورة موجودة في كل ظرف ومكان.
هذا، والتأويل الذي أوّلنا به الآية والمستلهم من مضمونها وروحها ومضمون وروح الآيات والسياق عامة يزيل ما يمكن أن يرد من وهم بكون تعبير وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً هو بمعنى تحتيم الضلال على الضال أو تأبيده، وإنما هو في صدد تصوير شدة عناد الكفار وتصاممهم عن عمد وتصميم، وفي صدد تقرير كون إضلال الله إنما ترتب على ذلك، مع استدراك استدركناه في مناسبات سابقة وهو أن ذلك كله هو بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها، وأن التأبيد فيه قاصر على الذين يستمرون فيه حتى الموت.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 26]
وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)
.(4/567)
في هذه الآيات:
1- حكاية لما كان يقوله الكفار كلما وعدوا بالبعث والجزاء بعد الموت حيث كانوا يقولون على سبيل الإنكار: إن الحياة والموت ظاهرتان طبيعيتان أو دهريتان فنحن نحيا ونموت على طبيعة الكون والدهر، وليس من وراء ذلك شيء، وما يهلكنا إلّا كرّ الأيام والليالي.
2- وحكاية لما كانوا يعمدون إليه من احتجاج كلما تليت عليهم آيات الله ووعيده بالآخرة حيث كان قصاراهم تحدي النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بآبائهم الميتين إذا كان صادقا في ما يقوله لهم وينذرهم به.
3- ورد عليهم منطو على التقريع فقولهم هذا هو جزاف لا يستند إلى علم ويقين وإنما يصدرون به عن عناد ومكابرة.
4- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إنه هو الذي يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم ليوم القيامة، وإن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه والذي هو في قدرة الله تعالى ولو لم يفهمه أكثر الناس ويتيقّنوه.
والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو واضح، والآية الثانية تدل على أن تحدي الكفار بإحياء آبائهم كان يتكرر منهم كلما كانوا ينذرون بالبعث والحساب الأخرويين. وقد مرّ في سورة الدخان السابقة مثال من ذلك. وقد تضمن أسلوبها وروحها تزييفا لحجة الكفار وتحديهم حيث قررت أن البعث المنذر به هو ليوم القيامة والحساب وحينما يحل الأجل المعين في علم الله. وقد جاءت الآية الثالثة بعدها لتدعمها بتقرير هذه الحقيقة ولعل الفقرة الأخيرة منها قد قصدت تقرير كون البعث متأتيا عن حكمة ربانية وكون محل تحقيقها هو يوم القيامة.(4/568)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
ولقد نبهنا في سياق تفسير آيات الدخان [34- 39] أن الردّ القرآني وحكمة عدم إجابة الكفار إلى تحديهم متسقة مع مشيئة الله في عدم إجابتهم إلى التحدي بالإتيان بمعجزة للبرهنة على ما في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودعواه بصلتها بالله من صدق وحقّ. فلا نرى حاجة إلى الإعادة ونكتفي بالقول: إن اتساق الرد هنا مع الردّ هناك دليل على صواب التوجيه والتنبيه إن شاء الله.
ولقد روى الطبري في سياق الآية الأولى حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنّما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فقال الله في كتابه وقالوا ما هي إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلّا الدهر قال فيسبّون الدهر فقال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار» «1» . وحديثا آخر عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله استقرضت عبدي فلم يعطني وسبّني عبدي يقول وا دهراه وأنا الدهر» . وحديثا ثالثا عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله قال لا يقولنّ أحدكم يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر أقلّب ليله ونهاره وإذا شئت قبضتهما» حيث ينطوي في الأحاديث توضيح نبوي وعظي يجب على المسلم أن يقف عنده.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 35]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
__________
(1) القسم الأخير الذي يبدأ بجملة: قال الله من هذا الحديث من مرويات البخاري أيضا، انظر التاج ج 4 ص 207.(4/569)
(1) جاثية: من الجثو وهو الجلوس على الركب جلسة المتقاضي أمام قاضيه. أو الجلوس جلسة القرفصاء جلسة الانتظار لقضاء الله. وذكر بعض المفسرين أن معناها: متجمعة إلى بعضها منتظرة قضاء الله في أمرها.
(2) لا يستعتبون: لا يطلب منهم تقديم الأعذار، أو لا تقبل منهم الأعذار، والأصل في معنى الاستعتاب إزالة العتب الناشئ من مساءة بالاعتذار عنها.
جاءت الآيات معقبة على الآيات السابقة، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد تضمنت توكيد حقيقة البعث وصدق الوعد بتحقيقه، وما يكون من شمول رحمة الله فيه للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما سوف يلقاه الكفار من خزي وتقريع ونار أبدية. كما تضمنت تذكيرهم بما كانوا يقولونه في جحود الساعة وشكهم فيها، وبما كانوا يقابلون به آيات الله من الهزء، وباغترارهم بالدنيا ونسيانهم هذا اليوم ونسيان الله لهم فيه مقابل ذلك وتقرير كون أعمالهم كانت تحصى عليهم وتكتب في كتاب الله فلن تقبل منهم الأعذار ولن يجدوا لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ من شأنه أن يثير الرعب والخشية من الله في قلوب الكافرين والطمأنينة في قلوب المؤمنين وهو مما استهدفته كما هو المتبادر. وما ورد في الآيات من دعوة كل أمة إلى كتابها ومن قول الله عز وجل لهم: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) قد ورد بأساليب أخرى في آيات سابقة وعلقناه على مداه بما يغني عن التكرار.
وتعبير نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ قد قصد به المقابلة اللفظية لأن الله عز وجل متنزه عن النسيان. والمتبادر أنه أريد به التناسي والإهمال أو إخراجهم من نطاق رحمة الله كما كانت هذه الرحمة تصيبهم في الدنيا.(4/570)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
[سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
. جاءت الآيتان خاتمة للسورة وخاتمة لحكاية مواقف الكفار وأقوالهم وإنذارهم والحملة عليهم جريا على أسلوب النظم القرآني في سور عديدة وبخاصة في سلسلة الحواميم. وهي خاتمة قوية حقا، فالله الذي أنزل آياته التي قررت ما قررت من ربوبيته الشاملة وعظمة كونه هو المستحق وحده للحمد وله وحده الكبرياء والتعالي فهو العزيز القوي الحكيم ربّ العالمين جميعا.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عزّ وجلّ: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما أدخلته النار» . وفي الحديث صورة من صور التعليقات النبوية على الآيات على سبيل الوعظ والتنبيه. فالكبرياء والعظمة لا يمكن أن يكونا لغير الله المستغني عن غيره الذي هو الأعظم والأكبر من كل شيء فمن حاول التشبّه بالله فيهما انحرف عن الحق واستحق عذاب الله.
[تمّ بتوفيق الله الجزء الرابع ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس وأوله تفسير سورة أحقاف](4/571)
فهرس محتويات الجزء الرابع
تفسير سورة يوسف 7 تعليق على ما روي من أسباب نزول الآيات 8 تعليق على مقدمة قصة يوسف 11 تعليق على الحلقة الأولى من قصة يوسف 13 تعليق على الحلقة الثانية من قصة يوسف 17 تعليق على الحلقة الثالثة من قصة يوسف 20 تعليق على الحلقة الرابعة من قصة يوسف 26 تعليق على الآيات التي أعقبت قصة يوسف 28 استطراد إلى ما يفعله بعض المسلمين من أفعال فيها سمة من سمات الشرك 29 توضيح لمدى سبيل الله وواجب المسلمين عامة 30 تفسير سورة الحجر 34 تعليق على ما في آية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ...
من معجزة 37 تعليق على مدى الآية كَذلِكَ نَسْلُكُهُ.. 42
تعليق على آية وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ.. 46
تعليق على أبواب جهنم السبعة 48 تعليق على مدى جملة بِما أَغْوَيْتَنِي 49 تعليق على جملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً ... 57
تعليق على آية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... 58
تفسير سورة الأنعام 63 تعليق على كلمة قرطاس 66 تعليق على طلب الكفار استنزال الملائكة وردّ القرآن 68 تعليق على الآية قُلْ أَيُّ شَيْءٍ ... 73
تعليق على جملة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ... 75 تعليق على جملة وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ... 79
تعليق على جملة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ... 83
تعليق على جملة فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.. 84
تعليق على آية وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ.. 86
تعليق على جملة مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ.. 89
تعليق على آية قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي.. 94
تعليق على الآية وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ.. 96
تعليق على الآية وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ.. 101
بعض الأحاديث الواردة في قُلْ هُوَ الْقادِرُ.. 105
تعليق على آية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ... 109
تعليق على جملة وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بالنسبة للنبي 111 تعليق على الآية قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ ... 114
تعليق على وصف إبراهيم عليه السلام بالحنيف 119 تعليق على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 121 تعليق على جملة وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ... 123
تعليق على جملة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ... 124
تعليق على الآية وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ... 130
تعليق على جملة لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ... 131
تعليق على جملة وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ.. 134
تعليق على جملة كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ ... 135
تعليق على آية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ ... 136
تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ ... 139
تعليق على الآية أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي ... 141
تعليق على آية فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ 143 تعليق على جملة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ 147(4/572)
تعليق على جملة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ ... 148
تعليق على الآية وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ ... 150
تعليق على آية وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ ... 153
تعليق على جملة فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ... 156
تعليق على الآية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ... 158
تعليق على تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وقتل الأولاد 163 تعليق على الآية وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ... 167
تعليق على الآية فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ... 171
تعليق على الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ... 171
تعليق على آية وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ... 177
تعليق على الآية سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ... 182
تعليق على جملة قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ ... 184
تعليق على آية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ... 185
تعليق على جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
188 تعليق على الآية ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ... 190
تعليق على موضوع ترجمة الكتب السماوية ... 192
تعليق على جملة يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ ... 195
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا ... 197
تعليق على الآية مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ ... 201
تعليق على آية قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي ... 204
تعليق على جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ... 205
تفسير سورة الصافات 207 تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام ومسألة الذبح 220 تعليق على جملة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 224 تعليق على ما وصف بكذبات إبراهيم عليه السلام 225 تعليق على قصة إلياس عليه السلام 227 تعليق على اسم بعل 228 تعليق على قصة لوط عليه السلام 229 تعليق على قصة يونس عليه السلام 230 تعليق على انصباب التنديد بالمشركين 233 تعليق على جملة وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ ... 235
تعليق على آية وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ... 236
تفسير سورة لقمان 240 تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ ... 243
تعليق على وصف الجبال والسماء 244 تعليق على شخصية لقمان وما في مواعظه من تلقين 247 تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء 250 تعليق على وصف الشرك بالظلم العظيم 252 تعليق على اختصاص الأم بالذكر 252 تعليق على الجملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء 254 تعليق على جملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ ... 255
تعليق على رواية مدنية الآيات [27- 28- 29] 259 تعليق على آية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ 263 تفسير سورة سبأ 264 تعليق على جملة وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... 266
تعليق على قصة داود وسليمان في السورة 271 تعليق على قصة سبأ وسيل العرم 275 تعليق على المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين 284 تعليق على جملة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ ... 284
تعليق على جملة نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً ... 288
أحاديث واردة في سياق الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ ... 288
تعليق على جملة إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ... 293
تفسير سورة الزمر 297(4/573)
تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ ... 299
تعليق على جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ 301 تعليق على جملة إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ... 302
تعليق على جملة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ... 305
تعليق على أمر الله للنبي في السورة بعبادة الله وحده 307 تعليق على إلهام جملة وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ بالهجرة 307 التلقين المنطوي في الآية قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا ... 309
تعليق على جملة قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ...
ونزوله على سبعة أحرف 318 تعليق على الآية ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ... 324
تعليق على جملة فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ 335 تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... 337
تعليق على جملة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ ... 341
تعليقات على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 344 تفسير سورة غافر 350 تعليق على جملة ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا 352 تعليق على ما جاء عن الملائكة في هذه الآيات 353 تعليق على جملة وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ ... 356
تعليق على جملة أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ 358 تعليق على جملة وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ 360 تعليق على آية فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ ... 360
تعليق على قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون ... 365
استطراد إلى مذهب التقية بصورة عامة وعند الشيعيين خاصة 368 تعليق على ذكر عاد وثمود ورسالة يوسف في الآيات 370 تعليق على جملة النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ...
372
تعليق على جملة إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ... 377
تعليق على جملة وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ 377 تعليق على موضوع الدجال ونزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان 380 تعليق على جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ 395 تعليق على روايات عدد الأنبياء 396 تفسير سورة فصّلت 404 تعليق على خلق السموات والأرض الوارد في السورة 408 تعليق على التباين في المشاهد الأخروية 412 تعليق على الآية وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ 413 تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ... 417
تعليق على آية وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... 419
تعليق على رواية عجيبة في صدد نزول الآية [35] 422 تعليق على عبادة الشمس والقمر عند العرب 424 تعليق على جملة وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا ... 428
تعليق على جملة لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ... 429
تفسير سورة الشورى 435 رواية عجيبة عن سرّ حم عسق 437 تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ... 439
تعليق على جملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 441 تعليق على آية شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ ... 443(4/574)
تعليق على جملة وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ ... 446
تعليق على آية فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ... 447
تعليق على آية وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ... 452
تعليق على جملة قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ... 457
تعليق على آية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ ... 465
تعليق على آية وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ 466 تعليق على الآية وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ ... 468
تعليق على آيات وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ... 473
تعليق على آية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ... 483
تفسير سورة الزخرف 488 تعليق على آية أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ ... 489
تعليق على جملة أُمِّ الْكِتابِ 490 تعليق على تكرار توكيد عروبة القرآن 490 تعليق على ما احتوته الآيات [16- 18] من وصف الإناث 494 تعليق على آية وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ... 496
تعليق على آية وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ... 499
تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ ... 501
تعليق على جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ... 502 تعليق على جملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ ... 506
تعليق على آية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ ... 508
تعليق على آية وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ ... 515
تعليق على جملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ... 516
تعليق على تأويل الشيعة للآية فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ... 518
تعليق على خبر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان 519 تعليق على رسالة عيسى عليه السلام لقومه وشخصيته وأقواله 521 تعليق على صحاف الذهب وأكواب الذهب 524 تعليق على اسم مالك خازن النار واستطراد إلى الملائكة 526 تعليق على جملة فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ 532 تفسير سورة الدخان 534 تعليق على آية إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ 536 تعليق على آية فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ ... 539
تعليق على توالي الإنذار بانتقام الله 543 تعليق على تعبير وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ 544 تعليق على آية وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ ... 547
تعليق على جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ 548 تعليق على آية فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 552 تعليق على السندس والإستبرق 556 تفسير سورة الجاثية 557 تعليق على آية قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ... 561
تعليق على آية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ... 566(4/575)
الجزء الخامس
السور المفسرة في هذا الجزء «1» 1- الأحقاف.
2- الكوثر.
3- الغاشية.
4- الكهف.
5- النحل.
6- نوح.
7- إبراهيم.
8- الأنبياء.
9- المؤمنون.
10- السجدة.
11- الطور. 12- الملك.
13- الحاقة.
14- المعارج.
15- النبأ.
16- النازعات.
17- الانفطار.
18- الانشقاق.
19- الروم.
20- العنكبوت.
21- المطففون.
22- الرعد.
__________
(1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.(5/5)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
سورة الأحقاف
في السورة حكاية لمواقف وأقوال الكفار وصور من الجدل والمناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وردود تنديدية وحجج مفحمة في سياقها، وإنذار للكافرين وتطمين للمؤمنين بمصائر كل منهم يوم القيامة. واستشهاد على صحة الدعوة المحمدية وصدق القرآن بالتوراة وموسى وإسلام بعض بني إسرائيل. وتنويه بالأبناء الصالحين وتنديد بالعاقّين، وتذكير بما كان من أمر عاد ورسولهم وهلاكهم. وحكاية لاستماع جماعة من الجن للقرآن وتأثرهم به وتدليل على قدرة الله على بعث الموتى.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [10 و 15 و 35] مدنيات، وانسجامها في السياق والموضوع وما يبدو عليها من طابع العهد المكي بقوة يسوّغ التوقف في الرواية.
وفصول السورة مترابطة مما فيه الدليل على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
. ابتدأت السورة بحرفي الحاء والميم للاسترعاء والتنبيه على ما قلناه في أمثالهما. وأعقبهما تقرير توكيدي بأن القرآن تنزيل من الله المتصف بالعزة والحكمة جريا على النظم الذي كان في السور السابقة.(5/7)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
ثم أكدت الآية الثالثة بأن الله لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا وإنما بحق وحكمة ولأجل معين في علمه. وعنفت الكافرين الذين يكابرون ويعرضون عما أنذروا به ودعوا إليه.
ويبدو من فحوى الآيات التالية أن هذه الآيات مقدمة لما احتوته تلك من حكاية مواقف الكفار وأقوالهم ومجادلتهم.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 4 الى 6]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
. (1) أثارة من علم: شيء من علم يقيني تأثرونه عن أحد أو بينة أو دلالة من مثل ذلك.
في الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار سؤالا ينطوي على التحدي عما إذا كان شركاؤهم خلقوا شيئا من الأرض أو لهم شركة في السماء حتى يستحقوا العبادة مع الله، وبطلب البرهان على الأهلية التي يرونها فيهم لذلك مستمدا من كتاب إلهي أو علم صحيح إن كانوا صادقين في دعواهم وعقيدتهم.
أما الآيتان الثانية والثالثة فقد احتوتا تعقيبا على هذا التحدي قائما على فرض الواقع من عجزهم عن الإجابة. وقد جاء ذلك بأسلوب التساؤل عما إذا كان هناك من هو أضلّ من الذين يدعون من دون الله من لا يمكن أن يستجيبوا لهم ولو ظلوا يدعونهم إلى يوم القيامة وهم في غفلة عن هذا الدعاء لا يدرون من عبادة عابديهم شيئا ولا يستجيبون لشيء من دعائهم أولا، وإذا حشر الناس يوم القيامة وقفوا منهم- أي الكفار المشركين الذين كانوا يدعونهم في الدنيا ويعبدونهم- موقف(5/8)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
العدو وأنكروا عبادتهم واستنكروها ثانيا.
والآيات متصلة بالمطلع كما هو واضح من حيث احتواؤها تحديا موجها للمشركين الكافرين الذين ندد بهم فيه. وأسلوبها قوي محكم ولاذع في مجال الإفحام والحجة والتحدي والتقريع كما هو ظاهر. وبدؤها بأمر قُلْ قد يدل على أنها في صدد موقف حجاجي وجاهي مع بعض المشركين أو ما هو بمثابة ذلك.
والمتبادر أن المقصود من الذين يدعوهم المشركون من دون الله والذين تشير إليهم الآية [5] هم الملائكة بقرينة تقرير الآية التالية لها بأنهم يقفون من عابديهم يوم القيامة موقف العداء والإنكار. وفي آيات سورة الفرقان [17- 18] وسورة سبأ [40- 41] اللتين مرّ تفسيرهما صراحة مؤيدة لذلك.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 9]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
. (1) تفيضون فيه: تتحدثون وتتبادلون الكلام الكثير فيه.
(2) بدعا: شيئا مبتدعا لا سابق له.
في الآيات:
1- حكاية لما كان يقوله الكفار حينما كانت تتلى عليهم آيات الله الواضحة حيث كانوا يقولون إن ما احتوته من أخبار البعث والحساب الأخروي وغير ذلك من أمور هو سحر، أو لا يخرج عن تخيلات السحر. أو حيث كانوا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن ونسبته إلى الله كذبا.(5/9)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
2- وأوامر بالرد عليهم بقوله إني لو كنت مفتريا على الله فإني أكون قد استحققت غضبه وهو قادر على إنزال نقمته وصب بلائه عليّ ولا يملك أحد حمايتي منه وهو أعلم بما تقولون من أقوال وتتهمونني به من تهم. وهو شهيد عادل بيني وبينكم وكفى به شهيدا. وهو المتصف مع ذلك بالمغفرة والرحمة وعلمه متسع لأقوالكم المثيرة. وإني لست بدعا في دعوتي ورسالتي فقد سبقني رسل دعوا مثلي إلى الله، ونزل عليهم كتب من الله. وإن قصاراي أن أنذركم وأبلغكم ثم أقف عند حدود ما يوحي الله به إليّ. ولا أدري ما سوف يفعله الله في المستقبل بي وبكم.
وواضح أن الآيات هي استمرار في حكاية موقف المناظرة والحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين التي بدىء بها في الآيات السابقة. والاتصال بينهما قائم سياقا وموضوعا، وأسلوبها قوي أخّاذ ومفحم معا وموجه إلى القلوب والعقول وبخاصة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في ردّ تهمة افتراء القرآن.
وجملة وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في مقامها رائعة ذات مغزى بديع، وهي أن غفران الله ورحمته تتسعان للناس رغم ما يصدر منهم من أقوال بذيئة فيها سوء أدب نحو الله ورسله، ومن انحراف عن طريق الحق والهدى. وهذا يجعله لا يعجل لهم بالعذاب ويمد لهم لعلهم يرجعون ويهتدون وإليه مرجعهم في الآخرة حيث يحق العذاب على من بقي مصرا على موقفه وهذا المعنى قد تكرر بأساليب مختلفة مرّت أمثلة عديدة منه في السور السابقة.
[سورة الأحقاف (46) : آية 10]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
. الضمير في مِثْلِهِ عائد إلى القرآن على ما قاله جمهور المؤولين وما يفيده فحوى الآية. وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار سؤال المستنكر المندد عن عنادهم واستكبارهم وقد شهد من بني إسرائيل شاهد على صدق مثله(5/10)
وهو التوراة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام ثم آمن به لأنه مماثل لها في المصدر والمدى. وتقريرا قرآنيا بأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد الظالمين المنحرفين عن الحق أمثالهم الذين يقفون مثل هذا الموقف العنيد المستكبر من آياته ورسله.
والآية استمرار في موقف المناظرة والحجاج وبالتالي فهي متصلة بالسياق.
ولما كان بنو إسرائيل بخاصة وأهل الكتاب بعامة موضع ثقة عند أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم فالآية تنطوي على إفحام وإلزام قويين كما هو المتبادر.
تعليق على ما روي في صدد هذه الآية من روايات وما احتوته من تسجيل
لقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن هذه الآية مدنية. وروى الطبري والبغوي في سياقها حديثا رواه البخاري أيضا عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنّه من أهل الجنة إلّا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ ... إلخ [10] » «1» . وروى الطبري روايات عديدة عن مواقف تصديقية وإيمانية لعبد الله بن سلام كان يفحم فيها اليهود وفي كل منها ذكر أن هذه الآية نزلت في مناسبتها. وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام نفسه أنه قال: «نزلت فيّ آيات من كتاب الله فنزلت فيّ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى آخر الآية، ونزلت فيّ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» «2» [الرعد: 43] . وقال ابن كثير: إن هذا ما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة والسدي والثوري ومالك بن أنس! على أن الطبري والبغوي يرويان عن مسروق: «والله ما نزلت في عبد الله بن سلام وما نزلت إلّا بمكة وما أسلم
__________
(1) التاج ج 3 ص 309- 310.
(2) المصدر نفسه.(5/11)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
عبد الله بن سلام إلّا بالمدينة. ولكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه فنزلت لها» . وقال البغوي: إن هناك من قال إن الشاهد هو موسى عليه السلام وإن الآية بسبيل تقرير كون القرآن مثل التوراة وكون موسى قد شهد على التوراة.
ويلحظ أن الانسجام تام بين الآية وما قبلها موضوعا وسبكا وسياقا. وأن الخطاب فيها موجه إلى الكفار وبسبيل الرد عليهم وإفحامهم في موقف جدلي ووجاهي. وهذا مما يقوي القول المروي عن مسروق. وقد قال الطبري إنه الأولى بالصواب. وقد يكون إسلام عبد الله بن سلام أو بعض مواقفه قد ذكر في مجلس من المجالس وتليت الآية فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت فيه. ولسنا نرى القول الذي ذكره البغوي بأن الشاهد هو موسى عليه السلام متسقا مع فحوى الآية إذا ما تمعن فيها. لأنها تفيد أن هناك شهادة عيانية وإيمانا واقعيا من إسرائيلي في ظروف نزولها وبهذا فقط تلزم الحجة المتوخاة منها للكفار. وهذا كله يجعلنا نعتقد أن الآية بسبيل ذكر حدوث تلك الشهادة والإيمان في مكة على علم ومسمع من الكفار ولقد كانت الصلات وثيقة بين مكة والمدينة التي كان فيها جالية كبيرة من الإسرائيليين ومن المعقول أن يكون بعضهم قد تسلل إلى مكة وأقام فيها أو على الأقل أن يكون بعضهم يتردد عليها للتجارة وغير ذلك من الشؤون. ولقد تكرر استشهاد الآيات المكية بأهل الكتاب وأهل العلم إطلاقا وتكرر تقرير كونهم كانوا يشهدون بأن القرآن منزل من الله ويؤمنون به مما مرت منه أمثلة عديدة وليس من مانع من أن يكون من هؤلاء إسرائيليون. وهكذا يمكن أن يقال بشيء من الجزم إن الآية تسجل إيمان إسرائيلي بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بصراحة في العهد المكي والله تعالى أعلم.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 12]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
.(5/12)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
في الآيات:
1- حكاية لقول صدر عن الكفار موجه إلى المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن القرآن والرسالة المحمدية لو كانا حقا وصدقا وخيرا لما تركناهم يسبقوننا إليهما وإنهما لكذب من الأكاذيب القديمة ولذلك لم نؤمن بهما.
2- وردّ عليهم بأن كتاب موسى هو قديم جاء قبل القرآن وهو هدى ورحمة، وبأن القرآن مثله ومتطابق معه نزل باللغة العربية لإنذار الظالمين وتبشير المحسنين.
والآيات كما هو واضح استمرار في السياق السابق من حيث حكاية مواقف الكفار وحجاجهم. ولقد تعددت الأقوال في القائلين والمقول عنهم حسب تعددها في الآية السابقة حيث قيل إن القائلين اليهود الذين ظلوا كافرين بعد إسلام عبد الله بن سلام وقيل إن القائلين بعض زعماء قريش والمقول عنهم بعض فقراء المسلمين ومنهم من سمّي عمّارا وبلالا وصهيبا. ومعظم المفسرين رجحوا القول الثاني «1» وهو الأوجه ولا سيما إنه صدر قبل هذه المرة أيضا على ما حكته آية سورة الأنعام هذه: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وهذا يعني أن هؤلاء الزعماء عوتبوا من قبل بعض المؤمنين البارزين على عدم إيمانهم فأجابوا بما ذكرته الآية [11] مما فيه صورة طريفة من صور السيرة النبوية في مكة ودليل على عدم قيام قطيعة شاملة بين المؤمنين والكفار، وهو ما ذكرت الروايات صورا كثيرة منه مبثوثة في كتب السيرة.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 14]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
. في الآيات ثناء على المستجيبين للدعوة المحمدية وتطمين لهم، ولعلها مما
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(5/13)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
يدعم ما قلناه في سياق تفسير الآيات السابقة. وقد احتوت ردا قويا على الكفار:
فمهما يكن من مركز الذين آمنوا فهم موضع ثناء الله وتطمينه، فليس هناك ما يثير فيهم الخوف والحزن وهم أصحاب الجنة خالدين فيها.
وواضح أن الآيات بناء على ذلك متصلة بالسياق.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن إطلاقها يجعلها مستمد تلقين مستمر المدى ومبعث تطمين وبشرى دائم لكل مؤمن مستقيم على إيمانه قائم بما يوجبه هذا الإيمان من حقوق نحو ربّه وبني ملّته وبني جنسه ومجتمعه. كما أنه ينطوي فيها حثّ على ذلك كما هو المتبادر.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
. (1) أوزعني: يسّر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني.
(2) أن أخرج: بمعنى أن أبعث بعد الموت.
في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما:(5/14)
1- فالله قد وصى الإنسان بوالديه إحسانا ولا سيما أمه التي قاست بسببه ما قاست من الشدة في الحمل وفي الوضع وفي الرضاع ثلاثين شهرا وفي تربيته إلى أن يصل مبلغ الرجال.
2- والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة. وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم.
3- وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرّت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب، وإن ما تقولونه ليس إلّا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجنّ الذين استحقوا غضب الله وعذابه.
4- وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف.
5- ولسوف يوجه الله تعالى الخطاب يوم القيامة إلى الذين كفروا حينما يساقون إلى النار ويصفون أمامها لطرحهم فيها قائلا: إنكم استوفيتم طيباتكم في الحياة الدنيا واغتررتم بما كان لكم فيها. وألهاكم ذلك عن التفكير في الله وواجبكم، وأضعتم الفرصة فسرتم في طريق الكفر والعصيان والاستكبار فاليوم تجزون بما تجزون وفاقا على سيرتكم هذه.
وقد يبدو أنه لا صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة ويتبادر لنا احتمال كون(5/15)
القول الذي حكي عن الكفار في الآية [11] قد كان بين ابن كافر وأب مؤمن أو بالعكس. ويقوي هذا الاحتمال ورود تعبير أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في هذه الآيات وورود تعبير إِفْكٌ قَدِيمٌ في تلك الآية. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صوابا إن شاء الله فتكون الصلة قائمة بين هذه الآيات وما قبلها، وتكون هذه الآيات قد جاءت معقبة على ذلك الموقف.
تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وما بعدها
ولقد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص «1» . وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما. وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له: أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف؟ فقالت عائشة أخته: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلّا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله «2» . وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه: «كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان: إنّ هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ الآية، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(5/16)
القرآن إلّا أنه أنزل عذري» «1» . على أن بعض المفسرين قالوا إنها عامة وعلى سبيل التمثيل والموعظة وهو ما نرتاح إليه «2» . ولا سيما هناك روايات تذكر أن إسلام والد أبي بكر تأخر إلى الفتح المكي وأن والدة سعد لم تسلم ولم يكن له والد بالنسبة للروايات الواردة عن الشق الأول. وأثر الخلاف السياسي الحزبي الذي نشب في صدر الإسلام بارز على الرواية الواردة عن الشق الثاني.
ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [14- 15] التي مرّ تفسيرها وآية سورة العنكبوت [8] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرين كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [15] مدنية، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى.
تعليق على جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
ولقد وقف بعض المفسرين عند جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ وأوردوا بعض الأحاديث التي قد تلقي في روع المسلم خوفا من الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا وتأثير ذلك على ما قد يكون له من نعيم في الآخرة، فمما أورده البغوي حديث روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثّرت الرمال بجنبه فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإنّ فارس والروم قد وسّع عليهم وهم لا يعبدون الله! فقال:
__________
(1) التاج ج 4 ص 207.
(2) انظر تفسير ابن كثير.(5/17)
أولئك قوم قد عجلت طيباتهم في الحياة الدنيا» . وحديث عن جابر بن عبد الله قال: إنّ عمر رضي الله عنه رأى لحما معلقا في يدي فقال: ما هذا يا جابر؟ فقلت له: لحم اشتريته. فقال: أو كلما اشتهيت شيئا يا جابر اشتريته؟ أما تخاف هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا. وقد علق البغوي المفسر على ذلك في سياق تفسير الآية قائلا: لما وبّخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة، ثم أخذ يروي بعض أحاديث عن شظف عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومنها حديث عن عائشة جاء فيه: «ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم» وحديث آخر عنها جاء فيه: «لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا وما لنا إلّا الماء والتمر غير أنّ الله جزى نساء من الأنصار خيرا كنّ يهدين إلينا شيئا من اللبن» . ومنها حديث عن عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه أنه أتى بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفّن في بردة إن غطّي بها رأسه بدت قدماه وإن غطّي بها رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا منها ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجّلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
ومما أورده الطبري «أن عمر بن الخطاب قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ولكني أستبقي طيباتي» . و «أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم يصنع مثله فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنّة، فاغرورقت عينا عمر وقال: لئن كان حظّنا في الحطام وذهبوا بالجنّة لقد باينونا بعيدا» و «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفّة وهي مكان يتجمع فيه فقراء المسلمين وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا قال: أنتم اليوم خير أو يوم يغدو أحدكم في حلّة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن يومئذ بخير؟ قال: بل أنتم اليوم خير» . و «قال أبو هريرة: إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الأسودين الماء والتمر والله ما كنّا نرى سمراءهم هذه ولا ندري ما هي» . ومما(5/18)
أورده الطبرسي: «أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد وكان يشتري القميصين فيخير غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر فإذا جاز أصابعه قطعه وإذا جاز كعبه حذفه. وكان يطعم الناس في ولايته خبز البرّ واللحم وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخلّ» . وهذه الأحاديث والروايات غير موثقة وغير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة. ومع ذلك فإنها إن صحت فالأولى حملها على محمل الرغبة في التفرغ للمهام العظمى التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وكبار أصحابه رضي الله عنهم والاستغراق فيها. أو تهوين الحرمان الذي كان يعيش فيه فقراؤهم، وليس فيها ما يدل على كراهية الاستمتاع بالطيبات دنيا، والآية موجهة إلى الكفار على سبيل التوبيخ لأنهم استغرقوا في الدنيا وشهواتها ونسوا الله وواجباتهم نحوه، ونحو خلقه فلم يبق لهم إلّا العذاب، فلا يصحّ أن تورد في مورد كراهية الطيبات بالنسبة للمسلم ولا سيما هناك آيات قرآنية صريحة تبيح الطيبات له وتنهاه عن تحريمها على نفسها ضمن حدود الاعتدال مثل آيات سورة الأعراف هذه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) ومثل آيات سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) حيث تنكر الآيات تحريم الطيبات وزينة الله وتقرر بأن للمؤمنين أن يستمتعوا بها مع الناس من دون إسراف ولا تجاوز وستكون من نصيبهم وحدهم يوم القيامة. وفي هذا ما فيه من قوة وروعة وتشجيع بل ونقض للفكرة التي أريد استخراجها من الآية بالنسبة للمسلم.
فالاستمتاع إنما يكون مذموما محظورا إذا كان فيه إثم أو إسراف أو استغراق يحول(5/19)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
دون مراقبة المسلم لربه ودون قيامه بواجباته. وإن المحرّم عليه هو الفواحش والإثم والبغي والشرك.
تعليق على جملة إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
هذا، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشدّه نقول: إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن. فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ... إلخ [6] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشدّ وموقفه أدقّ في حالتي الصلاح والطلاح والخير والشر معا. ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 25]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
. (1) أخا عاد: المقصود رسول الله إلى قوم عاد وهو منهم وهو هود عليه السلام كما ذكرت ذلك صراحة آيات أخرى مرت في سور عديدة سابقة.(5/20)
(2) الأحقاف: معناها في اللغة صحارى الرمل أو كثبانه. وفي القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب منطقة تعرف بالأحقاف شمال بلاد حضرموت، والمقصود من الكلمة في الآيات هذه المنطقة.
(3) وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه: النذر جمع نذير، وقد خلت بمعنى وقد مضت ومن بين يديه ومن خلفه قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها.
(4) لتأفكنا: لتصرفنا.
(5) عارضا: هنا بمعنى السحاب.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوم عاد ونبيهم، حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده. فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد وقالوا له إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به، فأجابهم إن علم ذلك عند الله وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربّه، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأوا سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلّا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم.
والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ليكون فيها عظة للكفار الذين وقفوا نفس الموقف. ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ(5/21)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) فاستحكمت الحجة والإنذار فيهم.
وتعبير أَخا عادٍ هو من التعابير العربية المألوفة، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتّى أرى منه بياض لهواته وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه فقلت يا رسول الله إنّ الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» «1» . وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة تغيّر وجهه وتلوّن ودخل وخرج وأقبل وأدبر فإذا أمطرت السماء سرى عنه وذكرت له الذي رأيت قال: وما يدريك لعلّه يا عائشة كما قال قوم عاد فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا الآية [24] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» . وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول: اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ عاقبته فإن كشفه الله تعالى حمد ربّه عزّ وجل وإن أمطر قال اللهمّ صيبا نافعا» .
حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 الى 28]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
__________
(1) روى هذا الحديث الأربعة أيضا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر التاج ج 4 ص 208.(5/22)
(1) فيما إن مكناكم فيه: فيما لم نمكنكم فيه، أي إنهم كانوا أقوى منكم وأشدّ تمكينا.
(2) فلولا: هنا بمعنى هلا للتحدي.
(3) قربانا: هنا بمعنى وسيلة للقربى والشفاعة.
جاءت الآيات معقبة على القصة جريا على النظم القرآني. ووجه الخطاب فيها للسامعين فقد مكن الله لقوم عاد في الأرض وآتاهم من وسائل القوة ما لم يمكنه ويؤته لقوم النبي صلى الله عليه وسلم السامعين وكان لهم سمع وأبصار وعقول فما استفادوا منها حينما جاءتهم آيات الله وجحدوها وسخروا منها. فحاق بهم سوء عواقب موقفهم دون أن تغني عنهم قوتهم وحواسهم وعقولهم شيئا. ولقد أهلك الله الأقوام الذين حول قوم النبي صلى الله عليه وسلم وذكّر قوم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما أنزله على رسوله من آيات متنوعة الأساليب لعلهم يتعظون ويرجعون عما هم فيه من غيّ وضلال.
فلو كان الشرك بالله مغنيا لأصحابه ونافعا لكان الشركاء نصروا الذين عبدوهم وأشركوهم مع الله واتخذوهم وسيلة قربى إليه. ولكن هذا لم يكن، وقد خذلهم الشركاء عند ما حاق بهم العذاب وغابوا عنهم وظهر أن ما كانوا عليه لم يكن في الحقيقة إلّا إفكا وافتراء.
والتعقيب قوي نافذ موجه إلى العقول والقلوب، وقد استهدف إثارة انتباه الكفار وحملهم على الاتعاظ بمن كان قبلهم ومن كان حولهم وأصابهم عذاب الله مع أنهم كانوا أشد منهم قوة وتمكنا، وصلة الآيات بالسياق قائمة واضحة.
والمتبادر أن تعبير ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى بسبيل التذكير بالأقوام الذين ذكر(5/23)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
القرآن قصصهم ممن كانوا يسكنون البلاد المتاخمة لمساكن الحجازيين السامعين للقرآن والموجه إليهم في بدء الأمر، أو واقعة على طريقهم ومناطق تجوالهم ورحلاتهم وهي قبائل عاد وتبّع في جنوب جزيرة العرب، وقبائل ثمود في شمالها ومدين وقوم لوط في الشمال الغربي ومصر في الجنوب الغربي والرسّ في شرق الجزيرة الشمالي وقوم نوح في العراق إلخ ...
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
. (1) صرفنا: وجهنا أو بعثنا.
(2) فلما قضى: فلما انتهى.
في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجنّ للقرآن وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها، وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليق على آية وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وما بعدها
ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث، منها أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا، فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه(5/24)
استوحش فسافر إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الله وطلب النصرة منهم فلقي جفاء وتعرض لسفهاء القوم الذين سبّوه ورشقوه بالحجارة حتى أدموه، فقال: «اللهمّ إني أشكو إليك ضعف قوّتي وقلة حيلتي وهواني على الناس فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين وأنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني أو إلى عدوّ ملّكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلّا بك» . ثم غادر الطائف يائسا حزينا حتى إذا بلغ نخلة قام في جوف الليل يصلّي مرّ به نفر من الجن فسمعوا القرآن فآمنوا وذهبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم فنزلت الآيات بخبر ذلك «1» . وسألوه الزاد فقال: «كلّ عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما، وكلّ بعرة أو روثة علف لدوابكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم الجنّ» «2» .
ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما: «قيل لعبد الله من آذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنت بهم شجرة» «3» . وجاء في ثانيهما: «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بال العظم والرّوث لا يستنجى بهما؟ قال: هما من طعام الجنّ وإنّه قد أتاني وفد جنّ نصيبين ونعم الجنّ فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألّا يمرّوا بعظم ولا بروثة إلّا وجدوا عليه طعاما» «4» . ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه:
«إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ فأيّكم يتبعني؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا. فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخطّ على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود:
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي، وانظر أيضا سيرة ابن هشام ج 2 ص 29- 31.
(2) انظر التاج ج 4 ص 208- 209. [.....]
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.(5/25)
فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبيّ الله تلا القرآن، فلما رجع قلت: يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعت؟ قال: اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم فقضى بينهم بالحق» وفي رواية أخرى عن ابن مسعود «1» يبدو أنها تابعة أو متفرعة عن هذه الرواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله هل رأيت شيئا قال: نعم، رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض قال أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة» ، وفي رواية ثانية تبدو أنها متفرعة أيضا: «قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول لهم اجلسوا.
فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطّفك بعضهم» . وفي رواية عن ابن عباس «2» أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماءهم: حسى وحسى، ومنسى، وساصر، وناصر، والأردوبيان، والأحتم، وزوبعة. وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس. وأن الجن كانوا ثلاث صنوف منهم على صفة الطيور، ومنهم على صفة الحيات والكلاب، ومنهم من يحلون ويظعنون «3» . وفي رواية عن ابن عباس «4» جاء فيها: لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا: هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون: «يا قومنا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنّا به» .
وتعليقا على ذلك نقول: إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح
__________
(1) انظر تفسير الخازن.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر تفسير ابن كثير.
(4) انظر تفسير البغوي.(5/26)
ومنها ما لم يرد. وفي جميعها غرائب وتناقضات ولقد روى المفسرون بعضها في سياق سورة الجنّ حتى ليتبادر من سياق بعضهم أن حادث الجن المذكور في سورة الجنّ وهذا الحادث واحد «1» . مع أن الشقة واسعة بين نزول السورتين- ربما كانت بضع سنين- ومع أن فحوى آيات كلّ من السورتين يفيد بقوة أنهما حادثان مختلفان ولم تسند رواية الاستماع في طريق العودة من الطائف بأي سند، ولم يرو أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه دعا بالدعاء المروي ولم يكن معه أحد، وإحدى الروايات تذكر أن سماع الجن كان في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف يائسا حزينا في نخلة بينما تذكر رواية أخرى أنها في نخلة أيضا ولكنه كان مع أصحابه وبينما تذكر رواية أخرى أنها كانت في بعض شعاب مكة حتى إن أصحابه افتقدوه وخافوا أن يكون اغتيل أو استطير.
وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهب لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم أحد.
والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به، ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به. هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع، في حين أن آية سورة الأعراف هذه: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [27] تفيد أن الإنس لا يرون الجن «2» .
ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه
__________
(1) انظر تفسير البغوي.
(2) الآية في صدد إبليس ولكن إبليس هو من الجن كما جاء في آية سورة الكهف هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ... [50] .(5/27)
قول الجن. وأورد قولا مماثلا للحسن البصري أحد مشاهير علماء التابعين نصه:
«إنّ النبي صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم» . حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجنّ ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة.
ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجنّ بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث، والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية. فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم. واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم، فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه. فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيته وصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحقّ فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين. وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا وموضوعا أيضا.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبثّ الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته. فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوىء المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها.(5/28)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
ومع ما قلناه من أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا خبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الجن وسماعه لهم ورؤيته إياهم قضية مسلمة فإن من الحق أن يقال إن في الأحاديث التي أوردناها ما يفيد ذلك. ولقد أوردنا حديثا صحيحا آخر في سياق الآية [35] من سورة (ص) فيه خبر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعفريت من الجن أيضا. ولقد علقنا على هذا الأمر بما رأيناه كافيا وما قلناه هناك يصح قوله هنا، والله تعالى أعلم.
هذا، ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا- على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه- على الدين النصراني. وهكذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني فلقد آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة، منها القصص والإسراء، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك، فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
. (1) ولم يعي: ولم يتعب.
(2) أولو العزم: المتصفون بقوة النفس والعقل والإرادة. وقد صار هذا(5/29)
التعبير اصطلاحا يطلق على بعض رسل الله.
(3) كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ: كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو بمثابة البرهة القصيرة التي لا تعدو ساعة من الوقت يقف فيها المسافر ليتبلغ بلقمة من الزاد ثم يستأنف سيره.
في الآيات:
1- سؤال رباني عما إذا كان الكفار لا يقنعون بأن في خلق السموات والأرض دون عناء ولا تعب دليلا قاطعا على قدرته على إحياء الموتى.
2- وتوكيد إيجابي بقدرته على ذلك وكونه قادرا على كل شيء.
3- وإنذار للكفار بما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة حيث يسألون حينما يعرضون على النار ليطرحوا فيها عما إذا كان هذا حقا فيجيبون بالإيجاب فيقال لهم حينئذ: ذوقوا العذاب جزاء كفركم وعنادكم.
4- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر ويثبت في موقفه ومهمته كما صبر وثبت أولو العزم من الرسل قبله ولا حاجة إلى استعجال العذاب للكافرين فهو لا حق بهم حتما. وحينما يرون تحقيق ذلك سيشعرون كأنهم لم يلبثوا في موتهم إلّا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو وقفة قصيرة يتبلغون فيها ثم صاروا إلى نكال الله الذي لا يقع إلّا على العصاة المشاقين لآيات الله ودعوته.
وقد جاءت الآيات رابطة بين أجزاء الآيات وسياقها قبل فصلي عاد والجن الاستطراديين وخاتمة لموقف المناظرة والحجاج الذي كانت آيات السورة بسبيله.
ومن هنا تكون الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة بالأسلوب المتكرر في خواتم السور السابقة. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأخيرة مدنية، وهو غريب.
ويلاحظ أنها متممة لما قبلها ومنسجمة بالسياق انسجاما تاما، وأسلوبها ومضمونها(5/30)
يمت إلى التنزيل المكي وظروفه وهذا ما يحمل على الشك في ذلك.
ولقد ذكر بعض المفسرين «1» أن تعبير بَلاغٌ قد قصد به تقرير كون القرآن أو الإنذار الذي احتواه هو بلاغ للسامعين أو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه. وما حملناه عليه وأولناه به قد قال به مفسرون آخرون «2» والتعبير وروح الآية يتحملان المدلولين ونرجو أن يكون المعنى الذي رجحناه مع مفسرين آخرين هو الصواب إن شاء الله.
لقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في أولي العزم من الرسل. فروى البغوي عن ابن زيد: أن كل الرسل كانوا أولي عزم وأن الله لم يبعث نبيا إلّا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل وأن (من) إنما دخلت على الكلمة للتجنيس لا للتبعيض. غير أن هذا المفسر قال إلى هذا أن بعضهم قال: إن جميع الأنبياء أولو عزم إلّا يونس بدليل أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ...
الآية [48] سورة القلم. وأن قوما قالوا: هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام والذين وصفوا في الآية الأخيرة من سلسلتهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [90] وأن الكلبي قال: إنهم الذين أمروا بالمكاشفة على أعداء الدين وجهادهم وأن هناك من قال إنهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء وأن ابن عباس وقتادة قالا: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أصحاب الشرائع وهناك من أدخل يوسف وأيوب في عداد أصحاب العزم. وقال ابن كثير: إن أشهر الأقوال إنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم الذين ذكروا معا في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى. وقال الطبرسي: إنهم الذين شرّعوا الشرائع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها. ومع أن قول ابن زيد الذي رواه البغوي سديد فإن هذه المسألة لا يصح الجزم فيها إلّا بأثر نبوي وليس هناك مثل هذا الأثر.
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن وابن كثير وغيرهم.
(2) انظر تفسير الطبري والطبرسي.(5/31)
ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: «ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظلّ صائما ثم طواه ثم ظلّ صائما ثم قال: يا عائشة إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمّد ولا لآل محمد. يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلّا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلّا أن يكلّفني ما كلّفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي، ولا قوة إلّا بالله» . حيث ينطوي في الحديث موقف من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة عند الآيات القرآنية وأخذه نفسه بأشد ما يكون من الصبر والجهد والاستغراق في طاعة الله استلهاما منها.
وقد ذكر بعض المفسرين «1» في صدد تعبير وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [35] أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ضجر من إصرار الكفار وتحديهم العذاب فتمنى أن يأتيهم العذاب في الدنيا فكان في الآية جواب الله على أمنيته. ونحن نميل إلى القول بأن التعبير أسلوبي يقصد به التطمين وقد ورد المعنى في آيات كثيرة بصيغ متنوعة مرت أمثلة منها والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبرسي.(5/32)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
سورة الذاريات
في السورة توكيد بالبعث والحساب، وحملة شديدة على المكذبين الجاحدين وتنويه بالمتقين وأعمالهم الصالحة ومصائرهم في الآخرة. وفصل قصصي مقتضب عن بعض الأنبياء والأمم بينه وبين موقف النبي صلى الله عليه وسلم والكفار تماثل، وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، وآياتها متساوقة متوازية مما يسوّغ القول بأنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)
. (1) الذاريات: كناية عن الرياح الذي تذرو التراب أي تثيره وتحركه. وفي سورة الكهف آية فيها هذا المعنى صريح وهي: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ [45] .
(2) الحاملات وقرا: الوقر هو الحملة، والجملة كناية عن السحاب الذي يكون حاملا للماء.
(3) الجاريات يسرا: السفن التي تجري في البحر بسهولة أو الرياح الجارية في مهابها أو الكواكب الجارية في منازلها حسب تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في الصدر الإسلامي الأول.(5/33)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
(4) المقسمات أمرا: المنفذون لأوامر الله وهم الملائكة أو السحب التي تقسم الأمطار على الأرض حسب تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون.
(5) الدين: الجزاء. والكلمة كناية عن البعث الذي يكون فيه جزاء كل نفس بما كسبت.
ابتدأت السورة بالأقسام الربانية جريا على الأسلوب القرآني في عدد غير قليل من السور المكية وبخاصة القصيرة. وقد قصد بها توكيد كون ما يوعد به الناس من البعث والجزاء هو وعد صادق وأمر واقع حتما.
وروح الآيات وإن كانت تلهم أنها في صدد إنذار السامعين المخاطبين عامة فإن أسلوبها والآيات التالية لها تدل على أن المقصود بالإنذار هم الكفار.
ويلحظ شيء من التساوق بين هذا المطلع وبين خاتمة سورة الأحقاف من حيث توكيد البعث والجزاء مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد تلك.
والمتبادر أن الإقسام بالمقسومات التي هي مشاهد كون الله ونواميسه وعظيم خلقه قد انطوت على قصد التذكير بعظمة خالق الكون وقدرته على تحقيق ما أوعد الناس به.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 14]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11)
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
. (1) ذات الحبك: ذات الصنع الحسن المتقن أو ذات المسالك والطرائق أو ذات النجوم حسب تعدد الأقوال.
(2) إنكم لفي قول مختلف: إنكم مختلفون في أقوالكم لستم على شيء(5/34)
واحد أو بمعنى أنكم في أمر القرآن ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يبشّر وينذر به مختلفو المذاهب.
(3) يؤفك عنه من أفك: المتبادر أن (عنه) تعني القول الحق ويكون معنى الجملة يصرف عن الحق في الأقوال من يصرف وهم الخراصون.
(4) الخراصون: المتوهمون والظانون على غير أساس وعلم.
(5) غمرة: جهالة غامرة أو شاملة.
(6) يفتنون: يعرضون أو يحرقون. وقد تكون الكلمة قد استعملت مقابل فتنتكم التي قد تحتوي التذكير بما كان من زعماء الكفار من إعراض وحمل الناس على الانصراف والارتداد عن الدعوة.
(7) ذوقوا فتنتكم: ذوقوا طعم حريق النار أو ذوقوا جزاء فتنتكم في الدنيا.
وهذه الآيات تبتدئ بقسم رباني أيضا بالسماء ذات الحبك بأن السامعين للقرآن واقعون في اختلاف وارتباك في شأن القرآن والدعوة والنذر الربانية والبعث الأخروي وفهم أهداف ذلك. وتقرر أنهم بسبب ذلك انصرف عنه الراغب عن الحق والهدى. ثم التفتت إلى الذين هم ضاربون في الظنّ والتخمين متعامون عن الحقيقة وتدبرها التفاتا فيه تنديد وتقريع يتمثلان في لفظ قُتِلَ فهم ساهون في غمرة الجهالة عن فهم الحق وإدراك الحقيقة ثم يظلون يسألون سؤال الشك والإنكار عن موعد يوم الجزاء الذي يوعدون به. ثم انتقلت إلى توكيد الأمر:
فلسوف يأتي ذلك اليوم ولسوف يلقون فيه في النار ولسوف يقال لهم حينئذ ذوقوا عذاب الحريق أو ذوقوا جزاء ما كنتم من حالة العناد والصدّ والانصراف في الدنيا فهذا الذي كنتم تستعجلون وتتحدّون الإتيان به.
والصلة واضحة بين هذه الآيات والآيات السابقة وفيها كما قلنا بيان بأن المخاطبين في الآيات هم الكفار، وقد استهدفت فيما استهدفته الإنذار لهم وإثارة الخوف في قلوبهم وحملهم على الارعواء.
ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم استعجال العذاب لهم(5/35)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
بسبب استعجالهم له على سبيل التحدي.
وقد احتوت الآية الأخيرة من هذه الآيات ردا تقريعيا على تحديهم بأن ما كانوا يستعجلونه قد جاء به حيث يمكن أن يكون هذا قرينة أخرى على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة الأحقاف.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 19]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
. (1) محسنين: يفعلون الحسنات والأفعال الحسنة.
(2) المحروم: هو المحارف الذي يطلب الدنيا ولكنه لا ينالها أو الذي لا يكون له سهم في الغنائم ولا يجري عليه شيء من الفيء، أو المحدود في رزقه الذي لا يسأل الناس مع ذلك على ما أورده المفسرون. وهذا الوصف يشبه بل يماثل وصف المسكين الذي ورد في الحديث النبوي الذي أوردناه في تعليقنا على المسكين في سياق الآية [44] من سورة المدثر.
في الآيات تنويه بأعمال المتقين الصالحين في الدنيا ومصيرهم في الآخرة، فسينزلون في الجنات والعيون ويستمتعون بها بنعم الله جزاء ما كانوا يفعلونه من الأفعال الحسنة في الدنيا حيث كانوا من جهة يقضون أكثر لياليهم بعبادة الله وطلب مغفرته ورحمته، ويساعدون من جهة أخرى بأموالهم السائلين والمحرومين الذين يتعففون عن السؤال لأنهم يعرفون أن لهم فيها حقا واجبا.
وواضح أن الآيات جاءت لتقابل الآيات السابقة في صدد المفاضلة بين المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة.(5/36)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
تعليق على وصف المتقين وما فيه من تلقين ودلالة
ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأخيرة من المعنى القوي في اعتبار مساعدة المحتاجين سواء أكانوا من السائلين أم المتعففين عن السؤال حقا واجبا على أصحاب الأموال وما في ذلك من تلقين جليل. ولقد تكرر هذا المعنى في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره مثل سورة الإسراء التي ورد فيها: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [26] ومنها سورة الروم التي ورد فيها نفس العبارة [الآية 38] حيث يدل هذا على أن حكمة التنزيل قد استهدفت تقوية هذا المعنى في نفوس المسلمين حتى لا يرى الأغنياء فيما يساعدون به الطبقات المعوزة وما يؤخذ من أموالهم لذلك عملا تبرعيا وتطوعيا لهم فيه الخيار ولهم فيه حقّ المنّ والاعتداد. وحتى لا يرى المحتاجون في أنفسهم حرجا ولا غضاضة من أخذ ذلك لأنه حقّ لهم. ولقد جاء في آية سورة الحديد: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [7] وجاء في سورة النور: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [33] حيث احتوت الجملتان القرآنيتان اللتان لهما أمثال عديدة تقوية لهذا المعنى بأسلوب آخر فيه تلقين رائع أيضا وهو أن ما في أيدي الناس هو مال الله الذي استخلفهم فيه. كذلك يلفت النظر إلى وصف المتقين حيث ينطوي فيه على ما هو المتبادر وصف للرعيل الأول من المؤمنين في مكة حيث استغرقوا في عبادة الله وبخاصة في الليل، وفنوا في الله ورسوله وفهموا حكمة الله وتلقيناته فكانوا يبذلون أموالهم للمعوزين ويرون ذلك حقا واجبا عليهم، وفي هذا صورة رائعة لأثر الإيمان في قلوبهم من دون ريب.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 20 الى 23]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
.(5/37)
في الآيات:
1- لفت نظر السامعين إلى ما في الأرض من مشاهد وآيات تقوم براهين قاطعة على وجود الله وعظمته وصحة ما ينذر به نبيه وقدرته عليه كافية لإقناع من حسنت نيته ورغب في معرفة الحق واليقين.
2- ولفت كذلك وبسبيل ذلك إلى ما في تكوين الإنسان الجسماني والعقلي وإلى السماء وما فيها من أسباب رزق الناس وحياتهم.
3- وسؤال إنكاري وتعجبي في صدد ما في تكوين الإنسان عما إذا كان السامعون لا يدركون ذلك ولا تذهلهم روعته وعجائبه.
4- وانتهت الآيات بقسم برب السماء والأرض اللتين احتوتا ما احتوتاه من الآيات والبراهين العظيمة على أن ما يسمعه المخاطبون من نذر وما يتلى عليهم من قرآن حقّ لا يصح الارتياب فيه، ومثله مثل حاسة النطق في الناس التي لا يصح الارتياب فيها.
والآيات وإن كانت مطلقة التوجيه فالمتبادر أنها موجهة إلى الكفار الذين يجادلون في صحة ما يتلى عليهم وما يوعدون به. وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة سياقا وموضوعا.
وفي مِثْلَ قراءتان بفتح الآخر وبرفعه. وفي الأولى جعلت وصفا لمحذوف مقدّر وهو (إنه لحق حقا مثل ما أنكم تنطقون) .
وأسلوب الآيات قوي نافذ، وبعضهم يقف عند جملة وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ويتخذها دليلا على الإعجاز القرآني بما ظهر فنيا من تكوين الإنسان وعجائب خلقته المذهلة. ونحن لا نجاريهم، فإن كون ذلك مذهلا ليس شيئا جديدا على الناس فهو مما كان ملموسا مدركا يثير الدهشة والذهول عند نزول القرآن. والقرآن إذ يخاطب السامعين الأولين ويلفت نظرهم إلى ما في أنفسهم من(5/38)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
عجائب إنما يخاطبهم بما هو من مشاهداتهم ومدركاتهم. وهذا ما يفسر معنى الإنكار والتنديد في السؤال أَفَلا تُبْصِرُونَ. وهذا القول لا يمنع أن ما ظهر فنيا من أمور كانت غامضة مما يزيد من مدركات الإنسان الحديث ومما يجب أن يجعله موقنا بعظمة المبدع الحكيم فضلا عن وجوب وجوده.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 46]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)
. (1) منكرون: مجهولون غرباء عن هذه الديار أو مثيرون للريب.
(2) راغ: مال وانصرف بخفية.
(3) في صرة: في صيحة أي ولولت وصاحت حينما سمعت بشرى بأنها ستحبل وتلد وهي عجوز عقيم.
(4) مسومة: معلمة مهيأة.(5/39)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
(5) آية: علامة أو أثر، وهنا في معنى ما بقي من مساكن قوم لوط من آثار التدمير التي يشاهدها الناس.
(6) تولى بركنه: تولى وهو مرتكن على قوته أو أعرض وازورّ.
(7) اليمّ: البحر، وأصله الماء.
(8) وهو مليم: وهو مستحق اللوم.
(9) الريح العقيم: التي لا تبقي على أحد.
(10) كالرميم: كالعظم البالي.
في هذا الفصل إشارة إلى حوادث ورسالات بعض الرسل ومصائر أممهم مما احتوت السور الأخرى مثلها بإسهاب تارة واقتضاب تارة أخرى حسب ما اقتضته حكمة التنزيل. وقد جاء عقب الآيات التي حملت على الكفار ونددت بهم وأوعدتهم بسبب جحودهم جريا على الأسلوب القرآني. واستهدفت كما هو المتبادر ما استهدفته الفصول القصصية من التذكير والزجر لحمل السامعين على الارعواء والاتعاظ. فالفصل والحالة هذه متصل بالسياق السابق. وعبارته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر ولسنا نرى زيادة بيان في موضوعه لأننا علقنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بما فيه الكفاية.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 51]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
. (1) بأيد: بقوة وقدرة.
(2) موسعون: ذوو سعة وشمول.
(3) فرشناها: بمعنى بسطناها.
(4) فنعم الماهدون: الماهدون الممهدون الذين يجعلون الشيء قابلا(5/40)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
للانتفاع. والجملة بمعنى أن الله يفعل ذلك على أحسن وجه.
(5) زوجين: تأتي بمعنى صنفين وبمعنى نوعين وبمعنى ذكر وأنثى.
(6) ففرّوا إلى الله: بمعنى سارعوا إلى الله بالتوبة هربا من غضبه.
في الآيات الثلاث الأولى: لفت لنظر السامعين إلى بعض مشاهد قدرة الله وأفضاله:
1- فهو الذي رفع السماء وبناها بقوته.
2- وهو الذي بسط الأرض ومهدها على أحسن وجه.
3- وهو الذي خلق من كل شيء زوجين ليتم التماثل والتناسب في ملكوت الله. فهو ذو القدرة الشاملة الواسعة، ولنعم الصنع صنعه والتمهيد تمهيده. وإن في كل هذا لتذكرة من شأنها أن تدعوا السامعين إلى التدبر في عظمة الله وآلائه والاعتراف بها.
ثم جاءت الآيتان الأخريان تعقبان على هذه الآيات وتهتفان بلسان النبي صلى الله عليه وسلم: أن سارعوا والحالة هذه إلى الله وفروا من غضبه والمصير الرهيب الذي يستحقه الجاحدون، وأن لا تدعوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين.
وقد جاءت الآيات الخمس عقب الفصل القصصي لتكون نتيجة له ومقررة بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث كما بعث الأنبياء وأن ما يدعو إليه هو ما دعوا إليه ومنذرة بمصير الجاحدين من الأمم السابقة.
والآيتان الأخريان وإن كانتا بأسلوب خطاب نبوي موجه للسامعين إلا أن انسجامهما في السياق ظاهر. والمفسرون يقدرون في مثل هذه الآيات محذوفا وهو (قل) ومثل هذا قد تكرر في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة بحيث يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 55]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
.(5/41)
(1) أتواصوا به: هل وصّى بعضهم بعضا بهذا القول.
في الآيات:
1- إشارة إلى أن الكفار في قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر أو مجنون إنما يفعلون كما كان يفعل الذين من قبلهم حيث كانوا يقولون لكل رسول أتى إليهم مثل ذلك.
2- وتساؤل تعجبي عما إذا كان السابقون واللاحقون قد تواصوا ليقولوا قولا واحدا.
3- واستدراك تعليلي لذلك بأن الذين جمعهم على وحدة القول إنما هو الاتحاد في خلق الطغيان وسوء النية فالطبيعة الواحدة يصدر عنها مظهر واحد.
4- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عنهم فلا يحمّل نفسه همّا، فإنه لا لوم عليه من جراء موقفهم الجحودي وعليه أن يستمر في التذكير الذي هو قصارى واجبه وهو نافع لمن أراد الحق والهداية ورغب في الإيمان حتما.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو المتبادر. وقد احتوت تنديدا لاذعا بالكفار وتطمينا وتثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم. والآية الأخيرة بخاصة احتوت تنويها بالمؤمنين وذوي النيات الحسنة والرغبة الصادقة، فهم الذين ينتفعون بالتذكير والإرشاد مما تكرر مثله في المناسبات السابقة.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى لدعاة الإصلاح والمرشدين، فعليهم أن يستمروا في الدعوة ولا ييأسوا من بطء استجابة الناس لدعوتهم وإن دعوتهم لمؤثرة نافعة حتما في ذوي النفوس الطيبة والقلوب الصافية والنوايا السليمة.(5/42)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
تعليق على آية فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتولي عن الكفار لا يعني الكفّ عن دعوتهم وإنذارهم، فهذه مهمته. والآية التالية استدركت ذلك وأمرته بالاستمرار في التذكير وإنما فيه على ما يتبادر لنا معنى التسلية والتهوين والأمر بعدم المبالاة بإعراضهم وعنادهم مما مرّ منه أمثلة كثيرة.
ولقد روى المفسرون «1» أن الآية لما نزلت حزن النبي صلى الله عليه وسلم واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر. فأنزل الله الآية التالية فطابت نفوسهم وهذا يقتضي أن تكون الآيات قد نزلت منفصلة عن بعضها، في حين أن الآيتين منسجمتان مع ما قبلهما وبعدهما انسجاما تاما مما يدل على أنها نزلت وحدة. والرواية التي يرويها المفسرون لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وليس فيها ما يوجب حزنا وغمّا في الوقت نفسه على ما هو المتبادر منها.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 56 الى 58]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
. في الآيات تقرير بأن الله عز وجل إذ خلق الإنس والجن قد أوجب عليهم الاعتراف به وعبادته وحده. ولم يرد منهم رزقا ولا طعاما فإنه هو الرزاق القوي القادر المستغني عن كل شيء.
والآيات أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله في صورة تنديد لاذغ بالذين ينحرفون عنه ويجحدونه أو يشركون معه آلهة أخرى بينما هم يعترفون بأنه الذي خلقهم كما هو شأن مشركي العرب سامعي القرآن. فالله لم يخلقهم ليرزقوه وإنما
__________
(1) انظر كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي وعبارة الثلاثة (قال المفسرون) والبغوي أقدمهم حيث توفي سنة 516 هـ.(5/43)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
ليعبدوه ويشكروه واتصالها بسابقاتها قائم بكونها أسلوبا من أساليب التذكير وحلقة من حلقات التعقيب على الآيات السابقة.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 59 الى 60]
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
. (1) ذنوبا: نصيبا. وأصله الدلو العظيمة واستعمالها هنا يلهم أن السقاة كانوا يتبادلون في ملء الدلاء حتى صار اسم الدلو يقوم مقام الدور والحصة.
(2) أصحابهم: بمعنى أمثالهم من كفار الأمم السابقة.
جاءت الآيتان خاتمة لآيات السورة والسياق وإنذارا قويا للكفار. وعودا على ما بدأت به السورة: فكما أن كفار الأمم السابقة قد نالهم نصيبهم من عذاب الله وبلائه فلسوف ينال الذين كفروا وبغوا وانحرفوا وجاروا من العرب نصيبهم أيضا.
وهو آتيهم حتما فلا محل لاستعجال الله فيه ولسوف يكون يومهم الذي يوعدون به رهيبا شديدا.
والإنذار مطلق يصح أن يكون إنذارا بعذاب الدنيا أو الآخرة أو بالعذابين معا والمتبادر أنه استهدف فيما استهدفه تخويفهم وحملهم على الارعواء.(5/44)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
سورة الغاشية
السورة فصلان متناظران، أحدهما في الإنذار بيوم القيامة ووصف مصير وحالة المؤمنين والكفار فيه. وثانيهما في لفت نظر الناس إلى بعض مشاهد الخلق والكون الدالة على ربوبية الله وقدرته فيه معنى التنديد بالكفار مع بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها للتبليغ والتذكير وليست لإكراه الناس.
وأسلوب السورة ومضمونها مما يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
. (1) الغاشية: كناية عن يوم القيامة حيث يدهم الناس ويغشاهم بغتة أو يشملهم.
(2) خاشعة: ذليلة أو كسيرة من الذل.
(3) عاملة ناصبة: مجهدة من التعب والنصب هو التعب الذي ينتج عن(5/45)
العمل الشاق ومما قيل في معناها (تكبرت عن طاعة الله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار) .
(4) آنية: شديدة الحرارة.
(5) ضريع: نبات شوكي لا غذاء فيه حتى إن الأنعام لا ترعاه حينما ييبس حيث يصبح سمّا قاتلا على ما ذكره الزمخشري.
(6) ناعمة: هادئة منشرحة من السرور والنعيم.
(7) لاغية: لغو الكلام ضجيجه ورذيله.
(8) نمارق: الوسائد والطراحات التي يجلس عليها.
(9) زرابي: نوع من الأبسطة.
(10) مبثوثة: مفروشة أو ممدودة.
ابتدأت آيات السورة بسؤال موجه إلى المخاطب السامع أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى التنبيه والاسترعاء وتعظيم الأمر المسئول عنه عما إذا كان قد علم ما سوف يكون في يوم القيامة الذي يدهم الناس. وبدء السورة بالسؤال مما جرى عليه النظم في مطالع سور عديدة مرّت أمثلة منه.
ثم أخذت الآيات تصف حالة الناس في ذلك اليوم: فهناك وجوه يظهر عليها الذل والهوان والتعب والإجهاد تلفحها النار الحامية ولا يكون لأصحابها إلا الماء الشديد الحرارة شرابا، وإلّا الضريع وأمثاله من النباتات التي تعافها الحيوانات طعاما لا تسمن ولا تغني من جوع. وهناك وجوه ناعمة وأثر السرور بالرفاه والرغد. قد رضي أصحابها عن سعيهم في الدنيا وتمتعوا بثوابه. فهم في الجنات العاليات، لا يسمعون فيها لغو الكلام ورذله، فيها العيون الجارية والأسرّة المنصوبة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة.
وواضح أن الآيات قد استهدفت التذكير بالآخرة والوعيد للكافرين والبشرى للمؤمنين والأوصاف مستمدة من مألوفات السامعين في الدنيا. لإثارة الخوف في الكافرين والغبطة في المؤمنين بما يعرفونه ويتأثرون به إقبالا وارتياحا ورغبة أو(5/46)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
انقباضا واشمئزازا بالإضافة إلى حقيقة الآخرة الإيمانية.
ويلحظ هنا أيضا صور للحياة الأخروية مغايرة لصور أخرى في آيات أخرى، ولقد علقنا على التباين والتنوع في هذه الصور بما رأينا فيه الكفاية في المناسبات المماثلة السابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة فصلت فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
هذا، ويلحظ أن السور السابقة انتهت بإنذار الظالمين الكافرين باليوم الموعود وأن هذه السورة بدأت بوصف ما يكون الناس عليه في ذلك اليوم حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد تلك.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
. (1) مسيطر: جبار وقاهر أو محاسب ومراقب.
(2) إيابهم: مجيئهم ورجوعهم.
الضمائر في الآيات عائدة إلى الكفار على ما تلهمه عبارتها. وقد احتوت:
1- تساؤلا ينطوي على التنديد والتعجب عما إذا لم يكونوا يرون في خلق الإبل وارتفاع السماء وانتصاب الجبال وتسطيح الأرض من عجائب شاهدة على وجود الله وعظمته وقدرته.
2- وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يستمر في التذكير والإنذار وتقريرا تطمينيا له بأن هذا هو قصارى مهمته. فهو مذكر وليس مسؤولا عن جحودهم وكفرهم أو مكلفا بالسيطرة عليهم وإجبارهم على الإيمان.(5/47)
3- واستدراكا بأن ذلك لا يعني عدم مسؤولية المعرضين عن دعوة الله الكافرين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم سينالهم عذاب الله الأكبر الذي سوف يكون مرجعهم إليه وحسابهم عليه.
والآيات وإن بدت فصلا مستقلا عن الفصل السابق فالمتبادر أيضا أنها ليست منقطعة عنه، فقد احتوى ذلك الفصل وصف مصائر الناس في يوم القيامة فجاء هذا الفصل للتنديد بالجاحدين منهم الذين يتغافلون عن مشاهد عظمة الله وقدرته ويتصاممون عن الدعوة إليه ويكفرون بنبيه وإنذارهم وتهوين موقفهم على النبي صلى الله عليه وسلم وفي الاستدراك الذي احتوته الآية [23] وعيد من جهة وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن المشاهد التي احتوتها الآيات من المشاهد الواقعة تحت حسّ المخاطبين ونظرهم والمالئة أذهانهم بعظمتها ونفعها. وهو مما جرى عليه النظم القرآني لأنه أرعى إلى الانتباه وأدعى إلى النفوذ.
ومما يلحظ أن أسلوب الآيات المطمئنة للنبي صلى الله عليه وسلم والمقررة بأنه ليس مسيطرا ولا جبارا ولا مسؤولا عن الناس وبأن قصارى مهمته التذكير والتبليغ قد تكرر في سور عديدة سابقة وفي السورة السابقة لهذه السورة مباشرة ما يدل على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ظل يشعر به من ألم وحزن من عدم استجابة معظم الناس وما كان قد ظل يكلف نفسه به من جهد يكاد يفوق الطاقة البشرية إلى حد الأذى والشقاء في سبيل هدايتهم وإقناعهم.
تعليق على ما روي وقيل في صدد الآيتين إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
أولا: قال المفسرون: إن هذه الآيات نسخت بآيات القتال ومثل هذا قيل في سياق آيات مماثلة أو قريبة مرّ تفسيرها. وقد علقنا على هذا في سورتي المزمل(5/48)
والكافرون بما يغني عن التكرار.
ثانيا: روى الترمذي في سياق تفسير الآيتين حديثا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله ثم قرأ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) «1» . وليس في الحديث ما يفيد أنه صدر عند نزول الآيتين، بل إنه يمكن القول بجزم أنه صدر في العهد المدني وبعد تشريع القتال. غير أن استشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بالآيتين يفيد أنه أراد أن يقول إن حساب الناس بعد أن يقولوا لا إله إلا الله ويعصموا بها دماءهم وأموالهم إلّا بحقها هو على الله وليس هو مسيطرا عليهم حتى يحاسبهم على غير ذلك. وفي هذا تلقين جليل المدى بكون الناس موكولين إلى دينهم وتقواهم وخشيتهم من الله فيما يكون منهم من أعمال غير معروفة. وأنه ليس للسلطان أن يتعقب الناس لاستكشاف خباياهم وأسرارهم إذا لم يكن دليل على ضرر محقق على أحد أو على أمن الناس والمصلحة العامة، أما ما فيه ضرر محقق فهو ما عنته الجملة (إلّا بحقه) من الحديث حيث يكون للسلطان حقّ في عمل ما يجب عمله للقصاص والزجر واستيفاء الحق لصاحبه من المبطل الباغي.
ولقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود بدون ذكر صلته بالآيتين أو الاستشهاد فيه بالآيتين. وروي كذلك في مناسبة قتال أبي بكر رضي الله عنه للممتنعين عن الزكاة، وعلقنا على ذلك في سور المزمل والكافرون بما يغني عن التكرار ويزيل اللبس في الحديث موضوعيا.
__________
(1) التاج ج 4 ص 258.(5/49)
سورة الكهف
في السورة حملة شديدة على الكفار، ووصف لشدة عنادهم وجحودهم وما كان يحدثه هذا من حزن للنبي صلى الله عليه وسلم. وإشارات إلى ما كان من استخفاف الكفار بشأن فقراء المسلمين واعتدادهم بثرواتهم وقوتهم ووصف لهول يوم القيامة ومصير الكفار والمؤمنين فيه. وأمثال ومواعظ في صدد الدعوة النبوية وتسفيه الاغترار بالدنيا والانشغال بها عن الخير والصلاح. وقصص أصحاب الكهف وموسى مع العبد الصالح وذي القرنين تضمنت المواعظ والتذكير.
وآيات السورة متوازنة، وليس بين فصولها تغاير أسلوبي بالرغم من تنوعها وهذا وذاك معا مما يبرر القول إنها نزلت متتابعة حتى تمّت.
ويروى أن الآيات [28 و 83- 101] مدنيات، والسياق والأسلوب والمضمون يسوّغ الشك والتوقف في ذلك.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدّجّال» «1» . وفي رواية: «من حفظ من خواتيم سورة الكهف عصم من الدجّال» . وروى الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وفي رواية أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» «2» . وهناك نصوص أخرى مقاربة أوردها ابن كثير في مطلع تفسيره للسورة مروية عن الإمام أحمد بالإضافة إلى هذه النصوص.
__________
(1) التاج ج 4 ص 17- 18. [.....]
(2) المصدر نفسه.(5/50)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بفضل هذه السورة لا بدّ من أن يكون له حكمة قد يكون منها ما احتوته من أمثال ومواعظ. وبالإضافة إلى هذا ففي الأحاديث قرينة على أن هذه السورة أو السور القرآنية كانت تامة الترتيب معروفة الأسماء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
. (1) قيّما: قيل إنها بمعنى مستقيم لا اختلاف فيه. وقيل إنها بمعنى قوّاما على شؤون الدين وضابطا لها، وقيل إنها بمعنى قوّاما مراقبا على الكتب السماوية الأخرى. والأول أرجح بقرينة جملة وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً التي هي بمثابة تفسير لها. وفي الآية تقديم وتأخير لحفظ الوزن وتقديرها: الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده قيما ولم يجعل له عوجا على ما ذكره جمهور المفسرين.
(2) باخع نفسك: مهلك نفسك. وكلمة أَسَفاً راجعة إلى هذه الجملة وقد تأخرت عنها لحفظ الوزن أيضا. وهي بمعنى حزنا أو غضبا أو غمّا، أي فلعلك مهلك نفسك من الحزن والغمّ عن عدم إيمانهم بكلام الله.
(3) صعيدا جرزا: الصعيد (الأرض) أو التراب والجرز الأملس اليابس الذي لا حياة أو لا نبات فيه، أو لا ينزل عليه مطر من البلاء.(5/51)
بدأت السورة بحمد الله، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مرّ منه بعض الأمثلة.
واحتوت الآيات الخمس الأولى: تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته. ويبشّر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة.
والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنبهه إلى ما يحمل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب. وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر.
والقسمان متصلان ببعضهما من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم والثاني في تطمينه وتسليته. والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها.
وفحوى الآية [4] ثم الآية [5] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك.
والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هو إلّا نذير، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها.
ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم وأنهم راجعون إليه. وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم(5/52)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
هذه المعاني، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول.
وينطوي في جملة لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها، وحملهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم. وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة. وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية.
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23)
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
.(5/53)
(1) الكهف: المغارة.
(2) الرقيم: قيل إنه اسم لجبل أو لواد وقيل إنه بمعنى المكتوب من الرقم وإنه لوح وجد في مقبرة أصحاب الكهف مكتوب فيه أسماؤهم وقصتهم وهو الأوجه.
(3) أوى: دخل ولجأ.
(4) فتية: شباب.
(5) ضربنا على آذانهم: جعلناهم يفقدون الوعي فلا يسمعون.
(6) أحصى: أكثر إحصاء وحسابا وعلما.
(7) ربطنا على قلوبهم: ثبتناهم وصبّرناهم.
(8) شططا: بعدا عن الحق.
(9) إذ اعتزلتموهم: ضمير الجمع الغائب راجع إلى الفتية. والجملة من(5/54)
حكاية ما دار بينهم من حديث في صدد انحراف قومهم نحو الشرك.
(10) مرفقا: بمعنى فرج أو نجاة.
(11) تزاور: تميل.
(12) تقرضهم: تعدل عنهم.
(13) في فجوة منه: في ساحة من ساحاته أو متسع منه.
(14) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود: تظنهم وهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال أنهم أيقاظ مع أنهم نائمون.
(15) بالوصيد: بالباب.
(16) بعثناهم: أيقظناهم.
(17) ورقكم: عملتكم الفضية.
(18) أزكى طعاما: أطيب طعاما.
(19) وليتلطف: ليتحفظ وليحذر من إشعار الناس بهم.
(20) إن يظهروا عليكم: إن يكشفوا أمركم.
(21) أعثرنا عليهم: جعلنا قومهم يعثرون عليهم.
(22) الذين غلبوا على أمرهم: كناية عن أصحاب السلطة والحكم.
(23) فلا تمار فيهم: فلا تجادل في أمرهم أو فلا ترتب في أمرهم.
(24) أبصر به وأسمع: ما أشدّ بصره وما أشدّ سمعه أو شديد السمع والبصر.
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده: أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما(5/55)
تطلع وحينما تغرب حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرّأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظنّ أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيّب، ووصّوه بالتحفظ والحذر لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا، حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفّاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو:
1- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة سادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلّا قليل من الناس وبألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، وبألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
3- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
4- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السموات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.(5/56)
تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين «1» عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس وأنهم ثمانية أشخاص وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس «2» وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك وأزهق أرواح كثير منهم وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظنّ بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلّا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم- يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مرّ عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة،
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
(2) انظر الطبري.(5/57)
وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأنّ وقصّ عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفّاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرّا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين أولاهما معنى الرقيم وثانيهما مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيلة دون فلسطين حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى(5/58)
الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي 284- 305 ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا» .
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [85] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بدّ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
__________
(1) انظر الجزء الثاني من المجلد الثالث من تاريخ المطران الدبس والجزء الثاني من المجلد الرابع أيضا.(5/59)
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، ومما ينطوي فيه حكمة الإيحاء بما أوحى به من صورها.
فهناك تماثل بين الفتية المؤمنين وقومهم المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه الذين كان عدد كبير منهم من شبان قريش الذين كان آباؤهم مشركين مناوئين للدعوة المحمدية وكانوا يتعرضون لأذى آبائهم واضطهادهم بقصد ردهم إلى الشرك بعد الإيمان، والبعث والنشور والجزاء الأخروي من أهم ما كان يثير الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين. والقصة قد احتوت خبرا فيه آية من آيات الله تتصل ببعض مشاهد البعث بعد الموت في واقعة شوهدت من قبل جمهور عظيم من الناس وتنوقلت أخبارها العجيبة.
وفي كل هذا مواضع للعبرة والتطمين والأسوة والإنذار والتدعيم كما هو واضح، ويلفت النظر بخاصة إلى الآية [21] حيث احتوت إشارة إلى أن العثور على الفتية بعد أن استيقظوا وماتوا كان وسيلة لجعل الناس يتيقنون بأن وعد الله حقّ وأن الساعة آتية لا ريب فيها مما هو متصل بما نقرره.
كذلك يلفت النظر إلى أن الآيات الأولى من السورة حملت على الذين يقولون إن لله ولدا وإن هذه القصة النصرانية التي جاءت على أثرها تقرر أن الفتية كانوا يؤمنون بالله وحده وأن هذا الإيمان هو الذي جعلهم موضع عناية الله ورحمته. فقد يلهم هذا وجود صلة بين آيات القصة ومطلع السورة ويلهم أنها قد توخّي فيها التدعيم للدعوة النبوية. وبخاصة التوحيد الذي لا شائبة فيه ولا تأويل، ومن الجدير بالذكر أن الخلاف كان مستشريا بين فرق النصارى منذ القرن الميلادي الأول حول المسيح حيث كان بعضهم لا يسوّي بين المسيح والله ولا يعتقد ببنوته الطبيعية له كما كان يعتقدها بعضهم، وبعضهم يعتبره بشرا مرسلا من الله ولد بمعجزة وبعضهم يعتبره رمزا لله وحسب على ما شرحناه وأوردنا شواهده ومصادره(5/60)
في سياق سورة مريم «1» . وإلى هذا ففي الآيتين [23 و 24] تلقينات مهمة إيمانية وسلوكية للمسلمين وقد أفردنا لهما بفقرة خاصة تأتي فيما بعد.
ولقد تخلل الآيات جريا على الأسلوب القرآني مقاطع متصلة كذلك بالهدف التدعيمي الذي نوهنا به آنفا سواء فيما كان من الثناء على الفتية أم في شمول رحمة الله لهم أم في التنديد بالذين اتخذوا من دون الله آلهة كذبا وافتراء.
والآية الأولى التي جاءت كمقدمة قد تضمنت معنى التنبيه على القصة وما فيها من مشهد قدرة الله وكون ذلك من آيات الله التي تبدو للناس عجيبة. فكأنما أريد أن يقال إن وقوع ما يبدو عجيبا لكفار العرب من شأنه أن يقنعهم بإمكان وقوع ما ينذرون به مما هو مماثل له في صدد قدرة الله تعالى، وفي هذا ما فيه من معنى التدعيم أيضا.
والآيات الأخيرة من السلسلة يمكن أن يلمح فيها أن الإيحاء بآيات القصة قد استهدفت هذا التدعيم في الدرجة الأولى. فالناس يتناقشون في عدد الفتية فيؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بألا يهتم لهذا النقاش كثيرا وألا يماري فيهم إلا مراء ظاهرا، ويتناقشون في عدد السنين فيؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكل ذلك إلى علم الله الذي يعلم غيب السموات والأرض والمتصف بأكمل صفات السمع والبصر والذي ليس لأحد من دونه ولي حقيقي وليس له في ملكه وحكمه شريك ويؤمر كذلك بعدم التعمق في الأمر وعدم استفتاء الغير فيه.
ولقد نقل الطبري وغيره عن قتادة أحد علماء التابعين أن تعبير وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) وهو ما ورد في الآية [25] هو حكاية لقول أهل الكتاب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرّد عليهم بأن الله تعالى هو الأعلم بما لبثوا، ونرى هذا وجيها ومتسقا مع أسلوب العبارة القرآنية حيث تكون الآية [25] تتمة للكلام السابق للآية [23] وتكون الآيتان [23 و 24] اللتان ليستا من سياق القصة قد جاءتا لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يجب عليه مما سيكون موضوع تعليق آخر
__________
(1) انظر المجلدين المذكورين آنفا من تاريخ المطران الدبس.(5/61)
يأتي بعد هذه النبذة. ويكون ذلك القول والحالة هذه متوافقا مع مدى القصد المراد من إيراد القصة الذي نوهنا به آنفا.
تعليق على الآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً والآية التي بعدها
والآيتان هاتان ليستا من سياق القصة كما قلنا آنفا، وقد احتوتا استطرادا استدراكيا فيه تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم بما يجب عليه حينما يقول أنه سيفعل شيئا وحينما ينسى ما يجب عليه. وقد أوردنا في سياق تفسير الآية [85] من سورة الإسراء رواية طويلة عن قتادة ذكرت أن الآيتين نزلتا بسبب وعد النبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة على الأسئلة عن الروح وفتية الكهف وذي القرنين التي سأله عنها المشركون بإيعاز من اليهود غدا دون أن يقول (إن شاء الله) وأن الوحي توقف عن النبي صلى الله عليه وسلم ردحا من الوقت حتى صار المشركون يسخرون منه، وحزن من ذلك حزنا عظيما، ولقد علقنا على الرواية ونبهنا على ما فيها من مآخذ بالنسبة للسؤال عن الروح الوارد في سورة الإسراء والذي أوردت الرواية في سياقه. غير أن ورود الآيتين خلال آيات قصة أصحاب الكهف والرقيم وقبل أن ينتهي الكلام عنها- لأن في الآيات التي بعدها تتمة للتعليق عليها- يلهم أن لهما علاقة ما بها وأن في ما ورد في الرواية المذكورة شيئا ما من حقيقة هذه الصلة.
والذي يتبادر لنا أن الآيتين قد نزلتا في صدد هذه القصة وحدها. وأن من المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد استمهل السائلين ونسي تعليق الأمر على مشيئة الله تعالى، فأوحى إليه بهما من قبل الاستطراد والاستدراك في سياق الآيات الموحى بها في القصة.
ولقد انطوى في الاستدراك شيء من العتاب الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم على ما كان منه خلاف الأولى الذي هو في علم الله مما تكررت صور منه ومرّ بعض أمثلته.
وفي تسجيله وتسجيل ما أوجب الله على النبي صلى الله عليه وسلم في سياقه من واجب تعليق تنفيذ(5/62)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
ما يعد بفعله على مشيئة الله وذكر الله إذا نسي أمرا واللجوء إليه بطلب الهداية إلى ما هو الأرشد والأسد صورة من صور العصمة النبوية في تبليغ كل ما يوحي به قرآنا مهما كان خاصا. مما تكررت صوره ومرّ منه بعض الأمثلة أيضا. وواجب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به المسلمون يجعل الآيتين موجهتين إليهم أيضا في كل ظرف بحيث يكون من واجب كل مسلم أيضا أن يذكر دائما أنه لا يملك من أمر المستقبل شيئا فعليه أن لا يربط نفسه بملزمات قد يعجز عنها أو قد يخلّ بها أو قد يكون فيها خطر وضرر غابا عنه، وأن تعليق عزائمه بمشيئة الله تعالى عدا أنه واجب ديني عليه، مستتبع لإيمانه بالله عالم الغيب والشهادة الذي بيده كل شيء وإليه مرجع كل شيء فإنه يخليه من مسؤولية أي عمل مكروه أو خطر أو ضار يلزم نفسه به ويبرر له الرجوع عنه. وفي الاستمداد بالله وذكره- في حالة تقصيره ونسيانه وطلب الهداية منه إلى ما يكون الأرشد والأسد من العزمات- علاج روحي يمدّه بالقوة والرغبة بالهدى والرشاد والسداد.
ولقد روى أصحاب السنن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى، وفي رواية للنسائي وأبي داود من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنث» «1» . حيث ينطوي في الحديث تعليم نبوي للمسلمين متصل بالتعليم القرآني من ناحية ما كما هو المتبادر.
[سورة الكهف (18) : آية 27]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
. (1) ملتحدا: ملجأ أو موئلا والإلحاد والالتحاد هو الميل للشيء.
في الآية:
1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة ما يوحى إليه من ربّه على الناس.
__________
(1) التاج ج 3 ص 71.(5/63)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
2- وتوكيد بأن كل ما فيه حق وصدق لا يأتيه تبديل ولا تناقض.
3- وتقرير بأن النبي لن يجد من دونه من هو جدير باللجوء إليه قدير على حمايته.
وقد ابتدأت الآية بحرف العطف مما يمكن أن يكون قرينة على أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما فيها من مواضع العظة والعبرة كما يمكن أن يكون قرينة على أن الآيات السابقة إنما أوردت لتدعم الرسالة النبوية.
[سورة الكهف (18) : آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
. (1) لا تعد عيناك عنهم: لا تنصرف عنهم ولا تهملهم.
(2) تريد زينة الحياة الدنيا: تفضل عليهم أصحاب المال والجاه.
(3) فرطا: باطلا أو ضلالا وخسرانا وسرفا.
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بوجوب التضامن التام مع الذين آمنوا برسالته ودأبوا على الاتجاه إلى الله وعبادته في جميع أوقاتهم لا يبتغون إلّا رضاه. وجعل كل اهتمامه لهم وعدم تحويل نظره واهتمامه إلى غيرهم رغبة في زينة الحياة الدنيا ومظاهرها الخلاقة المتمثلة في أصحاب المال والجاه، وعدم إطاعة من غفل عن ذكر الله تعالى واتبع هواه وكان ضالا خاسرا أو الإصغاء إليه.
تعليق على الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ... إلخ وما فيها من تلقين رائع
ولقد روى المفسرون روايات عديدة متفقة في مداها كسبب لنزول الآية.(5/64)
منها أن بعض القوم قالوا للنبي إنا نستحي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا فجانبهم يا محمد وجالس أشراف قومك. ومنها أن عيينة الفزاري قال للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها:
«أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس ولا يمنعنا من اتباعك إلّا هؤلاء فنحّهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا» فأنزل الله الآية. ومنها أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الأنعام: [52] وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قالوا له ذلك ابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان آخران.
ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مدنية وهذه الرواية تتوافق مع الرواية التي ذكر فيها كلام عيينة الفزاري الذي كان من أهل العهد المدني.
والرواية الأولى يرويها الطبري عن مشركي مكة، والرواية الثالثة يرويها ابن كثير عن مشركي مكة كذلك ويعزوها إلى مسلم كحديث صحيح. وإيراد آية مدنية في سياق مكي متصل بكفار مكة لا حكمة ظاهرة له. والآية إلى ذلك معطوفة على ما قبلها متساوقة معه في النظم حيث يسوّغ كل هذا الشك في رواية مدنية الآية ورواية عيينة الفزاري وترجيح مكية الآية وكونها في صدد موقف الزعماء المشركين من فقراء المسلمين وموقف النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
ولقد ورد آيات فيها شيء مما ورد في هذه الآية في سورة الأنعام التي مرّ تفسيرها وهي الآيات [51- 54] وروي في صددها بعض ما روي هنا على ما ذكرناه في سياق تفسيرها حيث ينطوي في هذا أيضا تأييد لمكية الصورة. ولقد علقنا على ما انطوى في آيات سورة الأنعام من صور وتلقين وهو وارد بطبيعة الحال بالنسبة لهذه الآية فلا محل لإعادته. ويظهر من تكرر الإشارة إلى هذا الموقف أنه كان يتكرر فكانت حكمة التنزيل تقتضي تكرار التعليم تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد الحرص على جلب الزعماء إليه، والذي كان حرصه يجعله يفكر على ما تلهمه الآيات، ورواية ابن كثير التي يرويها عن مسلم بحديث صحيح في(5/65)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
مسايرة الزعماء في بعض ما يقترحونه. ثم تنويها بالمؤمنين وتقريرا لرفعة شأنهم عند الله ولكون فضيلة الإيمان والعمل الصالح هي أعظم الفضائل وأن الذين يتحلون بها هم عند الله أفضل وأولى بالرعاية، ويجب أن يكونوا كذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم وفي المجتمع الإسلامي. ولقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه اجتهادا يمتّ إلى هذا الأمر خلافا للأولى قبل أن ينزل وحي به فعوتب على ذلك على ما شرحناه في سورة عبس حيث يبدو في كل هذا تلقين جليل مستمر المدى ومبدأ من مبادئ القرآن المحكمة يلمح فيهما في الوقت نفسه عدم إقرار الفروق الاجتماعية كظاهرة واجبة الرعاية في المجتمع الإسلامي. وإذا لحظنا أنه كان لهذه الظاهرة اعتبار عظيم في حياة الأمم وتقاليدها على اختلافها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدت روعة الهدف القرآني والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه، وبدا في هذا دليل لمن يعوزه الدليل على أن القرآن وحي من الله ينزل بما فيه الحقّ والحكمة ليصحح موقفا من المحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجنح إليه خلافا للأولى بدافع حرصه المذكور آنفا. وتبدو هذه الروعة أيضا في حكمة تكرار التنزيل القرآني حيث كانت هذه هي المرة الثالثة التي يوحى فيها بآيات تقرر وتؤكد ذلك الهدى والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه.
[سورة الكهف (18) : الآيات 29 الى 31]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
. (1) سرادقها: السرادق كل ما له جهات أربع محيطة، والقصد هنا هو وصف شدة النار واشتغالها من كل ناحية.(5/66)
(2) وأن يستغيثوا: وأن يطلبوا الغيث والماء.
(3) المهل: مرّ تفسيره في سورة الدخان.
(4) مرتفقا: منزلا أو منتفعا.
(5) يحلّون: من الحلية.
(6) سندس وإستبرق: نوعان من نسيج الحرير واللفظان معرّبان.
(7) الأرائك: جمع أريكة وهي السرير.
الآيات معطوفة على سابقاتها، واستمرار لها وتعقيب عليها كما هو المتبادر وعبارتها واضحة، وكأنما جاءت لتؤكد على النبي صلى الله عليه وسلم بحصر رعايته واهتمامه للذين آمنوا به مهما كان مركزهم الاجتماعي وحالتهم المادية ولتكون جوابا على الزعماء الذين روي موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وفقراء المؤمنين في سياق الآيات السابقة لتقول لهم إن ما طلبوه لن يكون، ولتهتف بهم بعد ذلك بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله ربّه وربّهم فمن شاء فليؤمن فينفع نفسه ومن شاء فليكفر فلا يضرّ إلّا نفسه، لأن الله قد أعدّ لكل من الفريقين ما يتناسب مع اختياره من شديد العذاب وهائله ومن عظيم النعيم ووسائله. وليس الأمر أمر مساومة ومسايرة ولا يتحملهما. ومثل هذا الجواب والهتاف قد تكرر في مواقف مماثلة حكتها آيات عديدة مرّ بعضها، حيث كانت المواقف تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل تكرار الجواب والهتاف.
وقد تضمنت الآيات تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمينا وبشرى للمؤمنين وإنذارا رهيبا للكفار. وأكدت المبدأ المحكم الذي احتوته آيات كثيرة بأن الناس يؤمنون ويكفرون وفق اختيارهم فيستحقون ما يستحقون من ثواب وعقاب حقا وعدلا.
ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لسرادق النار أربعة جدر كثف كلّ جدار مثل مسيرة أربعين سنة» «1» . والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديث كما هو المتبادر.
__________
(1) التاج ج 5 ص 387.(5/67)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
. (1) حففناهما: لففناهما وطوقناهما من جميع الجوانب.
(2) ولم تظلم منه شيئا: لم ينقص شيء من ثمره حيث كان وافرا من الجميع.
(3) وكان له ثمر: الثمر هنا بمعنى كثرة المال الذي أثمر على صاحبه.
(4) أعز نفرا: أقوى جماعة أو أنصارا أو أولادا.
(5) تبيد: تهلك وتزول.
(6) حسبانا: بلاء أو صاعقة.
(7) صعيدا زلقا: أرضا يابسة تنزلق عنها القدم كناية عن شدة اليبوسة والجفاف.
(8) غورا: غائرا في أعماق الأرض.
(9) أحيط بثمره: كناية عن طروء البلاء على الجنات وثمرها.(5/68)
(10) الولاية: قرئت واوها بالفتح من الموالاة، وتكون بمعنى في ذلك الوقت يكون النصر لله، وبالكسر ويكون بمعنى الحكم والسلطان لله.
(11) خير عقبا: خير عاقبة.
عبارة الآيات واضحة وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين أحدهما كافر وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من عند الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي «1» أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه
__________
(1) انظر الروايات والأقوال في تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري والخازن.(5/69)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
قصة أخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب. لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيما ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير وَاضْرِبْ لَهُمْ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
. (1) اختلط به نبات الأرض: ارتوى به وكان سبب تكاثفه ونموه.
(2) فأصبح: ثم أصبح.(5/70)
(3) هشيما: جافا مكسرا ملقى على الأرض تحركه الرياح.
في الآية الأولى: أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب مثلا آخر عن الحياة الدنيا فهي كالزرع الذي ينميه مطر السماء ثم لا يلبث أن يجف بعد قليل ويتكسر وتدفعه الرياح وتذروه، وبأن ينذرهم بأن الله مقتدر على كل شيء.
وفي الآية الثانية: تقرير بأن المال والبنين هما زينة الحياة الدنيا التي مثلت في المثل والتي لن تلبث أن تزول، وأن الأعمال الصالحة هي وحدها الباقية التي تحوز رضاء الله وتكون مناط الأمل وحسن الثواب عنده.
وقد جاءت الآية الثانية تعقيبية على الأولى وكنتيجة لها، والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك وموجهتان للكفار ومستهدفتان نفس هدف المثل الأول وتلقينهما مستمر المدى مثله.
تعليق على آية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إلخ ...
وننبه على أنه ليس في هذه الآيات ولا في التي قبلها قصد تنفير المؤمنين من الحياة وزينتها وطيباتها ولا قصد ازدراء شأنها إطلاقا. فقد جاءت في صدد التنديد بزهو الكفار وتبجحهم وازدرائهم بفقراء المؤمنين وتقرير أفضلية الإيمان والعمل الصالح والحثّ عليهما. وإذا كانت قد تضمنت التذكير بأن الحياة الدنيا والمال والثروة والقوة أعراض زائلة وقصيرة الأمد فإن هذا بسبيل ذلك التنديد والحثّ والتقرير. وهو إلى هذا تقرير لواقع الأمر حقا بالنسبة للحياة الدنيا وعمر الإنسان فيها. والضابط المحكم في هذا الأمر آية سورة الأعراف: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) وإذا كان من استدراك فهو ما تلهمه الآية التي قبل هذه الآية بخاصة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي نبهنا عليها في مناسبات عديدة سابقة بعامة وهو الإيمان بالله والعمل الصالح والاعتدال وعدم الإسراف وعدم الاستغراق.(5/71)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
والجملة الثانية من الآية الثانية قد ورد ما يماثلها في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
. (1) بارزة: مكشوفة.
(2) فلم نغادر منهم أحدا: لم نترك أحدا لم نحشره أو نهمله.
(3) مشفقين: خائفين.
(4) ولا يظلم ربك أحدا: أحصى أعمالهم تماما بدون زيادة ولا نقص وعاملهم في ذلك بمنتهى العدل والحق.
في الآيات: وصف ليوم القيامة وفزع الكفار فيه لما تحقق به وعد الله الذي كانوا يشكون فيه. وعبارتها واضحة، والوصف مخيف مفزع حقا، وقد استهدف به كما هو المتبادر فيما استهدف إنذار السامعين وبخاصة الكافرين المجرمين وإثارة الرعب والفزع فيهم وحملهم على الارعواء.
والمتبادر أنها جاءت تعقيبية على ما قبلها حيث قررت الآيات السابقة أن العمل الصالح هو الباقي النافع وأن المال والبنين ليسوا إلّا زينة لمدة قصيرة، ثم تزول فجاءت هذه الآيات منذرة بالقيامة وهو لها وكيف يجاء بهم مجردين مما كانوا يتفاخرون به وكيف يعرضون على النار ويواجهون بكتب أعمالهم التي أحصت كل شيء عليهم.(5/72)
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملةما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وأول من يكنى يوم القيامة إبراهيم وإنّ ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي فيقول إنهم لما يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم» «1» .
وحديثا آخر عن عائشة قالت: «قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟
قال: عراة حفاة. قالت: قلت والنساء؟ قال: والنساء. قالت: قلت يا رسول الله أنستحي؟ قال: يا عائشة الأمر أشدّ من ذلك أن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض» «2» .
والإيمان بما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية واجب مع الإيمان. فإنه لا بدّ من أن لذلك من حكمة. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديثين مما فيه تساوق مع الهدف لذلك من حكمة. وقد يكون الإنذار والترهيب المنطويان في الحديثين من هذه الحكمة وفي ذلك تساوق مع الهدف القرآني أيضا. وقد يصح أن يقال إلى هذا استلهاما من روح الآيات ومقامها وسياقها أنه قد يكون انطوى فيها قصد تقرير كون الناس يحشرون مجردين من كل ما كانوا يعتزون به في الدنيا من مال وبنين وأنصار ليتحملوا بأنفسهم مسؤولية أعمالهم الإجرامية. بل ولعل هذا هو المقصود الجوهري من العبارة القرآنية في مقامها وسياقها وليس بين هذا وبين الحديثين تعارض كما هو واضح.
وكتب أعمال الناس ذكرت مرارا في السور السابقة وشرحنا موضوعها وعلقنا عليه في سياق سورة (ق) بخاصة بما يغني عن التكرار، والعبارة هنا بسبيل تصوير
__________
(1) آيات سورة المائدة [117- 118] روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا انظر التاج ج 5 ص 331.
(2) وهذا الحديث أيضا رواه الشيخان والترمذي انظر المصدر نفسه.(5/73)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
ما سوف يكون من قرع الكفار حينما يجدون كل ما عملوه محصى عليهم لا فرق بين صغيرة وكبيرة.
ولقد روى البغوي بطرقه عن سهل بن سعد في سياق جملة: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب لموبقات» .
والحديث لم يرد بنصه في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أورد ابن كثير حديثا في معناه في نفس السياق عن سهل بن سعد من إخراج الطبراني وصحته محتملة. وفيه إن صحّ وصحته محتملة تحذير من التهاون من الذنوب الصغيرة.
ولقد احتوت آية سورة النجم [32] ما يفيد أن الله تعالى يغفر الهفوات الصغيرة إذا اجتنب المسلم كبائر الإثم والفواحش، ولسنا نرى في الحديث نقضا فإن المتبادر أن المقصود منه هو الاستمرار على الصغائر وليس الهفوات الصغيرة غير المقصودة وغير المستمر عليها.
والإشارة إلى تسيير الجبال يقصد به على ما تلهمه روح الآيات تصوير هول الآخرة ومشاهدها بالإضافة إلى ما في الخبر القرآني من حقيقة غيبية يجب الإيمان بها. ولقد تنوع ذكر مصير الجبال في الآخرة مما يمكن أن يكون قرينة على هذا القصد. والجبال تشغل من أذهان السامعين حيزا بسبب ضخامتها وعلوها مما يفسر حكمة التنزيل في تكرار ذكر مصائرها في الآخرة وهوانها على الله وقدرته.
[سورة الكهف (18) : آية 50]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)
. (1) فسق: عصى وتمرد.(5/74)
في الآية إشارة خاطفة إلى قصة إبليس وعصيانه لأمر الله بالسجود لآدم، وسؤال استنكاري وتنديدي موجه للكفار لاتخاذهم إياه وذريته أولياء من دون الله وهم أعداؤهم الألداء.
وانتهت الآية بفقرة تنديدية قارعة، فلبئس ما فعل الظالمون باستبدالهم ولاية إبليس وذريته بولاية الله تعالى.
والآية متصلة بالسياق اتصالا وثيقا من حيث كون سابقاتها خوفت الكفار وأنذرتهم فجاءت هذه لتقرعهم وتنبههم إلى أنهم في كفرهم إنما يتولون ويطيعون عدوهم إبليس.
والإشارة هي أقصر إشارة إلى قصة إبليس في القرآن، والمتبادر أن الآية هي في صدد ما احتواه الشق الثاني من التقريع أكثر منها في صدد القصة، والحجة فيها قوية ملزمة والتقريع لاذع محكم.
والمتبادر أن تعبير (اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله) قد قصد به إطاعتهم فيما يزينون من انحرافات وآثام على اعتبار أن ما يرتكس الناس فيه من ذلك إنما هو من وساوس إبليس وتزييناته. وهو ما فتئت الآيات تكرره وتقرره وهذا المفهوم لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة (ص) .
تعليق على وصف إبليس أنه من الجنّ وما أورده المفسرون في صدده
ويلحظ أن الآية هنا تقرر بصراحة أن إبليس من الجن في حين أن آيات قصة إبليس وآدم الأخرى احتوت فقط حكاية قول إبليس إنه خلق من نار وإنه أفضل من آدم الذي خلق من طين وتراب.
ولقد أورد المفسرون «1» في سياق الآية روايات وأقوالا متنوعة ليس شيء
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(5/75)
منها واردا في كتب الصحاح. منها أن الجنّ جيل من الملائكة ومنها أن كلمة الجنّ يصح إطلاقها لغة على الملائكة لأنها من الاجتنان وهو الاستتار والخفاء. والذين قالوا هذا تفادوا به مما وهموا أنه تناقض في مفهوم القرآن لأن مقتضى جميع القصة في السور الأخرى أن يكون إبليس من الملائكة لأنه استثني منهم حيث جاءت الجملة: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [50] ولا نرى طائلا ولا ضرورة إلى ذلك. فالآية صريحة بأن إبليس شيء والملائكة شيء آخر. والذين قالوا إن الجنّ جيل من الملائكة وإن كلمة الجنّ يصح أن تطلق على الملائكة وإن إبليس من الملائكة قد غفلوا فيما يتبادر لنا عن تقريرات القرآن الصريحة الأخرى بأن الجان قد خلقوا من نار. وعن حكاية قول إبليس أنه خلق من نار مما فيه حسم في قصد تقرير كون إبليس من الجنّ الناري. وكذلك غفلوا عن جمع الجنّ والملائكة في سياق واحد وهو آيات سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ، مما فيه حسم بأن كلا منهم غير الآخر.
ولقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم ممّا وصف لكم» والنبي صلى الله عليه وسلم وحده هو المعتمد فيما فيه توضيح لما أجمله القرآن أو أطلقه أو سكت عنه وهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة وقد انطوى على حسم آخر «1» .
ولقد قال الزمخشري إن الفاء في كلمة فَفَسَقَ سببية لتقرير كون إبليس إنما فسق لأنه من الجن وليس من الملائكة.
ولقد أورد المفسرون «2» في سياق هذه الآية بيانات كثيرة عن إبليس وذريته وتزاوجه وتناسله وأسماء أبنائه وحفدته وطرائق تصرفاتهم وتقسيمات وظائفهم إلخ دون ما سند، وليس فيها ما هو وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده المعتمد في مثل
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 263.
(2) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.(5/76)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
هذه البيانات. وليس في إيرادها طائل ولا ضرورة، وأكثرها أدخل في نطاق الخيال والخرافة، والواجب في هذا الأمر هو الوقوف عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد ولا تخمين، لأنه من الحقائق الإيمانية المغيبة، مع ملاحظة الهدف القرآني الذي نبهنا عليه في المناسبات السابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة (ص) .
[سورة الكهف (18) : الآيات 51 الى 53]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
. (1) ما أشهدتهم: ما أحضرتهم. ومعناها هنا ما استشرتهم أو ما استعنت بهم.
(2) موبقا: مهلكا أو برزخا حاجزا.
(3) فظنوا: هنا بمعنى تيقنوا.
(4) مصرفا: مخرجا أو معدلا إلى غيرها.
في الآيات:
1- تقرير تنديدي بأن الله لم يستشر ولم يستعن بإبليس وذريته الذين يتخذهم الكافرون أولياء من دونه لا في خلق السموات والأرض ولا في خلق أنفسهم كما أنه لا يصح في العقل أن يتخذ الله المضلين الذين يزينون للناس الضلال والشرك أعضادا حتى يكون حينئذ مبرر للكافرين باتخاذهم أولياء وشركاء.
2- وحكاية لما سوف يخاطب الله المشركين به يوم القيامة حيث يتحداهم بدعوة شركائهم لنصرهم فيدعونهم فلم يلب دعوتهم أحد حيث يكون الله قد جعل بينهم برزخا حاجزا.
3- وإشارة إلى ما يكون من أمرهم حينئذ حيث يعرضون على النار فيتيقنون بأنهم واردوها وليس مناص ولا مصرف لهم عنها.(5/77)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
وواضح أن الآيات استمرار للسياق في صدد تقريع الكفار وتسفيههم، وقد أرجعنا ضمير الجمع الغائب في أَشْهَدْتُهُمْ إلى إبليس وذريته وأوّلنا الآية الأولى بما أوّلناها به استلهاما من روح الآيات والسياق وهو ما فعله المفسرون أيضا «1» .
ومع أن الطبري أوّل كلمة مَوْبِقاً بمعنى هلاكا ومهلكا، وأن هذا المعنى ورد في آية في سورة الشورى بمعنى الإهلاك أيضا وهي: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [34] فقد أورد الطبري في سياقها أقوالا معزوة إلى مجاهد وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك وقتادة أن الموبق هو واد في نار يوم القيامة، أو واد عميق يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، أو واد في جهنم من قيح ودم.
والتوقف في هذه الأقوال هو الأولى ما دامت لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المصدر الوحيد الوثيق لمثل هذه المشاهد الغيبية الأخروية.
[سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
. (1) قبلا: عيانا أمامهم.
(2) موئلا: ملجأ.
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم. [.....](5/78)
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلّب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم.
وهذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
أما بقية الآيات فقد احتوت:
1- تنديدا بالكفار: فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق.
وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط.
2- وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار: فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية.
3- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام.
4- وتعليلا لهذا الموقف: فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال.
5- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم: فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى(5/79)
موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجّل لهم العذاب.
6- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة: فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة (يس) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديدها وتقريعها أم في إنذارها. كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (55) .
والمتبادر أن جملة وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [58] من سورة الزخرف لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم» «1» . وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الكذب
__________
(1) التاج ج 3 ص 63.(5/80)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
وهو باطل بني له في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محقّ بني له في وسطها ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها» «1» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بك إثما ألّا تزال مخاصما» «2» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 82]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) .
__________
(1) التاج ج 5 ص 37.
(2) المصدر نفسه.(5/81)
(1) أو أبلغ حقبا: قيل إن الحقب سبعون أو ثمانون سنة، والمتبادر من العبارة أنها بسبيل بيان أنه سيظل يسير في طريقه حتى يبلغ ما أراد مهما طال عليه الزمن.
(2) الحوت: يطلق على السمكة الكبيرة.
(3) ذلك ما كنا نبغي: هذه علامة المحلّ الذي كنا نقصده.
(4) فارتدا على آثارهما قصصا: فرجعا يسيران على آثار أقدامهما حتى يبلغا المحل بدون ضلال.
(5) وآتيناه من لدنا علما: اختصصناه بعلم منا.
(6) حتى أحدث لك منه ذكرا: حتى أكون أنا الذي أخبرك بسببه بدون سؤال منك.
(7) إمرا: شيئا عظيما.
(8) ولا ترهقني من أمري عسرا: لا تحملني العسر أو لا تشتد عليّ باللوم.
(9) نفسا زكية: نفسا بريئة لم ترتكب ذنبا.
(10) نكرا: منكرا.
(11) قد بلغت من لدني عذرا: قد صرت عندي معذورا على عدم مصاحبتك لي بعد ما جرى.
(12) لاتخذت عليه أجرا: لتقاضيت عليه أجرة.
(13) أن يرهقهما طغيانا وكفرا: أن يحملهما تبعة طغيانه وكفره أو يشقيهما بذلك.(5/82)
(14) خيرا منه زكاة: أكثر طهارة وبراءة واستقامة.
(15) أقرب رحما: أكثر منه رعاية لصلة الرحم أو أكثر منه رحمة أو برّا بوالديه.
(16) تأويل: بينا اشتقاق ومعاني هذه الكلمة المتعددة في سورة الأعراف والمتبادر من الآية أنه هنا بمعنى سببه الحقيقي أو الحافز الحقيقي عليه.
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة.
والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه «1» : «أن سعيد بن جبير قال لابن عباس: إن نوفا البكّاليّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال: كذب عدوّ الله «2» حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أيّ الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه: إنّ لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا ربّ
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 148- 151.
(2) يظهر من العبارة أن هذا الرجل غير مسلم. وفي كتب التفسير أنه ابن زوجة كعب الأحبار اليهودي الأصل (انظر تفسير الطبري والبغوي للآيات) . ويروي المفسرون أن نوفا قال: إن موسى المذكور في القصة هو موسى بن يشا، وقد يكون قال القولين في مجلسين فساق ابن عباس الحديث لتكذيبه.(5/83)
فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثمّ انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من مائها فتحرّك وانسلّ من المكتل فدخل البحر فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال: ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى: ذلك ما كنّا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلّم عليه موسى فقال الخضر: وأنّي بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلّمني ممّا علّمت رشدا. قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى:
ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرّت سفينة فكلّموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا، قال: ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبرا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال: وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا(5/84)
البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال: ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرا. قال: وهذه أشدّ من الأولى. قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه الخضر بيده، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقصّ الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير «1» : وكان ابن عباس يقرأ وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وكان يقرأ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ [80] وقد روى الترمذي «2» في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» وروى هذا «3» أبو داود وزاد عليه: «لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا» وروى الترمذي في نفس السياق «4» عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّما سمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزّت تحته خضراء» . والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر «5» جاء في إحداهما عن ابن عباس: أن موسى سأل ربّه
__________
(1) انظر التاج أيضا ج 4 ص 151.
(2) انظر التاج أيضا ج 4 ص 151.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه.
(5) انظر تفسير الطبري والبغوي.(5/85)
فيما سأل أيّ عباده أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو تردّه عن ردى، قال: ربّ فهل في الأرض أحد؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال: الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك وأراد أن يعرّفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفار إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها «1» التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزأوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند
__________
(1) انظر تفسير الطبري.(5/86)
موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة. وينبىء عن صحة ذلك قوله وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك.
واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [23- 24] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلّا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح(5/87)
معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحرين هو مكان اجتماع بحر فارس وبحر الروم أحدهما قبل المشرق والآخر قبل المغرب. أو أنه طنجة أو أنه بالمغرب. ومن ذلك أنه كان في المكان الذي أوى موسى وفتاه إليه عين ماء الحياة فمس جسد الحوت الماء فدبت إليه الحياة مع أنه كان قد أكل بعضه فتحرك ثم تسرب إلى البحر وكان يتجمد محل تسربه فلما عاد موسى وفتاه إلى مكانهما الأول وجدا مسارب الحوت متجمدة في البحر فسارا عليه حتى بلغا جزيرة في البحر فلقيا الخضر فيها. ومن ذلك أن الملك الذي كان يأخذ السفن هو هدد بن بدد من ذرية العيص بن اسحق. أو الجلندي الأزدي! ومن ذلك أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي أنطاكية أو أيلة أو قرية على ساحل البحر اسمها الناصرة التي سميت النصارى بها!. ومن ذلك أن الكنز الذي كان تحت الجدار هو صحف علم أو لوح من ذهب مكتوب على أحد جانبيه (بسم الله الرّحمن الرّحيم. عجبت لمن يؤمن كيف يحزن.
وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح. وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله) . وعلى جانبه الآخر (أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي. خلقت الخير والشر. فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه) . ويقول البغوي الذي نقلنا عنه النص وهذا قول أكثر المفسرين، وروي مع ذلك أن الكنز كان مالا مكنوزا. ومن ذلك أن الخضر هو لقب للرجل وأن اسمه بليا بن ملكان وقيل إنه من نسل بني إسرائيل وقيل إنه من أبناء الملوك وقد تزهد. وقيل إنه نبي وقيل إنه ولي قد خصّه الله بعلمه اللدني أي الغيبي.
وروي في صدده مع ذلك أنه كان وزيرا لذي القرنين فأراد هذا أن يكتشف عين الحياة فدخل الظلمة وكان الخضر على مقدمته فاهتدى إلى العين وشرب واغتسل منها فصار حيا خالدا. ومما قاله الخازن إن أكثر العلماء والمتفق عليه عند مشايخ الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على أنه حي. والحكايات في رؤيته والاجتماع به وبوجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر.(5/88)
ومع هذا فالخازن قال أيضا إن هناك من قال إنه ميت. وهذا ما قاله غيره حيث قالوا: إن حياته وموته مختلف فيهما. ومما رووه أن الله أبدل والدي الغلام الذي قتله الخضر بغلام أو بجارية أنجبت سبعين نبيا وأن الغلام كان قاطع طريق مفسدا تأذى منه أبواه. ومما روي أنه قيل لابن عباس لم نسمع لفتى موسى بذكر في حديث موسى والخضر وكان معهما؟ فقال: شرب الفتى من الماء فخلد فأخذه العالم معه فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة!.
ومما رووه: «أنّ موسى لمّا أراد أن يفارق الخضر قال له: أوصني؟ قال: لا تطلب العلم لتحدّث به واطلبه لتعمل به» .
والمرويات المذكورة غير وثيقة الأسناد، وفيها ما يتناقض مع نصّ الحديث الصحيح، وفيها ما يتناقض مع الحقائق العلمية والتاريخية المعروفة، وفيها ما يتناقض مع العقل والنقل. ومسألة حياة الخضر بخاصة مخالفة لنص القرآن الذي يقول: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ سورة الأنبياء: [34] وقد نبّه البغوي إلى هذا في معرض تأييد عدم صحة حياته. وقد روى القاسمي عن البخاري وابن حبان وابن تيمية وغيرهم نفيهم الجازم لحياة الخضر وقول بعضهم إنه لا يقول بذلك إلا المغفلون.
وفي تفسير القاسمي استطرادات إلى تعليل ورود جملة: أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها [77] دون الاكتفاء بجملة «فاستطعماهم» وورود جملتي ما لَمْ تَسْتَطِعْ [78] وما لَمْ تَسْطِعْ
[82] والفرق بينهما. وجواز نسبة الإرادة إلى الجدار في اللغة العربية ومدى ما في جملة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [79] وفَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً [81] وفَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [82] في سياق تعليل الخضر لما فعله وجواز ما فعله من أمور في نظر الشرع وبخاصة قتله للغلام النفس الزكية ...
ونقول بالنسبة لما رؤي أنه إشكالات لغوية إنه لا يصح أن يفرض أي إشكال لغوي في القرآن بعد أن قرر إنه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ سورة الشعراء: [195] وإنه(5/89)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ سورة الزمر: [28] ولا بد من أن يكون كل ما ورد فيه عربيا مبينا سائغا بالأسلوب العربي الفصيح. ونقول بالنسبة للنقاط الأخرى إنها لا طائل من التعلق بها والحوار في صددها فهي من قصة شاءت حكمة التنزيل أن ترد في القرآن بالصيغة التي وردت بها وينبغي أن تبقى في نطاقها وأن يوقف منها عند ما وقف عنده القرآن والحديث النبوي الصحيح مع استلهام ما فيها من موعظة وعبر والله تعالى أعلم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 101]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
. (1) وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا: كلمة السبب الأولى بمعنى الوسيلة الموصلة إلى المقصد أو العلم. والثانية بمعنى الطريق أو السير نحو القصد.(5/90)
(2) في عين حمئة: عين ماء حار أو أرض طينية مستنقعة سوداء. وجملة تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ينبغي أن تحمل من حيث المدى اللغوي على المجاز بحيث تفسر بمعنى (كأنها تغرب في عين حمئة) أو مثل قولنا (غرقت الشمس في البحر) ونحن نعلم أنها لم تغرق في البحر وإنما صارت في نظرنا وراءه.
(3) لم نجعل لهم من دونها سترا: إما أنها بمعنى أنهم ليسوا على شيء من الحضارة ووسائلها أو بمعنى أنه ليس في أرضهم جبال ولا شجر ولا بناء يقيهم الشمس حين طلوعها.
(4) أحطنا بما لديه خبرا: علمنا بكل ما قام به، أو كان كل ما قام به في علمنا وإحاطتنا.
(5) خرجا: ضريبة.
(6) زبر الحديد: قطع الحديد.
(7) بين الصدفين: بين الطرفين المتقابلين وقيل بين الجبلين.
(8) قال انفخوا: كناية عن طلب إحماء الحديد في النار.
(9) قطرا: النحاس الذائب أو القطران أو الزفت الذائب وهذا هو الأرجح.
(10) وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض: يموج بمعنى يتحرك باضطراب.
ومعنى الجملة تركناهم يضطربون فيما بينهم بالحركات والاختلاط.
تعليقات على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحي به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلّا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.(5/91)
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلّها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [85] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه: «كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال: ما لي وما لهم ما لي علم إلّا ما علّمني الله ثم قال: اسكب لي ماء فتوضأ ثمّ صلّى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال: أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم. قالوا: بلى أخبرنا. قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الاسكندرية فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال: ما ترى؟
فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، ثم علا(5/92)
به فقال ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليمّ محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلّم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السدّ وهو جبلان ليّنان يزلق عنهما كل شيء ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سمّاهم» .. والحديث غير وارد في كتب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير وقال إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورود السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير «1» بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزوّ إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والقاسمي وغيرهم، ومنهم من يتطابق مع من سبقه كأنما ينقل عنه وفي بعض ما يورده بعضهم زيادة ونقص وتغاير أيضا.(5/93)
مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريج ومحمد بن إسحق الذي يعزو كلامه إلى «بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض. وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الإسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي أو أنه الإسكندر المشهور الذي بنى الاسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الإسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا علا في الأرض غير مفند
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم مرشد
فرأى مآب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأطة حرمد
وأن عمره بلغ ألفا وثلاثين سنة وكان وزيره الخضر صاحب موسى وقد دخل معه في الظلمة حينما أراد أن يكتشف عين الحياة فاهتدى الخضر إليها دونه فشرب واغتسل منها فكتبت له الحياة إلى آخر الزمان!. ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم،(5/94)
أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس! ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار أو معرّبتان وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم 22 قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله (120) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء (120) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى.
ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلّا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلّا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الإسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له: إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الإسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي(5/95)
القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الإسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال: يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم فقال له: إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخّر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى والكافرين بالشدة والعذاب.
ومما رووه في سياق الآية [86] أنه كان لمدينة القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس اثنا عشر ألف باب وكان اسمها مريحا ويسكنها قوم من نسل ثمود ولولا ضجيجهم لسمع وجيب الشمس حين تغرب من شدة قربهم من مغربها. وأن ابن عباس اختلف مع معاوية على قراءة عَيْنٍ حَمِئَةٍ [81] حيث كان الأول يقرأها (عين حمئة) بمعنى طينة سوداء والثاني يقرأها (عين حامية) بمعنى عين ماء حار وأنهما اتفقا على تحكيم كعب الأحبار فأرسلا إليه يسألانه كيف يجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال لهم: إنها تغرب في طينة سوداء، فوافق بذلك ابن عباس! ورووا في سياق الآية [88] أنه لم يكن بين القوم الذين وجدهم عند مطلع الشمس وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر على أرضهم بناء فإذا طلعت الشمس نزلوا إلى الماء أو اندسوا في سراديب في الأرض حتى تزول فيخرجون إلى معايشهم وأنهم من نسل مؤمني قوم هود وأن اسم مدينتهم مرقيسا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج.(5/96)
وواضح أن معظم الأقوال جزاف لا تتسم بأية سمة علمية وتاريخية عدا ما يشبه اسم وتاريخ الإسكندر المكدوني المعروف باستثناء خرافة عمره ووزارة الخضر له وعين الحياة التي شرب منها هذا الخضر. ومع بقاء ثغرة هامة لم يحاول راوي اسم الإسكندر سدّها وهي ما هو معروف من وثنية الإسكندر المكدوني ومقتضى الآيات بكون ذي القرنين مؤمنا موحدا موقنا بالآخرة يوحي الله إليه ويكلمه كأنه من الأنبياء. ومما رواه الطبري وتابعه غيره أن الجبلين اللذين أنشأ ذو القرنين السد بينهما هما بين أرمينية وأذربيجان وروى ابن كثير إلى هذا أن الخليفة العباسي الواثق أرسل سرية للبحث عن السد فغابت سنتين وعادت بعد أن لاقت الأهوال ورأت العجائب في البلاد التي طوفت فيها واحدة بعد أخرى وقالت إنها رأت بناء من الحديد والنحاس وله باب عظيم وعليه أقفال عظيمة، وإن عنده حرسا من الملوك المتاخمين له وإنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال.
ولم يذكر المفسر في روايته مكان السد الذي بلغت إليه.
وفي تفسير القاسمي وهو من التفاسير الحديثة في سياق تفسير الآيات عزوا إلى «بعض المحققين» أنه كان يوجد وراء جبل من جبال القوقاز- القفقاس- المعروف عند العرب بجبل قاف في إقليم طاغستان قبيلتان إحداهما اسمها آقوق وثانيتهما ماقوق عرّبهما العرب بيأجوج وماجوج. وهما معروفتان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. وتناسل منهما كثير من أمم الشمال والشرق في روسية وآسية. وأن السد كان بين مدينتي دربند وخوزار في إقليم الطاغستان حيث يوجد مضيق بين المدينتين يسمى الآن بباب الحديد وبالسد وفيه أثر سد حديدي قديم بين جبلين. وذكر نقلا عن صفوة الأخبار أن السور الذي وصلت إليه سرية الواثق العباسي هو سور الصين الذي يبلغ طوله نحو 1250 ميلا وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما، وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إلى أربعين قدما. وهذا السور لم يبنه إسكندر وإنما الذي بناه الإسكندر هو سد دربند. وكلام هذا المفسر يفيد أن ذا القرنين هو الإسكندر المكدوني(5/97)
المشهور. وقد حاول المفسر أن يوفق بين ما هو معروف من عقيدة الإسكندر المكدوني الوثنية وبين مقتضى الآيات القرآنية وقال إنه لا يقتضي من عقيدة اليونان الوثنية أن يكون هو وثنيا وأن أساتذته أرسطاطاليس وفيثاغوروس إلهيون. ولا تبلغ محاولته حد الإقناع، وظاهر من كلامه أنه بنى السد لمنع زحف قبائل ماقوق وآقوق ...
وهناك عالمان هنديان مسلمان مشهوران عصريان وهما شبلي النعماني وأبو الكلام آزاد بحثا في موضوع ما جاء في الفصل القرآني بحثا يتسم بسمة العلم والتروي ويستند إلى مصادر عديدة ووثائق أثرية هامة. وقد أدى البحث عند الأول إلى ترجيح كون ذي القرنين هو دارا الكبير ملك الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد، وأن اليأجوج والمأجوج من قبائل الاسكيت التترية التي كانت تقيم في الشرق من جبال القوقاز، وأن السد الذي بناه هو السد المعروف بسد دربند القريب من مدينة دربند الواقعة غربي بحر الخزر. وأدى البحث عند الثاني إلى ترجيح كون ذي القرنين هو الملك كورش ملك الفرس في القرن السادس قبل الميلاد والذي حكم قبل دارا الكبير والذي قوّض مملكة بابل الكلدانية وأذن لليهود المسبيين في مملكة بابل بالعودة إلى فلسطين وتجديد أورشليم (بيت المقدس) ومعبدها سنة (538 ق. م) . وأن السدّ هو غير سدّ دربند، وإنما هو بين طرفي جبل من جبال القوقاز بين مدينتي ويلادي كيوكز وتفليس، ويعرف باسم مضيق كورش فيما يعرف به من أسماء. وأنه لا يزال موجودا وهو خليط بالحديد والنحاس. وأن يأجوج ومأجوج هم قبائل منغولية كانت تعيث فسادا في البلاد فأنشأ كورش السدّ لمنعهم.
وحاول كل من العالمين إثبات أن كلا من رجليهما أنه ذو القرنين بما كان من كثرة فتوحاته وسعة سلطانه وإثبات أن الزرادشتية التي كان يدين بها كل من الملكين تقول بوحدة الله وتأمر بالخير وتدين بالآخرة.
وقد استند الاثنان فيما استندا إليه إلى سفر نبوءة دانيال من أسفار العهد القديم المتداولة إلى اليوم. وكان دانيال من جملة من سباهم نبوخذ نصر إلى بابل على ما ذكر في هذا السفر. ولقد جاء في الإصحاح الثامن منه أنه رأى في منامه(5/98)
كبشا ذا قرنين ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه وإذا بتيس من المعز جاء من المغرب له قرن واحد فهجم على الكبش ذي القرنين وضربه وكسر قرنيه وصرعه على الأرض وداسه، فالتمس دانيال من جبريل أن يفسر له الرؤيا فطمأنه بأنها بشرى بخلاص إسرائيل من السبي وأن الكبش ذا القرنين هو ملوك ماداي وفارس وأن تيس المعز هو ملك ياوان.
ولقد ذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس «1» في تاريخه الذي ألّفه في القرن الأول للميلاد المسيحي ووصل إلى عهدنا أن أحبار اليهود تقدموا إلى الإسكندر المكدوني حينما جاء إلى أورشليم بعد أن انتصر على ملك فارس دارا الثالث وقوض مملكته وأوردوا على مسامعه رؤيا دانيال وقالوا له إنه هو المقصود من تيس المعز الذي ضرب بقرنه ذا القرنين ملك فارس وكسر قرنيه. فالنعماني فسر ذا القرنين بدارا الكبير بسبب تعاظم ملك فارس في زمنه وأبو الكلام فسره بكورش بسبب كونه هو الذي قوض ملك بابل ونجّي بنو إسرائيل من السبي في زمنه. مع أن الإسكندر الذي فسره اليهود بالتيس ذي القرن الواحد إنما ضرب وغلب دارا الثالث الذي كان في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.
ومهما يكن من أمر فإن من واجبنا أن ننوه بجهد العالمين وإن كان من الحق أن نقول إن استنتاجاتهما لا تصل في رأينا إلى مبلغ الإقناع، وإن كنا نرى أن أبا الكلام كان أقرب إلى التوفيق لأنه استند إلى سفرين آخرين من أسفار العهد القديم ذكر فيهما كورش. وهذان السفران هما سفر نبوءة أشعيا وسفر عزرا. ولقد جاء في الإصحاح الرابع والأربعين من الأول بلسان الربّ هذه العبارة: «أنا القائل لكورش أنت راعيّ وأنت متمم لكل ما أشاء» . وجاء في الإصحاح الخامس والأربعين هذه العبارة: «هكذا قال الرب لمسيحه كورش الذي أخذت بيمينه لأخضع الأمم بين يديه وأحل أحقاء الملوك وأفتح أمامه المصاريع إني أسير قدامك فأقوم المعوج وأحطم مصاريع النحاس وأكسر مغاليق الحديد وأعطيك كنوز الظلمة ودفائن
__________
(1) انظر تاريخ يوسيفوس اليهودي الترجمة العربية طبعة صادر ص 24.(5/99)
المخابئ، لتعلم أني أنا الرب الذي دعاك باسمك إله إسرائيل. إني لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك وكنيتك وأنت لا تعرفني» . ولقد جاء في الإصحاح الأول من السفر الثاني- عزرا- هذه العبارة: «في السنة الأولى لكورش ملك فارس لكي يتم ما تكلم به الرب بضم أرميا نبه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداء في مملكته كلها وكتابات أيضا قائلا هكذا قال كورش ملك فارس جميع ممالك الأرض قد أعطانيها الرب إله السموات وأوصاني بأن أبني له بيتا في أورشليم التي بيهوذا. فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه. فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا. فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه. فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا ويبني بيت الرب إله إسرائيل وهو الإله الذي في أورشليم.
وكل من بقي في أحد المواضع حيث هو متغرب فليمدده أهل موضعه بالفضة والذهب والمال والبهائم فضلا عما يتطوعون به لبيت الله الذي في أورشليم» .
حيث يفيد هذا أن كورش حسب عبارة السفرين كان مؤمنا بإله السموات يتلقى الأمر أو الوحي أو الإلهام منه ويعمل على بناء مسجد له من جديد في أورشليم.
وأن الله اعتبره وكيلا له ليتمم كل ما شاءه وأنه أخذ بيده وأخضع له الأمم وفتح أمامه المصاريع وفتح له دفائن المخابئ وأعطاه كنوز الظلمة وسار قدامه. ولقد جاء في الإصحاحات التالية للإصحاح الثامن من سفر نبوءة دانيال أخبار رؤى أخرى رآها دانيال وبشارات تلقاها من جبريل وميكائيل بخلاص قومه وانتصار كورش على بابل وتعاظم ملك ماواي وفارس فكان هذا مما عزز به أبو الكلام رأيه بكون ذي القرنين هو كورش ملك فارس بالإضافة إلى ما اطلع عليه من مدونات فارسية قديمة عن أعمال كورش وبنائه السد لمنع أذى القبائل المغولية المنعوتة بيأجوج ومأجوج على النحو الذي ذكرناه آنفا.
وأسفار العهد القديم ليست فوق الشبهة في أسلوب تأليفها ووقته وهدفه على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف. ومن جملتها الأسفار الثلاثة ولكنا نعتقد أنها كانت متداولة في أيدي اليهود قبل الميلاد المسيحي بقرون عديدة وأن اليهود كانوا يتداولون ما فيها من أخبار عن كورش وإيمانه بالله وتأييد الله له وما أتاحه له من توفيقات عظيمة خارقة من جملة ذلك ما أشير إليه في القرآن إشارة(5/100)
خاطفة وكونه ذا القرنين في رؤيا دانيال وكون التيس هو الإسكندر المكدوني وأنهم كانوا يفسرون غلبة هذا لملك فارس وتقويضه مملكته في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد بغلبة ذي القرنين على ما كان من غلبته على واحد من خلفاء ذي القرنين.
وأنهم ظلوا يتداولون الأسفار والأخبار إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا مصدرها بالنسبة لعصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. وكان ذلك حافزا للسؤال عن ذي القرنين الذي كانت تذكر أخباره العظيمة فأوحى للنبي صلى الله عليه وسلم بما شاءت حكمة التنزيل أن يوحى إليه به عن ذلك بأسلوب يتساوق هدفه مع هدف القصص القرآنية من الموعظة والعبرة.
ومع احتمال أن تكون استنتاجات أبي الكلام معقولة فإن هذا يكون واردا بالنسبة لما كان يدور ويتداول من أخبار وآثار وليس على اعتبار أنه الحقيقة التاريخية المقصودة بالآيات القرآنية. لأنه من قبيل التوفيق والتطبيق ولا يمكن أن يعتبر أنه هذه الحقيقة لأن هذا لا يصح إلا إذا كان هناك يقينا من تاريخ أو نصا صريحا في القرآن أو ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك شيء من ذلك. والحديث الوحيد المعزو إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي رواه الطبري وأوردناه قبل تفسير ذي القرنين بالشاب اليوناني الذي بنى الاسكندرية. وقد أوردنا المآخذ على هذا الحديث التي تسوغ عدم الأخذ به.
أما مواضع العظة والعبرة في القصة فمنها: أولا: المحاورة التي حكيت بين الله تعالى وذي القرنين وتضمنت تقرير كون ذي القرنين مؤمنا داعيا إلى الإيمان ويعامل المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالحسنى ويعذب الظالمين المنحرفين.
وثانيا: الآية التي تحكي توكيد ذي القرنين بمجيء وعد الله وكونه حقا لا ريب فيه والتي تعني البعث والنشور. وثالثا: ما تضمنته القصة من تقرير كون هذا الملك العظيم الذي بلغ سلطانه وفتوحاته وخطورة شأنه هذا المبلغ الذي كاد يكون سيد مشارق الأرض ومغاربها مؤمنا بالله موقنا باليوم الآخر وداعيا إلى الله ومثيبا للمؤمنين الصالحين بالحسنى ومعاقبا للكافرين الجاحدين حيث يتطابق في صفاته وخطته مع الدعوة التي يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم وتتضمنها آيات القرآن. ورابعا: الآيات [98- 101] التي جاءت معقبة على الآيات القصة التي تبدو وكأنها جزء متمم لها،(5/101)
جاءت لتربط بينها وبين توكيد مجيء القيامة وتنذر الكفار الذين يتصاممون عن آيات الله وذكره ولا يبصرون النور الهادي الذي جاءهم به رسوله بنار جهنم.
ولقد قال المفسر القاسمي في عقب الآيات إنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب في سياق الوقائع. وهو الحق الذي ما فتئنا ننوه به ثم أخذ يورد على ما ورد على باله من فوائد السياق. فمن ذلك:
1- القيام بالأسباب والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل وكون الفوز والظفر إنما هما على قدر بذل الجهد.
2- تنشيط الهمم فلا ينبغي أن تكون أهوال الأسفار عذرا في الخمول والرضاء بالدون إذا ما تيسرت الأسباب.
3- واجب الملك أن يبذل جهده في تحقيق شكوى الشاكين وراحة رعاياه وأمنهم ودفع ما يهددهم من أخطار.
4- واجبه بالتعفف عن أموالهم إذا ما أغناه الله.
5- التحدث بنعمة الله.
6- مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال تنشيطا لهمتهم وترويحا لقلوبهم.
7- تعريف الغير ثمرة العمل المهم ليعرفوا قدره فيظهروا شكره.
هذا، وإذا كان ليس هناك أحاديث صحيحة عن شخصية ذي القرنين فهناك أحاديث نبوية عديدة منها الوارد في كتب الأحاديث الصحيحة عن يأجوج ومأجوج بحيث يكون محل للكلام عنهم في هذا النطاق. من ذلك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة في سياق تفسير الآيات وفي معرض ذكر السد الذي أنشأه ذو القرنين لمنع أذى يأجوج ومأجوج جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنّهم يحفرونه كلّ يوم حتّى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله(5/102)
كأشدّ ما كان حتّى إذا أراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله، فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس فيستقون المياه ويفرّ الناس منهم فيرمون بسهامهم في السماء فترجع مخضّبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسرا وعلوّا فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون. فوالذي نفسي بيده إنّ دوابّ الأرض تسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم» «1» . ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال: «اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدّخان والدجّال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» «2» .
ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن النواس بن سمعان في معرض ذكر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله الدجال جاء فيه: «إن الله يوحي إلى عيسى بعد أن يقتل الدجّال بأنه أخرج عبادا لا يدان لأحد بقتالهم فحرّز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبيّ الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث
__________
(1) التاج ج 4 ص 152، وفسر الشارح النغف بنوع من الدود يظهر في أنف الإبل والغنم فيهلكها. [.....]
(2) التاج ج 5 ص 304.(5/103)
شاء الله ثمّ يرسل الله مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتّى يتركها كالزّلقة» «1» .
وهناك أحاديث أخرى لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحتها محتملة لأنها من باب ما ورد في هذه الكتب منها حديث رواه الطبري عن أبي سعيد الخدري: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل» . وحديث أورده ابن كثير ورواه الإمام أحمد عن زينب بنت جحش قالت:
«استيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمرّ وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلّق. قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث» «2» . وحديث أورده ابن كثير نقلا عن الطبراني ومرويا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا وإن من ورائهم ثلاث أمم تاويل وتأييس ومنسك» «3» . وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير في سياق تفسير سورة الأنبياء ولما ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا، منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن حرملة عن خالته قالت: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب فقال: إنكم تقولون لا عدوّ لكم وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوّا حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون صهب السعاف من كلّ حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة» وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» .
ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن مرة أخرى في آيات سورة الأنبياء هذه:
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ
__________
(1) التاج ج 5 ص 321- 324 ومعنى لا يدان لا يقدر عليه. وفرسى جمع فريس كقتلى وقتيل بمعنى موتى.
(2) قال ابن كثير إن هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث وهب.
(3) قال ابن كثير إن هذا الحديث ضعيف منكر.(5/104)
الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) حيث تفيد صراحة استمرار وجودهم في الدنيا وحبسهم عن الناس إلى الوقت المعين في علم الله حتى يفتح لهم وينطلقون من حبسهم وينسلون من كل حدب.
ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في بعض الأسفار المتداولة اليوم من أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد كذلك. بعبارة في بعضها شيء ما من التوافق والتساوق مع ما جاء في القرآن وبعض الأحاديث النبوية أيضا. من ذلك ما جاء في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر نبوءة حزقيال، وحزقيال هذا من سبي بني إسرائيل إلى بابل ومن أنبيائهم في السبي، ونبوءته تدور على حالة بني إسرائيل وفلسطين وما لا قوه من أهوال وما سيكون أمرهم إليه (وكلمة الرب إليّ قائلا يا ابن البشر اجعل وجهك نحو جوج أرض ماجوج رئيس روش وماشك وتوبل وتنبأ عليه. وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك يأجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأجعل حلقة في فكك أنت وجميع جيوشك خيلا وفرسانا ومعهم فارس وكوش وفوط وجومر وآل توجرن وأقاصي الشمال وجميع جيوشهم وشعوب كثيرون. في آخر السنين تأتي إلى الأرض المنجاة من السيف المجموعة من شعوب كثيرين إلى جبال إسرائيل التي كانت مستوحشة كل حين فتصعد وتأتي كعاصفة وتكون كغمام يغطي الأرض. إنك يأجوج في آخر الأيام تكون فأتي بك على أرضي لكي تعرفني الأمم بأني سأجلبك عليهم. في ذلك اليوم يوم يأتي جوج على أرض إسرائيل يقول السيد الرب يطلع حنقي في وجهي وفي غيرتي ونار غضبي تكلمت. ليكونن في ذلك اليوم ارتعاش عظيم على أرض إسرائيل. فيرتعش من وجهي سمك البحر وطير السماء ووحش الصحراء وجميع الدبابات الدابة على الأرض وجميع البشر على وجه الأرض. وتندك الجبال وتسقط المعاقل وكل سور يسقط إلى الأرض. لكني أدعو السيف عليه في جميع جبالي فيكون سيف كل رجل على أخيه. وأدنيه بالوباء والدم والمطر الطاغي وحجارة البرد وأمطر النار والكبريت عليه وعلى جيوشه وعلى الشعوب الكثيرين الذين معه فأتعظم وأتقدس(5/105)
وأتعرف على عيون أمم كثيرين فيعلمون أني أنا الرب) . وجاء في الإصحاح التاسع والثلاثين من السفر نفسه: (وأنت يا ابن البشر تنبأ على جوج وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك يأجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأقتادك وأصعدك من أقاصي الشمال وآتي بك إلى جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسرى وأسقط سهمك من يدك اليمنى على جبال إسرائيل تسقط أنت وجميع جيوشك والشعوب الذين معك وللجوارح والعصافير وكل ذي جناح ولوحش الصحراء قد جعلتك مأكلا. على وجه الصحراء تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب، وأرسل نارا على ماجوج والساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب ويخرج سكان مدن إسرائيل بالسلاح ويسلبون الذين سلبوهم، في ذلك اليوم أجعل لجوج موضعا ذا اسم قبرا بإسرائيل وادي العابرين في شرق البحر فيسد الوادي على العابرين فيدفنون هناك جوجا وجميع جمهوره ويسمون الموضع وادي جمهور جوج) .
ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الرسالة الأولى للقديس يوحنا وهو من ملحقات العهد الجديد في صدد المسيح الدجال: (أيها الأولاد هذه هي الساعة الأخيرة ولما أنكم سمعتم أن المسيح الدجال يأتي يوجد الآن مسحاء دجالون كثيرون. فمن هذا نعلم أن هذه هي الساعة الأخيرة) . ومن ذلك ما جاء في الإصحاح العشرين من سفر رؤيا هذا القديس وهو كذلك من ملحقات العهد الجديد في صدد يأجوج وماجوج والنبي الكذاب (وإذا تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في زوايا الأرض الأربع جوج وماجوج ليحشدهم للقتال في عدد كرمل البحر. فطلعوا على سعة الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة. فهبطت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وطرح إبليس الذي أضلهم في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب، هناك يعذبون نهارا وليلا إلى دهر الدهور) .
وعلى كل حال فإن من واجب المسلم أن يؤمن بوجود قبيلين اسماهما المعرّبان يأجوج ومأجوج وبأنهما خلق عجيب من خلق الله من بني آدم وبأنهما يخرجان في آخر الزمان من كل حدب لأن ذلك مما ورد في القرآن بصراحة(5/106)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
وقطعية، ومما ورد عنه تفصيل في أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا ولو لم تدرك أمرهم العقول العادية، مع الوقوف عند ما وقف عنده القرآن، والثابت من الأحاديث النبوية ومع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكرهم بالأسلوب الذي ذكروا به حكمة. ومع ملاحظة أن ذكرهما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانت متداولة بين اليهود والنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه تشابه من بعض النواحي لما ورد عنهم في الأحاديث النبوية، وأن صفات وأخبار هذين القبيلين لم تكن نتيجة لذلك مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، ومع ملاحظة أن ذكرهم جاء في سورة الأنبياء كنذير من نذر الله بقرب القيامة وأهوالها.
وجاء في سورة الكهف مع قصة من أهدافها العظة والتدعيم والله تعالى أعلم.
ولم يدع مفسرو غلاة الشيعة هذه القصة دون لمس حيث قالوا في مدى آية:
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) إنها تعني أنه يرد إلى أمير المؤمنين فيعذبه عذابا نكرا حتى يقول يا ليتني كنت ترابا أي من شيعة أبي تراب «1» !. ومؤدى القول أن عليا رضي الله عنه هو الربّ الذي يرجع إليه الناس ليعذبهم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 102 الى 108]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
. (1) ضلّ سعيهم: حبط عملهم وضاع وذهب هباء.
__________
(1) التفسير والمفسرون ج 2 ص 70.(5/107)
(2) الفردوس: قيل إنها معرّبة من الرومية وأنها تعني البستان الذي يجتمع فيه التمر والزهر. أو الذي يجمع محاسن كل بستان، أو أواسط الجنات وأفضلها مكانا، وعلى كل حال فالكلمة كانت معرّبة ومندمجة في اللغة الفصحى ومفهومة الدلالة قبل نزول القرآن.
(3) حولا: تحولا.
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يظل ثابتا مستمرا عليها لأنه يرجو بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [103] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوة النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريج أن المقصود بكلمة عِبادِي في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة(5/108)
كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية:
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) أحدهما أنهم أهل الصوامع وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين لأنه رضي بالتحكيم وقالوا لا حكم إلّا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال: «سألت أبي عن هذه الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أهم الحرورية؟ قال: لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذّبوا محمّدا وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسمّيهم الفاسقين» «1» . وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال إن الآية عامة الشمول وهو حقّ. ومن العجيب أن تقال وفي الآية [105] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال: «أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها» . وحديث عن معاذ بن جبل قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس» . وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 152- 153.(5/109)
فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما» . وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرّحمن تبارك وتعالى ومنه تفجر أنهار الجنة» . وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مئة درجة ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجّر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس» «1» .
والفردوس في أصلها معرّبة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة ثم قرأ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال: «يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلّة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بريدة هذا ممّن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا» . والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان
__________
(1) التاج ج 5 ص 366.(5/110)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» » .
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 109 الى 110]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
. (1) مدادا: حبرا.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقرر للناس أن آيات الله ومشاهد عظمته أوسع وأكثر من أن تحصى حتى لو أريد كتابتها وكان البحر مملوءا بالحبر لنفد الحبر قبل أن تنفد ولنفد بحر من الحبر مثله أيضا قبل أن تنفد. وبأن يقرر لهم أيضا أنه بشر مثلهم، وكل ما في أمره أنه يوحى إليه بأن إلههم واحد لا شريك له وأن على الذين يرجون لقاء الله وما عنده من الحسنى أن يؤمنوا به ويعملوا صالح الأعمال ولا يشركوا به أحدا.
ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس جاء فيه:
«قالت اليهود يا محمّد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك وَمَنْ يُؤْتَ
__________
(1) التاج ج 4 ص 153.(5/111)
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً سورة البقرة: [269] ثم تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا سورة الإسراء: [85] فأنزل الله: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً الآية.
روى هذا الحديث الترمذي أيضا «1» . ومقتضاه أن تكون الآية مدنية وأن تكون نزلت لحدتها، ولقد روى الطبري عن طاووس عن مجاهد رواية بصيغتين جاء فيها أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى موطني ومكاني أو أحبّ أن أعمل وأتصدق وأحب أن يراه الناس فأنزل الله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ... الآية [110] وروى أيضا عن عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يتلو هذه الآية ويقول: إنها آخر آية نزلت من القرآن. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ومقتضاها أن تكون هذه الآية أيضا مدنية وأن تكون نزلت لحدتها كذلك. ولم نطلع على رواية تذكر مدنية آية من الآيتين. وهما متساوقتان في الخطاب والوزن ومتساوقتان في الوقت نفسه مع ما قبلهما في الوزن. والسياق جميعه في صدد الكفار، ولذلك نتوقف في الروايات ونرجح أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة وجاءتا في الوقت نفسه خاتمة قوية للسورة واحتوتا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه تجاه مواقف الكفار الذين حكت الآيات السابقة اتخاذهم آيات الله ورسله هزوا وأنذرتهم من حيث انطواؤهما على تقرير كون مهمته هي إنذار الناس وترك الأمر لهم بعد ذلك. فمن أراد النجاة آمن وعمل صالحا ومن أبى فله الهلاك. وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية تدعيم للتلقين الذي احتوته الآيات السابقة. وقد يلحظ أن شيئا من الفرق أو المبالغة بين الأولى وبين آية سورة لقمان [27] التي جاء فيها: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ غير أنه لا محل لقول ذلك لأن القصد هنا وهناك هو تعظيم مقدار علم الله وكلماته وتقرير كونهما أعظم من أن يحدهما وصف أو ينفدا بالتسجيل والكتابة، بالعبارة التي اقتضتها حكمة التنزيل في كل من الموضعين.
__________
(1) التاج ج 4 ص 153.(5/112)
ولقد روى الطبري في سياق الآية الثانية عن شهر بن حوشب قال: «جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فسأله فقال: أنبئني عمّا أسألك عنه أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يحمد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ فقال عبادة: ليس له شيء إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كلّه لا حاجة لي فيه» . وروى ابن كثير هذا الحديث عن طريق الإمام أحمد بزيادة مهمة فيها صورة رائعة كتناجي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده وهذا نصه: «قال شهر بن حوشب قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، فقال عبادة: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من المسلمين من ثبج المسلمين يعني من وسط قراء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه ونزل عند منازله لا يحور فيكم إلّا كما يحور رأس الحمار الميت. قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس وعوف بن مالك فجلسا إلينا فقال شدّاد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيّها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من الشهوة الخفية والشرك. فقال عبادة وأبو الدرداء:
اللهمّ غفرا ألم يكن رسول الله قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟ أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق أترون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم والله إن من صلّى لرجل أو صام أو تصدّق له لقد أشرك. فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى يرائي فقد أشرك. ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك» . قال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي. من أشرك شيئا فإنّ عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا غني عنه» . ولقد أورد ابن كثير نصّا آخر لحديث شداد جاء فيه: «إنه بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: شيء(5/113)
سمعته من رسول الله فأبكاني. سمعته يقول: أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية، قلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه» . وأورد ابن كثير إلى هذا وفي سياق الآية أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله يوم القيامة أنا خير شريك من أشرك بي أحدا فهو له كلّه» . وحديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جرى الناس بأعمالهم:
اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» .
وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري قال:
«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشّرك» والحديث الأخير فقط ورد في كتب الأحاديث الصحيحة الشهيرة وقد رواه مسلم والترمذي «1» . وقياسا على ذلك تكون صحة الأحاديث الأخرى محتملة.
وفي الأحاديث توضيح لمدى الآية الثانية التي وردت الأحاديث في صددها وتحذر من أي نوع من أنواع الشرك سواء كان في العقيدة واتخاذ شركاء لله مع الله أم في الأعمال وبيان بأن المقبول عند الله والنافع للمسلم هو ما كان خالصا لله تعالى وحده من ذلك وحثّ عليه. وهذا متسق مع مدى الآية ومدى التلقينات القرآنية عامة ثم مع مدى الطابع المميز للعقيدة الإسلامية بوحدانية الله تعالى دون أي شائبة ولا تأويل ولا اختصاص ولا تعقيد وبالاقتصار على الخضوع له والتعلّق به ونبذ كل ما سواه من قوى أخرى.
__________
(1) التاج ج 4 ص 154.(5/114)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
سورة النحل
في السورة مواضيع متنوعة، غير أن طابعها المميز تعداد نعم الله ومشاهد عظمته والتذكير بما يسّر الله للناس من وسائل الرزق وسخر لهم من نواميس الكون لإثبات استحقاقه وحده للعبادة والتنديد بالكافرين والمشركين وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين الشاكرين وتطمينهم. وفيها مبادئ أخلاقية شخصية واجتماعية رائعة.
وخطة جليلة للنبي والمسلمين عامة في صدد الدعوة إلى سبيل الله. وفيها إشارات إلى عقائد العرب باتخاذ الله بنات وكراهيتهم للبنات. وإلى هجرة المسلمين الأولى، وإلى حوادث ارتداد وعودة بعض المرتدين إلى الإسلام، وإلى قول الكفار بأن شخصا يعلّم النبي، وإلى حادث تبديل آية مكان آية في القرآن، وإلى ما حرّم الله من لحوم وذبائح، وإلى ملّة إبراهيم.
ولا يمكن أن يقال إن فصولها منقطعة عن بعضها بل إن التساوق بينها أو بين أكثرها أكثر ظهورا، وهذا يبرر القول إن فصولها نزلت متتابعة فدونت متتابعة كما نزلت إلى أن تمت.
وقد روي أن الآيات [126- 128] مدنية، وأسلوبها ومضمونها وسياقها يسوغ التوقف في ذلك ويجعل الرجحان لمكيتها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
.(5/115)
(1) أتى: بمعنى الآتي والواقع والمحقق.
(2) أمر الله: من المؤولين من أوّل أمر الله بالساعة والقيامة وقال إن الآية مثل اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] ومنهم من أوّلها بعذاب الله، وكلا التأويلين محتمل.
(3) بالروح من أمره: ما اقتضت حكمة الله أن يوحى من أوامره ورسالاته وكتبه وتبليغاته.
(4) خصيم مبين: مخاصم عنيد ومجادل قوي الجدل.
في الآيات:
1- توكيد بأن أمر الله آت لا ريب فيه فليتأكد السامعون من ذلك ولا يستعجلوه.
2- وتنزيه لله عن الشركاء الذين يشركهم معه المشركون.
3- وتقرير بما جرت عليه عادة الله تعالى من إنزال الملائكة بوحيه وما شاء من رسالاته وكتبه وأحكامه وتبليغاته على من يصطفيهم من عباده لإنذار الناس ودعوتهم إلى الإيمان به وحده واتقائه بصالح الأعمال.
4- وتنبيه على أنه هو الذي خلق السموات والأرض وأن الذي يقدر على ذلك يكون غنيا ومنزها عن الشركاء.
5- وتبكيت للإنسان الذي خلقه الله من نطفة تافهة فلم يتورع عن الوقوف منه موقف الخصم العنيد والمجادل المكابر.
وطابع المطلع في الآيات واضح. والخطاب فيها وإن كان عاما فروحها ومضمونها يلهمان أنه موجه إلى الكفار المشركين ومتضمن لمعنى التنديد بهم(5/116)
وإنذارهم فهم الذين يستعجلون وعد الله وهم الذين يجادلون في آياته ويقفون منه موقف الخصم العنيد. والمتبادر أن الآية الأولى بسبيل الردّ على ما كان يصدر من الكفار من تحدّ باستعجال أمر الله وعذابه الموعود عند ما تأتي الساعة وتقوم القيامة والاستهزاء بالوعد، فأمر الله آت لا ريب فيه.
والآية الثانية وهي تقرر ما جرت عادة الله عليه تتضمن توكيد صحة وحي الله للنبي صلى الله عليه وسلم ورسالته وتقرير كون هذا ليس بدعا يبعث الاستغراب ويسوغ المكابرة، ولا سيما أن دعوته واضحة بسيطة وهي دعوة إلى الله وحده واتقائه بصالح العمل.
ولما كانت السورة السابقة انتهت بالتنديد بالمشركين والنهي عن الإشراك بالله فقد يكون بدء مقصد السورة بتنزيه الله عن الشرك وإنذار المشركين بعذاب الله قرينة على صحة ترتيب نزول السورتين واحدة عقب الأخرى.
ولقد روى الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت الآية الأولى قال رجل من المنافقين إن هذا يزعم أن أمر الله أتى فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا ما نراه أنزل شيء فنزلت:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] فقالوا: إن هذا يزعم مثله، فنزلت: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [هود: 8] . وروي عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ رفعوا رؤوسهم فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وروى البغوي أن المشركين لما رأوا أن ما أنذر النبي لم ينزل ونزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ وثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم وظنوا أنه قد أتى حقيقة فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا. والروايات عجيبة. وآية سورة الأنبياء نزلت بعد هذه السورة بمدة ما، وآية سورة هود نزلت قبلها بمدة ما حيث يظهر هذا أيضا تفكك الروايات ويسوغ ترجيح كون الآيات وحدة تامة احتوت المقاصد التي شرحناها والله تعالى أعلم.(5/117)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه:
«بعثت أنا والساعة كهاتين- وأشار بإصبعيه- وإن كادت لتسبقني» «1» . وروى ابن كثير في سياقها حديثا كذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها يا أيّها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم، فمنهم من يقول نعم ومنهم من يشكّ. ثم ينادي الثانية يا أيّها الناس فيقول الناس بعضهم لبعض هل سمعتم فيقولون نعم ثمّ ينادي الثالثة أي. أيّها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فو الذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا وإنّ الرجل ليمدّنّ حوضه فما يسقي فيه شيئا أبدا وإنّ الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا، قال ويشتغل الناس» .
والحديث الأول وارد كما أشرنا في الذيل في كتب الأحاديث الصحيحة، واحتمال صحة الحديث الثاني وارد. واقتراب الساعة مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكر صراحة في بعض الآيات القرآنية منها آية سورة القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث إنذار الناس وهذه الحكمة ملموحة في الآيات كما هو المتبادر.
[سورة النحل (16) : الآيات 5 الى 18]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) .
__________
(1) روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بصيغة قريبة عن سهل وهذه الصيغة «بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه فيمدّهما. وفي رواية بعثت أنا والساعة كهاتين وضمّ السبابة والوسطى» التاج ج 5 ص 301.(5/118)
(1) لكم فيها دفء: لكم فيها ما تستدفئون به. والمتبادر أن القصد من الجملة الإشارة إلى شعر الأنعام وصوفها ووبرها الذي يصنع منه الثياب التي تبعث الدفء في الأجسام.
(2) لكم فيها جمال: المتبادر أن المقصد الإشارة إلى ما في منظر الأنعام وهي تغدو وتروح من مشهد جميل ومأنوس وبخاصة بالنسبة لأصحابها والحياة التي كان يحياها العرب الذين هم أول من خوطبوا بالقرآن.
(3) تريحون: ترجعون الأنعام إلى مراحها أي حظائرها وزرائبها بعد الرعي.
(4) تسرحون: تذهبون بها إلى الرعي في الصبح المبكر.
(5) لم تكونوا بالغيه إلّا بشق الأنفس: لم تكونوا لتصلوا إليه لولا الأنعام إلا بكل مشقة وقرئت الشين بالفتح والكسر والجمهور على الكسر.
(6) وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر: معنى قصد السبيل سلوك الطريق الحق، ومعنى جائر المعوج عن الطريق الحقّ. والجملة تنطوي على تقرير كون هناك طريقان واحدة مستقيمة وأخرى معوجة وأن الله يدعو ويهدي إلى الأولى أو(5/119)
أن عليه أن يبين الطريق المستقيم.
(7) فيه تسيمون: فيه ترعون أنعامكم.
(8) ذرأ لكم: خلق لكم، أو نمّى، أو أكثر، أو سخّر لكم.
(9) مواخر: من المخر وهو الجريان والسير في البحر.
(10) أن تميد بكم: لئلا تميد وتضطرب.
(11) وعلامات: دلائل يستدل بها المسافرون في أسفارهم من معالم الطرق أو النجوم على ما ذكره المفسرون.
في الآيات تعداد لنعم الله على الناس وتذكير بما هيأه وسخّره لهم من وسائل الحياة والمعاش ونواميس الكون. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد جاءت كاستطراد بياني لما احتوته الآيات السابقة وبخاصة الآيتان الأخيرتان منها كما هو المتبادر بحيث يصح القول أنهما سياق واحد. وكل ما فيها قد مرّ في سور سابقة وشرحناه وعلقنا عليه. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره لتكرر المواقف وتنوعها، وهي موجهة إلى القلوب والعقول معا، ويزيد في استحكامها وإلزامها أن السامعين يعتقدون أن الله عز وجل هو الذي خلق كل ذلك وأغدق عليهم بكل هذه الأفضال ويسّر لهم كل هذه الوسائل على ما حكته عنهم آيات عديدة مرّ منها بعض الأمثلة، وأسلوب الآيات ينطوي على تقرير هذا أيضا.
والآيات وإن كانت مطلقة الخطاب فإن الآية (17) تنطوي على تنديد. وهذا التنديد موجه على الأرجح إلى الكفار المشركين الذين ندد بهم في الآيات السابقة وهذا مما يؤيد ما قلناه آنفا من صلة الآيات بسابقاتها وكونها سياقا واحدا.
ومع أن التذكير بنعم الله وأفضاله على الناس ولفت أنظارهم إلى مشاهد الكون ونواميسه منبث في كثير من السور القرآنية وإن معظم ما جاء في هذه الآيات قد جاء في سور أخرى فإن هذه السلسلة أطول السلاسل القرآنية من حيث الشمول والروعة.
وننبه مرة أخرى إلى ما نبهنا إليه قبل من أن أسلوب هذه الآيات وما سبق من(5/120)
أمثالها لا يقتضي أن يكون الله قد خلق هذه الأكوان لأجل البشر وكل ما يعنيه أن ناموس الله في خلقه جعل البشر أكثر انتفاعا منها وعبر عن ذلك بالأسلوب الذي جاءت به والله تعالى أعلم.
والآيات وإن كانت موجهة إلى سامعي القرآن لأول مرة فإن الخطاب فيها عام موجه لجميع الناس في كل ظرف أيضا من حيث إن ما احتوته متصل بما يقع تحت مشاهدة الناس ومتناولهم وانتفاعهم في كل ظرف، ومن حيث إنها بسبيل التذكير بنعم الله على الناس والتنويه بالإنسان الذي اختصه الله دون غيره من الحيوان بقوى قابلة للانتفاع بنواميس كون الله في مختلف الوجوه والتكيف معها والحثّ على التفكير في آلاء الله ونواميسه للتوصل من ذلك أولا إلى القناعة بأن وراء هذه المشاهد والنواميس العظيمة البديعة المتقنة الدقيقة قوة عاقلة مدبرة حكيمة وبوجوب وجودها والخضوع لها وحدها والإيمان برسلها وكتبها والتزام حدود شرائعها التي أوحت بها لرسلها وثانيا إلى استعمال ما أودعه الله في الناس من قوى للانتفاع منها.
وفي هذا الفصل صور من ارتفاقات العرب الذين يخاطبون به قبل غيرهم ومعايشهم ونعم الله عليهم بها في الأنعام والدواب والأسفار البحرية والاهتداء بالنجوم والطرق والأنهار وصيد السمك واستخراج اللؤلؤ والمرجان واستعمالهما في التحلي والتزين مما تكرر ذكره في آيات سابقة لأنها متصلة بحياة الناس ومعايشهم.
وفي جملة وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ تكرار لمعنى في آيات عديدة مرت في سور سابقة بأسلوب جديد بقصد بيان أن هناك طريقة واحدة مستقيمة وأخرى معوجة وأن على الله أن يبين للناس معالم الطريق المستقيمة ليسيروا فيها دون المعوجة، ولو شاء لهداهم جميعا إلى الأولى ولكن حكمته شاءت أن يدعهم لاختيارهم واجتهادهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا ويجزي كلا منهم بما يستحق.(5/121)
وفي جملة وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ إيذان رباني بعدم انحصار خلق الله فيما يعلم السامعون أو فيما هو موجود في زمنهم أو بيئتهم من مختلف أنواع الخلق وبأن إرادة الله وخلقه متجددان غير متوقفين مباشرة أو بواسطة خلق موجود من خلقه مما ظهر مصداقه وما يزال يظهر في كل مكان ومختلف الصور والأشكال والأسباب.
ولقد أورد المفسر الطبرسي في سياق جملة وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قولا لأبي عبد الله أحد الأئمة الاثني عشر جاء فيه: «نحن العلامات والنجم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء وجعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض» ولم يرد هذا في كتب الأحاديث الصحيحة. ومع الاحترام العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فالهوى الشيعي بارز على هذا القول، وليس له مناسبة في هذا المقام كما هو ظاهر.
تعليق على اختصاص آيات الأنعام بالأكل والدواب للركوب
وبعض الفقهاء يستنبطون من اختصاص الأكل بالأنعام والركوب بالخيل والبغال والحمير تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وبعضهم لا يرى في ذلك دليلا، وهذا هو الأوجه لأن المتبادر أن الآيات بسبيل ذكر ما كان معروفا ممارسا وحسب. أما التحريم فلا يصح أن يكون إلّا بنصّ صريح في القرآن أو نصّ صريح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكل ما سكت عن بيانه القرآن وورد بشأنه سنّة صحيحة فتكون شريعة. وما لم يرد فيه سنّة فيكون على الإباحة إذا لم يكن من الخبائث التي لا شك فيها. وقد روى المفسرون أحاديث بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير.
من ذلك حديث رواه البغوي بطرقه عن جابر قال: «نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل» وروى عن جابر: «أنهم كانوا يأكلون(5/122)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه نهى عن لحوم البغال والحمير» . ولقد روى المفسر عن خالد بن الوليد: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير» ولكنه عقب على هذا الحديث قائلا إن إسناده ضعيف. وقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث وأحاديث أخرى من بابها، وشيء من ما ورد في هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة من ذلك حديث رواه الخمسة عن أنس قال: «لمّا فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبرا أصبنا من القرية حمرا فطبخنا منها فنادى النبيّ صلى الله عليه وسلم ألا إنّ الله ورسوله ينهيانكم عنها فإنّها رجس من عمل الشيطان فأكفئت القدور وإنّها لتفور بما فيها» «1» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» «2» . وحديث رواه أبو داود ومسلم عن جابر قال: «نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» «3» .
وحديث أورده المفسر القاسمي وذكر أنه ورد في الصحيحين عن أسماء قالت:
«نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه» فيوقف عند ذلك.
[سورة النحل (16) : الآيات 19 الى 23]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) .
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 86.
(2) المصدر نفسه ص 87. وفسّر الشارح جملة (فله أن يعقبهم بمثل قراه) في الحديث بأن له أن يأخذ كفايته ولو بالقوة. ويتبادر لنا أنها بمعنى أن يطالبهم بقراه مقابل تعويض أو يطالبهم بقرى كان أقراهم به وصار له حق بمقاصاتهم بمثله والله أعلم.
(3) المصدر نفسه. [.....](5/123)
(1) لا جرم: هنا بمعنى حقا وهو بمنزلة اليمين وروى بعض المفسرين عن الخليل أنها كلمة تحقيق لا تكون إلا جوابا لقول.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا أيضا، وفيها تقرير لوحدة الله وشمول علمه وإحاطته بما يسرّه الناس ويعلنونه على السواء وتنديد بالمشركين الذين يشركون مع الله من هم من مخلوقاته ولا يستطيعون خلق شيء وليس عندهم علم بشيء وهم أموات لا حسّ فيهم ولا حياة. وفيها تقرير بكون السبب الذي يجعل المشركين يقفون موقف الإنكار والاستكبار هو عدم يقينهم وإيمانهم بالبعث والجزاء الأخرويين. والله يعلم هذا فيهم لأنه يعلم ما يسرّون وما يعلنون وأنهم استحقوا غضب الله لأنه لا يحب المستكبرين.
والمتبادر أن الوصف الذي وصفته الآية [21] لمن يدعوهم المشركون من دون الله مقصود به الأوثان. ولقد كان الشركاء الذين يتخذهم العرب من دون الله هم الملائكة على الأعمّ الأغلب على ما دلّت عليه آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. غير أنهم كانوا إلى هذا يتخذون أوثانا متنوعة أيضا يقيمون عندها طقوسهم ويقربون قرابينهم على ما مرت إليه إشارات عديدة في سور سابقة. فالوصف قد عنى هنا هذه الأوثان التي كانت على الأرجح رموزا للملائكة على ما شرحناه في سياق سورة النجم.
ولقد علقنا على موضوع عدم إيمان الكفار بالآخرة وعدم خوفهم منها في سياق سورة المدثر فلا نرى ضرورة للإعادة بمناسبة ما جاء في الآية [22] من ذلك إلّا التنبيه إلى ما تضمنته العبارة القرآنية هنا من تعليل لتناقض الكفار المشركين الذين كانوا يؤمنون بوجود الله وكونه الخالق الرازق النافع الضار وحده حيث كان عدم إيمانهم بالآخرة هو الذي يحملهم على الجحود برسالة النبي والقرآن واستكبارهم عنهما.(5/124)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
هذا، ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا رواه بطرقه عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان. فقال رجل يا رسول الله إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إنّ الله جميل يحبّ الجمال، الكبر بطر الحقّ وغمط الناس» وهذا الحديث مما رواه مسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود أيضا «1» .
والاستكبار المذكور في الآية على ما تلهمه روحها وسياقها هو الاستكبار عن الدعوة النبوية، غير أن التفسير الذي جاء في الحديث يجعله مما يتناول هذا أيضا. ويلمح في الحديث حكم نبوية عديدة من وعد وبشرى للمؤمن ووعيد رهيب للمتكبرين ومن توضيح لمعنى الكبر المحرم ومن رفع الحرج عن رغبة المرء في أن يبدو ذا هيئة حسنة في حياته ومظهره إذا لم يكن في ذلك بطر للحق وغمط للناس.
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
. (1) أوزارهم: أثقالهم وهي كناية عن الذنوب والسيئات التي اجترحوها أو وزر كفرهم.
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 30.(5/125)
(2) ألا ساء ما يزرون: ألا ساء ما يحملون.
(3) فأتى الله بنيانهم من القواعد: زلزل أساس بنيانهم بمعنى أنه دمّر عليهم مساكنهم وجعل عاليها سافلها.
(4) تشاقّون فيهم: تجادلون بهم وتجعلونهم وسيلة للشقاق والعناد.
(5) فألقوا السلم ما كنّا نعمل من سوء: أظهروا الخضوع والاستسلام وتنصلوا مما نسب إليهم من الأعمال السيئة.
في الآيات:
1- إشارة إلى ما كان يقوله الكفار حينما كانوا يسألون عن الآيات القرآنية التي ينزلها الله على رسوله حيث كانوا يقولون إنها أساطير الأمم السابقة وقصصهم.
2- وإنذار رباني بأنهم بمثل هذه الأقوال التي تصدر منهم بغير علم ولا برهان إنما هم في الحقيقة يحملون أنفسهم أفدح الأوزار التي سوف يحاسبون عليها يوم القيامة. ولسوف يحملون بالإضافة إلى أوزارهم الكاملة بسبب كفرهم مسؤولية وأوزار الذين يضلّونهم أيضا وتكون من أسباب تشديد العذاب عليهم.
ولبئس ما يحملون من أوزار. ولبئس العاقبة عاقبتهم.
3- وتذكير بأمثالهم من قبل: فقد وقفوا موقفهم من الكيد والمكر والكفر والتعجيز فدمر الله عليهم مساكنهم فوق رؤوسهم وسلّط عليهم العذاب في الدنيا دون أن يشعروا بمقدماته وينطوي في التذكير وعد رباني بمثل ذلك. وبالإضافة إلى ذلك فلسوف يخزيهم الله يوم القيامة ويسألهم سؤال التبكيت والإفحام عن الشركاء الذين كانوا يجادلون ويشاقون فيهم فلا يجدون ما يجيبون به لأن الحق يكون قد دمغهم. وحينئذ يقول المؤمنون الذين عرفوا الحق وأوتوا العلم إن الخزي والسوء واقعان اليوم على الكافرين.
4- ووصف لما يكون من حالة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وجنوا عليها وورطوها بالشرك: فلسوف تتوفاهم الملائكة بما يستحقونه من القسوة والتجهم.(5/126)
ولسوف يعلنون استسلامهم ويتنصلون من آثامهم ولكن ذلك لن يجديهم شيئا فإن الملائكة سوف يدمغونهم بالحق ويقولون لهم إن الله عليم بما كانوا يفعلون. وأنهم قد استحقوا النار ثم يأمرونهم بدخول أبواب جهنم ليكونوا خالدين فيها، وهي المثوى الذي يستحقه المستكبرون ولبئس هي من مثوى.
والآيات معطوفة على ما سبقها وهي استمرار لحملة التأنيب والإنذار.
وأسلوبها ومضمونها قويان مرعبان، والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب والندم في قلوب الكفار المشركين وحملهم على الارعواء.
وعبارة وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ تلهم أن الجملة موجهة بصورة خاصة لزعماء الكفار وشارحة لمواقفهم وأقوالهم ومقررة أنهم السبب في بقاء دائرة الدعوة المحمدية ضيقة النطاق في العهد المكي مما تكرر تقريره في مواضع كثيرة في القرآن ومرت منه أمثلة عديدة.
وفي الآيات تأييد لتعليقنا على الآيات السابقة في صدد كون الدعوة المحمدية قد توسلت بالعذاب والوعيد الدنيوي والأخروي معا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآية [25] حديثا عن الربيع قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم أيّما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإنّ عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وأيّما داع دعا إلى هدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» . وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والترمذي بصيغة قريبة جدا جاء فيها: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» «1» وفي الحديث تلقين متساوق مع التلقين الذي انطوى في الآية كما هو المتبادر.
__________
(1) انظر التاج ج 1 ص 65- 66.(5/127)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
. عبارة الآيات واضحة، وقد احتوت بيانا عن موقف المؤمنين المتقين مما أنزل الله ومن المصير الحسن في الدنيا والآخرة لمن يؤمن ويحسن. مقابل البيان عن موقف الكفار جريا على الأسلوب القرآني.
وقد انطوت على ثناء على المؤمنين وتنويه بهم كما انطوت على تشويق بالمصير السعيد الذي يكون لهم ولأمثالهم في الدنيا والآخرة معا.
وتعبيرات لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ولِلَّذِينَ أَحْسَنُوا جديرة بالتنويه في مقامها.
فهي وإن لم تكن مصروفة إلى المؤمنين فإنها تعني وجوب تلازم الإيمان مع تقوى الله والإحسان. وأن الدرجة الرفيعة والسعادة الموعودة في الدنيا والآخرة رهن بهذا الالتزام، والتقوى هي اتقاء الله في اجتناب الآثام والمنكرات والشهوات والجحود والإحسان هو القيام بالواجب نحو الله وعباده وتنفذ أوامره على أوفى وجه وأتمه وأفضله. وكل هذا جدير بتحقيق تلك الدرجة والسعادة الموعودة في الدارين من دون ريب، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى.
ولقد روى الطبري في سياق الآية [26] عن السدي أنها تعني بختنصر أو نمرود وما كان من مكرهم وما كان تدمير الله لهم وأنه كان من مكر نمرود أن أخذ أربعة أفراخ من فراخ النسور فرباهن باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعلجن فربطهن في تابوت وقعد فيه ثم رفع لهن لحما فطرن حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض فرأى الجبال تدب كدبيب النمل ثم رفع لهن اللحم ثم نظر فرأى الأرض ومحيطاتها بحركاتها فلكة في ماء ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته وكان يقصد أن يطلع على الله الذي حدثه عنه إبراهيم ففزع فألقى(5/128)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
اللحم فاتبعته النسور منقضات فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهن فزعت الجبال وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن فكان هذا المكر.
وروي عن ابن مسعود أن المكر هو صرح شيده نحو السماء ثم ارتقى فوقه لينظر إلى إله إبراهيم فأخذ الله بنيانه من القواعد فخرّ عليه السقف فسقط فتبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، وسميت بابل باسمها لذلك.
وواضح ما في هذا من خيال يقارب في مداه سفينة الفضاء اليوم، ولعل هذه القصة مما كان يرويه اليهود للعرب فيتداولونه عنهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته ولسنا نرى أي تناسب بين هذه الرواية والعبارة القرآنية في مقامها التي يتبادر أنها بسبيل وصف ما كان من مناوأة الكفار السابقين لأنبيائهم وما كان من تدمير الله لهم ليكون في ذلك إنذار لكفار العرب وهو ما تضمنته آيات عديدة مرّت في سور سابقة. وكل ما في الأمر أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون التعبير عن ذلك بالصيغة التي جاءت عليها الآية.
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
. (1) هل ينظرون: هل ينتظرون والضمير عائد إلى الكفار كما هو المتبادر.
في الآيتين:
1- تساؤل استنكاري عما إذا كان الكفار لا يستجيبون للدعوة ولا يؤمنون انتظارا لنزول الملائكة عليهم أو حلول قضاء الله وأمره فيهم.
2- تذكير بأن أمثالهم من قبلهم قد فعلوا ذلك فنزل عليهم عذاب الله جزاء(5/129)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
أعمالهم السيئة وأصابهم سوء عاقبة الاستهزاء الذي كانوا يقابلون به أنبياءهم.
وهم في ذلك إنما كانوا الجناة على أنفسهم الظالمين لها ولم يظلمهم الله وإنما عاقبهم عقابا عادلا استحقوه بأفعالهم.
والآيتان استمرار في السياق كما هو المتبادر، وفيها عود إلى إنذار الكفار موضوع الكلام قبل الآيات السابقة مباشرة التي جاءت كما قلنا للمقابلة بين أقوال الكفار ومواقفهم وأقوال المؤمنين ومواقفهم وما يترتب على ذلك. وقد تضمنتا دعوة لهم إلى الاعتبار بمن قبلهم ممن وقفوا موقفهم كما تضمنتا صورة من هذا الموقف حيث كانوا يقابلون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالاستهزاء ويتحدونه بتعجيل العذاب والإتيان بالملائكة تحدي الساخر الجاحد، وقد تكررت حكاية ذلك عنهم مما مرّت منه أمثلة عديدة في السور السابقة.
[سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 37]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
. (1) الطاغوت هنا بمعنى الأصنام والشرك.
الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا كما هو المتبادر، وعبارتها واضحة. وما حكته الآية الأولى من أقوال الكفار قد حكته عنهم بعض آيات سورتي الأنعام والزخرف، مما يدل على أنهم كانوا يكررون ذلك في معرض(5/130)
الجدل والاحتجاج، وتبرير ما هم عليه من شرك وتقاليد باطلة ومما علقنا عليه تعليقا يغني عن التكرار. والرد الوارد عليهم في الآيات موجه إلى العقل والقلب معا، وفيه إنذار للكفار وتطمين وتسلية للنبي عليه السلام. فهذا القول ليس جديدا فقد كان يقوله الكفار المشركون من الأمم السابقة. ولقد أرسل الله إلى كل أمة رسولا لبيان الحق والباطل والحلال والحرام، وعبادة الله وحده واجتناب الشرك والأوثان لأن الناس قد لا يدركون هذا من أنفسهم فكان منهم المهتدي ومنهم الضال. وليس على الرسل إلا البلاغ فمن هداه الله اهتدى ومن حقّت عليه الضلالة ضلّ. وفي الآية الأخيرة التفات للنبي على سبيل التطمين فالله يعلم أنه حريص على هداية الجميع ولكن الله لا يمكن أن يهدي من حقت عليه الضلالة وضل فلا محل للاغتمام والحزن، ولن يجد هؤلاء لهم ناصرا ولا منقذا.
وقد آمن معظم الذين ضلوا وكفروا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فيما بعد وحسن إسلامهم مما يؤيد ما ذهبنا إليه من أن الآيات على سبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم، ومما ينطوي فيه ما ذكرناه في مناسبة سابقة مماثلة من قصد تقرير واقع الكفار الضالين حين نزول الآيات، وليس قصد التأبيد في الإضلال الذي قد يعني عدم التوفيق والسداد والذي ليس إلّا بالنسبة للذين كفروا وضلوا وماتوا على ذلك.
وبالنسبة لما احتوته الآيات من كون الذين يهديهم الله يهتدون ومن يضلهم الله يضلون، وإن من الناس من هدى الله ومنهم من حقت عليهم الضلالة.
نقول إنه إذا لحظ التخصيص الذي احتوته آية البقرة [26] : يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وآية إبراهيم [27] :
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وآية الرعد [27] : قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ زال ما يمكن أن توجده عبارة الآيات من وهم ولم يبق محل لتشاد(5/131)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
الكلاميين حولها على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة.
وفي سورة الأعراف آية مماثلة للآية [36] مع تعليق وتوضيح مزيلين للوهم أيضا، وهي: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ
(30) .
هذا، ولقد علقنا على موضوع إرسال الله رسله إلى كل أمة في سياق تفسير سورة فاطر فنكتفي بهذه الإشارة بالنسبة لما جاء في الآية [36] .
[سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
. والآيات متصلة بما سبقها كذلك سياقا وموضوعا، وعبارتها واضحة.
وقد خوطب العقل والقلب معا بما احتوته من تقرير وحكمة ومنطق ردا على أيمان الكفار الشديدة بأن الله لن يبعث من يموت تعبيرا عن عقيدتهم التي كانوا يكررون تقريرها باستحالة ذلك والتي كانت من أهم ما دار الجدل والحجاج حوله بين النبي وبينهم على ما ذكرناه في المناسبات السابقة. فليس من المعقول أن يكون الله قد خلق الكون عبثا وأن يضيع أجر المحسنين وجريمة المجرمين، وليست الدنيا إلّا دار اختبار ولا يمكن إلّا أن يكون لها تتمة للقضاء والجزاء. والذين يعتقدون بالله وقدرته الشاملة يجب أن يدركوا هذه الحكمة ويعترفوا بأن الله قادر على تحقيق وعده فلا يحتاج أي شيء يريده الله إلّا أن تتعلق به إرادته فيكون ولسوف يتحقق ذلك ويرى الكافرون به أنهم كانوا كاذبين.
ولقد روى الطبري في سياق الآية الأولى أنه كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه وأقسم قائلا: «والذي أرجوه بعد الموت إن(5/132)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
الأمر لكذا» فقال المشرك: إنك تزعم أنك تبعث بعد الموت؟ فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت فأنزل الله الآية. وروى الرواية الطبرسي معزوة إلى أبي العالية، وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ويلحظ أن الآية معطوفة على ما قبلها ومنسجمة مع ما بعدها بحيث يسوغ التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية لحدتها والترجيح بأنها بسبيل التعبير عن رأي جمهور المشركين الكفار.
هذا، ومفسر والشيعة وعلماؤهم يتخذون الآية الأولى دليلا على صحة عقيدتهم بالرجعة التي شرحناها في سياق تفسير الآية [82] من سورة النمل، والتعسف في ذلك واضح سواء أمن ناحية فحوى الآية أم من ناحية سياقها شأنهم في التعسف في تأويل غيرها. ولقد روى الطبري عن قتادة عن ابن عباس أنه قال:
«إن رجالا في العراق يتأولون الآية الأولى ويقولون إن فيها دليلا على بعث علي بن أبي طالب للحياة قبل يوم القيامة. وقد كذب هؤلاء لأن الآية للناس عامة وبالنسبة للبعث يوم القيامة ولو علمنا أن عليا مبعوث قبل القيامة ما تزوجنا نساءه ولا قسمناه ميراثه» .
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
. في الآيتين تنويه وبشرى للذين هاجروا بسبب ما وقع عليهم من أذى وظلم، وتمسكا بدين الله الحق، فلسوف ييسّر الله لهم الخير والنجاح والمقام الحسن الأمين في الدنيا ثم يكون أجرهم في الآخرة أعظم وأكبر. لأنهم صبروا على ما وقع عليهم وهجروا وطنهم في سبيل الله ودينه وجعلوا اعتمادهم وتوكلهم على الله تعالى.
تعليق على آية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ وما بعدها
ويبدو لأول وهلة أن الآيتين غير متصلتين بالسياق السابق ولا باللاحق(5/133)
وأنهما فصل مستقل، غير أن عودة السياق بعدهما إلى التنديد بالكفار وإنذارهم تسوغ القول أنهما جاءتا استطراديتين لبيان ما كان من أثر مواقف الكفار وكيدهم والتنويه بالذين ثبتوا على دين الله الحق وتحملوا الشدائد ثم هاجروا تمسكا به، وهما والحالة هذه غير بعيدتين ولا غريبتين عن جوّ السياق.
وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في بعض المسلمين الذين منعهم قومهم عن الهجرة إلى المدينة وسجنوهم وأرادوا فتنتهم فصبروا وثبتوا ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا «1» كما رووا أنهما نزلتا في الذين هاجروا إلى الحبشة حينما اشتد أذى المشركين على الذين آمنوا من قومهم «2» . وهذه الرواية هي الأصح لأن الرواية الأولى تقتضي أن تكون الآيتان مدنيتين مع أنه لا خلاف في مكيتهما. ولقد احتوت الآية العاشرة من سورة الزمر التي نزلت قبل هذه السورة بأمد غير بعيد حضا للمسلمين على تقوى الله ووعدا بالخير والعاقبة الحسنة في الدنيا للذين أحسنوا، وتنبيها إلى أن أرض الله واسعة وأن الله موف للصابرين أجرهم بغير حساب، وإعلانا بأن الله قد أمر نبيه بعبادة الله وحده والإخلاص له مما انطوى فيه إلهاما أو إذنا للمضطهدين من المسلمين بالهجرة وتلقينا بوجوب التمسك بدينهم فجاءت الآيتان تخبران أن فريقا من هؤلاء قد اتبعوا إلهام الله أو إذنه فخرجوا مهاجرين في سبيل دينه وتعدانهم بالخير والفلاح والأجر الكبير في الدنيا والآخرة.
وروايات السيرة النبوية تذكر «3» أنه لما ظهر الإسلام وكثر الذين آمنوا من قريش- وخاصة من شبابهم- ثار كبار ذويهم من المشركين عليهم وأخذوا يؤذونهم ويضطهدونهم ويحاولون ردهم عن الإسلام فأشار عليهم النبي بالهجرة إلى بلاد الحبشة وقال لهم: «إنّ فيها ملكا لا تظلمون عنده» . وقد هاجر في دفعة أحد عشر رجلا وأربع نساء معظمهم من شباب قريش ومن أبناء زعماء المشركين المناوئين للدعوة أو أقاربهم. وقد بلغهم أن المشركين آمنوا فعادوا وظهر لهم عدم صحة ما
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي.
(2) انظر الكتابين المذكورين وتفسير ابن كثير والخازن والطبرسي.
(3) انظر الجزء الأول من كل من كتاب الطبقات لابن سعد وسيرة ابن هشام.(5/134)
بلغهم وعاد قومهم إلى اضطهادهم فهاجروا مرة أخرى، وانضمّ إليهم غيرهم حتى بلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة معظمهم من قريش ومن أبناء المشركين المناوئين للدعوة أو أقاربهم حتى لم يكد بطن من بطون قريش وأسرها الكبيرة إلا وكان منها بعضهم نساء أو رجالا «1» ، وظلوا هناك إلى السنة الهجرية السادسة حيث صار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منعة وقوة في المدينة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أحضرهم إليها. وقد أوّل المؤولون ومنهم الشعبي جملة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بما كان من عودتهم إلى المدينة ونزولهم فيها المنزل الحسن وهذا صواب. وبه تحققت معجزة قرآنية بما كان من صدق وعد الله تعالى لهم والله لا يخلف الميعاد.
وفي الآية مع ذلك تلقين مستمر المدى لكل من ظلم فهاجر من ظلمه حيث تمده بمدد روحاني في اليقين بأن الله عز وجل ناصره ومبوّئه المبوّأ الحسن في الدنيا بالإضافة إلى الأجر الأخروي الأكبر جزاء صبره وتوكله على الله تعالى.
ولقد كان من المؤمنين كثير من الفقراء والمساكين والأرقاء وأهل الكتاب من قاطني مكة، فرواية كون معظم المهاجرين إلى الحبشة من الأسر القرشية ومنهم من أبناء كبار الزعماء وأقاربهم تدل على أن نقمة هؤلاء الزعماء واضطهادهم كانت أشدّ على أبنائهم وأقاربهم وأبناء الأسر القرشية في الدرجة الأولى خشية أن تسري عدواهم إلى غيرهم من أبناء هذه الأسر في الدرجة الأولى وفي هذا ما فيه من صور السيرة النبوية في العهد المكي.
ولقد حاول بعض المستشرقين أن يغمزوا المهاجرين في صبرهم وجلدهم ويعزوا هجرتهم إلى الرغبة في النجاة بأنفسهم ولو كان في ذلك تخلّ عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تجنّ آت من سوء النية والجهل بظروف البيئة النبوية فالذين هاجروا كانوا بين أمرين إما أن يتعرضوا لأذى شديد قد تخونهم فيه أعصابهم
__________
(1) المصدر السابق نفسه.(5/135)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
فيرتدوا وإما أن يصبروا حتى يودي الصبر بحياتهم. وقد وقعت الصورتان في بعض الذين آمنوا على ما روته الروايات وأشير إليه في سورة البروج ثم في بعض آيات سورة النحل هذه على ما سوف يأتي شرحه بعد. وليس في الصبر حتى الموت مصلحة للمسلمين، والخوف من انهيار الأعصاب واقع فليس في التفادي من الصورتين محل للغمز بل فيه دليل على تعلق المهاجرين بدينهم وتضحيتهم في سبيله بوطنهم وأموالهم لأن منهم من كان غنيا وهذا مستوجب للثناء والإعجاب. وكانت الهجرة بإذن النبي وإلهام القرآن وأسلوب الآيتين دليل على أن عملهم كان مستحقا للثناء حقا، وهو حاسم لأنه وحي الله الذي بلغه رسوله.
والغريب أن الغامزين يتجاهلون صورة واقعة متكررة في كل ظرف ومكان منذ الأجيال البشرية الأولى إلى الآن وإلى ما شاء الله بسبيل شفاء غلّ النفس بالتعليق والغمز.
[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 44]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
. (1) أهل الذكر: كناية عن أهل الكتاب.
(2) البيّنات: الآيات الواضحة أو المعجزات.
(3) الزبر: جمع زبور بمعنى الكتاب والكتب.
(4) الذكر: كناية عن القرآن وقد وصف القرآن بالذكر في آيات عديدة مرّ بعضها.
في الآيتين تقرير:
1- بأن الله تعالى لم يرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم رسلا إلى البشر إلّا رجالا(5/136)
مثله فينزل عليهم الكتب والآيات الواضحة والمعجزات، ويبين بواسطتهم للناس سبيل الحق. وأنه قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بشرا كالأنبياء السابقين، ونزل عليه مثلهم الكتاب ليبين للناس سبيل الحق ويدعوهم إليها لعلهم يهتدون ويتفكرون.
2- وخطاب للسامعين على سبيل التوكيد والتحدي بأن يسألوا أهل العلم والكتاب إذا كانوا لا يفهمون ولا يعلمون هذه الحقيقة.
والآيتان بسبيل توكيد كون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن حقّا وجريا على سنّة الله، وهما في نطاق المواضيع التي سبقت آيتي الهجرة من حيث صلتهما بموقف الكفار من الرسالة المحمدية وإنذارهم كما هو المتبادر. وقد جاءتا بأسلوب قوي يتضمن معنى التحدي والإفحام ومعنى كون السامعين يعرفون سنة الله التي جرت من قبل في إرسال الرسل بشرا وإنزال الكتب عليهم. ومن هنا جاء الإفحام والإلزام، وقد ذكرت آيات عديدة أن الكفار كانوا يعرفون ذلك مثل آيات سورة القصص هذه:
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [48] وآية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ، وآية سورة الأنعام هذه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) .
وأسلوب الآية الأولى وما فيها من تحدّ يتضمن معنى التوكيد بأن شهادة أهل الذكر ستأتي مؤيدة، كما أنه قد يدل على ما كان لأهل الكتاب من اعتبار في نفوس العرب. وهذا ما تكرر الإلماع إليه في آيات عديدة في سور مرّ تفسيرها مثل الإسراء والأنعام والفرقان.(5/137)
تعليق على جملة وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ واستطراد إلى السنّة النبوية القولية والفعلية وهدفها وواجب المسلمين نحوها
والمتبادر أن هذه الجملة لا تعني تبليغ الناس ما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن فقط، بل تعني أيضا توضيح وتفسير وشرح ما قد يكون في حاجة إلى ذلك من القرآن. وفي هذا إيذان رباني بأن الله سبحانه يعلم استعداد رسوله لذلك، وأن ذلك كان من أسباب اصطفائه لرسالته، وأن ما يثبت عنه من ذلك واجب الاتباع كما هو شأن القرآن. وقد أيدت هذا المعنى بصراحة هذه الجملة: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا في آية سورة الحشر السابعة. وهناك آيات عديدة أخرى فيها تأييد لذلك فيما هو المتبادر مثل آيات سورة النساء هذه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) ، وآية سورة النساء هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ، وآية سورة النساء هذه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) ، وجملة: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ في آية النساء [59] مهمة في هذا الباب. فواجب المسلمين إذا اختلفوا في أمر أن يرجعوا فيه إلى القرآن الذي يمثل الله عز وجل فإن لم يجدوا فيه نصا حاسما محكما وجب عليهم الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وسنّته القولية والفعلية الثابتة بعد موته. ومخالفة ذلك خروج من ربقة الإسلام، وينطوي في هذا تقرير كون بيان الرسول وسنته حاسمين فيما ليس فيه حكم قرآني حاسم ومحكم.(5/138)
ويحسن أن ننبه في هذه المسألة على نقطة هامة في الأمر متفق عليها من جمهور الفقهاء والمحدثين وهي أن السنّة النبوية الصحيحة القولية والفعلية لا تتناقض مع أحكام القرآن الحاسمة المحكمة ولا تخرج عن نطاق خطوطه ومبادئه وتلقيناته وتوجيهاته العامة. وأنها بسبيل توضيح وتفسير وشرح وتخصيص وإتمام ما يحتاج إلى توضيح وتفسير وشرح وتخصيص وإتمام من آيات القرآن وأحكامه أو تشريع لما سكت عنه القرآن كليا أو جزئيا، وهذا هو المقصود كما هو المتبادر من جملة لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 4] والله أعلم.
ولقد روى أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» «1» مما فيه توضيح وتدعيم لما نحن في صدده.
ولقد روى الإمام أحمد عن أبي حميد وأبي أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الحديث عنّي تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد فأنا أبعدكم عنه» «2» مما قد يكون فيه ضابط آخر لصحة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) التاج ج 3 ص 86 و 87. هناك أحاديث كثيرة جدا فيها أحكام وتشريعات نبوية من باب هذا الحديث وبسبيل ما ذكر قبله.
(2) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق تفسير الآية [88] من سورة هود وقال المفسر إن إسناده صحيح ورد في مجمع الزوائد ج 1 ص 149 و 150 برواية الإمام أحمد والبزار ووصف بأن رجاله رجال الصحيح.(5/139)
ويحسن كذلك أن ننبّه على مسألة هامة أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كتابة شيء غير القرآن عنه «1» حتى لا يختلط بالقرآن وهو وحي الله. ولذلك لم يدون في حياته من سننه القولية والفعلية إلّا القليل حيث روي أن عبد الله بن عمرو بن العاص من شباب الصحابة دوّن بعض الأحاديث في سجل أو أوراق عرفت بالصادقة أو المصدقة ولما تفرق أصحاب رسول الله في الأمصار بعد الفتوحات وانضوى إلى الإسلام أجيال جديدة من العرب وغير العرب صار الأمر في حاجة إلى معرفة السنن النبوية فبدىء بتدوينها في نطاق ضيّق أولا في القرن الهجري الأول ثم اتسع النطاق في القرنين الثاني والثالث حتى صارت الأحاديث تعد بمئات الألوف بعد أن كانت تعدّ بالمئات ثم بالألوف القليلة «2» . ولقد نشب بين المسلمين في القرون الثلاثة الأولى نزاع وخلاف فكان ذلك مما أدى إلى هذه الكثرة العجيبة، وقد اختلط الغثّ فيها بالسمين بسبب بقاء كثير منها في الصدور تتداولها الألسنة، وعرف على التحقيق في الوقت نفسه أن بعض الزنادقة وذوي الأهواء تجرأوا على رسول الله وأصحابه فوضعوا عليهم أحاديث كثيرة أيضا. غير أن الله قيض لدينه وسنّة نبيه رجال صدق وإخلاص في القرون الثلاثة فتجردوا لتحرير السنّة والأحاديث وتصنيفها واستطاعوا أن يستخلصوا عددا كبيرا منها يتسم بالصحة والصدق رواية ومتنا ويشع فيها نور القرآن والنبوة ويتسق مع خطوط القرآن ومبادئه وأحكامه ولا يتناقض معه. منها ما احتوته كتب البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومالك وهو الطبقة الأولى. ومنها ما يأتي بعد هذه الطبقة من كتب أئمة الحديث الآخرين الذين يأتي في مقدمتهم الشافعي وابن حنبل وأبو عبيد وأبو يوسف والبيهقي وابن ماجه والدارقطني والتي فيها أيضا أحاديث كثيرة يصح أن تكون صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الأحاديث وتلك من روائع التعليم والبيان والتلقين والهدى والحكمة والسداد في مختلف الشؤون ما يتساوق مع
__________
(1) روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب شيئا فليمحه» كتاب السنّة للسباعي صفحة 72.
(2) المصدر نفسه.(5/140)
مبادئ القرآن وتلقيناته وخطوطه وتقريراته العامة، مما أوردنا كثيرا منه، وسوف نورد كثيرا منه، في مناسباته، يحدوهم إلى ذلك إيمانهم بالله ورسوله وقصد الخدمة الخالصة لدين الله وشرائعه. ويتهيبون في كل ما بذلوه من جهد ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال: «إنه ليمنعني أن أحدّثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعمّد عليّ كذبا فليتبوأ مقعده من النار» «1» . وما ورد في حديث ثان رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّا مقعده من النار» «2» . وحديث ثالث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار» «3» . وحديث رابع رواه الإمام مالك عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما كتاب الله وسنّة رسول الله» «4» .
وبفضل هذه الجهود المبرورة لم يبق والحمد لله محل للقول بأن السنة النبوية القوليّة والفعليّة قد اضطربت ولم يعد إمكان للأخذ بها، وكل من يقول هذا بعد أن
__________
(1) التاج ج 1 ص 63.
(2) المصدر نفسه ص 58 وفي مجمع الزوائد ج 1 ص 142- 144 أحاديث عديدة من باب هذين الحديثين رواها أئمة آخرون بطرق مختلفة وعن أشخاص آخرين.
(3) المصدر نفسه ص 37 والمتبادر أن المحدثات المذمومة هي الأمور الجديدة التي تتناقض مع أحكام ومبادئ وتلقينات كتاب الله وسنة رسوله ومصلحة الإسلام والمسلمين، وليست الأمور الجديدة مطلقا. وهناك حديثان نبويان يدعمان ذلك منهما حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» ص 65- 67.
(4) المصدر نفسه ص 40. [.....](5/141)
ثبتت صحة عدد كبير من الأحاديث والسنن القولية والفعلية مارق أو عدو مغرض يهدف إلى تعطيل مصدر رئيسي من مصادر الشريعة الإسلامية عرف منه كثير مما سكت عنه أو عن تفصيله القرآن سواء في الأمور التعبدية أم في الأمور المدنية.
وكل ما يمكن أن يقال هو وجوب التروي والأناة في تلقي السنّة النبوية وحسن تفهمها ودراستها من حيث الرواة والمتون والمطابقة إجمالا مع القرآن وعدم التعارض والتناقض. وقد يكون فيما ورد في كتب الأحاديث المعتبرة منها ولا يتناقض مع صريح القرآن أشياء لا يدركها عقل الإنسان العادي من شؤون الدنيا والآخرة وأحداث الأمم والأنبياء السابقين وما يكون في آخر الزمان ومن الشؤون الغيبية مما سبق التنبيه إليه في مناسبات عديدة. ومثل هذا موجود في القرآن المجيد فلا يجوز للمسلم أن يسارع إلى إنكارها ويجب عليه أن يفوض الأمر في ذلك إلى الله وحكمة الرسول كما هو واجبه بالنسبة لما من مثل ذلك في القرآن مع الاعتقاد بأنه لا بد من أن يكون في ذلك من حكمة ولو لم يستطع لمحها، هذا مع التنبيه على أن علماء الحديث رحمهم الله قد عرفوا كذب كثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونبهوا عليها كما نبهوا على ما هو ضعيف أو منقطع من الأحاديث أيضا فصار من الممكن للنبهاء وذوي الدارية التعرف عليها والتوقف فيها وعدم الأخذ بها. أما العامة فعليهم أن يسألوا أهل العلم الموثوقين في داريتهم وورعهم ويقفوا عند كلامهم «1» .
ومن الجدير بالتنبيه في هذا المقام أن ما هناك من اختلاف بين علماء الحديث والفقه في سنن رسول الله القولية والفعلية الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة ليس هو على صحتها وإنما هو على احتمال النسخ فيها وبسبيل ترجيح الأقوى سندا منها والاجتهاد فيما إذا كانت وجوبية أو استحبابية أو عامة أو خاصة إلخ مما لا يتسع المقام لتفصيله.
هذا وهناك مسألة هامة يحسن التنبيه عليها أيضا، وهي أن معظم الأحاديث
__________
(1) اقرأ لأجل هذا البحث كتاب قواعد التحديث للقاسمي والسنّة للسباعي.(5/142)
النبوية مدنية الصدور والرواة، وحتى التي فيها تفسير الآيات المكيّة وأسباب نزولها وتطبيقاتها وأحداث السيرة النبوية في العهد المكي. وعلى سبيل المثال نذكر أبا هريرة وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم الذين روي عنهم آلاف الأحاديث «1» .
فأكثرهم من أهل المدينة أو ممن انضم إلى الإسلام في العهد المدني والقرشيون منهم كانوا أحداثا أو أطفالا حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا يصح أن يكونوا قد رووا عنه شيئا في مكة مثل عائشة وابن عباس وابن عمر. وهناك عشرات من أصحاب رسول الله ممن رووا المئات والعشرات من الأحاديث من هذا النوع «2» .
والحكمة التي نلمحها في ذلك أن العهد المكي كان عهد دعوة وحجاج ولجاج بين النبي والكفار. وكان قسم كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى الحبشة ولم يبق إلى جانب النبي إلّا القليل. ومعظم الأحاديث هي من ناحية أخرى في صدد التشريع والتعليم والتأديب للمسلمين وهذا إنما كان مسرحه في الدرجة الأولى العهد المدني.
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يعرفون ما كانت تذكره الآيات المكية من أحداث والأسباب والمناسبات التي كانت تنزل فيها. فالأسئلة في صددها كانت توجه من أهل العهد المدني للنبي صلى الله عليه وسلم فيصدر منه الجواب فيروونه عنهم والله تعالى أعلم.
__________
(1) عدد الأحاديث المروية عن أبي هريرة 5374 وعبد الله بن عمر 2630 وأنس بن مالك 2286 وعائشة 2210 وابن عباس 1660 وجابر بن عبد الله 1540 وأبي سعيد الخدري 1170 (انظر كتاب قواعد التحديث لجمال القاسمي، ص 47 وما بعدها) .
(2) نذكر على سبيل المثال أسماء أبي بن كعب وزيد بن ثابت وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وعقبة بن عامر رضي الله عنهم وغيرهم وغيرهم وجميعهم من أهل العهد المدني.(5/143)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
. (1) في تقلبهم: في تجوالهم وأسفارهم إلى آفاق الأرض.
(2) على تخوف: التخوف بمعنى التنقص فيقال تخوف مال فلان الإنفاق أي جعل الإنفاق ماله متناقصا شيئا بعد شيء حتى نفد. ومما قاله المفسرون أيضا: إن معنى الجملة أن يلاحق الله مصائبه عليهم في الأنفس والأموال والثمرات فينتقص من أطرافهم حتى يهلكوا.
في الآيات:
1- تساؤل يتضمن معنى التنديد والإنذار عما إذا كان الذين يمكرون السيئات ويقفون من النبي موقف الجحود والمكر والكيد قد أمنوا نقمة الله وغضبه في حين أنه قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يسلّط عليهم بلاء مفاجأة من حيث لا يدرون، أو يسلّط عليهم أسباب الخوف والهلاك والعذاب والخسران في رحلاتهم وينقصهم في أموالهم وأنفسهم.
2- وتقرير ينطوي على أن الله إذا لم يفعل بهم شيئا من ذلك عاجلا فلأنه ترك لهم المجال للتدبر والتفكر وفق ما اقتضته حكمته وصفات الرحمة والرأفة التي يتصف بها.
والآيات متصلة بسابقاتها وعاطفة عليها، ومتسقة مع موضوع السياق بوجه عام كما هو المتبادر. وقد استهدفت إثارة الخوف في قلوب الكفار ومنحهم فرصة الرجوع إلى الله.
وما انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة انطوى بصراحة أكثر في آية سورة الكهف السابقة لهذه السورة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما(5/144)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا
(58) ، وآية سورة فاطر هذه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) ، وجاء في آية في سورة النحل نفسها تأتي بعد قليل.
ولقد آمن معظم الذين كفروا وكانوا موضوع إنذار الله ظهرت حكمة الله ومعجزة القرآن في إمهالهم وفي كون الله عز وجل إنما توخّى من إنذارهم وتقريعهم صلاحهم وهدايتهم.
[سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
. (1) يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل: تتقلب ظلاله أو تدور ظلاله من اليمين إلى الشمال وبالعكس.
(2) داخرون: صاغرون.
(3) من فوقهم: المتبادر أن المقصد من الجملة العلوّ المعنوي لأن الله سبحانه وتعالى منزّه عن الفوقية التي تتضمن تحديدا وجهة.
في الآيات تساؤل ينطوي على التنديد ثم على لفت النظر إلى مشاهد كون الله وخضوع خلقه له، فكل ما خلق الله مما يتقلب ظلاله من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين خاضع منقاد لله لا يخرج عن أمره وتسييره. وكل ما في السموات والأرض من حيّ ومن ملك خاضع منقاد له كذلك، يخافونه ويرهبونه ويسارعون إلى تنفيذ أوامره دون استكبار أو تردد.
والآيات استمرار في السياق نظما وموضوعا، والخطاب فيها موجه إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في السياق. وقد تضمنت التنديد بهم لشذوذهم(5/145)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
عن جميع خلق الله في كونه. ولعل ذكر الملائكة تضمن تقرير كون الملائكة الذين يتخذهم الكفار أولياء وشركاء لا يخرجون عن سائر خلق الله في الخضوع والسجود له وتنفيذ أوامره. وبهذا يكون الإنذار والتنديد أشدّ استحكاما.
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
. (1) واصبا: لازما أو ثابتا أو مترتبا أو خالصا.
(2) فإليه تجأرون: إليه ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدعاء.
الخطاب في الآيات موجه للسامعين كمخاطبين. واحتوت الآيات الثلاث الأولى إيذانا لهم بأن الله قد نهى عن اتخاذ إلهين اثنين أي هو مع غيره، وقرر إنما الإله واحد وهو ذاته وأمر بالخشية منه وحده. فهو الذي له ملك السموات والأرض والذي وجب أن يكون التعبد والخضوع له وحده فكيف يصح أن يتقي أحد غيره. وهو الذي أنعم على الناس بكل ما يتمتعون به من نعم، وهو الذي يوجه الناس أصوات الدعاء والاستغاثة إليه وحده إذا مسّهم الضرّ. وقد حكت الآية الرابعة حال بعض المخاطبين حيث لا يتورعون عن الشرك بالله الذي يوجهون إليه وحده أصوات الاستغاثة إذا مسّهم الضرّ إذا ما استجاب لهم وكشف عنهم الضرّ. وقد احتوت الآية الخامسة إنذارا وتحديا لهؤلاء. فالذي يفعله هؤلاء هو كفر صريح بنعمة الله وأفضاله عليهم فليتمتعوا قليلا بذلك فلسوف يرون عاقبة هذا الكفر والجحود.
والآيات متصلة بسابقتها موضوعا وسياقا، وفيها استطراد تنديدي بعقيدة المشركين وتناقضهم حيث كانوا يعتقدون بأن الله هو المعاذ الأعظم والمؤثر الأكبر ويلجأون إليه ويجأرون بالاستغاثة به حينما تحدق بهم الأخطار ويمسهم الضرّ ثم(5/146)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
لا يتورعون عن العودة إلى شركهم بعد أن يكشف عنهم الضر ويبعد عنهم الخطر.
وهذا المعنى قد تكرر في آيات عديدة مرّ بعضها. وقوة الإفحام والتنديد آتية من هذه الناحية في الدرجة الأولى. وينطوي في الآيات تقرير كون المشركين إذ يشركون مع الله غيره في الاتجاه والدعاء إنما يشركونهم على أنهم وسائل وشفعاء لديه وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرّ بعضها أيضا.
وهناك من قال إن النهي عن اتخاذ إلهين اثنين عنى ما كان معروفا من عبادة الفرس لإلهين هما إلهين النور وإله الظلمات أو إله الخير وإله الشر. لأنه ليس هناك ملة غيرها كانت تعبد إلهين فقط في ظروف نزول الآيات. فالمشركون كان لهم آلهة كثيرون يشركونهم مع الله، والنصارى كانوا يقولون بالأقانيم الثلاثة، واليهود كانوا موحدين وكل ما هناك أنهم أو أن منهم من كان يقول ببنوة العزير على ما جاء في آية سورة التوبة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [30] ، فنسجل ذلك دون القطع بصحته أو نفيه لأنه ليس هناك أثر وثيق متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه في ذلك.
[سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 61]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
. (1) أيمسكه على هون: يسأل نفسه هل يستبقيه حيّا على مضض واستهانة شأن.(5/147)
في الآيات حكاية لبعض عقائد وطقوس المشركين في معرض التنديد والتسخيف والإنذار بأسلوب قوي لاذع:
1- فهم يخصصون قسما مما رزقهم الله لشركائهم الذين لا يستندون في إشراكهم مع الله إلى علم وبينة.
2- وينسبون إلى الله سبحانه اتخاذ البنات في حين أنهم يرغبون عنهن ويشتهون لأنفسهم الأفضل أي البنين، وفي حين أنهم حينما يبشر أحدهم بولادة بنت يسودّ وجهه ويضيق صدره غيظا ويتوارى من الناس خجلا ويحار فيما يفعله بالمولودة هل يدسها في التراب فيتخلص منها أم يحتفظ بها مع الشعور بالهوان والغضاضة.
3- ولسوف يسألهم الله عما كانوا يفترونه عليه ويحاسبهم، ولبئس ما يعتقدون من عقائد ويسيرون عليه من تقاليد.
4- وهم يضربون في ذلك الأمثال السيئة لله عز وجل، وإن الأمثال السيئة للذين لا يؤمنون بالآخرة. أما الله القوي الحكيم فإن له المثل الأعلى في كل أمر.
5- ولولا أن حكمة الله اقتضت أن يؤخر عقاب المجرمين الظالمين إلى أجل معين في علمه ولو أراد أن يؤاخذ الناس ويعاقبهم فورا بما يبدو منهم من انحراف وإجرام لأبادهم حتى لا يبقى على ظهر الأرض دابة تدبّ عليها، ولسوف يرجع الناس إليه حينما يحين الأجل ولن يستطيع أحد أن يتأخر عنه ولا أن يتقدم.
والآيات متصلة اتصالا استطراديا بالسياق والموضوع، والآية الأولى تشير إلى ما كان من تقاليد المشركين من تخصيص بعض أنعامهم وزروعهم لشركائهم مما احتوت تفصيله سورة الأنعام التي مرّ تفسيرها وشرحناه شرحا يغني عن التكرار. وما ذكرته الآيتان الثانية والثالثة من نظرة العرب إلى ولادة البنات قد ورد في سور أخرى مرّ تفسير بعضها مثل سورتي الزخرف والصافات وعلقنا على(5/148)
الموضوع تعليقا يغني عن التكرار كذلك.
ولقد روى الطبري في سياق الشطر الأول من الآية [61] أن أبا هريرة سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضرّ إلّا نفسه فالتفت إليه فقال بلى والله إن الحبارى لتموت في وكرها هزالا بظلم الظالم. وروى عن ابن مسعود قوله: «إن الجعل يكاد أن يهلك في جحره بخطيئة ابن آدم» .
وما ورد في هذا الشطر قد ورد في سور أخرى مرّ تفسيرها منها الآية [45] من سورة فاطر والآية [58] من سورة الكهف. ومعناها والهدف الذي هدفت إليه صريحان على ما شرحناه في الفقرة الخامسة. ولسنا نرى المقام يتحمل الروايات المروية في سياق الجملة وإن كان المعنى الذي أريد بالروايات قد يتسق مع آية سورة الأنفال هذه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [25] ، إلا أن تطبيق هذا المعنى أو استخراجه من الجملة التي نحن في صددها في غير محله في ما يتبادر لنا. وكل ما نرى أن الجملة قصدته من هذا المعنى هو بيان شدة إثم الظالم والظلم أكثر منه قصد إهلاك كل دابة على الأرض من غير بني آدم الذين وحدهم يظلمون وينحرفون عن قصد وعقل.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الشطر الثاني من الآية حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الله لا يؤخّر شيئا إذا جاء أجله. وإنّما زيادة العمر بالذرّية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة في العمر» والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن صحته محتملة وقد ورد في هذه الكتب شيء من بابه حيث روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» «1» . وفي الحديث النبوي توضيح متساوق مع
__________
(1) التاج ج 1 ص 66.(5/149)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
مدى الجملة القرآنية من جهة وبيان لما يمكن أن ينفع الإنسان بعد موته من أعمال صالحة وحثّ عليها من جهة أخرى.
[سورة النحل (16) : الآيات 62 الى 64]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
. (1) مفرطون: قرئت الراء بالفتح والتخفيف وبالكسر والتشديد، والقراءة الأولى بمعنى أنهم مهملون ومتروكون في النار، أو مقدمون إليها بسرعة. والقراءة الثانية بمعنى أنهم مهملون ومقصرون في حقّ الله.
في الآيات:
1- في الفقرة الأولى من الآية الأولى حكاية تنديدية مرة أخرى لعقيدة المشركين باتخاذ الله أولادا من صنف يكرهونه.
2- وفي الفقرة الثانية حكاية تنديدية أخرى لما كانوا يزعمونه من أن لهم الحسنى وهم كاذبون في زعمهم.
3- وفي بقية الآية تقرير بأسلوب الجزم والإنذار بأن لهم النار التي سوف يطرحون فيها ويهملون.
4- واحتوت الآية الثانية استطرادا تقريريا مع القسم وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أرسل الرسل من قبله إلى الأمم السابقة فكان من شأن هذه الأمم أن زيّن الشيطان لهم ما كانوا عليه من باطل. وكان وليّهم وهو اليوم كذلك وليّ المشركين الكفار الذين حقّ عليهم عذاب الله الشديد كما حقّ على من سبقهم من أمثالهم.(5/150)
5- واحتوت الآية الثالثة تطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويها بالذين آمنوا به، فالله لم ينزل عليه الكتاب إلّا ليبين للناس ما هم مختلفون فيه من الحقّ والباطل وليكون هدى ورحمة لمن حسنت نيته وصدقت رغبته في الحق والإيمان.
والآيات كسابقاتها استمرار في الموضوع والسياق السابقين كما هو المتبادر.
وقد ورد بعض ما في هذه الآيات في مواضع وسور سابقة وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة والزيادة.
تعليق على قول المشركين أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى
والحسنى التي حكت الفقرة الثانية من الآية الأولى أن المشركين كانوا يزعمونها لأنفسهم هي على ما يتبادر في مقام التبجح بما هم فيه من حالة حسنة أفضل من حالة النبي وأتباعه وكون ذلك في نظرهم اختصاصا من الله لهم. وطبيعي أن هذا الزعم إنما هو صادر من زعمائهم الذين كان الجدال والحجاج يدوران بينهم وبين النبي في الأعمّ الأغلب. وقد تكررت حكاية زعمهم هذا في سور أخرى مرّ بعضها. ولقد قال المفسرون «1» بالإضافة إلى هذا الوجه الذي قالوه أيضا: إنها بسبيل حكاية زعمهم على سبيل التبجح والتحدي كذلك إنه إذا كان بعث أخروي فلسوف يكون لهم عند الله الحسنى كما جعل لهم ذلك في الدنيا، ولا يخلو هذا أيضا من وجاهة. وقد تكررت حكايته عنهم في آيات أخرى مرّ تفسير سورها. حيث يبدو من خلال ذلك شدّة عناد زعماء المشركين الكفار ومقابلتهم للنذر القرآنية كلما كانوا يسمعونها بالتبجح والتحدي وإصرارهم على مواقفهم باعتبار أن ما هم عليه هو الأفضل الذي شاءه الله لهم وأن هذا سوف يستمر لهم أيضا.
ومع خصوصية المواقف الزمنية فإن في التنديد القرآني تلقينا مستمر المدى
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي مثلا.(5/151)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
في تقبيح اغترار الناس بما يكونون فيه من حالة حسنة وظنهم ذلك اختصاصا ربانيا بهم ولا سيما إذا رافق ذلك نسيانهم لواجبهم نحو الله والناس.
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
. (1) فرث: الثفل الذي في الكرش.
(2) سائغا: لذيذ الطعم.
(3) سكرا: الجمهور على أن الكلمة تعني النبيذ المسكر المتخذ من العنب والبلح والتمر والزبيب.
(4) رزقا حسنا: طعاما جيدا وهو العنب والبلح والزبيب والتمر.
(5) أوحى ربّك إلى النحل: بمعنى ألهمها أو خلقها على ناموس من شأنه أن يسيرها على ما تسير عليه من أعمال وحركات.
(6) مما يعرشون: مما يسقفون ويرفعون ويجعلونه عرائش. وقد وردت بمعنى التعمير والبناء في آية سورة الأعراف [137] .
(7) ذللا: جمع ذلول بمعنى ممهد. والكلمة بمعنى مسيرة أو مذللة.
في الآيات تذكير ولفت نظر إلى بعض مشاهد آيات الله ونعمه:
1- فالله ينزل الماء من السماء إلى الأرض فتعجّ بعد الموت والجفاف بالحياة.(5/152)
2- ويخرج للناس من بطون الأنعام من بين الثفل والدم لبنا لذيذ الطعم شرابا لهم.
3- ويكون لهم مما تحمله شجر النخيل والأعناب من التمر غذاء وشراب نافعان حسنان.
4- وقد خلق الله النحل على ناموس عجيب. فهي تتخذ بإلهامه خلاياها في الجبال والأشجار والعرائش والسقوف ثم تنتشر منها كل إلى سبيل لتتناول غذاءها من كل الثمرات وتعود إليها لتخرج من بطونها شرابا مختلف الألوان فيه الشفاء والنفع للناس.
ففي كل هذا آيات بينات على قدرة الله وعظمته وإتقان نواميس كونه لمن تفتح ذهنه وحسن سمعه وأرهف قلبه فتفكر وتعقل.
والآيات متصلة كما هو المتبادر بالآيات السابقة. ففي الأولى نعي على الكفار لإشراكهم بالله وانصرافهم عن سماع الآيات البينة التي أنزلها على رسوله وفي هذه لفت للأنظار إلى آيات الله البينة في نواميس كونه البديعة وما في ذلك من نفع للناس ونعم من الله عليهم، مما فيه الحجج الدامغة على استحقاقه وحده للعبادة والخضوع يدركها من حسنت نيته وصدقت رغبته في الحقّ والهدى، ولا يكابر فيها إلّا من فقد ذلك. وقد تضمنت الآيات حثّا للناس على استعمال عقولهم والتفكّر في آيات الله وآلائه كما تضمنت تنويها بالذين آمنوا بالله ورسوله نتيجة لذلك، وهذا ما تضمنته الفقرة الأخيرة من الآيات السابقة أيضا.
تعليق على جملة تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً
ولقد كانت هذه الجملة موضوع بحث طويل في تفسير الطبري وغيره وروي في صددها أقوال متنوعة عن ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم.
وخلاصتها أن هناك من قال إن الامتنان الرباني يدل على أن الشراب المستخرج من(5/153)
ثمرات النخيل والأعناب حلال مطلقا. وأن هناك من قال إن كلمة السكر تعني المسكر ويدخل في شمول معنى الخمر الذي هو المسكر، وأن المقصود من الجملة القرآنية هو النبيذ المستخرج من تلك الثمرات الذي كان مسكرا وأن تحريم الخمر الذي يدخل في مشموله النبيذ المسكر إنما كان تشريعا مدنيا. وكان قبل ذلك مباحا يمارسه المسلمون وغيرهم. فلم يكن في ذكره تناقض مع الواقع.
والمتبادر أن القول الثاني هو الأوجه ولا سيما أن القرآن قرر قبل تحريم الخمر أنها كانت ذات منافع اقتصادية في بيئة النبي عليه السلام كما ترى في آية سورة البقرة هذه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [219] ، وهذه الآية نزلت قبل الآية التي نهت عن الصلاة في حالة السكر في آية سورة النساء هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [43] ، ثم قبل الآيات التي تضمنت تحريم الخمر وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ سورة المائدة [90- 91] حيث تدل هذه الآيات على أن الخمر كان مما يمارسه المسلمون شربا وتجارة.
ويكون بناء على ذلك لا وجه لإباحة النبيذ المسكر استنادا على آية النحل التي نحن في صددها.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ما يستخرج من ثمرات النخيل والأعناب من شراب غير مسكر مباح ولو سمّي نبيذا. لأن النبذ لغة هو نقع ثمرات النخيل والأعناب في الماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب هذا النقيع على ما يستفاد من حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس جاء فيه أنه كان ينقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهراق «1» . ومن حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة جاء فيه: «كنّا ننبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 132.(5/154)
سقاء يوكى أعلاه وله عذلاء ننبذه غدوة فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشربه غدوة» «1» .
وهناك أحاديث صحيحة أخرى يمكن أن تكون ضوابط في هذا الباب منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهنّ، نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّ في زيارتها تذكرة، ونهيتكم عن الأشربة إلّا في ظروف الأدم فاشربوا في كلّ وعاء غير ألّا تشربوا مسكرا. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا واستمتعوا بها في أسفاركم» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن الظروف وإنّ ظرفا لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه، وكلّ مسكر حرام» «3» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كلّ شراب أسكر فهو حرام» «4» . وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيرة فقليله حرام» «5» .
تعليق على جملة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
ولقد روى الطبري عن مجاهد أن جملة فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ تعني القرآن غير
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 132.
(2) التاج ج 3 ص 128 والظرف هو الوعاء. وقد روى مسلم والترمذي عن ابن عمر قال:
«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحنتم وهي الجرّة وعن الدبّاء وهي القرعة وعن المزفّت وهو المطليّ بالقار وعن النقير وهي النخلة تنسخ نسخا وتنقر نقرا وأمر أن ينتبذ في الأسقية» التاج ج 3 ص 127. فالمتبادر أن الحديث الأول قد نسخ هذا الحديث الذي أباح النبذ في أوعية الجلد وهي الأسقية دون الأوعية الأخرى.
(3) انظر المصدر نفسه.
(4) انظر المصدر نفسه.
(5) انظر المصدر نفسه.(5/155)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
أن الجمهور على أنها تعني العسل. وقد علق ابن كثير على قول مجاهد قائلا: إن هذا القول صحيح في نفسه لأن في سورة الإسراء آية جاء فيها: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82] غير أن الظاهر من سياق الآية أن المقصود هو العسل وهو ما عليه الجمهور.
ولقد رويت عدة أحاديث نبوية صحيحة عن فائدة العسل دواء حيث روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري: «أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا فقال: يا رسول الله سقيته عسلا فما زاد إلّا استطلاقا، قال: اذهب فاسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: ما زاده إلّا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا فبرىء» «1» ، وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لعق العسل ثلاث غدوات في كلّ شهر لم يصبه عظيم من البلاء» «2» ، وروي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحبّ أن أكتوي» «3» .
ولقد ثبت في الطب الحديث فوائد عظيمة للعسل في أمراض عديدة مستعصية فجاء هذا مصداقا للقرآن والأحاديث النبوية.
[سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 72]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في ابن كثير وانظر التاج ج 3 ص 180- 181.
(2) انظر ابن كثير.
(3) انظر التاج ج 3 ص 180. [.....](5/156)
(1) الحفدة: جمع حافد، والحفد في اللغة المسارعة في الخدمة والمساعدة والرعاية. ومن المؤولين من قال إن الكلمة تعني الخدم والحشم، ومنهم من قال إنها تعني أصهار الرجل أي أزواج بناته. ومنهم من قال إنّهم ممن يساعده من أولاده وأولاد أولاده. ومنهم من قال إنهم أولاد أولاده وهو المشهور، والمتبادر من العبارة القرآنية أنهم المقصودون في الدرجة الأولى.
في هذه الآيات تذكير بأفضال الله وتنديد بجحود الكفار بأسلوب آخر.
ففي الآية الأولى تذكير بأن الله هو الذي يخلق الناس ويتوفاهم ويقدر أعمارهم. ومنهم من يموت باكرا ومنهم من يشيخ ويهرم ويفقد ما كان له من قوة وينسى ما كان لديه من علم مما تنزّه عنه الله تعالى فهو القادر على كل شيء العليم بكل شيء المستحق وحده للعبادة والخضوع.
وفي الآية الثانية تذكير بفضل الله على الناس وتنديد بالمشركين خاصة. فالله قد فضّل بعضهم على بعض في الرزق، وهم لا يقبلون أن يشاركهم في أرزاقهم عبيدهم ويكونوا وإياهم سواء فيها فكيف يجيزون أن يكون له شركاء من عبيده وفي ذلك ما فيه من جحود نعمة الله.
وفي الآية الثالثة تذكير للسامعين بأن الله هو الذي أنعم عليهم فجعل لهم أزواجا من أنفسهم، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة ورزقهم من الطيبات.
فكيف ينسون ذلك ويؤمنون بالباطل ويكفرون بنعمة الله.
والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقوة الحجة فيها واضحة في تذكير السامعين ما هم فيه ومعترفون به، والتنديد بالكفار المشركين بما يقعون فيه من تناقض من حيث إنهم يعتقدون أن الله هو المحيي المميت وهو الرازق القابض الباسط المدبر ثم يتجاهلون ذلك فيشركون معه غيره ويؤمنون بالباطل ويكفرون بنعم الله المتنوعة عليهم.(5/157)
وقد قال بعض المفسرين «1» في جملة: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ [71] إن تأويلها أن الله هو الذي قسم للناس أرزاقهم فلم ينس أحدا، وإذا كان قد فضّل بعضهم على بعض في الرزق فالكل يعيش من رزقه، وحتى ما يعطيه الأسياد لعبيدهم منه ليسوا هم رازقيه في الحقيقة ونفس الأمر. والتقرير وجيه وصحيح في أصله غير أن أكثر المفسرين «2» قد أوّلوها بما يتسق مع ما أوّلناها به وهو الأوجه بقرينة التنديد بجحود نعمة الله في الآية التي وردت فيها الجملة.
تعليق على جملة وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ
والمتبادر أن هذه الجملة ليست في معنى تأبيد هذا الفرق ولا في معنى أن هذا التفضيل اختصاص رباني لفريق دون فريق وإنما هي تقرير لواقع الأمر بدليل أن سعة الرزق وضيقه في تبدل وتنقل دائمين وأن كثيرا ما يكون من هو موسع الرزق في يوم مضيقا عليه أو على ذريته في يوم، ومن هو ضيق الرزق في يوم موسعا عليه وعلى ذريته في يوم مما هو مقتضى سنّة الله في الناس وظروف الحياة والعمل، وتفاوت الناس المتبدل المتحول دائما في المواهب والنشاط والسعي.
أرذل العمر
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب في جملة وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وإذا صحّ هذا القول فإنه يكون من قبيل الاجتهاد المتصل بظروف المعيشة في ذلك الوقت. والوصف الذي جاء بعد هذه الجملة لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً هو المحكم الذي يعني أن أرذل العمر هو الذي يكون الشيخ فيه قد ضعفت قواه العقلية بنوع خاص ضعفا شديدا. ولقد
__________
(1) الطبرسي.
(2) الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري. والطبرسي أورد التأويلين معا.(5/158)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
روى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجّال وفتنة المحيا والممات» «1» وأننا لنعوذ بالله بدورنا مما استعاذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 76]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
. (1) فلا تضربوا لله الأمثال: هنا بمعنى لا تجعلوا بين الله وغيره تماثلا، أو لا تجعلوا له أمثالا وأندادا.
(2) أبكم: الأخرس الذي يولد أخرس.
(3) كلّ: عبء على غيره لا نفع فيه.
وفي هذه الآيات:
1- إشارة تنديدية إلى الكفار المشركين أنهم يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم سببا من أسباب الرزق في السموات والأرض ولا يستطيع نفعهم في شيء من ذلك.
2- ونهي تقريعي موجه للسامعين أو للكفار المشركين عن جعل الأنداد والأمثال لله. فلا يصحّ أن يكون لله ندّ ولا مثل لأن الله يعلم كل شيء وغيره من الناس والأنداد لا يعلمون شيئا. وإن مثل هذا العمل كمثل التسوية بين العبد
__________
(1) التاج ج 4 ص 139.(5/159)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
المملوك الذي لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء وبين الشخص الحرّ الذي يتصرف في ماله تصرّفا حرا فينفق منه سرّا وجهرا حسبما يتراءى له دون مانع. وكمثل التسوية بين العبد الأبكم الذي ليس هو إلّا عبئا على مالكه لا يستطيع أن ينتفع به بأي شيء ولا يأتي له من ناحية بأية فائدة وخير، وبين الطلق اللسان الذكي الجنان، الذي يسير على هدى ويأمر بالعدل ويفعل الخير. فالتسوية بين هذا وذاك وبالتالي فالتسوية بين الله وبين الأنداد والشركاء الذين يشركهم المشركون مع الله إنما تصدر عن جهل وضلال.
3- وتقرير بأن الله وحده هو المستحق للحمد على أفضاله ونعمه.
والصلة بين الآيات وسابقاتها مستمرة موضوعا وسياقا حينما يمعن النظر فيها، وفيها من القوة والتنديد اللاذع ما في الآيات السابقة.
وقد روى بعض المفسرين «1» أن المثلين مضروبان في صدد المفاضلة بين المؤمن الصالح والكافر الآثم وروى بعضهم أشخاصا بأعيانهم من المؤمنين والكفار وقالوا إنهم المعنيون بالمثلين، مثل أبي بكر وأبي جهل أو أمية بن خلف وعثمان وحمزة وعثمان بن مظعون. ومثل عثمان بن عفان ومملوك له حيث كان عثمان ينفق على الإسلام والمولى يكره الإسلام. والمتبادر لنا أن الآيات في صدد المشركين الكفار والتنديد بهم عامة على ما تدل عليه الآية [73] .
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 81]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(5/160)
(1) من جلود الأنعام بيوتا: تعني خياما من الجلد.
(2) يوم ظعنكم: يوم ارتحالكم.
(3) أصوافها وأوبارها وأشعارها: الصوف للضأن والأوبار للإبل والشعر للماعز.
(4) أثاثا: هناك من قال إنه المال عامة وهناك من قال إنه أثاث البيت ومتاعه. والعبارة هنا تعني لوازم اللباس والبيت معا.
(5) أكنانا: جمع كن، وهو ما يستكن فيه ويلجأ إليه من شدة الحر.
(6) سرابيل: الأولى تعني الثياب التي يكتسي ويتسربل بها الإنسان، والظاهر أن الكلمة تطلق على عامة أنواع اللباس. والثانية كناية عن الدروع ومعدات الدفاع.
في الآيات عود على بدء في صدد التنويه بقدرة الله وتعداد آياته وفضائله لعل الناس يعقلون ويسلمون ويشكرون. والخطاب فيها معه للسامعين إطلاقا:
1- فعند الله علم كل ما خفي عن الناس من شؤون السماوات والأرض.
2- والساعة قريبة آتية وليس ذلك عند الله إلّا كلمح البصر أو أقرب فهو القادر على كل شيء.
3- وهو الذي أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعرفون شيئا وجهزهم بالسمع والأبصار والعقول ليتعلموا ويتفكروا ويسمعوا ويبصروا مما يوجب له عليهم الشكر والعرفان.(5/161)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
4- وإن لمن دلائل قدرته وبديع نواميس كونه أن يجعل الطير قادرة على التقلب في جو السماء دون أن تسقط، مما فيه آيات لمن صدقت رغبته في الإيمان.
5- وهو الذي يسّر للسامعين أسباب اتخاذ البيوت لتكون لهم سكنا ويسّر لهم أسباب اتخاذ بيوت من جلود الأنعام خفيفة النقل عليهم في حلّهم وترحالهم ويسّر لهم أسباب صنع ما يحتاجون إليه من أثاث ولباس ومتاع من صوفها ووبرها وشعرها.
6- وجعل لهم مما خلق من شجر وجبال ما يستظلون به لاتقاء حرارة الشمس وجعل لهم من الجبال أكنانا يستكنون بها لذلك أيضا، ويسّر لهم أسباب صنع الثياب لاتقاء الحرّ والبرد وأسباب صنع الدروع وغيرها لوقاية أنفسهم في ظروف الحروب والقتال.
7- وبذلك كله يتم نعمته عليهم لعلهم يعترفون بفضله ويشكرونه ويسلمون وجوههم إليه وحده.
والصلة قائمة واضحة بين الآيات والسياق السابق. والخطاب فيها موجه إلى العقول والقلوب معا بأسلوب نافذ. وإذا كان ما عددته مستمدا مما كان يمارسه العرب من حياة ووسائل فلأنهم أول من خوطبوا به. غير أن ما تعنيه من التذكير بنعم الله وأفضاله على الناس ونواميسه في الكون مما يستقيم توجيهه إلى كل الناس في كل وقت ومكان أيضا. وقصد استرعاء الأذهان والأسماع والتدليل على قدرة الله وإحاطته بكل شيء وإتقان نواميس الكون وأسباب الحياة، ودعوة الناس إلى التفكير بما يتمتعون به من أفضال الله وشكره واستحقاقه وحده للاتجاه إليه وإسلام النفس له قوي ظاهر.
[سورة النحل (16) : الآيات 82 الى 83]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
.(5/162)
الآية الأولى موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطمين والتسلية: فإذا كان من السامعين من يكابر في قدرة الله ويعرض عن دعوته فليس عليه إلا التبليغ والبيان.
والآية الثانية احتوت تقريرا لواقع السامعين وتنديدا بهم فهم يعرفون أن ما يتمتعون به من نعم وأسباب ووسائل هي من فضل الله وتيسيره ومع ذلك فإن أكثرهم ينكرون بأفواههم وأفعالهم ويكفرون بالله ونعمه.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقرأ عليه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً فقال الأعرابي: نعم، قال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً الآية ... قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه كل ذلك، يقول الأعرابي نعم حتى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولّى الأعرابي فأنزل الله يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها.
والرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والمتبادر أن الآيتين جاءتا تعقيبا على الفصل السابق للتنديد بالكفار وإلزامهم بالحجة. والآية الثانية قوية الحجة والإلزام والتنديد معا. لأن الكفار كانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت المنعم المتفضّل الذي هو الملاذ والملجأ وكاشف الضرّ على ما مرّت حكايته عنهم في آيات كثيرة.
ويقف مفسرو الشيعة عند الآية الثانية ليرووا أنها نزلت للتنديد في كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يعرفون نعمة الله في اختصاص علي وأولاده من بعده بإمامة المسلمين فأنكروها وصار أكثرهم كافرين «1» . والهوى والحقد الحزبيان مع المفارقة العجيبة طابع هذه الرواية كما هو شأن ما يرويه مفسرو الشيعة من أمثالها. وتبدو المفارقة شديدة حينما يلاحظ أن الآية مكية ويعظم إثم روايتهم ومفارقتهم إذا ما لوحظ أنهما يهدفان إلى تكفير جمهور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 169.(5/163)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
وفي مقدمتهم معظم كبارهم الذين سجل الله رضاءه عنهم في أواخر ما نزل من القرآن في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم أي في آية سورة التوبة هذه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) .
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
. (1) شهيدا: جمهور المفسرين على أنها هنا تعني الأنبياء وقد حكت بعض الآيات حضورهم يوم القيامة كشهود على حساب أممهم ومرّت أمثلة منها.
(2) لا يستعتبون: لا يطلب منهم إبداء الأعذار أو لا يقبل منهم طلب العتبى والاستقالة من الذنب.
(3) ينظرون: بمعنى يمهلون.
(4) فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون: الضمير في (ألقوا) راجع إلى الشركاء. وهم الملائكة على الأرجح وقد حكت بعض الآيات سؤال الله للملائكة يوم القيامة عما إذا كان المشركون يعبدونهم وجواب الملائكة بنفي ذلك وتكذيبه.
(5) وألقوا إلى الله يومئذ السلم: الضمير هنا راجع إلى الكفار. والجملة(5/164)
بمعنى تقرير إعلانهم الاستسلام والاعتراف بذنوبهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها.
(6) وصدوا عن سبيل الله: منعوا الناس عن سبيل الله.
في الآيات حكاية لما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة:
ففي ذلك اليوم تقف كل أمة موقف القضاء والمحاسبة ويؤتى بنبيها شهيدا على ذلك، ولن يؤذن لها بالجدل ولن يقبل منها أعذار. ولسوف يصيرون إلى عذاب شديد ليس إلى تخفيفه عنهم أو تأجيله سبيل. وحينما يرون شركاءهم يهتفون قائلين ربنا هؤلاء هم الشركاء الذين ضللنا بسببهم فيكذبهم الشركاء ويجحدونهم فيقعون حينئذ في الخيبة ويفقدون كل أمل أملوه ولا يجدون مناصا من الاستسلام والاعتراف بذنوبهم. ولسوف يكون عذاب الذين لا يكتفون بالكفر بل يحملون غيرهم عليه مضاعفا وزائدا على عذاب عامة الناس بسبب ما كان منهم من فساد وصدّ عن سبيل الله، وحينما يأتي بشهداء كل أمة يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم شهيدا على أمته أيضا.
وقد انتهت الآيات بالفقرة الأخيرة لبيان مهمة النبي: فالله قد أنزل عليه الكتاب ليكون فيه البيان الشافي لكل أمر والتوضيح الكافي لكل حدّ حتى لا يبقى حجة لأحد ولا معذرة وليكون فيه الهدى والرحمة والبشرى للمسلمين.
والآيات معقبة على سابقاتها والاتصال بالسياق قائم. وقد استهدفت فيما استهدفته إنذار الكفار وتخويفهم وحملهم على الارعواء. وكثير مما جاء فيها قد ورد في آيات أخرى في سور سبق تفسيرها. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الموصوف فيها فإن صورة القضاء والمحاسبة والشهود هي من مألوفات الدنيا. وقد يكون من حكمة ذلك قصد التقريب والتمثيل على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة.
ولقد روى الطبري عن مجاهد في سياق جملة زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ(5/165)
أن الله تعالى يسلّط عليهم حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال الدهم، ولم يرد هذا في أحاديث صحيحة. والأولى الوقوف عند مدى العبارة القرآنية وهو أن الصادين عن سبيل الله سيكون عذابهم زائدا على غيرهم.
تعليق على جملة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ
وقد يرد أن ما نزل من القرآن بعد هذه السورة شيء كثير وفيه كثير من التشريعات والتلقينات والمبادئ والأحداث فكيف يصح أن تذكر الفقرة الأخيرة أن في الكتاب الذي قد يعني ما نزل منه إلى هذه السورة تبيانا لكل شيء. وليس في هذا الوارد شيء ففي ما أنزل الله قبل هذه الآية من الأسس والمبادئ والتلقينات والمواعظ والبراهين على وجوب وجوده ووحدانيته واستحقاقه وحده للخضوع ما يصح أن يقال إنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين. والكتاب كما يطلق على ما نزل من القرآن إلى هذه الآية يطلق على مجموعه. والله عليم بما سوف ينزل بعدها وليس في علم الله سابق ولا حق حتى يصحّ ذلك الوارد.
هذا، ونقول في نفس الجملة إن الذي يقرأ القرآن بتدبر وإمعان وتكون عنده رغبة صادقة في الحق ولا يكون مبيتا للمكابرة والعناد ومتمحلا بتمحلات سطحية وشكلية وثانوية إزاء بعض التعبيرات والصور القرآنية المتشابهة مما قد لا يدرك حكمتها العقول العادية يظهر على صدق التقرير الذي احتوته حيث يجد فيه حقا كل هدى ورحمة وبشرى وتبيان. ويرى في ذلك أعظم نعمة أنعمها الله على بني آدم ويرى من تمام هذه النعمة أن حفظه الله كما بلغه رسوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] ليظل دائما المورد الصافي الذي يجد فيه كل الناس في كل زمان الشفاء والهدى والرحمة والبشرى والبيان الواضح وكل ما فيه صلاح ونجاة وسعادة البشر في الدنيا والآخرة من أسس ومبادئ وتشريعات وتلقينات وأحكام وكل ما فيه حل لكل مشاكل الإنسان الروحية والاجتماعية والاقتصادية في(5/166)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
كل مكان وزمان وظرف. ولقد انطوى في الجملة في الوقت نفسه دعوة لكل الناس في كل زمن ومكان للنظر فيه ليجدوا ذلك. ولقد أوّل جمهور المفسرين «1» جملة تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ
بمعنى بيان ما الناس في حاجة إليه من طرق الهدى والضلال والخير والشر والحلال والحرام والحق والباطل والحدود والأحكام. وفي هذا من الوجاهة ما يتسق مع أهداف القرآن وما لا يتعارض مع ما ذكرناه آنفا. وعلى كل حال فمن الواجب أن تبقى الجملة في هذا النطاق مع عدم فصلها عما سبقها ولحق بها وعدم الخروج بها إلى قصد تبيان نظريات الكون ونواميسه وموجوداته وأحداثه مما يحاوله بعض المسلمين استنباطا من إشارات القرآن الوعظية والتمثيلية والتذكيرية. لأن في هذا كثيرا من التمحل كما فيه إخراج للقرآن عن قدسيته وأهدافه السامية.
[سورة النحل (16) : آية 90]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
. تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...
تضمنت الآية تقريرا بأن الله يأمر بالعدل والإنصاف والمساواة ويأمر بما هو فوق ذلك أيضا وهو الإحسان وإيتاء ذي القربى. وينهى عن كل ما فيه فحش ومنكر من قول وعمل وعن كل ما فيه بغي على الناس وعدوان وظلم وجور. وانتهت بتوجيه الخطاب إلى السامعين القريبين بأن الله يعظهم بذلك لعلهم يتذكرون ويعلمون ما يجب عليهم ويعملون به.
ولم يرو المفسرون مناسبة للآية. ويتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآية السابقة لها لتحتوي فصلا من فصول الكتاب التي ذكرت هذه الآية أن فيه تبيانا
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي والقاسمي إلخ.(5/167)
لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
والآية من جوامع الكلم القرآنية الرائعة فيما يجب أن يفعله المؤمن وينتهي عنه تجاه مجتمعه أفرادا كانوا أو هيئات وتجاه أقاربه.
فالمتبادر أن العدل في الآية في مقامه وبخاصة والآية مكية لم يقصد به العدل في القضاء أو لم يقصد به ذلك وحسب بل قصد به العدل المطلق الذي يتناول معاني الإنصاف وعدم الإجحاف وعدم تجاوز الحق قولا وفعلا في كل موقف ومناسبة. ومن هذا الباب جملة وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
[الأنعام:
152] من سورة الأنعام على ما نبهنا عليه في مناسبتها. وقد تكرر هذا المعنى في آية رائعة في سورة المائدة وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) حيث يكون هذا من المبادئ المحكمة التي يجب على المسلم أن يلتزم بها في كل حال. وهناك آيات في صدد العدل في القضاء وقد تركنا التعليق عليها إلى مناسباتها.
وتعبير الإحسان في الآية جدير بالتنويه بنوع خاص حيث ينطوي فيه إيجاب معاملة المسلم للناس معاملة قائمة على التسامح والتحاسن وعدم الوقوف عند حدّ الواجب من الحق والعدل على اعتبار أن هذا الواجب واجب لا فضل له في أدائه وإنما الفضل والمكرمة فيما يفعله فوق ذلك. وقد روى الطبري أن ابن مسعود كان يقول عنها إنها أجمع آية في القرآن لخير أو لشر. وعن قتادة أنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلّا أمر به فيها وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلّا نهى عنه وتقدّم فيه وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. وقد أورد ابن كثير في سياقها بعد إيراد ما رواه الطبري حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله يحبّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها» وأورد قصة تذكر أن أكثم بن صيفي حكيم العرب المشهور في الجاهلية أرسل رسولين ليأتياه بنبإ النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث فسألاه عن أمره فأخبرهما باسمه ونسبه ثم تلا عليهما هذه الآية(5/168)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
فردداها حتى حفظاها ورجعا فأخبرا أكثم وتلوا عليه الآية. فقال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا.
ووَ الْإِحْسانِ بخاصة يمكن أن يدخل في أي مجال ويبدو في أي عمل.
فعبادة الله تعالى على أوفى ما يكون من هدوء وطمأنينة واستغراق. والتصدق بأكثر ما يمكن ويجب. والتعفف عن استيفاء المباحات من اللذائذ والشهوات، والتجمل بالصبر عند الشدائد. والعناية بتطييب نفس الفقير والمحتاج عند مساعدتهما.
والتعالي عن مقابلة السباب والمهاترات والخصومة الشديدة. والتسامح في معاملة الناس والصبر عليهم والإغضاء عن تقصيرهم وعدم الإلحاح في مقاضاة ما يكون عليهم من حقوق وإتقان العامل عمله تلقائيا واهتمام المرء الشديد للقيام بواجبه وحفظ مواعيده ووعوده وعهوده وبعده عن مواقف التهم إلخ إلخ ... ما يمكن أن يكون من آثار ومظاهر هذا الأمر الرباني العظيم. وهناك حديث ذو دلالة عظمى في هذا الباب رواه الخمسة عن شداد بن أوس قال: «شيئان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح وليحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» «1» .
هذا، ولم يترك مفسرو الشيعة ورواتهم هذه الآية حيث روى الطبرسي عن أبي جعفر أن المراد بذي القربى فيها قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله (هم نحن) . وقد فندنا صرف هذه الكلمة في الآيات المكية بخاصة إلى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم في سياق تفسير سورة الإسراء فلا نرى ضرورة للإعادة.
[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 97]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) .
__________
(1) التاج ج 3 ص 96.(5/169)
(1) كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا: كالتي حلّت ما غزلت من خيطان وجعلته كما كان بعد أن غزلته وقوي بالغزل والإبرام.
(2) دخلا: بمعنى دغلا أو خديعة أو مكرا.
(3) أربى: أكثر أو أقوى.
شرح الآية وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ ... والآيات السبع التالية وما فيها من تلقينات
الخطاب في الآيات لمخاطبين سامعين، وفي بعضها ما يدل على أن المقصودين هم المسلمون، وقد تضمنت الأوامر والتنبيهات التالية:
1- يجب عليهم الوفاء بما عاهدوا الله عليه، وأقسموا الأيمان باسمه على الوفاء لا سيما أنهم بأيمانهم قد جعلوا الله عليهم كفيلا.
2- وعليهم أن يذكروا دائما أن الله رقيب عليهم يعلم جميع ما يقولونه ويفعلونه.
3- وعليهم أن لا يكونوا كالحمقاء التي تغزل الغزل حتى إذا قوي بالبرم(5/170)
عادت فنكثته وجعلته فتائل كما كان قبل الغزل.
4- وعليهم أن لا يجعلوا أيمانهم وعهودهم وسيلة للتغرير والخداع وأن لا ينقضوها كمن يفعل ذلك مداراة لقوم يظنون أنهم أكثر وأقوى من الذين حلفوا لهم وعاهدوهم.
5- وليعلموا أن الله يختبر أخلاقهم وأعمالهم في ما يعرض لهم من أحداث ثم يبين لهم يوم القيامة أعمالهم ويوفيهم عليها بما يستحقون.
6- وليعلموا كذلك أن الله لو شاء لجعل الناس على وتيرة واحدة ولكن حكمته اقتضت أن يتركهم لقابلية الاختيار التي أودعها فيهم فيهدي بها من أراد الهدى ويضل بها من أراد الضلال. ولذلك فهو لا بدّ من أن يسألهم يوم القيامة عما كانوا يفعلون ويختلفون فيه ويحاسبهم عليه.
7- وعليهم- للمرة الثانية- ألا يتخذوا أيمانهم وعهودهم وسيلة خداع وتضليل. ففي ذلك تورّط وسقوط بعد الطمأنينة والوثوق، وفيه صد عن طريق الله حيث يجعل الناس لا يثقون في أيمان بعضهم لبعضهم باسم الله.
8- وعليهم ألا تغريهم المنافع العاجلة فينقضوا عهودهم التي عاهدوا عليها باسم الله، فذلك خير لهم لو علموا لأن ما عند الناس ينفد مهما عظم والباقي الدائم هو ما عند الله ومن واجب الإنسان- وبخاصة المسلم- أن يفضل الدائم الذي هو عند الله على الزائل الذي هو عند الناس.
9- ولقد كتب الله على نفسه بأن يجزي الذين يثبتون على الحقّ والعهد بأحسن ما عملوا وبجزاء يفوق قيمة عملهم، وأن يحيي كل مؤمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى الحياة السعيدة الطيبة في الدنيا وأن يجزيه في الآخرة بأحسن أعماله وبجزاء يفوق قيمتها كذلك.
ولقد روى الطبري في صدد الآية [91] روايتين أولاهما أنها نزلت في الحلف الذي كان مشركو قريش تحالفوا عليه في الجاهلية فأمرهم الله عز وجلّ أن(5/171)
يوفوا به في الإسلام «1» . وثانيتهما أنها نزلت في جماعة بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام في مكة مهيبة بهم إلى عدم التراجع والنقض بحجة ضعف النبي وأصحابه وكثرة المشركين.
وروى الطبرسي في سياق الآيات [95- 97] عن ابن عباس أن رجلا من حضرموت اسمه عبدان شكى للنبي صلى الله عليه وسلم شخصا اسمه امرؤ القيس بأنه أخذ أرضا له فلما فاتح النبي صلى الله عليه وسلم هذا أنكر فطلب منه أن يحلف فقال عبدان إنه فاجر لا يبالي أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه فلما قام ليحلف أنظره فانصرفا فنزلت: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إلى آخر الآيتين ... فقرأهما رسول الله فقال امرؤ القيس: أما ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم هي فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها فنزل فيه مَنْ عَمِلَ صالِحاً الآية.
ومقتضى رواية الطبرسي أن تكون الآيات الثلاث مدنية لأن الحادث لا يمكن أن يكون حدث إلّا في العهد المدني. ولم نطلع على رواية تؤيد ذلك فضلا عن أنه لا تفهم حكمة وضع آيات مدنية في سياق متصل يوافق كفار مكة. والآيات بعد معطوفة على ما قبلها ومنسجمة معها سبكا وموضوعا مما يسوغ التوقف في صحة الرواية. وكل ما يمكن أن تكون الآيات تليت في ظروف الحادث المروي فالتبس الأمر على الرواة. وروح الآيات ونصها يسوغان استبعاد رواية الطبري الأولى.
والآيات التي تجيء بعد هذه الآيات بقليل تجعل احتمال صحة رواية الطبري الثانية قويا على ما سوف نشرحه بعد.
على أننا ننبه أولا على أن الآية منسجمة مع سائر الآيات نظما وموضوعا
__________
(1) المتبادر أن المقصود بهذا الحلف هو الحلف الذي عرف بحلف الفضول والذي انعقد بين بطون قريش لمنع المظالم في حرم الله. وقد شهده النبي عليه السلام، وروي عنه فيه حديث جاء فيه: «ما أحبّ أن لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النعم وأني أغدر به ولو دعيت به لأجبت» انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 110- 111.(5/172)
بحيث يسوغ القول إنها لم تنزل وحدها وإنما نزلت الآيات جميعا معا. وثانيا على أنه يلمح شيء من الصلة الموضوعية بين هذه الآيات والآية السابقة من حيث إنها احتوت مثلها تبيانا بما أمر الله تعالى به وما نهى عنه من أخلاق وأفعال. وقد تكون الآية السابقة نزلت هي الأخرى مع هذه الآيات لتوكيد القصد الذي تضمنته الرواية الثانية بالإضافة إلى المقاصد الأخرى التي شاءت حكمة التنزيل أن تنطوي في الآيات.
ومع خصوصية الآيات الزمنية ودلالتها على خطورة الموقف الذي نزلت في شأنه مما تضمنته الرواية الثانية التي رجحنا صحتها ومما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل فإنها فيما احتوته من أوامر وتنبيهات تعدّ من روائع المجموعات القرآنية في بابها وتنطوي على تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى على ما هو واضح من الشرح المتقدم.
وعبارة الآية [96] هي أسلوبية كما هو المتبادر بسبيل القول إن ما يمكن أن يعود على ناقض عهد الله من عوض ومنفعة من الناس مهما عظم يبقى قليلا بالنسبة لما عند الله وليست بسبيل التحذير من بيع عهد الله بالثمن القليل. وهي على ضوء هذا التوضيح جليلة المدى في صدد حثّ المسلم على الثبات على العهد الذي يكون عاهد الله عليه حينما أمن به وحده وصدق برسالة رسوله وما قد يقتضيه ذلك من التضحية بأي نفع دنيوي لأن الباقي هو ما عند الله وأن ما عند الناس مهما عظم فهو إلى زوال.
والآية الأخيرة من الآيات جديرة كذلك بالتنويه بصورة خاصة حيث تضمنت أولا وعد الله عز وجل بالحياة السعيدة والأجر العظيم لمن آمن وعمل صالحا من ذكر أو أنثى، وثانيا نصّا صريحا باعتبار المرأة والرجل سواء في التكاليف ونتائجها في الدنيا والآخرة أيضا مما احتوت آيات عديدة سابقة، إشارة إليه على ما نبهنا عليه سابقا ومما احتوت آيات كثيرة آتية أحكاما كثيرة فيه على ما سوف نشرحه بعد بحيث يصح أن يقال بجزم إن ذلك من المبادئ القرآنية المحكمة.(5/173)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل في مدى (الحياة الطيبة) منها أنها السعادة والقناعة واللبس الحلال والأكل الحلال في الدنيا ومنها أنها حياة الجنة الأخروية. ويتبادر لنا من الآية وشطرها الثاني أن المقصود من العبارة وهي الحياة الطيبة في الدنيا التي يمكن أن تكون السعادة والطمأنينة والرزق الحلال.
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 105]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
. (1) إذا بدّلنا آية مكان آية: قيل إنها بمعنى إذا بدّلنا آية قرآنية بآية غيرها وقيل إنها بمعنى إذا بدّلنا حكما أو أمرا بحكم أو أمر آخر.
(2) القدس: بمعنى المنزّه عن الرجس أو المطهّر.
(3) يلحدون إليه: هنا بمعنى ينسبون إليه تعليم النبي.
في الآيات:
1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من وساوس الشيطان حينما يتلو القرآن.
2- وتوكيد بأنه ليس للشيطان أي تسلط وتأثير على الذين آمنوا بالله وتوكلوا(5/174)
عليه وإنما تسلطه وتأثيره على الذين يتولونه- أي يتخذونه وليّا من دون الله- وينقادون لوساوسه ويشركونه مع الله.
3- وإشارة إلى ما كان يقوله الكفار إذا ما سمعوا النبي يقرأ آية بدلا من آية أو رأوه يبدل أمرا أو حكما قرآنيا أو خبرا قرآنيا بآخر حيث كانوا يقولون: إنه هو الذي يخترع القرآن ويفتريه قاصدين بذلك- على ما هو المتبادر- أن يقولوا: إنه لو كان وحيا من الله لما وقع تبديل وتغيير.
4- ورد عليهم بأن الله هو أعلم بما يوحى به إلى النبي وحكمته وأن القائلين لا يستطيعون أن يدركوا ماهية وحي الله ولا حكمته.
5- وأمر للنبي بأن يؤكد بأن ما يتلوه من القرآن هو وحي ربانى ينزل به روح القدس من الله بالحق ليثبت المؤمنين وليكون هدى وبشرى للمسلمين سواء أكان الأصل أو المبدل.
6- وإشارة أخرى إلى ما كان يقوله الكفار أيضا من أن شخصا معينا هو الذي يعلم النبي وردّ عليهم بأن لسان هذا الشخص أعجمي ولغة القرآن عربية مبينة فصحى فلا يصحّ في العقل أن يكون هذا القرآن العربي الفصيح تعليما من ذلك الشخص الأعجمي اللسان.
8- وتنديد بالكفار وإنذار لهم: فالذين لا يؤمنون بآيات الله لن ينالوا توفيقه وتسديده ولهم عنده العذاب الأليم وهم الكاذبون المفترون.
تعليق على آيات فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وما بعدها إلى آخر الآية [105]
ولم نر فيما اطلعنا عليه رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات. مع أن روحها بمجموعها تلهم أنها نزلت في صدد حادث له صلة بالقرآن، وأن الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من الشيطان حينما يقرأ القرآن، وتوكيد كون الشيطان ليس له(5/175)
سلطان على المؤمنين، وتوكيد نزول القرآن على قلب النبي بواسطة الروح القدس من عند الله متصل بهذا الحادث.
وقد تلهم الآيات أن الله أوحى إليه ببعض الآيات لتكون مكان آيات أخرى فلما تلا الجديدة وأهمل الأولى المنسوخة استغل الكفار ذلك فأخذوا يدللون به على كذب دعوى النبي بأن القرآن وحي رباني وينعتونه بالمفتري على الله ويقولون إن هناك شخصا يعلّمه. ولعلّهم قالوا فيما قالوه إن الشيطان هو الذي يوسوس له أو يلقي عليه لا وحي الله وإن هذا التبديل دليل على ذلك. ولعل بعض الذين بايعوا النبي على الإسلام والذين لم يكن الإيمان قد رسخ في قلوبهم تأثروا بهذا الحادث وبدعاية الكفار فارتدوا أيضا، وهذا ما تدل عليه الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات.
فاقتضت حكمة التنزيل بالرد عليهم بما جاء في هذه الآيات، ونفي تعلّم النبي من الشخص المزعوم ونفي تأثير الشيطان على النبي وأمره بالاستعاذة إلى الله منه.
والآيات في جملتها تقصد إلى تطمين النبي والمؤمنين وتثبيتهم والردّ على الكفار والتنديد بهم.
وإلى هذا فقد احتوت تلقينات مستمرة المدى سواء أفي تطمين المؤمنين المخلصين من أنه لا سلطان للشيطان عليهم أم في وجوب الاستعاذة بالله منه حينما يتلو المسلم القرآن أم في توكيد كون الذين لا يوفقهم الله ولا يسعدهم ولا يهديهم هم الذين فقدوا الرغبة في الحق والهدى والإيمان وكون هؤلاء هم وحدهم الذين يجرؤون على الافتراء على الله.
والمتبادر أن رمي الكفار بالشرك بالشيطان وتوليه وحصر تأثيره فيهم هو من قبيل الردّ والتشنيع. وقد تكرر هذا في مناسبات عديدة بهذا القصد مرّت بعض أمثلة منها ولقد كانوا يفهمون مفهوم كلمة الشيطان ويعرفون أنها بغيضة على ما شرحناه في تفسير سورة التكوير فلزمتهم الحجة والتنديد.
والآية [105] جديرة بالتنويه بما انطوى فيها من تقرير كون الافتراء والكذب لا يمكن أن يقعا إلّا من غير المؤمنين. ولقد روى البغوي في سياقها حديثا رواه(5/176)
بطرقه عن عبد الله بن جراد قال: «قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: المؤمن يكذب؟ قال:
لا. قال الله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحته محتملة، وهو رائع قوي متساوق مع التلقين المنطوي في الآية.
مسألة النسخ في القرآن
وما ورد في الآية [101] من إشارة إلى تبديل آية مكان آية وما في آية سورة البقرة هذه: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [106] صار موضوع بحوث في صدد النسخ والتبديل في القرآن «1» .
فهناك من لا يرى مانعا عقليا ولا نقليا من النسخ ويستند في الدرجة الأولى على ظاهر هذه الآيات. ومن هؤلاء من يأخذ ببعض الروايات فيقول إن بعض آيات نسخت تلاوة وبقيت حكما وهي آية رجم الزناة المحصنين التي اختلف في نصها حيث روي هكذا: «إذا زنى الشيخ والشيخة فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وهكذا: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة والله عزيز حكيم» . ومنهم من يقول: إن بعض الآيات نسخت حكما وبقيت تلاوة مع اختلاف بينهم في هذه الآيات حيث يزيد بعضهم فيها وينقص بعضهم ومن الأمثلة على ذلك الوصية للوالدين في آية سورة البقرة هذه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
__________
(1) انظر تفسير هاتين الآيتين في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والقاسمي وانظر الجزء الأول من تفسير القاسمي ص 32 وانظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 2 ص 21- 28 والنسخ بمعنى إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه. أو بمعنى كل شيء خلف شيئا أو كل شيء نقل عن شيء. وفي (ننسها) قراءتان واحدة من النسيان أي نجعلها منسية وأخرى من الإنساء (ننسئها) بمعنى نؤخرها أو نتركها بدون بدل.(5/177)
التي نسخت في آية سورة النساء هذه التي عينت للوالدين نصيبا من تركة أبنائهما:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [11] والآيات التي فرضت على المسلمين تقديم صدقة بين يدي نجواهم الرسول ثم ألغتها في سورة المجادلة وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(13) ومثل الآيات التي قررت أن المسلمين يقدرون أن يقاتلوا عشرة أضعافهم مما خففت ذلك إلى الضعف في سورة الأنفال هذه:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) . ومنهم من يأخذ ببعض الروايات فيقول إن بعض آيات كانت تتلى ثم نسخت تلاوة وحكما وهي آيات الرضاعة حيث روي أنه كان في القرآن آية تعيّن عدد الرضعات التي يحرم بها النكاح (عشر رضعات معلومات) ثم نسخن بخمس رضعات معلومات ثم نسخن تلاوة وحكما. ومنهم من يأخذ ببعض الروايات فيقول: إنه كانت آيات تتلى ثم نسخت أو أنسيت مثل آيات يروى أنها كانت تتلى في سورة البينة وهي: (لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأل ثانيا وإن سأل ثانيا فأعطيه سأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب. وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيرا فلن يكفره) ومنها آيات في إحدى سور المسبحات وهي: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) ومنها هذا النص: (جاهدوا كما جاهدتم أول(5/178)
مرة) ومنها هذا النص (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) ومنها سورة برمتها كانت تتلى في القنوت في الوتر وتسمى سورة الحفد والخلع.
وليس ما أوردناه من أمثلة هي كل ما روي عن الناسخ والمنسوخ في القرآن. فهناك أولا روايات كثيرة جدا غير ما أوردناه وبخاصة في نسخ أحكام آيات بآيات أخرى وهناك ثانيا اختلاف بين أهل التأويل والاستنباط وعلماء القرآن ومفسريه حيث يثبت بعضهم نسخا فينكره بعضهم بالنسبة لكثير من روايات الناسخ والمنسوخ «1» . وقد اعتنى بعضهم بهذا الأمر لما له من صلة بالتشريع الإسلامي والتنزيل القرآني وأدى ذلك إلى تصنيف مصنفات عديدة فيه «2» .
ولقد جاء جذر النسخ في القرآن في معنى الإزالة كما هو في آية سورة البقرة [106] التي أوردناها قبل وكما هو في آية سورة الحج هذه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [52] وفي معنى آخر وهو التسجيل والكتابة كما جاء في آية سورة الجاثية هذه: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) وآية سورة الأعراف هذه: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) . وواضح أن موضوع الكلام هو المعنى الأول. غير أن الذين قالوا بجواز النسخ في القرآن لم يقفوا فيه عند هذا المعنى الذي ينطبق على نوع واحد من أنواع الأمثلة المتقدمة وهي رفع النصّ القرآني بالمرة. بل جعلوه شاملا للتعديل الذي شاءت حكمة الله إدخاله على
__________
(1) انظر الأبواب الثاني والثالث والرابع من كتاب النسخ في القرآن للدكتور مصطفى أبي زيد.
(2) انظر الباب الثاني من الكتاب نفسه.(5/179)
أحكام النصوص أو تبديلها مع إبقاء النصوص المعدلة والمبدلة أيضا كما هو واضح في بعض الأمثلة بحيث يقال: إنهم عنوا مدى الكلمة أكثر من معناها الحرفي. وهناك من لم ير سواغا للنسخ بجميع الأشكال المذكورة ويرى ذلك غير متسق مع علم الله وحكمته وفيه معنى (البداء) أي بدا لله أن يرجع عما أنزل وقدّر وينزهه عن ذلك وينكر الروايات التي لا تستند في الحقيقة إلى إسناد قوي، باستثناء رواية الرجم التي رواها أصحاب الصحاح الخمسة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي «1» ويؤول ما ظاهره يدل على أنه ناسخ أو منسوخ. غير أن الجمهور على أنه ليس من مانع عقلا ونقلا من النسخ بمداه وليس بمعناه الحرفي فقط تلاوة أو حكما وأن ذلك لا يعني البداء فالله هو الحكيم المقدر الذي ينزل ما شاء ويبدل ما شاء بمقتضى حكمه وأن ذلك متسق مع حكمة الله التي تقضي بتغير الأحكام بتغير الظروف.
والبداء في القرآن جاء بمعان متنوعة، فجاء بمعنى الظهور بعد الخفاء مثل ما في آية طه هذه: فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [121] وبمعنى الظهور بدون توقع مثل ما في آية سورة الزمر هذه: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [47] وبمعنى تبديل رأي برأي أو موقف بموقف لأسباب طارئة مثل ما في آية سورة يوسف هذه: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وعلى كل حال فكل من هذه المعاني يستتبع أن يكون ظهور بعد خفاء وعلم بعد جهل وحدث غير متوقع وكل هذا محال على الله عز وجل. غير أن الذين يسوغون النسخ بمداه يقولون إنه لا يعدو أن يكون الأمر
__________
(1) هذا نصّ الحديث قال ابن عباس قال عمر بن الخطاب وهو على منبر رسول الله: إن الله قد بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها وو عيناها وعقلناها فرجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف (انظر التاج ج 3 ص 3) .(5/180)
معلوما في علم الله وحكمته لظرف أو مدة من الزمن ثم يرفع أو يبدل أو يعدل وبذلك لا يكون أي معنى من معاني البداء واردا.
وهناك من ينكر النسخ في القرآن استنادا إلى آية سورة فصلت هذه: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ولا يرى الذين يسوغون النسخ في هذه الآية حجة على عدم سواغه ويقولون إنه ليس في النسخ باطلا وكل أمره هو تبديل أمر موقت بأمر آخر كلاهما حقّ في ظرفيهما. وكلاهما في علم الله تعالى «1» .
ونحن نأخذ برأي القائلين بسواغ النسخ ونرى وجهة نظرهما أقوى وما يسوقونه على المنكرين هو الأصوب. ونعتقد أن الآية التي نحن في صددها وآية سورة البقرة [106] ثم آية سورة الرعد هذه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) من المؤيدات. وأنه ليس هناك ما يمنع وجاهة النسخ مبدئيا سواء أكان ذلك نسخ الحكم مع بقاء التلاوة أم نسخ الحكم والتلاوة. ولقد كان الوحي القرآني متصلا بأحداث السيرة النبوية وظروفها وكانت هذه الأحداث والظروف تتطور وتتبدل فليس مما ينافي العقل أن يكون الوحي القرآني مماشيا لذلك. ولقد رأينا السيد رشيد رضا يذكر اعتراض الشيخ محمد عبده على احتمال نسيان النبي لبعض الآيات في صدد النسخ وتأويل آية سورة البقرة وبالتالي احتمال النسخ نسيانا من النبي. والآية إنما تنسب الإنساء إلى الله سواء أكان في معنى التأخير والإهمال أم في معنى النسيان فليس والحالة هذه من محل للاعتراض أو القول بأن ذلك مناف للعصمة النبوية. غير أننا نستثني من ذلك: الرأي القائل بنسخ التلاوة مع بقاء الحكم، لأننا لا نرى لذلك حكمة مفهومة والمثل الذي يورد على ذلك وهو آية الرجم خطير رغم الحديث الذي رواه أصحاب الصحاح.
وسنعود إلى بحث هذا الأمر في مناسبته الموضوعية في سورة النور والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر كتاب الدكتور أبي زيد ص 19 وما بعدها.(5/181)
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام وفيه دليل حاسم على جري عادة الله على نسخ وتعديل أحكام بأحكام من شرائعه موالاته إرسال الرسل بشرائع معدلة حسب مقتضى حكمة تغير الأحكام بتغير الأزمان. وقد أشير إلى هذا في القرآن. فجاء في سورة آل عمران في صدد رسالة عيسى عليه السلام:
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [50] وجاء في سورة الأعراف في صدد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [157] وفي سورة المائدة: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) ووَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [48] فالقول بالنسخ في القرآن سائغ عقلا ونقلا كما هو واضح.
ولقد ذكرنا في مناسبات سابقة أقوال أهل التأويل والمفسرين في نسخ أحكام آيات عديدة في السور السابقة وعلقنا عليها بما نرجو أن يكون الصواب إثباتا ونفيا وسنفعل ذلك بالنسبة للسور الآتية إن شاء الله.
هذا، وننبّه على أن الشيعة يسوغون النسخ ويسوغون أيضا البداء على الله تعالى استنادا إلى آية سورة الرعد المذكورة آنفا ثم استنادا إلى حديث يروونه عن(5/182)
علي بن أبي طالب جاء فيه: «لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة» ويسوقون قولا لموسى بن جعفر وهو «البداء ديننا ودين آبائنا» «1» .
ويظهر أنهم رأوا في تسويغ البداء على الله تعالى سندا لدعوى من دعاويهم وهوى من أهوائهم. وليس في آية الرعد ما يصحّ أن يكون سندا لزعمهم وكل ما في الأمر أن فيها سندا لنسخ أمر ما بأمر آخر حسب مقتضى حكمة الله وتوقيتها مع إحاطة علم الله بكل ما كان ويكون أولا وآخرا. وليس لما يروونه من كلام علي وموسى سند فضلا عما يبدو عليه من غرابة وزور، والله تعالى أعلم.
تعليق على آية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ
والآية تدل دلالة قاطعة على أنه كان يقيم في مكة أناس غير عرب، والمتبادر من نسبة الكفار إليهم تعليم النبي أنهم كانوا على شيء من العلم بحيث كانوا مظنة تعليم النبي. ووجود فريق من أهل الكتاب والعلم في مكة مما أيدته آيات عديدة أخرى وحكى بعضها إيمانهم وخشوعهم على ما مرّ في تفسير سورتي الإسراء والقصص. ولقد ذكر المفسرون استنادا إلى روايات رووها أسماء عديدة للشخص المذكور في الآية ومن الأسماء عائش أو يعيش غلام حويطب بن عبد العزى وكان صاحب كتب وعلم، وجبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وكان يصنع السيوف ويقرأ التوراة والإنجيل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرّ وقف عليه ليسمع ما يقرأ «2» وبلعام وكان قينا- حدادا- نصرانيّا في مكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليه على مرأى من المشركين «3» . وممن روى المفسرون أسماءهم في هذا الصدد سلمان الفارسي أيضا «4» . فكان هذا مما جعل المشركين على ما هو المتبادر يقولون ما قالوه هنا
__________
(1) انظر كتاب الدكتور أبي زيد ص 22- 24. [.....]
(2) انظر تفسير الآيات في الطبري والزمخشري.
(3) انظر تفسير الطبري.
(4) انظر تفسير الطبري.(5/183)
وما حكته عنهم آية سورة الفرقان [4] التي مرّ تفسيرها.
وطبيعي أن هذا لا يعني أن ما قاله المشركون مطابق للواقع. فالآيات تحكي قولهم كما هو وتردّ عليه ردّا صريحا قاطعا يعلن على مسمع جميع الناس ومسمع من كان قولهم يعنيهم من أهل العلم والكتاب في مكة بالإضافة إلى ما حكته آيات أخرى أوردناها قبل من إيمانهم بالرسالة المحمدية وشهادتهم بصدق صلة القرآن بالله ووحيه لأنهم رأوا أعلام النبوة في النبي صلى الله عليه وسلم واستطاعوا أن يتجردوا من الهوى والتعصب والمآرب. ورأى المشركون ذلك وسمعوه. وهذا كاف لتزييف هذا القول الذي استغله المبشرون والمغرضون من المستشرقين استغلالا بشعا على غير طائل ويدل على أنهم لم يدركوا مدى الوحي القرآني والرسالة المحمدية أو يكابرون ويغالطون فيهما على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان شرحا يغني عن التكرار.
تعليق على جملة رُوحُ الْقُدُسِ
وروح القدس المذكور في الآية [102] فسّره المفسرون بالملك جبريل، والقدس بمعنى المقدس والمطهر وهو تعبير تكريمي كما هو المتبادر. وقد ذكر جبريل بصراحة في آية في سورة البقرة في صدد نزوله بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهي: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مما يعضد هذا التفسير. ولقد ورد في سورة الشعراء تعبير الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) في صدد تنزيل القرآن. والمقصد هنا وهناك واحد على ما هو المتبادر. وقد علقنا بما يقتضي في تفسير تلك السورة وهو ما يصح قوله هنا فلا حاجة للإعادة.
تعليق على الأمر بالاستعاذة من الشيطان في هذه الآيات
ولعلّ الأمر بالاستعاذة من الشيطان في إحدى آيات السلسلة وتقرير كون(5/184)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
الذي ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هو الروح القدس في آية أخرى منها قد استهدفا الرد على المشركين فيما يمكن أن يكونوا قالوا بمناسبة هذا الحادث من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو متصل بالجنّ أو شياطينهم لا بالله وملائكته على ما كانوا يعتقدونه باتصال شياطين الجنّ بالكهان والسحرة ونوابغ الشعراء. ومما يلحظ أن ذلك وافق آيات سورتي الشعراء [192- 236] والتكوير [19- 26] على ما شرحناه في تفسيرهما مما يدل على أن المشركين كانوا يكررون تهمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد أخرى فيردّ عليهم القرآن بالردود القوية النافذة كما جاء هنا وكما جاء في السورتين المذكورتين.
على أن الآية غدت مستمرة المدى بما كان من السنّة النبوية بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حينما كان يقرأ القرآن وبما صار من واجب المسلمين أن يقتدوا به على ما هو ثابت بالتواتر الذي لم ينقطع من لدن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد علقنا على موضوع الاستعاذة بالله من الشيطان بصورة عامة ونبهنا على ما تبثه في النفس من سكينة وطمأنينة وأوردنا بعض الأحاديث الواردة في ذلك في سياق تفسير سورة العلق فنكتفي بهذه الإشارة.
[سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
.(5/185)
في الآيات:
1- إعلان لغضب الله على الذين كفروا بعد إيمانهم عن عمد لا عن إكراه.
2- وإنذار لهم بعذاب الله العظيم.
3- وبيان بأنهم استحقوا ذلك لأنهم فعلوا فعلتهم الشنيعة استحبابا للحياة ومنافعها وتفضيلا لذلك على الآخرة.
4- وتقرير بأن الله لا يهدي الكافرين أمثالهم ولا ييسر لهم أسباب الطمأنينة والسعادة وقد طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فصاروا في مثابة الصمّ العمي البله الغافلين عن الحق والحقيقة وبأنهم سيكونون الخاسرين في الآخرة بطبيعة الحال.
5- وإشارة تنويهية إلى الذين هاجروا من بعد ما ارتدّوا وفتنوا عن دينهم ثم جاهدوا وصبروا. وتقرير بأن الله سيشملهم بغفرانه ورحمته يوم القيامة الذي تجادل فيه وتدافع كل نفس عن نفسها وتوفّى كل نفس ما عملت من خير وشرّ دون ظلم ولا إجحاف.
تعليق على آية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وما بعدها
لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد الآيتين [106 و 110] من هذه الآيات «1» . ففي صدد الآية الأولى رووا أن الاستثناء فيها نزل في حق عمار بن ياسر الذي أخذه مالكوه مع أمه وأبيه وعذبوهم حتى مات أبوه وأمه وأعطاهم ما أرادوا بلسانه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له: ما وراءك؟
قال: شرّ يا رسول الله نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. فقال له: كيف وجدت
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(5/186)
قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فجعل النبي يمسح على عينيه ويقول: إن عادوا فعد لهم بما قلت.
ورووا في الوقت نفسه أنها نزلت في حقّ جبرا مولى عامر الحضرمي الذي أكرهه سيده على الكفر أو خباب أو صهيب. ورووا كذلك أنها نزلت في أناس من أهل مكة كانوا مسلمين فيها فكتب لهم أصحابهم في المدينة أن هاجروا فأنتم لستم منا حتى تهاجروا فخرجوا فأدركتهم قريش ففتنوهم فكفروا كارهين. ورووا في صدد الآية [110] أنها نزلت في جماعة كانوا يخفون إسلامهم في مكة فأخرجتهم قريش يوم بدر وحاربوا المسلمين فقتل بعضهم فاستغفر لهم بعض أصحاب رسول الله وقالوا أخرجوا كارهين فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) فكتب بعض أصحاب رسول الله لمن بقي فيهم بالأمر فخرجوا مستيئسين فلحقتهم قريش وقاتلتهم فقتل بعضهم ونجا بعضهم فأنزل الله بحقهم الآية [110] كما رووا أنها نزلت في حقّ جماعة من المسلمين تخلفوا في مكة فكتب لهم أصحابهم بأن الله لا يقبل إسلامهم حتى يهاجروا فخرجوا فلحقتهم قريش وأرجعتهم وفتنتهم عن دينهم ثم تمكن بعضهم من الإفلات والهجرة.
وسموا من هؤلاء عياش بن أبي ربيعة وأبا جندل بن سهيل وسلمة بن هشام. ورووا في الوقت نفسه أنها نزلت في حقّ عبد الله بن أبي سرح وكان يكتب لرسول الله فأزله الشيطان فكفر ولحق بالكفار فأمر النبي بقتله يوم فتح مكة فاستجار له أبو عمرو أو أخوه بالرضاعة عثمان بن عفان فعفى النبي عنه ونزلت في حقّه الآية.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ومقتضى الروايات التي تذكر ابن أبي سرح أو المسلمين المستخفين أو المتخلفين في مكة أن تكون الآية [110] مدنية ولم نر ما يؤيد ذلك. وليس من حكمة في وضع آية مدنية في سياق متصل بمواقف كفار مكة. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي تذكر صلة الآية [106] بجماعة من المتخلفين في مكة الذين أرادوا اللحاق بالمدينة فردتهم قريش(5/187)
وفتنتهم مكرهين. ومسألة فتنة عمار بن ياسر وأمثاله كانت في عهد مبكر من البعثة والسورة نزلت بعد النصف الأول من العهد المكي على الأرجح.
ولذلك نحن نستبعد صحة هذه الروايات كسبب لنزول الآيتين [106 و 110] وكل ما يمكن احتماله أنهما كانتا تتليان للتطبيق أو أن الروايات هي من قبيل التطبيق. ومن الجدير بالذكر أن المفسرين لم يرووا رواية ما فيما اطلعنا عليه في صدد الذين كفروا وشرحوا صدرا بالكفر مع أن الآيات وما فيها من حملة شديدة هي في حقهم بالدرجة الأولى. ونحن نرجح بل نكاد أن نجزم أن الآيات جميعها نزلت في صدد أحداث وقعت في مكة بعد الهجرة إلى الحبشة. وأن أناسا من المسلمين قد ارتدوا عن الإسلام بدون إكراه وثبتوا على كفرهم وأن أناسا قد ارتدوا عن الإسلام كرها مع بقاء قلوبهم مطمئنة بالإيمان وأن بعض هؤلاء أو جميعهم- إن كانوا أكثر من واحد- قد استطاعوا أن يفلتوا من مكة ويهاجروا فلما بلغوا مأمنهم أظهروا إسلامهم وجاهدوا وصبروا على ما لا قوة من مشقة وحرمان، وأن ذلك متصل بحادث تبديل بعض الآيات مكان بعض الذي أشير إليه في الآيات التي سبقت هذه الآيات. فمن المحتمل جدا أن يكون الذين تولوا قيادة المعارضة والتعطيل قد اتخذوا هذا الحادث وسيلة للدعاية والتشويش والتشكيك فأثروا على بعض المسلمين وجعلوهم يرتدون وربما أغروهم ببعض المنافع الدنيوية بل كان هذا وسيلة مؤكدة على ما تلهمه الآية [107] التي تذكر أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء القادة قد أجبروا بأسلوب ما في نفس الظرف بعض المسلمين على الارتداد وظلت قلوبهم مطمئنة بالإيمان وظلّ وجدانهم يتعذب حتى إذا سنحت لهم الفرصة أفلتوا وهاجروا وعادوا إلى الإسلام فاحتوت الآيات حملة على الأولين وتنويها بالآخرين واحتوت الآية [110] بخاصة إيذانا بعفو الله ورحمته ومغفرته لهم. ولعلّ من الذين ارتدوا بدون إكراه من ندم وهاجر وعاد إلى الإسلام أيضا مما قد يلهمه أسلوب الآية [110] وفي كلّ ذلك صور من صور السيرة النبوية في مكة.
والارتداد بدون إكراه نقض لعهد الله. وفي الآيات [91- 97] التي سبقت(5/188)
هذا الفصل والذي قبله توكيد على الوفاء بعهد الله وتحذير من نقضه واتخاذ الإيمان بالله وسيلة تغرير وخداع ومداراة للأقوى والأكثر وترجيحا لما عند الناس على ما عند الله. وهذا ما سوّغ لنا أن نقول في صدد هذه الآيات إنها متصلة بهذا الفصل والفصل السابق له، بل وربما كانت مقدمة لهما.
وطبيعي أن يكون هذا الحادث قد أثر في نفس النبي والمؤمنين وسير الدعوة النبوية تأثيرا شديدا. وهذا ما يفسر الحملة الشديدة على المرتدين بدون إكراه الذين ثبتوا على كفرهم ويفسّر ما احتوته الآية الأخيرة من تطمين وإنذار معا فليس على النبي والمؤمنين من بأس وهم بما يفعله الآثمون الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة وينقضون عهد الله فكل مسؤول عن عمله يوم القيامة ومجزى عليه بما يستحقه.
والمتبادر أن تعبير جاهَدُوا في الآية الأخيرة قد قصد به بذل الجهد وتحمّل المشقة والحرمان في سبيل الله ودينه. لأن الجهاد الحربي إنما كان بعد الهجرة إلى المدينة كما لا يخفى. ولقد كان من المسلمين مهاجرون في الحبشة في هذا الظرف على ما مرّ شرحه في مناسبة آية سابقة في هذه السورة فمن المحتمل كثيرا أن هؤلاء الذين آمنوا من بعد ما فتنوا وهاجروا قد هاجروا إلى الحبشة والتحقوا فيها بإخوانهم السابقين.
تلقينات الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وما بعدها
هذا، والآيات تنطوي على تلقينات مستمرة المدى فيما يتبادر لنا. فالله لا يؤاخذ من يجبر على ارتكاب إثم من الآثام مهما عظم إذا كان غير راض به وكان متعلقا بخاصة نفسه، ويقبل توبة النادمين والتائبين منه إذا رضوا به في موقف أو حالة ما ويشملهم برحمته. وشرط التعلق بخاصة النفس مستلهم من روح الآيات فالإكراه على القتل لا يبرر القتل، والإكراه على الزنا لا يبرر الزنا لأن أقصى(5/189)
نتائج الإكراه القتل. وحدّ من يرتكب الإثمين القتل أيضا واللواط في حكم الزنا.
وقد يستثنى المفعول بهما إذا قيدا ومنعا من المقاومة. أما الإكراه على الكفر وما دون ذلك من شرب خمر وأكل لحم خنزير وميتة ودم مسفوح وامتناع عن الصلاة والصوم والحج فهو مبرر بقدر ما يكفي لدفع الضرر من الإكراه إذا كان مؤكدا ويقينا. وقد يكون الإكراه على ما دون القتل والزنا- مما يتعلق بالغير- مبررا أيضا إذا ما أصلح الفاعل وعوض عما ارتكبه بعد زوال خطر الإكراه. وهذا لا يتعارض مع التوبة عن الآثام التي يرتكبها المرء بدون إكراه إذا ما كانت توبة صادقة مترافقة على الإصلاح والتعويض على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان.
وهناك حديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» والحديث يتساوق مع التلقين القرآني، ويتحمل بدوره الملاحظات التي شرحناها كما هو المتبادر، والله تعالى أعلم.
ولقد نبّه المفسرون في سياق الآية إلى التشريع النبوي في حقّ المرتدين عن الإسلام بدون إكراه فروى ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عكرمة، رواه أيضا البخاري وأبو داود والترمذي بصيغة قريبة جدا وهي: «إن عليّا حرق قوما ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من بدّل دينه فاقتلوه، ولم أحرقهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعذّبوا بعذاب الله فبلغ ذلك عليّا فقال: صدق ابن عباس» «2» . وهناك حديث آخر رواه الخمسة عن عبد الله بن مسعود قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وإني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «3» .
__________
(1) التاج ج 1 ص 29.
(2) التاج ج 3 ص 17.
(3) المصدر نفسه.(5/190)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
والمتبادر أن هذا التشريع النبوي مدني وقد اكتفت الآيات التي نحن في صددها بتقرير غضب الله وعذابه العظيم والخسران في الآخرة للمرتدين الشارحين بالكفر صدرا لأن هذا هو المناسب مع ظرف العهد المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
. (1) رغدا: واسعا ميسرا.
(2) أنعم: جمع نعمة.
جمهور المفسرين على أن هذا المثل مضروب في مكة وكفارها: فمكة بلدة قد أنعم الله عليها بالأمن والطمأنينة ويسّر لها أسباب الرزق يأتيها من كلّ مكان بسهولة وسعة. فلم يرع أهلها حقّ الله ولم يشكروا نعمه وأفضاله ولما جاءهم رسوله منهم يدعوهم إليه وقفوا منه موقف المكذب الباغي. ولذلك أخذهم عذاب الله بظلمهم وإجرامهم وكفرهم وبغيهم، وبدل أمنهم بالخوف وسعة رزقهم بالتقتير والجوع، وجعلهم مثلا يتمثل به وعبرة للمعتبرين.
والآيات تنطوي على تذكير بعذاب وضيق وجوع وخوف وقع على أهل القرية أو على أهل مكة على ما اتفق عليه جمهور المفسرين. وقد رووا «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بعد هجرته بسنين كسني يوسف ومنع عنهم في الوقت نفسه
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير والزمخشري إلخ.(5/191)
الميرة فجاعوا حتى أكلوا الجيف فأرسلوا إليه يذكرونه بالرحم فأشفق عليهم وسمح لهم بالميرة. وإن الخوف الذي ذكر في الآية هو ما كان بسبب سرايا رسول الله التي كان يسيرها نحوهم. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تذكر ذلك. ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة الدخان روايات تذكر أنه طرأ على مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مجاعة أدت إلى خوفهم واضطرابهم وأن بعض زعماء مكة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناشدوه الرحم وطلبوا منه أن يدعو الله بكشف العذاب عنهم. وبعد انكشاف العذاب عادوا إلى موقفهم المناوىء فأنذرهم الله بالبطشة الكبرى في سورة الدخان. والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات بسبيل التذكير بذلك وتعليل ما أصابهم بموقفهم الباغي الظالم. ونزول سورة الدخان ليس بعيدا عن نزول هذه السورة. ولعل ما طرأ عليهم كان ما يزال. فإذا صح هذا- ونرجو أن يكون صحيحا- فتكون صلة هذه الآيات بسابقاتها واضحة حيث احتوت سابقاتها حملة على الكفار وزعمائهم بخاصة لمواقفهم المناوئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له وتشويشهم عليه وإكراه من استطاعوا على الارتداد عن الإسلام فجاءت الآيات تذكرهم بما هم فيه من بلاء وتؤذنهم بأنه بعض جزائهم العاجل من الله، وتجعل مكة في ذلك مضرب المثل والعبرة.
تعليق على جملة وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ
لقد وقف الطبري عند هذه الجملة فاستنبط منها ما يفيد أنها منطوية على تذكير العرب السامعين بأنهم يعرفون الرسول ويعرفون نسبه وصدق لهجته. ولا يخلو هذا من صواب وقد تضمن هذا المعنى آيات أخرى منها آيات سورة يونس [15- 16] وآيات سورة المؤمنون [68- 70] على ما نبهنا عليه في مناسباتها.
وقد يصح أن يضاف هنا إلى هذا أن الجملة يمكن أن تكون انطوت أيضا على قصد التدليل على باعث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايتهم وتجرده عن المآرب والمقاصد في ذلك وهو شدة المعصية في ذلك الوقت في العرب التي تجعل العربي يتحمل(5/192)
كل تضحية في سبيل جر الذين ارتبط بهم برابطة الرحم والقبيلة وحياتهم وعزتهم والتضامن معهم. ثم على قصد بيان عظم فضل الله ونعمته بإرسال هاد إليهم منهم يكون فيه مثل هذا الباعث وكون إثم تكذيبهم له أشد واستحقاقهم للعذاب نتيجة لذلك أولى.
وقد لا تخلو الآية التي فيها الجملة على ضوء هذا التوضيح من تلقين مستمر المدى فيما يكون من وقوف الفئات المستكبرة المغرضة من دعاة الإصلاح والقادة المخلصين منهم الذين تكون دعوتهم وقيادتهم مجردة من المآرب وخالصة لوجه الله ومصلحتهم.
ولقد تكررت هذه الجملة في مقامات مماثلة للمقاصد نفسها، وكان يأتي بدلا منهم (منكم) أو (من أنفسكم) أو من (أنفسهم) كما جاء في آية سورة البقرة هذه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) وآية سورة آل عمران هذه:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) ، وآيات سورة التوبة هذه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) وآية سورة الجمعة هذه:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) حيث يبدو من هذا أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار التنبيه والتوكيد على هذا الأمر لما انطوى فيه من مقاصد.
ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة كتوضيح لمدى تعبير (من أنفسكم) الذي هو في مقام (منهم) قولا لابن عباس جاء فيه: «إنه ليس من العرب(5/193)
قبيلة إلّا قد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب وفي رواية ليس من العرب قبيلة إلّا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضرها وربيعها ويمنها» «1» .
والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قرشيا من ناحية الوالدين المباشرين حيث كان أبوه من بني هاشم وأمه من بني زهرة وكلاهما من قريش، وقريش من عدنان حسب التقاليد المشهورة فإن أمّ أبيه كانت من بني النجار من الخزرج وهم قحطانيون حيث يصدق ما روي عن ابن عباس من انتساب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفرعين الرئيسيين اللذين تفرّع منهما جميع القبائل العربية في جنوب جزيرة العرب وشمالها.
ولقد أورد البغوي في سياق آية سورة التوبة أيضا حديثا رواه بطرقه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء. ما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام» . وأورد ابن كثير حديثا قريبا من هذا بطرق أخرى بقصد التدليل على سبب من أسباب ما كانت عليه أخلاق رسول الله المذكورة في الآية وهو الطهارة في النسب. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن ورد فيها أحاديث أقوى في الدلالة من هذا الحديث حيث روى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» «2» .
وحيث روى الترمذي عن العباس أنه قال للنبي: يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» «3» .
__________
(1) انظر تفسير آيات التوبة في كتب تفسير ابن كثير والبغوي ورشيد رضا.
(2) التاج ج 3 ص 205.
(3) المصدر نفسه.(5/194)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
تلقين آية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً
وفي هذه الآية تلقين جليل وعظة اجتماعية مستمرة المدى، فأي مجتمع أراد أن يحتفظ بأسباب القوة والعزّة والحياة المطمئنة والرزق الميسور عليه أن يلتزم حدود الله في الإخلاص له والعدل والإحسان وسائر الأعمال الصالحة، وأن يعترف بفضله ويداوم على ذكره وشكره وأن يبتعد عن كلّ ما فيه ظلم وإثم وبغي ومنكر وانحراف وإسراف. فإذا أخلّ بذلك اختلّت شؤونه وانفرط كيانه وغدا عرضة للنوائب والكوارث.
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 119]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
. (1) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام: ولا تقولوا كذبا من عند أنفسكم هذا حلال وهذا حرام.
في الآيات:
1- أمر للسامعين بأن يأكلوا ويتمتعوا بكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب ويشكروا الله على نعمه إن كانوا حقيقة يؤمنون به ويعبدونه.(5/195)
2- وبيان بأن المحرم عليهم أكله ينحصر في الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه من الذبائح.
3- واستدراك بأن الله مع ذلك يغفر لمن يكون مضطرا إلى أكل هذه المحرمات في حدود الضرورة بدون توسع وتجاوز.
4- ونهي عن التحليل والتحريم اللذين لا يستندان إلى أمر رباني وعن نسبته ذلك إلى الله كذبا وافتراء.
5- وتنديد ووعيد لمن يفعل ذلك فهو لن يفلح ولن يسعد وله العذاب الأليم الذي ينتظره في الآخرة بعد متاع الدنيا وأجلها القصير.
6- وإشارة إلى كون الله إذا كان حرّم على اليهود بعض المأكولات التي ذكرت في القرآن قبل هذه السورة فإنما كان ذلك بسبب بغيهم وتعنتهم وظلمهم وأن الله لم يظلمهم بذلك.
7- وتقرير بأن الله يعامل الذين يعملون السوء عن جهل وغفلة ثم يندمون ويتوبون ويسيرون في طريق الصلاح والإصلاح بالرحمة والمغفرة.
والتعليم الذي احتوته الآيتان الأوليان قد تكرر في القرآن في سور مدنية ومكية بأسلوب متقارب. ومن ذلك ما جاء في الآية [144] من سورة الأنعام التي سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع في سياقها ما يغني عن الإعادة. ولقد جاء الدم في آية الأنعام بوصفه مسفوحا ولم يرد هذا الوصف هنا. والمتبادر أن هذا مقدر وأنه هو الذي كان مستقرا مفهوم المدى. بدليل استثناء النبي في حديث له الطحال والكبد لأنهما عضوان جامدان على ما ذكرناه في التعليق المذكور.
وتكرر ورود هذا التعليم يدل على ما كان راسخا عند العرب من تحليل وتحريم في صدد اللحوم وما كان يدور حول هذا الموضوع من جدل. مما شرحناه كذلك في تفسير سورة الأنعام في سياق تفسير الآيات [118- 121] و [137- 139] و [142- 147] وكان من جملة ذلك بيان ما حرّمه على اليهود وأسباب التحريم.(5/196)
ولا يروي المفسرون رواية ما في مناسبة نزول هذه الآيات وأسلوبها ومضمونها في جملتها قد يلهمان أنها وردت في سياق استفسار أو مشهد جدل في صدد محرمات اللحوم والذبائح. وقد يلهمان أن الموضوع قد أثير من قبل بعض المسلمين أو بسبب بعض أقوال بعضهم وتصرفاتهم. ومما قد تلهمه الآيات أن الجدل تطرق مرة أخرى إلى ما عند اليهود من محرمات أخرى غير المحرمات الأربع فاقتضت حكمة التنزيل الإشارة ثانية إلى أن ذلك قد كان عقابا خاصا لليهود وليس من محل للقياس عليه.
والآيات تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالفصول السابقة، إلّا إذا كان الكفار قد اشتركوا في الموقف الجدلي أو إذا كان لهذا الفصل صلة بما كان من تبديل بعض الآيات مكان بعض مما لا يمكن التأكد منه لأنه ليس هناك رواية ما في صددها يمكن الاستئناس بها عليه وإن كنا نميل إلى ذلك.
ولقد روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي في صدد الآية الأولى حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّها الناس إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا. وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيّها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم. وإنّ الرجل يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك» «1» .
حيث ينطوي في الحديث تلقين توضيحي متساوق مع التلقين القرآني في الآية وتنديد بالمنحرفين عنه.
التلقين الذي احتوته جملة وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ
ولسنا نرى ضرورة للتعليق على أصل الموضوع ومبدأ الاضطرار فقد علقنا عليه بما فيه الكفاية في تفسير سورة الأنعام. غير أننا نودّ أن نلفت النظر بخاصة إلى
__________
(1) من تفسير ابن كثير للآية [172] من سورة البقرة التي يقرب نصّها من نصّ الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها.(5/197)
الآية [117] وما احتوته من تلقين مستمر المدى يمكن أن يكون شاملا لمتنوع الشؤون وغير قاصر على محرمات اللحوم والطعام بسبب إطلاقها حيث نهت المسلمين عن إلقاء الكلام على عواهنه في التحليل والتحريم مطلقا ونسبة ذلك إلى الله من دون تثبت وتدبّر وسند وثيق. ففي ذلك افتراء على الله وتضييق لما وسع وتعطيل لحكمته المتمشية مع المصلحة والعقل وطبائع الأشياء.
ولقد أوردنا في تعليقنا على آيات سورة الأنعام المار ذكرها حديثا نبويّا جاء فيه: «الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه» . حيث ينطوي في هذا الحديث تحديد لما يجب على المؤمن أن يقف عنده من حدود في صدد التحليل والتحريم.
على أن من الواجب التنبيه على أمر هام نبهنا عليه أيضا في التعليق المذكور وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المصدر الثاني للتشريع الواجب على المؤمنين اتباع ما أمر به ونهى عنه بعد القرآن وأنه يصحّ أن يصدر عنه تحليل وتحريم لما سكت عنه القرآن أو جاء فيه غامضا وغير مستوف لكل جانب. ولقد روي عنه أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة مثل ذلك أوردنا بعضها في سياق التعليق المذكور.
وهي في صدد الذبائح والأطعمة الحيوانية وهناك أحاديث أخرى في صدد الألبسة والأشربة وغيرها أيضا وردت في كتب الأحاديث الصحيحة. من ذلك مثلا حديث رواه الشيخان والنسائي عن حذيفة قال: «نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيهما وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه» «1» . وحديث رواه أصحاب السنن عن علي قال: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال إن هذين حرام على ذكور أمتي» «2» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 134.
(2) المصدر نفسه ص 135 ونكتفي بهذين المثلين اللذين لهما أمثال كثيرة في شؤون كثيرة.
وننبه على أن هناك حديثا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أنس قال: «رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرّحمن بن عوف والزبير بن العوّام في لبس الحرير لحكة كانت بهما» ص 135. والرخصة في الحديث متساوقة مع النصّ القرآني بإباحة المحظور للمضطر في الآية التي نحن في صددها وفي أمثالها. وقد يكون من الحكمة الملموحة في تحريم الأكل والشرب بآنية الذهب والفضة على المسلمين رجالهم ونسائهم قصد تفادي البطر والترف والتبذير وتعالي أغنياء المسلمين الذين قد يتيسر لهم ذلك على فقرائهم. وقد يكون من الحكمة الملموحة في تحريم لبس الحرير والذهب على الرجال قصد الارتفاع بهم عن التشبه بالنساء في ما يليق لهن من لباس وحلي. والله تعالى أعلم.
ويلحظ أن الله عز وجل وعد المؤمنين في آيات عديدة مرّت أمثلة منها بلباس الحرير وحلي الذهب واللؤلؤ في الآخرة وبالأكل والشرب بآنية الذهب والفضة حيث يلمح من ذلك قصد التعويض عليهم عما حرموه لأن ما يرد من ذلك في الدنيا غير وارد في الآخرة والله تعالى أعلم. [.....](5/198)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
والتلقين المنطوي في الآية في عدم جواز التحليل والتحريم جزافا ونسبة ذلك إلى الله افتراء ينسحب على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لمؤمن أن ينسب إليه التحريم والتحليل جزافا بدون تثبت وتدبر وسند وثيق افتراء عليه كما هو المتبادر.
والآية الأخيرة وإن كانت على ما يتبادر متصلة بموضوع الآيات ودليلا على أن موضوعها مما أثير من بعض المسلمين أو بسبب تصرف بعضهم فإن فيها توكيدا لمبدأ التوبة القرآني وفي أسلوبها عمومية وشمول. ولقد علقنا على هذا المبدأ بما فيه الكفاية في سورة الفرقان والبروج فلا ضرورة للإعادة.
هذا وفي الآيات دلالة على أن سورة الأنعام قد سبقت في النزول هذه السورة كما هو واضح. لأن المحرمات على اليهود قد ذكرت في تلك السورة وعطف عليها هنا. وفي هذا نقض حاسم لترتيب بعض المستشرقين «1» لنزول سورة الأنعام كآخر السور أو من أواخرها نزولا.
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
__________
(1) المستشرق ويل.(5/199)
(1) كان أمة: بمعنى كان إماما يؤتمّ به أو كان صاحب ملّة. وقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن معنى الأمة معلم الخير والقانت المطيع «1» .
في الآيات:
1- تقرير بأن إبراهيم كان إماما على طريق الحق خاضعا لله ملتزما حدوده غير منحرف عنها وغير مشرك بالله أحدا، وشاكرا لنعم الله، وبأن الله قد اصطفاه وشمله بعنايته وهداه إلى الطريق القويم وهيّأ له أسباب الخير والطمأنينة والفلاح في الدنيا وجعله في الآخرة في عداد الصالحين المستحقين لحسن الجزاء.
2- وخطاب للنبي بأن الله قد أوحى إليه باتباع ملّة إبراهيم وطريقته التي ليس فيها انحراف ولا شرك.
3- وبيان بأن الله قد جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وبأن الله سوف يقضي بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه.
ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزول هذه الآيات أيضا، ويتبادر لنا أنها- وبخاصة الأربع الأولى منها- متصلة بالآيات السابقة. فقد كان العرب يردون ما يسيرون عليه من تقاليد دينية، ومن جملة ذلك تقاليد التحريم والتحليل إلى ملة إبراهيم فجاءت الآيات معقبة على الآيات السابقة بقصد الردّ والتنديد وبيان جوهر هذه الملة. وكونها هي التي أوحى الله بها إلى النبي وكون ما جاء في القرآن من تحليل وتحريم- وبخاصة في الأطعمة الحيوانية- هو الصحيح من هذه الملة الذي يجب الأخذ به.
__________
(1) التاج ج 4 ص 139.(5/200)
ولقد تعددت أقوال المفسرين في الآية الأخيرة حيث قال بعضهم «1» استنادا إلى بعض الروايات والأحاديث: إن يوم الجمعة هو اليوم الذي كان يجب اتخاذه يوم عيد لأن الله انتهى فيه من خلق الكون فاختلف اليهود في الأمر ثم اختاروا يوم السبت لأنه كان يوم راحة الله من خلق الكون فأوجبه الله عليهم وحرّم فيه العمل فمنهم من ثبت على ذلك ومنهم من خالفه وقد أوردوا حديثا نبويا عن أبي هريرة رواه البخاري جاء فيه: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» ، وحديثا آخر عن أبي هريرة وحذيفة رواه مسلم جاء فيه: «أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فهو تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة والمقضي بينهم قبل الخلائق» «2» وحيث قال بعضهم «3» : إن الآية تعني الإشارة إلى ما كان من احتيال اليهود على السبت في صيد السمك وما كان عقوبة الله لهم ومسخهم على هذا الإثم مما أشارت إليه آيات سورة الأعراف [163- 166] .
ونحن نرجح هذا القول لأننا نراه أشدّ اتصالا بموضوع التحريم والتحليل حيث يكون في الآية إنذار وتنبيه للمسلمين على عدم السير في طريق اليهود لئلا يعاقبهم الله بما عاقب هؤلاء وحيث تبدو الصلة واضحة بين هذه الآية والآيات الأربع ثم بين الآيات الخمس وما قبلها أيضا.
ولسنا نرى هذا الترجيح متعارضا مع الحديثين اللذين رواهما البخاري ومسلم من حيث إنهما ليسا في صدد تفسير الآية.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي.
(2) أورد الحديثين ابن كثير والبغوي انظر التاج ج 1 ص 244- 245.
(3) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري وتفسير الخازن.(5/201)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[سورة النحل (16) : آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
. في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزام خطة الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل الله وجدال الناس في صددها بالحسنى وإيكال الأمر بعد ذلك إلى الله، فهو الذي يعلم من هو الضالّ عن سبيله ومن هو المهتدي.
ولم نطلع على رواية ما في صدد نزولها كذلك. ويتبادر لنا أن الصلة بينها وبين سابقاتها قائمة. فموضوع التحليل والتحريم وملّة إبراهيم مما يكثر الجدل فيه. ولعلّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أحرج وأثير غضبه في ذلك الموضوع في موقف من المواقف فاقتضت حكمة التنزيل بعد بيان حقيقة هذه الملّة وكونها طريق الله الحق التي أوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم باتباعها وكون ما أوحاه الله في صدد التحريم والتحليل هو الحقّ في هذه الملة أن يهدّأ النبي صلى الله عليه وسلم ويعلّم الخطة الحكيمة التي يحسن أن يسير عليها من جهة وأن يسلّى من جهة أخرى. فذوو القابليات الحسنة والقلوب السليمة لا بدّ من أن يدركوا الحقّ ويهتدوا به، وأضدادهم لا يدركون لأنهم يتعمدون المكابرة والعناد وليس على النبي صلى الله عليه وسلم من تبعتهم شيء وليس عليه إلّا أن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإذا صار جدال فينبغي أن يكون في نطاق الرفق واللين والحسنى.
تعليق على آية ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
ومع اتصال الآية بالسياق السابق وموضوعه كما قلنا فإن الخطة التي احتوتها والتي جاءت مطلقة عامة من جلال الشأن وبعد المدى في الذروة التي ليس بعدها شيء في صدد الدعوة إلى الإسلام الذي هو سبيل الله والتي تترشح بها الرسالة الإسلامية للشمول والخلود وهي مستمرة التلقين عامة المدى بحيث توجب على المسلمين في كل زمان ومكان أن تكون هي خطتهم في الدعوة إلى الإسلام وبحيث توجب أن تكون خطة كل داع إلى مبادئ الحق والخير التي هي من سبيل الله.(5/202)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
فالدعوة إلى ذلك إنما تنجح بهذا الأسلوب الحكيم الرائع. أما أساليب العنف والإكراه والإلزام والخشونة فلا تؤدي إلى نتيجة إيجابية سليمة.
ولقد قال بعض المفسرين «1» إن الآية قد نسخت بآيات القتال، كما قال بعض المغرضين من المبشرين والمستشرقين: إنها خولفت ونقضت حينما قوي النبي صلى الله عليه وسلم واشتد ساعده. وليس في هذا وذاك صواب فيما نرى، فالمبادئ التي تضمنتها آيات القتال المدنية متسقة مع هذه الخطة تماما. والقتال إنما شرع ضد المعتدين على المسلمين وليس لإكراه الناس على الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون) وعلى ما سوف نزيده شرحا في مناسباته.
وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المتواترة تكذب كل من يقول من الأغيار إن هذه الخطة قد نوقضت بل الحق الذي لا يماري فيه إلّا المكابر المغرض أنها روعيت أدقّ رعاية وأشدّها «2» .
[سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
. (1) وإن عاقبتم: بمعنى وإن قابلتم عملا بالمثل. وتستعمل في معنى المقابلة على الإساءة والعدوان.
في الآيات:
1- خطاب موجه للسامعين يؤمرون فيه بأنهم إذا أرادوا أن يقابلوا على
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي.
(2) اقرأ الجزء السادس والسابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي، العروبة في الإسلام تحت راية النبي والخلفاء الراشدين. واقرأ كتابنا سيرة الرسول من القرآن الجزء الثاني 49- 305 وكتابنا الدستور القرآني فصل النظام السياسي وفصل النظام الجهادي.(5/203)
الإساءة والعدوان فيجب أن يكون ذلك في حدود ما كان عليهم من ذلك بدون تجاوز ولا إسراف به مع تنبيههم إلى أن الأفضل لهم إذا صبروا فإن في الصبر خيرا للصابرين.
2- وأمر للنبي بالصبر وعدم الاستسلام للحزن وضيق الصدر من جراء مواقف المكر والإساءة التي يواجهها.
3- وتطمين له بأنه إذا صبر فإنما يجعل اعتماده على الله وأن الله مؤيد للذين يتقونه ويحسنون في أعمالهم.
تعليق على آية وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وما بعدها
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات الثلاث مدنية. وقد روى الطبري عن عطاء بن يسار أحد علماء تابعي التابعين أن الآيات الثلاث مدنية وأنها نزلت بعد وقعة أحد. فإن النبي عليه السلام لما قتل حمزة عمّه وبقر بطنه ومثّل به حزن كثيرا فأقسم لئن أظهرنا الله عليهم لنمثّلن بثلاثين منهم فلما سمع المسلمون قالوا:
والله لئن ظهرنا عليهم لنمثّلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط، فأنزل الله الآيات. وروى الطبري روايات أخرى من هذا الباب ولقد روى الترمذي حديثا عن أبيّ بن كعب جاء فيه: «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثّلوا بهم فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفّوا عن القوم إلّا أربعة» «1» . وهذه الروايات تؤيد مدنية الآيات كما هو واضح. ومع ذلك فإن الطبري روى عن بعض التابعين أن بعض المسلمين في مكة قالوا يا رسول الله لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب
__________
(1) التاج ج 4 ص 139- 140.(5/204)
فأنزل الله الآيات ثم نسخت بآيات الجهاد. وهذه الرواية تنقض رواية مدنية الآيات. وإلى هذا وذاك فإن الطبري روى عن بعض التابعين وتابعيهم أيضا أن الآيات مطلقة في صدد النهي عن مقابلة أحد على ظلامة ظلمها إلّا بمثلها مع تفضيل الصبر وأنها محكمة غير منسوخة، ثم قال: والصواب أن الله أمر في الآية الأولى النبي والمؤمنين بأن يعاقبوا من عاقبهم بمثل ما عاقبهم به إن اختاروا العقوبة، مع تفضيل الصبر وأنه سلّى في الآيتين الثانية والثالثة النبي عما كان من إعراض قومه عن دعوته ومواقفهم منه وما كان يطرأ عليه بسبب ذلك من حزن وضيق صدر. ولم تخرج أقوال وروايات المفسرين عن هذا «1» . وفي كلام الطبري الأخير وجاهة وصواب. فليس في مضمون الآيات ولا في سياقها قرينة يمكن أن تؤيد رواية مدنيتها كما أن حكمة وضعها في هذا المكان لا تكون مفهومة مع مضمون هذه الرواية. ولقد ذكرت وقعة أحد بشيء من الإسهاب في سورة آل عمران، فلو كان ما روي صحيحا لكان محل هذه الآيات هذه السور.
وأسلوب الآيات ومضمونها مما يؤيد مكيتها وقد تكررت الآيات المكية التي تضمنت ما تضمنته هذه الآيات، ومرّت أمثلة من ذلك. وفي سورة النمل آية فيها نفس العبارة التي جاءت في آخر الآية الثانية وهي: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وليس بين هذه العبارة وبين رواية حزن النبي على قتل عمه أي اتساق. لأنها تنهاه عن عدم الحزن من مواقفهم ومكرهم. وبترجيح مكية الآيات تبدو الصلة بينها وبين الآيات السابقة واضحة. فالآية السابقة لها مباشرة تأمر بالجدال بالتي هي أحسن إذا لزم الجدال وبالتزام الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل الله. فمما يتبادر أن تكون الآيات الثلاث قد جاءت معقبة على الآية السابقة لها وجزءا من السياق والموضوع. وكأنما أريد بها التنبيه على أن الخير كل الخير هو في تلك الخطة فإذا كان من الكفار من يشذ ويعنف ورأى بعض المسلمين ضرورة للمقابلة فلتكن في حدود المماثلة. والصبر مع ذلك هو الأفضل
__________
(1) انظر تفسير الآيات في البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(5/205)
وعلى النبي والمسلمين أن يملكوا زمام أنفسهم فلا يخرجوا عن حدّ الاعتدال ولا يحزنوا ولا يضق صدرهم بما يرونه من مكر الكفار ومواقفهم وتعنتهم. وعليهم بتقوى الله والعمل الحسن الذي يرضيه، وإنه لمع المتقين المحسنين.
وهكذا تكون الآيات الثلاث متممة للخطة الحكيمة الرائعة التي احتوتها الآية السابقة لها. وكما أن هذه الآية قد تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى على ما شرحناه في سياقها تكون الآيات الثلاث مثلها مستمرة التلقين.
وطابع الختام بارز على الآيتين الأخيرتين بخاصة مما هو مماثل لكثير من خواتم السور.
والجمع بين المتقين والمحسنين يتكرر هنا، وقد علقنا على ما في ذلك من دلالة هامة في مناسبة سابقة، وتكراره يدل على ما أعارته حكمة التنزيل لهذا الأمر من عناية هو جدير بها.(5/206)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
سورة نوح
هذه السورة قاصرة على رسالة نوح عليه السلام لقومه ومناجاته لربّه بسبب جحود قومه ومواقفهم من رسالته. وهي شاذة بين السور المعقودة على أسماء الأنبياء التي احتوت إلى قصة النبي المعقودة باسمه قصص الأنبياء الأخرى وفصولا وعظية وتذكيرية أخرى موجهة إلى كفار العرب. وهي شاذة كذلك بالنسبة للفصول القصصية التي جاءت في سور أخرى في معرض التذكير والتنديد. ومع ذلك فإن أسلوبها متماثل مع أسلوب القصص القرآنية، وأهدافها متسقة مع أهداف هذه القصص.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
.(5/207)
(1) يؤخركم إلى أجل مسمى: يؤخر محاسبتكم وعقابكم على ما قد تقترفونه من ذنوب.
(2) إلّا فرارا: إلّا تباعدا.
(3) استغشوا ثيابهم: وضعوا ثيابهم على رؤوسهم ليخفوا وجوههم.
والعبارة بقصد تصوير شدة انصرافهم عن الدعوة.
(4) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا: حدثتهم وهم مجتمعون ومنفردون وسرّا وعلنا.
(5) مدرارا: كثيرة التهطال.
(6) لا ترجون لله وقارا: لا تعترفون لله بالعظمة ولا تحسبون حساب قدرته ولا تقدرونه حقّ قدره ولا تطيعونه حقّ طاعته.
(7) أطوارا: على أشكال، أو بمعنى ما مرّ خلقكم فيه من أطوار من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلخ ...
(8) طباقا: بعضهم فوق بعض.
(9) فجاجا: واسعة.
(10) كبّارا: شديدا أو عظيما.
(11) لا تذرنّ: لا تتركوا.(5/208)
(12) ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر: أسماء آلهتهم أو معبوداتهم.
(13) ديّارا: من يعمر الدار ويسكنها.
(14) تبارا: هلاكا ودمارا.
عبارة آيات السورة واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد سردناها مرة واحدة لأنها مترابطة الأجزاء محبوكة الكلام.
وقد تضمنت:
1- تقريرا ربانيا بإرسال نوح إلى قومه لدعوتهم إلى الله وإنذارهم قبل أن يحلّ فيهم عذاب الله.
2- وحكاية أقوال نوح لقومه ونصحه لهم وترغيبه بمغفرة الله وأفضاله وتحذيره من عذابه ونقمته.
3- ومناجاة نوح ربّه متذمرا مما كان من قومه من الإعراض والتباعد عن الدعوة وشدة التصامم بالرغم مما كان منه من إلحاح في السر والعلن والانفراد والاجتماع والترغيب والترهيب والتذكير بنعم الله عليهم ولفت نظرهم إلى مشاهد قدرة الله وعظمته في الكون وفي أنفسهم، ثم مما قام به زعماؤهم وأغنياؤهم من مكر وتحريض على عصيانه وعدم استماع مواعظه، وتوصية الناس بالتمسك بمعبوداتهم وتقاليدهم، حيث كان لذلك أثر كبير في إضلال الناس، وموقفهم موقف العناد والكفر.
4- وحكاية مناجاة نوح ربّه بعد يأسه من قومه ودعائه على الكفار بالهلاك وعدم إبقاء أحد منهم لأنهم بلغوا من العناد والجحود إلى درجة لا أمل فيها لصلاحهم وصلاح نسلهم الذي سوف يسير على غرارهم بتلقينهم ثم حكاية دعائه لنفسه ولوالديه ولكل من آمن بدعوته ولكل مؤمن ومؤمنة.
والمتبادر أن الآية [25] ليست من حكاية قول نوح وإنما هي تقرير ربّاني حيث ذكرت أن قوم نوح أغرقوا بسبب ما ارتكبوه من آثام وخطايا، وأن مصيرهم(5/209)
الأخروي إلى النار أيضا ولن يجدوا لهم أنصارا ينصرونهم من الله وغضبه.
وآيات السورة قاصرة كما هو واضح على رسالة نوح لقومه، وهي من هذه الناحية شاذة بين سور القرآن المعقودة على أسماء الأنبياء والتي فيها حكاية رسالات الأنبياء الآخرين غير المعقودة عليهم أولا واحتوت مواعظ وتذكيرا وتعقيبا في صدد الرسالة المحمدية ومواقف العرب منها ثانيا.
ومع ذلك فإنه يلحظ في آيات السورة:
1- تماثل غير يسير بين أسلوب التذكير بنعم الله وأفضاله ومشاهد قدرته وبين أسلوب الآيات الكثيرة الموجهة إلى كفار العرب في سور عديدة.
2- وتماثل غير يسير بين مواقف كفار قوم نوح وتصاممهم ومكر زعمائهم وتحريضهم الناس على عدم الاستماع له وبين ما حكته آيات كثيرة في سور عديدة عن مواقف كفار العرب وزعمائهم، وقد مرّ من هذا وذاك أمثلة عديدة.
فهذا يلهم أن آيات السورة استهدفت فيما استهدفته تذكير العرب ودعوتهم إلى الاعتبار بقوم نوح وتأنيبهم على مواقفهم المماثلة لمواقفهم. وتسلية النبي والمؤمنين بأن مواقف كفار العرب ليست بدعا فإن قوم نوح أيضا وقفوا نفس الموقف فكانت عاقبتهم الهلاك.
ولابن العربي تفسيرات صوفية لبعض آيات هذه السورة في نص الحكم الذي عقده على نوح عليه السلام. من ذلك في آيات مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) يقول: (مما خطيئاتهم أغرقوا فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة، فأدخلوا نارا في عين الماء فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد) . وفي آيات:
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً (28) يقول: (إنك إن تذرهم أي تدعهم وتتركهم يضلوا(5/210)
عبادك أي يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظروا أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عبيدا فهم العبيد الأرباب. ولا يلدوا أي لا ينتجوا ولا يظهروا إلّا فاجرا أي مظهرا ما ستر كفّارا أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره فيظهرون ما ستر فيهم ثم يسترونه بعد ظهوره فيحار الناظر ولا يعرف قدر الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره والشخص الواحد. رب اغفر لي أي استرني واستر من أجلي فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك وما قدروا الله حق قدره ولوالدي كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة. ولمن دخل بيتي أي قلبي، مؤمنا أي مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية وهو ما حدثت به أنفسهم. وللمؤمنين من العقول والمؤمنات من النفوس ولا تزد الظالمين من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية إلّا تبارا أي هلاكا فلا يعرفون نفوسهم وشهودهم وجه الحق دونهم) .
وفي هذا من الشطح بل الهذيان الذي يبتعد به عن معنى الآيات الصريح الواضح وهدفها ويقلبهما رأسا على عقب ما هو ظاهر.
تعليق على أسماء معبودات قوم نوح
ويلحظ أن أسماء معبودات قوم نوح المذكورة في السورة عربية في صيغتها ومعناها وإن كانت تدل على أنها أقدم طورا من العربية الفصحى التي نزل بها القرآن حيث تبدو الصلة ملموحة بين يغوث، والغوث والغيث والإغاثة، ويعوق والإعاقة والتعويق. وسواع والسعة، وودّ والمودّة ونسر الذي هو اسم الطير الجارح المشهور. ولقد روى البخاري عن ابن عباس في سياق تفسير السورة حديثا جاء فيه: «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعده. أمّا ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل وأمّا سواع فكانت لهذيل وأمّا يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ. وأمّا يعوق فكانت لهمدان وأمّا نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسمّوها بأسمائهم ففعلوا(5/211)
فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت» «1» . وفي الروايات التي وردت في الكتب العربية وكتب التفسير بيانات أخرى بالإضافة إلى ما جاء في حديث ابن عباس. من ذلك أن سواعا الذي كانت تتخذه هذيل كان في رهاط من أرض ينبع.
وفي رواية أنه اسم صنم لهمدان وفي رواية أنه اسم صنم لذي الكلاع وكان على صورة امرأة وأن يغوث كان لمذحج وأهل جرش في اليمن وأن من عبدته بني غطيف من مراد وأنه ابن سواع وكان على صورة أسد وأن يعوق كان لهمدان وخولان في أرحب وفي رواية أن قبيلة خيوان كانت تعبده وأنه على شكل فرس.
وأن نسرا كان على شكل طير. وقد قرىء على كتابة لحيانية بالشين بدلا من السين. وأن ودّا الذي كان لبني كلب كان على صورة رجل، وقد قرىء على كتابات يمنية قديمة كمعبود من معبودات اليمن القديمة وكان يرمز إلى القمر. وقد رويت أسماء رجال جاهليين بأسماء بعض هذه الأصنام مضافا إليها كلمة (عبد) مثل (عبد ودّ) و (عبد يغوث) «2» .
وعلى كل حال فالمتبادر أن العرب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وقبله بقليل كانوا يتداولون بينهم أن هذه الأسماء هي أسماء معبودات قوم نوح ثم اقتبسوها وربما عربوها وسموا بها أصناما لهم. وكان ذلك في طور أقدم من طور العربية الفصحى التي نزل بها القرآن فاحتفظوا بها كما هي لأنها دخلت في نطاق القدسية الذي لا يسهل تجاوزه. وقد يدل هذا على أنهم كانوا يتداولون قصة نوح وقومه ومن هنا كان الإلزام واردا في صدد قصة نوح وهدفها في السورة وغيرها. وهذا بالإضافة إلى أنهم لا بد من أن يكونوا عرفوا هذه القصة من طريق أهل الكتاب الذين بين ظهرانيهم والذين وردت القصة في أسفارهم بإسهاب على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
__________
(1) التاج ج 4 ص 245.
(2) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي، ج 5 ص 82 وما بعدها.(5/212)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
سورة إبراهيم
في السورة تقرير لمهمة النبي، وحملة على كفار العرب وبخاصة زعمائهم وتذكير ببعض الرسل السابقين ومواقف أممهم منهم. وإنذار بالمصائر السيئة التي صاروا إليها وتقرير كون الإيمان هو أساس كل عمل صالح وطريق قويم وكون الكفر هو محبط لكل عمل ومورد للهلاك. وتنديد بما انطبع عليه الناس من الكفر والجحود لنعم الله وحكاية لمناجاة إبراهيم ربه وحملته على الأصنام وتقريع صارم للظالمين في معرض تثبيت النبي وتطمينه.
وفصول السورة مترابطة تبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة، أو فصولا متلاحقة. وقد روي أن الآيتين [28 و 29] مدنيتان ومضمونهما وانسجامهما مع السياق يسوغان الشك في الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
. (1) يبغونها عوجا: يريدون أن يجعلوا سبيل الله معوجة منحرفة أو يريدون أن يجعلوا الناس يسيرون على طريقة معوجة منحرفة.
ابتدأت آيات السورة بالحروف المتقطعة للتنبيه والاسترعاء على ما رجحناه(5/213)
في أمثالها وتبعها تنويه بالقرآن جريا على أسلوب معظم المطالع المبتدئة بالحروف المتقطعة.
وعبارة الآيات واضحة. والمتبادر أن الآية الأولى في صدد تشبيه الناس بدون رسالة نبوية من قبل الله وكتاب رباني كمن هم في ظلمات دامسة لا يستبينون طريق الحق المستقيم الواضح في عقائدهم وسلوكهم، ثم في صدد التنويه بحكمة الله ورحمته التي اقتضت أن يرسل رسوله ويوحي إليه بآيات كتابه ليخرج الناس من تلك الظلمات وينير لهم سبيل الحق في كل ما يتعلق بأمور الدين والدنيا معا ويدعوهم إلى السير فيها.
وقد احتوت الآيتان الثانية والثالثة حملة قوية على الكافرين الذين يجعلهم حبّهم وتفضيلهم متع الحياة وشهواتها على الآخرة يقفون موقف الكفر والصدّ من كتاب الله ودعوة رسوله مع ما فيهما من قصد إخراجهم من الظلمات إلى النور ويبذلون جهدهم لإبقاء الأمور معوجة منحرفة.
وفي الآية الثالثة توكيد لما تكرر تقريره في القرآن ومرّ منه أمثلة من كون موقف الجحود والمناوأة الذي وقفه الكفار من الرسالة المحمدية متصل بجحودهم الآخرة وتعلقهم بالدنيا. وفي هذا تنطوي حكمة من حكم التنزيل فيما احتوته آيات عديدة من التهوين بالدنيا ومتاعها والترغيب في ما عند الله عزّ وجل، مما مرّ منه أمثلة ويأتي فيما بعد أمثلة عديدة أخرى.
وجملة وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تلهم أن الحملة موجهة بنوع خاص على الزعماء الذين يتولون كبر معارضة النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعون الناس عن اتباعه كما هو المتبادر.
دلالة جملة لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ على عموم الرسالة المحمدية
وتعبير النَّاسَ وإن كان يطلق على مختلف فئات السامعين أو أي مجتمع فإن وروده في الآيات مطلقا يتضمن معنى التقرير بأن دعوة النبي هي عامة لجميع(5/214)
الناس في كل ناحية من أنحاء الأرض لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وهذا المعنى مؤيد بآيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. بل أكثر من هذا فإن القرآن قد رشحها لتكون دين العالم جميعه الظاهرة على جميع الأديان ورشح معتنقيها ليكونوا خير أمة أخرجت للناس وخلفاء الأرض قاطبة كما ترى في هذه الآيات:
1- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28] .
2- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور: 55] .
3- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .
4- الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 41] .
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) [4] .
عبارة الآية واضحة، وقد احتوت تعليلا لإرسال الله رسله من قومهم حتى يبينوا لهم رسالة الله بلسانهم.
وقد يبدو في كلّ من فقرتي الآية إشكال، أما إشكال الفقرة الثانية فإنه يزول بالحملة الإنذارية بالعذاب والتعنيف للكافرين في الآيات السابقة واللاحقة وفيما ورد في آيات أخرى من تقييد بأن الله إنما يضلّ الفاسقين والظالمين ويهدي إليه من(5/215)
أناب، على ما تكررت الإشارة إليه في المناسبات العديدة المماثلة. والراجح أنها هنا على سبيل تطمين النبي عليه السلام وتسليته. فمهمته هي مهمة الرسل من قبله، وهي التبيين فمن كانت فيه رغبة صادقة بالإيمان والإنابة اهتدى ومن فقدت فيه ضلّ فلا موجب لاهتمامه وحزنه. وقد تكرر هذا كذلك في سور عديدة لتكرر المواقف الداعية إليه.
تعليق على جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ
وإشكال الفقرة الأولى آت من إيهامها أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قومه وحسب في حين أن القرآن احتوى آيات كثيرة فيها صراحة قطعية على أنها لعموم البشر ومرشحة لتكون دين العالم أجمع على ما ألمعنا إليه آنفا. غير أن ما احتوته الآيات التالية من التمثيل والتذكير والموعظة أولا وكون السياق هو في نطاق الحملة الموجهة إلى كفار قوم النبي مباشرة يزيلان هذا الإشكال. ولقد كان العرب يحاجون في كون القرآن باللغة العربية في حين أن الكتب السماوية المعروفة بغير هذه اللغة، ويحاولون أن يدللوا بذلك على أن القرآن ليس من عند الله، على ما شرحناه في سياق تفسير سورة فصلت، فاقتضت حكمة التنزيل على ما هو المتبادر الإيحاء بالآية للتعليل والإفحام الجدلي.
وقد مرّ في سورتي الشورى والأنعام آيات تذكر أن الله أنزل الكتاب على نبيه عربيا لينذر أم القرى ومن حولها. وهذه من هذا الباب. وليس من شأنها أن تتعارض مع الآيات الصريحة القطعية بعموم الرسالة المحمدية.
ومن عجيب الأقوال التي قيلت في صدد التوفيق بين جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وبين عموم الرسالة ما أورده السيوطي في الإتقان نقلا عن الواسطي أن في القرآن جميع لهجات العرب في الحجاز واليمن والشام والعراق ونجد واليمامة «1» كما أن فيه من اللغات الفارسية والرومية والقبطية
__________
(1) في الإتقان تعداد لهذه اللهجات بأسماء قبائلها وقد بلغ عددها خمسين!.(5/216)
والنبطية والحبشية والبربرية والعبرانية والسريانية من حيث إن الله أرسل نبيه إلى جميع الأقوام فاحتوى القرآن من جميع اللغات. وقد يكون حقا أن لهجة قريش التي كانت لهجة النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته في الدرجة الأولى والتي نزل بها القرآن متطورة مع الزمن عن لهجات العرب قبل نزول القرآن لأسباب وعوامل مختلفة. وقد يكون حقا أن في القرآن ألفاظا معربة من اللغات الأعجمية من فارسية ورومية وعبرانية وسريانية وقبطية أعلاما وغير أعلام دخلت على اللهجة العربية القرشية وجرت مجراها وصارت جزءا منها قبل نزول القرآن كذلك. غير أن العجيب في الأمر الذي لا يؤيده عقل ولا نقل أن يقرر كون ذلك للتوفيق بين عموم الرسالة المحمدية وبين نزول القرآن باللغة العربية واللهجة القرشية. والدراسات أثبتت أن هذه اللهجة كانت هي الشاملة إجمالا لجميع العرب في جميع أنحاء جزيرة العرب وأطرافها حين نزول القرآن بل قبل نزوله بمدة غير قصيرة ومن الأدلة القرآنية على ذلك وصف غير اللغة العربية التي نزل بها القرآن باللغة الأعجمية في آية سورة النحل هذه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) والآيات العديدة التي ذكر فيها أن الله قد جعله عربيا وأنزله عربيا لقوم يعلمون ويعقلون ولعلهم يعلمون ويعقلون كما جاء في آيات سور فصلت [3 و 43] والشورى [7] والشعراء [193- 195] والرعد [37] ويوسف [2] والزمر [27- 28] وآيات الزمر مهمة في بابها حيث تنطوي على تقرير كون القرآن مأنوسا لا تعقيد فيه ولا عوج يفهمه جميع الناس على ما شرحناه في سياق تفسيرها. ومن الأدلة المتواترة اليقينية أن القرآن كان يتلى على مختلف فئات العرب على اختلاف منازلهم في أنحاء الحجاز وغير الحجاز من جزيرة العرب وأطرافها فكانوا يفهمونه ويجادلون فيه وأن النبي كان يتحدث إليهم ويكتب لهم بلسانه في العهد المكي ثم في العهد المدني وبدليل أن ما أثر وعرف يقينا من كلام العرب قبل الإسلام والعائد إلى مائة سنة هو مماثل في ألفاظه ومفرداته وتراكيبه لألفاظ ومفردات وتراكيب القرآن.
ولقد وقف المفسرون أمام إشكال كون القرآن عربيا وكون رسالة النبي محمد(5/217)
التي يمثلها القرآن هي لجميع الأقوام فقالوا فيما قالوه إن الترجمة كفيلة بإبلاغ القرآن والرسالة المحمدية إلى غير العرب، وإنه لما كان من غير المعقول أن ينزل القرآن بلغات جميع الأمم فكان الأولى أن ينزل بلغة الرسول الذي أنزل عليه فيكون الناس تبعا للمؤمنين من قومه ويبلغون الرسالة بالترجمة «1» . وهو حق. ويحسن أن يضاف إليه ما يكون في ذلك من وسيلة إلى انتشار اللسان العربي أيضا. فما دام القرآن قد رشّح الدين الإسلامي ليكون دين العالم أجمع على ما ذكرناه قبل قليل فإن اللسان العربي الذي هو لسان قرآن الله وسنّة نبيه يكون مرشحا بالتبعية ليكون لسان العالم أجمع أيضا. وقد تكون الترجمة الوسيلة الأولى للدعوة بالنسبة لمن يجهل العربية. ولقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم مهمة دعوة غير العرب ممن يعرفون العربية وممن لا يعرفونها معا، وأرسل لهؤلاء رسله وكتبه بالعربية اعتمادا على الترجمة بطبيعة الحال. وكان ملوك فارس والروم ومصر والحبشة من جملة من أرسل إليهم رسله وكتبه. وإذا كان التاريخ الوثيق لم يرو أنه قابل أناسا يجهلون اللغة العربية من كتابيين وغير كتابيين مواجهة، فمما لا شك فيه أن أصحابه الذين منهم من قاد حملات الفتح ومنهم من اندمج فيها قد قابلوا من أهل الشام ومصر والعراق وفارس أناسا لا يعرفون العربية وأنهم بلغوهم الرسالة المحمدية والقرآن العربي بالترجمة وأن من انضوى إلى الإسلام منهم وهم كثيرون قد انضووا نتيجة لذلك.
ثم استمر هذا بعد دور الخلفاء الراشدين وما يزال إلى اليوم مستمرا يبلغ المسلمون القرآن والسنّة المحمدية إلى غير العرب بطريق الترجمة فيقبل الناس على الانضواء إليها في مشارق الأرض ومغاربها.
ولقد حمّل القرآن الأمة العربية مهمة نشر الرسالة الإسلامية على ما شرحناه في سياق سورة الزخرف لأنهم هم الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم منهم، ولسانهم هو لسانه ولسان القرآن الذي أنزله الله عليه. ولقد قام المسلمون الأولون من العرب بالمهمة خير قيام فدانت بالإسلام غالبية البلاد المفتوحة التي كانت ممتدة في أوائل القرن
__________
(1) انظر تفسير الآية في الزمخشري والبغوي والخازن مثلا.(5/218)
الثاني الهجري من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين والهند شرقا ومن جبال القفقاس وأرمينية وبحري قزوين والخزر وهضبة تركستان شمالا إلى بلاد السودان والحبشة والصومال جنوبا وشملت فيما شملت قسما من غرب أوروبا وسواحلها الجنوبية والغربية وجزر البحر الأبيض المتوسط. وكان انتشار اللغة العربية يسير سيرا سريعا في الوقت نفسه في مختلف أنحاء هذه المساحة الشاسعة والواسعة مع انتشار الإسلام لأنها لغة الدين الذي أقبل أهلها على اعتناقه والذي لا يفهم فهما صحيحا إلّا من منابعه وهي القرآن والحديث وبلغته الأصلية فضلا عن وجوب تلاوة القرآن باللسان العربي الذي أنزله الله به في الصلاة وفضلا عن أن هذا اللسان هو لسان الحكام في البلاد، حتى غدت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة تقريبا لأهالي البلاد التي تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي والتي ظلت تحت السلطان العربي بدون انقطاع وغدا نصف مفردات لغات الأمم الأخرى التي في شرق هذه الساحة وغربها وجنوبها وشمالها والتي حالت المنازعات والمنافسات بين العرب دون بقاء سلطانهم فيها حيث يبدو من هذا صحة ما قلناه من أن اللغة العربية كانت مرشحة لتكون لغة العالم تبعا لترشح الإسلام ليكون دين العالم.
ولم يتوقف انتشار الإسلام قط- واللغة العربية تبعا له- برغم ضعف السلطان العربي في القرن الثالث الهجري وبعده بل إن عدد الذين دانوا بالإسلام في هذا الدور بلغ أضعاف من دانوا به في دور قوة السلطان العربي وتجاوز الحدود التي وقف عندها إبّان قوة هذا السلطان إلى آفاق بعيدة في الصين والهند وجزر المحيط الهندي والمحيط الكبير مثل أندونيسيا والفلبين واليابان وفي أواسط إفريقية وفي أوروبا وأميركا الجنوبية والشمالية بفضل استمرار المسلمين العرب ومن غدا في حكمهم من المستعربين على القيام بالمهمة التي حملهم إياها القرآن لأن عناصر الاستجابة إليه ليست القوة والغلبة ولكنها المبادئ السامية الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والإنسانية التي انطوت فيه وفي الأحاديث النبوية المتساوقة والتي لا تحتاج إلّا إلى قلوب صافية ونوايا حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى مجردة عن العناد والأنانية والمآرب ثم إلى دعاة مخلصين. ولسنا نشك في أن الله(5/219)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
سيظل يقيض لدينه الدعاة المخلصين وييسر الظروف والسبل حتى يتحقق وعده بإظهاره على الدين كلّه لأنه شرعه وأرسل نبيه به ليكون هدى ورحمة للعالمين، وستظل اللغة العربية تنتشر معه بإذن الله.
وواضح مما تقدم أن المسلمين الأولين من عرب ومستعربين لا بدّ من أنهم قد ترجموا القرآن إلى لغات عديدة لأن ذلك كان الوسيلة الأولى إلى عرضه على الأمم ودعوتها إلى الإسلام. غير أنه ليس هناك على قدر ما نعلم ترجمات قديمة يصح أن تكون مرجعا كما أننا لا نعلم أن الترجمات القديمة كانت للحروف أو المعاني. والفرق مهم بين الأمرين. وهناك من يقول قديما وحديثا باستحالة الترجمة الحرفية أو عدم جوازها. وقد يكون في هذا صواب ووجاهة غير أنه لم يمنع كثيرا من الأفراد مسلمين وغير مسلمين في زماننا وما قبله من ترجمة القرآن بلغات عديدة ترجمة حرفية في بعضها كثير من الأغلاط والتحريف المقصود وغير المقصود. ولما كان واجب عرض القرآن على الأمم غير العربية والدعوة إلى الإسلام هو واجب مستمر ثمّ لما كان كثير من المسلمين من غير العرب لا يزال يجهلون العربية وهم في حاجة لا مناص منها إلى فهم القرآن بلغاتهم فإن هذا وذاك يقتضيان أن يكون للقرآن ترجمات رسمية بلغات عديدة يوقف عندها وتكون مرجعا.
وهو ما يجب على الدول الإسلامية أن تتفق على تحقيقه حتى لا يظل الأمر فوضى ويترك الميدان لمن يقتحمه من أفراد مسلمين وغير المسلمين بحيث تؤلف هيئة إسلامية تنظر أولا في أمر جواز وإمكان الترجمة الحرفية ثم تشرف على الترجمة الحرفية أو ترجمة المعاني حسب ما تتفق عليه بعد التمحيص والدراسة إلى لغات عديدة فتكون الترجمات التي تنبثق عن ذلك هي الصحيحة الصادقة التي يوقف عندها.
مع التنبيه على أن هذه الترجمات هي للدعوة والفهم وليست للصلاة التي لا يجوز أن تؤدى بغير قرآن عربي مبين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة الشعراء.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
.(5/220)
(1) أيام الله: بمعنى عذاب الله في الأمم السابقة. وتعبير الأيام عند العرب يعني الحروب ووقائعها والشدائد والمصائب.
(2) تأذّن: قطع على نفسه عهدا.
في الآيات تذكير برسالة موسى لقومه: فقد أرسله الله بآياته ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويذكرهم بأيام الله مع غيرهم. وقد قام بالمهمة فذكّر قومه بنعم الله عليهم حيث نجاهم من عذاب فرعون الذي كان من جملته تذبيح ذكورهم واستحياء نسائهم واستعبادهن. وقال لهم فيما قال إن الله قد أخذ عهدا على نفسه بأن يزيدهم من نعمه إذا هم أدوا حقه من الشكر كما أنه أعدّ لهم عذابه الشديد إذا كفروا، وقرر لهم أن شكرهم وكفرهم إنما يعود نفعهما وضررهما عليهم وحدهم وأنهم لو كفروا هم ومن في الأرض جميعا لما أزعجوا الله الذي هو غني عن كلّ أحد والذي هو المحمود بذاته سواء شكره الناس أم لم يشكروه.
والمتبادر أن الآيات جاءت بمثابة تعقيب على موقف الكفار العرب والحملة عليهم مما هو متسق مع أسلوب سياق القصص القرآنية. فكفار العرب انحرفوا عن الطريق الحق فأرسل الله رسولا منهم يخاطبهم بلغتهم ليهديهم- على ما جرت عليه سنّته- ومن ذلك رسالة موسى إلى قومه. ويلفت النظر إلى التشابه في الخطاب حيث احتوى مطلع السورة أن الله أنزل الكتاب على النبي ليخرجهم من الظلمات إلى النور وأن هذا كان شأن موسى أيضا. ولقد كان العرب يعرفون رسالة موسى وقصصه في قومه وفي فرعون فجاء التذكير محكما ملزما. وقد تكون حكمة التنزيل(5/221)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
استهدفت في حكاية الخطاب الذي وجهه موسى عليه السلام لقومه تنبيه السامعين من قوم النبي وجعلهم يأخذون منها عظة وعبرة. فإن شكروا زادهم الله نعمة وإن كفروا فإن الله غني عنهم وعن غيرهم. وإن صحّ استلهامنا هذا ففيه ما يدعم ما قررناه قبل من انطواء الآية السابقة على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه.
تعليق على جملة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
وهذه الجملة جديرة بالتنويه لذاتها ولو أنها حكاية قول موسى عليه السلام لقومه. وورودها في القرآن مؤيد لنسبتها إلى الله. وقد تضمنت عهدا من الله بمقابلة الشاكرين لنعمه بالزيادة والرعاية. وفي ذلك ما فيه من بشرى ورحمة وحثّ على الشكر الذي يستوجب دوام نعم الله والمزيد منها ويستوجب إلى ذلك ذكر الله وتقواه وابتغاء رضائه. وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى يضاف إلى ما في الشكر مطلقا من تلقين وعلاج روحي على ما شرحناه في سياق سورة لقمان.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 17]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
.(5/222)
(1) فردّوا أيديهم في أفواههم: كناية عن منع الرسل من الكلام على ما يفعله المرء حينما يسمع شيئا غريبا أو حينما يستهزىء بشيء أو يكذبه. وقيل إنها بمعنى أن الكفار عضّوا على أصابعهم تعجبا.
(2) سلطان: هنا وفي كثير من آيات القرآن بمعنى الدليل والبرهان.
(3) استفتحوا: استنصروا وطلبوا الفتح والنصر على الأعداء. ويحتمل أن يكون ضمير الجمع راجعا إلى الكفار كما يحتمل أن يكون راجعا للرسل ويحتمل أن يكون راجعا للفريقين أي أن كلا منهما طلب النصر على خصمه فنصر الله رسله وخيّب كل جبّار عنيد.
(4) ماء صديد: ماء نتن. والصديد هو السائل النتن الذي يخرج من البثور والجروح والدمامل.
قال الطبري: إن الآيات استمرار لحكاية خطاب موسى لقومه. وتابعه مفسرون آخرون وتوقف ابن كثير في ذلك ورجح أنه كلام مستأنف وليس من كلام موسى. وقال إن في كلام ابن جرير نظر فإنه قيل إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم لاقتضى أن تكون هاتان القصتان في التوراة ثم فوّض الأمر إلى علم الله. والعبارة القرآنية في حد ذاتها تحتمل القولين. وفي سورة غافر آية تحكي عن لسان مؤمن آل فرعون خطابا موجها إلى قومه فيه تذكير لهم بما وقع على قوم نوح وعاد وثمود بسبب كفرهم بالله ورسالاته. حيث يسقط بذلك ما حاول ابن كثير أن يتفاداه بسبب عدم ورود(5/223)
قصة عاد وثمود في التوراة. ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة غافر بما يغني عن التكرار.
وعبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية ما كان بين الرسل وأقوامهم من أخذ ورد وحجاج ولجاج وتحدّ وتهديد ووعيد وانتهت بتقرير خيبة كل جبار عنيد وخزيه في الدنيا وشدّة ما ينتظره في الآخرة من عذاب وأهوال. واستهدفت كما هو المتبادر تذكير السامعين الكفار بعاقبة الكفار العنيدين الأولين في الدنيا وما سوف تكون عاقبتهم في الآخرة وإثارة الخوف والارعواء فيهم، وفيها كما في سابقتها معنى التعقيب على آيات السورة الأولى التي حكت موقف كفار العرب كما هو المتبادر أيضا.
ويلفت النظر إلى التماثل بين ما تحكيه الآيات من موقف كفار الأمم السابقة وأقوالهم وما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من موقف كفار العرب وأقوالهم ومجادلتهم وتهديدهم للنبي والمؤمنين بالإخراج وأذيتهم لمن يقدرون على أذيته منهم. وكذلك التماثل بين ما تحكيه من أقوال الأنبياء وردودهم وبين ما حكته آيات عديدة مرت أمثلة منها من موقف النبي وردوده على الكفار بلسان القرآن.
وواضح أن هذا التماثل يزيد في قوة تأثير الآيات في السامعين من جهة وفي تطمين النبي والمؤمنين وتسليتهم من جهة أخرى، وهو ما استهدفته الآيات كما هو المتبادر.
وجملة أَفِي اللَّهِ شَكٌّ جديرة بالتنويه. فكفار الأمم السابقة يقولون لأنبيائهم إننا في شك مما تدعوننا إليه ويطلبون برهانا على صحة دعوتهم فيحكي القرآن ردّ الأنبياء بأن دعوتهم إلى الله ولا يصح أن يكون في الله شكّ وهو فاطر السموات والأرض حتى يطلبوا برهانا على صحة الدعوة إليه.
وهذا مماثل لموقف القرآن من كفار العرب فكما طلبوا الآيات والخوارق كدليل على صحة رسالة النبي أجيبوا بما يفيد أن الدعوة إلى الله وأنها لا تحتاج إلى(5/224)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
آيات وخوارق لأن آيات الله الماثلة أمامهم والتي يرونها ويحسونها في مشاهد الكون العظيم ونواميسه وفي أنفسهم كافية شافية لمن كان حسن النية صادق الرغبة في الإيمان بالله وحده. والمتبادر أن هذا قد حكي على لسان الأنبياء السابقين ليكون فيه لكفار العرب الإلزام والإفحام.
والآيات الأخيرة بخاصة تضمنت تطمينا قويا للنبي والمؤمنين وبشرى تحققت معجزتها بعد الهجرة إلى المدينة حيث أهلك الله رؤساء الكفار وجبابرتهم العنيدين ومكّن للنبي والمؤمنين في الأرض وشملهم بعطفه ورحمته.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية [17] حديثا نبويا بطرقه عن أبي أمامة جاء فيه: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عز وجل وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: 15] ويقول: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ [الكهف: 29] » حيث ينطوي في الحديث توضيح نبوي استهدف الإنذار والترهيب فيما استهدفه كما هو شأن الآية.
[سورة إبراهيم (14) : آية 18]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
. في الآية تشبيه لأعمال الكفار بالرماد الذي يتعرض لريح شديدة. فكما أن الريح تذري ذرات الرماد فلا يبقى منها شيء فإن كفر الكفار يحبط كل عمل يصدر منهم ويذهب به فلا يكون لهم منه أي نفع وخير. وهذا خسران ليس بعده خسران وضلال ليس بعده ضلال.
والمتبادر أن الآية جاءت معقبة على سابقاتها وأن المقصود منها هو إيذان بحبوط أي عمل مهما كان فيه خير ومكرمة، أو أريد به ذلك ما دام صاحبه كافرا.
وقد تضمنت كما هو واضح تلقينا جليلا متصلا بالدعوة الإسلامية وهو أن كل عمل لا يكون صاحبه مؤمنا بالله متجها إليه وحده لا فائدة منه عند الله لأنه لا يكون(5/225)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
صادرا عن قلب طاهر سليم. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها.
ومن مفارقات غلاة مفسري الشيعة العجيبة قولهم في صدد هذه الآية إنها مثل مضروب لمن لم يقرّ بولاية علي فإنه يكفر ويبطل كل عمل له «1» ... ومؤدى الرواية أن عليّا هو ربّ الناس.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
. (1) عزيز: هنا بمعنى ممتنع أو متعذر.
المتبادر أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآية السابقة. والخطاب فيهما موجه إلى السامعين وإن كان جاء في أول الآية الأولى بصيغة المفرد وفي آخرها بصيغة الجمع بل ولعلّه موجه إلى الكفار منهم. والسؤال الذي بدأت به الآية الأولى في معنى تقرير أمر يعرفه أو يعترف به السامعون. وهكذا تكون الآية الأولى قد تضمنت تقريرا بكون السامعين يعترفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض وبكون ذلك يستتبع أن يكون قد خلقهما بالحق وأن يكون قادرا على إفناء السامعين والناس والإتيان بخلق جديد، وأكدت الآية الثانية قدرة الله على ذلك وعدم عجزه عنه وامتناعه منه.
والمتبادر أن المقصود من كلمة الحق في مقامها تقرير كون الله عز وجل لم يخلق السموات والأرض عبثا وإنما خلقهما لحكمة سامية، وهو ما قررته آيات كثيرة مرّت أمثلة منها. وعلى ضوء الآية السابقة للآيتين وعلى ضوء تلك الآيات التي منها آيات سورة الذاريات هذه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ما
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي، ج 2 ص 70. [.....](5/226)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) يمكن أن يقال إن هذا تضمن تقرير كون من حكمة الله أن يؤمن الناس بالله ويتجهوا إليه وحده فإذا لم يفعلوا ذهبت أعمالهم هباء عنده واستحقوا غضبه.
ولما كان كفار العرب يعترفون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، على ما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها فتكون الحجة في الآيتين دامغة مفحمة لهم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 22]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
. (1) الضعفاء: هنا بمعنى العوام التابعين لتوجيه الزعماء والرؤساء، وهم الذين عنتهم جملة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا.
(2) مغنون عنا: نافعون لنا أو دافعون عنا.
(3) ما لنا من محيص: ما لنا من مفرّ وخلاص سواء أجزعنا أم صبرنا.
(4) ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ: بمعنى ما أنا بناصركم وما أنتم بناصريّ والتعبير من تعابير العرب القديمة ويعني الاستجابة إلى دعوة النصر وتلبية الصارخين في طلب المساعدة.
احتوت الآيات صورتين عما سوف يكون من مصير الكفار يوم القيامة:(5/227)
1- فحينما يعرضون على الله ويقفون للقضاء والجزاء سيشعرون بالندم ويدركون هول ما هم مقبلون عليه فيبادر العوام الذين استجابوا لتوجيه الزعماء والكبار إلى زعمائهم قائلين لهم في معرض العتب والتثريب: إنا كنا لكم في الدنيا تبعا واستجبنا لتوجيهكم فكذبنا رسل الله وتصاممنا عن دعوتهم فهل أنتم دافعون عنا شيئا من عذابه؟ فيجيبهم هؤلاء يائسين: إنّا لو هدانا الله لهديناكم! فنحن وإياكم في الموقف سواء وليس لنا ولا لكم مفرّ منه سواء أجزعنا أم صبرنا.
2- وحينما ينتهي القضاء الرباني فيهم ينبري لهم الشيطان فيخاطبهم قائلا في معرض التنديد والتبكيت أيضا: إن الله قد وعدكم وعد الحقّ وحقق ما وعد ووعدتكم فلم أحقق لكم شيئا. ولم يكن لي عليكم سلطان قاهر وقصارى ما فعلت أني دعوتكم إلى الانحراف والاعوجاج عن طريق الهدى والحق فسارعتم إلى الاستجابة فلا تلوموني ولوموا أنفسكم على ما صرتم إليه. وليس من أحد منا قادرا على إنقاذ الآخر ونصره، وإني أعلن براءتي من شرككم لي وأجحده.
وحينئذ يهتف الحق: ألا إن الظالمين الذين بغوا وأجرموا وجحدوا قد استحقوا عذاب الله الأليم.
والمتبادر أن الآيات متصلة بسابقاتها التي احتوت حكاية مواقف الكفار. وقد تضمنت كنتيجة لهذه المواقف بيان مصيرهم الأخروي. وأسلوبها قوي في اللذع والتصوير ومن شأنه إثارة الخوف والرهبة في الكافرين وحملهم على التذكر والتدبر والارعواء قبل مواجهة المصير الرهيب، وهذا مما استهدفته كما هو المتبادر مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي المغيب.
ولقد تكررت حكاية عتاب الضعفاء للزعماء والكبار والمحاورة بينهما بين يدي القضاء الرباني الأخروي مما يدل على ما كان لهؤلاء على أولئك من تأثير.
والمتبادر أنها تستهدف حمل الضعفاء على ليّ وجوههم عن الزعماء وجعلهم يدركون أنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا.
أما حكاية خطاب الشيطان للكفار فالمتبادر أن من المقصود بها دمغ الكفار(5/228)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
بدمغة اتباع الشيطان الذي له في أذهانهم صورة بغيضة، وتقرير كون الشيطان نفسه سوف يتبرأ منهم يوم القيامة، وفي هذا غاية التقريع والتبكيت.
والمتبادر أن مما استهدف من ذلك حمل الكفار على الارعواء عما هم فيه من ضلال، زعماؤهم وعوامهم على السواء.
وفي الآيات توكيد ضمني لمعنى متكرر في القرآن وهو حرية الناس في الاختيار واستحقاقهم لمصائرهم وفقا لهذا الاختيار.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربّنا فمن يشفع لنا؟ فيقولون:
انطلقوا بنا إلى آدم فلم ير أن يتقدم للشفاعة ثم إلى الأنبياء الآخرين وحينما يصلون إلى عيسى يقول لهم هل أدلّكم على النبي الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمّها أحد قط حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظهر قدمي. ثم يقول الكافرون هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلّا إبليس هو الذي أضلّنا فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمّها أحد ثم يقول لهم ما حكته عنه الآية [22] » . والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة «1» . فإذا صحّ فيكون من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما استهدفته الآيات من إنذار وتبكيت للكفار وتطمين للمؤمنين. على أن خبر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وارد في أحاديث صحيحة، أوردنا بعضها وعلقنا عليها في سياق سورة الإسراء.
[سورة إبراهيم (14) : آية 23]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) .
__________
(1) أشار إلى هذا الحديث الطبري والبغوي أيضا ولكن نصه الكامل ورد في تفسير ابن كثير فقط فقلناه عنه.(5/229)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
احتوت الآية بيان مصير المؤمنين الصالحين في الآخرة مقابلة لمصير الكافرين الظالمين. وجاءت بصيغة الماضي للسياق السابق. ولا شك في أنها استهدفت فيما استهدفته بثّ الطمأنينة في نفوس المؤمنين وإثارة الرغبة في غيرهم وقد تكرر ذلك أسلوبا وصيغة كثيرا في حكاية المواقف المماثلة ومرّ منه أمثلة عديدة.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
. (1) أصلها: كناية عن جذورها.
(2) فرعها: كناية عن ارتفاعها في الجو.
(3) اجتثّت: اقتلعت. والجملة التي فيها الكلمة لبيان عدم إمكان استقرار الشجرة في الأرض حينما تكون رديئة الجنس والصنف وبيان سهولة اقتلاعها.
ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين روايات متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم عن مدى بعض العبارات الواردة في الآيات. من ذلك حديث نبوي عن أنس رواه الترمذي أيضا بصيغة جامعة فنقلناها عنه. وقد جاء فيها:
«أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب فقال مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها قال هي النخلة. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار قال هي(5/230)
الحنظل» «1» . ومن ذلك في مدى كلمتي (الطيبة والخبيثة) حيث قيل إن الأولى هي كلمة التوحيد أو الإيمان أو المؤمن أو العمل الصالح مطلقا. وإن الثانية هي الشرك أو الجحود أو البغي والظلم، وكل هذه الأقوال وجيهة.
وعلى ضوء ذلك وضوء فحوى الآيات وروحها نقول إن الآيات الثلاث الأولى نبهت السامع إلى التشابه بين الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة وبين الكلمة الخبيثة والشجرة الخبيثة كمثل مضروب للتذكير والعظة. فكما أن الشجرة الطيبة الجنس هي التي ترسخ في الأرض وتعلو في الجو وتنمو على أحسن وجه وتؤتي ثمرا طيبا في كل موسم بدون إخلال كذلك الكلمة الطيبة هي التي تكون ذات أثر مفيد صالح ومستمر في كلّ وقت ومجال. وكما أن الشجرة إذا خبث جنسها لا ترسخ في الأرض ولا تعلو في السماء ولا تؤتي إلّا أردأ الثمر وتقتلع بسهولة، كذلك الكلمة الخبيثة فإنّها لا قرار ولا ثبات لها ولا نفع فيها.
أما الآية الرابعة فهي في مثابة التوجيه والتعقيب: فالذين آمنوا بالله يثبتهم الله بالقول الثابت الصالح النافع في الدنيا والآخرة. وأما الظالمون أي الذين فسدت قلوبهم ودرجوا على البغي والإجرام والانحراف فهم محرومون من هذه العناية الربانية بسبب ظلمهم. والذي يريده الله هو الذي يكون على النحو الذي يشاؤه.
وورود الآيات بعد بيان مصير كل من المؤمنين والكافرين في الآخرة يجعل الصلة بينها وبين ما قبلها قائمة كما هو المتبادر.
ويلفت النظر إلى أسلوب ومضمون الآية الأخيرة. فقد انطويا على إزالة ما يمكن أن يقوم من وهم تحتيم الله سبحانه بضلال ضالين وإيمان مؤمنين بأعيانهم، وعلى تقرير كون عناية الله وتثبيته قد كانا للمؤمن بعد إيمانه لأنه أثبت بذلك حسن نيته وصدق رغبته، وكون سخط الله وإضلاله قد كانا للظالم الكافر المنحرف لأنه اتصف بهذه الصفات أو درج عليها.
__________
(1) التاج ج 4 ص 136.(5/231)
تعليق على آية يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وعلى ما ورد من أحاديث عن سؤال القبر
والآية في حدّ ذاتها جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فهي تلهم أنها بسبيل تقرير أن من شأن الإيمان أن يشع في نفس صاحبه فيجعله يدرك الخير ويسير في طريقه فيسعد ويطمئن ويحظى برضاء الله وعنايته وتثبيته في كلّ موقف في الدنيا والآخرة بعكس الكفر الذي يغلق قلب صاحبه ويجعله مظلما قاتما فلا يتورّع عن اقتراف الآثام والشرور دون رادع ولا وازع فيكون شؤما على نفسه وغيره مستحقّا لسخط الله وغضبه وحرمانه من التسديد والتوفيق.
وننبه بنوع خاص إلى جملة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ حيث ينطوي فيها تقرير كون إضلال الله وعدم إسعاده وتوفيقه للظالمين، إنما كان لتحقق الظلم منهم. وحيث تكون من نوع الضوابط التي ما فتئنا ننبه عليها في مناسباتها لإزالة إشكال العبارات القرآنية المطلقة في هداية الله الناس وإضلالهم.
ومع أن مضمون الآية وروحها شاملان لمواقف الدنيا والآخرة فقد أورد البخاري في فصل التفسير من صحيحه حديثا رواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم يوهم أنه تفسير لهذه الآية وأنها في صدد السؤال الذي يوجه للموتى في قبورهم بعد دفنهم وجوابهم عليه حيث جاء فيه: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» «1» .
ولقد أورد المفسرون في سياق تفسير هذه الآية أحاديث أخرى بعضها يبدو أنها تفسير أو تطبيق للآية وبعضها في سؤال القبر ونعيمه وعذابه كما روى أصحاب
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 136.(5/232)
كتب الأحاديث الصحيحة أحاديث عديدة في هذا الباب، من ذلك حديث رواه أبو هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ذلك إذا قيل له في القبر: من ربّك وما دينك ومن نبيّك؟
فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد جاءنا بالبيّنات من عند الله فآمنت به وصدّقت، فيقال له: صدقت، على هذا عشت وعليه متّ وعليه تبعث» «1» . ومن ذلك حديث عن البراء قال: «خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرّتين أو ثلاثا ثم قال: إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزلت إليه الملائكة من السماء بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنّة وحنوط من حنوط الجنّة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيّتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة إلّا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟
فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين وأعيدوه إلى الأرض فإنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: ربّي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما علمك؟ فيقول:
__________
(1) انظر تفسير الآية في ابن كثير.(5/233)
قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة. فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيّب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة ربّ أقم الساعة. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجه معهم المسوح فجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيّتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلّا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح. ثم يقرأ رسول الله لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الحجّ: 31] فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربّك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء أن كذّب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرّها وسمومها ويضيق عليه حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالشرّ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: ربّ لا تقم(5/234)
الساعة» «1» . وقد روى أصحاب كتب الصحاح الخمسة: البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي معا حديثا فيه بعض هذا الحديث عن أنس جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل (أي محمّد) ؟ فأمّا المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النّار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنّة، فيراهما جميعا. وأمّا الكافر أو المنافق فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثّقلين» «2» .
ورووا كذلك حديثا عن أسماء قالت: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلّا رأيته في مقامي هذا حتّى الجنة والنار فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجّال. يقال ما علمك بهذا الرجل فأمّا المؤمن أو الموقن فيقول هو محمّد رسول الله جاءنا بالبيّنات والهدى فأجبناه واتبعناه هو محمد ثلاثا، فيقال نم صالحا فقد علمنا إن كنت لموقنا به. وأمّا المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» «3» .
ورووا أيضا حديثا عن ابن عمر قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ إن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» «4» . ورووا: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو: اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة
__________
(1) تفسير ابن كثير وقد ذكر المفسر أن هذا الحديث رواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرويه.
(2) انظر التاج ج 1 ص 338- 339.
(3) انظر المصدر نفسه ص 339- 340.
(4) انظر المصدر نفسه.(5/235)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدّجال» «1» . وروى الترمذي عن عثمان بن عفان قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشدّ منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظرا قطّ إلّا القبر أفظع منه» «2» .
وهناك أحاديث كثيرة أخرى غير ما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه «3» . ونقول تعليقا على ما ورد منه كتفسير أو تطبيق للآية: إنه ما دام مضمون الآية وروحها يلهمان أنها أوسع شمولا وأنها تتناول كل موقف في الحياة الدنيا وفي الآخرة فالمتبادر أن ما جاء في الأحاديث هو من باب التمثيل لتثبيت الله للمؤمن واضطراب الكافر في موقف من المواقف.
ونقول في موضوع سؤال القبر ونعيمه وعذابه ما دام قد ورد فيه أحاديث صحيحة لا يصحّ المماراة فيها إن من واجب المسلم أن يؤمن بأخبار الغيب التي تثبت عن رسول الله ولو لم يدركها العقل العادي ويقف عند ذلك كما هو الشأن فيما جاء من ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذلك في نطاق قدرة الله وبأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. والمتبادر أن من الحكمة هنا تطمين المؤمن وتشويقه وتثبيته والحث على الإيمان وتخويف الكافر وتقبيح الكفر.
وهذا ما يمكن أن يستلهم من نصوص الأحاديث وبخاصة حديث البراء الطويل، والله أعلم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) .
__________
(1) انظر التاج أيضا ج 1 ص 339- 340.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر المصدر نفسه وانظر تفسير الآية في كتب تفسير ابن كثير والطبري والبغوي والخازن.(5/236)
(1) البوار: الهلاك.
(2) خلال: جمع خلّة (بالضم) وهي الصداقة.
في الآيات الثلاث الأولى تنديد بزعماء المشركين وإنذار لهم بصيغة سؤال تقريري موجه إلى السامع أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقد قابلوا نعم الله عليهم بالكفر والجحود ووقفوا من دعوته التي يدعوهم إليها رسوله وهي من أجلّ نعم الله أيضا نفس الموقف فورطوا قومهم وعرّضوهم للمصير المهلك الذي ينتظر الكافرين وهو جهنم وبئست هي من مصير وقرار. وقد جعلوا لله شركاء وأندادا مماثلين له فضلوا عن سبيل الله وأضلوا غيرهم. فعلى النبي أن ينذرهم فلا يغتروا بمتاع الدنيا فهو قصير الأمد ثم يصيرون إلى النار إن هم ظلوا على موقفهم.
وفي الآية الرابعة أمر التفاتي للنبي صلى الله عليه وسلم بحثّ عباده المؤمنين على إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله سرّا وعلنا وهم في فرصة من الحياة الدنيا وهي الفرصة الوحيدة الصالحة للعمل قبل أن تنتهي ويأتي اليوم الذي لا مجال فيه للعمل ولا فائدة فيه للصداقة.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيتين [28 و 29] مدنيتان. ويلحظ أن الانسجام بينهما وبين ما بعدهما قوي أولا وأن مضمونهما ينصرف أكثر إلى زعماء مكة وبالتبعية إلى صور العهد المكي مما يسوغ الشك في رواية مدنيتهما.
ولم نطلع في كتب التفسير على تأييد لذلك ولقد روى المفسرون «1» أقوالا مختلفة عن المقصودين بالآية الأولى منها عن عمر بن الخطاب أنهم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية. وعن ابن عباس أنه قال لعمر إنهم أخوالي وأعمامك. وعن علي أنهم الأفجران من بني أسد وبني مخزوم. ومنها عن ابن عباس وعلي أيضا
__________
(1) انظر الطبري الذي استوعب جميع الأقوال.(5/237)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
أنهم مشركو قريش أو منافقوهم أو أهل مكة. ومنها رواية غريبة رواها الطبري عن ابن عباس أنهم جبلة بن الأيهم الذي ارتدّ عن الإسلام والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم «1» .
والمتبادر أن الأقوال هي من قبيل الاجتهاد والتطبيق في العهد المدني وأن الآية تعني زعماء مشركي قريش. وأنها هي والآيات التي بعدها استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وفيها بيان لما كان من شدة مناوأة هؤلاء الزعماء للدعوة النبوية وتمكنهم من صرف الناس عنها.
ومع صلة الآيات بظروف السيرة النبوية فإنها تحتوي تلقينا مستمر المدى في تقرير مسؤولية الزعماء الفاسدين المنحرفين وما يمكن أن يقترفوه من إثم كبير في توجيه أمتهم إلى الفساد والانحراف اقتداء بهم أولا وفي توجيه المسلم إلى وجهة الخير الدائم في عبادة الله وإنفاق المال في شتى وجوه البرّ وفي السرّ والعلن ابتغاء رضاء الله ثانيا مما تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
. (1) دائبين: مواصلين لعملهما باستمرار.
احتوت الآيات تقريرا فيه تذكير وتنبيه للسامعين بنعم الله تعالى عليهم التي لا
__________
(1) هذه القصة مذكورة في طبقات ابن سعد ج 2 ص 30 وفتوح البلدان للبلاذري ص 142- 143.(5/238)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
يمكن أن يحصوها كثرة وتنوعا ومنها إنزال الماء من السماء وإخراج ثمرات الأرض بها وتسخير الفلك والبحار والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار لمصالحهم وفائدتهم، وانتهت بتنديد لاذع للإنسان الظلوم الكفّار.
والتنديد وإن جاء مطلقا وقد ينطوي فيه التنديد بخلق عام في بني الإنسان وهو خلق الجحود لنعم الله إلّا أن روح الآيات تجعله مصروفا إلى الجاحدين لنعم الله المشركين به المناوئين لرسله الداعين إليه بنوع خاص. ولما كان الكفار المشركون موضوع تنديد في الآيات السابقة فتكون هذه الآيات متصلة بالسياق اتصال تنبيه وتنديد وتعقيب كما هو المتبادر.
وأسلوب الآيات رائع قوي نافذ إلى القلب والعقل وموجه إليهما في الوقت نفسه. ولقد جاء مثلها في سور سابقة. وعلقنا عليها كما علقنا على ما يفيده تعبير تسخير قوى الكون للناس بما يغني عن التكرار.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
. (1) البلد: هنا كناية عن مكة.
(2) بيتك المحرم: كناية عن الكعبة.(5/239)
(3) تهوى إليهم: تميل إليهم أو تسرع نحوهم.
في الآيات تذكير بقصة من قصص إبراهيم عليه السلام وحكاية لمناجاته ربّه ودعائه له بمناسبة إسكانه بعض ذريته في وادي مكة. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليق على آية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وما بعدها إلى آخر الآية [41]
والآيات هي الأولى في القرآن المكي التي تضمنت أولا الإشارة إلى صلة إبراهيم وبعض ذريته بمكة. وثانيا ذكر بنوة إسماعيل لإبراهيم بصراحة وقطعية. أما ما سبق من الآيات فقد كانت في صدد التنويه بملّة إبراهيم وصحفه وذريته بصورة عامة كما يستفاد من السور السابقة. وقد احتوى القرآن وبخاصة المدني منه آيات عديدة أخرى فيها توكيد للأمرين.
ومكية الآيات مجمع عليها ولذلك فإن فيها ردّا على من يقول «1» إن ذكر صلة إبراهيم بمكة والكعبة وبنوة إسماعيل لإبراهيم بصراحة لم يرد إلّا في القرآن المدني إذا كان يراد به أن النبي لم يكن يعرف ذلك إلّا بعد اتصاله باليهود في المدينة بعد هجرته إليها. وهذا فضلا عما هو يقيني من تواتر معرفة العرب قبل الإسلام بذلك، ولقد علقنا في المناسبات السابقة على هذا الموضوع. والمتبادر أن المقام هو الذي اقتضى ذكر بنوة إسماعيل لإبراهيم بهذه الصراحة في حين أن المقام في المناسبات السابقة لم يكن يقتضي هذا على ما ذكرناه في سياق هذه المناسبات.
وروح الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي ورد فيها ذكر إبراهيم تلهم أن العرب وبخاصة عرب الحجاز أو قريش كانوا يعرفون ويتداولون
__________
(1) انظر كتاب في الأدب الجاهلي لطه حسين الطبعة الأولى. [.....](5/240)
ويشيدون بتلك الصلة وهذه البنوة قبل البعثة النبوية. وفي سورة البقرة آية تذكر أن في الحرم المكي مقاما كان معروفا باسم مقام إبراهيم وهذا دليل حاسم بدون ريب على تلك المعرفة والتداول، وهي هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) .
وقد جاء بعد هذه الآية آيات تحكي خبر دعاء إبراهيم لأجل أمن البيت وأهله وخبر رفعه مع إسماعيل لقواعده ودعائهما لذريتهما بأسلوب يلهم أن ما احتوته مما كان متداولا بين السامعين. وهي هذه: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(129) .
وقد ذكر مقام إبراهيم مرة أخرى في آيات في سورة آل عمران مع زيادة هامة وهي أنه كان معروفا بعلامات واضحة ومع الإشادة بالبيت على أنه أول بيت وضع لعبادة الله مباركا وهدى للعالمين وهي هذه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) .
وبناء على ما تلهمه الآيات من أن ما احتوته كان متداولا مسلما به من السامعين العرب فالمتبادر أنه جاء للتذكير والتدعيم بعد آيات التنديد بمواقف العرب وجحودهم واتخاذهم الأنداد والشركاء مع الله: فإبراهيم الذي يعترفون بأبوته لهم كان يدعو الله أن يجنبه هو وبنيه عبادة الأصنام ويقرر أنها أضلت الناس ويدعو الله أن يجعله هو وذريته من القائمين بحق عبادة الله ويعلن إسلامه نفسه(5/241)
وأمره إلى الله. وما يتمتع به أهل مكة من أمن بلدهم الحرام وتيسير الرزق واتجاه أفئدة الناس إليهم إنما كان من دعائه. وهو إنما أسكن بعض ذريته في وادي مكة الذي قدر الله أن يكون فيه بيته المحرم ليخلصوا له في العبادة. فأحرى بأبنائه العرب أن يسيروا على هداه وأن يحققوا أمنيته ودعاءه وأن يتجنبوا عبادة الأصنام التي تجنبها ودعا الله أن يجنبها ذريته.
وبهذا الشرح تبدو الصلة قائمة بين هذا الفصل وبين الآيات السابقة وبه تفسر مناسبته وحكمته.
ولقد كثر الخوض في حقيقة أبوة إبراهيم وإسماعيل للعرب أو بعضهم أي العدنانيين الذين منهم القرشيون وفي حقيقة سكنى إسماعيل وأمّه وادي مكة. وهو ما عنته الآيات حسب ما عليه جمهور المفسرين وما تلهمه روحها ومضمونها.
ولقد ورد في سفر التكوين المتداول اليوم بعض نصوص عن افتراق إسماعيل عن أبيه في السكن فحاول بعض المسلمين أن يستخرجوا من هذه النصوص دعائم لهاتين الحقيقتين. والذي ذكره سفر التكوين المتداول اليوم في إصحاحه (21) أن سارة زوجة إبراهيم الحرّة طلبت من زوجها طرد الأمة هاجر التي بنى إبراهيم عليها وأولدها إسماعيل مع ابنها من بيته فساءه ذلك ولكن الله أمره بإجابتها وقال له إني سوف أجعل ابن الأمة أمة من نسلك أيضا. وأنه أخذ خبزا وقربة ماء وجعلهما على منكبي هاجر وأعطاها الصبي وصرفها فمضت وتاهت في برية بئر السبع ثم استقرّ المقام بهما في برية فاران التي تفيد عبارة الإصحاح أنها جزء من برية بئر السبع أو سيناء أو في جهات خليج العقبة. وقد ذكر الإصحاح أن إسماعيل تزوج بامرأة من أرض مصر حيث يكون في هذا تأييد لذلك.
وواضح أن هذا النصّ لا يسوغ تفسير فاران بمكة وواديها وجبالها.
غير أن النص القرآني صريح في صدد خبر إسكان إبراهيم عليه السلام بعض ذريته عند بيت الله المحرم. ونقول من باب المساجلة إن هذا النص لا يمكن أن يكون جزافا. وهو يتلى علنا ويسمعه اليهود والعرب ولا بدّ من أن يكون هو(5/242)
المعروف المتداول في أوساط اليهود والعرب. ويمكن أن يكون قد ورد صريحا أو ضمنا في أسفار أو قراطيس كانت في يد اليهود ولم تصل إلينا على ما ذكرناه في مسائل مماثلة ومناسبات سابقة. وفي الإصحاح (33) من سفر التثنية هذه العبارة:
(أقبل الربّ من سيناء وأشرق لهم من سعير وتجلى من جبل فاران وأتى من ربى القدس وعن يمينه قبس شريعة لهم) . وهذه مهابط الوحي على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. ويلحظ أنه استعمل هنا (جبل فاران) في حين أنّ الإصحاح (21) من سفر التكوين ذكر (برية فاران) ، وهذه نقطة هامة في هذا الصدد. وفي تفسير البغوي في سياق تفسير الآية [8] من سورة النمل عبارة مهمة في هذا الصدد كذلك وهي: (روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبل فاران. فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ومن ساعير بعثه المسيح منها. ومن جبل فاران بعثه المصطفى منها وفاران مكة) . والعبارة هي عبارة سفر التثنية بصيغة أخرى من المحتمل أن تكون هي الواردة في ترجمة هذا السفر إذ ذاك لأن الترجمة التي في يدنا هي ترجمة حديثة. وهذا يعني أن مفسري الأسفار كانوا يفسرون الأماكن كما فسرها البغوي.
ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين في سياق هذه الآيات وغيرها روايات معزوة إلى ابن عباس وغيره في إسكان إبراهيم إسماعيل عليهما السلام في وادي مكة وفي ما جرى له وفي بنائه هو وإياه الكعبة «1» . وهناك حديث طويل رواه البخاري عن ابن عباس في ذلك أورده مؤلف التاج في سياق تفسير الآية [127] من سورة البقرة هذا نصّه: (أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أمّ إسماعيل اتخذت منطقا لتعفّي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتّى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء. ثم
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم لتفسير هذه الآيات وآيات سورة البقرة [124- 129] وآل عمران [97] والحج [26- 29] .(5/243)
قفّى إبراهيم منطلقا فتبعته أمّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وهو لا يلتفت إليها فقالت:
الله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنيّة لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
حتى بلغ يَشْكُرُونَ، وجعلت أمّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوّى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الواد تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتّى إذا بلغت الواد رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الواد ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فذلك سعي الناس بينهما. فلمّا أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمّعت فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوّضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا. فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإنّ هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيّع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرّت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا فقالوا إنّ هذا الطائر ليدور على ماء وعهدنا بهذا الواد ما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريّين فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا وأمّ إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حقّ لكم في الماء، قالوا نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبّ الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى(5/244)
إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبّ الغلام وتعلّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ فلما أدرك زوّجوه امرأت منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بشرّ نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه انس شيئا فقال هل جاءكم أحد قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة قال فهل أوصاك بشيء قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك غيّر عتبة بابك. قال ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك فطلّقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا. قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال ما طعامكم قالت اللحم قال فما شرابكم قالت الماء. قال اللهمّ بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي ولم يكن لهم يومئذ حبّ، ولو كان لهم لدعا لهم فيه قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلّا لم يوافقاه. قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبّت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث إبراهيم عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إنّ الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربّك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإنّ الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يا بني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يا بني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربّنا(5/245)
تقبل منا إنك أنت السميع العليم» «1» .
وهذا الحجر هو الذي كان في المكان الذي عرف بمقام إبراهيم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة والمذكور في آيات البقرة وآل عمران التي أوردناهما قبل قليل.
ولقد أورد المفسرون بيانات كثيرة أخرى في صدد ما جاء في الحديث وفي صدد ما كان من إنشاء إبراهيم لتقاليد الحج في سياق آيات أخرى في سور الحج والبقرة وآل عمران عزوا إلى ابن عباس وغيره سنلمّ بها في مناسباتها الآتية حيث يؤيد كل هذا ما قلناه من أن أخبار إسكان إبراهيم لإسماعيل في واد مكة وزواج إسماعيل من قبيلة جرهم وانتساب ذريته من الأم العربية الجرهمية إليه وإلى إبراهيم بالتبعية وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة وإنشاء إبراهيم تقاليد الحج مما كان يتداوله العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره جيلا بعد جيل. وفي أسفار العهد القديم ذكر للإسماعيليين أكثر من مرة في مقام الإشارة إلى القبائل العربية من ذرية إسماعيل حيث قد يكون في هذا تأييدا ما لذلك.
وفي سورة البقرة آيات تنطوي على إشارات أو قرائن على أن اليهود كانوا يعرفون قدم الكعبة وفضلها وصلتها بإبراهيم وكون اتخاذها قبلة هو الأولى والأحق. وقد جاءت هذه الآيات في سياق التنديد باليهود ومكابرتهم في الحق وهي: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) ، وقد سبق هذه الآيات سلسلة فيها خبر مقام إبراهيم ورفعه قواعد البيت مع ابنه إسماعيل التي أوردنا آياتها
__________
(1) التاج ج 4 ص 38- 43، اكتفينا بهذا الحديث عن الروايات الأخرى التي يرويها المفسرون في صدد ما جاء فيه.(5/246)
قبل قليل. ولقد جاءت آيات آل عمران [96- 97] التي أوردناها قبل والتي فيها ذكر مقام إبراهيم عقب آيات فيها تنديد ببني إسرائيل وتحدّ لهم بالإتيان بالتوراة بحيث يمكن القول إن صلة إبراهيم وإسماعيل بالكعبة وسكنى إسماعيل في وادي مكة وكونهما جدي العرب الأقدمين مما كان يتداوله اليهود ويذكرونه في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وفي هذا تأييد وتدعيم. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالذي نراه هو الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده في هذه الآيات وغيرها مما له صلة بإبراهيم وملّته والكعبة وتقاليد الحج وأبوة إبراهيم وإسماعيل للعرب مع ملاحظة هامة هي أن الآيات هنا وفي غير مكان قد استهدفت التذكير والتدعيم للدعوة النبوية. فالسامعون للقرآن كانوا يعرفون ويتداولون نسبتهم إلى إبراهيم وإسماعيل وكون دينهما هو التوحيد وخبر سكنى إسماعيل في مكة وصلة إبراهيم وإسماعيل بالكعبة وما يتمتعون به من أمن في حرمها. فالتذكير بذلك في معرض الدعوة النبوية والتنديد بالكفار السامعين لانحرافهم عن طريق أبويهم الأقدمين يكون ملزما ومحكما.
هذا، ولقد وقف المفسرون عند تعبير عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فقالوا إن الكعبة كانت مبنية قبل الطوفان فهدمها الطوفان أو رفعها الله وإن إبراهيم إنما جدد بناءها ولذلك جاءت الجملة على اعتبار ما كان. كما قالوا إن الجملة هي على اعتبار ما سيكون بعد قيام البيت الذي عرف إبراهيم مكانه وأمر ببنائه بالوحي. والتعليل الأول ذكر أيضا في سياق آيات البقرة والحج وآل عمران المذكورة آنفا. ومثل هذا لا يصح أن يؤخذ به إلّا بأثر نبوي وثيق وليس هناك مثل هذا الأثر، والتعليل الثاني هو الأوجه كما هو المتبادر.
ولقد تعددت الأقوال في مدى كلمة (المحرّم) ، فقيل إنها بمعنى الذي يحرّم عنده ما لا يحرم عند غيره. أو إنها بمعنى الذي يحرّم التعرض له والتهاون به أو إنها بمعنى العظيم الحرمة. أو إنها بمعنى الذي يمكن الناس من العبادة عنده والإقامة في كنفه آمنين محرم ظلمهم ودمهم والعدوان عليهم. وكل هذه الأقوال(5/247)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
واردة ووجيهة مع القول إننا نرجح أن هذه الصفة مما كانت توصف بها الكعبة قبل البعثة النبوية.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
. (1) مهطعين: مسرعين وقيل ذليلين.
(2) مقنعي رؤوسهم: رافعي رؤوسهم محدقين بأبصارهم إلى مقام القضاء.
(3) لا يرتدّ إليهم طرفهم: لا تطرف عيونهم من شدة الخوف والهلع والتحديق.
(4) أفئدتهم هواء: هواء بمعنى خواء، أي فارغة، وقيل إنها كثيرة الحركة والاضطراب من شدة الخوف.
(5) مقرنين في الأصفاد: مشدودين بعضهم إلى بعض بالأغلال والأصفاد.
(6) سرابيلهم من قطران: ثيابهم أو كسوتهم التي فوق أبدانهم هي القطران ولقد كان العرب يطلون إبلهم الجرباء بالقطران فكانت تبدو كريهة المنظر فضلا عن(5/248)
نتانة الرائحة. والعبارة بسبيل وصف منظر المجرمين بأخبث وأقبح منظر لونا وريحا.
وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيها:
1- تطمين له: فلا يظنن أن الله غافل عن الظالمين الباغين فهو مراقبهم ومحص عليهم أعمالهم. وكل ما في الأمر أنه يؤخر حسابهم إلى يوم القيامة الذي سوف تضطرب فيه قلوبهم ويتولاهم الذل والذهول من شدّة الهول الذي يلقونه فيه.
2- وتثبيت له: فليس عليه إلّا الاستمرار في الدعوة وإنذار الناس بذلك اليوم الذي سوف يستشعر الظالمون فيه بأشد الندم فيطلبون من الله إمهالهم مدة أخرى يتلافون فيها أمرهم ويجيبون دعوة رسله فيرد عليهم مؤنبا مقرعا مذكرا بما كان منهم من زهو وغرور واستكبار ومكر ضد دعوة رسوله تكاد تزول منه الجبال وبعدم تأثرهم بما كان يلقى إليهم من ضروب الأمثال والمواعظ وبما كانوا يرونه من آثار عذاب الله فيمن قبلهم وبعدم اتعاظهم بأخبارهم وبما كانوا يحلفونه من أيمان على سبيل التبجح بأن ما بهم من نعمة وعافية وقوة لن يزول.
3- وتطمين آخر له: فلا يظنن أن الله مخلف وعده له فيهم فهو ذو القوة المنتقم من أمثالهم وحينما يأتي الوقت المعين في علم الله فتبدل الأرض غير الأرض ويقف الناس أمام الله ليقضي بينهم ويجزي كل نفس ما كسبت يقف المجرمون مشدود بعضهم إلى بعض بالقيود والأغلال وقد طليت أجسادهم بالقطران وغشيت وجوههم بالنار.
وانتهت الآيات بالهتاف بالسامعين: ففي هذا بلاغ للناس ونذير كاف.
فعليهم أن يعلموا أن إلههم واحد لا شريك له، وعلى ذوي العقول السليمة أن يتدبروا ويتذكروا ويتعظوا.
والآيات قد استهدفت كما هو واضح تطمين النبي وتثبيته وتبشيره بتحقيق(5/249)
وعد الله له بالنصر وإنذار الكفار والتنديد بهم وتوكيد وعيد الله لهم. وأسلوبها قوي نافذ ومؤثر حقا.
وهي متصلة سياقا وموضوعا بالآيات التي سبقت مناجاة إبراهيم مما يسوغ القول إن آيات فصل إبراهيم قد جاءت استطرادية للتذكير والتدعيم كما قلنا وإنها غير منقطعة بدورها عن السياق السابق واللاحق لها.
وقد جاءت الآيات في ذات الوقت خاتمة قوية للسورة وطابع الختام المألوف في كثير من السور واضح عليها وبخاصة على الآية الأخيرة.
والآية الرابعة وإن كانت منسجمة في السياق مطلقة الخطاب للظالمين جميعا فإنها مما تلهم أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم السابقة ومصائرها ونكال الله وتدميره إياهم في الدنيا وأن منهم من وصل إلى بلادهم ورأى آثار ذلك فيها وهو ما تكررت الإشارة إليه في آيات أخرى مرّت أمثلة منها.
والصيحة الداوية في الآيات ضد الظالمين وتنبيهها إلى أن الله غير غافل عنهم تظل تقرع الآذان كل ما تلا القرآن تال لتثير في النفوس النقمة على الظالمين البغاة المستكبرين ولتبعث الأمل واليقين فيها بأن نقمة الله وسخطه لا بد أنهما حالّان فيهم مهما طال بهم الزمن.
ولقد أورد الطبري في سياق جملة وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ القصة التي أوردها المفسر في سياق جملة وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرعد: 42] في سورة النحل وأوردناها في مناسبتها بصيغة قريبة معزوة هذه المرة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وليس من سند وثيق لهذه الرواية. ولسنا نرى أي تناسب كذلك بين هذه الرواية وبين الجملة القرآنية في مقامها التي يتبادر أنها بسبيل وصف شدّة مكر المناوئين للدعوة النبوية.
ولقد روى المفسرون قراءات متعددة لكلمة لِتَزُولَ منها أنها بفتح اللام الأولى ورفع اللام الثانية ومنها أنها بكسر الأولى وفتح الثانية ومنها أنها في صيغة(5/250)
(لا تزول) وهناك تخريجات متعددة للكلمة حسب ذلك. منها أنها بمعنى أن الجبال تكاد تزول من شدة مكرهم. ومنها أنها بمعنى أنهم مكروا لأجل أن تزول الجبال.
ومنها أنها بمعنى أنهم مما اشتدّ مكرهم لا يمكنهم أن يزيلوا الجبال وبالتالي لا يمكنهم أن يزيلوا الدعوة النبوية الراسخة القوية كالجبال. والأكثر على التخريج الأول الذي قالوا إنه من باب آيات سورة مريم هذه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد أورد الطبري وغيره روايات عديدة في صدد جملة يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ استوعب الطبري معظمها أو كلها. منها حديث عن زيد قال: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال: هل تدرون لم أرسلت إليهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله يوم تبدل الأرض غير الأرض إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة وكلما جاؤوا سألهم فقالوا تكون بيضاء مثل النقي» وحديث عن سهل بن سعد قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي» . وحديث عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويسطحها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة مثل مواضعهم في الأولى ما كان في بطنها ففي بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها وذلك حين يطوي السموات كطي السجلّ للكتاب ثم يدحو بها ثم تبدل الأرض غير الأرض والسموات» .
وحديث عن عائشة بطرق عديدة وصيغ متقاربة جاء في إحداها: «قلت: يا رسول الله إذا بدل الأرض غير الأرض وبرزوا لله الواحد القهار أين الناس يومئذ؟
قال: على الصراط» «1» . وفي إحداها: «قال لها لقد سألت عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي قبلك قال هم يومئذ على جسر جهنّم» . وعن ابن أيوب قال: «أتى
__________
(1) هذا الحديث رواه مسلم والترمذي أيضا انظر التاج ج 4 ص 137.(5/251)
النبي صلى الله عليه وسلم حبر من اليهود وقال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات فأين الخلق عندئذ؟ قال: أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه» .
وإلى هذه الأحاديث فهناك أقوال معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم منها أن الأرض تبدل بأرض لم يسل فيها دم ولم يعمل فيها خطيئة ومنها أن نار يوم القيامة تكون محل الأرض وجناتها محل السموات.
ولقد علق الطبري على هذه الأحاديث بقوله إنه لا قول يصحّ إلّا ما دلّ عليه ظاهر التنزيل وهو أن الأرض والسموات تتبدل على هيئة غير هيأتها وجائز أن تكون ما ذكر حيث يبدو أنه لم يثبت عنده شيء من الأحاديث وهذا الترجيح هو سنّة السلف الإسلامي الأول فيما ليس فيه نصّ قرآني صريح وليس فيه نصّ نبوي ثابت في الشؤون الغيبية التي منها الشؤون الأخروية على ما نبهنا عليه ووجهناه في مناسبات عديدة سابقة. مع القول إنه لا بدّ من أن يكون حكمة في الصيغة التي جاءت عليها الآيات بالإضافة إلى حقيقة المشاهد الأخروية الإيمانية وإن الآيات بجملتها قد استهدفت إنذار الكفار الظالمين وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء ولعل ذلك من تلك الحكمة.
هذا، وبمناسبة حديث عائشة الذي رواه الترمذي ومسلم ويعد من الأحاديث الصحيحة عن الصراط نقول إننا علّقنا على هذا الموضوع في سياق سورة مريم بما يغني عن التكرار.(5/252)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
سورة الأنبياء
في السورة حملات شديدة على الكفار وزعمائهم بسبب عنادهم واستخفافهم بالنبي ودعوته وحكاية لأقوالهم وتحدياتهم ومؤامراتهم، وردود قوية في البرهنة على وحدة الله وتنزهه عن الولد والشريك وطبيعة إرسال الرسل من البشر، وثناء على الملائكة وتقرير عبوديتهم لله ولفت نظر إلى مشاهد قدرة الله في السموات والأرض للتدليل على وحدة الله واستحقاقه وحده للعبادة وقدرته على تحقيق وعده الحق. وفيها سلسلة تتضمن ذكر بعض الأنبياء ورسالاتهم وثناء على إخلاصهم وعناية الله بهم في معرض التذكير والتثبيت والتطمين والبشرى، وبيان مصائر الكفار والصالحين في الآخرة وتقرير لمهمة الرسالة وأهدافها.
وفصول السورة مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
. (1) اقترب: صيغة الماضي تنطوي على التوكيد بالوقوع.(5/253)
(2) ذكر: بمعنى الآيات القرآنية.
(3) محدث: جديد.
(4) أسرّوا النجوى: كناية عن اجتماعاتهم الخفية في صدد التآمر على تكذيب النبي.
(5) الذين ظلموا: جملة معترضة بسبيل التنديد بالمشركين.
(6) إن هذا إلّا بشر مثلكم: هذا كلام الزعماء- الذين ظلموا- للناس عن النبي.
في الآيات:
1- تنديد بالناس وتعجّب من موقفهم- والمعنى مصروف إلى الكفار- فبينما موعد وقوفهم أمام الله ومحاسبتهم يقترب ووقوعه أمر لا يتحمل الريب يظلون معرضين عن دعوة الله مرتكسين في غفلتهم وكلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم آيات جديدة من القرآن استمعوها بقلوب لاهية وبالاستخفاف والسخرية.
2- وحكاية لما كانوا يفعلونه ويقولونه: حيث كانوا يعقدون الاجتماعات السرية للتآمر على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. ويقول بعضهم لبعض أو زعماؤهم لعوامهم إنه ليس إلّا بشرا مثلكم ومظهره مظهر الساحر والسحر فكيف يصحّ تصديقه والانخداع به والاستماع إليه من ذوي عقل وبصيرة. وكانوا يقولون أيضا إنه يخترع ما يقول وينسبه إلى الله افتراء أو إن ما يقوله من تخاليط الأحلام أو إنه شاعر.
وكانوا يحاولون التأثير في السامعين ليتحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بإحداث المعجزات كما حدثت على أيدي الرسل السابقين إن كان صادقا في دعواه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال: «كنّا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ بعض القرآن فجاء عبد الله بن أبيّ بن سلول ومعه نمرقة وزريبة فوضع واتكأ وكان صبيحا فصيحا جدلا فقال يا أبا بكر قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون. جاء موسى بالألواح وجاء داود بالزبور. وجاء صالح بالناقة. وجاء عيسى بالمائدة(5/254)
والإنجيل فبكى أبو بكر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر قوموا بنا إلى رسول الله نستغيث به من هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل.
فقلنا يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق. فقال إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته التي فضلت بها فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود وأمرني أن أنذر الجنّ وأتاني كتاب وأنا أمّي وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر.
وذكر اسمي في الأذان وأمدني بالملائكة. وأتاني النصر وجعل الرعب أمامي.
وأتاني الكوثر. وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو رؤوسهم. وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي بغير حساب وأتاني السلطان والملك وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم. فليس فوقي أحد إلّا الملائكة الذين يحملون العرش. وأحلّ لي ولأمتي الغنائم ولم تحلّ لأحد كان قبلنا» .
وعقب ابن كثير على الحديث فقال إنه غريب جدا. ومعظم ما جاء في الحديث قد ورد في أحاديث صحيحة أخرى كما ورد إلى بعض ما جاء فيه إشارات عديدة في القرآن. وحين يصف علماء الحديث حديثا بالغرابة فإنهم يعنون في الغالب غرابة طرق روايته ورواته.
ومهما يكن من أمر فليس في الحديث ما يفيد أن الآية نزلت لتحكي قول المنافق. فالصورة فيه مدنية ولا خلاف في مكية الآية. وليس هناك روايات أخرى فيما اطلعنا عليه في مناسبة الآيات التي احتوت صورا من المواقف العنيدة التي كان يقفها الكفار وبخاصة زعماؤهم والأقوال التي كانوا يقولونها في معرض مناوأة النبي وتحديه كلما تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله. وقد احتوت تنديدا وإنذارا والمتبادر أنها جاءت مقدمة للسياق الذي جاء بعدها والذي احتوى حكاية أقوال ومواقف أخرى لهم وتنديدا بهم وإنذارا لهم عليها.
ولقد تكررت حكاية هذه الصور والأقوال مما يدل على أنها كانت تتكرر بتكرر المناسبات والمواقف. حيث كانت هذه تتكرر نتيجة لاستمرار النبي في دعوته ورسالته.(5/255)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
ولقد أوردنا تعليقات متنوعة عليها في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة للإعادة.
والمتبادر أن الآية الثالثة هي حكاية لما كان يقوله النبي أو يؤمر بقوله حينما كانوا ينسبون إليه الافتراء حيث كان يشهد الله على صدق ما يبلغ وهو السميع العليم الذي يعلم كل ما يقال ويجري في السماء والأرض، وهذا مما تكرر أيضا في الفصول المماثلة السابقة.
ولقد قرأ بعضهم فعل قال بصيغة الأمر والراجح أن اختلاف القراءة ناتج عن طريقة الإملاء القديمة حيث كانت تحذف ألف المد. على أن في أوائل سورة الفرقان آية مماثلة لهذه الآية. والفعل فيها بصيغة الأمر بمعنى أن الله أمر النبي بأن يقول ما في الآية ردا على الكفار وقد تطمئن النفس أكثر بكون الصيغة هنا صيغة أمر.
وجملة ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ قد جاءت بصيغة قريبة في سورة الشعراء وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 6 الى 10]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
. (1) أهل الذكر: كناية عن أهل الكتب السماوية.
(2) المسرفين: هنا بمعنى المتجاوزين حدود الله ببغيهم وانحرافهم.
(3) ذكركم: قيل إنها بمعنى تذكيركم وعظتكم. وقيل إنها بمعنى شرفكم(5/256)
ورفعة شأنكم والقول الأول أكثر اتفاقا مع السياق.
صلة الآيات بسابقاتها واضحة وقد احتوت ردودا على أقوال الكفار المحكية في الآيات السابقة وتبكيتا وانطوى فيها تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كما يلي:
1- إن الذين أهلكهم الله من قبلهم لم يؤمنوا بالآيات التي طلبوها فهل يؤمن هؤلاء وهم مثلهم في الكفر والعناد.
2- إن الرسل الذين أرسلهم الله قبل النبي هم بشر مثله اختصهم بوحيه. ولم يجعل الله أحدا منهم متصفا بصفة خارقة لصفات البشر فيعيش بدون طعام أو يبقى خالدا لا يموت. وعلى الذين يمارون في ذلك أن يسألوا أهل الكتب السماوية.
3- ولقد حقق الله وعده لرسله الأولين فأهلك الظالمين المسرفين في العناد والآثام ونجّى رسله ومن وفقه الله فاهتدوا بهديهم.
4- ولقد أنزل الله إليهم كتابا فيه من المواعظ البالغة والحجج الدامغة والبيان الواضح ما فيه هدايتهم وتذكيرهم وتبصيرهم. فهل فقدوا عقولهم حتى لم يعودوا يفهمون ويتبينون الحق والحقيقة.
وما احتوته الآيات قد جاء في آيات سابقة نزلت في مواقف مماثلة.
ولقد علقنا على الردود في المناسبات السابقة بما يغني عن تعليق جديد إلّا القول إن فيما ظلّ يتكرر حكايته من مواقف الكفار وتحدياتهم يدل على ما كان من شدّة عنادهم. وإن النبي صلى الله عليه وسلم ظلّ يقوم بمهمته ويتلو آيات القرآن ويقذف بما احتواه من ردود قوية عنيفة في وجوههم دون مبالاة بقوتهم ومواقفهم حتى صدق الله وعده له وتمّ انتصار دينه على يده.
وقد يكون في الآية الأولى معنى من معاني عدم احتمال إيمان الكفار. غير أن المتبادر أنها في صدد تسجيل واقع أمرهم وشدة مناوأتهم وعنادهم عند نزول الآية. لأن معظمهم قد آمنوا وحسن إيمانهم كما هو ثابت يقينا، إلّا إذا كان المقصود منهم الزعماء الذين هلك كثير منهم دون أن يؤمنوا.(5/257)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
. (1) قصمنا: حطمنا وسحقنا.
(2) تلك دعواهم: تلك أقوالهم يكررونها.
(3) حصيدا خامدين: مقلوعين هالكين لا نأمة ولا حركة لهم.
في الآيات:
1- تساؤل يتضمن التنبيه إلى كثرة من صبّ الله عليهم عذابه وتدميره من القرى الظالمة وأنشأ بعدهم غيرهم.
2- وبيان لما كان من أمر الذين صبّ الله عليهم عذابه حيث حاولوا الفرار من قراهم أملا بالنجاة فحيل بينهم وقيل لهم في معرض التبكيت بل ارجعوا إلى مساكنكم وما كنتم فيه من ترف حتى ينالكم عذاب الله فلم يكن منهم إلّا أن أخذوا بالعويل والندب واعترفوا بما كان منهم من ظلم وإثم ثم حاق بهم العذاب حتى خمدت منهم الأنفاس وأصبحوا كالزرع المحصود المطروح.
والاتصال قائم بين هذه الآيات وسابقاتها كما هو واضح أيضا. وقد استهدفت إنذار السامعين أو الكفار في بيان أسلوب الله في إهلاك المسرفين الذين أشير إليهم في الآية الأخيرة السابقة.
ولقد ذكر البغوي أن الآيات نزلت في أهل حضرموت قرية باليمن بعث الله إليهم نبيا يدعوهم فكذبوه وقتلوه فسلّط عليهم الله بختنصر حتى قتلهم وسباهم فلما استمر فيهم القتل ندموا وهربوا فقالت لهم الملائكة استهزاء لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم وقد اتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف ونادى مناد في(5/258)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
جو السماء يا ثارات الأنبياء فلما رأوا ذلك أقروا بذنوبهم حين لم ينفعهم ذلك.
ومن المحتمل أن تكون القصة مما كان العرب يتداولونه قبل البعثة فشاءت حكمة التنزيل الإشارة إليها والتذكير بها في معرض التنديد والإنذار.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 20]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
. (1) لا يستحسرون: لا يتعبون ولا يملّون.
(2) لا يفترون: لا ينقطعون.
في الآيات:
1- تقرير بأن الله تعالى لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا بدون غاية وحكمة ولو أراد العبث واللهو لكان له من القدرة والوسائل ما يحقق له مراده.
وإنما خلق الكون وما فيه لحكمة وغاية سامية ومن ذلك تأييد الحق على الباطل وإحباطه.
2- وإنذار للكفار: فالويل لهم مما يصفون الله به من صفات ويلصقونه به من أولاد وشركاء مما يتنافى مع ربوبيته الشاملة وصفاته الكاملة، وهو الذي يخضع من في السموات والأرض من خلقه لحكمه ومشيئته وتصرفه والذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يتعبون ولا يملّون وهم يسبّحونه بالليل والنهار دون فتور وانقطاع.
والآيات بمثابة تعقيب على الآيات السابقة. والاتصال بينها وبين سابقاتها قائم، والمتبادر أن المقصود من جملة وَمَنْ عِنْدَهُ هم الملائكة. وقد استهدف(5/259)
فيما ذكر من عبادتهم وتسبيحهم الدائم لله تنبيه الكفار وتكبيتهم على ما هو الراجح. فإذا كانوا هم يستكبرون عن عبادة الله وينأون عن دعوته فالملائكة الذين يشركونهم معه في العبادة والدعاء لا يستكبرون عن ذلك وهم دائبون عليه في الليل والنهار. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مرّ بعضها، وفي الآيات التي تأتي بعد قليل قرينة مؤيدة لذلك.
ولقد ذكر بعض المفسرين «1» أن اللهو المذكور في الآية الثانية يعني اتخاذ الزوجة أو الولد وأن فيها ردّا على عقيدة النصارى. ومنهم من قال «2» عزوا إلى ابن عباس إن اللهو هو المرأة والولد. وروح الآيات ومضمونها وسياقها لا تساعد على تصويب ذلك. وتسوغ القول إن اللهو هنا بمعنى العبث أو ضد الحق والحكمة وإن الآيات بسبيل تقرير كون الله لم يخلق الكون والناس عبثا ولا بد من محاسبتهم على أعمالهم. وذلك بسبيل الإنذار والموعظة والإفحام أيضا. وهذا المعنى بل والتعبير قد ورد في آيات سابقة يبرز فيها المعنى الذي ذكرناه مثل آية سورة [ص: 27] وآيات سورة الدخان [27- 28] .
ولقد روى الطبري في سياق الآيتين [19- 20] حديثا عن قتادة جاء فيه:
«بينما كان النبيّ جالسا مع أصحابه إذ قال لهم تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا نبيّ الله، قال: إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وليس فيها موضع راحة إلّا وفيه ملك ساجد أو قائم» . وقد أخرج هذا الحديث ابن أبي حاتم عن حكيم بن حزام على ما ذكره ابن كثير أيضا. فإذا صحّ ففيه إخبار غيبي نبوي متساوق مع صدى الآيتين. وروى ابن كثير في سياقهما أيضا عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام فقلت أرأيت قول الله تعالى عن الملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل فقال لي يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس
__________
(1) البغوي.
(2) الخازن والزمخشري.(5/260)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس. وهذا الجواب هو من قبيل الاجتهاد. والله أعلم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 25]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
. (1) ينشرون: يخرجون الناس من قبورهم أحياء بعد الموت أو يخلقونهم بدءا. ولعل هذا أوجه لأن الكفار الذين يرجع إليهم الضمير في (اتخذوا) ينكرون البعث.
(2) هذا ذكر من معي: هذا هو القرآن الذي يؤمن به الذين معي.
(3) ذكر من قبلي: كناية عن الكتب السماوية التي آمن بها اليهود والنصارى.
في الآيات:
1- سؤال تنديدي منطو على التسخيف والإنكار والتحدي عن الآلهة التي يتخذها المشركون من دون الله وعن مدى قدرتها وعما إذا كان في قدرتها خلق الناس ونشرهم من الأرض بدءا أو بعد الموت.
2- وتقرير في معرض الردّ والإفحام بأنه لو كان في السماء أو في الأرض آلهة عديدون لفسدت الأمور فيهما لما يكون بينهم من تنازع ولما يقتضيه النظام فيهما من وحدة نسق لا يمكن أن تحصل إلّا من وحدانية المدبر.
3- وتنزيه لله ربّ العرش عما يظنه الكفار ويذهبون إليه من تعدد(5/261)
المعبودات. فهو المتصرف في الكون كما يشاء وليس هو مسؤولا عما يفعل في حين أن خلقه مسؤولون عما يفعلون. ومن كان هذا شأنه لا يمكن أن يكون له شريك وندّ.
4- وسؤال تنديدي آخر منطو كذلك على التحدي عن سندهم في الزعم الذي يزعمونه وهو صواب اتخاذهم آلهة من الأرض.
5- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بطلب البرهان منهم فيما أنزل الله إليه أو إلى الأنبياء من قبله.
6- وتقرير بحقيقة واقع الكفار فيما يدعون ويعتقدون. فهم لا يعرفون الحق ولا يعترفون به ويلقون كلامهم جزافا ولا تقوم عقائدهم على أي أساس ويعرضون عن الحقّ مكابرة وجهلا.
7- وتقرير حاسم بأن الله لم يرسل رسولا من قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلّا أوحى إليه أنه لا معبود ولا إله إلّا هو وأمره بالدعوة إلى عبادته وحده.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا من حيث تضمنها صورا لعقائد كفار العرب ومواقفهم وأقوالهم وردودا عليها.
والمتبادر أن جملة هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي قد تضمنت تحديا للمشركين الذين كانوا يحتجون بأن عقائدهم مستندة إلى أساس ديني سماوي وتقريرا ضمنيا يكذب احتجاجهم لأنه ليس في الكتب المنزّلة عليه وعلى من قبله أي سند يسندهم. وحجتهم المذكورة قد تضمنت حكايتها عنهم آية سورة الأنعام [148] وآيات سورة الزخرف [20- 21] على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين.
تعليق على جملة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
وقد توسع بعض المفسرين وعلماء بعض المذاهب الكلامية في تخريج هذه الآية حتى صارت في عداد الحجج التي يحتج بها على كون الله تعالى قد قدر على(5/262)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
الناس أفعالهم وكتب على الضالين الضلال وقضى عليهم بالعذاب وليس لأحد أن يسأله عما يبدو في هذا من تناقض أو عدم اتساق مع العدل أو حكمة إرسال الرسل لأن لله مطلق التصرف في خلقه على الوجه الذي تقترن به مشيئته فليس لأحد أن يسأله فيما يقضي ويفعل في خلقه في حين هم مسؤولون أمامه.
والذي يتبادر لنا أن سياق الآيات وروحها لا يتحملان هذا التوسع ولا يستدعيانه فالآية إنما جاءت في معرض تدعيم الردّ على اتخاذ آلهة من دون الله وتزييفه وبيان عجز الآلهة وعدم اتساق تعددها مع المنطق والعقل وتضمنت بيان مطلق تصرف الله في الكون من دون أن يكون لأحد حقّ في سؤاله في حين لو كان له شركاء لكان لهم حقّ في هذا السؤال. ولقد كان المشركون يعتقدون ذلك فيه ويعبدون الشركاء لا على أساس أن لهم حقّ سؤال الله ولكن على أساس أنهم شفعاؤهم لديه فجاءت الحجة ملزمة مفحمة. ومن الحقّ أن تبقى الآية في هذا النطاق. وإذا كان حقا أنه ليس لعبد من عباد الله حقّ في سؤال الله عما يفعل وحكمته فيما يفعل فإن القرآن قد تضمّن آيات كثيرة صريحة تقرر حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس وتقرر مسؤولية الناس عن أعمالهم وحرية اختيارهم فيها وترتب ثوابهم وعقابهم وفقا لذلك بل وتقرر أن الله كتب على نفسه وعدا بنصر المرسلين والمؤمنين وكان وعده مفعولا وكان وعده مسؤولا مما مرت منه أمثلة عديدة بحيث يكون التوسع في تخريج هذه الآية على ذلك النحو مؤديا إلى تناقض يجب تنزيه الله وقرآنه عنه.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 29]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
. في الآيات:(5/263)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
1- حكاية تنديدية لعقيدة كفار العرب حيث أشارت إلى ما كانوا ينسبونه إلى الله من اتخاذ الأولاد.
2- وردّ عليهم وتنزيه لله عن هذه النسبة وتوضيح لحقيقة أمر الذين ينسبونهم بالنبوة إليه: فهم عباده ولهم مقام التكريم عنده. وهم مطيعون لأوامره يقومون بما يأمرهم به. وهو محيط بهم كل الإحاطة مطلع على أحوالهم وسرّهم وعلنهم ولا يستطيع أحد منهم أن يتجاوز الحدّ المرسوم له أو يشفع لأحد لا يكون قد نال رضاء الله وهم دائمو الاستشعار بخوفه. وكل من يجرؤ منهم على دعوى الألوهية يكون جزاؤه جهنّم كما هو جزاء كل ظالم باغ متجاوز لحدوده.
والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وواضح أن المعني فيها هم الملائكة الذين كان العرب ينسبونهم بالنبوة إلى الله ويقولون إنهم بناته ويعبدونهم ويستشفعون بهم على هذا الأساس. وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وعلقنا على الموضوع بما يغني عن التكرار. وكل ما يحسن أن نزيده أن الآيات قد تضمنت تزييفا لمشركي العرب ودعوة لهم للارعواء. فالذين يشركونهم مع الله هم عبيده الخاضعون له. فالأولى والأنفع لهم أن يحذوا حذوهم فيعبدوا الله ويتجهوا إليه وحده. وهذا المعنى وارد في الآيات السابقة لهذه الآية.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
. (1) فجاجا سبلا: معابر وطرقا واسعة. والفج هو الطريق الواسع بين جبلين على ما ذكره بعض المفسرين.(5/264)
تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من التابعين وتابعيهم في مدى الرتق والفتق في الآية الأولى «1» . منها أن الرتق بمعنى الالتصاق والفتق بمعنى فصل الملصق. وأن السموات والأرض كانت ملتصقة أو كتلة واحدة ففصلهما الله عن بعضهما وجعل بينهما الهواء. ومنها أن الرتق بمعنى الجفاف وأن السماء كانت لا تمطر والأرض لا تنبت ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات واستأنس أصحاب هذا القول بجملة وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ التي جاءت في نفس الآية. وجمهورهم على أن كلمة سَقْفاً تعني كون السماء فوق الأرض بمثابة السقف. أما معنى مَحْفُوظاً فقد روي أنها بمعنى محروس من الشياطين مما ذكر بصراحة في آيات أخرى ورد بعضها في سور سبق تفسيرها مثل سورتي الحجر والصافات. كما روي أنها بمعنى المحفوظ من السقوط.
ورووا في صدد الفلك أن معنى الكلمة في الأصل الشكل الدائري وأنها تعني المدار السماوي الذي تجري فيه الشمس والقمر والنجوم وهو بين السماء والأرض كما قيل أنها تعني البروج التي تجري فيها الكواكب السماوية.
وقالوا في معنى أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ لئلا تنكفئ الأرض أو تنكفئ الجبال فجعلها الله رواسي ثابتة أو مثبتة.
ومهما يكن من أمر فالآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وقد تضمنت تنديدا بالكفار لأنهم يغفلون عن مشاهد قدرة الله وعظمته ونواميسه في السماء والأرض وما بينهما وفي الجبال والشمس والقمر والليل والنهار الدالة على استحقاقه وحده للعبادة والاتجاه وينصرفون عن استجابة الدعوة إليه ويضلّون في تيه العقائد الباطلة.
وقد تكرر ما في هذه الآيات في سور أخرى مرّ تفسيرها. وتكرارها يفيد أن المناسبات التي تقيضها كانت تتكرر. وهي تكرر أو تجدد مواقف الدعوة النبوية مع
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(5/265)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
الناس والإيمان بما احتوته الآيات من تقريرات غيبية تكوينية واجب. ومع ذلك فإن جملة أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا التي بدئت بها الآيات قد تفيد أن السامعين ومنهم الكفار كانوا يشاهدون ويحسون ويتصورون الشؤون التي احتوتها وفاق ما جاء فيها فشاءت حكمة التنزيل أن تذكرهم بما يعرفون ويعترفون من مظاهر قدرة الله وبديع نواميس كونه في مقام التنديد.
ونقول هنا ما قلناه في المناسبات المماثلة إن الآيات يجب أن تبقى في نطاقها التذكيري والتنديدي دون تمحّل لاستنباط القواعد الفنية من بعضها ودون توهم في تناقض بعضها مع ما عرف من حقائق هذه القواعد، فإن هذا وذاك لا يتصل بالهدف القرآني.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 35]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)
. (1) الخلد: الخلود.
(2) نبلوكم: نختبركم ونمتحنكم.
(3) فتنة: اختبارا.
في الآيات:
1- تقرير بأن الله قد كتب الموت على كل نفس ولم يجعل لأحد من قبل النبي خلودا.
2- وتساؤل يتضمن معنى التنديد عما إذا كان الكفار يظنون أنهم خالدون إذا ما مات النبي وفقا لسنة الله في خلقه.
3- وتقرير بأنّ كلّ نفس ذائقة الموت حقا وبأنّ جميع الناس راجعون إلى الله حتما. وبأنهم في الدنيا أمام اختبار رباني بالخير والشر حتى تتبين قابلية كل واحد(5/266)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
واختباره فيما يعرض عليه ويتعرض له في الحياة ثم يحاسب به أمام الله حينما يرجع الناس إليه.
وقد قال بعض المفسرين إنّ في الآيات ردا على الكفار الذين كانوا يقولون نتربص بالنبي ريب المنون وأنه لن يلبث أن يموت فتقف حركته وننتهي منه. ومع اقتضابها فإنها تلهم صحة هذا القول ووجاهته. وتوجيه الخطاب للنبي قرينة على ذلك. وهو متسق مع آية أخرى وردت في سورة الطور وهي: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) .
وقول الكفار دليل على أنهم قد حاروا في أمر النبي الذي استمر يقذفهم بقوارع الآيات وقواصم النذر دون مبالاة بعنادهم وتحديهم ولم يستطيعوا إسكاته وحمله على الكفّ عن تسفيههم ووقفوا منه موقف العاجز. ولم يبق أمل لخلاصهم منه في نظرهم إلا في موته الذي صاروا يتمنونه ويطمئن بعضهم بعضا به.
وننبه على أن المفسرين لم يرووا رواية خاصة بما قالوه وإنما هو على ما يبدو استلهام من فحوى الآيات. والمتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة عن السياق السابق وفيها استئناف لحكاية ما كان يقوله الكفار وردّ عليهم.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس تأويلا لكلمتي الخير والشر، وهو أنهما تعنيان الصحة والسقم والرخاء والشدة والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلالة. وكل هذا مما تتحمّله العبارة القرآنية التي فيها إنذار شامل للناس في جميع الأوقات أيضا وتنبيه لهم بأنهم معرضون في حياتهم للاختبار الرباني في مثل هذه الحالات وأن الله محاسبهم على مواقفهم تجاه هذا الاختبار حينما يرجعون إليه.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 41]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
.(5/267)
(1) تبهتهم: تذهلهم.
(2) لا ينظرون: لا يمهلون.
في الآيات:
1- حكاية لاستهزاء الكفار أو بالأحرى زعمائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بعضهم يتساءل حينما يمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم أو حينما يراه تساؤل المستخف عن هذا الذي بلغت جرأته على ذكر آلهتهم بالسوء ويرى في ذلك قحة تستدعي الاستهزاء والسخرية. وردّ عليهم، فهم أولى بذلك لأنهم كافرون بالله مع أنه صاحب الفضل والنعم عليهم.
2- وحكاية ثانية لتساؤلهم عن موعد تحقيق العذاب الذي يوعدون به في معرض التحدي والجحود. وردّ عليهم فيه تبكيت بعجلتهم التي هي من أخلاق الإنسان الغالبة، وفيه إنذار رهيب لهم: فلسوف يرون آيات الله الصاعقة. ولو علموا ما سوف يحلّ بهم من هول النار التي تنصبّ عليهم بغتة فتذهلهم ولن يستطيعوا أن يكفّوها عن وجوههم ولا عن ظهورهم ولا يجدون لهم منها نصيرا ولن يكون سبيل إلى إمهالها عنهم لما استعجلوا هذه العجلة.
3- التفات إلى النبي في معرض التطمين والتسكين. فإذا كان الكفار يبدون استخفافهم به وبدعوته فقد نال رسل الله من قبله مثل ذلك فحلّ بالمستهزئين شرّ استهزائهم ووباله وأن هذا هو شأن هؤلاء الكفار وعاقبتهم أيضا.(5/268)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وموقف الاستخفاف والتساؤل عن العذاب الموعود واستعجاله مما تكررت حكايته عن الكفار حيث يدل ذلك على أن هذه المواقف كانت تتكرر منهم. والردّ قوي عنيف مفزع حقا وهو متناسب مع موقف الإصرار والهزء الذي حكته الآيات عن الكفار.
ولقد ذهب بعض المفسرين «1» في التعليق على جملة خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ إلى بعيد فقالوا عزوا إلى بعض التابعين إن آدم لما خلقه الله من طين ونفخ فيه الروح استعجل في النهوض قبل أن تسري الحياة إلى جميع أعضائه وأن ذلك هو معنى الجملة حيث ورث بنو آدم العجلة من أبيهم ... والمتبادر أن الآية إنما جاءت في معرض التبكيت والتقريع وبأسلوب مألوف من أساليب التخاطب والجدل كما هو المتبادر.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 47]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
. (1) يكلؤكم: يحفظكم.
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبري يورد أقوالا متعددة في ذلك معزوة إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم.(5/269)
(2) تمنعهم: تحميهم.
(3) ولا هم منا يصحبون: ليس لهم منا صاحب مجير أو ليس لهم معنا صحبة خير. ومن التعبيرات العربية القديمة أنا لك صاحب بمعنى أنا لك مجير.
(4) أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها: قيل إنها بمعنى انتقاص أرض الكفر وأهلها بانتصار رسول الله. وقيل إنها بمعنى موت الناس وخراب البلاد حقبة بعد حقبة مطلقا. وقيل إنها تذكير بما كان من إهلاك الله للأمم السابقة التي كفرت به وتدمير بلادها. والقول الأخير هو الأوجه عندنا لا تساقه مع روح الآيات وفحواها.
(5) نفحة: شيء يسير.
(6) الموازين القسط: الموازين المضبوطة العادلة.
في الآيات:
1- أمر للنبي بسؤال الكفار منددا مقرعا عمن يستطيع أن يحفظهم من عذاب الله إذا باغتهم وعما إذا كانت آلهتهم التي يشركونها معه تستطيع أن تحميهم في حين أنها ليست مستطيعة أن تحمي نفسها وليس لها من الله صاحب ولا مجير.
2- وتعنيف للكفار على إعراضهم عن تدبر الأمور والاتعاظ بآيات القرآن.
3- وإشارة إلى ما داخلهم من غرور بسبب ما نالوه هم وآباؤهم من الجاه والمال فظنوا أنهم أصبحوا في أمان، وسؤال تنديدي عما إذا كانوا لم يروا ما يفعله الله بالكفار وبلادهم حيث يهلكهم ويدمر بلادهم وعما إذا كان يصحّ لمن يرى ذلك أن يغترّ ويأمن ويظنّ أنه يعجز الله ويفلت منه ويغلبه.
4- وأمر للنبي بأن يقول للكفار إنما هو نذير لهم ليذكرهم بالقرآن الموحى إليه من الله حيث يكون بذلك قد قام بواجبه لأنه غير مكلّف بإقناع من قسا قلبه واشتد عناده وأصبح كالأصمّ الذي لا يسمع النداء والنذر.
5- وإنذار للكفار بسوء المصير: فلسوف يلقون عذاب الله. ولسوف يشعرون بالندم لأول مسّ لأيسر هذا العذاب فيأخذون في الندب والعويل ويعترفون(5/270)
بما كان منهم من إثم وبغي وانحراف حيث لا ينفع الندم ولا يفيد الاعتراف والعويل. ولسوف يزن الله أعمال الناس بموازينه العادلة يوم القيامة. ويوفي كلا استحقاقه دون ما ظلم ولا إجحاف حتى لو كان مثقال حبة من خردل من خير وشرّ حوسب صاحبها عليها حسابا عدلا وكفى الله حسيبا فهو المحيط بكل شيء.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو ظاهر. وهي قوية نافذة استهدفت التذكير والموعظة وإثارة الخوف والارعواء في الكفار وتنبيههم إلى ما هم فيه من ضلال وما في اغترارهم بقوتهم وارتكانهم على شركائهم من سخف وباطل.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وعلماء التابعين لمدى جملة أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها «1» من ذلك أنها بسبيل الإثارة إلى ما ينقص من بلاد الشرك والكفر بفتحها للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بعده. ومنها أنها بسبيل التذكير بموت الناس جيلا بعد جيل. ومنها أنها بمعنى ذهاب خيارها وفقهائها أو بركتها. ومنها أنها بمعنى ما يطرأ على البلاد من خراب ودمار.
ويتبادر لنا أن كل هذه الأقوال لا تتسق مع مقام الجملة وظرف نزولها وأن المتسق مع ذلك هو ما ذكرناه في شرحها بقصد لفت نظر الكفار الذين هم موضوع السياق إلى ما كان يوقعه الله من تدمير وتخريب وإهلاك للأقوام الذين وقفوا من أنبيائهم موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وبلادهم على سبيل الإنذار والتحذير. وهي من باب آية سورة طه هذه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) . ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [47] حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله عزّ وجل يستخلص رجلا من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة
__________
(1) انظر تفسير الآية [41] من سورة الرعد المماثلة لهذه الجملة في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(5/271)
وتسعين سجلا كلّ سجل مدّ البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون قال لا يا ربّ. قال: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرجل فيقول: لا يا ربّ، فيقول: بلى إنّ لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول أحضروه فيقول يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة قال فطاشت السجلات وثقلت البطاقة. قال ولا يثقل شيء مع بسم الله الرّحمن الرّحيم» . وحديثا ثانيا رواه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو على الأرجح مختصر عن هذا الحديث قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصي عليه فيما يلي به الميزان. قال فيبعث الله به إلى النار قال فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرّحمن عزّ وجل يقول لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلّا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل الميزان» . وحديثا ثالثا رواه الإمام أيضا عن عائشة جاء فيه: «إنّ رجلا من أصحاب رسول الله جلس بين يديه فقال يا رسول الله إنّ لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك. وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصّ لهم منك الفضل الذي بقي عليك. فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله ويهتف، فقال رسول الله: ما له لا يقرأ كتاب الله ... وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) ، فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئا خيرا من فراق هؤلاء يعني عبيده، إني أشهدك أنهم أحرار كلّهم» . والحديث الأول من مرويات الترمذي بصيغة قريبة «1» . بحيث يمكن القول إن صحة الأحاديث الثلاثة محتملة.
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 342- 343.(5/272)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
والأحاديث مدنية والآية مكية. وفضلا عن ذلك فإن الآية تتمة للإنذار والتنديد الموجهين للكفار في الآيات السابقة لها. ومع ذلك فللأحاديث صلة بموضوع الآية بوجه عام.
والإيمان واجب بما يصحّ عن رسول الله من أخبار المشاهد الأخروية، ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث بيان ما لشهادة التوحيد من نفع للإنسان في آخرته وحثّ على الإقرار لله بالوحدانية والعمل الصالح وتحذر من أي عمل فيه إساءة أو أذى مهما كان تافها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
. (1) يخشون ربهم بالغيب: قيل إنها بمعنى يخشون ربهم المغيب عنهم تصديقا لأنبيائهم. وقيل إنها بمعنى يخشون عذاب ربهم المغيب عنهم كذلك الذي أوعد به الأنبياء وكلا القولين وجيه.
هذه الآيات حلقة من سلسلة من قصص أنبياء ذكروا في سور سابقة.
واقتضت حكمة التنزيل ذكرهم ثانية في هذه السلسلة عقب الفصول التي احتوت حكاية مواقف الكفار وأقوالهم وعقائدهم ونددت بهم وأنذرتهم جريا على الأسلوب القرآني.
والآيتان الأولى والثانية منها احتوتا إشارة مقتضبة إلى موسى وهرون.
تضمنت ذكر ما آتاهما الله من الفرقان الذي فيه التفريق بين الحق والباطل والضياء الذي يهتدى به في الظلمات والتذكير للمتقين الذين يخشون عذاب الله الموعود ويشفقون من هول القيامة. والآية الثالثة جاءت بمثابة التعقيب على ذلك. فهذا(5/273)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
القرآن المبارك أنزله الله كذلك تذكرة وهدى فهل يصح أن ينكره الكفار وقد عرفوا أن من عادة الله أن ينزل الذكر على أنبيائه لهداية الناس.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل قولين في (الفرقان) أحدهما أنه التوراة التي آتاها لموسى والتي فيها بيان الحقّ والباطل والحلال والحرام. وثانيهما أنه النصر الذي أوتيه موسى وهرون على فرعون. وأيد قائل القول الثاني قوله بأن القرآن وصف يوم بدر بالفرقان في آية سورة الأنفال هذه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [41] والإشارة إلى القرآن في الآية الثالثة تجعل الرجحان مع ذلك للقول الأول كما هو المتبادر لنا.
والعبرة هي المقصودة كما هو المتبادر من الإشارة إلى ما آتاه الله لموسى وهرون التي اقتضت حكمة التنزيل أن تكون مقتضبة جدا، وتلمح هذه العبرة في التماثل بين ما أنزل الله على موسى وهرون وما أنزل على محمد عليهم السلام وفي التنديد بالكفار الذين ينكرون ما أنزل على محمد مع أنهم يعرفون عادة الله وفي التنويه بالمؤمنين المتقين الذين يؤمنون بما أنزل الله ويتقون عذابه بصالح الأعمال.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 73]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
.(5/274)
(1) التماثيل: كناية عن الأصنام. وقد تدل الكلمة على الأصنام المخلقة أي المشابهة للإنسان أو الحيوان.
(2) اللاعبين: الهازلين أو العابثين في القول.
(3) فطرهن: خلقهن.
(4) لأكيدن أصنامكم: لأدبرن لها مكيدة.
(5) جذاذا: قطعا صغيرة.
(6) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون: قيل إنها بمعنى أنهم ترووا في كلام إبراهيم فأدركوا سخف عقيدتهم في الأصنام فقالوا لبعضهم أنتم الظالمون. وقيل إنها بمعنى أنهم لاموا أنفسهم لأنهم تركوا أصنامهم بدون حراسة.
(7) ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون: ثم انقلبوا إلى عنادهم وأخذوا يجادلونه بالباطل ويقولون له كيف تقول لنا اسألوهم وأنت تعرف أنهم لا ينطقون.
(8) نافلة: زيادة فضل ونعمة.(5/275)
تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه في هذه السورة
وهذه حلقة ثانية فيها قصة إبراهيم مع قومه. وعبارتها واضحة. وجلّ ما فيها جاء في سور الصافات والشعراء ومريم وهود والأنعام. وعلقنا عليه بما يغني عن تعليق جديد. وواضح من أسلوبها أنها سيقت لتذكير العرب بما كان من سخف قوم إبراهيم باتخاذ الأصنام وبما كان من حجته القوية عليهم وتنجية الله إياه من نارهم وعنايته به وبلوط وبإسحاق ويعقوب الذين وهبهم له لما كانوا عليه من صلاح وتقوى وهدى.
وهذه الحلقة هي أطول حلقات السلسلة. والمتبادر أن حكمة ذلك متصلة بما كان العرب يتداولونه من نسبتهم إلى إبراهيم وملته حيث اقتضت حكمة التنزيل دمغهم بالحجة فيها.
والجديد في القصة ذكر تنجية لوط مع إبراهيم إلى الأرض التي بارك الله فيها. وقد ذكر خروج لوط مع إبراهيم عليهما السلام من حاران في الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين المتداول اليوم مع أن قصة إبراهيم مع قومه لم تذكر فيه. وقد يؤيد هذا ما قلناه قبل من أن قصص إبراهيم عليه السلام مع قومه التي لم ترد في سفر التكوين المتداول اليوم قد ورد في أسفار وقراطيس كان اليهود يتداولونها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تصل إلينا.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن الأرض المقصودة في جملة الَّتِي بارَكْنا فِيها منها أنها الشام ومنها أنها مكة والذين قالوا القول الأول قالوا إن إبراهيم ذهب منها إلى فلسطين. والإصحاح المذكور آنفا من سفر التكوين ذكر أنه ذهب إلى أرض كنعان بأمر الله وهي ما يعرف اليوم بفلسطين.
ولقد أورد المفسرون روايات عديدة على هامش قصة إبراهيم في سياق هذه الآيات معزوة إلى ابن عباس وابن إسحق وغيرهم أوردوا معظمها في سياق آيات قصص إبراهيم في السور المذكورة آنفا. ومما أوردوه في سياق العبارات الجديدة(5/276)
في هذه الحلقة ولم نورده سابقا أن القوم ذهبوا إلى عيد لهم بعد أن وضعوا الطعام أمام أصنامهم فاغتنم إبراهيم الفرصة وتمارض وأقسم ليكيدن أصنامهم. وإن أحد الأشخاص سمعه فوشى به. وإن إبراهيم علّق الفأس التي حطم بها الأصنام في عنق كبيرها وقال لقومه فيما قال: إن هذا الكبير غضب من عبادتكم للصغار معه فحطمها. وإن الذي أمر بتحريقه رجل من أكراد فارس، وإن كل شيء اشترك في إطفاء النار عدا الوزغ الذي كان ينفخ فيها حيث يسوغ القول إن هذه البيانات أيضا مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وليس لها مصدر إلّا اليهود وما كان في أيديهم من قراطيس.
ولقد عللنا في سياق تفسير سورتي ص وهود ذكر إسحق ويعقوب فقط مع إبراهيم مع أن إسحق ليس هو الولد البكر ولا الوحيد لإبراهيم ومع أن يعقوب ليس هو الولد البكر ولا الوحيد لإسحق عليهم السلام جميعا فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة في هذا الموضوع بمناسبة وروده في هذه الآيات أيضا.
ومن مواضع العبرة في الحلقة حكاية موقف إبراهيم الشديد من وثنية قومه وأوثانهم المشابه لموقف النبي صلى الله عليه وسلم وعناية الله به وتنجيته من النار لما كان من إخلاصه وصلاحه ورشده. وهبة الله له بسبب ذلك إسحق ويعقوب وجعلهما أئمة يهدون بأمر الله ويفعلون الخير ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وإخلاصهم لله تعالى في الإيمان والعبادة. وفي كل ذلك دعوة مستمرة إلى التأسي بهم.
ولقد روى البغوي في سياق هذه الآيات عن أمّ شريك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وقال إنه كان ينفخ النار على إبراهيم. وفي ذيل الصفحة 90 من الجزء الثالث من التاج ذكر المؤلف أن هناك حديثا رواه البخاري في بدء الخلق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتلوا الوزغ فإنّه كان ينفخ على نار إبراهيم» . حيث ينطوي في هذا توافق ما كان يتداوله الناس في زمن النبي على ما ذكرناه آنفا. وهناك حديثان نبويان آخران يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بقتل الوزغ بدون ذكر علاقة ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام أحدهما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن سعد جاء فيه «إنّ(5/277)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسمّاه فويقا» . وثانيهما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل وزغة في أوّل ضربة فله كذا وكذا حسنة. ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى. ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية» «1» .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
. (1) حكما: بمعنى حكمة.
وهذه حلقة ثالثة فيها إشارة مقتضبة إلى لوط وقومه الفاسقين الذين كانوا يعملون الخبائث وتنجية الله إياه منهم وعنايته به لأنه من الصالحين. حيث يبدو في أسلوبها هدف العظة والتمثيل والتذكير والتنويه واضحا.
ولقد وردت قصة لوط مع قومه في سور عديدة سابقة وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
. وهذه حلقة رابعة فيها كذلك إشارة مقتضبة إلى نوح وما كان من استغاثته بالله واستجابة الله له وتنجيته مع أهله ونصره إياهم على قومه البغاة وإغراقهم، وهدف العظة والتمثيل والتذكير والتنويه واضح فيها أيضا.
__________
(1) التاج ج 3 ص 90- 91.(5/278)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
ولقد وردت قصة نوح في سور عديدة مرّ تفسيرها وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
. (1) الحرث: الزرع.
(2) نفشت فيه غنم القوم: انتشرت فيه.
(3) صنعة لبوس لكم: كناية عن صناعة دروع الحرب التي ذكرت في قصة داود في سورة سبأ.
(4) لتحصنكم من بأسكم: لتقيكم في الحروب.
تعليق على قصة داود وسليمان عليهما السلام في هذه السورة
وهذه حلقة خامسة فيها إشارة إلى شيء من سيرة داود وسليمان. وعبارتها واضحة وقد ورد أكثر ما فيها في سور سابقة. وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
وموضع العبرة فيها عناية الله تعالى بداود وسليمان عليهما السلام لإخلاصهما وما في ذلك من أسوة وبشرى.
وقضية الحرث والغنم جديدة. وهذه أيضا لم ترد في الأسفار المتداولة اليوم التي فيها سيرة داود وسليمان مثل أشياء كثيرة أخرى وردت عنهما في القرآن. وكما(5/279)
علّقنا في المناسبات السابقة أن ما ورد في القرآن من أخبار لم ترد في الأسفار المتداولة قد وردت في أسفار وقراطيس كانت متداولة بين يدي اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وضاعت نقول ذلك بالنسبة لهذه القصة.
وقد يؤيد هذا ما روي من تفصيل هذه القصة عزوا إلى ابن عباس حيث يفيد أن ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي عن طريق أهل الكتاب على ما هو المتبادر.
ولقد روى المفسرون القصة في صيغ مختلفة مع الاتفاق في الجوهر حيث رووا أن غنما لجماعة دخلت كرم جماعة أخرى أو حقل زرع لها فأفسدته فشكى صاحب الكرم أو الحقل أمره لداود فقضى له بالغنم فراجعه سليمان وقال غير هذا يا نبي الله أو قال سليمان لو كان الأمر إليّ لقضيت بغير هذا فسأله أبوه رأيه في القضية فقال: تدفع الكرم أو الحقل إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم لصاحب الكرم أو الحقل فيصيب منها حتى إذا صار الكرم أو الحقل كما كان دفعت الغنم لصاحبها والكرم أو الحقل لصاحبه.
ولقد علق المفسرون «1» على القصة تعليقات ورووا في مناسبتها روايات وأحاديث يمكن أن تكون قواعد وتشريعات إسلامية.
من ذلك جواز الاجتهاد للأنبياء فيما ليس فيه وحي رباني وتفهيم الله لنبي بحكم أصوب من حكم نبي آخر وعدم تعارض ذلك مع تقرير الحكم والعلم لكل منهم. وعدم إثم المجتهد إذا أخطأ في اجتهاده والحاكم إذا أخطأ في حكمه وجواز رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه وإن الاختلاف في الاجتهاد يعني تعدد الصواب في القضية. فالصواب الذي في علم الله واحد لا يختلف باختلاف الاجتهاد. وقد أوردوا حديثا نبويا رواه البخاري عن عمرو بن
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي. وأكثر هذه التعليقات والقواعد في تفسير القاسمي.(5/280)
العاص جاء فيه: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» «1» . كما أوردوا حديثا فيه حكم نبوي في حادث مشابه للحادث الذي روته القصة، حيث روي: «أنّ ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا- أي بستانا- فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار وضمان ما أفسدته المواشي فيها بالليل على أصحابها» «2» فصار ذلك تشريعا إسلاميا يحكم به قضاة المسلمين حيث كانوا يبرئون صاحب الماشية إذا دخلت الأرض نهارا ويضمنونه ما أفسدته إذا دخلتها ليلا.
ولقد روي عن الحسن في سياق هذه الآيات قوله: «لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه- يعني سليمان- وأثنى على هذا باجتهاده- يعني داود» وأن الله اتخذ على الحكام والحكماء ثلاثا أن لا يشتروا بآيات الله وعهده ثمنا. ولا يتبعوا الهوى ولا يخشوا أحدا وهو ما جاء في آية سورة ص هذه: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [26] وفي آية سورة المائدة هذه فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [44] وفي آية سورة البقرة هذه: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [41] وهناك حديث نبوي سيق في هذا السياق رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحقّ فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار.
ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» «3» .
هذا ولقد أورد المفسرون «4» في سياق تفسير هذه السورة وعلى هامش هذه الآيات أيضا بيانات مسهبة عن تسخير الجبال والطير لداود وتعليمه صنعة الدروع.
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 59.
(2) ورد هذا الخبر في تفسير الطبري والبغوي مرويا عن سلمة عن ابن اسحق عن الزهري عن حرام عن محيصة بن مسعود راوي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) أورد هذا الحديث مؤلف التاج أيضا انظر ج 3 ص 53. [.....]
(4) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.(5/281)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
وعن تسخير الريح والشياطين لسليمان والبساط العظيم الذي كان يمتطيه هو ورجال دولته وجنوده وينتقلون عليه من صقع إلى صقع. والأبهة العظيمة التي كانت لمظاهره وما كان الجن يصنعون له من عظائم معزوة إلى علماء التابعين والأخبار مشوبة بالخيال والغلوّ وإن كانت تدور في نطاق ما جاء في القرآن من قصص داود وسليمان. وفيها على كل حال كما قلنا في المناسبات السابقة دلالة على أن هذه القصص مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وليس له مصدر إلا اليهود وما كان في أيديهم من أسفار لم تصل إلينا. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة أننا لم نر طائلا من إيراد ذلك لأنه غير متصل بالهدف القرآني الذي هو العبرة والموعظة وأننا نفضل الوقوف عند ما شاءت حكمة التنزيل ذكره في القرآن منها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
. وهذه حلقة سادسة فيها إشارة مقتضبة إلى قصة أيوب وما كان من الضرّ الذي أصابه واستغاثته بالله وحده وما كان من رحمة الله به جزاء إخلاصه في العبادة.
وهدف التذكير والعبرة فيها واضح. ولقد ذكرت قصة أيوب في سورة ص بشيء من التفصيل وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.
ولقد أورد المفسرون في هذه السورة أيضا في سياق هذه القصة بيانات مسهبة منها ما هو متطابق مع ما جاء في سفر أيوب ومنها غير المتطابق. ولم نر إضافة شيء جديد على الخلاصة التي أوردناها في سورة ص لأننا لم نر من ذلك طائلا في هدف القصة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
.(5/282)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
وهذه حلقة سادسة فيها إشارة مقتضبة إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل وما كان من صبرهم ورحمة الله بهم لصلاحهم وإخلاصهم.
وهدف التذكير والعبرة فيها واضح أيضا. وقد ذكر الأنبياء الثلاثة في سور أخرى سابقة وعلقنا على شخصياتهم بما يغني عن تعليق جديد.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
. (1) ذا النون: النون بمعنى الحوت. والجملة كناية عن يونس عليه السلام على ما هو المتفق عليه. وقد ذكر في سورة القلم بصيغة (صاحب الحوت) .
(2) إذ ذهب مغاضبا: إذ خرج من بلده غاضبا وساخطا. وقد ذكرنا ما رواه المفسرون وما ورد في سفر يونان من سبب غضبه في سياق سورة الصافات، فلا ضرورة للإعادة.
(3) فظن أن لن نقدر عليه: أوجه التأويلات على ضوء ما ورد من قصته في سورة الصافات أنه ظنّ أن لا يلحقه غضبنا إذا ترك قومه وفرّ. فلما لحقه غضبنا وجعلنا الحوت يلتقمه أدرك خطأه وندم وهتف من باطن الحوت وهذا معنى فَنادى فِي الظُّلُماتِ إنه من الظالمين فتاب الله عليه ونجاه من الغم.
ولقد قلنا في التعليق إن قصة أيوب عليه السلام مفصلة في سفر مسمّى باسمه من أسفار العهد القديم. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الحلقة بيانات مسهبة مروية عن علماء الصدر الإسلامي الأول منها المتطابق مع هذا السفر ومنها غير المتطابق وفيها على كل حال دلالة على أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. ومصدر ذلك هو الجاليات الكتابية على ما هو المتبادر. ولقد(5/283)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
أوردنا ما رأيناه مفيدا وكافيا عن القصة ونبهنا على ما فيها من عبر ومواعظ في سياق تعليقنا الأول فنكتفي بهذه الإشارة.
وهذه حلقة سابعة فيها إشارة مقتضبة إلى قصة يونس وما كان من اعترافه بخطئه وظلم نفسه واستغاثته بربّه وهو في بطن الحوت واستجابة الله له وتنجيته من كربه لأنّ من دأب الله سبحانه أن ينجي المؤمنين.
وهدف العبرة والتذكير واضح في الآيات. وقد ذكرت قصة يونس بشيء من الإسهاب في سورة الصافات وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. ولقد روى المفسرون «1» في سياق هذه الآيات بيانات مسهبة عن قصة يونس منها ما هو المتطابق مع سفر يونان ومنها غير المتطابق. وفيه على كل حال دلالة على أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وليس له مصدر إلّا الأسفار التي كانت متداولة في أيدي الكتابيين من يهود ونصارى. ولم نر طائلا ولا ضرورة إلى زيادة شيء جديد على ما أوردناه من هذه القصة في سياق سورتي القلم والصافات.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 90]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)
. وهذه حلقة ثامنة فيها إشارة إلى ما كان من دعاء زكريا واستجابة الله له وهبته له ابنا رغم شيخوخته وعقم زوجته لأنهم كانوا يسارعون في عمل الخير ويدعون ربهم راجين رضاءه خائفين من غضبه وكانوا خاشعين له.
وهدف العبرة والتذكير واضح في الآيات أيضا. وقصة زكريا ذكرت بشيء من التفصيل في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.(5/284)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
[سورة الأنبياء (21) : آية 91]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)
. (1) التي أحصنت فرجها: كناية عن مريم.
وهذه حلقة تاسعة وأخيرة فيها إشارة إلى مريم وابنها الذي ولدته نتيجة لنفخ الله فيها من روحه وما كان في ذلك من المعجزة التي جعلها الله للعالمين ليشهدوا فيها مظهرا من مظاهر قدرة الله.
تعليق على قصة مريم وجملة فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا
وقصة مريم وولادتها لعيسى قد ذكرت بشيء من الإسهاب في سورة مريم.
وقد علّقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. إلّا أن نقول إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تذكر هذه القصة في سورة مريم عقب ولادة يحيى ذكرت هنا عقب ذلك أيضا حيث أريد هنا كما أريد هناك تقرير كون كل من الولادتين معجزة ربانية فلا ينبغي أن يترتب على معجزة ولادة عيسى اتخاذه إلها أو ابنا لله بمعنى النبوة.
ونقطة أخرى في الآيات تأتي لأول مرة وهي جملة فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا. وقد عبر عن ذلك في آية سورة آل عمران بجملة يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [45] وفي آية في سورة النساء بجملة إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [171] وفي آية سورة التحريم بجملة وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [12] وتعليقا على ذلك نقول إن القرآن استعمل تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [72] في صدد خلق آدم في سورة ص، وتعبير ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ في صدد خلق الإنسان في سورة السجدة الآية [9] هذا أولا.(5/285)
وثانيا: إن القرآن ذكر في سورة مريم أن روح الله تمثل لمريم بشرا ليهب لها غلاما ولم يذكر أسلوب الهبة. وروح الله في سورة مريم يعني على ما تلهمه العبارة بكل قوة بل وصراحة ملك الله وبين هذا وبين فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وفَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: 12] فرق واضح.
وثالثا: إن القرآن لم يذكر في سورة آل عمران في سياق ذكر قصة ولادة عيسى نفخا ولا روحا مرسلا وإنما بشرى من الملائكة بكلمة الله كما ترى في هذه الآيات: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) .
ورابعا: إن روح الآيات التي وردت فيها هذه التعبيرات تلهم قصد تقرير كون خلقة عيسى عناية ربانية ومعجزة ربانية ونفي أي جزئية إلهية عنه وقصد تقرير كون عيسى عبدا من عباد الله ورسوله ولا يصح أن يكون ولدا له أو مندمجا معه في الألوهية أو صورة من صورها وتنزيه الله عن هذه المعاني وتقرير وحدانيته وكمال صفاته كما جاء ذلك في آيات سورة النساء هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [172] .
فالواجب والحالة هذه الوقوف عند الحدّ الذي وقف عنده القرآن دون تزيد مع ملاحظة ما تلهمه روح الآيات ومع اعتبار أن التنوع الذي يبدو في التعبيرات هو بقصد التقريب والتمثيل وملاحظة أن ما قصد تقريره متصل بالدعوة النبوية إلى الله(5/286)
وحده وتنزيهه عن الولد والشرك بأي معنى من المعاني وصورة من الصور وأن الله ليس كمثله شيء وأن كل صفاته وما يصحّ أن ينسب إليه أو يعبر به عنه بما في ذلك تعبير (روحنا) و (روحه) و (روحه منه) بمعنى حياته يجب أن يكون مندمجا في معنى وضابط ليس كمثله شيء وأن عدم المماثلة مما يمتنع أن يكون شيء ما منه منتقلا إلى غيره.
ولقد جاء وفد من نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فتناظر معه في أمر عيسى عليه السلام فقرر لهم ما جاء عنه في السور المكية مثل سورة مريم وسورة الأنبياء التي نحن في صددها فأصرّوا على عقيدتهم فقال لهم تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) كما أمرته آية سورة آل عمران [61] فأحجموا ثم قالوا له:
ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته؟ قال: بلى فقالوا هذا حسبنا كأنهم رأوا فيه حجة عليه فأنزل الله فيما أنزل في صدد هذه المناظرة آية سورة آل عمران هذه:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «1» [7] كأنما أريد أن يقال فيها ردا على قولهم إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط من ذلك حجة على أنه ابن الله أو جزء منه أو صورة عنه. فهذا تمحّل في التأويل ابتغاء تبرير الهوى والباطل وغير متسق مع المحكم من القرآن الذي يقرّر بصراحة وقطعية أن الله واحد لا شريك له ولا ولد وأنه ليس ثالث ثلاثة وأن المسيح ليس إلها ولا ابنا لله ولا صورة عنه ولا جزءا منه. وكل ما في الأمر أنه يقرر كون ولادته معجزة ربانية بالأسلوب الذي يمكن أن يعبر به عن ذلك بلسان البشر. حيث ينطوي في هذا توكيد لما قلناه من أن العبارة القرآنية هي للتقريب والتمثيل.
__________
(1) اقرأ تفسير سورة آل عمران في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والمنار.(5/287)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
هذا، ويحسن أن نزيد على ما قلناه في سياق كل حلقة أن تعبير (التنجية) لأنبياء الله و (استجابة الله) لهم وعنايته بهم بسبب إخلاصهم وصبرهم وخشوعهم وعبادتهم وشكرهم قد تكرر في هذه الحلقات: مما قد يجعل من مقاصد تشجيع النبي والمسلمين وتطمينهم والتنويه بهم ودعوتهم إلى التأسي بأنبياء الله.
والسورة بعد مما يقدر أنها نزلت في الثلث الأخير من العهد المكي الذي ماتت فيه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي كانت من أعظم مشجعيه ومؤاسييه في مواقفه العصيبة، ومات فيه كذلك أبو طالب عمّه ومناصره حيث يحتمل أن يكون ضغط زعماء المشركين قد اشتد واشتد نتيجة لذلك غمّ النبي وخوف المؤمنين فجعله هذا كما روته الروايات يذهب إلى الطائف لعلّه يجد نصيرا ويتصل بزعماء القبائل في المواسم وبزعماء الأوس والخزرج أهل يثرب من أجل ذلك وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الحلقات بما فيه البشرى والتطمين بالنجاة والنصر «1» .
[سورة الأنبياء (21) : آية 92]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
. (1) أمتكم أمة واحدة: أولا الأمة هنا بمعنى الملّة أو الطريقة أو الدين والجملة بسبيل الإيذان بأن ملّة المسلمين أو دينهم أو طريقتهم وملّة أنبياء الله السابقين أو دينهم أو طريقتهم واحدة لا تعدد لها. وثانيا قرئت التاء بأمتكم وأمّة بالفتح وقرئت بالضم وقرئت تاء أمتكم بالضم وتاء أمة بالفتح. وفي القراءة الأولى تكون أمتكم بدلا من (هذه) التي هي في مقام اسم إن وتكون أمة بدلا من أمتكم أو في مقام الحال ويكون خبر (إن) مقدرا وهو غير متفرقة. وفي القراءة الثانية تكون أمتكم خبر إن وتكون أمة بدلا من أمتكم. وفي القراءة الثالثة تكون أمتكم خبر إن
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 25- 38.(5/288)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
وأمة في مقام الحال على ما علّله المفسرون، وكل من هذه التعليلات وارد والله أعلم.
هذه الآية موجهة على ما يبدو من ضمير الجمع المخاطب إلى النبي والمؤمنين كالتفات وتعقيب بعد سلسلة قصص الأنبياء. واحتوت هتافا لهم بأن طريقة عبادة الله وحده والخضوع له وحده والإخلاص له وحده والاستعانة به وحده وعمل الصالحات والخيرات التي سار عليها أنبياء الله هي الطريقة الوحيدة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها ويثبتوا فيها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 93 الى 95]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)
. في الآية الأولى: إشارة إلى ما كان من افتراق الناس واختلافهم في أمور دينهم وملتهم وتقرير بأن الجميع راجعون إلى الله.
وفي الآية الثانية: إشارة إلى الفريق الذي سار على الطريقة القويمة وآمن بالله وعمل الصالحات وتقرير بأن عمله لن يضيع وأن الله قد سجله له.
وفي الآية الثالثة: إشارة إلى الفريق الذي انحرف عن الطريقة القويمة فاستحق غضب الله وهلاكه فإنها بعد أن يكون هلاك الله حل فيه لا يقبل منه رجوع ولا توبة.
أما الآية الثالثة فقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لها «1» . منها أن القرى التي يهلكها الله تعالى لا يرجع منهم راجع ولا يتوب منهم تائب ومنها أنه محرم عليهم أن يرجعوا إلى دنيا. ومنها أن القرى التي استحقت هلاك الله فأهلكها لم يكن مقصورا رجوعها وإنابتها إلى الله.
__________
(1) انظر تفسيرها في كتب الطبري والبغوي والطبرسي والزمخشري.(5/289)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
ومنها أن القرى التي أهلكها الله لا يبقى منهم أحد وفي هذا تخويف لأهل مكة.
والتأويل الأخير وتعليله هما الأوجه فيما يتبادر لنا. وقد خطر لنا تأويل آخر أن القرية التي حقّ عليها القول قد فاتتها الفرصة فلم يبق لها مجال لرجوع وتوبة. وفي هذا كذلك إنذار وتخويف لكفار العرب.
والآيات جاءت معقبة على الآية السابقة كما هو المتبادر وقد توخى فيها على ما تلهمه روحها تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتبشيرهم وتطمينهم بحسن العاقبة مع تنبيه وإنذار للكفار بأنهم يوشكون أن يضيعوا الفرصة فيندمون ولات ساعة مندم.
وهذا التنبيه والإنذار قد انطويا في آيات عديدة ومرّت أمثلة منها في سور سابقة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 96 الى 97]
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
. (1) من كل حدب: من كل مرتفع والمقصد من كل جهة.
(2) ينسلون: يأتون ويسرعون.
في الآيتين توكيد لإنذار الكفار الذي رجحنا أن الآية السابقة لهما قد تضمنته ووصف لما ينتظرهم من هول يوم القيامة: فحينما يحين الموعد المعين في علم الله لقيام الساعة وتبدو علائمها التي منها انفتاح يأجوج ومأجوج وزحفهم من كل ناحية أو إلى كل ناحية يكون قد اقترب تحقيق وعد الله. ولسوف تشخص حينئذ أبصار الكفار ذهولا وهلعا فيأخذون في العويل والندم لأنهم لم يحسبوا حساب هذا اليوم وغفلوا عنه ويعترفون بأنهم كانوا آثمين ظالمين.
والآيات متصلة بالسياق السابق كما هو المتبادر، والمتبادر كذلك أن الكلام في الآية الأولى متصل بالسد الذي أنشأه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج والذي ذكر في سورة الكهف ووردت الأحاديث بأن انهياره وخروج يأجوج ومأجوج منه(5/290)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
من علامات الساعة مما ذكرناه وعلقنا عليه في سورة الكهف تعليقا يغني عن التكرار.
وقد استهدفت الآيات إنذار الكفار وزجرهم وإرهابهم وحملهم على الارعواء قبل فوات الوقت كما استهدفت ذلك الآيات السابقة لها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 100]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
. (1) حصب: الواضح أن الكلمة متصلة بكلمة الحصباء وهي الحجارة الصغيرة التي تكون في الأرض فتتوهج من حرارة الشمس وتغدو كأنها جمرات من نار. والمقصد منها في مقامها تقرير كون الكفار ومعبوداتهم سيكونون وقودا للنار وقد قرئت (حطب) وقرئت (حضب) والحضب كل ما وضع في النار لتأجيجها.
(2) زفير: هنا بمعنى الأنين الذي يخرج من المتألمين.
وجه الخطاب في الآيات إلى الكفار السامعين في معرض التنديد والتقريع:
فهم وما يعبدون من دون الله واردون جهنّم وصائرون لها وقودا ومكتوون بنارها وخالدون فيها ولسوف يصرخون ويئنّون من شدة عذابها وألمه ولن يسمعوا فيها أية بشارة بالنجاة. ولو كان ما يعبدون من دون الله آلهة حقيقيين لما وردوها بطبيعة الحال.
والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو ظاهر. وقد صرف بعض المفسرين جملة وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى الشياطين والجنّ ومنهم من صرفها إلى الأوثان. وكلا الاحتمالين وجيه. ولا وجه غيرهما أي إنه لا يصحّ صرفها إلى الملائكة الذين هم من معبودات الكفار بطبيعة الحال. وعلى كل حال فالآيات جاءت كما قلنا بسبيل التنديد والتقريع والإنذار.(5/291)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 103]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
. (1) حسيسها: صوتها والضمير عائد إلى جهنّم.
(2) الفزع الأكبر: الخوف العظيم من المصير الرهيب.
في هذه الآيات: ذكر لمصير الذين كتب الله لهم السعادة بإيمانهم وأعمالهم الصالحة هم ناجون مبعدون عن النار لا يسمعون صوتها ولا يشعرون بأثرها. وهم متمتعون بما تشتهيه أنفسهم خالدون في النعم لا يخيفهم ولا يحزنهم الهول الأكبر الذي يخيف الكفار. وتستقبلهم الملائكة مبشرين قائلين لهم هذا يوم نعيمكم الحقيقي الذي كنتم توعدون به في الدنيا.
ولقد روى المفسّرون «1» روايات عديدة متغايرة في التفصيل متفقة في الجوهر خلاصتها أن الآيات نزلت في مناسبة جدل نشأ عن الآيات السابقة لها حيث وعظ النبي صلى الله عليه وسلم قريشا في فناء الكعبة الذي كان غاصّا بالأصنام فأشار إليها وتلا الآية:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) فانبرى له شخص اسمه ابن الزبعري، فقال له إن العرب يعبدون الملائكة والنصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وهم من عباد الله المقربين حسب اعترافك فهل هم أيضا حصب جهنم؟ فنزلت الآيات لتستثني هؤلاء من شمول الآيات السابقة «2» ولا نريد أن ننفي الرواية، ولكن الذي نرى أن الآيات تلهمه أكثر وخاصة الثالثة منها هو قصد الثناء والتنويه والتطمين للمؤمنين مقابلة لما احتوته الآيات السابقة لها جريا على الأسلوب القرآني. ومن المحتمل أن الحادث الذي
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والزمخشري والبغوي وابن كثير والخازن.(5/292)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
روته الروايات قد وقع فتليت الآيات بسبيل الرد على ابن الزبعري فالتبس الأمر على الرواة. ولقد احتوت آيات عديدة ما احتوته الآيات بسبيل ذكر مصير المؤمنين المخلصين وتطمينهم في المناسبات المماثلة حيث يدعم هذا ترجيحنا. وتكون الآيات بذلك متصلة سياقا وموضوعا بسابقاتها كما هو واضح.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 104 الى 107]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
. (1) السجلّ: قيل إنه اسم كاتب من كتّاب النبي وقيل إنه اسم الملك الذي يطوي كتب أعمال الناس وقيل إنه صحيفة الورق التي يكتب عليها وأنكر الطبري القولين الأولين وقال إنه لا سند لهما ورجح القول الثالث وهو الصواب. وتكون الجملة بمعنى كطي الصحيفة التي يكتب عليها الكتب حين ما يريد كاتب أن يكتب وهذا هو الوجه والصواب فيما هو المتبادر.
(2) الزبور: أكثر المفسرين على أن الكلمة هنا تعني كتب الله المنزلة مطلقا وهو الأوجه المتسق مع الآيات.
(3) الذكر: قيل إن الكلمة كناية عن القرآن. أو كناية عن اللوح المحفوظ أو كناية عن التوراة أو إنها الكتب المنزلة مطلقا. ويتبادر لنا أنها في مقامها بمعنى التذكير، وورود كلمة الزبور قبلها قرينة على ذلك فيما نرى.
في الآية الأولى: وعد يقطعه الله على نفسه بأنه سوف يعيد الخلق ثانية كما بدأهم أول مرة، وإيذان بأنه محقق وعده وقادر عليه. وسيطوي السماء حينئذ كما تطوى صحيفة الورق المعدة للكتابة.
وفي الآية الثانية: إيذان بأن الله قرر في كتبه المنزلة بعد ما ذكر الناس وبين(5/293)
لهم طريق الحق والهدى أن الأرض إنما يرثها عباده الصالحون.
وفي الآية الثالثة: تقرير بأن فيما يذكر من ذلك بلاغا كافيا لمن استنار قلبه فآمن وعبد الله وحده.
وفي الآية الرابعة: وجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله إنما أرسله ليكون رحمة للعالمين بما يقوم به من تبليغ الناس أوامره ونواهيه وتوضيح طريق الحق والهدى والدعوة إليه.
وأسلوب الآيات قوي نافذ. وفي الآية الأخيرة معان قوية من التحبب والثناء والتطمين للنبي. ثم فيها إشارة قوية إلى مدى الرسالة المحمدية وما توخّى الله فيها من الرحمة الشاملة للعالمين في كل مكان وزمان.
والمتبادر أن طيّ السماء وتمثيلها بالورقة التي تطوى للكتابة إنما قصد به توكيد قدرة الله. فالناس يستعظمون ما يرونه من مشاهد الكون وبخاصة السماء ويستعظمون البعث بعد الموت: فكأنما أريد أن يقال لهم إن ما تستعظمونه ليس هو بالنسبة إلى قدرة الله إلّا شيئا تافها وأن يمثل لهم بمثل يستطيعون فهمه. وهذا المعنى قد تكرر في مواضع كثيرة في صدد القيامة وأحداثها بأساليب متنوعة.
والتنويع دليل على صحة ما نقرره إن شاء الله. وقصد تقرير قدرة الله على ذلك بارز في آية في سورة الزمر فيها عبارة مماثلة وهي: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) .
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس تأويلا لجملة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ مفاده أن هذه الرحمة شاملة للمؤمنين وغير المؤمنين فيكون للأولين رحمة في الدنيا والآخرة. أما رحمة الآخرين فتتمثل في المعافاة مما أصاب الأمم السابقة من الخسف والقذف والمسخ والاستئصال. ويتبادر لنا أن في هذا التأويل تكلفا وبخاصة في شقه الثاني. وأن هدف الجملة هو تقرير كون الله قد جعل رسالة رسوله رحمة للعالمين جميعهم بسبيل تقرير ما فيها من هدى والحثّ على الانضواء إليها.(5/294)
ولقد أورد المفسر نفسه بعض أحاديث نبوية في سياق الجملة منها حديث عزاه إلى مسلم عن أبي هريرة قال: «قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة» . وحديث أخرجه الحافظ بن عساكر عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا رحمة مهداة» . وحديث أخرجه كذلك ابن عساكر عن ابن عمر جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين» . وصحة الأحاديث محتملة وينطوي فيها إيذان بمدى مهمة الرسالة النبوية وما فيها من هدى ورحمة للناس. وفي هذا تساوق مع الجملة القرآنية.
تعليق على جملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
ولقد تعددت أقوال أهل التأويل من الصدر الإسلامي الأول التي يرويها المفسرون لجملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ منها أنها الجنة الأخروية ومنها أنها الدنيا أو أنها أرض الكفار التي يفتحها المسلمون. ومنهم من رأى فيها بشرى فوز النبي والمؤمنين على قريش في النهاية. ويلحظ أن الكلام هو في صدد مصائر الناس في الآخرة وتوكيد وعد الله بتحقيق ذلك مما يجعلنا نرجح الاحتمال الأول. ولا سيّما إن جملة عِبادِيَ الصَّالِحُونَ لا يمكن أن تنصرف إلّا إلى عباد الله المؤمنين الموحدين السالكين طريق الحق في حين أن كثيرا ما يتمكن في الأرض أناس غير متّصفين بذلك. وفي أوائل سورة (المؤمنون) التي تأتي بعد هذه السورة آيتان يمكن أن تكونا قرينة على تفسير كلمة يَرِثُها بما يتفق مع الاحتمال الأول وهما: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) ، بل وفي سورة الزمر آية أكثر تأييدا لهذا التفسير وهي:
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وهذه السورة مكيّة ولم يكن المؤمنون قد انتصروا وصاروا أصحاب السلطان في الأرض.(5/295)
وبعض الباحثين يستلهمون من هذه الجملة مبدأ اجتماعيا ويقولون إنها تنطوي على تقرير كون التمكن في الأرض هو من حظّ كل شخص أو أمّة صالحة سالكة طريق الحق والعدل والخير والتعاون سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين ويستدلون على ذلك بواقع الدنيا من حيث تمكن كثير من الأفراد والأمم من مسلمين وغير مسلمين في الأرض ثروة وطمأنينة وسعادة وحكما وسلطانا حينما يكونون متصفين بذلك. وقد لا يخلو هذا من وجاهة متساوقة فعلا مع واقع الحياة ومع الشرح الذي شرحناه به جملة وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ الآية [117] من سورة هود. على أن جملة إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قد تسوغ القول إن المقصود هنا هم المخلصون لله تعالى في الإيمان والعبادة والعمل الصالح. وهم بعد البعثة المحمدية المسلمون الذين يخلصون دينهم لله ويلتزمون حدود أوامره ونواهيه وأوامر رسوله ونواهيه. ولقد وعدهم الله في آية أخرى بالاستخلاف في الأرض إذا اتصفوا بهذه الصفات وهي:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ سورة النور الآية [55] وقد حقق الله لهم وعده فكانوا ورثة الأرض وحكامها في بعض حقبهم وبخاصة في زمن النبي عليه السلام بالنسبة لجزيرة العرب ثم في زمن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين لشطر عظيم مما كان معروفا من مشارق الأرض ومغاربها، ولسنا نرى تعارضا مع ذلك بين هذا وبين الحكمة الاجتماعية التي تحتمل أن تلهمها الجملة.
وقد يرد أن من واقع الحياة أيضا أن يكون الظالمون والمجرمون والمنحرفون وغير الصالحين متمكنين في الأرض أفرادا كانوا أم ملوكا أم أمما. ولسنا نرى في هذا ما ينقض تلك الحكمة العامة الملموحة في الآية. وفي القرآن آيات فيها إقرار بذلك الواقع وإلى جانبها آيات كثيرة جدا فيها إيذان بأن الله أهلك بعضهم فورا أو(5/296)
إنه إنما يؤخرهم إلى أجل ثم يأخذهم. ويكون أخذه لهم أليما شديدا أو إنه إنما يملي لهم إملاء وتنديد بالذين يظنون أن ما هم فيه حظوة من الله وإنذارات قارعة لهم بالعذاب والبلاء في الدنيا والآخرة ووعد بنصر المؤمنين والصالحين مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها. والجملة بعد تنطوي على تقرير كون العاقبة والنصر وإرث الأرض في النهاية هي لهؤلاء مهما كان للأولين من نجاح وتمكّن.
تأويل الشيعة للجملة السابقة واستطراد إلى موضوع المهدي وما ورد فيه من أحاديث وتعليق عليها
لقد روى الطبرسي المفسر الشيعي عن أحد الأئمة الاثني عشر أبي جعفر قوله: إن الصالحين في الآية هم المهدي وأصحابه في آخر الزمان وإن مما يدل على ذلك ما رواه الخاص والعام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا صالحا من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا» . وروى المفسر حديثا مرويا عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزداد الأمر إلّا شدة ولا الناس إلّا شحّا ولا الدنيا إلّا إدبارا ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس ولا مهدي إلّا عيسى» . ثم قال إن الحديث منقطع وإن بعض رواته متروكون أو مهمولون. وإن الأحاديث في ظهور المهدي صحيحة الأسناد. وساق حديثين واحدا رواه أبو داود عن عبد الله فيه نصّ الحديث الذي رواه أبو جعفر مع زيادة هي: «وفي رواية يواطىء اسمه اسمي» «1» . وواحدا رواه أبو داود كذلك عن أم سلمة قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة» . والحديثان واردان في التاج أيضا أولهما معزوّ إلى أبي داود والترمذي وثانيهما إلى أبي داود والحاكم «2» . وفي
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 311- 312.
(2) المصدر نفسه.(5/297)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
هذا المصدر أحاديث أخرى في هذا الصدد منها حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: «خشينا أن يكون بعد نبيّنا حدث فسألناه فقال إن في أمتي المهديّ يخرج يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا قلنا ما ذاك قال: سنين قال فيجيء إليه الرجل فيقول يا مهديّ أعطني أعطني فيحمله في ثوبه ما استطاع أن يحمله» «1» وحديث رواه أبو داود عن أبي سعيد أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المهديّ مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ويملك سبع سنين» «2» .
ولقد كانت هذه الأحاديث حافزا لغير واحد من المنتسبين إلى سلالة فاطمة الطاهرة المتسمين باسم محمد- لأنها هي وحدها التي خلّفت ذرية يمكن أن تنتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم- للخروج من آن لآخر على السلطان الإسلامي القائم أولهم محمد بن عبد الله المسمّى بالنفس الزكيّة الذي خرج باسم المهدي في زمن المنصور ثاني الخلفاء العباسيين وآخرهم محمد بن عبد الله مهدي السودان في أواخر القرن الماضي. كما كانت هذه الأحاديث مددا للشيعة الإمامية الاثني عشرية والسبعية ليعتبروا إمامهم المختفي في الكهف هو المهدي الذي سوف يخرج يوما ويحكم الأرض. ونخشى كثيرا أن يكون الهوى الحزبي قد لعب دوره في هذه المرويات ليتسلح الذي حدثته أو تحدثه نفسه بالخروج على السلطان بها كخبر نبوي يجب الإيمان به أو ليتسلح بها الشيعة الإمامية أو السبعية ليستمدوا منها الأمل والثبات على عقيدتهم. والله أعلم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) .
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر نفسه.(5/298)
(1) آذنتكم على سواء: روى المفسرون عن أهل التأويل أن الجملة بمعنى أعلمكم أني وأنتم على حرب لا صلح بيننا.
(2) إن أدري: لا أدري.
(3) فتنة: اختبار وابتلاء.
في الآيات: أمر للنبي بتبليغ الناس بأن ما يوحى إليه هو أن إلههم واحد لا شريك له وبأن يسألهم سؤال دعوة وتنبيه عما إذا كانوا مستعدين للاعتراف بذلك وإسلام أنفسهم لله وحده وبأن يقول لهم إذا امتنعوا عن ذلك أني قد أعلمتكم بالأمر وأبلغتكم وحي الله وصار بيننا حرب لا صلح له ولست أدري موعد تحقيق وعد الله هل هو قريب أم بعيد. ولست أدري إذا كان الله أراد اختباركم فجعل لكم مهلة إلى وقت معين في علمه. وأن الله على كل حال يعلم ما تقولونه وتبيتونه في جهركم وسرّكم وقصارى مهمتي إبلاغكم وإنذاركم وقد قمت بها.
ولقد قرىء فعل القول في الآية الأخيرة بصيغة الماضي كما قرىء بصيغة الأمر. وتضمنت الآية دعاء النبي لله بأن يحكم بينه وبين قومه بالحق والاستعانة به على ما يقوله الكفار افتراء على الله وزورا. وعلى قراءة فعل القول بصيغة الأمر يكون ذلك أمرا من الله بأن يدعو ويستعين. وعلى القراءة الثانية يكون ذلك حكاية لدعائه واستعانته. والنفس تطمئن لصيغة الأمر لأنها متسقة مع صيغة الآيات الأخرى أكثر، وقد رجّح هذا الطبري وقال إن عامة الأنصار عليه.
والآيات متصلة كذلك بسابقاتها. وأسلوبها قوي نافذ. وقد جاءت خاتمة للسياق الذي جاء معقبا على سلسلة آيات الأنبياء وجاءت في ذات الوقت خاتمة للسورة، وطابع الختام عليها بارز مماثل لكثير من خواتم السور.(5/299)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
سورة المؤمنون
في السورة تنويه بصفات المؤمنين ومصيرهم السعيد. وتوكيد بالبعث، وتذكير بقدرة الله في خلق الإنسان والأكوان وما فيها من منافع وحقه في الشكر والإخلاص. وسلسلة قصص بعض الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم في صدد التمثيل والإنذار للكفار وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتطمينهم. وحملة على الكفار لاغترارهم بما يتمتعون به في الدنيا. وتبكيت لهم على وقوفهم من النبي صلى الله عليه وسلم موقف العناد والاتهام مع معرفتهم له ومع ما في مهمته من الخير المحض لهم المجرّد عن كل غرض. وحكاية لبعض أقوالهم في إنكار البعث وردود قوية عليهم من مشاهد قدرة الله وملكوته واعترافهم بذلك. وتصوير مصائر المؤمنين والكفار الأخروية بما فيه التطمين والبشرى للأولين والرعب والهول للآخرين.
وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا يبرر القول أنها نزلت متتابعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
.(5/300)
(1) اللغو: ما لا فائدة فيه من قول وعمل.
(2) العادون: المتجاوزون للحدود بالعدوان.
في الآيات بشرى بأسلوب التوكيد بالفلاح والفوز للمؤمنين الذين يتصفون بالصفات المذكورة فيها. وتقرير بأن منازلهم الفردوس خالدين فيها، وعبارتها واضحة.
والسلسلة من الجوامع القرآنية في وصف المؤمن وأخلاقه وبيان ما يجب عليه تجاه ربّه وتجاه الناس وما يكون من الفلاح والنجاح والسعادة والطمأنينة وحسن العاقبة لأصحاب هذه الصفات التي هي جماع صفات الخير الروحية والأخلاقية والشخصية والاجتماعية. وتنطوي على حثّ على الاتصاف بها كما تنطوي على تقرير أثر الإيمان في نفس صاحبه حيث يجعله يخشع في صلاته لأنه أمام ربّه ويداوم على الصلاة لله فيظل يذكره ويمتنع نتيجة لذلك عن كل فحش وعبث ويؤتي الزكاة ويفعل كل ما هو حقّ وخير وبرّ وعدل وأمانة ووفاء. وهذه الصفات والحثّ على الاتصاف بها والتزامها مما تكرر في القرآن المكي والمدني بحيث تكون من أسس الدعوة الإسلامية.
ولقد روى الترمذي حديثا «1» في صدد هذه الآيات عن عمر رضي الله عنه قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهمّ زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنّا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنّا ثم قال أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم عشر آيات» .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والتاج ج 4 ص 162 فصل التفسير.(5/301)
ولقد روى الطبري عن محمد بن سيرين «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى نظر إلى السماء فأنزلت الآية الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد» . وروى عن ابن سيرين أيضا هذا عن أصحاب رسول الله ونصّ الرواية «أنّ أصحاب رسول الله كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فجعلوا رؤوسهم بعد ذلك نحو الأرض» وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكنها محتملة الصحّة.
ولقد تعددت التعريفات التي أوردها أو رواها المفسرون للخشوع منها أنه خشوع القلب والأطراف. ومنها أنه التذلل والخضوع. ومنها أنه الاستشعار بالخوف والتواضع. ومنها أنه غضّ البصر وعدم الحركة والتلفّت. وكلّ من هذه الأقوال واردة ووجيهة. ولقد أورد البغوي بعض الأحاديث النبوية في هذا الصدد منها حديث عن عائشة (رض) قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» . وحديث عن أبي ذرّ (رض) قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه» . وحديث عن أنس بن مالك قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتدّ قوله حتى قال لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» . وحديث لم يذكر راويه جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» .
وحديث عن أبي ذرّ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإنّ الرحمة تواجهه» .
وجميع التعريفات الواردة وجيهة. والأحاديث وإن لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن عبارتها وروحها تجعل احتمال صحتها قوية. ولقد روى أصحاب السنن حديثا فيه تأييد عن الفضل بن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة مثنى مثنى. تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع وتضرّع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا ربّ يا ربّ ومن لم يفعل فهي(5/302)
خداج» «1» . وروى أبو داود عن عمار بن ياسر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلّا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» «2» . وروى أبو داود عن عقبة بن عامر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
«ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلّي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلّا وجبت له الجنة» «3» . وواضح أن الأحاديث والتعريفات استهدفت تأديب المسلم ليكون في صلاته منصرفا عن كل شيء متفرغا في قلبه وجسمه إلى الله عز وجل.
على أننا نرجح أن الآيات انطوت في الوقت نفسه على التنويه بالمؤمنين في العهد المكي وتقرير كونهم متصفين بهذه الصفات. وإذا صحّ ترجيحنا إن شاء الله ففيها صورة واقعية رائعة لأثر الإيمان القوي في ذلك الرعيل الأول رضوان الله عليهم.
وقد يؤيد ترجيحنا آيات عديدة وردت في سور عديدة من السور السابقة فيها تنويه بالمؤمنين وأخلاقهم وصفاتهم وأثر الإيمان فيهم منها هذه الآيات في سورة الذاريات: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) .
وجملة وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ من الأدلة المؤيدة لما قررناه في سياق سورة المزمل من كون الزكاة كانت مفروضة وممارسة في العهد النبوي المكي مثل الصلاة. وكلام المفسرين متسق مع ذلك «4» .
__________
(1) التاج ج 1 ص 175- 176.
(2) المصدر نفسه. [.....]
(3) المصدر نفسه.
(4) انظر تفسير الآيات في تفسيري ابن كثير والبغوي.(5/303)
تعليق على الأمانة وخطورتها وما ورد فيها في كتاب الله وسنّة رسوله
وبمناسبة ورود الآية وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ضمن السلسلة نقول إن التنويه بالذين يرعون أماناتهم والتنديد بمن يخونونها والأمر بأداء الأمانات إلى أهلها قد تكرر في القرآن والسنّة مما يدل على ما أسبغ كتاب الله وسنّة رسوله على هذا الأمر الخطير المتّصل بصلات الناس ومعاملاتهم وحقوقهم ومعايشهم وثقتهم اتصالا شديدا والذي قد ينتج عن الإخلال به العداوة والبغضاء والنزاع في المجتمع الإسلامي. والذي يناقض الإخلال به في حدّ ذاته المعاني الجليلة المنطوية في الإيمان والإسلام.
ففي سورة المعارج آية مماثلة لهذه الآية فيها تنويه بالمؤمنين مثلها وهي الآية [32] وفي سورة البقرة هذه الآية فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [283] وفي سورة آل عمران آية فيها تنديد شديد باليهود لأنهم لا يؤدون الأمانات التي يؤتمنون عليها من غيرهم وهي: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وفي سورة النساء هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) وفي سورة الأنفال هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) .
ولقد أخرج ابن أبي حاتم حديثا عن سعيد بن جبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدميّ هاتين إلّا الأمانة فإنّها مؤداة إلى البرّ والفاجر» «1» . وأخرج الطبري بطرقه حديثا عن عبد الله بن مسعود عن
__________
(1) النص من تفسير ابن كثير للآية [75] من سورة آل عمران.(5/304)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلّها- أو قال يكفّر كلّ شيء- إلّا الأمانة يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له أدّ أمانتك فيقول أنّى يا ربّ وقد ذهبت الدنيا ثلاث مرات أمر من الله وجواب منه فيقول اذهبوا به إلى أمّه الهاوية فيذهبوا به إلى الهاوية فيهوي بها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنّم حتى إذا رأى أنه قد خرج زلّت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين» «1» . وأخرج الإمام أحمد حديثا عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع إذا كنّ فيك فلا عليك مما فاتك من الدنيا، حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة طعمة» «2» . وأخرج الإمام أحمد وأهل السنن حديثا عن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» «3» . وأخرج الترمذي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» «4» . وأخرج الترمذي أيضا حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمّنه الناس على دمائهم وأموالهم» «5» . وهناك حديث لم يروه المفسرون وقد ورد في التاج ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» «6» .
وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن هذا لا يمنع صحتها. وقد ورد بعضها في هذه الكتب. وواضح ما في الآيات والأحاديث من تلقين وتأديب وتعليم للمسلم يرتفع به إلى أعلى مراتب الأخلاق الفاضلة ويجعل الأمانة بخاصة من أمهات أخلاق المؤمن المخلص.
__________
(1) النصان من تفسير ابن كثير للآية [72] من سورة الأحزاب.
(2) المصدر نفسه.
(3) النص من تفسير القاسمي للآية [58] من سورة النساء.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) التاج ج 5 ص 41.(5/305)
وآيتا النساء [58] والأنفال [27] أوسع شمولا من نطاق التعامل الفردي حيث ينطوي فيهما تلقين لأولي أمر المسلمين وحكامهم وللمؤمنين في صدد مصلحة الإسلام والمسلمين العامة. وسوف نزيد هذا شرحا في مناسبة تفسير الآيتين.
تعليق على استفراش ملك اليمين
وبمناسبة ورود الإشارة إلى رفع الحظر عن استفراش ملك اليمين نقول إننا علقنا على موضوع الرقيق الذي كان يسمّى ملك اليمين في سياق سورة البلد تعليقا مختصرا مفيدا. غير أن الموضوع الذي جاء في هذه الآيات يتحمل تعليقا آخر لأنه صار من التشريعات الإسلامية وقد ذكر بعد هذه السورة في سور مكيّة ومدنيّة.
والموضوع هو إباحة استمتاع مالك الإماء بإمائه استفراشا بدون قيد وعقد.
وما قلناه في تعليقنا في سياق سورة البلد من أن الرقّ كان نظاما عاما مألوفا عند العرب وغيرهم قبل الإسلام ولم ينشئه الإسلام نقوله في صدد إباحة استفراش الإماء. حيث اقتضت حكمة التنزيل ذلك مماشاة للواقع الذي لا فحش فيه وفيه تخفيف وتيسير على المسلمين.
ولقد توسّع المسلمون في هذا الأمر فاعتبروا كلّ من أمكن خطفه أو شراؤه من السود وغير السود من غير المسلمين رقيقا واستباحوا استفراش النساء اللاتي ينالونهن بهذه الطريقة أو يولدون من آباء وأمهات نالوهم بهذه الطريقة في حين أن الشرع الإسلامي لا يعتبر رقيقا إلّا من كان رقيقا قبل الإسلام أو تولّد منه أو من استرقّه المسلمون من أسرى الحرب أو من الأعداء غير المسلمين أو تولّد منهم.
ولا يبيح استرقاق المسلمين أبدا. بل ولا غير المسلمين إذا لم يكونوا أعداء محاربين. ولا يعتبر كل غير مسلم عدوا محاربا، وإنما العدو المحارب هو المعتدي على المسلمين من غير المسلمين فقط. بل إن إباحته لاسترقاق أسرى الحرب من الأعداء المحاربين من غير المسلمين ليست واجبة بل ظلت في حدود(5/306)
ضيقة حيث جعلت للأسرى سبيلا لعدم استرقاقهم على ما تلهمه آية سورة محمد هذه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» [4] وأكملت السنّة النبويّة المسكوت عنه في هذه الآية حيث أجازت استرقاق من لم يفتد نفسه أو من لم يرض ولي أمر المؤمنين أن يمنّ عليه بدون فداء ومن تولّد منهم.
وبناء على هذا فاستفراش النساء بصفة ملك اليمين إذا لم يكن رقّهم في نطاق هذه الحدود ليس من الشرع الإسلامي في شيء.
ولما كان فحوى وتلقين القرآن والسنّة النبويّة متجهين إلى تحرير الرقّ وإلغائه بمختلف الوسائل فمن الممكن أن يقال إن إلغاء الرقّ المتفق عليه في العصر الحاضر بين معظم دول الأرض ومن جملتها الدول الإسلامية هو متّسق مع ذلك. وهذا يجعل استمرار بعض المسلمين على اعتبار الرقّ مشروعا برغم ذلك ثم برغم خروج جلّ صوره أو كلها من نطاق الحدود الشرعية الإسلامية واستباحة استفراش النساء بصفة ملك اليمين محلّ نظر وعجب وتساؤل بل ومحلّ استنكار شرعي.
هذا، ولقد نبّه بعض المفسرين إلى أن جملة ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ محصورة الدلالة في الإماء دون الغلمان وأن إتيان الغلمان من ملك اليمين محرّم كإتيان غيرهم وهذا حقّ لا محلّ فيه لتوهّم ولا مكابرة ومتسق مع نصّ العبارة وروحها ومقامها.
كذلك نبهوا إلى أن هذه الجملة هي في صدد إباحة الإماء لمالكيهم من الرجال وأنه لا يجوز للحرة أن تمكّن منها عبدها تأوّلا للجملة وهذا حق وصواب.
ومتسق مع نصّ العبارة وروحها ومقامها معا.
__________
(1) الآية الأولى من السورة وصفت الذين كفروا بوصف الذين صدوا عن سبيل الله أيضا. وهذا الوصف برر قتالهم الذي أمرت به هذه الآية.(5/307)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
كذلك مما نبّه عليه بعض المفسرين أن في الآيات [5- 7] دليلا على حرمة الاستمناء باليد. وقد ذكر البغوي الذي نبّه على ذلك فيمن نبهوا أن هذا قول أكثر العلماء. ولقد ذكر ابن كثير أن الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه استدلّ بهذه الآيات على حرمة الاستمناء باليد على اعتبار أن الآية تأمر بحفظ الفروج باستثناء إتيان الزوجات وملك اليمين. ومما قاله هذا المفسر أن القائلين بهذا استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة بطرقه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاقلين ويدخلهم النار أوّل الداخلين إلّا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده والفاعل والمفعول به ومدمن الخمر والضارب والديه حتى يستغيثا والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه والناكح حليلة جاره» . وقد علق ابن كثير على هذا الحديث قائلا إنه غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته. وهذا التعليق لا ينقض قول الشافعي وغيره من العلماء كما هو المتبادر حيث روي أن رأيهم استلهام من الآية.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
. تعليق على آية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ
والآيات الأربع التالية لها عبارة الآيات واضحة. وقد جاء مثلها أو شيء منها في سور سابقة مثل سور فاطر والزمر وغافر. وبعض العبارات الواردة هنا تتحمل بعض التعليقات.
فأولا: إن المفسرين قالوا في صدد تعبير سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إنه إشارة إلى(5/308)
قطعة الطين التي أمر الله عزّ وجلّ الملائكة باستلالها من الأرض وخلق منها آدم وأوردوا بيانات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم عن كيفية استلال قطعة الطين وإرسال جبريل ثم ميكائيل ثم عزرائيل إلى الأرض لهذه المهمة، فيها الغريب العجيب. وليس لما أوردوه سند وثيق. والموضوع من المغيبات التي لا تصحّ إلّا بمثل ذلك.
ولقد قال الذين يميلون إلى استنباط الأسرار والفنون من القرآن والتوفيق بينه وبين النظريات العلمية والفنية إن في الآيات ما يمكن الاستدلال به على كون الإنسان إنما صار إنسانا بعد سلسلة تحولات طويلة جدا بدأت من نشوء الحياة من الماء والطين، ونرى في هذا تكلفا وتحميلا للعبارة غير ما تتحمل.
والذي يتبادر أن هذه الآيات وأمثالها العديدة التي وردت في سور عديدة وذكر فيها خلق آدم أو الإنسان من طين ثم جعل نسله بطريق النطفة إنما سيقت في معرض التذكير والعظة والتدليل على قدرة الله بأسلوب يستطيع السامعون على اختلاف طبقاتهم فهمه ولمسه والاعتبار به والاستدلال منه على قدرة الله. وأن الأولى الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن مع ملاحظة هذا الهدف البارز فيها.
وأنه لا طائل من وراء التزيد والتخمين وتحميل العبارة غير ما تتحمل ونرى ذلك إخراجا للقرآن من نطاق قدسيته وأهدافه كما هو رأينا في كل الشؤون المماثلة.
وثانيا: لقد تعددت التفسيرات التي يرويها المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم لجملة ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (14) منها أنها عنت نفخ الروح فيه بعد ما كان جهادا ومنها أنها عنت استواء الشباب ونبات الشعر والأظافر والأسنان. ومنها أنها عنت الذكورة والأنوثة. ومنها أنها عنت تنقّله في أطوار الحياة بعد الولادة. ويلحظ أن هذه التفسيرات تصح أن ترد بالنسبة للإنسان وللحيوان وبخاصة ذوات الثدي منه على السواء كما لا يخفى. والذي يتبادر لنا أن الجملة قد قصدت التنويه بالإنسان الذي شاءت حكمة الله عز وجل أن يميزه عما سواه من الحيوان بتكامل العقل والتكليف وباختصاصه بالبعث بعد الموت لتوفيته(5/309)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
بما يكسبه في الدنيا فصار بذلك خلقا آخر. والله أعلم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
. (1) سبع طرائق: كناية عن السموات السبع وكون بعضها فوق بعض من التطارق. وفي سورة الملك جاء الوصف بعبارة أوضح الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.
(2) شجرة تخرج من طور سيناء: الجمهور على أنها شجرة الزيتون.
(3) صبغ: بمعنى الإدام.
في هذه الآيات تقريرات أخرى عن مشاهد قدرة الله في الكون وعنايته بالخلق الذي خلقه وأفضاله على الناس فيما جعل لهم فيه من منافع ويسره من وسائل:
1- فقد خلق فوق الأرض سبع سموات بعضها فوق بعض.
2- ولم يغفل عن تهيئة أسباب الحياة للخلق الذي خلقه على الأرض حيث ينزل الماء من السماء بقدر وحساب فيسكنه في الأرض لينتفع الناس به في حين أنه قادر على إفنائه، وحيث ينشىء لهم به شجر النخل والعنب وما يجني الناس منه من الفواكه الكثيرة ويأكلونها. وينشىء لهم به أيضا شجرة الزيتون التي تنبت في طور سيناء وتثمر الثمرة التي فيها الدهن والإدام. وحيث سخّر الله للناس الأنعام ليشربوا ألبانها ويأكلوا لحومها ويركبوا عليها ويحملوا أثقالهم وينتفعوا بها شتّى الانتفاعات.
وحيث سخّر الفلك لهم لتجري في البحر فيقوموا عليها بالرحلات البحرية(5/310)
التي تعود عليهم بمتنوع الفوائد.
والآيات معطوفة على ما سبقها ومتصلة بموضوعها كما هو المتبادر وقصد التذكير والوعظ فيها واضح كما هو شأن ما سبقها أيضا.
وفي استمرار الخطاب للمخاطبين وهم من بني آدم وتذكيرهم بنعم الله عليهم مع أن من هذه النعم ما يستفيد منه غيرهم من الحيوانات توكيد وتدعيم لما قلناه قبل قليل في هدف ومدى جملة ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ كما هو المتبادر.
تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون
وشجرة الزيتون ليست محصورة في طور سيناء كما هو معلوم. وكانت تنبت في بلاد كثيرة أخرى منها ما يجاور طور سيناء أي فلسطين ومنها ما لا يجاوره مثل سواحل شمال إفريقيا وسواحل جنوب أوروبا الشرقية وجزر الأبيض المتوسط. بل كانت تنبت في الحجاز على ما تلهمه آيات سورة الأنعام هذه: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) ووَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [141] .
والذي يتبادر لنا أن تخصيص طور سيناء بها آت من أن العرب الذين كانوا أول من يسمع القرآن يعرفون أن منطقة طور سيناء وما جاورها هي منابت الزيتون في الدرجة الأولى. ولعلهم أتوا منها بالغراس التي غرسوها في بلادهم حينما كانوا يرحلون رحلاتهم التجارية فيمرون في هذه المنطقة في طريقهم إلى مصر وعودتهم منها.(5/311)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
ولقد روى الترمذي والحاكم وصححه حديثا عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا الزيت وادهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» «1» حيث ينطوي فيه تنويه بهذه الشجرة المباركة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
. (1) يتفضّل عليكم: هنا بمعنى يتظاهر بالفضل والتفوّق عليكم.
(2) بأعيننا ووحينا: بحراستنا وعنايتنا وإرشادنا.
(3) وإن كنا لمبتلين: ولم نكن بما فعلنا إلّا مختبرين للناس.
هذه حلقة من سلسلة قصصية فيها ذكر بعض الأنبياء مع أقوامهم. ومع أنها لم تجىء عقب حكاية مواقف الكفار جريا على الأسلوب القرآني فإنها جاءت عقب التذكير بمشاهد قدرة الله وأفضاله على الناس. وهذا معنى غير منقطع عن ذلك.
والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها عقب ذلك لبيان مواقف بعض الأمم من نعم الله وأفضاله.
__________
(1) التاج ج 3 ص 122.(5/312)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
وعبارة الحلقة واضحة. وقد احتوت إشارة إلى رسالة نوح إلى قومه وموقف قومه منه ومن رسالته وما كان من إنشائه الفلك بأمر الله وتنجية من شاء معه عليه وإغراقه الكافرين بالماء الذي فار من التنّور وصار طوفانا.
والقصة قد تكررت في سور عديدة مسهبة ومقتضبة وما جاء هنا قد جاء في سورة هود خاصة مع تفصيل أوسع. وهدف التذكير والوعظ والإنذار وهو هدف القصص القرآنية عامة بارز على هذه الحلقة. ويلفت النظر إلى ما في أقوال قوم نوح لنبيهم وما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من أقوال الكفار العرب للنبي صلى الله عليه وسلم مثل التحدي بالإتيان بالملائكة ومثل قولهم إن به جنة وتواصيهم بالتربص به حتى يموت إلخ من تماثل حيث استهدف بذلك تذكير كفار العرب بما كان من موقف قوم نوح من نبيهم المماثل لموقفهم وما كان من عاقبة هؤلاء وإنذارهم بعاقبة مماثلة إذا لم يرتدعوا ويرعووا.
والآية الأخيرة بمثابة تعقيب على القصة وهدف الإنذار فيها بارز أيضا. فالله يرسل رسله لاختبار الناس ويعاملهم بما يكون من نتائج هذا الاختبار.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)(5/313)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
(1) أترفناهم في الحياة الدنيا: كناية عن الزعماء والأغنياء.
(2) هيهات هيهات: ما أبعد ذلك.
(3) الصيحة: كناية عن عذاب الله وهي عامة المعنى.
(4) غثاء: ما يحمله السيل من الحشائش الجافة والأوراق الساقطة والأغصان المكسورة. والكلمة كناية عما صاروا إليه بعد عذاب الله من دمار وتحطيم.
(5) تترى: واحدا بعد واحد.
(6) جعلناهم أحاديث: جعلناهم عبرة يتحدث الناس عنهم بعدهم.
لم تتضمن هذه الآيات أسماء أنبياء وأقوام. ولكن عبارتها تلهم أنها تعني أقوام هود وصالح وشعيب وغيرهم ممن ذكرتهم سلاسل القصص في السور الأخرى.
وعبارتها واضحة. وهدف التذكير والعظة والتنديد والإنذار فيها بارز في جملتها ثم فيما احتوته من تماثل بين أقوال الأقوام لرسلهم وما حكته آيات عديدة من أقوال كفار العرب للنبي صلى الله عليه وسلم مثل كونه بشرا مثلهم ومثل كون ما يعدهم من البعث بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما مستحيلا ومثل أنه يفترى على الله الكذب إلخ.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
. (1) قوما عالين: بمعنى متعالين عن الرسل الذين جاءوهم.(5/314)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
(2) عابدون: خاضعون أو عبيد.
وهذه الآيات حلقة من السلسلة. وعبارتها واضحة هي الأخرى. وفيها إشارة إلى رسالة موسى وهرون عليهما السلام لفرعون وقومه وما كان من إيتاء الله تعالى موسى الكتاب لعلهم يهتدون به. وما كان من استكبارهم واستعلائهم وتبجحهم باستبعاد قوم موسى وهرون وتكذيبهم لهما لأنهم بشر مثلهم فضلا عن ذلك وما كان من إهلاك الله لهم.
وقد استهدفت هي الأخرى التذكير والإنذار كما استهدفته الحلقات السابقة على ما هو باد من أسلوبها.
[سورة المؤمنون (23) : آية 50]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
. (1) الربوة: المكان المرتفع النزه.
(2) معين: نبع لا ينضب.
في هذه الآية إشارة إلى معجزة الله تعالى في عيسى وأمه المتمثلة في ولادته من أمّ لم يمسسها بشر. وما كان من عناية الله بهما وإيوائهما مأوى أمينا في ربوة ذات مياه لا تنضب.
والصلة ملموحة بين هذه الآية وسلسلة القصص على ضوء الآيات القرآنية التي ذكرت ولادة عيسى ورسالته وموقف الناس منهما حيث كانت تلك المعجزة اختبارا للناس فمنهم من كفر بها ومنهم من آمن ومنهم من أساء فهمها وتأويلها، وحيث كانت رسالة عيسى لقومه فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كذلك على ما حكته آيات قرآنية عديدة مرّت أمثلة عديدة منها.
ولقد تعددت الأقوال في مكان الربوة الموصوفة بالقرار والمعين فقيل عزوا إلى كعب الأحبار وبعض التابعين إنها الرملة وإنها بيت المقدس وإنها مصر وإنها(5/315)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
دمشق أو غوطتها «1» . وهي أقوال قائمة على التخمين. وقد قال ابن كثير إنها مكان النخلة التي ألجأ المخاض مريم إليها وأجرى الله تحتها نهرا حينما ولدت ابنها على ما جاء في قصة ولادة عيسى في سورة مريم التي مرّ تفسيرها وقال إن القرآن يفسر بعضه بعضا. وفي إنجيل متى وهو أحد الأناجيل المتداولة اليوم أن ملك الربّ تراءى ليوسف النجار زوج مريم وقال له خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيرودوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه فأخذهما إلى مصر حيث بقيا فيها إلى أن تراءى ملك الربّ ثانية له وقال له ارجع بالصبي وأمه إلى أرض إسرائيل فقد مات طالبو نفس الصبي «2» . والمرجح أن ذلك كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق النصارى الذين يرجح أن الإنجيل المذكور كان متداولا بين أيديهم. فمن المحتمل أن يكون مكان الربوة هو مصر حيث يجري فيها نهر لا ينضب وحيث كانت ذات أرض مخصبة وزراعة مزدهرة. والله أعلم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 52]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
. المتبادر أن الآيتين قد جاءتا بمثابة تعقيب على السلسلة: فقد أمر الله فيهما الرسل أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا الصالحات وأن يثبتوا على الطريق الحقّ وأن لا يخشوا ويتقوا إلّا الله وأن يتيقنوا أن الذي دعوا إليه واحد والطريقة التي وصوابها واحدة وأنهما لا يتحملان تعددا ولا اختلافا.
وقد قال بعض المفسرين إن الخطاب في الآيتين موجه إلى النبي وإن جاء بصيغة الجمع «3» وقد لا يخلو القول من وجاهة تؤيدها صيغة المخاطب. على أن توجيه الخطاب إلى الرسل جميعهم هو توجيه معنوي بقصد تقرير وحدة أهداف رسالات الأنبياء للناس وتقرير وحدة جوهر الشرائع الإلهية التي من جملتها إحلال
__________
(1) انظر تفسيرها في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن.
(2) الإصحاح الثاني.
(3) انظر تفسير البغوي. [.....](5/316)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
كل ما هو طيب دون حرج ولا قيد. ويكون النبي قد أدمج في عدادهم فكان الخطاب لهم غائبين وله حاضرا مخاطبا.
ولقد روى المفسرون «1» في سياق هذه الآيات حديثا نبويا رواه مسلم والترمذي في فصل التفسير من كتابيهما في سياق تفسير سورة (المؤمنون) جاء فيه:
«إنّ أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيّها الناس إن الله طيّب ولا يقبل إلّا طيبا وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) . وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] قال وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك» . حيث ينطوي في الحديث تفسير وتوضيح نبويّان يفيدان أن الخطاب في الآيتين ليس قاصرا على الرسل وإنما هو موجّه إلى أممهم وبخاصة الذين آمنوا بهم وبنوع أخص أمة آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي صار على جميع الأمم السابقة اتّباعه وإن الذين ينحرفون عن ذلك إلى الحرام وغير الطّيّب في المأكل والمشرب والملبس يكونون منحرفين عن طريق الله الحقّ مما احتوت تقريره آيات كثيرة مكيّة ومدنيّة مرّت أمثلة منها ومما فيه تلقين جليل مستمر المدى بالإضافة إلى ما في الآيتين من تلقين جليل في تقرير وحدة الطريقة التي سنّها الله تعالى لرسله والمرسلين إليهم وإيجابه التزام الصالحات والتقوى عليهم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 53 الى 56]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
. (1) فتقطعوا: تفرقوا.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير وانظر أيضا التاج ج 4 ص 163.(5/317)
(2) زبرا: من المفسرين من فسّر الكلمة على أنها جمع زبور بمعنى كتاب وقد وردت هذه في إحدى آيات سورة القمر فصار معنى الجملة تفرقوا مللا عديدة كل ملّة التزمت كتابا. ومنهم من قرأها بفتح الباء وفسرها بمعنى قطعا. وقد وردت هذه الكلمة في إحدى آيات سورة الكهف في هذا المعنى فصار معنى الجملة تفرقوا قطعا. والتفسيران وجيهان. والجملة على كل حال بمعنى تفرقوا شيعا وأحزابا مع أن ملّة الله واحدة.
(3) غمرتهم: جهالتهم أو غفلتهم أو حيرتهم.
في الآيات:
1- إشارة تنديدية إلى ما صار إليه الناس: فقد تفرقوا واختلفوا وتعددت كتبهم وأهواؤهم وفرقهم واعتدّ كل فريق بما هو عليه وظنّه الحقّ.
2- وأمر للنبي بأن لا يبالي بذلك وأن يدع من لا يريد الارعواء مرتكسا في غفلته وجهالته إلى الحين الذي يعلمه الله.
3- وسؤال تنديدي عمّا إذا كان هؤلاء يظنون أن ما يتمتعون به من كثرة المال والولد هو اختصاص تكريمي لهم من الله بإغداق نعمه وخيراته.
4- واستدراك تبكيتي بأنهم مخطئون في هذا الظنّ وأنهم لا يعرفون حقيقة الأمر.
ولقد ورد في آيات أخرى أن الله تعالى يملي للكفار بما يمدهم به من مال وبنين ليستدرجهم وليكون لهم فتنة واختبارا وأن كيده متين كما جاء في آية سورة القلم [43- 44] وسورة الأعراف [182- 183] وسورة طه (131) التي مرّ تفسيرها حيث يتبادر أن في هذه الآيات توضيحا لما احتواه الاستدراك التبكيتي في جملة بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) في الآية الأخيرة.
والآيات معقبة على ما قبلها أيضا. والضمير الغائب راجع إلى المنحرفين عن الأمة أو الطريقة الواحدة التي شرّعها الله للناس بواسطة أنبيائه وإلى الكفار(5/318)
برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأن كفرهم هو انحراف عن تلك الملّة. وفيها تنديد لاذع بهم لانحرافهم عن ملّة الحق التي جاء بها رسل الله ثم رسوله الأخير خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ولظنهم الظنون الباطلة في تعليل ما هم فيه من قوّة ومال.
والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بترك الكفار في غمرتهم تعبير أسلوبي تكرر في القرآن بمعناه. ولا يعني طبعا ترك إنذارهم كما قلنا في المناسبات السابقة. والراجح أنه ينطوي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عناد الكفار ومكابرتهم واستغراقهم في ضلالهم.
وفي الآيات صورة لما كان من مباهاة الكفار بأموالهم وأولادهم واعتدادهم بذلك وحسبانهم إياه دليلا على عناية الله بهم وادعائهم بأنهم على حقّ بما هم عليه. ولقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها مما يدل على أنهم كانوا يسوقونه من حين إلى آخر في معرض الجدل والمماراة.
ولقد أورد ابن كثير على هامش هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم. وإنّ الله يعطي الدنيا لمن يحبّ ومن لا يحبّ. ولا يعطي الدين إلّا لمن أحبّ. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه. والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا وما بوائقه يا رسول الله قال غشمه وظلمه. ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدّق به فيقبل منه. ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده النار.
إنّ الله لا يمحو السيّء بالسّيئ ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث» .
وفي الحديث الرائع صورة من صور الوعظ والتنبيه النبوي متساوقة مع التلقين الجليل الذي انطوى في الآيات وبخاصة في بيان كون ما تيسر للإنسان من مال في الدنيا ليس دليلا على رضاء الله عنه وحظوته لديه إذا كان الإنسان منحرفا عن طريق الله الحق.(5/319)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
. (1) وهم لا يظلمون: الجملة في مقامها في معنى لا ينقص شيء مما يستحقه الإنسان على عمله.
عبارة الآيات واضحة. وهي بمثابة استدراك لما سبقها. فالوصف السابق هو للكفار المنحرفين عن دين الله الذي بعث الله به رسله والذين لا يرعوون ولا يرتدعون ويتمسكون بما هم فيه من باطل ويعتدون به ويظنون بالله غير الحق.
وهناك فريق من الناس اتبعوا دين الله الحق فآمنوا بالله وخافوا وفعلوا ما أمروا به من الخير. ولم يشركوا به شيئا. وتيقنوا بأنهم راجعون إليه. فهؤلاء هم السابقون إلى الخيرات النائلون لرضاء الله.
والمتبادر أن الآية الأخيرة بمثابة استدراك على ما في الآيات: فالله إذ يبين صفة المؤمنين المستحقين لرضائه بإيمانهم وأعمالهم الصالحة وخوفهم منه ويثني عليهم لا يكلف نفسا إلّا وسعها ولا يطلب من أحد إلّا ما هو قادر على فعله وهو مسجل لهم أعمالهم في كتاب ينطق بالحق دون أن ينقص لهم منهم شيئا.
وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم الجليل الذي شرحناه في سياق سورة الأعراف.
هذا، ولقد روى الترمذي «1» حديثا عن عائشة رضي الله عنها: «أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون
__________
(1) انظر التاج ج 4 فصل التفسير ص 163.(5/320)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات» .
حيث ينطوي في الحديث توضيح نبوي متساوق مع التلقين الجليل المنطوي في الآيات لما للخوف من الله والمصير الأخروي من أثر في نفس المؤمن بالله واليوم الآخر فيجعله يبذل كل جهده في عمل الخير والتقرّب إلى الله بصالح العمل واتقاء غضبه بالابتعاد عن كل منكر وإثم. ويبدو من خلال ذلك الحكمة الربانية في تكرار التنبيه في القرآن على أن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يتورعون عن ارتكاب الآثام والفواحش في الدرجة الأولى وفي كون الإيمان بالله واليوم الآخر والترهيب من هوله والترغيب في النجاة فيه من أهم ما اهتمّ القرآن لتوكيده وتقريره.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 67]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
. (1) أعمال من دون ذلك: أعمال غير تلك الأعمال التي ترضي الله وذكرت فيما سبق.
(2) هم لها عاملون: قال الطبري والبغوي في معناها: لا بد من أنهم لها عاملون. وقال الزمخشري الجملة بمعنى هم عليها معتادون ونحن نرجّح هذا لأنه متّسق مع روح الآيات وفحواها.
(3) يجأرون: يضجون ويصيحون من البلاء.
(4) سامرا: السمر تبادل الأحاديث وتمضية السهرة بلهو وفكاهة، والسامر هو الذي يسمر ويلهو.
(5) تهجرون: من المفسرين من قال إنها من الهجر بمعنى الترك والإهمال.(5/321)
ومنهم من قال إنها من الهجر بمعنى الفحش في السبّ. والآية تتحمّل المعنيين.
في الآيات عودة إلى بيان حقيقة المنحرفين الكفار وأعمالهم وإنذار لهم:
1- فقلوبهم غافلة عن الاستشعار بخوف الله وما يجب عليهم نحوه.
2- وأعمالهم غير تلك التي ترضي الله والتي سبق وصفها وسيظلون مرتكسين فيها لا يدعونها لأنهم معتادون عليها إلى أن يحلّ فيهم عذاب الله وحينئذ فقط يدركون خطأهم فيأخذون بالعويل والاستغاثة. وسيقال لهم حينئذ لا تضجوا ولا تصخبوا ولا تعولوا فلن يفيدكم ذلك شيئا. ولن يكون لكم ناصر من الله.
لأنكم كنتم كل ما تليت عليكم آياته ولّيتموها ظهوركم ونكصتم على أعقابكم استكبارا عن سماعها وعنادا.
أما الآية الأخيرة فقد اختلف في تأويلها بسبب الاختلاف في ضمير (به) حيث أرجعه بعضهم «1» إلى القرآن فقالوا إنها بصدد التنديد بالكفار لاستكبارهم عن القرآن وهجرهم إياه وتمضية أوقات السمر بالسخرية به. وحيث أرجعه بعضهم «2» إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إنها بصدد التنديد بهم لاستكبارهم وهجرهم دعوة النبوة وتأليبهم عليه في أسمارهم ونبزهم إياه بالقول الفاحش وحيث أرجعه بعضهم إلى الحرم واعتدادهم بأنهم أهله وهجرهم النبي فيه.
وقد تبادر لنا تأويل آخر وهو التنديد بالكفار لهجرهم النبي وما يتلوه من القرآن استكبارا كأنما يهجرون سامرا يتحدث باللهو والأفاكيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على وجاهة هذا التأويل إن شاء الله.
والاتصال قائم سياقا وموضوعا بين الآيات وبين سابقاتها كما يظهر من التمعّن فيها.
وقد قال بعض المفسرين إن العذاب الذي يجأر منه الكفار هو ما حلّ بزعماء
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري والطبري.
(2) المصدر نفسه.(5/322)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
مكة من قتل يوم بدر أو ما حلّ بأهل مكة من قحط وجوع «1» مما أوردنا خبره في تفسير سورة الدخان مع أنه يلحظ من روح الآيات أن الكلام متعلق باليوم الذي لا يكون للكفار فيه نصير وهو يوم القيامة. ولا سيما أنها احتوت تذكيرا بما كان منهم من استكبار وعناد وإعراض. ومثل هذا قد ورد في آيات تعلق الكلام فيها بيوم القيامة. ومرّت أمثلة عديدة منها ولذلك نرجّح أن العذاب هو العذاب الأخروي.
والمتبادر أن اختصاص المترفين بالعذاب في الآيات هو من باب تخصيص هؤلاء بالإنذار لأنهم هم الذين يضغطون على الناس ويجعلونهم يحذون حذوهم في الكفر والإعراض. وبخاصة أنهم موضوع الكلام في الآيات [53- 56] .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 74]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)
. (1) ذكرهم: هنا بمعنى التذكير والتنبيه والعظة.
(2) خرجا: بمعنى أجرا أو نفقة أو ضريبة.
(3) ناكبون: منحرفون.
في هذه الآيات:
أولا: أسئلة تتضمن التنديد والتقريع عن أسباب موقف الكفار من النبي ودعوته:
1- فهل لم يترووا ويتدبروا فيما يسمعون من آيات الله وأقوال النبي فلم
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبري.(5/323)
يدركوا ما فيها من حقّ وهدى ومصلحة وخير لهم.
2- وهل رأوا أن ما جاءهم بدع لم يسبق أن أتى مثله لآبائهم فوقفوا منه موقف المستغرب المنكر.
3- وهل لا يعرفون شخص نبيهم الذي يدعوهم معرفة قريبة وكافية حتى ينكروه ويتجاهلوه ويعرضوا عنه ويتهموه بالجنون أو الاتصال بالجنّ؟
4- وهل طلب منهم أجرا أو ضريبة حتى يتهموه ويحملوا دعوته على محمل الغرض والمنفعة الشخصية؟.
وثانيا: ردود قارعة عليهم:
1- فليس النبي مجنونا ولا متصلا بالجنّ وإنما جاءهم بالحقّ من الله على التأكيد.
2- وإن وقوفهم منه الموقف الذي وقفوه هو بسبب كراهية أكثرهم للحقّ وعدم اتساق الحق مع أهوائهم.
3- وإن الله تعالى لا يمكن أن يجعل الحق خاضعا للهوى لأن في ذلك فسادا للكون أرضه وسمائه وما فيهما.
4- وإن ما أنزله الله على رسوله هو ذكر وموعظة لهم وهم يستكبرون عن سماع الذكر والموعظة.
5- وإن الله هو خير الرازقين وإن النبي ليعرف ذلك فلا يعقل أن يطلب منهم أجرا ولا جزاء لأنه يعرف أن أجر ربه هو خير.
6- وإن النبي إنما يدعوهم إلى الطريق القويم الذي ينجو من يسير فيه ويسعد.
7- وإن الكافرين بالآخرة لا يلبّون الدعوة، وينحرفون عن مثل ذلك الطريق لأنهم لا يحسبون حساب الوقوف بين يدي الله.(5/324)
وواضح أن الآيات استمرار في السياق والموضوع السابقين. وأسلوبها قوي رصين مفحم موجه إلى القلب والعقل معا. ومن شأنه أن ينفذ إلى الأعماق.
تعليقات على محتويات الآيات
1- لقد تعددت تخريجات المفسرين لمدى الآية الأولى منها أنها بسبيل استنكار كفر الكافرين لأن ما جاءهم ليس بدعا وأنه قد جاء لآبائهم من قبل.
ومنها أنها بسبيل استنكار كفرهم لأن الله قد اختصهم دون آبائهم بنعمته فأرسل إليهم رسوله لهدايتهم «1» . والعبارة تتحمل التخريجين. ومع ذلك فإن في كل منهما إشكالا بسبب آيات في سور أخرى. ففي سورة يس هذه الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) وتكرر هذا في آيتي سورتي السجدة والقصص هاتين:
1- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة: 3] .
2- وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 46] .
هذا في حين أنه جاء في سورة النمل هذه الآية: لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [68] وتكرر هذا في سورة (المؤمنون) على ما يأتي بعد قليل.
ونحن نرجّح التخريج الأول. وفي صدد الإشكال الوارد عليه يجوز أن يقال إن آيات سور يس والسجدة والقصص قد قصدت الزمن القريب بينما آيتا سورتي النمل والمؤمنون قد قصدتا الزمن البعيد. وفي الزمن البعيد الذي كانوا يتداولون أخباره جيلا بعد جيل أنبياء عديدون من جزيرة العرب أو حلّوا فيها وقد ذكروا في
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.(5/325)
القرآن. ويعتبرون آباء أوّلين للعرب الذين يسمعون القرآن مثل هود وصالح وإبراهيم وإسماعيل عليهم السلام.
إن الآية الثانية تلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفا عند قومه بنبل الخلق ورجاحة العقل وكرم المنبت قبل البعثة وهو ما ثبت بالروايات الوثيقة ومنها قول خديجة رضي الله عنها الذي وجهته إليه في معرض تثبيته حينما أوحي إليه لأول مرة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها حيث قال لها: «لقد خشيت على نفسي فقالت له كلّا والله ما يخزيك الله أبدا. إنّك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ» «1» . ثم في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله بن الزبير حيث قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا فقالت له: «إني أعيذك من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» «2» .
حيث تضمنت استنكارا لموقفهم منه وهم يعرفونه حقّ المعرفة فيعرفون أنه لا يمكن أن يكذب أو يفتري أو يسخف أو يسفّ أو يلهو أو يتدخل فيما لا يعنيه أو يسعى وراء غرض ومنفعة ذاتية «3» . وفي تفسير البغوي قول لابن عباس في معنى الآية جاء فيه: «أليس قد عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود؟» .
3- وإن في أسلوب الآية الثالثة قرينة على أن نسبة الكفار الجنون إلى النبي هي نسبة أسلوبية إلى من يأتي بالشيء الجديد والرأي الغريب حيث تضمنت تصحيحا لوصف ما جاء به وهو الحقّ ولا يصحّ لمن جاء بالحق أن يوجه إليه الجنون أو يوقف منه موقف المستغرب.
__________
(1) التاج ج 3 ص 226.
(2) تاريخ الطبري ج 2 ص 47- 48.
(3) انظر أيضا تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير والطبري.(5/326)
4- رأينا بعض المفسرين «1» يقفون عند جملة وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ليقولوا إنها تعني أن منهم من لا يكره الحقّ مع كفره وليذكروا اسم أبي طالب عمّ النبي الذي لم يؤمن حياء لا مكابرة ولا كراهية للحقّ. ومع أنه كان بين الكافرين من هو معتدل الموقف ومقرّ بقلبه بالحق الذي جاء به النبي على ما شرحناه في سياق آية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [القصص:
57] فإنه يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تكرر نوعها في القرآن مثل وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [النحل: 83] ووَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] وأَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57] إلخ.
ونقول هنا أيضا إن جملة وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وما في بابها إنما كانت تسجيلا لواقع سامعي القرآن حين نزول الآيات بدليل أن أكثر من نعتوا بها قد آمنوا وحسن إسلامهم وحظوا برضا الله ورضوانه.
وجملة وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ جليلة المدى عامة التلقين في إيجاب التزام الحقّ واتباعه وعدم تغليب الهوى والميول والأنانية والمآرب الخاصة عليه لما في ذلك من فساد كون الله وأهله.
هذا، ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ حديثا رواه الحافظ أبو يعلى بطرقه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني.
تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب. فأوشك أن أرسل حجزكم. وأنا فرطكم على الحوض فتردون عليّ معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم ربّ العالمين أي ربّ قومي أي ربّ أمتي فيقال يا محمّد إنك لا تدري ما
__________
(1) انظر تفسير النسفي.(5/327)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
أحدثوا بعدك. إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم. فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت» «1» . حيث ينطوي في هذا الحديث تنبيه وإنذار قويان نافذان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن للناس ما يحسن بهم أن يلتزموه ليكونوا على صراط الله المستقيم وبوجوب ابتعادهم عن كلّ ما فيه ظلم وانحراف وعدوان مهما قلّ.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 77]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
. (1) لجّوا: تمادوا.
(2) استكانوا: استذلوا وخضعوا.
وهذه الآيات استمرار للحملة الإنذارية والتنديدية السابقة على الكفار: فهم مصرون على عنادهم وجحودهم في حالتي سرائهم وضرائهم. فإذا كانوا في حالة اليسر والرغد حسبوا ذلك اختصاصا وتكريما من الله ودليلا على أنهم على حقّ في
__________
(1) عقب ابن كثير على الحديث قائلا: إن علي بن المديني قال إنه حديث حسن الأسناد إلّا أن حفص بن حميد- أحد رواته- مجهول لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي وعقب ابن كثير على هذا أنه قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحق ووصفه يحيى بن معين بأنه صالح ووثقه النسائي وابن حبان.(5/328)
تقليدهم فظلوا معرضين عن الاستجابة إلى دعوة الله ورسالة رسوله. وهذا ما أشارت إليه الآيات [55- 56] وإذا أصيبوا ببلاء ثم كشفه الله عنهم رحمة بهم تمادوا في طغيانهم وإعراضهم. ولقد أنزل الله بهم بلاء فكشفت التجربة عن هذه الحقيقة لأنهم لم يخضعوا لربهم وما استكانوا وما تضرعوا وما تابوا عمّا هم فيه.
وسيظلون على موقفهم إلى أن يفتح الله عليهم بابا ذا عذاب شديد. غير أن هذا الباب حينما يفتح عليهم يكون وقت الندم والتوبة قد فات وأصبحوا في موقف اليائس من رحمة الله.
وقد قال المفسرون «1» إن الآية الثانية تضمنت الإشارة إلى القحط والجوع الذي أصاب أهل مكة حتى أكلوا القدّ والعظام والذي كان بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف اشتدّ غضبه عليهم لاشتداد عنادهم وأذاهم. ورووا أن أبا سفيان جاء إلى النبي فناشده الرحم وقال له: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى، قال: فادع الله أن يكشف عنّا هذا القحط. فدعا فكشف عنهم فظلوا على عنادهم وجحودهم فنزلت الآيات منددة بهم. وقد ذكروا وأوردوا الرواية في سياق سورة الدخان أيضا على ما شرحناه في سياق تفسير السورة المذكورة.
وصيغة الآية تلهم صحة رواية إصابة أهل مكة ببلاء رباني وكشفه عنهم. غير أننا نتوقف في رواية مجيء أبي سفيان إلى النبي ومناشدته الرحم وطلبه الدعاء لله بكشف البلاء لأن هذا يستلزم أن يكون مؤمنا بصحة نبوّة النبي وهو ما لم يكن.
على أن من الممكن أن يكون النبي قد رأف بقومه حين رأى ما أخذهم من جهد فدعا الله مؤملا أن يكونوا قد اتعظوا ورقّت قلوبهم فكشف عنهم البلاء، فلما ظلوا مصرّين على كفرهم وطغيانهم ندّد الله بهم هذا التنديد وأنذرهم بعذاب لا يكون لهم فيه باب رحمة وتوبة.
ولا نرى هذا متعارضا مع تقريرنا أن الآيات استمرار للحملة السابقة لأن ذلك ملموح بقوة. وعطف الآيات على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.(5/329)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
الراجع إلى الكفار موضوع الكلام فيه من القرآن على ذلك. ولهذا يسوغ أن يقال إن حكمة التنزيل شاءت أن تشير إلى هذا الحادث الذي يمكن أن يكون وقع قبل نزول السورة في سياق حملة تنديدها على الكفار.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن باب العذاب الشديد الذي أنذرت به الآية الثالثة هو وقعة بدر. وهذا ما روي أيضا في سياق تفسير جملة يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى [16] في سورة الدخان. ولقد روى ذلك البغوي أيضا ثم قال وقيل إنه الموت وقيل إنه قيام الساعة. وقد قال ابن كثير إنه عذاب الآخرة. ونحن نرجّح هذا لأنهم يكونون يوم القيامة يائسين مبلسين. والله أعلم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)
. الآيات موجهة للسامعين بصيغة الجمع المخاطب في معرض التذكير والتنديد: فالله هو الذي أنشأ فيهم قوى السمع والبصر والعقل فكان ينبغي عليهم أن يشكروه على هذه النعم باستماع الحق ورؤية الحق وإدراكه بعقولهم. ولكنهم قلّ أن يفعلوا ذلك. وهو الذي خلقهم ونمّاهم في الدنيا وإليه مرجعهم في الآخرة.
وهو الذي يحيي ويميت وهو الذي قدّر الليل والنهار ليخلف أحدهما الآخر. فهلا تعقّلوا وأدركوا قدرته عليهم وانتهوا من غفلتهم وعدم حسبانهم العاقبة؟.
وأسلوب الآيات يسوغ القول إن الخطاب موجّه بخاصة إلى الكفار. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا في الحملة التنديدية والإنذارية السابقة لها.
وقد يلحظ أن مثل هذه الآيات قد تكرر أكثر من مرة حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها بأساليب متنوعة لتكرر المواقف المماثلة أو تجددها، شأن معظم القصص القرآنية بل وكثير من الفصول الحجاجية أو التي احتوت التنبيه على مشاهد عظمة الله وقدرته في خلقه وكونه.(5/330)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
. في الآيات حكاية استدراكية لما كان الكفار يقولونه كلّما تكرر إنذارهم بالبعث والجزاء الأخرويين حيث كانوا يتساءلون بأسلوب المستنكر المرتاب كما كان يفعل الكافرون من الأمم السابقة عما إذا كانوا حقّا يبعثون بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما. ثم يتبعون تساؤلهم بقولهم إنهم أوعدوا بهذا هم وآباؤهم من قبل وليس هو إلّا من قصص الأولين وأساطيرهم.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وبدء الآيات بحرف الاستدراك قد يلهم أن الآيات تحكي موقف مناظرة وجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من نوع المواقف الكثيرة التي تكررت حكايتها في فصول عديدة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 89]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
. (1) يجير: يحمي من يستجير به وينصره.
(2) يجار عليه: لا يجرأ أحد على إجارة من غضب عليه وحمايته.
(3) فأنّى تسحرون: فكيف تنخدعون وتتبعون الأوهام دون الحقائق.
في الآيات أوامر للنبي عليه السلام بتوجيه بعض الأسئلة الاستنكارية للكفار وحكاية لما سوف تكون أجوبتهم بقصد الإفحام والإلزام والتنديد بهم وإثبات أن الله تعالى قادر على بعثهم بعد الموت الذي ينكرونه. وعبارتها واضحة. وهي(5/331)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
مفحمة ملزمة حقا لأنها تقرر واقع اعتقادهم الذي حكته آيات عديدة مرّت أمثلة عديدة منها بأن الله تعالى هو خالق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وربّهما ومدبّرهما والذي بيده ملكوت كل شيء والقادر على كل شيء.
والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها كذلك سياقا وموضوعا. ولعلها بسبيل استمرار لحكاية موقف المناظرة والجدل الذي تلهمه الآيات السابقة لها مباشرة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 90 الى 92]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
. في الآيات استدراك تقريري بمثابة ردّ آخر على الكفار:
1- فالقرآن إنما جاء بالحقّ وهو تقرير الربوبية لله وحده.
2- وهم كاذبون في نسبة الولد والشريك له لأنه ليس في حاجة إلى ولد أولا، ولو كان معه شريك لتنازع معه الملك والخلق ولعلا أحدهما على الآخر وهو محال في العقل والمنطق ثانيا. فتقدّس الله وتنزّه عمّا يصفونه به وينسبونه إليه وهو المحيط علمه بكل شيء ما ظهر وما خفي، وما مضى وما حضر، وما هو في المستقبل الغائب، وتعالى عن كل ما يشركه معه المشركون.
والآيات متصلة بالسياق اتصالا وثيقا كما هو واضح. والردّ الذي احتوته على ما يفترض أن المشركين يقولونه من أنهم يعترفون بالله وقدرته وربوبيته ومن أنهم إذا أشركوا معه غيره فإنما يشركونه للشفاعة. وفي الردّ أسلوب برهاني منطقي من شأنه إفحام المكابر المجادل كما هو المتبادر.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 98]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
.(5/332)
في الآيات:
1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الله أن يرزقه السلامة والنجاة وأن لا يجعله في القوم الظالمين إذا أبقاه حيّا حتى يريه تحقيق ما يوعد الله به الكفار.
2- وتقرير رباني بأن الله قادر أن يريه تحقيق ذلك.
3- وأمر ثان للنبي بأن لا يغتمّ لموقفهم وأن يقابله بالصبر والغضّ والدفع بالتي هي أحسن انتظارا لتحقيق وعد الله. فالله عليم كل العلم بحقيقة حالهم ومعتقداتهم.
4- وأمر ثالث بأن يستعيذ بالله من وساوس الشياطين ونفثاتهم ومخالطتهم في أموره وأفكاره.
والمتبادر أن الآيات وبخاصة الأربع الأولى منها متصلة بالسياق وبخاصة بالآيات [75- 77] التي احتوت تنديدا بموقف الكفار بعد ما كشف الله عنهم البلاء وإنذارا لهم بالعذاب الأشدّ وأن الآيات التي جاءت بعدها جاءت في معرض الاستطراد مما جرى عليه أسلوب النظم القرآني.
والآيتان الأخيرتان غير منقطعتين عن الموضوع والموقف. وقد استهدفتا بثّ الطمأنينة والسكينة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وحثّه على الالتجاء إليه كما ألمّت به الأزمات النفسية وساورته الهواجس والوساوس من جرّاء موقف قومه العنيد.
ولقد تكرر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان ونزغاته مما هو متصل بالحقيقة الإيمانية المغيبة عن الشيطان ووساوسه على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ونرى أنه يجب الوقوف في هذا الأمر عند ما وقف القرآن دون تزيد مع ملاحظة أن الشيطان ودوره مما كان مفهوما مسلما به عند السامعين ومع ملاحظة ذلك الهدف الذي استهدفته وهو بثّ السكينة والطمأنينة في قلب النبي والمؤمنين(5/333)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
فيما يكون طروءه على النفس الإنسانية من أزمات وهواجس ووساوس. والله أعلم.
ولقد شرحنا مدى احتمال تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لهزات الشيطان ونزغاته التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية [98] بالاستعاذة بالله منها في سورة الأعراف فلا نرى ضرورة للإعادة أو الزيادة.
وفي جملة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ توكيد للمبدأ القرآني المحكم في صدد الدعوة إلى سبيل الله وفي صدد معاملة الناس بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار.
ولقد قال بعض المفسرين إن هذه الجملة قد نسخت بآية القتال أو السيف «1» كما قالوا ذلك بالنسبة للجمل المكية المماثلة. ومع صواب ذلك بالنسبة للأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين على ما قلناه في المناسبات السابقة فإن هذا ليس من شأنه نقض ذلك المبدأ القرآني المحكم المنطوي في الجملة بالنسبة لسلوك المسلمين تجاه بني ملّتهم وتجاه غيرهم من الموادين المسالمين.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 104]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)
. (1) برزخ: حاجز مانع.
(2) لا يتساءلون: لا يستطيع أحد منهم أن يسأل أحدا معونة أو نصرا.
__________
(1) انظر تفسير البغوي.(5/334)
(3) كالحون: الكلوح هو تقلص الشفتين وتشمرهما عن الأسنان عند الغضب أو الخوف.
في الآيات تقرير في معرض الإنذار والتبكيت عما سوف يكون عند موت الكفار وبعده: فحينما يأتي الموت كافرا يستشعر بالخوف والندم ويلتمس من الله إعادته للحياة ليعمل صالحا ويتلافى فيها ما سبق منه. ولكن هذا لن يجديه نفعا.
ولن يكون إلّا كلمة تذهب في الهواء لأن بينه وبين العودة قام حاجز مانع إلى أن يبعث الله الناس من قبورهم وحينما ينفخ في الصور ويخرج الناس من قبورهم تنقطع بينهم دعوى الأنساب والعصبيات ولا يكون للناس إلّا أعمالهم. ولا يستطيع أحد أن يسأل نصرا مهما كانت روابط النسب والعصبية وشيجة بينهم. فالذين تثقل موازينهم بالإيمان والعمل الصالح هم الفائزون السعداء، والذين نخفّ موازينهم بالكفر وسيء العمل هم الخاسرون الخالدون في جهنم. تلفح وجوههم النار وتكلح من شدّتها.
وواضح أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. والإنذار للكفار فيها رهيب. وقد استهدفت فيما استهدفته حملهم على الارعواء قبل فوات الوقت كما هو المتبادر.
ولقد شرحنا مدى ثقل الموازين وخفتها يوم القيامة في مناسبات سابقة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد روى الترمذي في سياق تفسير الآية الأخيرة حديثا عن أبي سعيد الخدري (رض) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال تشويه النار فتقلص شفته العالية حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرّته» «1» .
وأورد ابن كثير حديثين آخرين في سياقها منهما حديث رواه ابن أبي حاتم بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ جهنّم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم سقط على العرقوب» . وحديث رواه ابن مردويه
__________
(1) التاج ج 4 ص 163. [.....](5/335)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
بطرقه عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم» . حيث ينطوي في الأحاديث تفسير نبويّ فيه إنذار وترهيب متساوقان مع الإنذار والترهيب القرآنيين.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 111]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)
. في هذه الآيات حكاية لمحاورة مفروض وقوعها بين الله تعالى والكفار، حيث يخاطبهم الله بعد أن يصيروا إلى النار بأسلوب التقريع عمّا إذا لم يكونوا قد نالوا ما يستحقونه لأنهم كانوا يكذبون بآياته كلما كانت تتلى عليهم. ولسوف يجيبون بأن روح الإثم والشقاء قد تغلبت عليهم فضلوا عن طريق الهدى ثم يلتمسون إخراجهم من النار معلنين توبتهم على أن يكونوا إذا عادوا ظالمين مستحقين أشدّ العذاب. فيردّ الله عليهم أن اخسأوا ولا تراجعوني بكلام. فقد كان فريق من عبادي الصالحين المخلصين يتجهون إليّ ويطلبون مني وحدي الغفران والرحمة فاتخذتموهم موضوع هزء وسخرية وكنتم تضحكون منهم واستغرقتم في ذلك حتى نسيتم ذكري. ولقد جزيتهم اليوم بسبب ثباتهم على إيمانهم وعملهم الصالح وصبرهم على ما لحق بهم منكم من الأذى والسخرية فكانوا الفائزين السعداء.
والآيات استمرار في السياق والموضوع السابقين كما هو ظاهر. والإنذار والتنديد فيها قويان مفحمان، وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء وهم في فرصة الدنيا، مع الثناء على المؤمنين وتطمينهم وتبشيرهم وبخاصة الفقراء والمساكين منهم الذين كانوا(5/336)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
موضوع سخرية الكفار واحتقارهم على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها.
وبعض المفسرين «1» قالوا في صدد جملة قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا الشقاء الذي كتبه الله عليهم. وروح الآيات وفحواها لا تساعدان على هذا التأويل كما لا تساعد عليه التقريرات القرآنية المحكمة التي تتضمن أن الله هدى الناس إلى طريق الخير والشر وآتاهم قابلية التمييز والاختيار بينهما على ما شرحناه في مناسبات عديدة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 116]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
. في الآيات استمرار في حكاية المحاورة المفروضة: فلسوف يسأل الله الكفار عن مقدار ما لبثوا في الدنيا فيجيبون أن ما لبثوه لم يكد يتجاوز يوما أو بعض يوم فيما يخيل إليهم وأن الأولى أن يسأل عن ذلك الموكلين بالعد والإحصاء. ولسوف يرد عليهم بأنهم لو عقلوا لعرفوا أنهم لم يلبثوا إلّا أمدا قصيرا حقّا. ولسوف يسألهم حينئذ عما كانوا يظنونه من ظنّ خاطئ بأنهم غير راجعين إليه ولا واقفين بين يديه. وبأن الله كان عابثا لا يستهدف غاية ولا حكمة من خلقهم في حين أن الله عز وجل تنزّه عن العبث وتعالى فهو الملك الحقّ الذي لا يقرر إلّا الحق ولا يفعل إلّا الحق ولا يتوخّى بفعله وقراراته إلّا الحق وهو ربّ العرش الكريم المتصرف المطلق في الكون.
والآيات استمرار في السياق والموضوع كما هو المتبادر. والمتبادر أن هذا القسم من المحاورة استهدف بيان تفاهة المدة التي يقضيها الكفار في الدنيا مغترين
__________
(1) انظر تفسير البغوي والطبري.(5/337)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
بقوتهم، وقد تضمنت تقريعا لاذعا على حسبانهم أن لا حياة وراء حياتهم الدنيوية وأن لا حكمة وغاية وراء وجود الكون. واستهدفت ما استهدفته سابقاتها من إثارة خوفهم وارعوائهم فضلا عن توكيدها حقيقة الآخرة الإيمانية واتساقها مع الحكمة والعدل والحق.
ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال يا أهل الجنة لم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم. رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثم قال يا أهل النار لم لبثتم في الأرض عدد سنين. قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئس ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم.
ناري وسخطي امكثوا فيهما خالدين مخلّدين» .
وينطوي في الحديث تبشير وإنذار نبويان متساوقان مع الهدف القرآني الذي نوّهنا به كما هو المتبادر.
ومع ما ذكرناه من صلة الآيات وهدفها ففيها وبخاصة في الآيتين الأخيرتين فيهما تلقين مستمرّ المدى موجه إلى الناس عامة في كل ظرف ومكان ليرعووا ويتّعظوا ويتجهوا نحو الله عز وجل مما تكرر وعرف منه أمثلة عديدة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 117 الى 118]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
. في الآية الأولى إنذار لكل من يدعو مع الله إلها آخر ويشركه معه في الاتجاه والعبادة بدون برهان. فحسابه عند ربه ولن يلقى فلاحا. وفي الآية الثانية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يطلب من الله الغفران والرحمة ويقرر له صفته الكمالية في الرحمة وكونه خير الراحمين.
وقد جاءت الآية الأولى كخاتمة للسياق السابق الذي حكى فيه مواقف الكفار(5/338)
وأقوالهم وأنذرهم وأوعدهم. كما جاءت هي والآية الثانية خاتمة لآيات السورة.
وطابع الختام المألوف في كثير من السور السابقة ظاهر عليهما أيضا. والآية الأخيرة ذات مغزى رائع في مقامها وإطلاقها.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن تعبير لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [117] لا يمكن أن يعني أن هناك شركا قد يكون قائما على برهان وسائغا. وإنما هو تعبير أسلوبي يتضمن نفي قيام أي برهان على ذلك أولا والتشديد في التنديد لأن شرك المشركين لا يستند إلى أي تعليل في أية شبهة من حقّ ومنطق ثانيا. وقد تكرر هذا الأسلوب كثيرا ومرّت منه أمثلة عديدة.(5/339)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
سورة السجدة
في السورة توكيد بصلة القرآن بالوحي الإلهي وردّ على الكفار على نسبتهم افتراءه للنبي عليه السلام. وتنويه بقدرة الله في مشاهد الكون ونواميس الخلق للبرهنة على استحقاقه وحده للعبادة والخضوع. وحكاية لشكوك الكفار بالبعث والحساب وحملة عليهم ومقايسة بين مصيرهم ومصير المؤمنين. وإشارة إلى رسالة موسى وفضل الله على بني إسرائيل حينما صبروا واتبعوا آيات الله. وتثبيت وتطمين للنبي عليه السلام.
وآيات السورة متساوقة ومنسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روي أن الآيات [16- 20] مدنية، وانسجامها مع ما قبلها سبكا وموضوعا يسوغ الشك في الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
. وهذه أولى السور في ترتيب النزول الذي سرنا عليه تبتدئ بهذه الحروف.
وقد تكرر ذلك بعدها في ثلاث سور مكيّة وسورتين مدنيتين. ولم يورد المفسرون في صددها شيئا جديدا وعطفوا على ما ذكروه في تفسير أول سورة البقرة المشابه.
ونرجّح هنا ما رجحناه في سياق مماثلاتها أنها للتنبيه واسترعاء السمع، وقد أعقب الحروف الثلاثة كما هو الشأن في معظم السور المماثلة إشارة تنويهية إلى القرآن(5/340)
كتاب الله وتوكيد بأنه تنزيل من ربّ العالمين لا إمكان للرّيب فيه. ثم أعقب ذلك إشارة استدراكية إلى ما يقوله الكفار بأسلوب تنديدي كانوا يقولون إن النبي افتراه وردّ على القول بتوكيد أنه الحق من الله أنزله على النبي لينذر به أناسا لم يأتهم نذير من قبله رجاء أن يهتدوا به إلى طريق الله القويم.
والآيتان الأوليان براعة أو مقدمة استهلالية للآية الثالثة كما هو المتبادر.
والآيات الثلاث منصبة في جملتها على توكيد نزول القرآن من عند الله وتكذيب دعوى افترائه التي تكررت حكايتها وتكرر تكذيبها بتكرر المواقف المماثلة.
تعليق على مدى الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ
ولقد روى البغوي عن ابن عباس في صدد جملة لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أنها تعني الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال الطبري إنها تعني قريشا الذين لم يأتهم رسول قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول أكثر وجاهة فيما يتبادر لنا. وتاريخ قريش لا يرتقي إلى أكثر من بضع مائة سنة على ما شرحناه في سياق سورة قريش فلا تناقض بين هذا القول ورسالات الأنبياء من عيسى وما قبله.
وقد يرد أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن لقريش فقط. وأن هناك روايات عن نبيين عربيين بعثا بعد عيسى. وهما حنظلة بن صفوان نبي الرس الذي تدلّ فصاحة اسمه على أنه ليس بعيدا كثيرا عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم والذي ذكرنا خبره في سياق سورة (ق) وخالد بن سنان العبسي «1» ولسنا نرى هذا ناقضا لقول الطبري حتى في حالة صحة الروايات. فقريش كانوا وظلوا في الدرجة الأولى هم الذين يوجه إليهم الخطاب في معظم ظروف العهد المكي النبوي برغم ما في القرآن المكي من
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي وانظر تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي ج 5 ص 359.(5/341)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
إشارات إلى عموم الرسالة النبويّة وشمولها حيث كان هذا هو المتسق مع الحالة الراهنة. وهذا ما انطوى في الآية وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى: 7] والآية [92] المماثلة في سورة الأنعام على ما نبهنا عليه في سياق تفسير السورتين.
[سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 9]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
. (1) عالم الغيب والشهادة: عالم ما هو خفي غائب وما هو حاضر مشهود.
(2) ماء مهين: كناية عن النطفة التي يتولّد منها الإنسان. والتعبير بسبيل استصغار شأن النطفة.
عبارة الآيات واضحة. وضمائر الجمع المخاطب فيها راجعة إلى الكفار على ما تفيده العبارة. وتكون بذلك الصلة قائمة بينها وبين الآيات السابقة. وقد استهدفت تدعيم الردّ الذي احتوته الآية السابقة لها مباشرة وتضمنت تنديدا بالكفار الذين لا ينتبهون ولا يتدبرون في كون الله العظيم الذي خلق كل شيء فيه على أحسن وأحكم صورة وفي تصرفه فيه بانفراد ببالغ الحكمة وشمول القدرة فلا يغيب عن علمه وحكمه وقدرته شيء في سماء ولا أرض، ثم الذي خلقهم من تراب ثم جعلهم من نطفة ضئيلة هينة الشأن ومنحهم نسمة الحياة وجهّزهم بالسمع والإبصار(5/342)
والأفئدة أي العقول. ولا يرعوون عن التماس الولاء والشفاعة من غيره مع أنه ليس هناك لأحد ولي ولا شفيع من دونه، ولا يشكرونه على أفضاله ونعمه ويؤدون حقه من الخضوع والإخلاص التام له وحده.
وأسلوب الآيات قوي نافذ إلى القلوب والعقول ومن شأنه إثارة شعور الإجلال والإكبار لله في النفس السليمة الطويلة الراغبة في الحق والهدى وبعث القناعة فيها بوجود واجب الوجود وكمال صفاته وعظيم قدرته واستحقاقه وحده للخضوع والاتجاه.
والحجة في الآيات ملزمة للكفار موضوع الكلام لأنهم يعتقدون أن الله هو خالق الأكوان ومدبرها والضارّ والنافع وحده، على ما مرّت حكايته عنهم في سور عديدة سابقة.
ويلحظ أن بعض ما جاء في هذه الآيات جاء في أوّل السورة السابقة وفي أواخرها أيضا ونقول هنا ما قلناه قبل من أن مردّ ذلك على ما هو المتبادر تكرر المواقف وتجدد المناسبات.
والعبارة التي جاءت في هذه الآيات عن كيفية خلق السموات والأرض ومدته واستواء الله على العرش وأطوار خلق الإنسان وشمول حكم الله وقدرته قد وردت في سور أخرى سبق تفسيرها ولقد علقنا بما فيه الكفاية على تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [72] في سياق سورة (ص) فلا نرى ضرورة لإعادة أو زيادة كذلك.
وجملة الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ تنطوي فضلا عن ما ذكرناه من قصد تدعيم الردّ على التنبيه إلى أن كل شيء مما خلقه الله جاء على أحسن ما تقتضيه وظيفته من حالة ونظام وإتقان. وهذا يمكن أن يراه ويلمسه ويدركه كل امرئ مهما كانت ثقافته فيجعله ذلك إذا لم يكن مغرضا مماريا يعترف بوجود الله وعظمته.(5/343)
تعليق على آية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
ولقد قال المفسرون في صدد هذه الآية عزوا إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين إن المسافة بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام من سني الدنيا فتقطع في نصف يوم بالنزول وفي مثله بالعروج. ووقفوا عند آية سورة المعارج هذه:
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فقالوا بسبيل التوفيق إن آية السجدة هي بصدد المسافة بين الأرض والسماء الدنيا في حين أن آية المعارج هي بصدد المسافة من الأرض السابعة إلى ما فوق السموات السبع وليس في هذا التحليل ما فيه التوقيف المقصود لأن صفة اليوم غير متغيرة، وهي في آية كألف سنة وفي آية كخمسين ألف سنة. ومنهم من قال إن يوم آية السجدة هو نسبة لأيام الدنيا ويوم آية المعارج هو نسبة لأيام الآخرة «1» .
ونقول تعليقا على ذلك ما قلناه في المناسبات المماثلة إن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن من الأمور المغيبة مع وجوب الوقوف من ذلك عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد ولا توسع ولا سيما إذا لم يكن هناك أحاديث نبوية ثابتة كما هو الحال في هذه المسألة، وأنه لا طائل من التزيد مع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون فيما ورد في القرآن حكمة. وقد يتبادر أن من هذه الحكمة التنويه بقدرة الله وعظمة كونه ومطلق تصرفه كما قد يتبادر أن من هذه الحكمة قصد التقريب إلى الأذهان التي اعتادت أن تقيس الأمور بالحركات والأبعاد والأيام.
وقصد بيان كون المسافات الشاسعة التي يستعظمها الناس هي بالنسبة لقدرة الله تعالى لا تعدّ شيئا. فالله سبحانه منزّه عما تقتضيه الحركات من حدود وجسمانية وقدرته في غنى عن كل ذلك وليس للأبعاد معها معنى ولا قيام. والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.(5/344)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
. (1) ضللنا: هنا بمعنى بليت أجسادنا وتناثرت ذراتها وتاهت في الأرض.
في الآيتين:
1- حكاية لتساؤل الكفار تساؤل الجاحد عما إذا كانوا حقيقة سيخلقون خلقا جديدا بعد أن تبلى أجسادهم وتتناثر ذراتها.
2- وبيان لحقيقة الدافع لهم على هذا القول وهو كفرهم بلقاء الله وإنه هو الذي خلقهم وخلق الأكوان جميعا.
3- وأمر للنبي بأن يؤكد لهم ذلك وأن يقول لهم إن هناك ملكا للموت وكّله الله بقبض أرواحهم وأنهم راجعون إليه بعد ذلك.
والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة. حيث استؤنف في هذه الآيات حكاية أقوال الكفار أيضا. والفقرة الأخيرة من الآية الأولى تلهم أن إنكارهم للبعث ليس منبعثا من إنكارهم لوجود الله ولكن من اعتقادهم باستحالة البعث بعد بلي الأجساد وهذا هو المتّسق مع ما قررته الآيات الكثيرة التي مرّت أمثلة عديدة منها في صدد اعترافهم بوجود الله وكونه هو الخالق المدبّر المحيي المميت.
تعليق على ملك الموت
ويلحظ أن الآية الثانية تقرر أن ملك الموت هو الذي يتوفّى الناس عند موتهم في حين أن آية الزمر [42] تذكر أنّ الله هو الذي يتوفّى الأنفس عند موتها.
وهناك آيات تذكر أن رسل الله (بصيغة الجمع) هم الذين يتوفّون الناس كما جاء في آية الأعراف [37] وفي آية سورة النحل [37] أن الملائكة هم الذين يتوفّون الناس. وهذا ما ورد في آية سورة الأنعام [93] أيضا ولسنا نرى في هذا تناقضا(5/345)
جوهريّا حيث يمكن التوفيق بين مدى الآيات بيسر.
ولقد أورد المفسرون «1» روايات معزوّة إلى ابن عباس وبعض التابعين عن ملك الموت وأعوانه وأعمالهم منها أن اسم ملك الموت عزرائيل وهو من كبار ملائكة الله. ومنها أن له أعوانا ينزعون الأرواح من الأجساد حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت. ومنها أن الأرض جعلت له كطست الماء أو راحة اليد يتناول منها من جاء أجله بدون مشقة. ومنها أن خطوته ما بين المشرق والمغرب وأن له حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب فيتصفح وجوه الناس فإذا رأى إنسانا انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة فتنزل به سكرات الموت. ومنها أنه ما على الأرض من بيت شعر أو مدر إلّا يطوف به ملك الموت في اليوم مرتين وفي رواية سبع مرّات لينظر هل فيه واحد أمر أن يتوفّاه! وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن جعفر بن أبي محمد قال: «سمعت أبي يقول نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن فقال له طب نفسا وقرّ عينا يا محمّد فإني رفيق بكلّ مؤمن. واعلم أنه ما في الأرض بيت مدر ولا شعر في برّ ولا بحر إلّا وأنا أتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرات حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم. والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها» . وقد روى ابن كثير الذي أورد هذا الحديث تعليقا عليه عن جعفر أنه إنّما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان ولقنه لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحالة العظيمة! وهكذا يكون ملك الموت بمقتضى هذا الحديث موكلا بقبض أرواح البعوض وغيرها من غير بني الإنسان! ولم يرد هذا الحديث في كتب الصحاح، والروايات الأخرى غير صحيحة الأسناد كذلك. وهذا من الأمور الغيبية التي لا يصحّ التزيّد فيها عمّا ورد في القرآن إلّا بحديث نبوي ثابت وواجب المسلم الإيمان بما جاء
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.(5/346)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
في القرآن من ذلك ولو لم تدركه أو تدرك حكمة ذكره العقول العادية.
ولعل من ذلك ما هو متصل بعقيدة المشركين في الملائكة من أنهم بنات الله وشفعاؤهم عنده وإشراكهم مع الله في العبادة والاتجاه. فهؤلاء الذين يشركونهم معه ويرجون شفاعتهم عنده ويعتقدون بتأثيرهم ليسوا إلّا خدما لله وعبيدا ومنفذين لأوامره وحسب، وأنهم أشدّاء غلاظ على الكفّار والمشركين بهم. والله أعلم.
[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 14]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
. في الآيتين الأولى والثالثة تنبيه على ما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حينما يرجعون إلى الله ويقفون بين يديه:
فلسوف يأخذ المرء العجب حينما يرى المجرمين الذين كفروا بالله ولقائه مطأطئي الرؤوس خجلا وخزيا مستشعرين بالندم والحسرة يعلنون يقينهم بالله وصدق وعده وبأنهم قد سمعوا وأبصروا واتعظوا ويطلبون من الله إرجاعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا ويتلافوا ما فرط منهم. غير أن ندمهم هذا لن يجديهم نفعا.
وسيقال لهم إنكم أعطيتم الفرصة فأضعتموها وتجاهلتم وغفلتم عن هذا اليوم فوقعتم في سوء العاقبة. فذوقوا عذاب الخلد الدائم بما نسيتم وتجاهلتم وبما كنتم تقترفون من الآثام وتنحرفون عن طريق الحقّ والهدى فقد استحققتم أن ينساكم الله كما نسيتموه وأن تصيروا إلى المصير الوبيل الذي صرتم إليه.
أما الآية الثانية فالمتبادر أنها بمثابة استدراك أو تعليق على قول الكفار المفروض المحكي في الآية الأولى، فالله قادر على جعل كل الناس يسيرون في طريق الهدى والحق دون أن يشذّ منهم شاذّ. ولكن حكمته اقتضت وقضاؤه سبق أن يكون لجهنّم ملؤها من الجنّ والإنس معا.(5/347)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
والاتصال قائم كذلك بين هذه الآيات وسابقاتها اتصال تعقيب وإنذار.
تعليق على آية وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها
وقد توهم الآية الثانية أن الله قد حتّم على أهل النار من الأزل أن يحرموا من التوفيق والهدى ليملأ بهم النار. وذكر هذا بعض المفسرين والكلاميين في صدد القضاء والقدر «1» . ولكن الآية الثالثة التي تنسب الكفر والنسيان لأصحابه وتجعل النار جزءا عادلا لهم من شأنها أن تزيل الوهم وتجعل الكلام على التحتيم في غير محله هنا وتسوغ القول إن الآية في صدد بيان كون حكمة الله اقتضت أن يترك الناس إلى اختيارهم الذي أودعه فيهم بعد أن بيّن لهم طريق الهدى والضلال حتى تمتلىء جهنّم بأهلها عن بيّنة وعدل والجنة بأهلها عن بينة وعدل وأن لا يجبر الناس على الهدى إجبارا. ولعل في الآيات التالية ما يؤيد هذا التوجيه الذي أكّدته آيات كثيرة سبق تفسيرها والتعليق عليها والذي هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس وترتيب الجزاء الأخروي حسب أعمال الناس في الدنيا.
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
. (1) تتجافى: تتباعد.
في الآيات إشارة إلى صفات المؤمنين ومصيرهم: فهم الذين إذا ذكّروا بآيات الله خرّوا سجدا له إعلانا لإيمانهم به وخضوعهم له وحده وسبحوا بحمده
__________
(1) انظر تفسير الآية في الكشاف المذيّل بتعليقات ابن المنير، وانظر تفسيرها في تفسير النسفي.(5/348)
على ما أولاهم من نعم وقدّسوه ونزّهوه ولم يستكبروا عن عبادته. وهم الذين يهجرون النوم والراحة ويقضون أوقاتهم في عبادة الله وحده مستشعرين بالخوف منه وراجين الثواب منه. وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في سبل البرّ المتنوعة.
فهؤلاء لا يعلم إلّا الله ما هيّىء لهم من عظيم المكافاة التي فيها قرّة أعينهم وطمأنينة قلوبهم جزاء ووفاقا على ما قدموه من صالح الأعمال.
وواضح أن الآيات قد أعقبت الآيات السابقة في صدد المقابلة بين مصائر الكفار والمؤمنين وأن الاتصال بينها وبين سابقاتها.
تعليقات على آية إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وما بعدها
ولعل الآيات جاءت بالأسلوب الذي جاءت به كردّ على ما حكته الآيات السابقة من إعلان الكفار يوم القيامة يقينهم بالله واتعاظهم. فالإيمان في الآخرة والندم على ما فات لن يجديا نفعا. وإنما المجدي هو الإيمان والعمل الصالح في الدنيا. وفي هذا ما فيه من التلقين المستمر المدى.
والإمعان في الآيات فحوى وروحا يزيل الوهم الذي قد يرد في صدد الآية الثانية من الآيات السابقة لها كما نبّهنا عليه. فكل ما وصف به المؤمنون قد نسب فعله إليهم وصدوره عنهم باختيارهم الذي أودعه الله فيهم.
ومع إطلاق الآيات الذي يجعلها مستمد إلهام وتلقين وتنويه وغبطة مستمر لكل مؤمن في كل وقت فإن فيها على ما هو المتبادر صورة قوية للسابقين الأولين من المؤمنين في مكة من قيام في الليل وتقديس وتسبيح دائمين لله عزّ وجلّ وخوف منه وأمل فيه وإنفاق لأموالهم في سبيله رضوان الله عليهم. وهو ما تكررت حكايته عنهم في سور عديدة منها السورة السابقة.
وجملة فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ تتضمن بشرى عظيمة غير محدودة من شأنها أن تثير في نفوس المؤمنين الصالحين أشدّ الغبطة والارتياح(5/349)
وتحملهم على مضاعفة جهدهم في نيل رضاء الله في العبادة والتسبيح والذكر والإنفاق. وهو مما استهدفته الجملة فيما هو المتبادر.
ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآيات أحاديث نبويّة عديدة. منها حديث رواه الطبري بطرقه بصيغ عديدة متقاربة عن معاذ بن جبل قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة. والصدقة تكفر الخطيئة.
وقيام العبد في جوف الليل، وتلا الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ إلى آخرها» . وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة ومن بله ما أطلعكم عليه اقرأوا إذا شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) » «1» . وروى البغوي بطرقه حديث معاذ بن جبل بتفصيل أكثر قال:
«كنت مع رسول الله في سفر فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئا. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت. ثم قال: ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة. والصدقة تطفئ الخطيئة. وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام. وعموده الصلاة. وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبيّ الله، قال: فأخذ بلسانه فقال: اكفف عليك هذا. قال:
فقلت يا نبيّ الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به. قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» . وروى بطرقه عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بقيام الليل فإنه دأب
__________
(1) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا في سياق تفسير الآية. انظر التاج ج 4 ص 181- 182.(5/350)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
الصالحين قبلكم وقربة لكم إلى ربّكم ومكفرة للسيّئات ومنهاة عن الإثم» «1» .
وأورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق، سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي ليقم الذين تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ الآية فيقومون، وهم قليل» .
وينطوي في الأحاديث «2» تلقينات وترغيبات وتبشيرات نبوية متساوقة مع ما في الآيات من ذلك.
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 20]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
. عبارة الآيات واضحة. وهي متصلة بالسياق. وقد جاءت بمثابة تعقيب على الآيات السابقة. وفيها مقايسة بين المؤمنين والفاسقين وبيان المصير الحقّ الذي يكون لكل منهم في الآخرة المتناسب مع عمل كل منهم، واستنكار لأي تسوية بين المؤمن الصالح والفاسق المتمرد. وفيها تدعيم قوي لما ذكرناه قبل في صدد نيل الناس في الآخرة ثوابهم وعقابهم وكونه جزاء عادلا لما قدموه في الدنيا واختاروه من طريق. والمتبادر أن تعبير كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها تعبير أسلوبي بقصد توكيد شدّة البلاء الذي سيصيب الكفار في الآخرة. واستهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [16- 20] مدنية. وروى
__________
(1) روى هذا الحديث الترمذي وأحمد والحاكم. وجاء في روايتهم في نهايته «وفي رواية ومطردة للداء عن الجسد» انظر التاج ج 1 ص 292.
(2) هناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه.(5/351)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
الطبري عن عطاء بن يسار أن الآيات [18- 20] نزلت بالمدينة في علي بن أبي طالب والوليد بن عتبة بن أبي معيط «فقد كان بين الوليد وعلي كلام فقال الوليد أنا أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأردّ منك للكتيبة. فقال علي اسكت فإنك فاسق، فأنزل الله فيهما أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ إلى قوله تُكَذِّبُونَ» . وروى هذا البغوي بدون عزو إلى راو وبشيء من المباينة هي أن الوليد قال لعلي اسكت فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي: «اسكت فإنك فاسق» فأنزل الله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ولم يقل لا يستويان لأنه لم يرد مؤمنا واحدا وفاسقا واحدا.
وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والمفروض أن الوليد كان مسلما. والآية تقرر مأوى الفاسقين في النار خالدين فيها. وتنزّه عليا عن القذف بمسلم بصفة الفاسق الكافر. والإمعان في السياق يسوغ القول إن الآيات منسجمة مع الآيات السابقة بل والآيتين اللاحقتين سبكا وموضوعا كل الانسجام.
وهذا ما يجعلنا نشكّ في الروايات. والله أعلم.
[سورة السجده (32) : الآيات 21 الى 22]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
. (1) العذاب الأدنى: العذاب القريب.
في الآيتين:
1- إنذار رباني في صيغة التوكيد بأن الله سيصيب الكفار بالبلاء القريب قبل البلاء الأخروي الأكبر لعلّهم يتراجعون عن غيّهم وموقفهم.(5/352)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
2- وتقريع في أسلوب السؤال الإنكاري يتضمن تقريرا بأنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن أنذره الله بآياته وذكره بها ثم أعرض وتصامم عنها.
3- وتوكيد بأن الله منتقم حتما من المجرمين الذين لا تنفع فيهم الموعظة والإنذار.
والآيتان معطوفتان على سابقاتهما ومتصلتان بها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقد قال المفسرون إن العذاب الأدنى الذي أنذر به الكفار هو عذاب دنيوي. وهذا ما تلهمه العبارة أيضا. ولقد احتوت السورة السابقة إشارة إلى ما أصيب به الكفار من بلاء دنيوي وتأنيبا لهم على عدم اتعاظهم به وإنذارا ببلاء أشدّ، فجاءت الآيتان تؤكدان الإنذار والتأنيب.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وبعض علماء التابعين في ماهية العذاب الأدنى «1» . منها أنه مصائب في الأموال والأنفس تصيبهم في الدنيا. ومنها أنه القتل بالسيف صبرا أو الجوع والقتل. ومنها أنه ما أصابهم في وقعة بدر. ومنها أنه الدخان والقحط قبل الهجرة أو بعدها. ومنها عذاب القبر.
ومنها أنه فتنة الدجال أو الدابة التي تخرج من الأرض في آخر الزمان. والقول الأخير غريب في مقامه لأن الإنذار للسامعين من الكفار والفاسقين. وقد يكون بعض هذه الأقوال تطبيقية بعد وقوع المصائب. ويكون في ذلك مصداق لوعيد الله وإنذاره. وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيتين قد استهدفتا تكرار إنذار المشركين وزعمائهم من جهة وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من جهة أخرى.
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 24]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) .
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. وهناك حديث رواه مسلم عن أبي بن كعب قال: «في هذه الآية العذاب الأدنى مصائب الدنيا والروم والبطشة أو الدخان» انظر التاج ج 4 ص 182.(5/353)
في الآيتين: تذكير بموسى وبني إسرائيل، فقد نزّل الله على موسى الكتاب.
وجعله هدى لبني إسرائيل. وقد جعل من بني إسرائيل أئمة يهدون الناس إلى طريق الحقّ بأمر الله وتوفيقه بسبب ما بدا من هؤلاء الأئمة من الصبر والإيقان بآيات الله.
والمتبادر أن الآيتين جاءتا لتطمين النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتثبيتهم في الظرف الذي أخذ موقفهم فيه يتحرّج وأزمتهم تشتدّ من الكفار. فكما فعل لموسى وبني إسرائيل لأنهم أيقنوا وصبروا فسيفعل لهم لأنهم أيقنوا وصبروا أيضا. وبهذا التوجيه الذي نرجو أن يكون صوابا تتصل الآيتان بسابقاتهما اتصالا وثيقا بالرغم مما يبدو لأول وهلة من انقطاعهما.
ولقد تعددت الأقوال في تأويل جملة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وبخاصة في ضمير لِقائِهِ فمن المفسرين «1» من قال إن الجملة لرفع الشك في لقاء الله لموسى أو لرفع الشكّ في لقاء النبي صلى الله عليه وسلم لموسى ليلة الإسراء، وأوردوا في صدد ذلك بعض أحاديث غير واردة في كتب الصحاح جاء في بعضها عزوا إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة. ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس. ورأيت مالكا خازن النار والدجال» . وفي بعضها عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أسري بي إلى السماء رأيت موسى يصلّي في قبره» . ومنهم من قال عزوا إلى السدي أن الجملة بمعنى (فلا تكن في شك من تلقي موسى كتاب الله بالرضا والقبول) ومنهم من قال إنها بمعنى (فلا تكن في شك من تلقي القرآن عن الله مثل تلقي موسى الكتاب) وأورد الزمخشري الذي قال القول الأخير آية يونس هذه: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [94] ليؤيد قوله. والأرجح فيما يتبادر لنا أن الضمير في لِقائِهِ يعود إلى الكتاب لأنه الأقرب ويكون التأويل الأخير هو
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والكشاف للزمخشري.(5/354)
الأكثر وجاهة والأكثر انسجاما مع روح الآيتين ويكون معنى لِقائِهِ هو تلقيه، والله أعلم.
تعليق على الآية وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ
وضمير لَمَّا صَبَرُوا يحتمل أن يكون راجعا إلى بني إسرائيل كما يحتمل أن يكون إلى الأئمة. ورجوعه إلى الأئمة أوجه لأنهم الأقرب إلى الجملة أولا ولأن الوصف لا يمكن أن يكون شاملا لجميع بني إسرائيل لا في زمن موسى ولا بعده لأن أسفار العهد القديم من لدن موسى «1» قد سجلت انحرافات كثيرة دينية وخلقية لفئات كثيرة من بني إسرائيل كانت أحيانا غالبيتهم الكبرى. وهو ما رددته آيات قرآنية عديدة مكيّة ومدنيّة. وقد مرّ منها أمثلة عديدة مثل آية الأنعام [146] وآيات الأعراف [148- 153 و 160- 170] وكان ترديده في القرآن أقوى وأشدّ وأوسع لأنه ربط بين مواقفهم من الرسالة المحمدية والقرآن وبين مواقف آبائهم وانحرافاتهم الدينية والخلقية في زمن موسى وبعده كما جاء في آيات سورة البقرة [40- 149 و 246- 253] وسورة آل عمران [51- 120] والنساء [44- 52 و 149- 161] والمائدة [12- 13 و 31- 33 و 41- 45 و 50- 71] .
وجملة لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ صريحة الدلالة على سبب جعل الله تعالى منهم أئمة يهدون بأمره. والآيات التي ذكرنا أرقامها آنفا من مكيّة ومدنيّة ونصوص الأسفار الكثيرة جدا. ثم عدم إيمان من لم يؤمن منهم بالرسالة المحمديّة التي ذكرت الآيات القرآنية أن صفات نبيها مكتوبة في التوراة وأنهم كانوا
__________
(1) إن هذا مبثوث بكثرة في معظم أسفار العهد القديم بحيث لا يحتاج إلى إيراد الأمثلة. فكل من تصفح هذه الأسفار أو شيئا منها يجد الدليل على ذلك. اقرأ إذا شئت كتابنا «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم» .(5/355)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
يعرفون أنها الحقّ وأن كتابها منزل من الله برغم إيمان بعضهم الذين استطاعوا التغلّب على الأنانية والهوى كل ذلك قد أنهى وجود السبب المذكور كما هو المتبادر.
[سورة السجده (32) : الآيات 25 الى 30]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
. في الآيات:
1- تقرير تطميني للنبي والمؤمنين وإنذاري للكفار بأن الله سيفصل بين الناس يوم القيامة في ما اختاروه من الطرق المختلفة حيث يحقّ الحقّ ويؤيد أهله ويزهق الباطل ويخذل أصحابه.
2- وتساؤل إنكاري يتضمن التنديد بالكفار عمّا إذا لم يكن قد بان لهم وهداهم ووعظهم ما أهلكه الله قبلهم من القرون والأجيال الكثيرة الذين يعيشون ويمشون في مساكنهم، ففي ذلك موعظة كافية لمن يسمع ويعي فهل فقدوا السمع فلا يسمعون.
3- وتساؤل استنكاري آخر يتضمن التنديد بالكفار أيضا عمّا إذا لم يروا بأعينهم أن الله تعالى يرسل الماء إلى الأرض الجافة اليابسة فيخرج به زرعا يأكلونه هم وأنعامهم. وفي هذا من الدلالة على قدرة الله ما فيه الكفاية. فهل فقدوا الإبصار فلا يبصرون.
4- وحكاية لما يتكرر صدوره منهم من التساؤل الاستخفافي عن موعد(5/356)
تحقيق ما يوعدون به من البعث والحساب إن كان صدقا. وأمر للنبي بإجابتهم تتضمن الإنذار والتوكيد معا بأن ذلك آت في اليوم الذي هو في علم الله وأن إيمان الكافرين في ذلك اليوم وندمهم لن يجدياهم ولن يكون لهم إمهال وفرصة أخرى.
5- وأمر آخر للنبي بأن يذرهم وما هم فيه من ضلال ويعرض عنهم ولا يبالي بموقفهم منتظرا حكم الله وأمره. فهم أيضا منتظرون ذلك مصرّون على غيّهم وعنادهم.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا أيضا. وقد جاءت ختاما للسورة.
وأسلوب الختام مماثل لأسلوب ختام سور عديدة.
وقد يمكن أن تكون الآية الأولى تعني بني إسرائيل كما يمكن أن تعني الكفار أو تعني الناس عامّة. وقد رجحنا أنها تعني الكفار لأن الضمير فيها مماثل للضمائر التي في الآيات التالية لها والتي يظهر أنها تعني الكفار بجلاء. وهو ما جعلنا نعرضها مع هذه الآيات. وفي حال صحة احتمال صلتها بالآية التي سبقتها فيكون فيها تقرير لواقع اختلافات بني إسرائيل فيما بينهم ما قررته آيات عديدة مكيّة ومدنيّة مرّت أمثلة منها.
والآية الثانية تنطوي على توكيد جديد بكون سامعي القرآن يعرفون البلاد التي أهلكها الله من قبلهم بسبب كفرهم معرفة مشاهدة ويعرفون أخبارها السابقة. وهو ما أكدته آيات عديدة مرّ بعضها ومن ذلك ما ورد فيه هذا بصراحة حاسمة مثل آيات سورة الصافات هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وآية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) .(5/357)
وكلمة (الفتح) جاءت في القرآن بمعنى الحكم والقضاء كما جاء في آية سورة الأعراف هذه: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [89] وآية سورة سبأ هذه قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) وجاءت بمعنى النصر والانتصار على العدو كما جاءت في سورة الفتح إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) وآية سورة النساء هذه الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [141] .
ولقد تعددت روايات المفسرين في ما تعنيه الفتح هنا حيث حكت الآية الرابعة تساؤل الكفار عنه بأسلوب السخرية والاستخفاف وحيث أنذرهم القرآن بالذلّ والخزي والعذاب فيه. منها أنه فتح مكة أو نصر بدر. ومنها أنه يوم القيامة.
والقول الأخير هو الأوجه على ما تلهم الآية الخامسة التي ردّت عليهم وأنذرتهم بأن إيمانهم يوم الفتح لن يجديهم ولن يكون لهم فيه مهلة أو فرصة أخرى. وهذا إنّما يصدق على يوم القيامة كما هو المتبادر. ولقد جارتهم الآية فنعتت هذا اليوم بيوم الفتح ردا على تحدّيهم واستخفافهم. وهو حقا يوم فتح ونصر على من يبقى كافرا ويموت كافرا.
وأمر النبي بالإعراض عنهم لا يعني أن ينقطع عن إنذارهم وإنما هو أسلوبي بقصد تثبيت النبي وتسليته ودعوته إلى عدم الاغتمام لموقفهم. وقد تكرر في مناسبات مماثلة كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. ولقد كرر المفسرون القول والروايات في سياق الآية الأخيرة بأنها نسخت بآية السيف. ونكرر ما قلناه في المناسبات السابقة المماثلة بأن ذلك وجيه بالنسبة لمن يبقى على كفره وعدائه.(5/358)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
سورة الطور
في السورة توكيد للبعث والحساب. ووصف لمصائر الكفار المكذبين، والمؤمنين المخلصين يوم القيامة. وتنزيه للنبي صلى الله عليه وسلم عن الكهانة والشعر والجنون والغرض الشخصي. وتنديد مفحم بالكفار لما هم عليه من تناقض وعناد ومكابرة وسوء نيّة وما يبيتونه من المكائد للنبي صلى الله عليه وسلم وينسبون إليه من تهم. وإنذار لزعمائهم الذين يتولون كبر هذا الموقف المجرم. وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وحثّه على الاستمرار في مهمته وتطمين له بأنه موضع عناية الله وأن عليه الاعتماد عليه وتفريغ قلبه لعبادته وتسبيحه في كل وقت وانتظار قضائه العادل. وآياتها متوازنة منسجمة مما يبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8)
. (1) الطور: جمهور المفسرين على أنه طور سيناء. والطور لغة مرادف للجبل.
(2) كتاب مسطور: قال بعض المفسرين إنه القرآن وقال بعضهم إنه كتب الله إطلاقا. ومسطور بمعنى مكتوب.
(3) رقّ منشور: الرقّ هو قطعة الجلد الأملس المعدّ للكتابة. وأكثر ما كان(5/359)
يتخذ من جلد الغزال. ومنشور بمعنى المبسوط أو المعدّ للكتابة والقراءة.
(4) البيت المعمور: كناية عن الكعبة. وبعض المفسرين رووا حديثا نبويّا بأن في السماء بيتا مثل الكعبة يسمى بهذا الاسم «1» .
(5) السقف المرفوع: كناية عن السماء. وقد وصفتها إحدى آيات سورة الأنبياء بالسقف [الآية 32] .
(6) البحر المسجور: تعددت الأقوال في المقصود من الكلمة «2» .
والمسجور هو الممتلئ في قول، والفارغ في قول، والمتّقد نارا في قول. وفي سورة غافر هذه الآية: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [72] بمعنى يلقون فيها وقودا.
وفي سورة التكوير هذه الآية: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) بمعنى أشعلت نارا واتقدت أو ملئت أو أفرغت وهناك قول بأن المسجور بمعنى المحبوس وإن الجملة تعني بحرا محبوسا في السماء أو تحت العرش. وعلى كل حال فلا شك في أن سامعي القرآن كانوا يفهمون المقصد من الجملة عدا القول الأخير المأثور عن بعض التابعين.
احتوت الآيات أقساما ربانية ببعض الأماكن والمشاهد المباركة والعظيمة للتوكيد بأن عذاب الله الموعود واقع لا محالة ولن يستطيع أحد دفعه ولا منعه.
وبدء السورة بمثل هذه الأقسام من أساليب النظم القرآني المألوف في مطالع السور. والآيات على ما تلهمه الآيات التالية لها مقدمة لحملة إنذارية وتنديدية على الكفار.
ولقد أشرنا في شرح الكلمات إلى حديث يرويه المفسرون عن البيت المعمور. وهذا الحديث مروي بصيغ متعددة متقاربة أوردها الطبري في سياق الآيات. منها هذه الصيغة رواها الطبري بطرقه عن مالك بن صعصعة قال: «قال
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير والبغوي.
(2) انظر تفسير الآية ثم تفسير آيات غافر [72] والتكوير [6] في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.(5/360)
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم رفع إلى البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم» «1» . وقد ذكر الطبري فيما ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في السماء السابعة لما عرج به إليها. وروى الطبري بعض الصيغ منسوبة إلى علي بن أبي طالب (رض) مع قوله إنه يقال له أيضا الصراخ. والصيغة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم هي من حديث طويل في الإسراء والمعراج رواه البخاري عن مالك بن صعصعة وأشرنا إليه في تعليقنا على المعراج في سورة النجم. وهذا الأمر من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها إذا ما ذكرت في القرآن أو في حديث نبويّ صحيح. والله أعلم.
[سورة الطور (52) : الآيات 9 الى 16]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
. (1) تمور: تتحرك وتضطرب وتدور.
(2) يدعّون: يدفعون بعنف.
في الآيات إنذار للمكذبين وبيان لمصيرهم يوم القيامة. ففي ذلك اليوم تضطرب السماء فيه وتتزلزل الجبال وتسير. والويل فيه للمكذبين لآيات الله اللاهين عنها الخائضين فيها خوض المنكر الساخر، ولسوف يساقون إلى جهنّم سوقا عنيفا. ويقال لهم هذه النار التي كنتم تكذبون بها فانظروا هل هي حقيقة أم خيال وسحر كما كنتم تزعمون. واصلوها جزاء كفركم وجرائمكم. وإنها لمصيركم الأبدي سواء أصبرتم عليها أم لم تصبروا.
والآيات كما هو ظاهر متصلة بالآيات السابقة. واضطراب السماء والجبال
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 230- 233. [.....](5/361)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
مما تكرر ذكره في القرآن من مشاهد يوم القيامة تصويرا لهول ذلك اليوم وشدّته على ما هو المتبادر. وأسلوب الآيات قوي لاذع من شأنه إثارة الخوف في الكفار وحملهم على الارعواء. وهو مما استهدفته فيما هو المتبادر أيضا.
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
. (1) فاكهين: متلذذين.
(2) ألتناهم: نقصناهم.
(3) يتنازعون: هنا بمعنى يتعاطون.
(4) لا لغو فيها ولا تأثيم: يمكن أن تكون الجملة وصفا للكأس فيكون المعنى أن الكأس الذي يشربونها لا يسكر شاربها وتجعله يفحش بالقول والإثم.
ويمكن أن تكون وصفا للجنات. وفي آيات سورة الواقعة آيات قد تفيد أنها وصف للجنات لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26) .
(5) غلمان لهم: كناية عن الخدم.
(6) كأنهم لؤلؤ مكنون: كأن لونهم اللؤلؤ المصون.
(7) يتساءلون: هنا بمعنى يتذاكرون ما صاروا إليه من فضل الله.
(8) السّموم: الهواء الحار اللافح.(5/362)
وفي هذه الآيات تنويه بمصائر المؤمنين الذين اتّقوا الله بالإيمان وصالح العمل والبعد عن الإثم مقابلة لذكر مصائر المكذبين جريا على الأسلوب القرآني.
وهي واضحة العبارة في وصف مظاهر النعيم الذي يتنعمون به وإدراكهم لما صاروا له من مظهر فضل الله وعنايته جزاء خوفهم منه واتجاههم إليه وحده. وأسلوبها شائق مغر من شأنه بعث الابتهاج والطمأنينة في المؤمنين والتنويه بأعمالهم الصالحة المرضية وحثّ عليها وتشويق غيرهم لها وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. وقد تكرر مثل هذا الوصف المستمد من مألوفات الدنيا وما فيها من صور أحسن المتع للتقريب والتمثيل.
وجملة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ تتضمن كما هو المتبادر معنى تعقيبيا بالنسبة لما ذكر من مصير الفريقين الكفار والمتقين. فكل منهم ينال وفاقا لعمله وكسبه. وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم المتكرر من مسؤولية الإنسان عن عمله وكسبه ونيله ما يستحق من الثواب والعقاب حسب ذلك.
تعليق على آية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ...
والضمير في أَلَتْناهُمْ راجع إلى المؤمنين كما هو المتبادر. والجملة تعني أن الذرية التي تتبع آباءها المؤمنين بإيمان ينالون ما يناله آباؤهم دون أن ينقص من ثواب آبائهم شيء كما هو المتبادر.
ولقد روى المفسرون أحاديث متنوعة في صدد هذه الآية فيها معان أخرى غير المعنى الذي ذكرناه والذي ذكره المفسرون أيضا. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرّبهم عينه ثم تلا الآية» . وحديث رواه البغوي كذلك عن علي بن أبي طالب قال: «سألت خديجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال هما في النار فلما رأى الكراهة في وجهها قال لو رأيت مكانهما(5/363)
لأمعضتهما. قالت يا رسول الله فولدي منك قال في الجنّة. ثم قال إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار. ثم قرأ الآية» . وحديث أورده ابن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم حسب ظنّ الراوي أنه قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وقرأ ابن عباس الآية» .
وحديث رواه الطبري بطرقه عن ابن عباس قال في هذه الآية «المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به وإن كانوا دونه في العمل» وقد روى مثل هذا الحديث بصيغ متقاربة عن علي بن أبي طالب وبعض علماء التابعين. وهذا من قبيل تفسير الآية كما هو واضح. وهناك حديث يرويه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قال:
«من أدرك ذريته الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بآبائهم في الجنة وأولادهم الصغار أيضا على ذلك» ومثل هذا مرويّ عن الضحّاك أيضا.
وليس من هذه الأحاديث شيء في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن ليس فيها ما لا يحتمل الصحة نصّا أو معنى. والمحصل فيها بالإضافة إلى المعنى الذي يتبادر من الآية والذي أوردناه قبل أن المؤمنين الذين لهم ذرية مؤمنة أو عاشت ذريتهم في حضانتهم وماتت قبل بلوغها يكرم الله آباءهم فيلحقها بهم في الجنة ولو لم يكن لها عمل أو عمل مواز لعمل آبائها.
وينطوي في هذا المحصل على ما هو المتبادر في جملة ما ينطوي فيها ترغيب وتبشير وتطمين للمؤمنين. على أن جملة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ وإن كانت كما قلنا قبل قليل تتضمن معنى التعقيب على مصيري الكفار والمتقين فإن مجيئها في هذه الآية يمكن أن يكون منطويا على تقرير كون الذرية التي لا تتابع آباءها بالإيمان تجزي بما كسبت دون أن تنتفع بإيمان وعمل آبائها. وإذا صحّ هذا ونرجو أن يكون صحيحا فيكون فيه توجيه وتحذير وتنبيه واتساق مع المبادئ القرآنية المحكمة.(5/364)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)
. (1) نتربص به: ننتظر له.
(2) ريب المنون: الموت أو صروف الدنيا التي تقلق الإنسان وتريبه.
(3) أحلامهم: عقولهم.
(4) تقوّله: اخترعه.
في الآيات:
أولا حكاية لما كان الكفار يقولونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وردّ وتكذيب لهم وتثبيت وتطمين للنبي والخطاب موجه إليه: فعلى النبي أن يستمرّ في تذكيره ودعوته وأن لا يبالي بأقوالهم. فقد شملته نعمة الله وعنايته. وليس هو كما يقولون كاهنا ولا مجنونا. وإذا كانوا يتواصلون باستمرار مناوأته والإعراض عنه ويقولون إنه شاعر ننتظر موته فنتخلص منه فليقل لهم على سبيل التحدي إنه هو أيضا متربّص بهم منتظر أمر الله وحكمه فيهم وفي نفسه.
ثانيا: أسئلة استنكارية في صدد موقف الكفار وأقوالهم وتحدّ لهم: فهل هم حقا يقولون ما يقولون بقناعة من عقولهم أم بدافع العناد والطغيان؟ وهل يقولون جادين إن النبي هو الذي يخترع القرآن؟ وإذا كانوا جادين صادقين فليأتوا بحديث مثله لأن الاختراع قدر مشترك بينهم وبينه.
ويلوح أن في الآيات توضيحا للآيتين فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ وبذلك تكون الصلة قائمة بين الآيات والسياق السابق. وقد تضمنت أيضا تثبيتا وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم. وآية أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ(5/365)
مع أسلوبها الاستفهامي تتضمن تقرير حقيقة أمرهم في مواقفهم ومزاعمهم وهي فقدان حسن النيّة والرغبة في الإيمان وتعمّد الطغيان والعدوان والإنكار وليس شيئا ناشئا عن عقل وتدبر وتروّ.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن قريشا لما اجتمعت في الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم أحبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله فأنزل الله الآية أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ويلحظ أن الآية منسجمة مع السياق بحيث يسوغ الترجيح أنها نزلت مع الآيات السابقة لها جملة واحدة. فإذا صحّت الرواية ولا مانع من صحتها فتكون الآية قد أشارت إلى هذا القول بسبيل الردّ عليه في سياق ما احتوته الآيات من ردود على أقوالهم الأخرى التي صدرت جميعها منهم قبل نزول الآيات.
وفي الآيتين [33- 34] تكرار لحكاية قول الكفار بأن القرآن مخترع من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وتحدّ لهم تحدّيا ينطوي فيه ردّ وإفحام. ويلحظ أن التحدّيات السابقة تحدّتهم بالإتيان بمثل القرآن ثم بعشر سور على ما مرّ في سور الإسراء ويونس وهود. وهنا تتحدّاهم بحديث ما. وأسلوب المرات السابقة وأسلوب هذه المرة متوازيان يتضمنان تقرير عجزهم وقوّة الاستعلاء عليهم.
وتعبير بَلْ لا يُؤْمِنُونَ تقرير لواقع أمرهم عند نزول الآيات وسبب مواقفهم. وليس على التأييد لأن كثيرا منهم أسلم وحسن إسلامه على ما نبّهنا عليه في مناسبات سابقة.
تعليق على كلمة كاهن ونسبة الكهانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وكلمة (كاهن) ترد هنا لأول مرة. وقد قال بعضهم إنها عبرانية الأصل وهذا ما يقال في صدد كلمات عديدة غيرها مما مرّ التنبيه عليه. مع أن الكلمة كانت شائعة مستعملة قبل البعثة مع اشتقاقاتها مثل تكهن وكهانة وتعني التنبؤ بالغيب.
وصيغها عربية فصحى. ولا يرد على هذا وجود الكلمة في العبرانية بنفس المعنى.(5/366)
فالعبرانية والعربية من أصل واحد فلا بدع أن تكون جذور الكلمات فيهما مشتركة.
وهي هنا في مقام تكذيب قول الكفار عن النبي إنه كاهن. وقد وردت في آية في سورة الحاقة في نفس المقام أيضا وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) والروايات العربية العديدة تفيد أنه كان يظهر بين العرب قبل الإسلام أشخاص يطلق عليهم هذا الاسم. وأن الناس كانوا يرجعون إليهم ليستفتوهم في حلّ بعض مشاكلهم وأحلامهم وكانوا يجيبونهم بالأجوبة المسجعة المطبوعة بطابع من الإلغاز والتعمية والروعة. وكان العرب يعتقدون أن للكهان صلة بالجنّ يوحون إليهم بالأجوبة ويخبرونهم بأخبار الغيب والسماء. وكان الكهان يسبغون على أنفسهم مظهرا من الخطورة التي تجعل العرب يعتقدون ذلك فيهم.
ولعلّه كان في بعضهم بعض المواهب والقوى الغامضة إذا ذاك والتي تفسر اليوم بالقوى المغناطيسية والكهربائية وتظهر بمظهر قراءة الأفكار والشعور من البعد والتأثير الروحاني فكانوا يفسرون ذلك بوحي الجنّ. وقد كان من النساء كاهنات كما كان من الرجال كهان. وقد رويت روايات عديدة عنهم وعن أقوالهم قد يكون فيها صنعة ومبالغة ولكن وجود أناس يتسمون باسم الكهان واتصاف الكهان بمثل هذه الصفات أمران لا شك فيهما لأن ذكر الكهان في القرآن دليل حاسم على ذلك. والظاهر أن العرب رأوا في النبي ودعوته والقرآن الذي يتلوه شيئا مما كان يبدو من الكهان فنسبوا إليه الكهانة فيما نسبوا. وقد نفى القرآن عنه ذلك في هذه السورة وفي سورة الحاقة كما نفى عنه السحر والشعر والجنون والاتصال بالجن في آيات عديدة في سور عديدة مرّت أمثلة منها نفي تزييف وتنديد وتسخيف.
واقتران النفي هنا بذكر نعمة الله يتضمن توكيد صلة النبي بالله وتسفيه رؤية صورة الكهان وسجعهم فيه وفيما يتلوه كما يتضمن التذكير بأن الكاهن لم يكن بسبيل الدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق ومحاربة الشرك والفساد والآثام وبأن قصارى ما عرف عن الكهان أنهم يجولون في نطاق وأفق ضيقين وفي سبيل العيش وليسوا هم بسبيل دعوة عظمى لا يطلب صاحبها عليها أجرا ولا مغنما.(5/367)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
وهناك حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «من أتى عرّافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمّد» «1» . والحديث وإن لم يذكر حكم الكاهن فالمتبادر أنه يشمله ضمنا. وكفر الذي يأتي الكاهن هو من كونه جاء إليه وهو يعتقد باطلاعه على الغيب وقدرته على النفع والضرّ. وهذا وذاك من خصائص الله تعالى ويكون الذي يعتقد بذلك في الناس مشركا بدون ريب. والكاهن بنصبه نفسه لهذه المهمة صار أولى أن يتّصف بهذا الوصف. والله تعالى أعلم.
هذا، ولقد روي عن ابن إسحاق أن الكهانة عند الجاهليين كانت بمثابة الأحبار والرهبان عند اليهود والنصارى، وهذا خطأ فيما هو المتبادر فإن الأحبار والرهبان عند اليهود والنصارى يتصفون بصفة دينية ويمارسون مهامّ دينية في حين أنه لم يرو أحد عن كهان العرب شيئا من ذلك.
[سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
. (1) مغرم: أجر أو تكليف أو ضريبة.
(2) يكتبون: هنا بمعنى يحكمون ويقضون.
وفي هذه الآيات أسئلة استنكارية أخرى فيها كذلك تنديد بعقائد الكفار
__________
(1) التاج ج 3 ص 201، ويروي مؤلف التاج صيغة أخرى رواها الإمام أحمد جاء فيها: «من أتى عرّافا فسأله أو كاهنا فصدقه لم تقبل صلاته أربعين ليلة» وفرق عظيم في الحكم في الصيغتين. والأحاديث التي يرويها مسلم هي أصحّ وأوثق عند علماء الحديث. والله تعالى أعلم.(5/368)
ومواقفهم واعتدادهم وتهكم بهم وتحدّ لهم:
1- فهل بلغ فيهم الاعتداد والتناقض إلى أنهم كادوا يظنون أنه لم يخلقهم خالق، أو أنهم خلقوا أنفسهم، أو خلقوا السموات والأرض، أو ملكوا خزائن الله وسيطروا على ملكه حتى لم يعودوا يخشون نقمته.
2- أم لهم سلّم يصعدون عليه إلى السماء ويطّلعون على الغيب فعرفوا أنهم على حقّ واستغنوا بذلك عن رسالة الله بلسان رسوله وهلا تقدم الذي استمع إلى أخبار السماء واطلع على الغيب منهم فيدلي بما عنده من برهان.
3- أم تفوقوا على الله فكان نصيبهم البنين بينما جعلوا نصيبه البنات.
4- وهل عندهم علم الغيب فهم يقررون مصائر الناس ويقضون فيها بما يرون.
5- وهل رأوا رسولهم يسألهم أجرا على رسالته حتى يستثقلون الأمر ويعرضون عن دعوته إلى الحق والهدى.
7- وهل موقفهم منه بقصد الكيد له والنكاية به مع أن ذلك إنما هو الحقيقة كيد لأنفسهم.
8- وهل يعرفون إلها غير الله يلجأون إليه ويحتمون به حتى بلغت الجرأة فيهم هذا المبلغ تعالى الله وتنزّه عما يشركون.
وواضح أن الآيات استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وقد جاءت قوية لاذعة منطوية على تقرير عجزهم وإفكهم وكذبهم فضلا عن السخرية والتنديد بهم. وفيها في الوقت نفسه تصوير لشدّة عناد ومكابرة المشركين وبخاصة زعمائهم.
وأكثر الأقوال والأسئلة والمواقف المحكيّة عن الكفار ورد في سور أخرى سابقة حيث يبدو أنها كانت تتكرر منهم أو تتجدد من قبل فريق بعد فريق فكانت حكمة التنزيل تقتضي تكرارها.
ولقد روى البخاري في سياق تفسير السورة حديثا عن جبير بن مطعم قال:(5/369)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
«سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآيات: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 35- 37] كاد قلبي أن يطير» «1» ، حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لما كان للآيات القرآنية الزاجرة من تأثير قوي في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم.
[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
. (1) كسفا: قطعة.
(2) مركوم: متراكم.
(3) يصعقون: وردت في القرآن كلمة فَصَعِقَ (الزمر/ 68) بمعنى الموت من نفخة الصور ووردت كلمة صاعِقَةً (فصلت/ 13) بمعنى عذاب الله. وعلى هذا فتكون الكلمة إما بمعنى الموت أو بمعنى عذاب الله.
(4) بأعيننا: تحت نظرنا وملاحظتنا وحفظنا وعنايتنا.
وفي هذه الآيات:
1- وصف لاستهانة الكفار بما ينذرون من عذاب الله حتى لو أنهم رأوا قطعة ساقطة من السماء عليهم لقالوا إنها ليست إلّا سحابا متراكما بعضه فوق بعض.
2- وأمر للنبي بأن لا يغتمّ بموقفهم وبأن يكلهم إلى الله ويدعهم وما هم فيه
__________
(1) التاج ج 4 ص 219.(5/370)
من ضلال حتى يلاقوا اليوم الذي فيه يموتون ويصعقون بعذاب الله فيتحققوا حينئذ أنه لن يغني عنهم كيدهم ولا مكابرتهم شيئا ولن يجدوا لهم ناصرا.
3- وإنذار للزعماء الذين يتولّون قيادة المناوأة والمعارضة فإنّ لهم عذابا إضافيا آخر يتناسب مع عظم جرمهم ولو لم يحسبوا حسابه ويوقنوا به.
4- وحثّ للنبي على الصبر والثبات انتظارا لأمر الله وحكمه، وتطمين بأنه موضع عناية الله ونظره وحمايته ولن يصيبه من كيدهم شيء. وعليه أن يستمرّ على حمد الله وتسبيحه والتمسك بحبله والاعتماد عليه في جميع أوقاته وحركاته وظروفه وحينما يقوم من مجلسه أو منامه وحينما يغشاه الليل وحينما تغيب النجوم ويسفر النهار.
والآيات كما هو واضح استمرار للسياق. وأسلوبها التطميني للنبي قوي.
ولا شك في أنّ هذا الأسلوب التطميني الذي تكرر كثيرا لتكرر المناسبات كان مما يمدّ النبي صلى الله عليه وسلم بالقوّة والتأييد والتحمل ويجعله يستمر في مهمته غير مبال بقوة الكفار وكثرتهم ويستغرق في عبادة الله وذكره وهو مطمئن بحسن العاقبة.
وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة. وطابع الختام ظاهر عليها وبخاصة على الآيتين الأخيرتين.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود من جملة عَذاباً دُونَ ذلِكَ هو عذاب القبر قبل عذاب القيامة وروى عن ابن زيد أنه مصائب تصيب الذين ظلموا في الدنيا عقوبة لهم قبل عذاب الآخرة. ويتبادر لنا من تعبير لِلَّذِينَ ظَلَمُوا في مقامه أنها في صدد زعماء الكفار وأن الإنذار بعذاب إضافي أو متقدم عن عذاب الآخرة لأنهم لا يكتفون بالإعراض عن الدعوة بل يحملون غيرهم على ذلك. وفي آية سورة النحل هذه الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) تدعيم لذلك. وقد يكون القول إن المقصود من العذاب المنذر به هو مصائب تصيب الظالمين في الدنيا عقوبة لهم هو الأكثر تناسبا مع ذلك. وفي هذا توكيد للتلقين القرآني الذي انطوى في الإنذار الرباني المتكرر.(5/371)
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلّا كان كفارة لما بينهما» . وروى عن عائشة حديثا جاء فيه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك» حيث يفيد الحديث أن التسبيح المأمور به هو حين القيام للصلاة. وهناك من قال إنه المقصود هو تسبيح الله حين القيام من الفراش من النوم. وقد روى أبو داود «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده لا قوّة إلّا بالله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. أعلم أن الله على كلّ شيء قدير وأن الله قد أحاط بكلّ شيء علما، فإنه من قالهن حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهن حين يمسي حفظ حتى يصبح» «1» . وعلى كل حال فإن الأمر بتسبيح الله عز وجل في كل ظرف مما تكرر في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة لأن فيه ذكر الله الذي تطمئن بذكره القلوب. وفي هذا ما فيه من مدد روحاني ومعالجة نفسانية.
__________
(1) التاج ج 5 ص 99، وهناك أحاديث أخرى في تسبيح الله وذكره، انظر ص 96 وما بعدها من الجزء المذكور.(5/372)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
سورة الملك
في السورة لفت نظر إلى عظمة الله وقدرته في مشاهد الكون ونواميسه، وتقرير كون الله إنما خلق الناس وقدّر عليهم البعث بعد الموت لاختبارهم. وتذكير بأفضال الله ونعمه على الناس. ووصف لمصير الكفار والمؤمنين الأخروي، وحملة تنديد وإنذار على الكفار وردود على ما كانوا يقولونه في مواقف الجدل مع النبي صلى الله عليه وسلم. وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول بوحدة نزولها.
ولقد روى بعض أصحاب الكتب الخمسة بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك» «1» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يعلم فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ تبارك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» «2» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) .
__________
(1) التاج ج 4 ص 20.
(2) المصدر نفسه.(5/373)
(1) طباقا: قيل إنها بمعنى طبقات بعضها فوق بعض. وقيل إنها بمعنى متطابقة أي متشابهة أو متساوقة في الإتقان والنظام والانتظام.
(2) ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت: لا ترى فيما خلق الله عدم تناسب وعدم انسجام.
(3) فطور: صدوع أو شقوق أو خلل.
(4) خاسئا: ذليلا منكسرا.
(5) حسير: كليل أو تعب.
بدأت السورة بالثناء على الله. وهذا من أساليب النظم القرآني في مطالع سور عديدة، وقد أعقب الثناء تنويه بمطلق تصرف الله عزّ وجلّ والإشارة إلى حكمته في خلق الناس وموتهم وبعثهم.
فلله التقديس والثناء. وهو الذي بيده ملك كل شيء المتصرف في هذا الكون تصرّفا مطلقا، القادر على كل شيء قدرة شاملة تامّة. وهو الذي بيده الموت والحياة والقادر عليهما. وقد جعل ذلك وسيلة لاختبار الجنس البشري حتى يظهر الأحسن منهم عملا، على غير حاجة وضعف لأنه قوي عزيز لا يدانيه في قوّته أحد وليس هو في حاجة إلى أحد، والمتّصف مع ذلك بالغفران والصفح والتسامح.
وهو الذي خلق السموات السبع بإتقان وانتظام وتطابق لا يمكن أن يرى الناظر إليها أي تفاوت أو تناقض أو صدوع أو شقوق أو خلل مهما دقّق في النظر وعاود التدقيق مرة بعد مرة وأجال النظر في جميع الأنحاء. ولن يلبث أن يرتدّ نظره ذليلا مذهولا حائرا كليلا مما يرى من العظمة ورائع الصنع والإتقان مستشعرا بعجزه عن درك الأسرار الربانية والإحاطة بها مستبينا ضالة شأنه إزاءها.
وأسلوب الآيات تقريري قوي موجّه إلى عقول السامعين وقلوبهم.(5/374)
وهي مقدمة لما يأتي بعدها من التنديد بالكفر وإنذار للكافرين. والسؤال والتحدي في الآيتين الأخيرتين يزيدان في قوة الصورة العظيمة التي رسمتها الآيات الأولى لمشاهد كون الله وفي تصوير شعور المرء بها وهو الشعور الدائم العام الذي لا يستطيع أحد أن يتفلت منه حينما يرسل ببصره إلى السموات ويتفكّر في عظيم الإبداع والإتقان والسعة التي لا يحصيها ذهن ولا يحيط بها بصر.
وواضح من أسلوبها أنها موجهة إلى جميع الأذهان استهدافا للتنبيه والاسترعاء والتذكير بعظمة الكون وخالقه وواجب الناس إزاءه. ومن الواجب أن تبقى في هذا النطاق لأن في إخراجها منه ابتعادا عن الهدف القرآني.
ولقد صرف بعض المفسرين عبارة الموت إلى العدم الذي يسبق الحياة، وعبارة الحياة إلى الحياة الدنيا. والذي تلهمه الآية الثانية هو قصد بيان حكمة الله في خلق الناس وإماتتهم وإحيائهم ثانية وهو اختبارهم في الدنيا ومعرفة صالحهم من طالحهم. لتوفيتهم جزاء أعمالهم في الحياة الأخروية بعد الموت. وفيه ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى في كون الناس مدعوين إلى العمل الصالح والتسابق فيه وكون حكمة خلقهم أو تميزهم عن سائر خلق الله متصلة بذلك. وقد تكرر هذا أكثر من مرة في السور السابقة وكتبنا تعليقا على مداه في سياق سورة هود، فنكتفي بهذا التنبيه.
ولقد روى البغوي عن كعب الأحبار في وصف السموات السبع أن الأولى موج مكفوف والثانية من درة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفر أو نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء. ومن السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور. والتحفظ في مثل هذه الأحاديث أولى كسائر ما يورد على هامش ما يرد في القرآن من مشاهد الكون إذا لم يكن مستندا إلى أثر نبوي وثيق.(5/375)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
[سورة الملك (67) : آية 5]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
. (1) الدنيا: هنا بمعنى القريبة أو المواجهة للناس.
الآية معطوفة على الآيات السابقة ومتصلة بموضوعها: فقد زيّن الله السماء التي يراها الناس بمصابيح وجعل من هذه المصابيح في الوقت نفسه رجوما للشياطين الذين أعدّ الله لهم عذاب السعير في الآخرة أيضا.
ورجم الشياطين من السماء بالشهب قد تكرر ذكره وعلقنا على ذاتية الموضوع في سياق تفسير سورة الجن بما يغني عن الإعادة. وإذا كان من شيء يحسن أن يقال هنا هو أن من الممكن أن يستلهم من الآيتين وما قبلهما وما بعدهما قصد تقرير كون الله عزّ وجلّ بالمرصاد لكل من يجرؤ على حدوده ويقف منه موقف المتمرّد مهما خيّل للناس أنه قوي شديد كشياطين الجنّ مثلا الذين لهم في أذهان السامعين صورة ضخمة مفزعة. أما تزيين الدنيا بالمصابيح فهو تعبير متكرر ومتسق مع شعور الناس على اختلاف طبقاتهم بما تقع عليه أنظارهم من مشاهد السماء ونجومها وشهبها وبما في أذهانهم من ذلك بسبيل العظة والتنويه. ومن الواجب أن يبقى ذلك في هذا النطاق مثل سائر التعابير القرآنية المماثلة. ولقد تكرر في القرآن تقرير كون مصير الشياطين في الآخرة هو العذاب والنار مما مرّ منه أمثلة وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة.
[سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
.(5/376)
(1) شهيقا: هنا بمعنى الصوت القوي.
(2) تكاد تميز من الغيظ: تكاد تتشقق أو تتفجر من الغيظ. والمقصد من الجملة وصف شدّة السخط على الكفار أو وصف شدّة النار.
(3) إن أنتم إلّا في ضلال كبير: قيل إنها إجابة خزنة جهنم للكفار في معرض التنديد، وقيل إنها تتمة حكاية كلام الكفار لرسلهم. والقول الثاني هو الأوجه في نظرنا.
وفي هذه الآيات إنذار للكافرين بالله وآياته: فلهم أيضا عذاب جهنم وبئست هي مصيرهم. وحينما يقبلون عليها سيرونها في حالة تبعث الرعب والفزع حيث يكون لها صوت مرعب من شدّة فورانها وتكاد تتشقّق وتتفجّر من الغليان أو سخطا على الكفار. وكلما ألقي فيها فوج منهم سألهم الموكلون بها سؤال المندد المقرع عمّا إذا لم يكن قد أتاهم نذير يعظهم ويخوفهم من هذا المصير فيجيبون إجابة المتحسّر النادم أنه قد جاءنا نذير فوقفنا منه موقف المكذّب وسفّهناه وأنكرنا أن يرسل الله رسلا للناس وقلنا له إنه في دعواه في ضلال كبير فاستحققنا هذا المصير.
ولو كنا نعقل أو نسمع ما صرنا إليه. وهكذا يعترفون بما اقترفوه من ذنوب فسحقا لهم وبعدا.
والآيات معطوفة على سابقتها ومتصلة بها. ولعل عطف الكفار على الشياطين قد قصد به تشديد التقريع فهم من طبقة واحدة ومصيرهم واحد.
والوصف قوي مرعب والمحاورة المفروض حدوثها لاذعة مستحكمة. ومن شأن ذلك إثارة الفزع والندم في الكفار وحملهم على الارعواء وهو مما استهدفته الآيات.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي(5/377)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
البحتري الطائي قال: سمعت من سمع من رسول الله قوله: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» وحديثا آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل أحد النار إلّا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنّة» وهذا وذاك متساوق مع ما أخبر الله به من مما سيكون من اعتراف الكفار بذنوبهم واستحقاقهم للنار. ومتصل فيما يتبادر لنا بالهدف الذي استهدفته الآيات.
[سورة الملك (67) : آية 12]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
. احتوت هذه الآية بيان مصير المؤمنين الذي يتّقون الله وعذابه المغيّب عنهم مقابلة لبيان مصير الكفار جريا على الأسلوب القرآني. فإنّ لهم من ربّهم المغفرة والأجر الكبير. وفي الآية بشرى وتطمين وتثبيت للمؤمنين في الوقت نفسه.
[سورة الملك (67) : الآيات 13 الى 14]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
. المتبادر أن الخطاب في الآية الأولى موجّه للمكذبين، وفي الآيات والحالة هذه عود على بدء إلى التنديد بالكفار وإنذارهم.
وقد تضمنت الأولى تحديا لهم: فسيّان عند الله أن تسروا ما تقولون أو تجهروا به فهو عليم به لأنه عليم بكل ما يجول في صدور الناس وأفكارهم.
وتضمنت الثانية حجّة برهانيّة على ذلك: فالله هو الذي خلق الناس ومن الطبيعيّ أن يعلم أعمالهم وما يدور في أفكارهم وما تخفيه صدورهم. وهو اللطيف الذي يعرف دقائق الأمور، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء.
[سورة الملك (67) : آية 15]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
.(5/378)
(1) ذلولا: مسخّرة للانتفاع بها بيسر وسهولة.
(2) مناكبها: أرجائها.
في الآية:
1- تذكير بفضل الله على الناس بما كان من تسخيره الأرض وتيسيره الانتفاع بخيراتها ليسعوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه.
2- وتقرير بأن مرجع الناس إليه ليحاسبهم على أعمالهم.
وواضح أن الآية استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا.
تعليق على آية هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
ومع أن من المحتمل أن يكون الخطاب فيها موجها للكافرين الذين هم موضوع الخطاب في الآيات السابقة فإنها تنطوي على ما هو المتبادر على تلقينات جليلة المدى:
1- فقد سخّر الله الدنيا للجميع فليس لأحد أن يمنع أحدا من السعي في مناكبها والانتفاع منها.
2- وقد حثّ الجميع على السعي في مناكبها فليس لأحد أن يأكل سعي غيره أو يسلبه ثمرات سعيه ويقعد هو عن السعي.
3- وقد سخّر الدنيا ومنافعها لجميع الناس ولكنه نبههم إلى أن هذه المنافع لا تنال إلّا بالسعي والعمل.
4- وقد قرر أن الرزق الذي يستخرجه الناس من الأرض هو في الحقيقة(5/379)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
رزقه لأنه هو الذي خلق مادته وأوجد القوى والأسباب التي تساعد على إخراجه، فلا حقّ لأحد أن يدّعيه لنفسه أو يحتكره من دون الناس.
[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 22]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
. (1) تمور: تتحرك وتضطرب.
(2) حاصبا: رجوما من الحجارة.
(3) نكير: نكيري أي إنكاري عليهم أو إرسال عذابي عليهم.
(4) صافات: باسطات أجنحتهن.
(5) يقبضن: يقبضن أجنحتهن حتى ليخيل للرائي أنهن يكدن يسقطن.
(6) لجوا: تمادوا.
(7) عتوّ: تمرّد وتكبّر.
(8) نفور: إعراض وابتعاد.
(9) مكبّا: منكبّا.
(10) سويّا: مستقيم القامة.
وهذه الآيات موجهة أيضا للسامعين الكافرين. وقد تضمنت:
1- إنذارا بأسلوب سؤال إنكاري عمّا إذا كانوا آمنوا وهم يكذبون بآيات الله(5/380)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
ورسله من أن يخسف الله بهم الأرض فتميد تحت أقدامهم أو يرسل عليهم رجوما من الحجارة فيرون حينئذ مصداق نذره ووعيده.
2- وتذكيرا لهم بما كان من تكذيب الأمم السابقة وبما كان من عذاب الله فيهم.
3- ولفتا لنظرهم إلى الطير التي تطير في السماء فتبسط أجنحتها أو تقبضها وما يمسكها عن السقوط إلا الله حيث ينطوي في هذه الظاهرة دليل على قدرة الله وكونه البصير بكل شيء المدبّر لكل شيء.
4- وتنديدا إنذاريا آخر بأسلوب السؤال الإنكاري عمّن يمكن أن ينصرهم من دون الله إذا ما جاء وقت عذابه لهم أو عمّن يرزقهم غيره إذا هو أمسك عليهم الرزق، ومع ذلك فقد تمادوا في العتوّ والتمرّد على دعوة الله والنفور منها حيث صاروا بذلك مستحقين لهذا وذاك.
5- سؤالا تنديديا آخر عمن هو الأفضل أهو الذي يمشي مكبّا على وجهه لا يرى طريقه، أم هو المستقيم في مشيته الذي يرى الطريق الواضح المستقيم ويسير فيه.
والآيات استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وهي قوية محكمة في تنديدها وإنذارها.
[سورة الملك (67) : الآيات 23 الى 24]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
. في هاتين الآيتين أمر للنبي بتوجيه الخطاب إلى الكفار في معرض التذكير والتنديد والتقرير بأن الله هو الذي خلقهم في البدء ووهبهم نعمة السمع والبصر والعقل مع تأنيبهم على قلة شكرهم لله على هذه الأفضال. وبأن الله هو الذي كثرهم في الأرض ونمّاهم وسيحشرون إليه.(5/381)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك سياقا وموضوعا. وقد انطوى في الآية الثانية تقرير قدرة الله على حشرهم إليه ما دام هو الذي خلقهم وكثّرهم في الأرض.
[سورة الملك (67) : الآيات 25 الى 26]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
. في الآية الأولى حكاية لتساؤل الكفار تساؤلا يتضمّن معنى الإنكار والاستخفاف عن موعد تحقيق وعد البعث والحساب والعذاب الأخروي إذا كان ذلك حقا وصدقا. وفي الثانية أمر للنبي بإجابتهم بأن علم ذلك عند الله، وأنه ليس إلّا نذيرا للبيان والتبليغ.
والآيتان أيضا متصلتان سياقا وموضوعا بما سبقهما. وأسلوب الآيتين والآيتين اللتين قبلهما قد يلهم أن هذه الآيات وما قبلها حكاية أو تسجيل لموقف حجاجي وجاهي بين النبي والكفار أو تعقيب عليه.
[سورة الملك (67) : آية 27]
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
. (1) زلفة: سريعا أو قريبا.
(2) تدّعون: بمعنى تطلبون أو تستعجلون.
هذه الآية جاءت في معرض توكيد تحقيق وعد الله ووصف حالة الكفار حينئذ: فلسوف يرون تحقيق هذا الوعد أقرب مما يظنون. وحينئذ تتجهّم وجوههم هلعا من العاقبة. ويقال لهم هذا هو مصداق وعد الله الذي كنتم تنكرونه وتتعجلونه تعجّل الساخر الجاحد. والآية متصلة بالسياق كما هو واضح. وقد تضمنت إنذارا وتعنيفا وردّا.(5/382)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
[سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
. (1) غورا: غائرا في الأرض فينقطع عن النبع والجريان.
(2) معين: لا ينضب أو جار ظاهر على وجه الأرض.
في هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال استنكاري للكفار عما إذا كان يستطيع أحد أن يجيرهم من عذاب الله وبلائه الشديد إن مات النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه قبل نزوله عليهم أو رحمهم حين نزوله. وعمن يستطيع أن يأتيهم بالماء الدائم الظاهر إذا ما أصبح ماؤهم غائرا في الأرض. وأمر له أيضا بإعلان إيمانه وإيمان من معه إيمانا مطلقا بالله وتوكلهم عليه وحده وبإنذار الكفار بأنهم لن يلبثوا حتى يعرفوا من الفريقين المهتدي ومن هو المرتكس في الضلالة.
والآيات متصلة أيضا بما سبقها سياقا وموضوعا. وفيها توكيد لما تلهمه الآيات [23 و 24 و 25 و 26] من الموقف الحجاجي الوجاهي الذي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار والتعقيب عليه كما هو المتبادر. وقد جاءت خاتمة لهذا الموقف أو التعقيب وخاتمة للسورة في الوقت ذاته.
ولقد قال بعض المفسرين «1» إن الآية الأولى تضمنت ردّا على الكفار الذين كانوا يتربّصون بموت النبي صلى الله عليه وسلم ويتمنونه حتى يخلصوا منه وهو ما حكته إحدى آيات سورة الطور السابقة. وقد لا يخلو القول من وجاهة. ولكن التأويل الذي أوّلناها به هو الذي تبادر لنا أنه الأوجه. والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الطبرسي.(5/383)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
سورة الحاقة
في السورة إنذار للكفار بعذاب الله. وتذكير بما حلّ بأمثالهم الأولين.
ووصف لهول يوم القيامة. ومصائر المؤمنين والكفّار فيه. وتوكيد قوي بصحة صلة النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي الرباني وصدور القرآن عنه. ونفي الافتراء والشعر والكهانة عنه.
وآياتها متوازنة مقفاة ومترابطة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
. (1) الحاقّة: الحادثة التي يحق فيها الموعود من عذاب الله.
(2) وما أدراك: ما هنا موصولة والجملة في صدد لفت النظر إلى خطورة الحاقة.
(3) القارعة: مشتقة من القرع بمعنى الطرق. وهي كناية عن يوم القيامة حيث تقرع الآذان من شدّة هولها.(5/384)
(4) الطاغية: كناية عن البلاء الطاغي الشديد الذي حلّ بمنازل ثمود.
(5) صرصر: شديد البرد أو شديد الصوت والدويّ.
(6) عاتية: من العتوّ وهي صفة بمعنى الشدّة التي لا يمكن منعها.
(7) حسوما: من الحسم بمعنى القطع. والكلمة بمعنى مستأصلة قاطعة.
(8) صرعى: مصروعين أو مطروحين على الأرض هلكى.
(9) أعجاز النخل: قرامي شجر النخل وأصولها.
(10) خاوية: فارغة أو مهدمة.
(11) المؤتفكات: المخسوفات. وجمهور المفسرين على أنها قرى قوم لوط.
(12) رابية: زائدة. والقصد وصفها بالشدّة الزائدة على المعتاد.
(13) الجارية: السفينة والفلك.
الآيات الثلاث الأولى في صدد التنبيه على ما في بلاء الله حينما يحقّ ويحلّ في قوم من الأقوام من هول. وقد استعمل نفس الأسلوب في مطلع سورة القارعة في نفس المعنى. وقد قال المفسرون إن الحاقة كناية عن يوم القيامة. غير أن التذكير بما حلّ من عذاب دنيوي في الأقوام الأولين في الآيات التي تلت هذه الآيات الثلاث يلهم أن القصد من الحاقة التنبيه على بلاء الله وعذابه مطلقا. ويمكن أن يشمل عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة أو كليهما.
وفي الآيات التي تبعت الآيات الثلاث:
1- إشارات تذكيرية مقتضبة إلى ما حلّ من عذاب رباني بالأمم السابقة: فقد كذبت ثمود وعاد بيوم القيامة فأهلك الأولين ببلاء طاغ شديد وأهلك الآخرين بريح قويّة شديدة سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة قطّعتهم تقطيعا مستأصلا حتى صاروا صرعى مطروحين على الأرض كأنما هم قرامي النخل الخاوية المهدمة دون أن يبقى منهم بقية كما يعرف ذلك السامعون.
2- وقد اقترف فرعون وأقوام من قبله وأهل المؤتفكات الخطيئات والآثام(5/385)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
وعصوا رسل الله فأخذهم الله أخذا شديدا مهلكا أيضا.
3- وحينما فاض الماء وطغى وملأ الآفاق حمل الله السامعين في السفينة لتكون الحادثة مذكرة واعظة لا تبرح الأذهان.
والمتبادر أن الآيتين الأخيرتين تشيران إلى حادثة طوفان نوح وسفينته. وأن توجيه الكلام للسامعين بضمير الجمع المخاطب هو من باب ما للحادثة من صلة بهم عن طريق الأجداد الأولين الذين أنجاهم الله على السفينة وهم نوح وأهله كما ورد بعبارة أوضح في مواضع أخرى من القرآن ومنها آية سورة الصافات هذه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وضمير الجمع المخاطب قد ينطوي على قرينة على كون السامعين يعرفون الحادثة، ويعرفون صلتهم بنوح وأبنائه الذين نجوا على السفينة.
والمتبادر كذلك أن الآيات قد استهدفت تذكير كفار العرب بما كان من تكذيب الأقوام السابقين لرسلهم وما اقترفوه من آثام وما كان من انصباب بلاء الله المتنوع عليهم. وتنبيههم إلى ما يجب عليهم من الاعتبار والاتعاظ. وإنذارهم بما يمكن أن يصيبهم من عذاب وبلاء مثل أمثالهم الأولين.
والأقوام المذكورة في الآيات وعذاب الله المسلّط عليهم قد ذكر في سور سابقة. واستمرار التذكير بذلك مرة بعد مرة بأساليب متنوعة متصل بالهدف الإنذاري الذي تستهدفه القصص القرآنية وبتجدد وتنوع المواقف الإنذارية ومحلها على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 37]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
.(5/386)
(1) الواقعة: كناية عن قيام القيامة.
(2) واهية: متداعية.
(3) الملك: الملائكة.
(4) أرجائها: أطرافها أو جوانبها.
(5) ظننت: هنا بمعنى علمت وتيقنت.
(6) دانية: قريبة للمتناول.
(7) أسلفتم: قدمتم.
(8) الأيام الخالية: كناية عن الدنيا.
(9) هلك عني سلطانيه: ضاع سلطاني وفقدت قوّتي أو فقدت حجتي وبرهاني.
(10) فغلّوه: قيّدوه بالأغلال.
(11) صلّوه: أدخلوه النار يصلى بها.
(12) حميم: صديق.
(13) غسلين: الصديد.
هذه الآيات احتوت وصف الحالة في يوم القيامة:
فحينما يحين الحين وينفخ في الصور وتحمل الأرض والجبال فتندكّ(5/387)
وتنهار، وتتشقق السماء وتتداعى تكون الواقعة قد وقعت والقيامة قد قامت. وإذ ذاك يحدق الملائكة بجميع الأرجاء والجوانب. ويتجلّى الله على عرشه المحمول من قبل ثمانية من ملائكته فوق الكون والخلق. ويعرض الناس عليه دون أن تخفى منهم عنه خافية. ويكون قضاء الله فيهم حيث يكونون فريقين. فريقا يعطى كتابه بيمينه فيبتهج ويسرّ بما كان عليه من يقين بالله ولقائه وحسابه ويدخل الجنة ليتمتع فيها بالعيشة الراضية والقطوف الدانية. ويقال له كل واشرب هنيئا فهذا جزاء ما قدمت من صالح العمل في الدنيا. وفريقا يعطى كتابه بشماله فيعتريه الرعب ويستشعر بالندم والحسرة ويتمنّى لو لم يبعث ولم يحاسب، ويعول قائلا إن ماله لم يغن عنه شيئا. وسلطانه أو حجته قد غابت عنه ويؤمر الموكلون بالعذاب بأخذه وغلّ يديه وطرحه في جهنّم وربطه بسلسلة طولها سبعون ذراعا، لأنه لم يؤمن بالله العظيم ولم يكن يحضّ على طعام المسكين، ولن يجد له حينئذ صديقا حميما ولا ناصرا معينا، ولن يكون له طعام إلّا الصديد المعدّ للآثمين أمثاله.
والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة في هدف التذكير والإنذار. فكما أهلك الله المكذّبين الكافرين الأوّلين بأنواع البلاء في الدنيا فقد أعدّ لهم أنواع العذاب في الآخرة. وشأن كفار العرب شأن الكفار السابقين ومصيرهم هو نفس المصير.
وقد ذكر مصير المؤمنين الصالحين في سياق ذكر مصير الكفار للمقابلة والتنويه جريا على الأسلوب القرآني.
والآيات الأولى قد استهدفت- كما هو المتبادر بالإضافة إلى حقيقة المشاهد الأخروية التي يجب الإيمان بها- تصوير شدّة هول القيامة للتذكير والإنذار. وقد جاء وصف مصير المؤمنين أخاذا من شأنه أن يبعث الطمأنينة والاستبشار والرغبة في العمل الصالح في المؤمنين كما جاء وصف مصير الكفار مفزعا يثير الخوف ويحمل على الارعواء، وهذا وذاك مما استهدفته الآيات فيما هو المتبادر أيضا.
ولقد استعيرت المألوفات الدنيوية في وصف مصير الفريقين جريا على النظم(5/388)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
القرآني وتحقيقا لهدف التأثير في السامعين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة.
ولقد نبهنا قبل على ما تعنيه عبارات إيتاء كتب الأعمال في الآخرة من اليمين والشمال في مناسبة سابقة فلا ضرورة للتكرار.
ولقد روى الطبري عن بعض التابعين أن كل ذراع من أذرع السلسلة سبعون باعا وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة وأن معنى فَاسْلُكُوهُ هو إدخال السلسلة في فيه حتى تخرج من دبره أو في دبره حتى تخرج من منخريه. وفي كتب التفسير الأخرى روايات وأقوال مماثلة بدون سند وثيق. ومهما يكن من أمرها فهي من باب الترهيب وإثارة الخوف في نفوس الكفار.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية [17] أحاديث وروايات عن حملة العرش. ولقد أوردوا مثل ذلك في سياق الآية [7] من سورة غافر التي تذكر حمل الملائكة لعرش الله تعالى. وقد أوردناه في سياق تفسيرها وعلقنا عليه كما علقنا على موضوع الملائكة بصورة عامة في سياق تفسير سورة المدثر بما يغني عن الإعادة والزيادة.
تعليق على تخصيص الحضّ على طعام المسكين في الآية [34]
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إنه لم يقصد من عدم الحضّ على طعام المسكين حصر البرّ في إطعام المسكين والإثم في عدمه. غير أن ذلك ينطوي- من دون ريب- على تلقين قرآني مستمرّ المدى في صدد هذا العمل والحثّ عليه واعتباره من أعظم أعمال البرّ الاجتماعية وبخاصة في البيئات التي تكون الحاجة فيها شديدة وملحّة.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
.(5/389)
(1) تبصرون وما لا تبصرون: قيل إنها بمعنى الدنيا التي ترونها والآخرة التي لا ترونها. وقيل بمعنى ما ترون وما لا ترون من المشهودات والمغيبات في الدنيا والآخرة.
(2) رسول كريم: كناية عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(3) لو تقوّل علينا بعض الأقاويل: لو افترى علينا بقول ما.
(4) لأخذنا منه باليمين: لانقضضنا عليه بقوّتنا.
(5) الوتين: وريد القلب.
(6) حاجزين: مانعين.
في هذه الآيات قسم رباني بما يراه السامعون وما لا يرونه من مشاهد الكون وأسراره ومن المشهودات والمغيبات في الدنيا والآخرة في معرض التوكيد بصحة رسالة النبي وصدق قوله وتبليغه: فهو رسول كريم على الله. وليس هو شاعرا ولا كاهنا. وإن هذا ليبدو حقا واضحا ساطعا لكل من تدبر في الأمر وتروّى فيما يسمعه من الأقوال وكان قلبه نقيا من الخبث مستعدا للتسليم بالحقيقة راغبا في الهدى والحق. لأن ما يقوله يعلو كل العلوّ عن متناول الشعراء والكهان وخاصة في الأهداف والجوهر والمدى. وهو تذكرة وموعظة ينتفع بهما ذوو القلوب النقيّة والرغبة الصالحة والمتّقون لغضب الله الراغبون في رضائه. وهو حقّ اليقين الذي لا يمكن أن يشوبه باطل. وهو تنزيل من الله ربّ العالمين. وإن الله لقادر على البطش به وإهلاكه لو اخترع بعض الآيات ونسبها إليه افتراء دون أن يقدر أحد على إنقاذه منه. وإن الله ليعلم أنه سيكون من الناس من يكذّبونه. ولكن هؤلاء سيندمون ويتحسّرون على تكذيبهم وجحودهم.(5/390)
وانتهت الآيات بأمر موجّه إلى النبي بالتسبيح باسم ربّه العظيم مما ينطوي فيه تسلية وتثبيت بعد هذا التأييد الرباني العظيم من جهة وبعد تقرير طبيعة وجود المكذبين له.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو المتبادر من حيث توكيد صدق ما يتلوه النبي من الآيات التي فيها تقرير مصائر الكفار والمؤمنين. وهي قوية رائعة في تنديدها وفي إنذارها وفي توكيدها وفي نفيها وفي تثبيتها من شأنها أن تبعث أعظم شعور الثقة في نفس النبي والمؤمنين بل والسامعين إطلاقا إذا تجرّدوا عن العناد والمكابرة والهوى والحقد في صدق صلة النبي بالوحي الربانيّ وصدور القرآن عنه.
ويبدو على الآية الأخيرة طابع الختام الذي اختتمت بمثله سور عديدة.
ويتبادر من ذكر قطع الوتين الذي قال المفسرون إنه عرق يكون في القلب أن السامعين يعرفون أن قطعه مما يودي بحياة الإنسان فورا.
ولقد سبقت حكاية أقوال الكفار بأن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن. وعلّقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.(5/391)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
سورة المعارج
في السورة توكيد بوقوع عذاب الله الموعود. وتذكير بعظمة المشاهد السماوية ووصف لهول يوم القيامة وما تكون عليه حالة الكفار فيه. وتقرير لبعض طبائع الإنسان السيئة واستثناء المؤمنين المصلّين الذين يخافون الله والآخرة على اعتبار أن ذلك يحسّن هذه الطبائع ويحفّز على الخير والبرّ والعدل والحق والعفاف. وصورة من صور الهزء التي كانت تبدو من الكفّار نحو النبي، وتسلية للنبي وتنديد بالكفار بسببها.
وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول بنزولها دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7)
. (1) سأل: قيل إنها بمعنى دعا وقيل إنها بمعنى السؤال العادي.
(2) المعارج: جمع معراج وهو ما يصعد عليه إلى أعلى. وهي كناية عن السموات على ما روي عن ابن عباس. وهناك من قال إنها بمعنى ذي الفضل والنعم.
في الآيات: إشارة إلى سؤال سائل عن عذاب الله الموعود وموعد وقوعه(5/392)
ومحلّه. وتوكيد بوقوعه على الكافرين دون أن يستطيع أحد دفعه عنهم من الله ربّ السموات الذي يصعد إليه فيها الملائكة والروح في يوم طوله خمسون ألف سنة من أيام الدنيا. وأمر للنبي بالصبر والثبات وعدم الاغتمام وتطمين له: فإذا كان الكفار يرون ذلك العذاب ويوم موعده بعيدا فهو عند الله قريب.
والآية الأولى تحتمل أن يكون السؤال وقع فنزلت الآيات بمناسبته كما تحتمل أن تكون حكاية لما كان يتكرّر وقوعه من الكفار من استعجال العذاب أو التساؤل عن موعده على سبيل الإنكار والتحدّي والاستهتار على ما حكته عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها. وقد احتوت الآيات ردّا تضمّن التوكيد والتنديد والبرهان المستمد من المحسوس وبخاصّة المستند إلى ما هو قائم في مشاهد الكون من عظمة الله وقدرته. بحيث لا يصح في العقل أن يستبعد عليه شيء.
ووجود الله سبحانه وعظمته وشمول قدرته وحكمه مما كان يعترف به السامعون على ما مرّت الشواهد القرآنية العديدة عليه فتكون الحجّة هنا مستحكمة فيهم.
تعليق على رواية شيعية في سبب نزول هذه الآيات
ولقد روى المفسر الشيعيّ الطبرسي عن جعفر بن محمد أحد الأئمة الاثني عشر رواية في سبب نزول هذه الآيات جاء فيها: «لما نصّب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا يوم غدير خمّ وقال من كنت مولاه فعليّ مولاه طار ذلك في البلاد فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحجّ والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال والله الذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله. فولّى النعمان بن الحرث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ وسورة كالمعارج مكيّة بدون خلاف. والحديث المرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ صدر(5/393)
عنه حسب الروايات بعد رجوعه من حجّة الوداع أي قبيل وفاته. أو بعد رجوعه من فتح مكة أي في السنة الهجريّة الثامنة. وجملة «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلخ ... » آية في سورة الأنفال المدنيّة تحكي في سياقها أقوال مشركي مكّة في العهد المكيّ. والآيات التي بعدها تردّ عليهم. وعلي بن أبي طالب (رض) لم يعد يوم الحديث المروي غلاما فإنه جاوز الثلاثين سنين عديدة. حيث يبدو من ذلك غرابة الرواية وكونها من نوع مرويات الشيعة العديدة التي يروونها في سياق التفسير لتأييد هواهم.
تعليق على جملة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
يروي المفسرون أقوالا عديدة ومنسوبة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد هذه الجملة «1» . فمنها في صدد وَالرُّوحُ أنها تعني جبريل عليه السلام الذي يرجّح أنها عنته في آيات في سور أخرى سبق تفسير بعضها مثل سورتي النحل والشعراء. ومنها أنها تعني أرواح الناس حينما تنقضي آجالهم مما ذكر في حديث رويناه في سياق بعض آيات سورة إبراهيم التي سبق تفسيرها. ولقد ذكر الروح مع الملائكة في سورة القدر بأسلوب يدلّ على أنه رئيس الملائكة ويكون على رأسهم في نزولهم إلى الأرض كما ذكرت في مثل هذا المقام أو بعبارة أخرى في قيام الملائكة والروح صفّا أمام الله يوم القيامة في إحدى آيات سورة النبأ التي يأتي تفسيرها بعد قليل حيث يسوّغ الترجيح أنها هنا من هذا الباب. ومنها في صدد خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أن الرقم هو المسافة التي بين تخوم الأرض إلى فوق السموات السبع حسب أيام الدنيا يقطعها الملائكة والروح في يوم واحد. ومنها أنها بمعنى أنه لو صعد غير الملائكة من منتهى أمر الله في أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله من فوق السماء السابعة لما صعد في أقل من خمسين سنة والملائكة يقطعونها في ساعة واحدة. ومنها أن الرقم هو يوم القيامة ومنها أنه مدة
__________
(1) انظر تفسيرها في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.(5/394)
الدنيا. وقد حاول المفسرون الذين رووا القولين الأولين التوفيق بين هذا الرقم وبين ما جاء في سورة السجدة التي مرّ تفسيرها في هذا الجزء فقالوا إن يوم سورة السجدة هو من الأرض الأولى إلى السماء الأولى في حين أن يوم المعارج من تخوم الأرض السابعة إلى ما فوق السماء السابعة.
ولقد أورد ابن كثير بسبيل تأييد كون اليوم هو يوم القيامة حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليخفّف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا» . ومع أن المفسر عقّب على هذا الحديث قائلا إن شخصين من رواته ضعيفان فإنه أورد حديثا آخر رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقّها إلّا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلّما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإما إلى النار» «1» . هذا في حين أن فحوى الآيات يتّسق مع القولين الأوّلين أكثر وأن المتبادر من هذا الفحوى هو بيان كون المسافات الشاسعة الهائلة التي يستعظمها الناس مثل ما بين الأرضين والسموات ليست شيئا بالنسبة لقدرة الله تعالى. ولسنا نرى تعارضا بين هذا وبين ما جاء في الحديث الصحيح في الوقت نفسه حيث يبدو منه أن القصد هو بيان كون يوم القيامة طويلا جدا على الناس حتى لكأنه خمسون ألف عام مما يعدونه من أيامهم.
ومهما يكن من أمر فالخبر الذي احتوته الجملة القرآنية من المغيبات المتصلة بسرّ الله وملائكته. ومن الواجب الوقوف عنده موقف التصديق دون التخمين مع واجب تنزيه الله تعالى عن المكان والحدود الجسمانية ومع واجب الإيمان بأنه لا
__________
(1) التاج ج 2 ص 6، وللحديث تتمة بالنسبة للمواشي التي لا تؤدّى زكاتها.(5/395)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
بدّ من أن يكون لورود الجملة بالأسلوب الذي وردت به حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة على ضوء الآيتين الأخيرتين [6 و 7] أنها بسبيل الردّ على الكفار الذين يستعجلون العذاب استهتارا أو تحدّيا ويسألون هازئين عن سبب تأخيره بأن ما يظنونه بعيدا هو عند الله تعالى قريب وإن اليوم عنده ليعدل خمسين ألف سنة من سنيهم. والله أعلم.
[سورة المعارج (70) : الآيات 8 الى 18]
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
. (1) المهل: عكر الزيت.
(2) العهن: الصوف.
(3) يبصرونهم: بمعنى يرونهم أو يعرفونهم والضمير راجع إلى الأصدقاء الحميمين أو الأقارب المذكورين في الآيات.
(4) صاحبته: كناية عن الزوجة.
(5) فصيلته: أسرته الخاصة، مثل عشيرته.
(6) تؤويه: تضمه أو تجيره.
(7) لظى: متقدة أو شديدة الالتهاب.
(8) نزاعة للشوى: قرئت نزاعة بالضم وبالفتح. وفي حالة الضم تكون خبر (لأنها) وفي حالة الفتح تكون حالا أو ظرفا أو مفعولا لفعل مقدر وهو (أعنيها) والشوى جمع شواة وهي بشرة الجسم أو أطراف الجسم غير المقاتلة، والجملة تعني أن النار تنزع من شدّتها بشرة الجسم أو أطرافه.
(9) أوعى: كنز وادّخر.(5/396)
وفي هذه الآيات إشارة إلى عذاب الله الموعود الذي أكّدت الآيات السابقة وقوعه وقربه: ففي ذلك اليوم تكون السماء كعكر الزيت قتاما أو ميوعة والجبال كالصوف ليونة وتناثرا ومع أنهم يرى بعضهم بعضا ويتعرف بعضهم على بعض فإن كلا منهم مشغول بنفسه لا يستطيع أن يسأل نصرا من صديق أو عونا من قريب ولا يمكن أن يجاب. ويكون هول العذاب الشديد على المجرمين حتى ليتمنى الواحد منهم لو فدى نفسه بكل عزيز عليه من أولاده وزوجته وأخيه وعشيرته وكل من في الأرض ليتمكن من النجاة. ولكن لا نجاة. فقد أعدّت جهنّم الشديدة الاتقاد لكل من أدبر وأعرض عن سماع آيات الله والاستجابة إلى الدعوة إليه وكان كل همّه جمع المال وكنزه لتنزع أطرافهم وتشوى بشراتهم دون أن يقضى عليهم بالموت ليظلوا يقاسون هول العذاب.
والآيات كما هو واضح متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وفيها تأييد لما قلناه في سياق الآيات السابقة وكونها للإنذار والتأكيد بوقوع العذاب الموعود وقربه.
وقد تضمنت وصفا مرعبا من شأنه إثارة الخوف والهلع في الكفار وهو مما استهدفته الآيات هنا كما استهدفته الآيات السابقة والمماثلة بالإضافة إلى المقصد الأخروي الواجب الإيمان به. ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا فيه تفسير للمهل قال: «إنه كعكر الزيت إذا قرّب إلى الوجه سقطت فروته من شدّة حرارته» «1» .
تعليق على اختصاص جمع المال وكنزه بالتنديد
وكما قلنا في صدد اختصاص عدم الحضّ على طعام المسكين في الآيات السابقة نقول هنا في صدد اختصاص جمع المال وكنزه بالتنديد من حيث إنه ليس من قبيل الحصر. ولكنه ينطوي على تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد تقبيح كنز المال والشحّ به عن سبل البرّ والخير ومساعدة المحتاجين.
__________
(1) التاج ج 4 ص 244.(5/397)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
. (1) هلوعا: سريع التأثر والتّهيج مما يلمّ به أو سريع الضجر والتبرّم.
(2) جزوعا: شديد الخوف والاضطراب.
في الآيات الثلاث الأولى إشارة إلى ما انطبع عليه الإنسان من أنانية وحرص وسرعة تأثر: فهو سريع التهيج مما يلمّ به. وهو أناني لا يفكر إلّا في نفسه فإذا أصابه شرّ جزع واضطرب وإذا انفرجت أموره ونال خيرا أمسك وبخل.
والآيات التالية استثنت من ذلك المصلّين المداومين على الصلاة: فهؤلاء يعرفون ما عليهم في أموالهم من حقّ واجب للسائل والمحروم. ويؤمنون باليوم الآخر. ويخافون من عذاب ربهم الجدير بالخشية. ويرعون ما يقطعونه من عهد.
ويلتزمون في صلاتهم الجنسية مجالهم المشروع من زوجات وملك يمين حافظين فروجهم عن غير هذا المجال، لأن الذين يتجاوزونه يكونون معتدين. ويحتفظون بما اؤتمنوا عليه من أمانات. ويؤدون ما عندهم من شهادات على وجهها الحقّ.
ويحافظون على صلاتهم في أوقاتها. فلهؤلاء عند الله التكريم في الجنات.
تعليق على الآيات إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إلى الآية 25 وما ينطوي فيها من تلقينات
والآيات متصلة بسابقاتها. والمناسبة قائمة خاصة بينها وبين الآية الأخيرة السابقة لها مباشرة. وقد انطوت على تقرير أثر الإيمان وعبادة الله في نفس الإنسان(5/398)
واتجاهه وسلوكه، وتقويم ما في طبيعته من أنانية وجزع من الشر ومنع للخير.
وهي من روائع المجموعات القرآنية المنطوية على جليل التلقينات الأخلاقية والاجتماعية المستمرة المدى.
واختصاص المصلّين بالذكر في الاستثناء وتكرار التنويه بالدوام على الصلاة والمحافظة عليها في أول المجموعة وآخرها آت- كما هو المتبادر- من كون الصلاة هي مظهر رئيسي من مظاهر الإيمان بالله أولا ووسيلة مستمرة للتذكير بالله وأوامره التي فيها كل خير ونواهيه التي تنهى عن كل شرّ ثانيا. وهذا مما يجعل المصلّي يندفع في عمل الحق والعدل والخير ويمتنع عن الإثم والفواحش. وعلى هذا فإذا صدر من مصلّ آثام ومنكرات وتغلبت فيه الأنانية والجزع والبخل والمنع فلا يكون في الحقيقة مصليا لأن صلاته لا تكون صادرة عن إيمان صحيح فلا تفيد في تصفية روحه وتنقية قلبه على ما شرحناه في سياق تفسير سورة لعلق شرحا يغني عن التكرار.
ومع أن الآيات انطوت كما قلنا على تقرير أثر الصلاة في المصلي الصادق فإن من الممكن أن يكون فيها أيضا صورة لما كان عليه المؤمنون الأولون في العهد المكي من أخلاق وما كان للصلاة والإيمان فيهم من أثر عظيم مما احتوت تقريره آيات عديدة في سور عديدة على ما ذكرناه في سياق الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) .
وإذا صح هذا- ونرجو ذلك- فإن في الآيتين وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ قرينة على أن الزكاة كانت مفروضة على المؤمنين ومعينة المقدار.
ولقد روى الطبري عن مجاهد والشعبي وغيرهما من علماء التابعين أن جملة وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ تعني غير الزكاة أيضا. ومع أن هناك آيات عديدة حثّت على التصدّق بصورة عامة بحيث يدخل في ذلك الصدقات التطوعية فإنّ المتبادر من روح العبارة هو كما قلنا قصد المقدار المحدد(5/399)
المستوجب على الأموال باسم الزكاة في الدرجة الأولى.
ولقد روى البخاري حديثا جاء فيه: «أتي النبيّ مالا فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا فقال إني أعطي الرجل وأدع الرجل. والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي. أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع. وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير. منهم عمرو بن تغلب فقال عمرو ما أحبّ أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم» «1» . حيث ينطوي في الحديث معالجة نبوية نفسانية لمختلف فئات المسلمين تورد على هامش بعض ما جاء في هذه الآيات. وفيها تلقين رفيع نفساني للمسلمين وبخاصة لأولي الأمر منهم.
تعليق على مدى الآية وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ
والآية كما هو المتبادر تعتبر القيام بالشهادة من صفات المؤمنين الصادقين وتنوّه بمن يفعل ذلك. وهناك آيات فيها حثّ على ذلك منها آية سورة النساء هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [135] وآية سورة المائدة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [8] وآية سورة الأنعام هذه وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
[152] وآية سورة الطلاق هذه وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [2] وهناك نهي عن كتمان الشهادة وإنذار لكاتميها كما هو في آية البقرة هذه وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [283] ونهي عن مضارة الشهداء كما هو في آية البقرة
__________
(1) التاج ج 4 ص 244.(5/400)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
هذه وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [282] ونهي للشهداء عن عدم الشهادة كما هو في آية البقرة هذه وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا [282] حيث يبدو من هذا مدى عناية حكمة التنزيل بهذا الأمر الذي فيه إحقاق للحقّ وتوطيد للعدل وضمان لطمأنينة الناس على حقوقهم المتنوعة.
وهناك أحاديث نبويّة عديدة متساوقة مع التلقين القرآني وفي بعضها تحذير من شهادة الزور وتعظيم لإثمها. منها حديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» «1» وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن خريم بن فاتك قال: «صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فلمّا انصرف قام قائما فقال: عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات ثم قرأ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ... [الحج: 30- 31] » «2» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور. قال فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت» «3» وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار» «4» .
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) .
__________
(1) التاج ج 3 ص 56- 58.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه. [.....](5/401)
(1) مهطعين: مسرعين ومقبلين.
(2) عزين: جماعات جماعات.
(3) ربّ المشارق والمغارب: جمهور المفسرين على أن العبارة تعني مطالع الشمس والقمر ومغاربهما. وبعضهم قال إن الجمع بسبب تغير هذه المطالع والمغارب يوميا بالنسبة للقمر في كل شهر وبالنسبة للشمس في كل سنة.
(4) مسبوقين: هنا بمعنى عاجزين أو مقصرين عن اللحاق بهم. والكلمة في صدد تعبير السبق. فالمسبوق في المباراة يكون عاجزا أو مقصرا.
(5) نصب: مفرد الأنصاب. وهو ما ينصب للعبادة. ويمكن أن تعني الأصنام.
(6) يوفضون: يسرعون.
في الآيات:
1- سؤال فيه معنى الإنكار والتنديد عما يريده الكفار من إسراعهم نحو النبي ووقوفهم جماعات جماعات عن يمينه وشماله وعمّا إذا كانوا يطمعون أن يدخلوا الجنة.
2- ونفي جازم لذلك.
3- وتقرير وقسم يتضمنان معنى الإنذار بأن الله الذي خلقهم مما يعرفون قادر على إهلاكهم متى شاء واستبدالهم بخير منهم وليس هو عاجزا عنه ولن يستطيعوا الإفلات منه.
4- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يعبأ بهم وأن يدعهم في خوضهم ولهوهم إلى أن يلقوا اليوم الذي يوعدون وينالهم العذاب المعدّ لهم فيه، ففي ذلك اليوم يخرجون(5/402)
من قبورهم مسرعين كأنهم متجهون نحو نصب لهم وتكون أبصارهم خاشعة ويكون الذلّ والهوان قد استحوذا عليهم.
والآيات متصلة بالآيات التي سبقت فصل المصلين كأنما جاء هذا الفصل للاستدراك ثم عاد الكلام فاتصل في صدد الكفار.
وروح الآيات عامة والآية [42] بخاصة تلهم أن ما حكته الآيتان [36 و 37] من التفاف الكفار حول النبي يمينا وشمالا كان من قبيل إقبال الساخر المستخفّ.
ولذلك انطوت الآيات على التنديد والإنذار والوعيد والتذكير بقدرة الله على تنفيذ وعيده من جهة وانطوت على تسليته للنبي وتطمين له من جهة أخرى.
وهكذا تكون الآيتان [36 و 37] احتوتا صورة من صور الخبث والمكر والاستخفاف التي كانت تصدر عن الكفار نحو النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مواقف وعظه وإرشاده وتلاوته للقرآن حيث كانوا ينظرون إليه نظر الهازئ المنكر ويقفون حوله جماعات جماعات مادّين بأعناقهم إليه وقوف الساخر الجاحد. والتنديد والإنذار اللذان تضمنتهما الآيات قويان لاذعان ومتناسبان مع الصورة الخبيثة التي انطوت فيهما.
وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة. والآية الأخيرة مما ختم بما يماثله بعض السور الأخرى أيضا.(5/403)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
سورة النّبإ
في السورة استنكار لما يبدو من الكفار من استعظام خبر البعث والجزاء الأخرويين وتوكيد بوقوعهما وتدليل على قدرة الله عليهما بمشاهد كون الله وعظمته ونواميسه. وإنذار بأهوال القيامة ومشاهدها ووصف قوي لمصائر الكفار والمؤمنين فيها.
وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
. (1) أزواجا: أصنافا.
(2) المعصرات: الرياح في قول والسحب في قول آخر. والثاني هو الأوجه الذي تؤيده العبارة.
(3) ثجّاجا: مدرارا شديد الانصباب.
(4) ألفافا: متكاثفة ملتفة على بعضها.(5/404)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
في هذه الآيات:
1- سؤال عمّا يتساءل الناس عن صحته من الخبر العظيم العجيب واختلافهم في شأنه.
2- وتوكيد قوي بأن المتسائلين لا بدّ من أن يروه حقيقة ويعلموا صحته.
3- وسؤال في معنى التدليل على قدرة الله على ذلك في تقرير مشاهد عظمة الله في كونه ونواميسه. فهو الذي جعل الأرض ممهدة صالحة للسير والاستقرار.
وأقام فوقها رواسي الجبال كالأوتاد. وخلق الخلق أصنافا. وجعل النوم انقطاعا عن الحركة، والليل ظرفا للراحة والسكون، والنهار للسعي والحركة والارتزاق.
وبنى فوق الأرض سبع سموات عظمى. وجعل فيها سراجا شديد الحرارة والنور.
وأنزل من السحب الماء المدرار فأخرج به الحبّ والنبات وجنّات الأشجار المتكاثفة.
وروح الآيات تلهم أن الضمير في يَتَساءَلُونَ ومُخْتَلِفُونَ وسَيَعْلَمُونَ عائد إلى الكفار. وقد قال المفسرون إن النبأ العظيم يمكن أن يكون البعث والحساب ويمكن أن يكون أمر النبوّة. ويمكن أن يكون القرآن. بل ذكر البغوي عزوا إلى مجاهد أن الأكثرين على أنه القرآن. وقد رجّح ابن كثير أنه يوم القيامة.
والأقوال الثلاثة واردة على كل حال وإن كنّا نميل إلى ترجيح القول الأول وقد يكون في الآيات التالية تأييد لهذا الترجيح.
وأسلوب الآيات التي تعدد مشاهد الكون ونعم الله التي يتمتع بها الناس موجّه إلى كل فئة وقوي نافذ لأنه متّصل بمشاهداتهم وما يتمتعون به. ويلهم في الوقت نفسه أن السامعين ومنهم الكفار يعترفون بأن ما يرونه ويلمسونه ويتمتعون به هو من آثار قدرة الله تعالى وصنعته. ومن هنا يكون التدليل بها على قدرة الله على تحقيق النبأ العظيم الذي يتساءل عنه الكفار قويّا ملزما.
[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 20]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)(5/405)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
في هذه الآيات: تنبيه على أن الموعد الذي عيّنه الله تعالى للقضاء بين الناس هو يوم الفصل. ففي ذلك اليوم ينفخ في الصور فيأتي الناس أفواجا من كل صوب. وتفتح السماء فتكون أبوابا عديدة. وتتقلقل الجبال وتسير عن أماكنها فتصبح كالسراب أثرا بعد عين.
والآيات متصلة بسابقاتها. وفيها قرينة على أن البعث والحساب هما النبأ العظيم الذي حكى تساؤل الكفار عنه في الآيات السابقة. وقد احتوت وصف بعض مشاهد قيام القيامة وصفا متضمنا قصد تصوير هول ذلك اليوم مما تكرر في مواضع كثيرة من السور السابقة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
[سورة النبإ (78) : الآيات 21 الى 30]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)
جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
. (1) مرصادا: مرصدا وهو المكان الذي ينتظر فيه.
(2) مآبا: مكان إياب أو مصيرا.
(3) غسّاقا: قيل إنه الصديد كالغسلين.
وفي هذه الآيات وصف لمصير الكفار في ذلك اليوم الذين وصفوا بالطاغين للتدليل على كفرهم وبغيهم: فقد أعدّت جهنّم لتكون مأوى لهم ومرصدهم المنتظر. وسيلبثون فيها الأحقاب. ولن يذوقوا فيها شرابا يطفىء الغلة ولا بردا يذهب الحرارة. وليس فيها إلّا الماء الشديد الحرارة والغسّاق شرابا. وكل هذا جزاء عادل متناسب مع أعمالهم ومواقفهم فقد كذّبوا بآيات الله ولم يفكروا في(5/406)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
العواقب ولم يقع في خاطرهم احتمال الحساب والعقاب في حين أن الله قد أحصى عليهم كل شيء كأنما هو مسجّل في كتاب. وسيقال لهم ذوقوا فليس لكم عندنا إلّا المزيد من هذا العذاب وهذه الآلام.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو واضح. وقد استهدفت بالوصف المفزع الذي تضمنته فيما استهدفته إثارة الرعب والرهبة في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء كما هو المتبادر.
ولقد تعددت الأقوال المعزوّة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم عن مدى ما تعنيه كلمة الأحقاب ومن ذلك أن الحقب ثمانون عاما وأن العدد الذي يتّسع للجمع يصل إلى سبعمائة. مع حساب كون يوم الآخرة يعدل ألف سنة من سني الدنيا. وبعضهم قال إنها منسوخة بجملة فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً الواردة بعدهما وبعضهم قال إن الجملة تعني في حدّ ذاتها الخلود لأنها لم تعين للأحقاب حدا. وعلى كل حال فالتعبير القرآني أسلوبي بقصد بيان طول أمد العذاب إلى ما لا نهاية له.
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 36]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
. (1) مفازا: فوزا ونجاة.
(2) كواعب: جمع كاعب وهي التي نهد ثديها وهذا من أوصاف المرأة المرغوبة.
(3) أترابا: خلانا ورفاقا والمقصد منها الزوجات.
(4) دهاقا: مترعة. والمتبادر أن القصد من ذلك المترعة بالشراب اللذيذ.
(5) لغوا ولا كذّابا: لا لغو فيها ولا كذب.
في هذه الآيات وصف لمصير المتّقين في ذلك اليوم للمقابلة مع وصف(5/407)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
مصير الكفار فلهم النجاة والفوز وسينزلون الجنات فيتمتعون بها بالفواكه والأعناب والنساء الكواعب والكؤوس اللذيذة. ولا يؤذي آذانهم لغو ولا كذب. وكل هذا جزاء لهم من الله وتوفية لحسابهم على ما قدموه من صالح الأعمال.
والآيات متّصلة بسابقاتها كذلك. وقد استهدفت فيما استهدفته من الوصف المبهج الترغيب والتبشير وبعث الاغتباط والطمأنينة في قلوب المؤمنين.
ويلفت النظر بخاصة إلى جملة جَزاءً وِفاقاً في الآيات السابقة وجملة جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً في هذه الآيات حيث تضمنتا تقريرا صريحا بأن ما يناله الناس من عقاب وثواب إنما هو جزاء لأعمالهم وكسبهم الاختياري.
[سورة النبإ (78) : الآيات 37 الى 40]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
. في هذه الآيات استمرار على وصف القيامة وهولها والإنذار بها: فالله الذي يوفي كلا من الطاغين والمتّقين حسابهم على أعمالهم هو ربّ السموات والأرض وما بينهما الذي من أبرز أسمائه الحسنى (الرّحمن) . والذين يأتون إليه أفواجا يوم القيامة يقفون خاشعين متهيبين. وكذلك الملائكة مع الروح يقومون صفوفا أمامه.
ولا يملك في ذلك اليوم أحد حقّ الكلام والخطاب إلّا من أذن له الرّحمن وكان قوله عنده حقّا وصوابا. وذلك اليوم هو يوم الحقّ والقضاء العادل الحاسم، فمن أراد أن ينجو من هوله فعليه أن يجعل اتجاهه نحو الله وأن يسير في سبيله.
وقد انتهت الآيات بتوجيه الخطاب للسامعين: فالله ينذرهم بعذابه ويخوفهم من ذلك اليوم الذي سيرى فيه كل امرئ جزاء ما قدمت يداه من خير وشر ويتمنى الكافر فيه أن لو كان ترابا حسرة وندامة وفزعا من المصير الرهيب الذي سوف يصير إليه.(5/408)
والآيات قوية نافذة تتضمن وصف عظمة الله وهيبته وتضع الناس أمام مصير واضح لا ينجو من هوله إلّا من آمن بالله وسار في سبيله.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون «1» عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم في كلمة الروح منها ما هو غريب مثل كونها عنت بني آدم أو أرواحهم أو خلقا يخلقه الله مستأنفا. ومنها أنه ملك عظيم أعظم الملائكة خلقا وأعظم من السموات والجبال ومنها أنه جبريل عليه السلام.
ولقد وردت في سورة القدر جملة قرينة للجملة التي وردت فيها الكلمة هنا وهي تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد انتهينا في التعليق إلى ترجيح كون جبريل عليه السلام وكونه عظيم الملائكة وهو ما نرجحه هنا وتلهمه روح العبارة أيضا.
__________
(1) انظر تفسير السورة في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن.(5/409)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
سورة النّازعات
في السورة توكيد رباني بتحقيق يوم البعث والحساب وما سوف يستولي على الكفار فيه من خوف وندم. وتذكير برسالة موسى إلى فرعون وموقف فرعون وما في ذلك من عبرة. وتدليل على قدرة الله على البعث والتنكيل بالكفار بما كان من مصير فرعون. وبمشاهد الكون وعظمة الله وبديع صنعه فيه. وتنديد بالكفار لشكهم في الآخرة وبيان إنذاري وتبشيري بمصير كل من المتقين والطاغين فيها.
ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
. (1) النازعات: من النزع. أي التي تنزع شيئا من آخر.
(2) غرقا: بمعنى الشدّة وبلوغ الغاية بها.
(3) الناشطات: المتحركات أو المخرجات أو الخارجات بسرعة وسهولة.
(4) الراجفة: التي تحدث الرجفان والاضطراب.(5/410)
(5) الرادفة: التي تردف ما سبقها وتدعم.
(6) واجفة: مضطربة خائفة.
(7) الحافرة: الطريقة المعتادة المحفورة.
(8) الساهرة: الفلاة أو منبسط الأرض.
تعددت الأقوال في معاني الآيات الأربع الأولى «1» . منها أنها الملائكة في قبضها الأرواح وسبحها بين السماء والأرض لتنفيذ أوامر الله وتسابقها لتدبير الأمور التي تعهد إليها. وقيل إنها صفات الأرواح حين تنزع من الأجساد فأرواح الكفار تنزع بشدّة بينما أرواح المؤمنين تخرج نشيطة مسرعة فتسبح في ملكوت الله وتتسابق إلى الحضرة الإلهية أو إلى مصائرها السعيدة. وقيل إنها صفات النجوم وحركاتها حيث تنزع من أفق إلى أفق وتطلع ثم تغيب وتغرق وتسبح في الفضاء ويسبق بعضها بعضا في السير. وهذه الأقوال تخمينية كما يبدو. والتعدد آت من إطلاق الصفات وعدم وجود أثر نبوي يحدد المدلولات تحديدا لا يبقى معه محل للتخمين.
والمتبادر أن مدلولات هذه الأقسام كانت مفهومة في عهد النبي وأنها كانت ذات خطورة في الأذهان على أن الجملة الآتية الأخيرة أو الخامسة قد تساعد على القول أنها أوصاف الملائكة لأنهم الذين يمكن أن يكون منهم تدبير الأمر بأمر من الله تعالى والله أعلم. أما جواب القسم فهو على قول جمهور المفسرين محذوف مقدر بمعنى توكيد بعث الناس مرة أخرى. والآيات التالية قرائن قوية على ذلك أغنت عن ذكر الجواب. وهو ما تتحمله أساليب النظم العربي. وقد تكرر ذلك في النظم القرآني أيضا.
وقد أعقب آيات القسم توكيد رباني بتحقيق وعد البعث وإشارة إلى بعض ظروفه ومشاهده وأقوال الكفار عند وقوعه: فسوف ترجف الأرض مرة تردفها رجفة أخرى حين حلول اليوم المعين. وسوف يستولي الرعب والاضطراب على
__________
(1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.(5/411)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
قلوب كثيرة وتخشع أبصار أصحابها. وسوف يتساءل هؤلاء عما إذا كانوا حقا قد عادوا إلى الحياة مرة ثانية بعد أن كانوا عظاما بالية ويقولون إن هذا إذا كان حقا فإنها لعودة خاسرة.
وقد تضمنت الآيتان الأخيرتان بيان سهولة البعث على الله، فالأمر لن يقتضي إلّا صرخة واحدة فلا يلبث الناس أن يروا أنفسهم في صعيد واحد في انتظار قضاء الله وحكمه.
وواضح أن الآيات هي في صدد توكيد البعث والحساب ووصف هول يوم القيامة وأن الذين حكت اضطراب قلوبهم وخشوع أبصارهم وتساؤلهم وأقوالهم هم منكرو البعث. وقد تضمنت الآيات ردّا عليهم وإنذارا لهم. واستهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء بالإضافة إلى المشهد الأخروي الذي يجب الإيمان به وإيكال كنهه وسرّه إلى الله تعالى.
ولقد تكررت حكاية تساؤل الكفار عن بعثهم بعد أن يكونوا عظاما نخرة وتكرر الردّ عليهم ووصف ما سوف يحلّ بهم بما يقارب ما جاء في هذه الآيات حيث كانت تتجدد المواقف فتقضي حكمة التنزيل بتجدد الحكاية والردّ استهدافا للهدف الذي نبهّنا عليه كما هو المتبادر.
وبرغم ما في الآيات من صراحة قطعية إنها في صدد البعث الأخروي وإنذار الكفار فإن المفسّر الشيعي الكارزاني يروي عن المفسر الشيعي القمي عن الصادق عليه السلام أن الراجعة تعني الحسين والرادفة تعني أباه عليا رضي الله عنهما وأن في الآيتين إشارة إلى رجعة الحسين ثم أبيه وما سوف يعتري أعداءهما من خوف وهلع «1» . وفي هذا ما هو ظاهر من تعسف وشطط وهوى حزبي.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي، ج 2 ص 71.(5/412)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
(1) تزكّى: تتزكّى، أي تطهر من كفرك وبغيك.
في الآيات سؤال موجه إلى السامع يتضمن معنى التذكير بما كان من أمر رسالة موسى إلى فرعون حيث ناداه ربّه بالوادي المقدس طوى وأمره بالذهاب إلى فرعون الذي طغى ودعوته إلى التطهّر من بغيه وهدايته إلى سبيل ربه، وحيث أرى موسى فرعون آية الله الكبرى التي أظهرها على يده فكذّب وعصى وأخذ يسعى ليحشد الناس ويمنعهم عن الحق ويهتف بهم أنا ربّكم الأعلى، وحيث أخذه الله ونكّل به في الدنيا بالإضافة إلى نكال الآخرة. وانتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة وموعظة لمن يخشى العواقب.
والصلة قائمة بين هذه الآيات وسابقاتها حيث جاءت بعد إنذار الكفار والتنديد بهم جريا على الأسلوب القرآني. وهدف التذكير والإنذار فيها واضح كما هو شأن جميع القصص القرآنية.
وقصة رسالة موسى وموقف فرعون الاستكباري قد حكيت في سور سابقة بأساليب متنوعة، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل في تأويل جملة فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فقيل إنها بمعنى عاقبه الله على تكذيبه بدءا وإصراره على التكذيب بعد ظهور معجزات الله ووقوع العذاب عليه. كما قيل إنها بمعنى عاقبه الله في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون من عقابه في الآخرة. وكلا القولين وجيه.
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)(5/413)
(1) سمكها: سقفها.
(2) فسوّاها: جعلها مستوية أو مضبوطة.
(3) أغطش ليلها: جعله مظلما.
(4) أخرج ضحاها: كناية عن ضوء النهار.
(5) دحاها: بسطها.
وفي هذه الآيات التفات إلى السامعين وسؤالهم سؤال المستنكر المندد عما إذا كانوا يرون خلقهم أشدّ وأشقّ على الله من الأكوان التي خلقها: فهو الذي خلق السماء وأعلى سقفها وضبط نواميسها. وقدّر الظلام ليلا والضياء نهارا. وهو الذي مدّ الأرض وبسطها ويسّرها للسير والاستقرار وأرسى فوقها الجبال وأخرج منها الماء والنبات ليكون في ذلك قوام حياتهم وأنعامهم.
والمتبادر أن الجواب على السؤال منطو في الآيات نفسها. فالله الذي خلق السموات والأرض وأودع فيها النواميس اللازمة والتي تفوق في العظمة خلق الناس أهون عليه أن يخلق الناس ثانية بطبيعة الحال. والمتبادر كذلك أن السؤال موجّه إلى الكفار لأنهم هم الذين يجحدون البعث ويستعظمون وقوعه. وهكذا تكون الآيات قد جاءت في صدد توكيد البعث والتدليل على قدرة الله عليه، وهي والحالة هذه متصلة بالسياق السابق على قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وتكون الإشارة التذكيرية إلى هذه القصة قد جاءت استطرادا مما هو مألوف في النظم القرآني.
ولقد احتوت آيات عديدة في سور سابقة ما احتوته هذه الآيات وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك في سياق(5/414)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
جملة وَالْجِبالَ أَرْساها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيء أشدّ من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيء أشدّ من النار؟ قال: نعم، الماء. قالت يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من الماء؟ قال نعم، الريح. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيء أشدّ من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدّق بيمينه يخفيها عن شماله» . وأورد الطبري في سياق الجملة حديثا عن علي جاء فيه: «لما خلق الله الأرض قمصت وقالت تخلق عليّ آدم وذريته يلقون عليّ نتنهم ويعملون عليّ بالخطايا فأرساها الله فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون فكان أول قرار الأرض كلحم الجزور إذا نحر يختلج لحمها» .
والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ومهما يكن من أمر فإن حكمة التنزيل اقتضت أن يذكرا للسامعين هنا. وفي المناسبات العديدة السابقة ما للجبال من تأثير في ثبات الأرض اتساقا. مع ما في أذهانهم من ذلك والله أعلم بسبيل التنبيه على كون الله تعالى قد أحسن كل شيء خلقه وإيجاب الإيمان به والاتجاه إليه وحده وشكره على ما يتمتعون به من أفضاله. وإذا صحّ الحديث النبويّ فيكون في ذلك حكمة سامية. ولعلّ من هذه الحكمة ما جاء في آخره من تعظيم التصدّق خفية على المستحقين.
[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 41]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
. (1) الطامّة: هي البلاء العام الذي لا يدفع. وهي هنا كناية عن يوم القيامة.
(2) آثر: فضّل.(5/415)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
وفي هذه الآيات إنذار بمجيء القيامة وما يكون فيها: فحينما تجيء يتذكّر كل امرئ ما قدمت يداه من أعمال ليؤدى عليها الحساب وتعرض الجحيم حتى يراها الناس. فمن كان قد طغى في حياته وتجاوز حدود الحق وكفر وأثم وفضّل الحياة الدنيا على الآخرة فهي مأواه. أما الذي يكون قد استشعر بخوف الله وحسب حساب الآخرة وزجر نفسه عن اتباع الهوى والباطل وسار في سبيل الله والحق فتكون الجنة مأواه.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وأسلوبها إنذاري وتبشيري معا.
ووصف يوم القيامة بالطامّة الكبرى متناسب مع حقيقتها وخطورتها كما هو المتبادر.
وعطف إيثار الحياة الدنيا على الطغيان قرينة على أن المندّد به ليس الاستمتاع بطيبات الحياة إطلاقا وإنما هو الاستغراق فيها استغراقا يجعل المرء لا يحسب حساب الآخرة ويطغى في الأرض. وهكذا يظل المبدأ القرآني المحكم الذي قررته آية سورة الأعراف [32] وأكّدته آيات عديدة أخرى هو الضابط لهذا الأمر.
وتعبير وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى تعبير قوي نافذ في صدد اجتناب الآثام والموبقات والشهوات من حيث تصوير كون أهمّ ما يورط المرء في ذلك هو اتباع هوى النفس دون وازع ولا زاجر. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.
وفي الآيات توكيد قويّ للمبدأ القرآني المحكم الذي قررته آيات كثيرة في سور عديدة من كون الإنسان يكسب أعماله باختياره وسعيه وأنه مجزى عليه وفاقا لذلك.
[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
. في هذه الآيات:(5/416)
1- حكاية لسؤال الكفار للنبي عليه السلام عن موعد قيام القيامة.
2- وتنديد بسؤالهم الذي يوردونه من قبيل التحدّي والاستخفاف.
3- وتقرير بأن موعدها عند الله وفي علمه.
4- وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بصيغة السؤال التقريري بأنه ليس له عنها علم وبأن قصارى شأنه أنه منذر بها لينتفع بذلك من كان يستشعر بالخوف منها ويريد أن يتحاشى أسبابه بالإيمان وصالح العمل.
5- وإنذار وتوكيد للكفار بأنهم سيرونها حتما وفي برهة أقرب بكثير مما يظنون وأنهم حينما يرونها سيظنون من شدّة هذا الأمر أنه ما بينها وبين موتهم إلّا مساء أو صباح.
وواضح أن الآيات استمرار مع السياق والموضوع. وقد تكرر مثل هذا السؤال والردّ عليه في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها حيث يدل ذلك على تكرر السؤال والتحدي من قبل الكفار واقتضاء حكمة التنزيل بتكرار الردّ عليهم.
ولقد أورد البخاري ومسلم في فصل التفسير من صحيحيهما حديثا مرويا عن سهل بن سعد في سياق هذه الآيات جاء فيه: «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى وبالتي تلي الإبهام بعثت والساعة كهاتين» «1» . ولقد علقنا على موضوع اقتراب الساعة في سياق تفسير سورة القمر بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق هذه الآيات أيضا حديثين أحدهما عن عائشة قالت: «لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله عزّ وجلّ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) » وثانيهما عن طارق بن شهاب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر شأن الساعة حتى نزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها إلى
__________
(1) التاج ج 4 ص 251.(5/417)
مَنْ يَخْشاها» . ويلحظ على هذين الحديثين أن السؤال عن الساعة إنما كان يقع ويتكرر من الكفار وأن القرآن كان يأمر النبي بالقول إنه لا يعلم ولا يملك من الأمر شيئا والأمر بيد الله وعلمه على ما جاء في سور كثيرة مرّ تفسيرها مثل سور الأعراف ويونس. وقد حكت آيات مدنيّة سؤالا لهم عنها أيضا وجوابا مماثلا على ما جاء في سورة الأحزاب يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) ويتبادر لنا أن العبارة القرآنية هنا هي من هذا الباب بأسلوب آخر. وليس فيها أية دلالة كما أنه ليس في القرآن أية دلالة على أن النبي هو الذي كان يسأل عنها حتى تكون هذه الآيات خاتمة لسؤاله عنها. والحديث الذي أوردناه آنفا والذي رواه البخاري ومسلم في سياق هذه الآيات قوي المغزى.(5/418)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
سورة الانفطار
في السورة إنذار بالبعث وهوله ومشاهده. وتنديد بالمكذبين الذين يقفون من الله موقف الكفر والنكران مع عظيم نعمه عليهم في حسن الخلق ومواهب العقل.
وبيان خطورته ومصير الأبرار والفجّار فيه ومسؤولية كل عن عمله.
ونظم السورة وانسجام آياتها تسوغان القول بوحدة نزولها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
. (1) انفطرت: تشققت.
في الآيات: إنذار بالبعث وهول مشاهده: فحينما تتشقق السماء وتتساقط الكواكب وتنتثر وتتفجّر البحار وتتفتح القبور عمّا فيها يقف الناس جميعهم أمام الله موقف القضاء فيذكر ويعلم كل منهم ما صدر منه من الأعمال صغيرها وكبيرها، سرّها وعلنها.
وأسلوب هذا المطلع قد تكرر في صدد الإنذار بالآخرة والتخويف من أهوالها.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
.(5/419)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
(1) عدلك: جعلك معتدلا متناسب الخلق.
وفي هذه الآيات وجّه الخطاب للإنسان بأسلوب التنديد والتذكير وبصيغة الاستفهام الإنكاري عما جعله يغترّ فيستهين بنقمة الله ويجرؤ على الوقوف منه موقف الكفر والجحود وهو الذي خلقه وسوّى أعضاءه وجعله متناسب الخلق ووهبه من المواهب ما ميّزه على غيره، وركّبه في أحسن الصور التي شاءت حكمته أن يكون عليها جنسه خلقا ومواهب.
والآيات قويّة لاذعة حيث تذكّر السامع بكرم الله عليه وتندد به على مقابلته ذلك بالجحود. وليست منقطعة عن المطلع الذي أكّد فيه مجيء يوم القيامة ومحاسبة الناس على أعمالهم. فجاءت تندد بالذين لا يخشون الله ويكفرون بنعمته وفضله.
ولقد روى البغوي عن عطاء أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة وعن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في الأسود بن شريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله عاجلا.
ولقد جاء بعد هذه الآيات خطاب للسامعين بصيغة الجمع تقرر واقع أمرهم في تكذيبهم بيوم الجزاء وإنذارهم حيث يسوغ هذا التوقف في ما جاء من روايات في سبب نزول الآيات والقول إنها خطاب عامّ للناس والجاحدين منهم بخاصة وفي صدد توكيد البعث والجزاء الأخرويين. والتنديد بجاحدي نعم الله وأفضاله.
والآيات الثلاث [6- 8] التي تنوّه بحسن خلقة الإنسان تسجل ما اقتضته حكمة الله تعالى من تميزه في ذلك عن الحيوانات الأخرى وما في ذلك من تكريم له ليستحكم التنديد بالذين يتجاهلون فضل الله العظيم عليهم ويجحدونه.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 12]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
.(5/420)
وفي هذه الآيات هتاف تنديدي موجّه إلى الكفار في معرض بيان الباعث على جحودهم لله وهو تكذيبهم بالجزاء الرباني يوم القيامة. وتوكيد في معرض الإنذار بأن الله قد جعل عليهم من يحصي ويحفظ كل ما يصدر منهم ويسجله عليهم من كتّاب الله الكرام الذين ينفذون أوامر الله.
وواضح أن التوكيد ينطوي على توكيد الجزاء الأخروي أيضا، ومثل هذا البيان والتوكيد قد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن.
ولقد تكررت الإشارة إلى الرقباء والكاتبين لأعمال الناس في سور سابقة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات أيضا بعض الأحاديث. منها حديث عن مجاهد جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه» . ومنها حديث مثل هذا مع زيادة عن ابن عباس جاء فيه: «إنّ الله ينهاكم عن التعرّي فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى ثلاث حالات الغائط والجنابة والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره» . ومنها حديث عن أنس قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من حافظين يرفعان إلى الله عزّ وجلّ ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارا إلّا قال الله تعالى قد غفرت لعبدي ما بين طرفيّ الصحيفة» . وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ لله ملائكة يعرفون بني آدم، وأحسبه قال ويعرفون أعمالهم فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسمّوه وقالوا أفلح الليلة فلان. نجا الليلة فلان. وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسمّوه وقالوا هلك الليلة فلان» .
ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة (ق) فلا نرى ضرورة لتعليق آخر. ومع التنبيه على أن هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإنها يلمح فيها قصد التأديب والتنبيه فإن صحّت فيكون من جملة مقاصدها هذا القصد.
والله تعالى أعلم.(5/421)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
. وفي هذه الآيات بيان لمصير الناس يوم الجزاء وإنذار بخطورته. فالأبرار الصالحون في النعيم، والفجار الآثمون في الجحيم. وهي مصيرهم الذي لا مفلت لهم منه حتما في ذلك اليوم العظيم الخطر الذي يكون الأمر فيه لله وحده، والذي لا يستطيع فيه أحد أن ينفع أحدا ولا تغني فيه نفس عن نفس.
والاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها قائم موضوعا وسياقا كما هو المتبادر.
ومع واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي فالمتبادر من العبارة القرآنية أن من حكمتها تعظيم يوم القيامة وحسابه وتوكيده وترغيب المؤمنين وترهيب الكفار.
والمؤمنون مندمجون في تعبير الأبرار. والكفار مندمجون في تعبير الفجّار.
غير أن المتبادر أنه قد أريد بوصف المؤمنين بالأبرار والكفار بالفجّار تلقين كون الإيمان الصادق يوجّه صاحبه نحو الخير والبر، بينما الكفر يوجه صاحبه نحو الإثم والفجور.(5/422)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
سورة الانشقاق
في السورة إشارة إلى مشاهد القيامة. وبيان لمصير الأبرار والأشرار فيها.
وتوكيد إنذاري وتنديدي للكفار بأنهم ستتبدل حالهم وينالهم العذاب دون المؤمنين الصالحين.
ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول بوحدة نزولها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
. (1) أذنت لربها: بمعنى استمعت واستجابت وانقادت لربّها.
(2) حقّت: عرفت الحقّ فانصاعت له.
(3) مدّت: قيل إنها بمعنى سويت فلا يبقى عليها جبال ولا وديان، وقيل إنها بمعنى وسعت لتتسع لجميع الناس.
(4) وألقت ما فيها: أخرجت ما في جوفها: كناية عن خروج الناس من قبورهم.(5/423)
(5) كادح: ساع وعامل.
(6) ثبورا: هلاكا.
(7) لن يحور: لن تتبدل حالته، أي لن يعود بعد الموت.
في الآيات الخمس الأولى ما يلهم أنها في صدد مشاهد يوم القيامة: فحينما تنشقّ السماء انقيادا لأمر ربها وأداء لما عليها نحوه من حقّ الطاعة، وحينما تنبسط الأرض وتمتد وتنفتح عمّا في باطنها وتقذف به إلى سطحها وتتخلّى عنه انقيادا لأمر ربها كذلك وأداء لما عليها من حقّ الطاعة تكون القيامة قد قامت. وعبارة (تكون القيامة قد قامت) مقدرة تقديرا. والتقدير بديهي لأنه نتيجة طبيعية لما احتوته الآيات الخمس من المشاهد. وهو ما يقرره جمهور المفسرين.
وفي الآيات التالية خطاب للإنسان في صدد مصائر الناس يوم القيامة: فكل إنسان ساع في حياته الدنيا. وكل ساع ملاق عند ربه نتيجة سعيه. فالذي يعطى يوم القيامة كتاب عمله بيمينه يكون حسابه يسيرا هينا ويعود إلى أهله راضيا مسرورا.
والذي يعطى كتاب عمله من وراء ظهره فيتمنى الموت فلا يناله ويندب حظه ويصلى النار المستعرة جزاء ما قدمت يداه لأنه كان في حياته مغرورا بما كان له من قوة ومال وما كان يتمتع به من هدوء البال والنعم غير حاسب لحساب الآخرة لأنه كان موقنا بعدم البعث بعد الموت في حين كانت عين الله مراقبة له وبصيرة به ومحصية عليه عمله.
ومطلع السورة من المطالع المألوفة في كثير من السور. وتعبير الانقلاب إلى الأهل مستمد من مألوف الخطاب الدنيوي على ما جرت عليه حكمة التنزيل في وصف المشاهد الأخروية مما مرّت منه أمثلة عديدة. ويلحظ أن كتاب أعمال الكافر الآثم هنا يعطى له من وراء ظهره في حين ذكر في سور سابقة أنه يعطى له بشماله. حيث يبدو أن التعبير الجديد مما يقوم في اللغة مقام ذلك التعبير.
ولقد علقنا على هذا الموضوع وذاك في المناسبات السابقة بما يغني عن التكرار.(5/424)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق الآية السابقة من السورة وما بعدها حديثا عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس أحد يحاسب إلّا هلك. قلت: يا رسول الله جعلني الله فداءك أليس الله تعالى يقول فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال:
ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك» «1» . وفي الحديث تفسير أو توضيح لمدى الآيات من جهة وتنبيه للمسلمين ليجتهدوا في تجنب ما يعرّضهم للمحاسبة العسيرة من أعمال من جهة أخرى على ما هو المتبادر.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
. (1) الشفق: الحمرة التي تبدو في الأفق عند غروب الشمس.
(2) وسق: احتوى أو جمع أو ضمّ.
(3) اتّسق: تمّ بدرا. وأصل الاتساق الانتظام والتكامل والاستواء.
(4) طبقا عن طبق: حالا بعد حال.
(5) يوعون: يضمرون.
قرئت كلمة لَتَرْكَبُنَّ قراءات متعددة وتعدد تأويل جملة لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حسب ذلك «2» . حيث قرئت بالتاء والباء المفتوحتين على أنها خطاب
__________
(1) التاج ج 4 ص 254.
(2) تفسير الطبري استوعب جميع القراءات والتأويلات المروية. ومنها ما هو غريب مثل كون الجملة تعني تقلّب النبي في السموات طبقة بعد طبقة. أو تطور حالات السموات من احمرار فانشقاق فانفطار.(5/425)
للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمره سيتغير من حال إلى حال. وقرئت بالتاء المفتوحة والباء المضمومة على أنها خطاب للسامعين بأن أمرهم سيتغير من حال إلى حال.
وقرئت بالياء بدلا من التاء مع الباء المضمومة على أنها خطاب للناس.
وجملة فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ التي تأتي بعد هذه الجملة وما بعده قد تساعد على الترجيح بأنها خطاب موجّه للكفار الذين يصرّون على كفرهم. وتكون الأقسام في الآيات الثلاث السابقة للجملة على سبيل التوكيد لهم بأن حالتهم الراهنة التي يغترون ويعتقدون بها لن تدوم لهم وأنها سوف تتغير. ثم جاءت الآيات التالية للجملة:
1- لتتساءل تساؤل الاستنكار والتنديد عن سبب عنادهم وعدم إيمانهم وعدم تأثرهم بالقرآن والسجود لله حينما يسمعون آياته البليغة وعظاته المؤثرة.
2- لتقرر حقيقة أمرهم والباعث لهم على ذلك والله الأعلم به وهو تكذيبهم بالجزاء الأخروي.
3- لتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بالعذاب الأليم الذي سوف يلقونه مع استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات حيث يكون لهم الأجر الذي لا يعتريه انقطاع.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقد استعملت كلمة فَبَشِّرْهُمْ على سبيل الاستهزاء كما هو المتبادر أيضا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة.
ومن عجيب تأويلات الشيعة تأويلهم جملة لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) بأن فيها إشارة إلى أن هذه الأمة ستسلك سبيل من كان قبلها من الأمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء «1» . وفي هذا من الشطط الحزبي ما يماثل كثيرا مما مرّ التنبيه إليه.
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي، ج 2 ص 30.(5/426)
تعليق على ما يمكن أن يلهمه أسلوب ومضامين هذه السورة وما قبلها من احتمال تبكير نزولها
وننبّه على أن بين أسلوب هذه السورة ومضامينها وكذلك أسلوب السور السابقة لها أي الانفطار والنازعات والنبأ والمعارج والحاقّة والملك والطور ومضامينها، وبين أسلوب ومضامين كثير من السور المبكرة في النزول مثل التكوير والأعلى والليل والفجر والشمس والقارعة والقيامة وق والطارق تماثل كبير مما يبعث الشكّ في صحة ترتيب نزولها في أواخر العهد المكيّ ومما يسوغ الظنّ بأنها مما نزل في عهد مبكر وإن كان ترتيبها في تراتيب النزول العديدة المرويّة متقاربا مع ترتيبها الذي ذكر في المصحف الذي اعتمدنا عليه وسرنا وفقه.(5/427)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
سورة الرّوم
في السورة إشارة إلى ما كان من انكسار الروم في بلاد الشام وما سوف يكون لهم من غلبة يفرح بها المؤمنون. وتنديد بالكفار لغفلتهم عن الآخرة واستغراقهم في الدنيا وتذكير بمن قبلهم. وتوكيد بمجيء الآخرة. وبيان لمصير المؤمنين والكفار فيها. وتنزيه لله عن الشركاء. وسلسلة رائعة في مشاهد قدرة الله وآياته ونواميسه في كونه في صدد البرهنة على عظمته وقدرته. وإشارة إلى طبائع الناس في الجزع عند الشدة والبطر عند الفرح دون شكر ولا صبر، وتقرير لما يجب على المؤمنين في هذه الحالات. وتثبيت للنبي وتطمين له ووعد متكرر بالنصر وتوكيد بتحقيق الوعد.
وفصول السورة مترابطة مما يبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
وقد روي أن الآية [17] مدنية. وانسجامها التّام موضوعا وسياقا مع ما قبلها وما بعدها يبرر الشكّ في الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
.(5/428)
(1) أدنى الأرض: المتبادر أنها كناية عن البلاد المتاخمة للحجاز. وبعض المفسرين قالوا إنها بلاد الشام، وبعضهم قالوا إنها جزيرة الفرات. وكلا القولين وجيه لأن الروم انكسروا أمام الفرس في بلاد جزيرة الفرات ثم في بلاد الشام في زمن النبي.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم للاسترعاء والتنبيه على ما رجحناه من قبل ثم أعقبها: خبر بانكسار الروم في البلاد المتاخمة للحجاز.
وبشرى بنصر يحرزونه خلال بضع سنين. وإشارة إلى ما سوف يكون حينئذ من فرح المؤمنين بنصر الله القوي العزيز الرّحيم بعباده القادر على نصر من يشاء.
وتوكيد بأن هذا وعد رباني. وبأن الله لا يخلف وعده. ولو أن أكثر الناس لا يعرفون الحقائق وأن كل ما يعرفونه هو بعض أمور ظاهرة من شؤون الحياة الدنيا في حين أنهم غافلون عن الآخرة: مع ما هي عليه من خطورة الشأن.
والسورة من السور القليلة التي أعقب حروفها المتقطعة الأولى موضوع غير القرآن والتنويه به.
تعليق على خبر انكسار الروم وانتصارهم وموقف المؤمنين والمشركين من ذلك
وقد أورد المفسرون روايات عديدة حول هذه الآيات «1» . ملخصها المعقول فيها أنها نزلت في ظرف كان فيه حرب بين الروم والفرس في البلاد المتاخمة للجزيرة العربية في الشام وجزيرة الفرات: وانتصر الفرس فيها على الروم ففرح مشركو مكة بذلك وأظهروا شماتتهم بالمسلمين الذين كانوا يقولون بوحدة المنبع والجوهر التي تجمع بينهم وبين الكتابيين الذين منهم الروم النصارى.
__________
(1) استوعبها الطبري فانظر فيه تفسير الآيات وكل أو جلّ ما ورد في كتب التفسير الأخرى متسق مع ما رواه الطبري إجمالا.(5/429)
وأن هذا الموقف قد شقّ على المسلمين وأحزنهم فبشّرهم الله بهذه الآيات وطمأنهم. ومضمون الآيات وروحها يؤيدان هذا الملخص كما هو واضح وإن لم يرد فيها ذكر للفرس وذكر لفرح المشركين وشماتتهم صراحة.
وهناك روايات في صيغ مختلفة عن تشاد ومراهنة بين أبي بكر رضي الله عنه وأمية بن خلف أحد زعماء المشركين على صدق ما بشّرت الآيات به من غلبة الروم بعد انغلابهم «1» . ومنها ما يذكر أنهما جعلا مدة وقوع ذلك ثلاث سنين أو خمسا أو ستا والرهان عشر قلائص أو أربعا وأن أبا بكر أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فأمره بزيادة قيمة الرهان ومدّ الأجل لأن البضع يمتد من ثلاث سنين إلى تسع فعدل الاتفاق إلى تسع سنين على مائة قلوص وغلب الروم فكسب أبو بكر الرهان وأسلم من المشركين خلق كثير. ومنها ما يذكر أن أبا بكر خسر الرهان ولكن الروم انتصروا بعد سنة من المدة المتفق عليها فأسلم من المشركين خلق كثير كذلك.
والرواية الأخيرة رواها الترمذي عن ينّار بن مكرم الأسلمي بشيء من التفصيل قال:
«لما نزلت الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [1- 4] كانت فارس حينئذ قاهرين للروم وكان المسلمون يحبّون ظهورهم على فارس لأنهم وإياهم أهل كتاب وذلك قول الله تعالى وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث. فلما نزلت الآية خرج أبو بكر (رض) يصيح في نواحي مكة الم الآية، قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم. زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك، قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا على الرهان. وقالوا لأبي بكر كم نجعل البضع ثلاث إلى تسع سنين فسمّ بيننا وبينك وسطا، قال: فسمّوا بينهم ستّ سنين فمضت قبل أن تظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة
__________
(1) انظر تفسير الطبري فإنه استوعبها أيضا.(5/430)
ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ستّ سنين لأنّ الله قال في بضع سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير» «1» .
ومضمون حديث الترمذي هذا قد يفيد أن انغلاب الروم وغلبتهم بعد بضع سنين قد كانت قبل الهجرة. وهذا يقتضي أن تكون السورة أو الآيات نزلت قبل الهجرة بسنين كثيرة مع أنها كانت على ما يدل ترتيب نزولها المتفق عليه تقريبا في التراتيب المرويّة من آخر ما نزل من القرآن في مكة حيث هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة بعد نزولها بمدّة قليلة.
على أن هناك رواية تفيد أن انتصار الروم قد كان في ظرف معركة بدر التي كانت بعد الهجرة بنحو سنة ونصف ورواية أخرى تفيد أنه كان في ظرف صلح الحديبية الذي كان بعد الهجرة بنحو ستّ سنين. وهذه الرواية أوجه لأن بين نزول سورة الروم وصلح الحديبية نحو سبع سنين. وقد سمّى القرآن هذا الصلح بالفتح المبين ونزلت فيه سورة الفتح أو معظمها على ما سوف يأتي شرحه في مناسبتها فكانت فرحة المؤمنين مزدوجة بالفتح المبين الذي كتبه الله لهم على المشركين وبغلبة الروم الذين كان المؤمنون يعتبرونهم حزبا معهم على الفرس الذين كان المشركون يعتبرونهم حزبا معهم بعد غلبة هؤلاء على الروم. وهكذا تحققت نبوءة من نبوءات القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحقّق الله وعده وبشراه فعلا خلال بضع سنين وفرح المؤمنون بنصر الله. وهذه الحقيقة مسجّلة في الكتب التاريخية القديمة المعتبرة.
ولقد أورد الطبري وغيره في سياق الآيات بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول في ما كان من وقائع ومكائد متبادلة بين الفرس والروم وفي ما كان من أحوال الفرس والروم من حالات دينية واجتماعية وسياسية وعمرانية وما كانت في القسطنطينية خاصة من آلاف الكنائس وما كان يعقد فيها من مجالس دينية إلخ ... اختلطت فيها الحقائق مع الخيال والمبالغات وتدلّ مع ذلك
__________
(1) التاج ج 4 ص 178- 179.(5/431)
على أن هذه الأمور مما كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. ولم نر طائلا من إيرادها لأنها لا تتصل بأهداف الآيات ولا ترتكز على علم وثيق.
أما وحدة المنبع والجوهر التي من أجلها حزن المسلمون من انكسار الروم وفرحوا بانتصارهم فهي مؤيدة بآيات قرآنية عديدة وردت في سور عديدة مرّ تفسيرها ونبّهنا على دلالاتها. ومنها ما تضمن خبر فرح الكتابيين بما كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي القرآني مثل آية الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [36] ومنها ما تضمن تقرير يقينهم بأنه منزّل من عند الله مثل آية الأنعام هذه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [114] ومنها ما تضمن خبر إيمانهم صراحة مثل آيتي القصص هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) ومنها ما تضمن وحدة الجوهر بين الشريعة الإسلامية والشرائع النبويّة السابقة مثل آية سورة الشورى هذه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [13] .
وكان كل هذا مما يثير المشركين. ولا سيما أن القرآن كان يندد بهم لكفرهم بكتاب الله ونبيه برغم ما كان من إيمان أهل الكتاب وتصديقهم. فلما انتصر الفرس فرحوا وشمتوا وحزن المسلمون واغتموا.
وواضح أن شرحنا هذا لا يتناقض مع ما قررته الآيات العديدة من مكيّة ومدنيّة من وقوف فريق من أهل الكتاب غلّبوا المآرب والهوى على الحق والهدى وبخاصة اليهود في الحجاز من النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن موقف الجحود والمناوأة مما شرحنا أسبابه المؤيدة بالنصوص القرآنية في مناسبات سابقة ولا مع ما استجدّ فيما بعد من موقف العداء والحرب بين النبي صلى الله عليه وسلم والروم امتد إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اعتدى عمال الروم على رسل النبي صلى الله عليه وسلم واعتدت القبائل العربية النصرانية على(5/432)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قوافل المسلمين فأدّى هذا إلى ذاك. أي إن جهة الروم كانت هي البادئة في العدوان. وصار من حقّ المسلمين وواجبهم أن يدفعوا العدوان.
هذا، ولما كان القرآن يستهدف من الأخبار والقصص الموعظة والتدعيم والتطمين والتثبيت والإنذار والتبشير فقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون هذه الحادثة وسيلة إلى ذلك أيضا فاحتوت الآيات بشرى عامة بنصر الله ووعده بالنصر والفرح للمؤمنين وتوكيده بأنه لا يخلف وعده وتنديدا بالناس الذين يهتمون للأمور العابرة والشؤون الظاهرة ويغترون بها ويغفلون عن المهم الخطير.
وننبّه على أن هناك قراءة بفتح الغين في غُلِبَتِ وضم الياء في سَيَغْلِبُونَ غير أن الأوجه قراءة الضمّ في الأولى والفتح في الثانية لأن من الثابت أن الروم غلبوا في ظروف البعثة ثم غلبوا.
[سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
. (1) أثاروا الأرض: حرثوها واستغلوها.
(2) السوأى: تأنيث الأسوأ والكلمة خبر لكان.
في هذه الآيات: سؤال يتضمن التنديد بالغافلين عن الآخرة بسبب عدم تدبرهم في الأمر وتفكيرهم منطقيا وهادئا يجعلهم يدركون أن الله تعالى لا يعقل أن يكون قد خلق السموات والأرض وما بينهما عبثا، بل لحكمة جليلة تقوم على الحقّ ولأمد معين في علمه.(5/433)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
2- وإشارة إلى سبب ذلك وهو كون أكثر الناس لا يؤمنون بلقاء ربهم ولا يوقنون به فينصرفون عن هذا التدبر والتفكير.
3- وسؤال آخر يتضمن التنديد بهم أيضا: فإذا كانوا لا يتدبرون في الأمور فهل لم يتجولوا في أنحاء الأرض ويروا عاقبة الذين من قبلهم ويعرفوا أخبارهم فيتعظوا بها؟ فقد كان الذين قبلهم أشدّ منهم قوّة وإعمارا واستغلالا للأرض، فلما جاءتهم رسل الله بالبينات وقفوا منهم موقف المكذّب المستهزئ ولم يتورعوا عن ارتكاب السيئات فجازاهم الله سوءا بسوء، ولم يكونوا في ذلك مظلومين وإنما كانوا هم الذين جنوا على أنفسهم.
والآيات متصلة بالآيتين الأخيرتين من الفصل السابق اللتين جاءتا بمثابة استطراد وانتقال إلى التنديد بالكفار الذين لا يعرفون الحقائق ويغفلون عن المصير الأخروي. وهكذا تكون هذه الآيات استمرارا في الاستطراد وفي نقل الكلام إلى الكفار ومواقفهم. وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني الذي مرّت منه أمثلة كثيرة.
وأسلوب الآيات قوي مستحكم وموجّه إلى القلب والعقل معا. وقد تكرر فحواها كثيرا مما مرّ منه أمثلة عديدة. والآية خاصة تحتوي بالإضافة إلى التنديد سؤالا استنكاريا يتضمن من جديد معنى التقرير بأن السامعين يعرفون مما وصل إليهم من أخبار ووقعت عليه عيونهم من مشاهد أثناء رحلاتهم أن أهل البلاد التي كانوا يرحلون إليها مما هو في جزيرة العرب أو جوارها هلكوا ودمرت بلادهم بعذاب رباني وكانوا أقوى منهم وأشدّ. ومن هنا يأتي التنديد والتذكير ملزمين مستحكمين.
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
.(5/434)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
(1) يبلس: ييئس.
(2) يتفرقون: هنا بمعنى يصنفون فرقا.
(3) يحبرون: يسرون، من الحبور.
(4) محضرون: مساقون إليها سوقا. والإحضار هو إجبار المرء على الحضور.
عبارة الآيات واضحة. وهي متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والأولى منها تنطوي على برهان خطابي. فالله الذي يعترف المشركون بأنه خلق الكون والخلق بدءا قادر على إعادة خلقهما ثانية. وقد تكرر هذا البرهان في المناسبات المماثلة التي مرّ كثير منها. والمتبادر أن الآية الثانية استهدفت فيما استهدفته إدخال اليأس على المشركين من الشركاء والشفعاء الذين يشركونهم مع الله ما داموا قد كذّبوا بآيات الله وأنكروا الآخرة وحملهم على الارعواء والتفكير قبل الحسرة والندم.
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
. (1) تظهرون: وقت الظهر في النهار.
في الآيات تنزيه لله وتقرير لاستحقاقه الحمد والتقديس في كل وقت وفي كل مكان: في الصباح والمساء، والظهر والعشية، وفي الأرض والسموات. فهو الذي(5/435)
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها. وهو يحيي الناس ويخرجهم من الأرض بعد موتهم كذلك.
والآيات تنطوي على قصد التدليل على قدرة الله تعالى على إحياء الناس ثانية تدعيما لما جاء في الآية الأولى من الآيات السابقة. وهي متصلة بها اتصال استمرار في الموضوع وتعقيب عليه كما هو واضح.
وما احتوته الآية الثالثة بخاصة قد تكرر في أكثر من سورة من السور السابقة لنفس القصد. وقد علقنا على عبارتها في المناسبات السابقة بما فيه الكفاية.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [17] مدنيّة. وهذا غريب.
واللحمة بادية الوثاقة بينها وبين ما بعدها بحيث تكون معها وحدة لا تنفصل.
لذلك نشكّ في صحّة الرواية.
ولقد أورد الطبري في سياق الآيتين الأولى والثانية قولا لابن عباس بأنهما قد جمعتا مواقيت الصلاة فحين تمسون للمغرب والعشاء وحين تصبحون للفجر وحين تظهرون للظهر وعشيا هو العصر.
وهو استنباط وجيه مرّت أمثلة أخرى منه. ولقد روى البغوي بطرقه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرّة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد» . وروى كذلك عن أبي هريرة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرّحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» . وأورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» .
وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وصحتها مع ذلك(5/436)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
محتملة وهي بسبيل الترغيب في ذكر الله وتقديسه وتسبيحه، إعلانا للإخلاص له وتقربا إليه. والمتبادر أن انتفاع المسلم بذلك يكون رهنا بائتماره بأوامر الله وسنّة رسوله وانتهائه عن ما نهى الله ورسوله عنه. فإن لم يفعل فليس ذلك بمزيل للمسؤولية عنه.
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
. (1) منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله: في الجملة لفّ ونشر كما يقول البلاغيون. وتقديرها منامكم بالليل وابتغاؤكم فضل الله ورزقه في النهار.
(2) قانتون: خاضعون.
في الآيات الخمس الأولى تنبيه على آيات الله ونعمه ومشاهد كونه ونواميسه:
1- فمن آياته خلق الناس من أصل ترابي فلم يلبثوا أن كثروا وانتشروا في أنحاء الأرض.(5/437)
2- ومنها أنه خلق لهم من جنسهم وأنفسهم أزواجا منهم ليسكن ويستأنس ويطمئن كل زوج بزوجه وأوجد فيهم عاطفة التوادّ والتراحم تجاه بعضهم.
3- ومنها خلقه السموات والأرض واختلاف ألوان الناس وألسنتهم.
4- ومنها أنه قدّر الليل والنهار لينام الناس في الأول ويسكنوا ويستريحوا، ويكدّوا في الثاني في سبيل الرزق وابتغاء فضل الله وقضاء مصالحهم وحاجاتهم المختلفة.
5- ومنها أنه هو الذي يرسل البرق فيخيف به الناس من جهة ويؤملهم برحمته من جهة أخرى حيث ينزل الماء على أثره من السماء فيحيي به الأرض بعد جفافها وموتها.
6- ومنها أن نظام الكون ونواميسه في السموات والأرض تقوم بأمره على أتمّ وجه وأحكمه حتى إذا حان الوقت الذي في علمه دعي الناس إليه فلبّوا الدعوة وخرجوا من باطن الأرض.
ففي كل ذلك آيات بيّنات ودلائل ساطعات على عظمته وبالغ قدرته وكونه مصدر كل نعمة ورحمة ومدبر كل أمر، يدركها ويقنع بها من حسنت نيته وصفا قلبه وفكّر وتعقّل ورغب في تدبّر الأمور ومعرفة الحقّ والحقيقة.
وفي الآيتين الأخيرتين تقرير تعقيبي على هذه الآيات:
1- فكل من السموات والأرض والحالة هذه خاضع له.
2- وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده.
3- وإعادة الخلق ثانية أهون من بدئه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز القادر الذي لا يعجز عن شيء، والحكيم الذي لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة والصواب.(5/438)
تعليقات على سلسلة آيات مشاهد قدرة الله ونواميسه في الكون
والآيات معقبة على سابقاتها بقصد البرهنة على عظمة الله وقدرته والتنبيه على نواميسه في خلقه وكونه. فهي استمرار للسياق والموضوع السابقين. وهي من أوفى السلاسل القرآنية الجامعة الرائعة في بابها.
وقد جاءت بأسلوب تتناوله أفهام الناس على اختلاف طبقاتهم ويتسق مع الآثار المحسوسة المماثلة والواقعة تحت مشاهدتهم. والنهايات التي انتهت بها كل آية مثل (يتفكرون. ويسمعون. ويعقلون. والعالمين) تدل على أنها موجهة إلى القلوب والعقول معا. وبخاصة إلى الطبقة التي عندها شيء من العلم بالأمور وفي قدرتها التدبر والتعقل والتفكر لتذكرها بمسؤوليتها الناتجة عن ما وهبها الله من عقل وفكر وعلم وتهيب بها إلى الانتفاع بكل ذلك وترى ما في كون الله ومشاهد خلقه من آيات العظمة والقدرة والاستحقاق للعبادة والخضوع فتستجيب إلى دعوته ولا تقف موقف المكابرة والمماراة والعناد.
ولقد مرّ في سورة فاطر آية في مثل هذا السياق تقرر أن العلماء هم الذين يخشون الله لأن علمهم يجعلهم بالدرجة الأولى يدركون ذلك. وعلقنا على ما تضمنته من مدى وتلقين مستمر المدى. ونبّهنا على ما في مثل هذه المقاطع في الآيات التي نحن في صددها وغيرها من تساوق وتدعيم لما قررناه في ذلك التعليق.
على أن هذا لا ينبغي أن يعني أن الآيات غير موجهة إلى غير هذه الطبقة.
فروح الآيات تلهم أن كل إنسان عاقل راشد مكلّف بالتدبّر والتعقّل في آلاء الكون ونواميسه حتى يتبين له خلاله عظمة الله تعالى وقدرته. وكل ما يصح أن يكون هو أن تلك الطبقة تتحمل مسؤولية أشدّ في ذلك.
وما احتوته الآيات قد تكرر كثيرا في السور السابقة. وإن جاء هنا أجمع وأروع. ومردّ التكرار في هذه كمردّه في تكرار القصص والمواعظ والتنديد والإنذار(5/439)
والترغيب والتبشير، وهو تكرر مواقف الدعوة وتنوعها كما نبّهنا عليه في المناسبات السابقة.
وجملة وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى جاءت بمثابة استدراك بمعنى أن ما ذكر من أن الإعادة أهون من البدء إنما هو من قبيل البرهان لأذهان البشر الذين اعتادوا أن يروا أن إعادة الشيء ومحاكاته أهون من ابتداعه. ولا يكون هذا التمثيل واردا في حقيقته نحو الله لأن البدء والإعادة بالنسبة إليه سيّان.
ولقد قال بعضهم إن البرق هو مخاريق من نار يحملها الملائكة التي يسوقون السحاب أو لمعان سيوفهم وأسواطهم التي يسوقون بها أو لمعان أجنحتهم. وليس لهذه الأقوال سند وثيق وليست متسقة مع الحقائق العلميّة اليقينية. والعبارة القرآنية جاءت للتنبيه على آثار البرق في الناس والتدليل على بديع نواميس الله وخضوعها له وتصريفها بإرادته والأولى الوقوف عند هذا الحدّ.
تعليق على آية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً واستطراد إلى ما قرره القرآن من مساواة بين الرجل والمرأة ومركز الزوجة
والآية الثانية رائعة المدى والتلقين المستمر. فالله عزّ وجلّ إنما جعل لكل نفس زوجا منها ليسهل سكن كل منهما لزوجه في نطاق المودة والرحمة اللتين شاء الله تعالى أن يجعلهما بين الزوجين، فمن واجب الإنسان ومن باب أولى من واجب المسلم ذكرا كان أم أنثى أن ينظر إلى الرابطة الزوجية على هذا الاعتبار وأن يبذل جهده في عدم الحيدان عنه. وفي هذا إلى ذلك ما فيه من إعارة القرآن عناية كبرى لهذه الرابطة. وقد يلمح في الآية وعلى ضوء آية سورة الأنعام هذه وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [98] تقرير لمبدأ تساوي الرجل والمرأة(5/440)
في الحياة الزوجية وأعبائها وفي القابلية العقلية والاجتماعية. فالله قد خلقهما من نفس واحدة. وجعل كلا منهما زوجا للآخر لا يكمل الواحد منهما إلّا بالآخر ولا يستطيع الواحد منهما أن يقوم بواجباته المتنوعة إلّا بمساعدة الآخر والتعاون معه وتلك هي حكمة إلهام التقاء الزوجين برابطة الزواج. ولا يمكن أن يتمّ هذا إلّا في نطاق تبادل المودّة والرحمة الذي لا يمكن أن يكون إلّا بالتراضي والتفاهم ونتيجة لاعتراف كل منهما بذاتية الآخر وبواجبه وبحقه معا. وهذا يعني التكافؤ والتساوي. وكل ما هناك أن الله قد جعل لكل منهما وظيفة جنسية يكون كل منهما بها متمما للآخر وجعل لكل منهما بسبب ذلك مجالا ينشط فيه لخيرهما ومصلحتهما معا. ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة الليل استنادا إلى الآية وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أن القرآن قرر مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في التكليف وفي نتائج سعي كل منهما حسب السعي وهكذا تتوطد في القرآن المساواة بين الرجل والمرأة في القابليات والمسئوليات الدنيوية والدينية والأخروية. ولقد تكرر تقرير هذا كثيرا بأساليب متنوعة وفي السور المكية والمدنية معا ومرّت أمثلة منه في السور التي مرّ تفسيرها بحيث يصح القول إنه من مبادئ القرآن المحكمة. وما ورد في بعض الآيات المدنية من تفضيل الزوج درجة كما جاء في آية سورة البقرة [228] :
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ومن جعل شهادة المرأتين معادلة لشهادة رجل واحد كما جاء في آية سورة البقرة [282] : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ومن قوامة الرجال على النساء كما جاء في آية سورة النساء [34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ومن كون نصيب المرأة في الإرث نصف نصيب الرجل كما جاء في آيات المواريث في سورة النساء فليس من شأنه نقض هذا المبدأ على ما سوف نشرحه في مناسباته. والمؤولون والمفسرون والفقهاء متفقون على أن كل تكليف كلّف به المؤمنون وكل واجب أوجب عليهم وكل وعد ووعيد وجّه(5/441)
إليهم، وكل فضيلة نوّه فيها بهم وكل نهي نهوا عنه في قرآن وحديث دون تخصيص جنسي هو موجّه للمؤمنات أيضا دون تفاوت ما. والخطاب العام الموجّه إلى المؤمنين والذي يشمل المؤمنات في كل ذلك في القرآن والحديث هو الأعمّ الأغلب. ولا يمكن أن يصحّ في العقل إلّا مع فرض الأهلية التامة للمرأة عقليا وجبلة وأخلاقا وروحيا.
ويورد حديث رواه الطبراني عن الأسقع بن واثلة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئا إلّا بإذن زوجها إذا ملك عصمتها» «1» .
وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة وقد قال الطبراني إن بين رواته من لا يعرفهم مما يوجب التوقف فيه ولا سيما إنه يتعارض مع النصوص القرآنية التي تأمر بإعطاء المرأة حقها وعدم أخذ شيء منها بدون إذنها وتقرر حقها المطلق في الوصية والدين والاكتساب وقبض الإرث والهبة والتملك إلخ ...
وهناك حديث أقوى سندا واعتبارا من هذا الحديث رواه أصحاب السنن وجاء فيه: «قيل يا رسول الله أيّ النساء خير قال الذي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» . ولسنا نرى في هذا الحديث ما ينتقص ما تقدم أيضا. وكل ما فيه أن على المرأة ألّا تفعل في مالها ما يكرهه زوجها. وليس فيه ما يسمح له بمنعها من التصرف بمالها مبدئيا. وبإناطة ذلك بإذنه. وبالنسبة لطاعته في ما يأمر فلا شك في أن الطاعة يجب أن تكون منوطة بما ليس فيه معصية ولا ضرر عليها وعلى مالها وحقوقها على ضوء بعض الآيات والأحاديث. ففي سورة الممتحنة أنه شرطت عدم عصيان المؤمنات للنبي فيما يأمرهن، من معروف أي ما فيه خير ومصلحة وليس فيه ضرر وهدر حقّ شرعي كما ترى فيها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَ
__________
(1) مجمع الزوائد ج 4.(5/442)
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ... [الممتحنة: 12] وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من الرجال بيعة بهذا النصّ مع استعمال الضمير المذكر. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» .
وتورد أحاديث أخرى بسبيل التدليل على سفاهة المرأة ونقص عقلها ودينها وعوج طبيعتها. منها حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن النساء سفهاء إلّا التي أطاعت زوجها» «2» . وحديث عزاه ابن كثير إلى مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله: يا معشر النساء تصدّقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقالت امرأة منهنّ جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبّ منكن. قالت: يا رسول الله ما نقصان العقل والدين؟ قال:
أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. هذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين» «3» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره. واستوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا. وفي رواية إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها» «4» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 40.
(2) تفسير الآية الخامسة من سورة النساء في ابن كثير.
(3) انظر تفسير الآية [282] من سورة البقرة في تفسير ابن كثير. وهذا الحديث ورد في التاج أيضا برواية الخمسة وفي آخر الحديث من رواية البخاري هذه الجملة بدلا من الجملة الأخيرة (أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم قلن بلى قال فذلك من نقصان دينها) انظر التاج ج 1 ص 25. [.....]
(4) التاج ج 2 ص 287- 288.(5/443)
وتعليقا على ذلك نقول إن القرآن قرر أهلية المرأة بكل تكليف إيماني واجتماعي وتعبدي ومالي وجهادي وأخلاقي كالرجل بدون أي تمييز. ورتّب عليها كل ما رتّبه على الرجل تتجه لكل عمل تقوم به من ذلك ثوابا وعقابا وحدودا في الدنيا والآخرة بدون أي تمييز. وعيّن لها نصيبا في الإرث وأمر بأدائه لها وأوجب لها أداء مهرها وقرر لها الحق المطلق في التصرف في كل ما يدخل في يدها من مال مهما كان عظيما دون أي تدخل أو إشراف أو إذن من الرجل مهما كانت صلته بها فتبيع وتشتري وتملك العقار والأرقاء والأرضين وتزرع وتحصد وتستدين وتدين وتهب وتوصي وتعتق وتكاتب وتؤجر وتستأجر. وجعل أمر نفسها بيدها إلّا إذا كانت قاصرة فتزوج نفسها بدءا ومراجعة. وتفتدي نفسها من زوجها وتصالحه وتجادل عن نفسها رسول الله ومن دونه. وأوجب عليها كل ما أوجبه على الرجل من التفكير في آلاء الله والتدبر في كتاب الله والتعلّم والتعليم. وقرر أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وبعضهم من بعض ونوّه بالمؤمنات الصابرات الصادقات القانتات الخاشعات الصائمات المتصدقات الحافظات لحدود الله والذاكرات الله كثيرا على قدم المساواة مع أمثالهن من الرجال. واعترف بشخصيتهن في نطاق الدولة مستقلة عن الرجل وأمر النبي بأخذ البيعة منهن إلخ إلخ «1» ... ولا يصح هذا إلّا مع فرض الأهلية التامة للمرأة عقلا وأخلاقا وقابلية ومواهب وجبلة. والحديث الذي يذكر أنهن من السفهاء ليس من الصحاح ويتحمل التوقف إزاء ما قرره القرآن من كل ذلك. وحتى لو صحّ فإنه يستثنى من يطعن أزواجهن وهنّ عادة الأكثرية الساحقة من النساء. وقد يكون من الحكمة فيه إذا صحّ حثّ النساء على الطاعة وبيان كون نشوزهن هو من قبيل السفه وقصور
__________
(1) الآيات التي تقرر ذلك مدنيّة وهي كثيرة فنكتفي بالإشارة إلى أرقامها وسنشرحها في مناسباتها: البقرة [219- 247] وآل عمران [191- 195] والنساء [4 و 7 و 12 و 19 و 21 و 24 و 124] والمائدة [38] والتوبة [67 و 68 و 71 و 72] والنور [2 و 27- 32 و 61] والأحزاب [35 و 73] والفتح [5 و 6] والمجادلة [1 و 2] والممتحنة [10 و 12] والطلاق [1- 5] .(5/444)
العقل. والحديث الذي يذكر أن المرأة خلقت من ضلع أعوج قد صدر بسبيل توصية الرجال بالنساء خيرا ورعايتهن والإغضاء عمّا قد يقع منهن من هنات، والأسلوب الذي جاء به متسق مع ما كان في الأذهان من مركز المرأة. وليس فيه على كل حال نقض لما احتوته النصوص والتلقينات القرآنية من تقرير أهلية المرأة لجميع الواجبات والتكاليف والحقوق المتنوعة أسوة بالرجل سواء بسواء. أما الحديث الذي يذكر نقص عقل المرأة ودينها فإن إيماننا بحكمة الله ورسوله يأبى التسليم بناء على تلك النصوص والتلقينات بصدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد وصف جميع النساء على اختلاف أوضاعهن بنقص الدين والعقل وبقصد تقرير كونهن أكثر أهل النار. وهنّ بالإضافة إلى تلك النصوص والتلقينات التي احتوت ما احتوته النصف الثاني الذي لا تتمّ الإنسانية إلّا به وأمّهات النصف الأول ومنشئاته وراعياته ومربياته. وهنّ نصف أمّة محمد التي وعدها الله بالجنة وقرّة العين. ويأتي التسليم بأن رسول الله قد قصد تقرير كونهن أهل أكثر النار واقعا لأنهن يكثرن اللعن ويكفرن العشير وهو يعلم من دون ريب أن هذا لا يكون عادة إلّا من أغلبية النساء وأن أكثريتهن مؤمنات لهن الجنة حتما وقد وعدن بذلك مثل الرجال وبنصوص خاصة «1» بالإضافة إلى النصوص العامة. ويأبى التسليم بأن الله ورسوله يعتبران فطر الحائض وعدم صلاتها دليلا على نقص دين النساء مع أن ذلك بترخيص منهما. وقد رخصا للمؤمن بكلمة الكفر عند الإكراه [آية النحل: 106] ورخصا بأكل المحرمات حين الاضطرار [آية النحل: 115] ورخصا للمريض والمسافر بالإفطار وبالتيمم إذا لم يجدا ماء [آية النساء: 43] ويأبى التسليم بأن يتجاوز الله ورسوله التحليل الوارد في آية الدين في سورة البقرة لجعل شهادة المرأتين معادلة لشهادة رجل واحد: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] والذي مردّه مشاغل المرأة البيتية دليلا على نقص عقل النساء وفي حين يعلم الله ورسوله أن النسيان من حيث المبدأ عارض بشري يعرض
__________
(1) اقرأ مثلا آيات آل عمران [195] والتوبة [71- 72] والنحل [97] والأحزاب [35] وغافر [40] .(5/445)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
للرجال والنساء معا. وكل ما يمكن التسليم به إذا صحّ الحديث أن يكون قصد به الوعظ والتحذير. والله أعلم.
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
. في الآية الأولى تمثيل وتشبيه في معرض الإفحام والتقريب موجّه للسامعين ومتضمن السؤال عمّا إذا كانوا يرضون أن يكون مماليكهم شركاء لهم في أموالهم يحسبون حسابهم في تصرفاتهم ويخافون من محاسبتهم لهم أو مقاسمتهم أو مناظرتهم. وتعليق على هذا التمثيل بأن الله يفصّل ويبيّن آياته بالأمثال ليقرب إلى أذهان الناس حتى يتدبرها من تعقّل ورغب في معرفة الحقّ.
وفي الآية الثانية استدراك في معرض بيان حقيقة أمر الكافرين فهم في عقائدهم وتقاليدهم يتبعون أهواء النفس ولا يستندون إلى عقل وعلم ومنطق.
ولذلك لا يجدي فيهم البرهان والإقناع والأمثال. ولن ينالوا عند الله فوزا ولا نجاحا. ومن كان هذا شأنه عند الله فلن يجد له من بعده نصيرا ولا حاميا.
والآيات غير منقطعة من حيث الجوهر عن الآيات السابقة. والمقصد من المثل هو إفحام المشركين. فهم لا يرضون أن يكون مماليكهم شركاء وأندادا لهم مع أنهم مثلهم في الطبيعة والخلقة فكيف يصحّ في عقولهم أن يجعلوا لله شركاء وأندادا من خلقه وأن يظنوا أن الله يرضى بهذا.
والتأويل الذي أوّلناه لجملة فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ مستمد من روح الآيات. فالكفار قد انحرفوا عن طريق الحقّ واتبعوا الأهواء بغير علم فأضلّهم الله أي حرمهم من التوفيق والسداد. وهذا من قبيل وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ(5/446)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
[البقرة: 26] وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة المماثلة. ومع ذلك فهي تقرير لواقع أمر الكفار حينما نزلت الآيات وليست تقريرا حتميا لمستقبلهم بدليل أن غالبيتهم الذين سمعوا القرآن قد اهتدوا وآمنوا ونالوا رضاء الله ورحمته.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هاتين الآيتين حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس قال: «كان يلبي أهل الشرك: لبّيك اللهم لبّيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك. وتملكه وما ملك» فأنزل الله الآية. وليس في الرواية ما يدلّ على أن ذلك مناسبة لنزول الآية وإنما هي بمثابة توضيح تفسيري مستمد من عادات المشركين.
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
. (1) فطرة الله: أمر الله الذي أوجبه على الناس أو فطرهم وخلقهم وصنعهم عليه، أو طريقته التي أوجب عليهم السير عليها «1» .
(2) لخلق الله: لدين الله على ما رواه المفسرون «2» عن عدد من علماء التابعين ومفسريهم وهو وجيه متسق مع روح الآية.
في الآية الأولى أمر للنبي بالثبات على دين الله الذي هدى إليه بإخلاص تامّ دون ما اعوجاج ولا تردّد. فهذا الدين هو الذي فطر الله الناس عليه، وطريقته وأمره اللذان أوجب عليهم السير عليهما. والتي لا يصح أن يقع عليه تبديل ولا تعديل ولو لم يدرك ذلك أكثر الناس.
__________
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير.
(2) انظر المصادر المذكورة أيضا.(5/447)
وفي الآيتين التاليتين أمر للنبي والمسلمين معا بأن يجعلوا إنابتهم إلى الله وحده وأن يتقوه بصالح الأعمال ويواظبوا على إقامة الصلاة له ولا يكونوا من المشركين الذين انقسموا شيعا وأهواء في أمر الدين وكل منهم فرح بما هو عليه.
والآيات متصلة بسابقاتها اتصالا تعقيبيا يتضمن إيضاح ما يجب على النبي والمؤمنين تجاه ما عليه الكفار والمشركون من باطل وضلال وأهواء منحرفة عن الحق.
والآية الثانية تفيد كما هو المتبادر أن الأمر الموجه إلى النبي في الآية الأولى هو شامل للمسلمين أيضا.
تعليق على آية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها
وكلمة حنيف بمعنى مستقيم. وأكثر ما جاءت في القرآن في معنى التوحيد وعدم الشرك على ما شرحناه في سورة يونس وأوردنا شواهده. فالأمر والحالة هذه في صدد التنبيه على التزام توحيد الله وعلى أن ذلك هو دين الله الذي لا يصحّ عليه تعديل ولا تبديل وإن ذلك هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث جاء فيه «1» : «ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء. ثم تلا الآية: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» . وقد روى المفسرون عن ابن عباس وغيره عن مفسري
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير مثلا. وهذا الحديث ورد في صحيح البخاري في فصل التفسير وفي سياق تفسير الآية رواية عن أبي هريرة. انظر التاج ج 4 ص 180.(5/448)
التابعين «1» أن المراد بالفطرة هو الإسلام. وقد يعني هذا التدين أي الشعور بفكرة الدين أو بقوة خالقة عاقلة وراء هذا الكون، ووحدانية هذه القوة وعبادتها وإسلام النفس لها غريزة من غرائز الناس التي فطروا عليها في كل ظرف ومكان، والمتوقع أن يمارسوها إذا لم يتأثروا بالأهواء والتقاليد المنحرفة المحيطة بهم أو التي ينشأون في جوها والتي قد يكون نشوءها نتيجة جهل أو مأرب لأن عقل الناس في حالة صفائه ومهما كان بدائيا لا يمكن إلّا أن يدرك ذلك. وهذا ما عبرت عنه بأسلوب آخر آية سورة يونس هذه: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [19] على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة.
ومن هنا كانت حكمة الله عزّ وجلّ في إرسال الرسل مبشرين ومنذرين للتنبيه على الانحراف وردّ الناس عنه كما ذكر ذلك في آية سورة البقرة هذه كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) والمقصود بالذين آمنوا هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. ومن هنا تبدو وجاهة تفسير ابن عباس بأن الدين الإسلامي هو دين الفطرة الإنسانية الصافية التي فطر الله الناس عليها.
ولقد احتوت التقريرات القرآنية التي مرّ كثير منها في السور السابقة الدلائل التي لا ينكرها إلّا مكابر على وجود الله ووحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال وتنزّهه عن الشوائب واستحقاقه وحده للخضوع والاتجاه. وعلقنا عليها بما رأينا فيه الكفاية حيث يتمّ بذلك تقرير صورة العقيدة الإسلامية للدين القيّم وهي فطرة التدين وفكرة الله ووحدانيته وإسلام النفس إليه. وهذه العقيدة من شأنها أن تقي صاحبها من الأهواء والنزوات والفراغ والانهيار واليأس وتمده بمدد فيّاض من القوّة والحيويّة والطمأنينة والسكون يحرم منه من لم يدن بها.
__________
(1) انظر تفسيرها في البغوي.(5/449)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
ومن الجدير بالذكر أن هذه الصورة التي تمثل الغريزة الإنسانية السامية قد قرر وجودها وممارستها عدد عظيم من العلماء والفلاسفة والباحثين في مختلف العصور إلى عصرنا الحاضر نتيجة لدراساتهم التاريخية والاجتماعية والفلكية والرياضية والطبيعية بحيث يصحّ القول إنه لا يجادل فيها إلّا مكابر متعنّت لا يستطيع أن يثبت عكسها في الوقت ذاته «1» .
تعليق على آية مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ...
والآية الأخيرة وإن كانت في صدد النهي عن السير في طريق المشركين الذين كانوا موضوع الكلام والتنديد من الانقسام في الدين شيعا حيث كان منهم المعترف بالله مع إشراك غيره به من ملائكة وغير ملائكة، ومنهم الوثني، ومنهم عابد الكواكب، ومنهم عابد النار إلخ فإن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى ولكل ملّة ونحلة ومذهب بتقبيح التشيع والانقسام في أمور الدين نتيجة لأهواء النفوس ومآربها وتمسك كل فرقة برأيها تمسك التعصب الأعمى والنهي عنه.
والمتبادر أن هذا لا يعني أن لا يختلف الناس في الاجتهاد فيما لا صراحة فيه من نصّ قرآني أو حديث نبويّ ثابت. فهذا أمر طبيعي وواجب كل إنسان مؤهل له على شرط أن لا يكون فيه انحراف عن الأسس والمبادئ المحكمة في كتاب الله وسنّة رسوله، ولا يكون ناشئا عن هوى، أو هادفا إلى تأييده.
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) .
__________
(1) انظر روح الإسلام لطبارة طبعة رابعة ص 84- 90.(5/450)
في الآيات:
1- إشارة تنديدية إلى ما يبدو من الناس من تناقض فإذا أصابهم ضرر وبلاء لجأوا إلى الله وحده يدعونه لكشف ما نزل بهم، ثم إذا كشف النازلة عنهم ونالوا خيرا ورحمة جنح فريق منهم إلى الشرك بالله واعتقاد تأثير الغير فيما نالوه.
2- وإنذار للمشركين: فإن إشراكهم غير الله دليل على كفرهم بنعمته ورجوعهم عن الإخلاص له. فليكفروا ما شاء لهم كفرهم وليتمتعوا بما نالوه ردحا من الزمن فلسوف يرون ويعلمون نتيجة هذا الكفر وشؤمه عليهم.
3- وتساؤل استنكاري عمّا إذا كانوا يستندون في شركهم إلى برهان ووحي رباني.
4- وإشارة تنديدية أخرى إلى ما يبدو من الناس أيضا من فرح وبطر في حالة اليسر والنعمة وقنوط وحزن في حالة الشدّة والضرّاء.
5- وتساؤل فيه معنى التعقيب والتقرير بأن الحالتين هما من الله فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء أحيانا ويضيّقه على من يشاء أحيانا، وهو ما ينبغي أن يكون مفهوما لأنه مألوف مشاهد، ولأن فيه آيات وحكمة ربانيّة يفهمها ويسلم بها الذين يؤمنون بالله وحده.
والآيات وإن كانت مطلقة التوجيه للناس أو السامعين فإنها تضمنت التنديد بالمشركين صراحة، وتضمنت حكاية مواقف نسبتها إليهم آيات أخرى في سور أخرى مرّ تفسيرها حيث كانوا يدعون الله وحده مخلصين له الدين في الشدّة ويعودون إلى شركهم بعد الخلاص منها. فهي من هذه الناحية متصلة اتصالا استطراديا بالسياق السابق الذي انتهى بالتنديد بالمشركين كما هو المتبادر.(5/451)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
ولا يبعد أن يكون وقع على المشركين بلاء أخافهم وجعلهم يدعون الله وحده فلما انكشف عنهم عادوا إلى شركهم في ظروف نزول السورة فكانت مناسبة محكمة لهذه الآيات الاستطرادية. وبعد قليل من هذه الآيات تجيء آيات عن المطر وأثره وأثر انحباسه في الناس وخوفهم وبأسهم واستبشارهم فلعل البلاء هو انحباس المطر فدعوا الله ثم عادوا إلى شركهم أو قدموا القرابين إلى أوثانهم عند هطوله.
والراجح أن المعنى بالشرك هنا هم الملائكة. وروح الآية التالية تلهم ذلك.
فالعرب كانوا يرون بإشراك الملائكة مبررا من حيث اتصالهم بالله ومن حيث كونهم إنما يتخذونهم شفعاء لديه فطالبتهم الآية بالبرهان على ما يذهبون إليه من عقيدة باطلة.
وفي الآية الأخيرة تلقين جليل. فالإيمان يحدث في نفس صاحبه سكينة وطمأنينة ورضاء في حالتي السرّاء والضرّاء فلا تبطره النعمة ولا تؤيسه النقمة. وفي ذلك من القوّة الروحية ما فيه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا وصفه بالصحيح «1» جاء فيه:
«عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلّا كان خيرا له. إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له» . حيث ينطوي على تلقين نبويّ متساوق مع التلقين القرآني كما هو الشأن في مختلف الشؤون.
[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 39]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
. (1) ليربو: ليزداد ويتكاثر.
(2) المضعفون: الذين يضاعفون ثوابهم بالزكاة.
__________
(1) هذا الحديث من مرويات الإمام مسلم.(5/452)
في الآية الأولى أمر موجه للسامع بوجوب إيتاء ذي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقوقهم وتنويه بما في ذلك من خير وقربى عند الله لمن يريد رضاءه.
وتقرير بأن الذين يعملون ذلك هم المفلحون الفائزون برضائه.
وفي الآية الثانية تنبيه تعقيبي على أن الربح الحقيقي ليس فيما يعطيه المرء لغيره من مال بقصد استغلاله وتكثيره فليس لهذا عند الله أجر. وإنما الربح الحقيقي هو في الزكاة التي تعطى للمحتاجين لوجه الله بدون مقابل ولا قصد استغلال وتكثّر في الدنيا. فالذين يفعلون ذلك هم الذين يربحون أضعافا مضاعفة بما يكون لهم عند الله من الأجر العظيم.
ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيتين. ويتبادر لنا أنهما تعقيبيتان أو استطراديتان وأن الصلة بينهما وبين الآيات السابقة وبخاصة الأخيرة منها ملموحة من حيث بيان كون الله هو الذي يعطي وهو الذي يمنع، وأن على المؤمنين الذين يدركون أن المال مال الله أن لا يبطروا وأن لا يستغلوا أموالهم فيما لا خير فيه ولا أجر، وأن يساعدوا الفئات المحتاجة لوجه الله وابتغاء فضله وأجره.
وحرف الفاء الذي بدئت به الآية الأولى قرينة على ذلك.
والآية [38] قد وردت بنفس الصيغة في الآية [26] من سورة الإسراء ونبهنا على ما فيها من تلقين جليل مستمر المدى فلا ضرورة للإعادة. ولقد روى المفسر الطبرسي في سياق جملة فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من هذه الآية الروايات التي أوردناها في سياق الجملة المماثلة في آية الإسراء والتي تتضمن صرف هذه الجملة إلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم. وقد علقنا على هذه الروايات والتأويلات التي يبرز عليها الهوى الشيعيّ في سياق تفسير آية الإسراء بما يغني عن التكرار.
تعليق على جملة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ
وذكر الربا هنا بالأسلوب الذي ورد به يمكن أن يكون إرهاصا قرآنيا مكيّا بكراهية الربا التي جاءت بأسلوب تشريعي تحريمي في القرآن المدني وفقا لأسلوبي(5/453)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
القرآن المكي والمدني حيث يجنح الأسلوب المكي إلى الحظر بالتخويف من عقاب الله الدنيوي والأخروي وببيان مضار المحظور، في حين يجنح الأسلوب المدني إلى التشريع لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد الهجرة صاروا في نطاق دولة وسلطان يستطيعون فيه التنفيذ في حين لم يكن لهم ذلك في العهد المكي. ولما كان تشريع حظر الربا إنما تمّ وفاقا لنصوص قرآنية ونبويّة في العهد المدني فقد رأينا إرجاء الكلام عليه إلى مناسبته في القرآن المدني.
[سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 42]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
. في الآية الأولى: وجّه الخطاب للمشركين، فقررت أن الله هو الذي خلقهم بدءا وهو الذي يرزقهم ثم هو الذي يميتهم وهو قادر على إحيائهم بعد موتهم ثم وجهت إليهم سؤالا فيه تنديد وتحدّ عما إذا كان أحد من شركائهم يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك. ثم قررت تنزيه الله وتقديسه عما يشركونه معه من شركاء.
وفي الآية الثانية: إشارة إلى ما ظهر من الفساد في مختلف أنحاء الأرض برّها وبحرها بسبب آثام أهلها، وإلى أن هذا هو تسليط من الله عليهم ليذوقوا شيئا من وبال ما اقترفوه وليكون لهم فيه عبرة وتذكير لعلّهم يرجعون عن آثامهم.
وفي الآية الثالثة: أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدّي المشركين بالتجول في أنحاء الأرض ليروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وما حلّ بهم من بلاء وتدمير. ثم بإخبارهم بأن هؤلاء قد حلّ فيهم ما حلّ لأنهم كانوا مشركين مثلهم.
والآيات الثلاث وحدة متماسكة أولا وفيها التفات إلى المشركين موصل بينها وبين الآيات التي سبقت الآيتين السابقتين مباشرة. والانسجام في السياق والموضوع قائم بينها وبين تلك كما يظهر عند إنعام النظر.(5/454)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
تعليق على آية ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ...
وبعض المفسرين يسوقون في صدد الآية الثانية أقوالا واحتمالات لا تخلو من غرابة وتجعلها منفصلة عن سابقتها ولاحقتها بسبب التعبير بالفساد في البحر والبرّ «1» . ومن ذلك قتل قابيل أخاه هابيل. واغتصاب الملك السفن في البحر وهو ما حكته إحدى آيات سورة الكهف. وملوحة مياه البحار بعد أن كانت عذبة. وخلو أصداف اللؤلؤ من اللؤلؤ وعدوان الأسد على البقر والغنم بعد قتل هابيل ولم يكن يفعل ذلك إلخ، غير أن إنعام النظر في الآيات الثلاث يظهر انسجامها مع بعضها انسجاما تاما. ومن المحتمل أن يكون وقع في ظروف نزول السورة أزمات في الأمن وفي الغذاء والأمطار في الحجاز أو في تخومها فكان ذلك مناسبة لتنبيه الناس إلى أنه من تسليط الله عليهم بسبب آثامهم ولحملهم على الارعواء والرجوع إلى الله والحق. وتعبير ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يرجح أن يكون تعبيرا أسلوبيا يقصد به شيوع الفساد وشموله. وبعد قليل يأتي فصل عن الأمطار وأنهارها وانحباسها وما كان يثير ذلك من جزع وفرح في الناس. فلعل هذا متصل بذلك.
حتى ولو لم يصحّ احتمال وقوع شيء فوق العادة فالوقائع المسيئة دائمة في مختلف أنحاء الأرض وأخبارها تصل إلى الحجاز. فالمناسبة قائمة دائما للتنبيه إلى أن ذلك نتيجة لما يقترفه الناس من آثام ليرعووا ويرجعوا إلى الله والحق. ولقد احتوت آيات عديدة مثل هذا التنبيه منها ما سبق مثل آية سورة الشورى هذه وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) .
[سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 45]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) .
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والخازن.(5/455)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
(1) القيّم: المستقيم.
(2) يصّدّعون: يتفرقون.
الآيات معقبة على ما سبقها ومتصلة بالسياق من هذه الناحية. وقد احتوت تنبيها للناس وإنذارا للكفار وتنويها للمؤمنين. فالعلاج الوحيد لاتقاء غضب الله وبلائه هو الإخلاص في الاتجاه إليه وحده. فذلك هو الدين المستقيم. والذي يختار الانحراف عن ذلك ويكفر فهو يحمل وزر نفسه ولن يحظى بحب الله ورضائه. أما الذين يؤمنون بالله ويخلصون في الاتجاه إليه وحده ويعملون الأعمال الحسنة فإنما يكونون بذلك قد مهدوا لأنفسهم طريق النجاة ونالوا جزاء الله الحسن وفضله.
وأسلوب الآيات قوي موجه إلى القلب والعقل معا. وفيها توكيد جديد لما تكرر كثيرا من مسؤولية الإنسان عن عمله وترتيب الثواب والعقاب وفاقا له.
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
. في الآية تنبيه على بعض آيات الله وأفضاله على السامعين: فهو الذي يسوق الرياح مبشرة بالأمطار التي فيها لهم الرحمة والبركة. وهو الذي يحركها أيضا لتسيير المراكب في البحر حتى يقوموا عليها بأسفارهم التي يبتغون بها رزق الله وفضله. ففي ذلك آيات دالة على استحقاقه لاتجاههم إليه وحده وشكرهم على أفضاله عليهم.
والمتبادر أن الآية جاءت مرادفة لسابقاتها ومتصلة بسياقها من هذه الناحية.
فكما أن اتباع الدين الحق والاتجاه إلى الله وحده منج من الآخرة فإن ما يتمتع به(5/456)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
الناس في البحر والبرّ وأسباب الرزق والسفر هو من فضل هذا الإله ويوجب عليهم شكره وعبادته.
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
. في الآية تذكير بأن الله تعالى قد أرسل من قبل النبي رسلا إلى أقوامهم بالبينات. فمنهم من استجاب ومنهم من كفر فانتقم الله من المجرمين وأصابهم ببلائه ونصر المؤمنين لأنه يعتبر نصر المؤمنين عليه حقا.
تعليق على جملة كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
وبعض المذاهب الكلامية تتوقف في تقرير حقّ على الله تعالى لخلقه. وقد يكون في هذا وجاهة ولا سيما إذا قيل هذا من إنسان لأنه قد يكون فيه معنى من معاني سوء الأدب نحو الله عز وجل. ولكن العبارة هنا ليست من ذلك. فالله تعالى هو الذي يوجب على نفسه نصر المؤمنين الذين أخلصوا له وحده. وفي هذا- فضلا عن التشجيع والتثبيت والتطمين- معنى تكريمي عظيم للمؤمنين ورفع لشأنهم وتسجيل لفضلهم ومزيتهم حيث جعلهم مستحقين أن ينصرهم مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم.
ولقد أورد المفسرون «1» على هامش تأويل هذه الآية حديثا نبويا عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّا على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة. ثم تلا: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ.
ومع ما للبشرى التي احتوتها الآية والحقّ الذي أوجبه الله على نفسه بنصر
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير مثلا.(5/457)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
المؤمنين من خصوصية زمنية فإن إطلاقها يجعلها شاملة لكل زمن ومكان وحال أيضا. فالمؤمنون المستقيمون يجب أن يظلوا دائما مطمئنين إلى أن الله قد وعدهم بالنصر والتأييد وجعل ذلك حقا عليه. وأنه لن يخلف وعده ولو اشتدت عليهم الخطوب وتعاظمت الكروب أحيانا. وفي هذا ما فيه من التلقين القرآني الجليل.
وليست هذه الآية الأولى من نوعها. فقد ورد في سور سابقة آيات مماثلة أو مقاربة فيها وعد الله تعالى بنصر رسله كما جاء في آيات سورة الصافات [171- 173] وبنصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا والآخرة معا كما جاء في آية سورة غافر [51] بالإضافة إلى سور أخرى جاء الوعد بأساليب أخرى حيث يمكن أن يرد إلى البال أنه فضلا عما في إيمان المؤمنين وإخلاصهم واتجاههم إلى الله وحده من مبرر لهذا الوعد الرباني وتحقيقه في كل ظرف فإن حكمة التنزيل اقتضت هذا التكرار بسبب ما كان يحدق بالمؤمنين في مكة من ظروف صعبة للتثبيت والتشجيع والتطمين.
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 53]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
. (1) كسفا: قطعا.
(2) الودق: ماء المطر.(5/458)
في الآيات:
1- إشارة إلى مشهد من مشاهد قدرة الله في الأمطار والرياح وتدليل به على قدرة الله على إحياء الموتى: فالله يرسل الرياح فتحرك السحاب وتسوقه من مكان إلى مكان حتى يكون قطعا متراكمة بعضها على بعض فلا تلبث أن تتساقط من خلالها المياه. وحينما ينزل المطر في مكان يستبشر أهله برحمة الله ويتبدل ما كان من حزنهم وقلقهم ويأسهم قبل نزوله فرحا وأملا بما كان من آثار رحمة الله في إحياء الأرض بعد موتها وجفافها. وفي هذا عبرة تسترعي النظر والتدبر. فالله الذي أحيا الأرض برحمته بعد أن كانت جافة خامدة كالميتة قادر بالبداهة على إحياء الموتى، فالمشهدان متقاربان وكلاهما بالنسبة لقدرة الله سواء.
2- وتنديد بالناس لما يظهرونه من جزع وكفر حينما ينحبس المطر: فلقد تقضي حكمة الله أحيانا أن تهبّ الرياح وتتحرك بدون مطر. فإذا ما هبّت على هذا الوجه فاصفرّ الزرع أظهر الذين لا يؤمنون بالله جزعا وقنوطا. فهؤلاء كالموتى والعمي والصمّ لا يحسّون ولا يرون ولا يسمعون. والنبي غير مكلف بتغيير طبائع الأشياء فيجعل الميت يحسّ والأعمى يبصر والأصمّ يسمع وإنما عليه أن يخاطب الحي البصير السميع وهو الذي يؤمن بآيات الله ويرضى بما تقتضيه حكمته بدون بطر ولا يأس ولا فرح ولا حزن ويسلم أمره لله.
وبين مدلول الآيات وأهدافها ومفهومها وبين الآيات [33- 37] تماثل ظاهر يسوغ القول إن الاتصال بينها وبين سابقاتها قائم سياقا وموضوعا.
وروح الآيات وفحواها يلهمان أنه حدث في ظروف البعثة النبوية أن انحبس المطر ثم أرسل، وأن جزع المشركون ثم فرحوا، فجعل الحادث مناسبة للتذكير والتنبيه وتدعيم السياق وللتدليل على قدرة الله على بعث الناس بعد الموت وهو ما تكررت الإشارة إليه في هذه السورة بالذات، وتكررت البرهنة على قدرة الله عليه بأساليب متنوعة.
ولقد أوردنا بعض روايات عن قحط حلّ بالحجاز ومراجعة بعض الزعماء(5/459)
للنبي صلى الله عليه وسلم بدعاء الله لكشف البلاء عن الناس في سياق سورة الدخان، فلعل شيئا من هذا قد حدث في ظروف نزول هذه السورة.
ولعل الشقّ الثاني من الآيات يتضمن تنديدا بالمشركين الذين ينكرون البعث وبرهانا على قدرة الله عليه، وتنويها بالمؤمنين الذين قد استجابوا لدعوة الله وأسلموا أنفسهم إليه في كل الحالات، وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم: فكما أنه إذا تأخر المطر أو هبّت الريح بدون مطر لا يدل على عدم قدرة الله وإنما يكون مرده إلى حكمة الله ونواميسه في كونه فإنه إذا تأخر وعد الله بالبعث فلا ينبغي أن يكون دليلا على عدم قدرة الله عليه أيضا وإنما يكون مردّه إلى حكمته. فالمشركون هم بمثابة الموتى والعمي والصمّ لا يدركون ذلك فيجادلون ويكابرون ويضجون ويصخبون. وما على النبي من موقفهم هذا من شيء لأنه غير مكلف بفعل المستحيل. وقصارى ما عليه أن يسمع الراغبين في الهدى والحق والإيمان الذين يكونون على استعداد لإسلام أنفسهم لله تعالى. وجهوده لم تذهب عبثا لأن مثل هذه الطبقة قد قامت فعلا.
تعليق على ما روي من سماع الموتى لخطاب الأحياء وتعارض ذلك مع جملة فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى
ولقد وقف المفسر ابن كثير عند جملة فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وأخذ يورد أحاديث عديدة بعضها وارد في كتب الأحاديث الصحيحة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إن الموتى يسمعون. منها حديث رواه البخاري وأحمد عن أبي طلحة جاء فيه: «إنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طويّ «1» من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال. فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه وقالوا ما ينطلق إلّا لبعض حاجته حتى قام على شقة الركيّ «2» فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله
__________
(1) الطوي والركي بمعنى واحد وهو البئر أو القليب أو الحفرة العميقة.
(2) الطوي والركي بمعنى واحد وهو البئر أو القليب أو الحفرة العميقة.(5/460)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا. فقال عمر يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها فقال والذي نفس محمّد بيده ما أنتم أسمع لما أقول منهم» «1» . ومنها حديث رواه ابن عبد البرّ عن ابن عباس مرفوعا جاء فيه: «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا ردّ الله عليه روحه حتى يردّ عليه السلام» . وحديث رواه ابن أبي الدنيا عن عائشة جاء فيه: «قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّا استأنس به وردّ عليه حتى يقوم» . وهناك أحاديث صحابية في ذلك وفي بعض أحداث ومشاهد من هذا الباب أيضا لم نر ضرورة إلى إيرادها. وواضح أنه يبدو شيء من التعارض بين الجملة المذكورة وهذه الأحاديث ولقد وردت هذه الجملة في سورة النمل أيضا فأوّلها ابن كثير بأن القصد منها إنك لا تسمعهم شيئا يفيدهم.
وأوّلناها بمثل ما أوّلناها هنا حيث تراءى لنا أنه الأوجه إن شاء الله.
على أن الذي يتبادر لنا أن الجملة في معنى ومقام غير المعنى والمقام في الأحاديث. وأنها كما قلنا في شرحها هنا في صدد التنديد بالمشركين وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وفي شرحها في سياق سورة النمل في صدد وصف شدّة مكابرة المشركين وعنادهم بالإضافة إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته. أما الأحاديث فهل بسبيل بيان كون أرواح الموتى التي لا يعتريها الموت هي التي تسمع ما يخاطب بها الأموات الذين كانت في أجسادهم. ومسألة أرواح الناس في حالتي الحياة والموت من المسائل التي لا يدرك كنهها لأنها من أمر الله فيوقف فيها عند ما يقف القرآن والثابت من الأحاديث النبويّة ويؤمن به. والله أعلم.
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
. في الآية تنبيه وتذكير بأطوار خلق الله للناس. فقد خلقهم ضعفاء أولا وذلك
__________
(1) التاج ج 4 ص 366- 367. [.....](5/461)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
زمن طفولتهم. ثم جعلهم أقوياء وذلك زمن شبابهم وكهولتهم. ثم جعلهم ضعفاء بعد القوة وشيبا وذلك زمن شيخوختهم وهرمهم. فهو يخلق ما يشاء على الوجوه والأطوار التي تقتضيها حكمته، وهو العليم بالمقتضيات القدير على خلق كل شيء بحسبها.
والمتبادر أن الآية جاءت داعمة ورادفة لسابقاتها. فقدرة الله تتجلى في تطورات خلقة الناس وأعمارهم أيضا. وفي كل ما يفعله حكمة وغاية. فلا موجب للظنّ إذا انحبس المطر أو هطل أو تأخر البعث أن ذلك بدون حكمة ولا أن يؤدي هذا إلى الشك في قدرة الله تعالى.
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
. في هذه الآيات توكيد للبعث وإنذار للكافرين بهوله: فلسوف تقوم الساعة.
ولسوف يقف المجرمون أمام الله. ولسوف يذهلون ويندهشون ويقسمون أنهم لم يكد يمرّ على مفارقتهم للدنيا إلّا ساعة. ولسوف يقول لهم أهل العلم والإيمان إن قسمكم جزاف كما كان شأنكم في الدنيا لأنكم انصرفتم عن التفكير في الآخرة ففوجئتم بها، وإنكم لبثتم أمواتا طيلة الأمد الذي قدّره الله. وإنكم الآن في يوم البعث الذي وعدتموه ولو أنكم لم تدركوا حقيقة أمركم وموقفكم مما اعتراكم من دهشة وذهول. وانتهت الآيات بتقرير أنه لن ينفع الظالمين ما يقدمون من أعذار ولن يطلب منهم الاستعتاب والتوبة.
والآيات داعمة لما تضمنته الآيات السابقة ومتصلة بها. وفيها قرينة على ما استنبطناه من دلالة على أن الشقّ الثاني من الآيات [48- 53] يتضمن التنديد(5/462)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
بالكفار لظنهم عدم قدرة الله بسبب تأخر البعث مع ما يقوم من شواهد على قدرته على ذلك في أنفسهم وفي نواميس الكون.
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
. (1) لا يستخفّنّك: لا تدعهم يؤثروا فيك فيحركوك ويعجلوك في أمرك.
في هذه الآيات:
1- تنبيه على أن الله قد ضرب للناس في القرآن من كلّ مثل، وصرف فيه الكلام بمختلف الأساليب لتفهيمهم وإرشادهم.
2- وخطاب للنبي عليه السلام بأنه إذا تلا عليهم آية من آيات الله سارع الكفار إلى تكذيبه والقول إن ما جاء به باطل لأن هذا هو شأن الجاهل الضّال المنغلق قلبه والمعمية بصيرته.
3- وأمر للنبي بعدم التأثر والقلق وبالصبر إلى أن يأتي وعد الله الحق الذي لا بد من تحقيقه، وعدم ترك مجال للكفار ليستخفوه ويحملوه على العجلة في أمره.
والآيات جاءت معقبة على الفصول السابقة كما هو المتبادر. واحتوت تسلية وتثبيتا للنبي وإنذارا للكفار وتنديدا بهم أيضا. وجاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة تحمل طابع الختام المألوف في سور عديدة.
وقد أوّلنا جملة كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بما أوّلناها به لأن المقصود منها كما يلهم فحواها وروح الآيات هو تصوير شدّة عناد الكفار وسوء نواياهم وجهلهم وعدم الجدوى منهم بسبب ذلك. وهو تعبير متكرر في(5/463)
ألفاظه ومعانيه بنفس القصد على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
تعليق على آية فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ
ولعل بين تعبير وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ والأمر بالصبر إلى أن يتحقق، ونفس التعبير في أوائل السورة لحمة صلة بين بدئها وختامها.
ولقد جاء في السورة وعد الله بنصر المؤمنين أيضا حيث يكون في ذلك قرائن على ترابط فصول السورة وانعقادها في جملتها على بشرى المسلمين بالنصر.
ولعل فيها إرهاصا بالنصر الذي كان يوشك أن يتمّ للنبي عليه السلام والمسلمين فيما اعتزموا عليه من الهجرة إلى المدينة حيث نزلت هذه السورة في ظروف التهيّؤ لها. ولعلها نزلت في ظروف الاتصال الأول الذي تمّ بين النبي عليه السلام وبعض زعماء الأوس والخزرج، أو الاتصال الثاني الذي آمن فيه عدد كبير منهم ووعدوه فيه بالنصرة والترحيب بهجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة. ولعله كان يفكر في التعجيل بالهجرة فثبته الله وصبّره حتى تتكامل الأسباب أو يشرف على هجرة أصحابه قبله.(5/464)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
سورة العنكبوت
في السورة تنبيه على أن المؤمنين معرضون للامتحان الذي يظهر به صدق إيمانهم. وصورة لبعض ضعفاء الإيمان وتنديد بهم. وتقرير بأن واجب الطاعة للوالدين والإحسان إليهما قاصر على غير الشرك. وحكاية لبعض أساليب الإغراء والدعاية التي كان يعمد إليها زعماء الكفار لصدّ المسلمين وردّهم. وسلسلة قصصية احتوت أخبار نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وأممهم. وإشارات إلى مواقف عاد وثمود وفرعون. وصور العذاب الذي حاق بالمكذبين. وعناية الله بالأنبياء والمؤمنين في معرض التنديد والتذكير والتطمين معا. وحكاية لمواقف جدل ومناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وأهل الكتاب في صدد القرآن. وحثّ للمسلمين على الصبر والثبات على الحقّ والهجرة في سبيل الله والاعتماد عليه. وتنديد بالمشركين لما يبدو منهم من تناقض في عقائدهم بالله ومواقفهم من الدعوة إليه.
وأكثر فصول السورة منسجمة مع بعضها بقوة. وباقيها ليس منقطعا عنها صورا وموضوعا. ولهذا نرجّح أنها نزلت متتابعة بدون فاصل.
وقد روي أن الآيات [1- 11] مدنيات وقد شكّكنا في ذلك في التعليقات التي علقناها في سياق تفسيرها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
.(5/465)
(1) لا يفتنون: هنا بمعنى لا يمتحنون في إيمانهم.
(2) فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين: أوّلها جمهور المفسرين بمعنى ليظهر الصادق والكاذب أو ليتميز الصادق والكاذب نتيجة للامتحان. لأن علم الله أزلي أبدي كذاته فلا يصحّ أن يكون قصد بالكلمة معناها الحرفي. وهو حقّ.
(3) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه: الجهاد هنا على ما عليه جمهور المفسرين مجاهدة النفس وتحمّل التكاليف والصبر على المشاق والأذى. وهذا المعنى متسق مع الامتحان الذي يتعرّض له المؤمنون في إيمانهم ودينهم. فالذي يجاهد نفسه ويثبت في الامتحان إنما ينفع نفسه في الدرجة الأولى.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم المنقطعة التي رجّحنا في أمثالها أنها للاسترعاء إلى خطورة ما بعدها. وهذا المطلع من المطالع القليلة التي لم يعقبها إشارة إلى القرآن مثل السورة السابقة.
وقد تضمنت الآية التالية للحروف سؤالا فيه معنى الإنكار والتعجب عمّا إذا كان يصح أن يظنّ الذين آمنوا أنهم لا يتعرضون للفتنة والامتحان وأنه يكفيهم أن يقولوا آمنّا وذكرت الآية الثالثة في مقام الجواب بأن الله قد جرت سنّته على امتحان إيمان أمثالهم من قبلهم ليتميّز الصادقون من الكاذبين. واحتوت الآية الرابعة سؤالا في معنى الإنكار والتنديد معطوفا على السؤال الأول عمّا إذا كان يظنّ الذين يقترفون السيئات أن يسبقوا الله ويفلتوا منه وبيانا في معرض الجواب بأنهم إن ظنوا ذلك فإنما يكون من سوء حكمهم على الأمور وخطلهم فيه.(5/466)
وقد احتوت الآيات الخامسة والسادسة والسابعة تقريرات بالنسبة لأعمال المؤمنين وأثرها:
1- فالذين يرجون لقاء الله وثوابه لهم أن يطمئنوا فإن هذا آت لا ريب فيه.
والله سميع لكل ما يقال عليم بكل ما يفعل الناس ويضمرونه.
2- والذين يجاهدون في الله لا ينفعون الله بجهادهم لأنه غني عن العالمين فليس لهم أن يمنوا بجهادهم وإنما ينفعون بذلك أنفسهم ويمهدون لها سبل النجاة والسعادة.
3- ولقد آلى الله على نفسه أن يتسامح في هفوات الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأن يجزيهم بأحسن أعمالهم.
والآيات وإن احتوت مواضيع أو معاني متنوعة. فإنها على ما هو المتبادر منها وحدة متماسكة. ولذلك اعتبرناها وحدة وفسرناها في سياق واحد.
تعليق على الروايات الواردة في صدد الآيات الأولى [1- 7] من السورة وما فيها من تلقينات جليلة
ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في سبب نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت بمناسبة استشهاد بعض المؤمنين في وقعة بدر وجزع أهلهم عليهم.
ومنها أنها نزلت في عمار بن ياسر الذي كان يعذّبه مولاه. ومنها أنها نزلت في أناس مؤمنين منعهم أهلهم من قريش من الهجرة إلى المدينة لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إليها فكتب لهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منهم الإقرار بالإسلام حتى يهاجروا. فقرروا الخروج ومقاتلة من يمنعهم وخرجوا فتبعهم المشركون فاقتتلوا فقتل بعضهم ونجا بعضهم فأنزل الله فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.(5/467)
هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 110] . وقد سمّى من هؤلاء سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآيات والآيات الأربع التالية لها مدنيّة. وروى هذا البغوي وآخرون عن الشعبي من علماء التابعين وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وإن كان الطبري يروي ما يرويه منها بطريق الإسناد المتسلسل إلى الصحابي أو التابعي.
ومع أن الروايتين الأولى والثالثة يمكن أن توثق رواية مدنيتها فإننا نرجّح أنها مكيّة. وأن المناسبة التي نزلت فيها هي من نوع ما روته الرواية الثانية. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن المكي وقد اشتدّ في هذه الظروف أذى الكفار وإزعاجهم للمسلمين مما يجعل الرواية الثانية هي الأوجه. وإن كنا نظن أنها أعمّ من حادث أذى عمار لأن هذا الأذى كان في وقت مبكر نوعا على ما تفيده الروايات وعلى ما تلهمه آيات سورة البروج وما روي في سياقها من أذى وتعذيب عمار وأبويه واستشهاد أبويه وشراء أبي بكر لعمار رضي الله عنهما مما ذكرناه في سياق تفسير هذه السورة. ونظم الآيات والصورة التي تضمنتها أقرب إلى النظم المكيّ وصور العهد المكيّ منها إلى النظم المدنيّ وصور العهد المدنيّ. ولا تفهم أي حكمة في وضع آيات مدنيّة في أول سورة مكيّة بدون مناسبة نظمية وموضوعية. والآيات التي تلتها والتي يوجه الخطاب فيها إلى الكفار معطوفة عليها ولا خلاف في مكيّتها. وليس لرواية مدنيّة الآيات إسناد صحيح.
وآية سورة النحل التي ذكرت إحدى الروايات أنها نزلت في الذين منعهم أهلهم من الهجرة إلى المدينة ثم هاجروا هي آية مكيّة وقد رجحنا في سياق تفسيرها نزولها في مناسبة ارتداد جماعة من المسلمين في مكة ثم فرارهم وعودتهم إلى الإسلام وهو ما يلهمه مضمونها بكل قوّة ولا نراها تنطبق على ما ذكرته الرواية المذكورة.
ومع ما للآيات من خصوصية زمنية فإن المسلم واجد فيها تلقينات جليلة(5/468)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قوية مستمرة المدى. فأمور الناس لا يمكن أن تسير على ما يشتهونه دائما. وهم معرضون للمصاعب والمشاقّ والأذى التي من شأنها أن تصهر النفوس وتميّز قويّها من ضعيفها وسليمها من زائفها وصادقها من كاذبها. والحكم على الناس وقيمهم إنما يأتي صائبا بعد مرورهم من الامتحان بالمصائب والمشاقّ والأذى. فمن ثبت وصدق فهو القوي الصادق. ومن وهن وجزع فهو الضعيف الكاذب. والذين يثبتون ويصدقون في مقابلة المصاعب والمشاقّ ويصمدون لها بالتحمّل والصبر ومجاهدة النفس إنما ينفعون أنفسهم في الدرجة الأولى. ولن ينجو من يعمل السوء ولن يضيع عمل من آمن وعمل الصالحات.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
. وفي هاتين الآيتين: إشارة إلى ما أوجب الله على الأبناء من إحسان معاملتهم مع والديهم مع استثناء إطاعتهما في الشرك بالله إذا أمرا به أولادهما مهما جاهداهم وألحّا عليهم في ذلك، وبيان كون الله هو مرجع الناس جميعا فيفصل بينهم في أعمالهم. وتوكيد كون الله سيدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات في عداد الصالحين من عباده.
ولقد ورد في سورة لقمان مثل الوصية التي احتوتها الآية الأولى كما ورد شيء يقارب في سورة الأحقاف. وقد قال المفسرون «1» إن هاتين الآيتين قد نزلتا أيضا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمّه كما قالوا هذا في سياق آيات سورة لقمان بل وفي سياق آيات سورة الأحقاف على ما ذكرناه في سياق السورتين.
ومنهم من ذكر أنهما نزلتا في مسلم آخر عصى وهاجر إلى المدينة فأخذ أبواه يلحّان عليه ليرتدّ عن الإسلام ويعود إليهما. ولقد سلكت الآيتان في سلك رواية مدنيّة
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي.(5/469)
الآيات من أول السورة إلى آخر الآية الحادية عشرة، ولعل الرواية الأخيرة هي سبب ذلك.
تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً إلخ والآية التالية لها
وروح الآيتين ونظمهما ومضمونهما من جهة وورود ما يماثلهما في آيات لا خلاف في مكيتها من جهة أخرى يجعلاننا نرى فيهما صورة من صور العهد المكيّ أكثر من العهد المدنيّ ونشكّ في رواية مدنيتهما كما شككنا في رواية مدنية الآيات السبع السابقة. وليس من شأن رواية كونهما نزلتا في مسلم مهاجر إلى المدينة ومحاولة أبويه حمله على الارتداد والعودة إليهما في مكة أن تضعف من شكّنا لأنها غير وثيقة الإسناد وغير معقولة الحدوث. ولأن طابع الآيتين مماثل لطابع الآيات المكيّة المماثلة، ومضمونها متّسق مع ظروف العهد المكيّ أكثر.
ولقد آمن عدد كبير من شباب قريش وشاباتهم رغم بقاء آبائهم على الشرك والجحود ومناوأتهم الشديدة للنبي ودعوته. وكان بعض هؤلاء الآباء من الزعماء البارزين. وقد اضطر أكثر هؤلاء الشباب المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة هربا من ضغط آبائهم واضطهادهم «1» . فالمتبادر أن حوادث ضغط الآباء على الأبناء قد تكررت وتعددت فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الأمر والتنبيه.
والصلة بين الآيتين والآيات التي قبلهما وبعدهما لا تبدو واضحة. غير أننا نستبعد- بناء على ما لمسناه من انسجام الآيات المكية وتسلسل اتصالها ببعضها- أن لا يكون للآيتين صلة ما بسابقهما أو لاحقهما. وأن يكونا قد أقحمتا في موضعهما إقحاما. ومما خطر على بالنا أن تكون الفتنة التي ذكرت في الآيات السابقة متصلة بموقف من مواقف الضغط من الآباء على الأبناء أو أن يكون هذا من صورها ومشاهدها. فهو بدون ريب موقف محرج يمكن أن يكون فيه امتحان
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام القسم الأول ص 321- 341 طبعة ثانية.(5/470)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
للمؤمن في إيمانه ليتميز الصادق من الكاذب فيه. وبهذا الذي نرجو إن شاء الله أن يكون وجيها تتصل الآيتان بالآيات السابقة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
. في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى من يدّعي الإيمان بالله في وقت السعة والعافية حتى إذا تعرّض في سبيل إيمانه لأذى الناس جعل أذى الناس وعذاب الله الموعود للكافرين والمنافقين في مستوى واحد فعمد إلى المداراة والمراءاة ليتقي عذاب الناس وأذاهم. ثم إذا فتح الله على المؤمنين ونصرهم وفرج عنهم سارع إلى توثيق رابطته بهم وتوكيد دعواه بأنه منهم. وقد تساءلت نهاية الآية في معرض الإنكار والتنديد عمّا إذا كان أمثال هؤلاء لا يعرفون أن الله تعالى هو الأعلم بما في صدور الناس.
أما الآية الثانية: فمن المحتمل أن تكون تضمنت توكيدا بأن الله تعالى يعلم المؤمنين الصادقين في إيمانهم ويعلم المنافقين فيه. أو تكون قصدت تقرير كون ما حكته الآية الأولى امتحانا يمتحن الله به الذين يقولون آمنّا ليظهر المؤمن الصادق من المنافق.
تعليق على آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إلخ والآية التالية لها وتلقيناتها
والآيتان تمام الآيات الإحدى عشرة التي ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنيّة وقد روى المفسرون «1» أنهما نزلتا في أناس كانوا أسلموا وتخلّفوا عن الهجرة
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.(5/471)
إلى المدينة وأكرههم زعماء قريش على الخروج معهم إلى بدر فلما انتصر المسلمون في وقعة بدر قالوا إنا مسلمون وإنا خرجنا مكرهين وطالبوا بحصة من الغنائم. كما رووا أنهما نزلتا في أناس من المنافقين في مكة إذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر تفاديا من الأذى.
ومع ما يبدو من اتساق بين الرواية الأولى والقسم الأول من الآية الأولى فإن القسم الثاني منها والآية الثانية تنقضان ذلك. فإذا كان هؤلاء قد انحازوا إلى جانب المسلمين أثناء وقعة بدر فيكونون قد انحازوا مخلصين حالما أمكنتهم الفرصة ولا ينطبق عليهم وصف المنافق. وإذا لم يكونوا قد انحازوا أثناء الوقعة فلا يكون محلّ لادعائهم لأن الفرصة أمكنتهم للانحياز فلم يغتنموها. ولذلك نحن نشكّ في صحة الرواية والمناسبة. هذا مع التنبيه على أن الرواية لا تستند إلى إسناد صحيح.
ووصف الْمُنْفِقِينَ من الأوصاف القرآنية المدنيّة كما أن الصورة التي احتواها القسم الثاني من الآية الأولى مماثلة لصورة مدنيّة حكتها آيات مدنية عن المنافقين منها هذه الآية في سورة النساء الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) . ولكن القسم الأول من الآية الأولى ينقض هذا لأن الصورة التي احتواها هي صورة مكية من حيث إن المؤمنين إنما كانوا يتعرضون للأذى في مكة. ولهذا فنحن نرى الرواية الثانية التي رواها الطبري والبغوي عن الضحاك ومجاهد هي الأوجه ونرجّح بالتبعية مكيّة الآيتين أسوة بسابقاتهما وبسبب ما تلهمه الآيات الآتية بعدهما من جهة ولأنه ليس من مناسبة أو سياق يبرر أن احتمال مدنيتهما بدون تناقض كما أن حكمة وضعهما هنا- لو كانتا مدنيتين حقا- غير ظاهرة من جهة أخرى.
ويتبادر لنا أن الصلة قائمة بينهما وبين الآيات السابقة لهما مهما بدا عكس ذلك لأول وهلة. فقد احتوتا مشهدا من المشاهد التي كانت تظهر في صفوف(5/472)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
المسلمين مثل ما احتوت سابقاتهما. وبينما احتوت الآيتان السابقتان لهما مباشرة وعدا وبشرى احتوت هاتان وعيدا وتنديدا حسب الصورة التي انطوت في كل من الجملتين. ولعلّ من الممكن لمس الارتباط بينهما وبين الآيات الأولى من السورة بما انطوت عليه هذه الآيات من ذكر احتمال تعرّض المؤمنين للفتنة والامتحان. ثم ما احتوته الآيتان السابقتان لهما مباشرة من صورة من صور الفتنة احتوتاهما هما من صورة أخرى من صورها. أما تعبير الْمُنْفِقِينَ فليس في رأينا قرينة قاطعة على مدنية الآيتين. فالكلمة بمعنى المرائين ومرضى القلب والهائبين والمترددين والمتخوفين. وليست هذه الصورة مستحيلة الظهور في العهد المكي بين صفوف المسلمين.
ولقد احتوت إحدى آيات سورة النحل التي مرّ تفسيرها ما يفيد أن بعض الذين آمنوا ارتدّوا في العهد المكي وشرحوا صدرا بالكفر وبعضهم ارتدّ مكرها أو فتن عن دينه ثم عاد إلى الإسلام على ما مرّ شرحه. وقد يكون في هذا مصداق مؤيد لتوجيهنا إن شاء الله. ومع ما يمكن أن يكون للصورة التي تضمنتها الآيتان من خصوصية زمنية فإنهما انطوتا على تلقين قرآني جليل في صدد صورة أو حالة يمكن أن تظهر في كل وقت ومكان وتستحق التنديد والتقريع. فصدق إيمان المرء إنما يثبت حينما يتعرض للامتحان من أذى أو إغراء فإذا لم يتضعضع فهو المؤمن حقا المستحقّ لرضوان الله وثوابه. أما الذين يتظاهرون بالإيمان في أوقات السّعة والعافية أو لقاء منافع ومغريات ثم يتنكرون لإيمانهم وقت الشدّة فهم المنافقون الذين ليس لهم في صفوف المخلصين مكان، المستحقون لسخط الله وغضبه وعقابه ولسخط الصادقين من المؤمنين ونبذهم واحتقارهم. وبناء على هذا لم نر محلا للتعليق هنا على النفاق والمنافقين وإيراد الأحاديث الواردة فيهم بمناسبة ورود الكلمة ورأينا تأجيل ذلك إلى سورة البقرة المدنية التي ذكروا ووصفوا في الآيات الأولى منها.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
.(5/473)
في الآيتين: حكاية لبعض ما كان يقوله الكفّار للمسلمين حيث كانوا يقولون لهم على سبيل الحجاج أو التحدّي أو الإنكار: اتبعونا فيما نحن عليه من دين وتقاليد ودعوا دينكم الجديد ونحن نحمل عنكم وزر خطأكم وما تخافونه من عقاب وعذاب. وتزييف رباني لهم في معرض الردّ فهم كاذبون فيما يقولون ولن يحملوا عنهم شيئا. بل إنهم سوف يحملون يوم القيامة أوزارهم وأوزارا أخرى معها، وسوف يحاسبون على جرائمهم ومفترياتهم.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين ولقد احتوت الآية الأولى مشهدا من المشاهد التي كانت تقع في أثناء الدعوة في العهد المكي والتشاد والتجاذب اللذين كانا يجريان بين بعض المسلمين والكفّار من آباء وأبناء وأقارب وأصدقاء مما حكت بعضه الآيات السابقة ومما يجعل الصلة قائمة بين الآيتين والآيات السابقة. ومما يقوم قرينة مؤيدة لترجيحنا بأن الآيات السابقة هي مكيّة مثل هاتين الآيتين المعطوفتين عليها وليست مدنيّة كما ذكرت الروايات.
وإلى ما ذكرناه فإن الآية الأولى تنطوي على أسلوب طريف من أساليب الجدل والحوار التي كان يعمد إليها الكفار فإنهم كما كانوا يعمدون إلى الأذى والضغط أحيانا وإلى التشويش والتشكيك أحيانا، وإلى المراوغة والخديعة أحيانا.
كما حكت آيات عديدة مرّت أمثلة منها، كانوا يعمدون إلى التعهد للمؤمنين بتحمل مسؤولياتهم عن خطيئاتهم وذنوبهم وكفرهم إذا عادوا إلى دين آبائهم وتقاليدهم وسبيلهم!.
والمتبادر أن الذين كانوا يعمدون إلى هذه الأساليب هم الزعماء. وقد روى المفسرون «1» في سياق هاتين الآيتين اسم أبي سفيان. والغالب أن هذا القول قد صدر منه أو من غيره لبعض المسلمين في سياق الجدل والحجاج وادعاء التفاضل
__________
(1) انظر تفسير البغوي والخازن.(5/474)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
والهدى أو كجواب على اعتذار المؤمنين بأنهم يخافون الله واليوم الآخر. والآية تدل على أنه لم يكن بين المسلمين والكفار قطيعة تامة أو عداء شديد. أو أن من الفريقين من كان يتلاقى ويتجادل بشيء من الهدوء. وهذا ما استدللنا عليه من آيات أخرى سبق تفسيرها.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
. هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية عن بعض الأنبياء والأمم السابقة جاءت بعد حكاية أقوال الكفار والتنديد بهم وإنذارهم جريا على الأسلوب القرآني على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. ومن هنا تكون السلسلة متّصلة بالسياق بطبيعة الحال. وقد استهدفت التذكير والإنذار والعظة بالنسبة للكفار، والتنويه والتثبيت والتطمين بالنسبة للمسلمين أسوة بمثيلاتها.
وفي هذه الحلقة شيء جديد لم يسبق ذكره. وهو خبر لبث نوح عليه السلام ألف سنة إلّا خمسين عاما في قومه. ولقد جعل هذا بعض الباحثين يعيدون ويبدون ويعلقون تعليقات متنوعة. وفي كتب التفسير أقوال على هامش هذه الآية عن عمر نوح والمدة التي عاشها قبل الطوفان وبعده ليست وثيقة السند. ونقول هنا كما قلنا في المناسبات السابقة إن واجب المسلم أن يؤمن بكل ما أخبر به القرآن من أخبار الأنبياء والأمم والوقوف عند هذا الحدّ وعند ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث.
وأن يؤمن أنه لا بدّ من أن يكون لما يجيء في القرآن والأحاديث الثابتة من حكمة.
وإن كان من شيء يحسن أن يضاف إلى هذا في صدد الخبر المذكور فهو أن بعض المفسرين «1» قالوا إن حكمة ذكر المدة هي تسلية النبي والتسرية عنه وهو قول وجيه منسجم مع أهداف القصة القرآنية. كذلك فإن سفر التكوين ذكر في الإصحاح
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الخازن مثلا.(5/475)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
التاسع نفس المدة عمرا لنوح. ولا بدّ من أن يكون السامعون أو بعضهم يعرفون ذلك. وفي هذا ما يدعم تأثير تلك الحكمة والهدف. ولقد ورد في سورة القمر جملة مقاربة لجملة فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ في سياق قصة نوح وسفينته وطوفانه. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 27]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
. (1) تخلقون إفكا: تصنعون أشياء كاذبة من الأقوال والأصنام.
(2) يئسوا من رحمتي: تعبير أسلوبي بمعنى أنهم لن ينالوا رحمتي.(5/476)
(3) إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا: القصد من هذه الجملة تقرير كون الأوثان لن تفيدكم إلّا صلات مودّة دنيوية لا فائدة منها في الآخرة ولا معول عليها. أو إنما اتخذتموها بهدف منفعة الدنيا على غير طائل.
وهذه حلقة ثانية من السلسلة. ولا تحتاج عبارتها إلى أداء آخر. وجلّ ما جاء فيها جاء في سور أخرى وبخاصة في سورة الأنبياء ممّا علقنا عليه بما رأينا فيه الكفاية.
وإن كان من شيء يحسن أن يضاف إلى ذلك فهو حكاية أقوال إبراهيم عليه السلام بسبيل الاحتجاج على قومه مما فيه بعض الجديد ومما تكرر مثله في السور السابقة تقريرا موجها إلى الناس أو الكفار أو أمرا موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله للناس أو الكفار حيث يتبادر لنا من خلال ذلك حكمة سامية في حكاية أقوال مماثلة صادرة عن من ينتسب السامعون العرب إليه أو بعضهم ويزعمون أنهم على ملّته بسبيل إفحامهم والتنديد بهم.
وفي الحلقة حكاية لتآمر قوم إبراهيم على قتله أو تحريقه. ولقد جاء هذا أيضا في سورة الأنبياء. غير أننا نرى في تكراره هنا أمرا متصلا بالسيرة النبوية.
فهذه السورة كما قلنا من آخر ما نزل في مكة من القرآن. وكان زعماء قريش في ظروف نزولها يتآمرون على قتل النبي أو حبسه أو نفيه على ما ذكرته آية سورة الأنفال هذه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) لأنه كان قد اتفق مع زعماء الأوس والخزرج في المدينة وآمنوا به وأخذ الإسلام ينتشر في المدينة وأخذ المؤمنون يهاجرون من مكة إليها وأخذ هو يتهيأ للهجرة إليها فشعر زعماء قريش بخطر داهم من جرّاء ذلك لأن المدينة طريق قوافلهم وستصبح تحت سلطانه. عدا عن احتمال اتساع نطاق دعوته واشتداد قوته وعواقب ذلك عليهم فأرادوا أن يحولوا دونه. فالمتبادر أن تكون حكمة ما جاء في القصة متصلة بهدف التطمين والتشجيع في موقف متماثل، بين ما حكي عن إبراهيم وقومه وبين ما كان بين النبي وقومه.(5/477)
ويلحظ أن إبراهيم قال بعد أن نجّاه الله من النار إني مهاجر إلى ربي.
والمتبادر أيضا أن تكون حكمة حكاية ذلك متصلة بما كان من إزماع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة وبقصد تلقينه بأن إبراهيم قد فعل ذلك من قبل، وملّته هي ملّة إبراهيم.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس وبعض علماء التابعين في تأويل جملة وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أنها بمعنى الولد الصالح أو الثناء والذكر الحسن أو جعل ملّته متّبعة وما في ذلك من نصيب له في أجر المتّبعين. وكل هذا مما تتحمّله العبارة التي تنطوي على تلقين مستمر المدى بأن الله تعالى ييسّر وينعم على الصالحين المستقيمين الخير والكرامة في الدنيا أيضا بالإضافة إلى الآخرة مما انطوى في آيات عديدة مرّ تفسيرها.
ويلحظ أن الآية [27] اقتصرت على القول إن الله وهب إبراهيم إسحق ويعقوب مع أن إسماعيل هو ابن إبراهيم البكر. وفي هذا تكرار لما جاء في الآية [72] من سورة الأنبياء وقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة (ص) بما يغني عن التكرار.
ولقد روى الطبري أيضا على هامش جملة إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي عزوا إلى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم وتقذرهم وتحشرهم النار مع القردة والخنازير» . وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بزيادة في آخره بعد كلمة الخنازير وهي: «تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتأكل ما سقط منهم» . وقد أورد ابن كثير هذا النصّ بحديث أسنده الإمام أحمد عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص في ظروف بيعة يزيد بن معاوية.
وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة. وليس في كتابي الطبري وابن كثير بيان بالمقصود بالأرض التي ينحاز أهلها إلى مهاجر(5/478)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
إبراهيم ويبقى فيها شرارها إلخ. ونخشى أن يكون من وحي الفتن التي حدثت في الصدر الإسلامي الأول والله أعلم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
. (1) في ناديكم: في مجالسكم أو دار اجتماعاتكم.
(2) المنكر: يقال لكل ما هو مغاير لكريم الأخلاق وفاضل الصفات.
وهذه حلقة ثالثة في لوط وقومه. وقد ذكر ما فيها في السور السابقة، وبينها وبين ما ذكر في سورة هود خاصة تماثل. وعبارتها واضحة. وقصد الموعظة والتذكير والإنذار والتثبيت واضح فيها. ولقد علّقنا على القصة بما رأينا فيه الكفاية. وليس فيما ورد هنا شيء جديد يقتضي تعليقا إلّا القول إن الآية أو العلامة التي تركت من القرية المدمرة هي على الأرجح أطلال سدوم وعمورة على ساحل البحر الميّت في غور أريحا والتي كان يمرّ بها قوافل الحجاز وهي ذاهبة إلى فلسطين فمصر أو آئبة منهما إلى الحجاز وهما البلدان اللذان ذكر سفر التكوين(5/479)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
تدميرهما بعذاب الله على ما شرحناه بخاصة في سياق سورة الصافات.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
. (1) كانوا مستبصرين: كانوا يتبجحون بحسن البصيرة والعقل.
(2) وما كانوا سابقين: وما كانوا سابقين الله بحيث يعجز عن اللحوق بهم ويفلتون من عذابه.
وهذه حلقة رابعة فيها إشارات مقتضبة إلى رسالات شعيب وموسى عليهما السلام وإلى ما كان من أمر عاد وثمود. وقصد الإنذار والتذكير والموعظة فيها ظاهر. وقد علّقنا على قصصهم في السور السابقة بما فيه الكفاية. وليس هنا شيء جديد يقتضي تعليقا إلّا التنبيه إلى تعبير وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ في صدد ذكر عاد وثمود حيث تحتوي الجملة دليلا صريحا على أن المخاطبين يعرفون أخبار هؤلاء القوم وأن منهم من شاهد آثارهم ورأى في تدمير بلادهم آثار عذاب الله فيهم أيضا أو اعتقد ذلك.
ثم التنبيه إلى جملتي فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ووَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ينطوي فيها توكيد جديد للمبدأ القرآني(5/480)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
المتكرر في سور عديدة بمسؤولية الناس عن أعمالهم واستحقاقهم جزاءها من الله عزّ وجلّ وقتها حقا وعدلا ويكون الذي ضلّ وانحرف منهم هو الذي ظلم بنفسه بذلك.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
. في الآيات:
1- تمثيل للذين يتخذون من دون الله شركاء وأولياء بالعنكبوت وبيتها، فكما أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت وأوهاها فدين أولئك وعقيدتهم هي أوهى العقائد وأوهنها أيضا لو عقلوا وتفكّروا.
2- وتوكيد بأن الله يعلم حقائق ما يدعونه من دونه وأنه هو العزيز القادر على كل شيء الحكيم في كل شيء.
3- وتنبيه على أن الله إنما يضرب الأمثال للناس ليتبينوا الحقّ ويعقلوه وأن أصحاب الفهم والإدراك والعلم هم الجديرون بأن يعقلوها ويفهموا مرماها.
4- وتوكيد آخر بأن الله إنما خلق السموات والأرض بالحقّ ولحكمة جليلة ولم يخلقهما عبثا. وإن في ذلك آية يدركها المؤمنون الصادقون في رغباتهم ونياتهم.
وصلة الآيات بسابقاتها قائمة كما هو واضح. وقد جاءت بمثابة تعقيب عليها. والخطاب فيها قوي نافذ. واحتوت تنديدا بالشرك والمشركين وعقولهم وتنويها بالمؤمنين والذين يقنعون بالبرهان حينما يقوم لهم ويفهمون الأمثال حينما تضرب لهم. والآية الثالثة توكيد سقوط أي أهلية وعدم احتمال أي نفع في من(5/481)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
يدعوهم المشركون من دون الله. وكان عليهم أن يدركوا ذلك لو كانوا عقلاء.
تعليق على آية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
وهذه الآية جديرة بالتعليق من حيث احتواؤها تنويها بالعلماء الذين يؤهلهم علمهم لفهم الأمور والأمثال والاتعاظ بها. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة في سور سابقة حيث ينطوي في ذلك توكيد التنويه من جهة، وحثّ الناس على توسيع حدود معارفهم من جهة، وتبيين مسؤولية العلماء وواجبهم في تدبّر مختلف الشؤون وتبيينها للناس من جهة، والوقوف منها عند حدود ما يقتضيه الحقّ والعلم من غير تجاوز ولا تغافل من جهة.
وإطلاق الفصل يدل على أن كل ذلك شامل لمتنوع مراتب وصفات العلم والعلماء بحيث يشمل شؤون الدين والدنيا معا كما هو المتبادر.
ولقد جاء في سورة فاطر تنويه بالعلماء، وعلقنا عليه تعليقا وافيا فنكتفي هنا بما تقدم.
ولقد روى البغوي في سياق هذه الآية بطرقه حديثا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» . وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولا نرى فيه إذا صحّ ما ينتقض مع ما قلناه من شمول الكلمة من حيث إن العالم الحق مهما كان العلم الذي يشتغل فيه لا بد من أن يدرك من آيات الله تعالى المتنوعة في كونه ومن آيات القرآن وجوب وجود الله والإيمان به وبرسالة خاتم رسله وبوجوب طاعته واجتناب ما يسخطه.
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
.(5/482)
احتوت الآية:
1- أمرا للنبي عليه السلام بالاستمرار في تلاوة ما أوحاه الله إليه من كتاب وفي إقامة الصلاة له وذكره.
2- وتثبيتا له بأن الله يعلم ما يصنع الناس وعليه حسابهم.
3- واستطرادا تنبيهيا بما للصلاة من أثر في تجنيب الذين يقيمونها للفحشاء والمنكر وبكون ذكر الله عزّ وجلّ هو الأكبر.
والآية تحتوي على ما يتبادر لنا تعقيبا على الآيات السابقة حيث تضمنت تثبيتا للنبي وتلقينا بأن لا يبالي بالمشركين وما يدعون من دون الله وبأن يستمر في تلاوة كتاب الله على الناس والصلاة له ففيها الوسيلة الكبرى لاجتناب الفحشاء والمنكر ما هو من الكبائر التي نهى عنهما القرآن. ومن تحصيل الحاصل أن يكون ما احتوته من أمر وتلقين واستطراد موجهة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين في كل زمن ومكان.
ولقد علقنا على الصلاة وأثرها في سياق سورة العلق بما فيه الكفاية، وأوردنا هناك بعض الأحاديث النبوية الواردة في الصلاة وأثرها في الصادقين وغير الصادقين في صلاتهم. وكون الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر لا يمكن أن تكون صلاة صادقة فنكتفي بالتذكير دون الإعادة. غير أن البغوي روى في سياق تفسير الآية حديثين رأينا أن نوردهما بدورنا لما فيهما من تأييد وتلقين وصور حيث روى عن أنس قال: «كان فتى من الأنصار يصلّي الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله، فقال: إن صلاته تنهاه يوما. فلم يلبث أن تاب وحسن حاله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أقل لكم إن صلاته تنهاه يوما» . وحديث روي عن جابر قال: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم إن رجلا يقرأ القرآن الليل كلّه فإذا أصبح سرق قال ستنهاه قراءته، وفي رواية قيل يا رسول الله إن فلانا يقرأ بالنهار ويسرق بالليل فقال إن صلاته لتردعه» . والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. فالمتبادر إذا صحّا ولا مانع من صحتهما فيكون(5/483)
الشخص ممن دخل الإسلام حديثا وكانت له عادات منكرة فتوقع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقلع عنها حينما يرسخ الإيمان في قلبه ويتأثر بذكر الله والصلاة. فكان ما توقّعه.
والتلقين في الحديثين هو الأمل في تأثير ذكر الله والصلاة على كل حال فيمن تكون له عادات منكرة.
تأويل جملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وما ورد في ذلك من أحاديث
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون لجملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ منها أنها بمعنى ذكر الله إيّاكم إذا ما ذكرتموه بالصلاة وغيرها أكبر من ذكركم إيّاه.
أي من باب مضاعفة الله للحسنات. ومنها أنها بمعنى ذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. ومنها أنها بمعنى ذكر الله أفضل من كل شيء. وقد نبّه أصحاب هذا القول على أن الصلاة هي من ذكر الله ويكون المعنى بالتالي أن الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل من كل شيء. ومنها أنها بمعنى ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة ويكون المعنى بالتالي أن الصلاة هي وسيلة إلى ذكر الله الذي هو الهدف الأكبر منها، وإن نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بسبب ذكر المرء لله تعالى فيها فيتقيه ويخشاه ويتجنب ما نهي عنه من الكبائر. والأقوال جميعها وجيهة. وقد صوّب الطبري القول الأول. وقد يتبادر أن القول الأخير على ضوء الشرح الذي شرحناه أكثر وجاهة. والله أعلم.
ولقد روى البغوي بطرقه أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الجملة وفي صدد فضل ذكر الله. واحدا عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله» . وثانيا عن أبي سعيد الخدري جاء فيه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أيّ العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة قال: الذاكرون الله كثيرا(5/484)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
والذاكرات. قيل يا رسول الله والغازي في سبيل الله قال لو ضرب بسيفه في الكفّار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما فإن الذاكر لله أفضل منه درجة» . وثالثا جاء فيه «أنّ أعرابيا قال يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله» . ورابعا عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقعد قوم يذكرون الله إلّا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده» .
وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة. والمتبادر إذا صحّت أنها في الحثّ على ذكر الله الذي يؤثر في نفس المسلم فيجعله يقدم على كل ما أمر الله به وينتهي عن كل ما نهى عنه. بحيث يصح أن يقال كما قيل في الصلاة وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأوردناه في التعليق على الصلاة في سورة العلق. إن تحريك اللسان بذكر الله تحريكا آليا بدون وعي وصدق وإيمان وبدون أن يكون له أثر في سلوكه نحو الله والناس لا يمكن أن يكون له الفضل العظيم الذي نوهّت به الأحاديث.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
. في الآيات:
1- أمر بصيغة الجمع المخاطب التي يمكن أن تدلّ على أن الأمر موجّه إلى النبي عليه السلام والمسلمين معا باستعمال اللين والمحاسنة في الجدل مع أهل الكتاب باستثناء الذين يبغون ويتجاوزون حدود الحقّ والإنصاف منهم. وبإعلانهم(5/485)
أنهم متفقون معهم في المبدأ والجوهر. فهم مؤمنون بما أنزل إليهم كما هم مؤمنون بما أنزل إلى النبيّ محمّد عليه السلام وهم يعبدون ويعترفون بنفس الإله الذي يعبدونه ويعترفون به. وهم مسلمون أنفسهم إليه.
2- وتنبيه موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم يتضمن التوكيد والتثبيت بأن الله قد أنزل إليه الكتاب كما أنزل الكتب من قبله على الأنبياء السابقين وبأن أهل الكتاب يؤمنون بكتب الله ومنهم من يؤمن بالكتاب الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم تبعا لذلك لما يرون فيه من المطابقة في الأسس والجوهر. ولا يمكن أن يجحد بآيات الله ويكابر فيها إلّا من صمّم على الكفر والعناد والمكابرة.
3- وتوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلو من قبل القرآن كتابا، ولم يكن يخطّ بيده كتابا حتى يمكن أن يكون هناك محلّ لريبة المبطلين الجاحدين ومكابرتهم.
4- وتوكيد آخر بأن آيات الله التي يتلوها النبي صلى الله عليه وسلم متسقة في جوهرها وروحها وروحانيتها مع آيات الكتب الربانية التي يعرفها الذين أوتوا العلم والتي قد تشبّعت بها نفوسهم وصدورهم.
تعليق على آية وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ والآيات التي بعدها
ولم نطلع على رواية ما تذكر سببا لنزول هذا الفصل الذي قد يبدو فصلا جديدا لا صلة له بالآيات السابقة، ومع ذلك فإن المتبادر من آياته أنها نزلت في مناسبة موقف من مواقف الجدل في موضوع القرآن ووحيه الإلهي اشترك فيه فريق من أهل الكتاب وفريق من المؤمنين مع النبي، وربما فريق من الكفار أيضا. ولعل هذا الجدل نشب على أثر الفصل القصصي والآيات المعقبة عليه. فوضعت آيات الفصل بعدها. وإذا صحّ الاحتمال الأخير فيكون شيء من الصلة بين هذا الفصل وما سبقه.(5/486)
والآية [47] بخاصة تلهم أنه كان من نقاط الجدل القائم مما كان يرى من تشابه وتماثل بين محتويات القرآن ومحتويات الكتب السماوية المتداولة بين أيدي أهل الكتاب. وأن المجادلين كانوا يتخذون ذلك وسيلة إلى الطعن بالقرآن ولدعوى اقتباس النبي من هذه الكتب. فردّت الآية بعدها على هذه النقطة ردا قويا على النحو الذي شرحناه.
والنفي المذكور في الآية [48] يحتمل أن يكون أريد به نفي تلاوة النبي كتابا ما من الكتب السماوية أو الاطلاع عليه قبل القرآن أو كتابته أو نفي القراءة والكتابة بالمرة عنه تدعيما لحجة كونه لم يقرأ الكتب السماوية ولم يكتبها لأنه لم يكن يحسن ذلك، وبالتالي دحضا لدعوى اقتباسه من الكتب السماوية. والإطلاق في النفي أو تنكير المنفي مما يمكن أن يكون قرينة على أن المراد هو الاحتمال الثاني.
وإطلاق النفي في الآية وأسلوبها ينطويان على التحدي والتنديد والتذكير.
فكأنما أريد أن يقال إن المجادلين المدّعين يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ويكتب، وبالتالي لم يتسن له قراءة الكتب السماوية وكتابتها. وإذا لا حظنا أن هذا النفي يتلى علنا ويسمعه الناس من كتابيّين وغير كتابيّين أدركنا ما فيه من قوّة الردّ على دعوى المدّعين وتحدّيها وتزييفها.
ويتبادر لنا أن النفي منصبّ على القراءة والكتابة الشخصيتين. وهذا لا ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سمع من بعض الكتابيين شيئا من أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانوا يتداولونها وينسبونها إلى أنبيائهم، مما ذكرت شيئا منه بعض الروايات وذكرناه في سياق تفسير سورتي النحل والفرقان.
ولقد قلنا إن الآية [47] تلهم أن من نقاط الجدل القائم ما كان يرى من تشابه وتماثل بين محتويات القرآن ومحتويات الأسفار المذكورة آنفا. ولسنا نرى في هذا إشكالا مؤيدا لدعوى المدعين. فكل ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات القرآن المحكمة والمتشابهة من وحي الله الذي كان ينزل على قلبه اقتضته حكمة التنزيل ولو كان فيه تطابق مع الأسفار وقد سيق في القرآن للعبرة والموعظة لا للتاريخ.(5/487)
وأسلوب الآيات قوي رصين، يلهم أن النبي عليه السلام كان في موقف المستعلي المنتصر فيما يبديه من حجج ويبدو منه من قوة وإفحام وإلزام للمكابرين المعاندين من العرب والكتابيين معا.
ومع أنه لا خلاف في مكية الآيات فإن بعض المفسرين «1» ذكروا في سياق تفسيرها عزوا إلى أهل التأويل أو تأويلا من عندهم أنها في صدد الحجاج مع يهود المدينة، وذكروا اسم عبد الله بن سلام وغيره من مسلمي اليهود وقالوا «2» إنهم الذين عنتهم الآية [47] بتعبير وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ كما ذكروا أن الذين عنتهم جملة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ هم الذين نبذوا الذمة ومنعوا الجزية عامة، وكعب بن الأشرف وزملاءه من اليهود خاصة. وهذا نموذج لكثير من الأقوال التي خلط فيها بين مدى ومدلول ومناسبة الآيات المكيّة والمدنيّة وظروف العهد المكيّ والمدنيّ. وبعض المفسرين قال إن كلمة هؤُلاءِ تعني قريشا «3» وبعضهم «4» قال إنها تعني المسلمين بالإضافة إلى ما قاله بعضهم إنها تعني الكتابيين. وبعضهم أرجع ضمير بِهِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم أرجعه إلى القرآن «5» . ونرجو أن يكون ما أوردناه في شرح الآيات هو الصواب إن شاء الله.
وتعبير وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ صريح قاطع بأن النبي عليه السلام لم يكن يكتب ويقرأ. أما تعبير وَالْأُمِّيِّينَ [آل عمران:
20] فلا يعني ذلك بهذه الصراحة والقطعية. ولا سيما أن هذه الكلمة استعملت هي وجمعها في القرآن للدلالة على غير الكتابيين أو على العرب الذين ليسوا كتابيين كما ترى في آية آل عمران هذه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ
__________
(1) انظر مثلا تفسير الطبري والبغوي والخازن.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر الطبري والخازن.
(4) انظر المصدر نفسه.
(5) انظر المصدر نفسه.(5/488)
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) ولقد كان من العرب كثيرون يقرأون ويكتبون كما هو ثابت.
وبالرغم من هذه الصراحة فإن كايتاني «1» وغيره من المستشرقين ظلوا يصرون على دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب ومنهم من قال إنه كان يخفي ذلك ويراوغ فيه فلا يثبته ولا ينفيه لأنه يعرف أن منهم من كان يعرفه فيه. ولو تذكروا بأن هذا مما قد يكون وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وأن القرآن قد ردّ عليه وزيّفه علنا وبصراحة قطعية، وأن أصحابه وأخصاءه كانوا يتلون هذا الردّ الصريح القطعي لوفروا على أنفسهم التعب ولما عرّضوها لتهمة الغرض والعناد بل والوقاحة والكذب. فلا يمكن أن يعلن النبي صلى الله عليه وسلم بلسان القرآن وبأسلوب قاطع صريح أنه لا يقرأ ولا يكتب لو كان يقرأ ويكتب، ولا سيما لو كان أصحابه يعرفون ذلك فيه. لأنه يثير حالة شكّ هؤلاء في ربانية القرآن وصدق النبي وهذا وذاك من الخطورة بمكان عظيم.
إنه قال: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» «2» . وقد أوردوا مع هذا الحديث حديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي ثملة الأنصاري قال:
«بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود فقال يا محمّد هل تتكلّم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله: الله أعلم، قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذّبوهم وإن كان باطلا لم تصدّقوهم» .
__________
(1) انظر الجزء الأول من كتابه تاريخ الإسلام.
(2) ورد هذا الحديث في التاج برواية البخاري عن أبي هريرة بفرق يسير وهو قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ... الآية [البقرة: 136] ج 4 ص 43.(5/489)
ومع واجب المسلم بالتزام التعليم النبوي إزاء ما يحدّثهم به أهل الكتاب فإنه يتبادر لنا أن ذلك إنما هو في ما ليس مغايرا أو ناقضا لما جاء في القرآن من مبادئ وأخبار، هذا أولا. وثانيا إنه يتبادر لنا من روح الآية ومقامها أن المقصود بما احتوته من نهي واستثناء هو الجدل حول نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصلة القرآن بالله تعالى وليس الموقف الواجب وقوفه إزاء ما يحدثون به إطلاقا كما تلقاه المؤولون والمفسرون على ما هو المستفاد من كلامهم.
وليس في الحديثين ما يفيد ذلك. وقد صدرا عن رسول الله في المدينة في مناسبة أو مناسبات أخرى كما هو مستفاد منهما والله تعالى أعلم.
على أن هذا لا يمنع القول أن الاستثناء هو لا لأمر واقع وإنما لأمر قد يكون رسمت الخطة له إذا وقع. وقد يكون من الدلائل على ذلك أنه ليس هناك رواية ما تذكر أن كتابيين على دينهم في مكة حينما فتحها الله على رسوله في السنة الهجرية الثامنة. والسورة من آخر ما نزل في مكة فلو كان بقي كتابيون لم ينضموا إلى الإسلام في مكة وكانوا يجادلون النبي ويغلظون في الجدال لكانت الروايات ذكرت ما صار عليه شأنهم حين فتح مكة. وليس مما يعقل أن يكونوا كلّهم قد تواروا بالموت أثناء هذه المدة.
ولقد علم الله أن يهود يثرب التي أزمع النبي الهجرة إليها في ظروف نزول هذه الآيات سيقفون منه موقف المجادل الظالم فرسمت له الخطة معهم في هذه الآية والله تعالى أعلم.
والمستشرقون في عنادهم ودعواهم يقيسون الحاضر على الماضي فيؤدي القياس بهم إلى استحالة أن لا يكون النبي قارئا كاتبا مطلعا على الكتب السماوية.
وهم مخطئون في قياسهم لأن الفرق عظيم بين الحاضر وذلك الماضي من مختلف النواحي.
والخطة التي ترسمها الآية الأولى جديرة بالملاحظة أيضا. فكأنما أريد بها القول إنه ليس من محلّ لخلاف ونزاع بين المسلمين والكتابيين من حيث المبدأ(5/490)
والجوهر. وإن التخاطب بالحسنى جدير بأن ييسّر التفاهم والتمازج بينهم. أما إذا ظهر منهم شاذون فإنما يصدرون في شذوذهم عن سوء النية والعدوان والظلم.
ومن واجب المسلمين أن يقابلوهم بما يستحقون فالخطة عظيمة رائعة لأنها تقوم على أساس الحقّ والعدل من جهة وعلى الرغبة الصادقة من ناحية المسلمين في توطيد التفاهم والتمازج من جهة أخرى.
والاستثناء الذي احتوته الآية وفحوى الآيات عامة يدلان على أن فريقا من أهل الكتاب كان معاندا مكابرا في موقف الجدل والحجاج إلى جانب فريق آخر كان مؤمنا مصدقا. وفي هذا صورة من صور العهد المكي حيث كان من العرب مؤمنون وكافرون وكان إلى جانبهم من الكتابيين مؤمنون وكافرون أيضا. وقد شرحنا ذلك في مناسبات سابقة وبيّنا أسبابه التي هي أسباب شخصية ونفعية دنيوية. وقد آمن بالرسالة المحمدية وصدق صلة القرآن بالله كل من استطاع أن يتفلّت من هذه الأسباب منهم كما ذكرته آيات عديدة مرّت في سور عديدة، واستمر هذا المظهر في العهد المدني أيضا على ما سوف يرد شرحه بعد.
ولقد رسمت الخطة الآنفة الذكر في الآية [125] من سورة النحل إزاء كل الناس وبدون استثناء ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ويظن كما قلنا أن بعض الكتابيين الجاحدين كانوا في جدلهم معاندين مكابرين بل بذيئين سيئي الأدب. فاقتضت حكمة التنزيل تنزيل الاستثناء في الآية [46] .
هذا ويتبادر والله أعلم أن آية وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ قد هدفت فيما هدفت إليه تقرير كون ما في القرآن وحي رباني ونفي كونه مقتبسا من كتب سابقة كانت متداولة. وهذا ما كان ينسبه إليه المشركون في جدالهم معه على ما تتضمنه الآية الرابعة والخامسة من سورة الفرقان: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً(5/491)
وَأَصِيلًا
(5) . وصيغة الآية التالية تدلّ على أنهم كانوا يعرفون أنه لا يقرأ ولا يكتب وأنه كان يستكتب ما في الكتب السابقة وتملى عليه ليحفظها. وآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ في سورة النحل تفيد وتحكي نفس القول عنهم فهدفت الآية التي نحن في صددها بنفي ذلك مرة أخرى بالأسلوب الذي جاءت فيه والله أعلم. وفي القرآن آيات كثيرة جدا تقرر أن ما في القرآن جميعه وحي منزل من الله وبعلمه ومن ذلك آيات سورة الشعراء [191- 192- 193- 194- 195- 196] . ومجموعة آيات سورة النساء [162- 163- 164] .
استطراد إلى مسألة مكتسبات النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوّة
وقد يتبادر لبعضهم استلهاما من آية وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شيئا من أحوال وقصص الأمم السابقة وأنبيائهم قبل نزول الوحي عليه. بل إن هذا قد قاله غير واحد من علماء المسلمين ومفسريهم القدماء وهذا غير سليم بل مستغرب. فالآية إنما هدفت لنفي كون ما في القرآن من ذلك مقتبسا من الكتب المتداولة السابقة وهذا حقّ وصدق على ما شرحناه سابقا. ولكن هذا شيء وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف من أحوال وقصص الأمم السابقة شيئا قبل الوحي شيء آخر. إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاش خمسا وعشرين عاما قبل النبوّة في حالة وعي تام منذ بدء شبابه. وكان من أرجح العقول ذا ذهن متفتح متحرر يبحث عن الحقّ والحقيقة في مسائل الدين وأحوال الأمم السابقة وأديانها. ولقد كان في مكة أفراد من أهل الكتاب على شيء من العلم كان يلتقي بهم خلال هذه الفترة ويسمع منهم ويتحادث معهم وهذا ما أيّدته روايات عديدة وأشارت إليه ضمنا آيات قرآنية هي: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً [الفرقان: 4](5/492)
وكانوا يعرفون أنه لا يقرأ ولا يكتب فقالوا كما ورد في سورة الفرقان وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) . وجاء مثل هذه الإشارة في آية سورة النحل وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [103] على ما شرحناه في سياق السورتين المذكورتين. ولقد كان ابن عم زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها ورقة بن نوفل متنصّرا يقرأ الكتب بالعبرانية على ما ذكرته بعض الأحاديث وهو الذي روى أنه تولّى تزويجه من السيدة خديجة فلا بدّ من أنه تردّد عليه كثيرا وسمع منه أيضا وقد قام برحلات إلى بلاد الشام مع أمه ثم في شبابه وكيلا تجاريا عن السيدة خديجة وربما ذهب إلى ما وراء الشام أيضا أي فلسطين ومصر بعدها. وفي سورة الصافات آية تذكر ما يفيد أن قوافل التجار الحجازيين كانت تمرّ بقرى لوط المدمرة على ضفاف بحر الميت بين عمان والقدس وهي وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 133- 138] ولا بد من أن يكون التقى في رحلته بكثير من الناس ذوي العلم والمعرفة وتحدث معهم وسمع منهم. كما لا بد من أن يكون قد التقى بآلاف الناس في بيئته على اختلاف فئاتهم ومعارفهم وسمع منهم وتحدّث معهم، فمن الطبيعي جدا الذي لا يمكن أن يرد إلى العقل غيره هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وعى واختزن في ذاكرته كثيرا مما سمع من أحوال وقصص وأخبار أهل الكتاب وقصصهم وأحوال الأمم السابقة وأحوال بيئته الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية وكل ذلك مما أهّله مع ما تحلّى به من عقل راجح وذهن وقّاد متفتح ورغبة في الحقيقة الربانية ووجدان لها للرسالة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولا يتعارض هذا كما هو المتبادر مع ما نزل به الوحي في مثل تلك الأمور. فالوحي القرآني نزل بما اقتضته حكمة التنزيل لتحقيق الهدف المستهدف منها. وهذا شيء وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منها شيئا قليلا أو كثيرا قبل نبوته شيء آخر والله تعالى أعلم.(5/493)
وبعض المفسرين «1» قالوا إن المقصود بجملة وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ هو النهي عن مجادلتهم فيما يخبرون به، وأوردوا حديثا عن النبي عليه السلام رواه أبو هريرة رضي الله عنه جاء فيه «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم إله واحد ونحن له مسلمون» .
وبعض المفسرين قالوا «2» إن هذه الآية منسوخة بآية السيف وإنه لم يعد من خطته مع أهل الكتاب إلّا قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، استنادا إلى آية التوبة [29] ونصّها قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وقال آخرون «3» بل هي محكمة ولا يصح قتال غير الظالمين المعتدين منهم. وسيرة الرسول عليه السلام وتلقينات آية سورة التوبة وغيرها في جانب القول الثاني دون الأول. وقد شرحنا ذلك بما فيه الكفاية في سياق سورة (الكافرون) . وسنذكر ظروف آية التوبة ومداها حينما يأتي دور تفسيرها إن شاء الله.
وفي صدد جملة وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ نقول إننا علّقنا على جملة مماثلة في سورة الشورى وما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلم في كتب الكتابيين المنسوبة إلى الله تعالى أو المحتوية لأقوال أنبيائهم بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة للإعادة أو الزيادة، إلّا القول إن اختلاف الصيغة هنا عنها في سورة الشورى مردّه على ما هو المتبادر إلى صيغة الخطاب الموجّه في كلّ من الآيتين في كل من السورتين. فهو في آية الشورى موجّه للنبي فجاء بصيغة الخطاب المفرد وهو هنا موجّه للمسلمين فجاء بصيغة الخطاب الجمع. وصار الأمر القرآني
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير. [.....]
(2) انظر الكتب المذكورة أيضا.
(3) انظر الطبري.(5/494)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
في هذا الموضوع الخطير بالصيغتين شاملا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معا.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
. في هذه الآيات:
1- حكاية لتحدّ وجّهه الكفار إلى النبي عليه السلام بالإتيان بالمعجزات والخوارق برهانا على صلته بالله.
2- وأمر للنبي بالردّ عليهم بأن المعجزات والخوارق بيد الله وبأنه ليس إلّا نذيرا مبيّنا للناس بأمر الله الطريق التي يجب أن يسيروا فيها.
3- وتساؤل في معرض الاستنكار عمّا إذا لم يكن فيما أوحى الله إلى النبي من كتاب الله الذي يتلى عليهم ما يكفيهم ويقنعهم. ففيه رحمة وتذكرة ربانيتان لا ريب فيهما لمن يؤمن أو يرغب في الإيمان حقا.
4- وأمر آخر للنبي بإعلان المجادلين المتحدّين بأن يجعل الله بينه وبينهم شاهدا وحكما وفي ذلك الكفاية والبلاغ. فهو يعلم بكل ما في السموات والأرض ويعرف المحقّ من المبطل والصادق من الكاذب مع التوكيد بأن الخاسرين في هذا الاستشهاد والاحتكام هم المكابرون المصممون على الكفر المتمسكون بالباطل.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآية الأولى. وكل ما قالوه إنها ردّ على الكفار الذين طلبوا من النبي آية من ربّه تؤيده في دعواه. ولقد روى الطبري في سياق الآية الثانية [51] عن جعدة بن يحيى أن ناسا من المسلمين أتوا نبي الله(5/495)
بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود فلما نظر فيها ألقاها ثم قال كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء غير نبيهم به إلى قوم غيرهم فنزلت الآية.
والرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وهي مدنية الطابع في حين أنه لا خلاف في مكية الآية. وبالإضافة إلى هذا فإن الآية منسجمة أشدّ الانسجام نظما وموضوعا بما قبلها وما بعدها. والخطاب فيها موجّه إلى الذين تحدّوا النبي باستنزال آية من ربّه. حيث يصحّ القول إن الرواية غير محتملة الصحة كمناسبة لنزول الآية. وكل ما يمكن أن يصحّ إذا صحّت الرواية أن يكون النبي قد ردّ على الذين ظنوا أنهم فعلوا صوابا بنقلهم بعض ما يقوله اليهود وأن الآية تليت في هذه المناسبة. والذي يتبادر لنا أن الآيات استمرار في حكاية موقف الجدل الذي بدئت به الآيات السابقة ومتصلة بالسياق. ومن المحتمل أن يكون التحدي من جاحدي الكتابيين كما يحتمل أن يكون من جاحدي المشركين. وإن كانت الآيات التالية لهذه الآيات ترجّح الاحتمال الثاني.
تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ... وآية أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ...
وتحدّي الكفار النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات والآيات كان يتكرر في كل مناسبة جدلية على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة سبق تفسيرها. وقد اقتضت حكمة الله أن لا يظهر على يد رسوله معجزة إجابة للتحدي وبرهانا على صدق رسالته لأن هذه الرسالة في غنى عن المعجزة مما انطوى في آيات كثيرة وشرحناه في سياق سورة المدثر وكان جواب القرآن لهم منطويا على ذلك المعنى، ثم على ما انطوى في هذه الآيات في مواضع عديدة من أن القرآن آية عظمى فيها المقنع لمن حسنت نيته ورغب في الحق والهدى. وقد يرد على البال معجزة انشقاق القمر وقد شرحنا هذا الأمر في سياق تفسير سورة القمر بما يغني عن التكرار.(5/496)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
والتساؤل الاستنكاري الذي ابتدأت به الآية [51] ينطوي على تنديد قوي لمن غلظ قلبه وخبثت نيته وعميت بصيرته فلم ير نور القرآن الهادي السنيّ ولم ينفذ إليه روحه وروحانيته وظلّ يعاند ويتحدّى، كما أن الآية تجمعت فيها قوة رائعة في تقرير كون القرآن هو أعظم آية مصدقة لنبوّة النبي فيما احتواه من الرحمة والتذكرة البالغة والأسس الكافلة لصلاح الدين والدنيا. والردّ الذي احتوته انطوى في الوقت نفسه على الردّ على ما كان يقوم في أذهان الكفار من لزوم حدوث الخوارق في معرض تأييد نبوة النبي ودعوته. فليس ذلك من الضروري في صدد الدعوة إلى الحقّ والهدى. لأن في طبيعة الدعوة ومبادئها وأهدافها المبينة في القرآن مؤيدات كافية لصدق النبي في دعوته وصلتها بوحي الله. وهي مؤيدات خالدة قائمة للعيان في كل آن في حين أن الخوارق غير متصلة بطبيعة وأهداف الدعوة وغير دائمة. وكانت دائما موضع نقاش وتكذيب ولم تفد في تأييد دعوة الأنبياء السابقين وبخاصة بالنسبة للذين بيتوا الجحود والتكذيب لأسباب شخصية واستكبارا في الأرض ومكر السيّء. وروح الآيات، كما أن نصوص وروح الآيات الكثيرة انطوت على هذا الردّ أو ما في معناه مما مرّ منه أمثلة كثيرة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
. في هذه الآيات:
1- حكاية لتحدّي الكفار للنبي بالتعجيل بالعذاب الذي ينذرهم به في معرض الاستخفاف والاستهزاء.
2- وردّ عليهم بأنه لولا اقتضاء حكمة الله بتأجيل العذاب إلى أجل معين في علمه لجاءهم فورا كما يطلبون.(5/497)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
3- وتوكيد بأن العذاب واقع عليهم حتما وسيفاجئهم مفاجأة دون أن يشعروا بمقدماته، وبأن جهنّم معدّة لهم في الآخرة دون أن يفلت منهم أحد، وبأن العذاب سوف يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقال لهم حينئذ ذوقوا ما كنتم تعملون.
قال البغوي إن الآيات نزلت في النضر بن الحارث حين قال: «فأمطر علينا حجارة من السماء» ولم يعز المفسر هذا إلى أحد ولم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد حكت إحدى آيات سورة الأنفال هذا القول بسبيل ذكر ما كان من الكفار من استعجال للعذاب على سبيل الهزء والاستخفاف وهي وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ
(32) غير أن الاستعجال منهم قد تكرر وحكته عنهم آيات عديدة سابقة مع الردّ عليهم بحيث لا نرى مرجحا لتسويغ تخصيص النضر بالذكر في صدد نزول الآية. والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بحكاية موقف الكفار وحجاجهم وتحدّيهم التي احتوتها الآيات السابقة واستمرار للسياق. وقد احتوت تحدّيا جديدا للكفار فردّت عليهم كما احتوت ذلك الآيات السابقة. ولما كان التحدّي بتعجيل العذاب قد صدر مرارا من مشركي العرب فإننا اعتبرنا ذلك قرينة رجحنا بها أن التحدي بالإتيان بالمعجزات التي حكته الآيات السابقة هو منهم أيضا.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
. (1) وكأيّن: بمعنى وكم في مقام الاستكثار.
في الآيات: خطاب موجّه إلى المؤمنين:(5/498)
1- يثبتهم في دينهم وإخلاصهم في العبادة لله وحده.
2- ويطمئنهم بأن أرض الله واسعة يستطيعون أن يجدوا فيها الأمن والعافية والحرية.
3- ويذكرهم بأن الموت مصير كل حيّ وبأن الله مرجع الناس جميعا.
4- ويؤكد لهم بأن الله سينزل المؤمنين الصالحين بأعمالهم غرفا في الجنة تجري من تحتها الأنهار. وأنها لنعم الأجر لمن آمن وعمل صالحا وصبر على الحق وجعل اعتماده وتوكّله على الله.
5- وينبههم إلى أنّ الله تعالى قد تكفّل برزق جميع خلقه من الأحياء. وكما أن كثيرا من الدواب لا تدّخر رزقا ولا تكسب ما يضمن لها الرزق والله يرزقها فإنه كذلك يرزقهم أيضا فلا يقلقوا من هذه الناحية، وهو السميع لكل ما يقال العليم بجميع الأحوال.
تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ وما بعدها
ويبدو هذا الفصل جديدا بالنسبة للسياق السابق أو مستقلا عنه حيث ينتقل الخطاب فيه إلى المؤمنين في أمر مقامهم في مكة بعد حكاية الموقف الجدلي بين النبي والمؤمنين من ناحية، والكفار من ناحية. وحكاية تحدّي الكفار بالمعجزات وبالتعجيل بالعذاب. ومثل هذا الانتقال من أساليب النظم القرآني مما مرّ منه أمثلة عديدة ولهذا لا نرى انقطاعا تاما بين هذا الفصل وما قبله. والمتبادر أنه نزل بعد الآيات السابقة فوضع في ترتيبه.
ولقد أورد المفسرون أقوالا عديدة في صدد هذه الآيات معظمها بدون سند أو عزو إلى تابعي أو صحابي وواحد منها معزو إلى ابن عمر «1» منها أنها خطاب
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.(5/499)
عام للمؤمنين بعدم إقامتهم في دار ظلم ومعصية وبهروبهم منها إلى أرض الله الواسعة حيث تكون لهم حرية العبادة والعمل في سبيله. ومنها أنها نداء للمؤمنين في مكة أو المستضعفين منهم للهروب والخروج من مكة لتكون لهم تلك الحرية.
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتدّ الأذى على المسلمين في مكة وأمرهم بالخروج إلى المدينة قال بعضهم كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فأنزل الله الآية الأخيرة. ومنها أنها نزلت في جماعة تخلّفوا عن الهجرة من مكة تحسبا من الموت والعوز والضيق في أرض الغربة. ومنها حديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر جاء فيه: «أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بستانا من بساتين الأنصار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقط الرطب بيده ويأكل فقال: كل يا ابن عمر، قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: ولكنّي أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده، فقلت: إنّا لله، الله المستعان. قال: يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين.
قال: فو الله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ... إلخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله عزّ وجلّ لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإنّ الحياة بيد الله. ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبئ رزقا لغد» «1» . وحديث ابن عمر والقول الذي قبله يقتضيان أن تكون الآيات أو الآية [59] مدنية نزلت لحدّتها مع أنه ليس هناك رواية ما بذلك فيما اطلعنا عليه.
وقد قيل مثل القول الذي قبل الحديث في مناسبة الآيات الأولى من السورة وأوردناه وعلقنا عليه. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. والأقوال الأخرى محتملة الصحة على ما يلهمه فحوى الآيات وروحها أيضا حيث يلهمان أنها نزلت في ظرف اشتدت فيه الأزمة على المسلمين في مكة. وقد تضمنت
__________
(1) النصّ من تفسير ابن كثير. وقد عقّب المفسر عليه بقوله هذا حديث غريب. وأبو العطوف الجزري- وهو أحد رواته- ضعيف. ومع ذلك فإن المفسر البغوي روى هذا النصّ بخلاف يسير بطرقه.(5/500)
تشجيعا على الهجرة منها تفريجا لهذه الأزمة وتطمينا لمن يمكن أن يخطر لباله خوف من العوز وضيق العيش في المهجر الجديد. وإذا صحّ حديث ابن عمر وهو في ذاته حديث رائع فيه تلقين مستمر المدى فيمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية في ظرف مثل الظرف المروي فالتبس الأمر على الرواة.
وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن المكي أو آخره. وظروف نزولها يصادف على ما هو المتبادر لظروف اتصال النبي عليه السلام ببعض زعماء الأوس والخزرج في موسمين متواليين وإيمانهم وتعهدهم بنصرته ونصرة المؤمنين والترحيب بهم إذا هاجروا إلى المدينة المنورة التي كانت تسمى (يثرب) مما أشارت إليه آية سورة الحشر هذه إشارة تنويهية وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وقد أخذ المؤمنون يهاجرون إلى المدينة نتيجة لذلك «1» . والظاهر أن بعضهم كانوا يحسبون حساب الموت في دار الغربة أو حساب العوز والضيق فاحتوت الآيات تطمينا كافيا ومشجعا من الناحيتين. بالإضافة إلى وعدهم بغرفات الجنات في حياتهم الأخروية.
ومن شأن أسلوب الآيات وفحواها أن يبعثا الطمأنينة وقوة العزيمة والاعتماد على الله والاستهانة بكل صعب في اللحظة الحرجة التي كان فيها المسلمون، حتى لقد عبرت آيات القرآن عن هجرتهم بما يفيد أنهم أرغموا عليها إرغاما كما ترى في آية سورة الحشر هذه التي احتوت تنويها بهم لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) .
وتظل الآيات مستمرة التلقين في كل ظرف مماثل تبعث في نفس كل مؤمن
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام القسم الأول الطبعة الثانية ص 428 وما بعدها.(5/501)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
الطمأنينة وقوّة العزيمة والاعتماد على الله والاستهانة بكل صعب أيضا.
ولقد روى البغوي بطرقه على هامش هذه الآيات وبخاصة على هامش الآيتين [58 و 59] حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما: «لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» . وجاء في ثانيهما عن ابن مسعود: «أيّها الناس ليس من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وليس من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه. وإنّ الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها. فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب. ولا يحملنّكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنّه لا يدرك ما عند الله إلّا بطاعته» . والحديث الأول من مرويات الترمذي والحاكم عن عمر رضي الله عنه «1» . وواضح من روح الحديثين وبخاصة الأول أنهما في صدد تحذير المسلمين من التماس الرزق من طريق المعاصي إذا ما أبطأ عليهم وفي صدد تطمينهم بأن اعتمادهم وتوكّلهم على الله هما الأولى والأجدر بهم وبذلك يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 64]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)
. (1) الحيوان: الحياة.
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 187.(5/502)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
عبارة الآيات واضحة، والمتبادر أنها متصلة بموقف الجدل والحجاج الذي حكته الآيات السابقة للفصل السابق مباشرة. وأن ضمير الجمع الغائب راجع إلى الكفار. وهكذا يعود السياق فيتصل ببعضه بعد الفصل الانتقالي ويجعل هذا الفصل غير منقطع عنه. وقد احتوت تنديدا بالكفار وبيانا لتناقضهم في عدم الإخلاص لله وحده ومكابرتهم في الدعوة إليه واستعجال عذابه مع أنهم يعتقدون أنه خالق السموات والأرض، ومسخّر الشمس والقمر، وباسط الرزق ومضيّقه، ومنزّل الماء من السماء، ومحيي الأرض بعد موتها. والآية الثانية وإن جاءت كأنها منفصلة فروح الآيات تلهم أنها منسجمة موضوعا وسياقا معها. وفي النظم القرآني أمثلة كثيرة من ذلك مرّ كثير منها في السور السابقة. والمتبادر أن الآية الرابعة هي بقصد إعظام شأن الآخرة والترغيب فيها والترهيب منها. فالسعادة الحقيقية والشقاء الحقيقي فيها لأنها أبدية خلافا للدنيا القصيرة الأمد والمتاع.
ولقد احتوت السور السابقة ما احتوته هذه الآيات وعلقنا عليها بما رأينا فيه الكفاية فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 66]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
. (1) ليكفروا وليتمتعوا: قال المفسرون: إن من المحتمل أن تكون اللام في الكلمتين لام الأمر ويكون في معناهما الإنذار والتحدّي كما أن من المحتمل أن تكون لام التعقيب والتنديد بمعنى أنهم عادوا إلى الكفر والاستمتاع بالحياة ونسوا الله، ونحن نرجّح القول الأول بقرينة ما ينطوي في آخر الآية من إنذار.
في الآية الأولى صورة من صور تناقض الكفار المشركين فهم يخصون الدعاء لله وحده حينما يركبون الفلك لينجيهم إلى البر استتباعا لعقيدتهم بأنه خالق(5/503)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
الكون ومدبره الأعظم الضارّ النافع وحده، فإذا ما نجاهم عادوا إلى شركهم.
وأسلوبها أسلوب تنديدي. أما الآية الثانية ففيها إنذار. فليكفروا كما شاءوا وليتمتعوا بدنياهم القصيرة الأمد لهوا ولعبا فليس هو إلا متاعا قليلا وعرضا زائلا وسوف يرون مغبة كفرهم وشركهم وسوء عاقبتهما.
وواضح أن الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وهذه الصورة قد تكررت في بعض السور السابقة وعلّقنا عليها بما يقتضي فلا حاجة للإعادة والزيادة، إلّا أن نقول إن في الآية الأولى دلالة على العرب من أهل مكة الذين تعنيهم الآية كانوا يقومون بالأسفار البحرية ويتعرضون فيها لمخاطر البحر وهي على الأرجح أسفار أو رحلات تجارية.
[سورة العنكبوت (29) : آية 67]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
. في الآية سؤال استنكاري في معرض التنديد موجّه إلى الكفار عمّا إذا كانوا لا يرون أن من نعمة الله عليهم أن جعل لهم حرما آمنا يتمتعون فيه بالأمن والسلامة بينما الناس الذين حولهم والذين يقطنون خارجه معرضون للمهالك والأخطار.
وعمّا إذا كان يتسق مع الحقّ والعقل أن يكفروا بنعمة الله ويشركوا معه غيره ويؤمنوا بما هو باطل وضلال.
والآية متصلة بسابقاتها واستمرار على موقف الحجاج أو بسبيله كما هو المتبادر. وروحها يلهم أن مشركي قريش الذين يقوم الجدل بينهم وبين النبي يعترفون أنهم في حرم الله وأن أمنه المحترم من الناس جميعا هو متصل بتقليد ديني بأمر الله. ومن هنا استحكم التنديد بهم. وقد شرحنا هذه النقطة في سياق سور قريش والأعلى والقصص وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 68 الى 69]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
.(5/504)
(1) فينا: بمعنى في سبيلنا أو لأجلنا.
في الآية الأولى تساؤل في معرض التنديد والتقرير بأنه ليس من أحد أشدّ بغيا وانحرافا ممن يفتري على الله الكذب فينسب إليه ما هو براء منه أمرا وعملا وشركا، أو ممن يكذب بالحقّ ويعاند فيه حينما يتضح ويقوم عليه البرهان.
وتساؤل آخر في معرض الإنذار والتقرير أيضا بأن جهنّم هي مثوى الكافرين الأبدي الذين منهم هؤلاء، وفي الآية الثانية تنويه بمن جاهد في الله وبشرى بأن الله موفقه وهاديه إلى سبيله لأن الله مع المحسنين دوما.
والآيتان على ما هو المتبادر جاءتا بمثابة تعقيب على حكاية موقف الجدل والحجاج التي تضمنتها الآيات السابقة وبمثابة إنهاء للموقف كما جاءتا في الوقت ذاته خاتمة لآيات السورة وأسلوبها متسق مع كثير من خواتم مواقف الجدل وخواتم السور أيضا.
ويلحظ أن بين جملة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا وبين ما جاء في أول السورة وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ شيء من التساوق والتوضيح حيث يمكن أن يكون من حكمة ذلك ربط أول السورة بآخرها وأن يكون في ذلك دلالة على أن فصول السورة نزلت متوالية حتى تمّت وهذا يلحظ في كثير من السور على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. وقد يكون في ذلك دليل على مكيّة الآيات الأولى للسورة ونقض آخر لرواية مدنيتها. والله أعلم.
والآية الأولى تتضمن التقرير بأن المشركين هم الظالمون لأنهم في جدلهم وعنادهم يفترون على الله الكذب، ومع أنهم يعتقدون بأنه الخالق المدبّر يناقضون أنفسهم فيشركون معه غيره. ولعلّها في مقامها ومجيئها بعد الآيات التي حكت(5/505)
تحدّيها للنبي بالإتيان بالمعجزة. أو بالتعجيل بالعذاب قد تضمنت ردّا وتسفيها لهم. فالدعوة إلى الله لا تحتاج إلى الإتيان بالمعجزة. والله سبحانه قادر في كل وقت على عذابهم ما داموا يعتقدون أنه هو وحده الضارّ النافع الخالق الرازق. أما الآية الثانية فقد جاءت للتنويه بموقف المؤمنين الذين يتحملون في سبيل الله ودينه ما يتحملون من أذى واضطهاد مقابلة للتنديد بموقف المشركين كما هو واضح.
ومع ما يمكن أن يكون للآيتين من خصوصية زمنية فإن أسلوبهما القوي المطلق ينطوي على تلقين مستمرّ المدى ضدّ كل من يفتري على الله الكذب ويكذب الحق ويكابر فيه، وفي التنويه بكل من يجاهد في الله وفي وصفهم بالمحسنين الذين يعدّهم الله بأن يكون معهم دائما ناصرا ومؤيدا.
والشرح الذي شرحنا به الآية الثانية هو ما تمليه ظروف العهد المكي الذي نزلت فيه غير أنها واسعة المدى والشمول بحيث تتضمن تلقينا قويا مستمرا للمسلم في كل ظرف ومكان بواجب بذل كل جهد في الدفاع عن دين الله والتزام حدوده والتبشير به ونشره لسانا وقلما ومالا وبدنا وفرادى وجماعات وشعوبا وحكومات.(5/506)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
سورة المطففين
في السورة تنديد بالغشاشين في الكيل والميزان وإنذار بحساب الله.
واستطراد إلى ذكر مصير المكذبين والمؤمنين يوم القيامة. وحكاية لسخرية الكفار بالمؤمنين في الدنيا وانقلاب الحال في الآخرة. وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه السورة آخر السور المكية نزولا.
ومعظم روايات ترتيب النزول تذكر أنها من السور المتأخرة في النزول كذلك، ومنها ما يتّفق مع المصحف بأنها الآخر نزولا. غير أن مضمونها وأسلوبها يثيران في النفس شكا في ذلك ويسوغان الظنّ بأنها من السور المبكرة في النزول. مثل السور القصيرة المسجّعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
. (1) التطفيف: البخس في الوزن والكيل.
احتوت الآيات:
1- تقريعا للذين إذا اشتروا لأنفسهم كالوا ما اشتروه أو وزنوه أو أخذوه(5/507)
وافيا، وإذا باعوا للغير طففوا وكالوا ووزنوا ناقصا ليضمنوا لأنفسهم الربح في الحالتين على حساب ضرر الآخرين.
2- وتساؤلا في معرض الإنذار عمّا إذا كانوا حينما يفعلون ذلك لا يعرفون أنهم مبعوثون بعد الموت لليوم العظيم الذي يقف الناس فيه بين يدي الله ربّ العالمين ليقدموا الحساب عن أعمالهم.
وهذه ثانية سورتين ابتدأتا بكلمة (الويل) التقريعية. والآيات تنطوي على صورة من صور أخلاق بعض التّجار في مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر.
وهي في الوقت نفسه عامة تظهر في كل زمان ومكان. والمتبادر أن إطلاق التقريع والإنذار في الآيات هو بسبب ذلك ليكون فيها تلقين مستمر المدى في تقبيح بخس الناس وغشهم وسلب أموالهم بطريق الحيلة والخداع.
ولقد احتوت سورتا الإسراء والأنعام آيات فيها أمر بوفاء الكيل والميزان والوزن بالموازين المستقيمة حيث ينطوي في هذا تقرير كون هذا الأمر من الأخلاق الهامة التي عنى القرآن بإيجابها لما له من صلة بجميع الناس تتكرر في كل وقت.
والإنذار والتقريع في الآيات هما توكيد لما احتوته آيات السورتين بأسلوب آخر.
والتساؤل ينطوي على تقرير ما فتىء القرآن يقرّره وهو أن جرأة كثير من الناس على الآثام تأتي من عدم مراقبتهم الله وحسبانهم حساب الآخرة. وهذا من دون ريب متصل بحكمة الله فيما يقرره القرآن من حقيقة البعث والجزاء الأخرويين.
وقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس أن أهل المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا وأنه كان فيها رجل يقال له أبو جهينة معه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله الآيات. ومقتضى هذا أن تكون الآيات مدنية. ولا تفهم حكمة لوضع آيات مدنية في رأس سورة تجمع الروايات
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والطبرسي.(5/508)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
على سلكها في عداد السور المكية. ويؤيد ذلك مضمونها وأسلوبها. وموضوعها من المواضيع التي ذكرت في سور مكية على ما ذكرناه آنفا. والذي يتبادر لنا أن الآيات تليت في موقف ما في المدينة على سبيل الإنذار والتقريع، فأدّى ذلك إلى الالتباس. وهو ما نرجّحه في كثير من الآيات التي يروى أنها مدنية ووردت في سور مكيّة.
ولقد روى البخاري والترمذي في سياق آية يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ حديثا عن ابن عمر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم يقوم الناس لربّ العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» «1» . وهناك حديث آخر رواه البغوي بطرقه فيه توضيح لتعبير (رشحه) عن المقداد قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين فتصهرهم فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما» . وفي الحديثين تنبيه إنذاري متساوق مع التنبيه القرآني كما هو واضح.
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 17]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
. (1) إن كتاب الفجار لفي سجّين: قيل في تخريج كلمة سجّين اللغوي إنها صفة مبالغة من السجن على سبيل التخليد لمن يدخلونه. وقيل إنها المكان السحيق أو العميق المظلم أو الأرض السفلى وقيل إنها بئر في جهنّم وعلى كل حال فالذي
__________
(1) التاج ج 4 ص 253.(5/509)
يتبادر من الجملة أن المقصود من الكلمة مكان العذاب الذي يعذّب فيه الكفار في الآخرة وأن المقصود من الجملة بيان كون الذي كتب وقضى على الفجار هو أن يكونوا في سجّين. وجملة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ في الآيات والإشارة إلى يوم القيامة في الآيات السابقة قرائن أو دلائل على ذلك.
(2) وما أدراك ما سجّين: تعبير بقصد تهويل أمر سجين.
(3) مرقوم: بمعنى مكتوب أي إن مصير الفجّار قد كتب عليهم وتقرر.
(4) ران: غطّى أو حجب.
في الآيات حملة شديدة على الفجّار المكذّبين بيوم الدين. وقد ابتدأت بالردع والزجر للتنبيه على أن الأمر أعظم مما يظنون. ثم آذنتهم بأن مصير الفجّار قد كتب وتقرر في الهوة السحيقة المظلمة المعدّة لعذابهم يوم القيامة. وما أعظم هولها. والويل لهم في يوم الجزاء الذي يكذّبون به. ولا يكذّب به إلّا كل أثيم باغ إذا سمع آيات الله هزأ بها وقال إنها ليست إلّا أساطير الأولين. والحقيقة من أمرهم أن ما اقترفوه من آثام وجبلت عليه نفوسهم من شر وخبث قد غطّى على بصائرهم وحجّر قلوبهم. وإنهم لمبعدون عن الله ورضوانه. ولسوف يصلون الجحيم، ويقال لهم عند ذلك هذا الذي كنتم به تكذّبون.
ويربط بين هذه الآيات وما قبلها الإنذار بالبعث ليوم الدين العظيم الذي يقف الناس فيه بين يديّ الله. فهي والحالة هذه متصلة بها سياقا وموضوعا.
والحملة قويّة مفزعة من شأنها بالإضافة إلى واجب الإيمان بالمشهد الأخروي إثارة الرعب في قلوب السامعين وحملهم على الارعواء من جهة، وقد انطوت على صورة لما كان عليه الكفار من شدّة العناد والمكابرة حين نزولها من جهة أخرى، والإنذار متحقق بالنسبة للذين ظلوا على كفرهم وإثمهم.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية [14] حديثا عن أبي هريرة قال:
«قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكره الله(5/510)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» . حيث ينطوي في الحديث تفسير وتبشير وإنذار معا. وقد أورد المفسرون أقوالا لابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم تفيد أن القصد من الجملة هو بيان ما يحدثه الكفر والآثام في قلب صاحبها من تحجّر وانغلاق وموتان.
ولقد روى المفسرون في مناسبة جملة كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ إلى الكلام عن رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة حيث استدل بعضهم وأوردوا أقوالا لبعض علماء التابعين وللإمام الشافعي في الاستدلال بها على ذلك وحيث أورد بعضهم أقوالا تفيد أن المقصود بالجملة حجب الكرامة والرحمة الربانية. وقد قال الطبري إن الجملة قد تحتمل هذا المعنى وقد تحتمل ذلك ولكن ليس فيها وليس هناك أثر نبوي يساعد على ترجيح أحدهما على الآخر.
ولقد شرحنا الموضوع الأصلي وعلقنا عليه في سياق تفسير الآيات وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) في سورة المدثر بما يغني عن الإعادة.
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
. (1) إن كتاب الأبرار لفي علّيين: كلمة علّيين صفة مبالغة من العلو. وقد جاءت في مقابل سجّين ومما قيل إنها في السماء السابعة أو في السموات العليا أو عند عرش الله أو الجنة وعلى كل حال فإن الجملة تعني أن كتاب الأبرار قد كتب بأنهم سوف يكونون في عليين التي يتنعمون فيها.
(2) المقرّبون: الأولى تعني الملائكة. والثانية تعني عباد الله المقربين على ما يلهمه مقام كل منهما.(5/511)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
(3) رحيق: الشراب الصافي الرائق.
(4) مختوم ختامه مسك: إبريق الشراب مختوم بطينة من المسك فيكون طعمه ورائحته مسكا.
(5) مزاجه من تسنيم: مزاجه بمعنى السائل الذي يمزج به الشراب. وهو من عين ماء في الجنّة تسمّى تسنيما. والتسنيم من السنام وهو الشيء المرتفع. فتكون الكلمة بمعنى عين الماء المسمّاة تسنيما لأنها تجري من مكان مرتفع.
وجريا على الأسلوب القرآني جاءت هذه الآيات لوصف مصير الأبرار الأخروي بالمقابلة: فمصيرهم قد كتب وتقرر في عليين حسب كتاب أعمالهم الذي يشهد عليه الملائكة المقربون. ومنازلهم منازل النعيم حيث تعلو فيها وجوههم بهجة السرور ويتناولون في مجالسهم الشراب الصافي النفيس الذي يمزج بماء عين التسنيم العالية في الجنة، والذي تكون أباريقه مختومة بطينة من المسك ليكون مذاقه ورائحته مسكا. وإن هذا لهو مجال التنافس الممدوح الذي يحسن أن يتنافس فيه المتنافسون للوصول إليه.
واتصال الآيات بالسياق والموضوع قائم. والوصف قوي شائق حقا من شأنه بثّ الطمأنينة والشوق في نفس المؤمنين من جهة وقد انطوى على التنويه بالمؤمنين الذين استحقوا هذه الدرجة من النعيم والتكريم من جهة وعلى الحثّ على الإيمان والعمل الصالح لنيلها من جهة.
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
. (1) فكهين: هنا بمعنى معجبين مسرورين بأنفسهم.(5/512)
(2) ثوّب: أثيب وجوزي.
وفي هذه الآيات حكاية لموقف الكفار من المؤمنين في الدنيا وموقف المؤمنين من الكفّار في الآخرة، فقد كان المجرمون يسخرون من المؤمنين ويتغامزون عليهم كلما مروا بهم ويرمونهم بالضلال مع أنهم ليسوا عليهم وكلاء ولا حفّاظا. ثم يعودون إلى أهلهم وقد شفوا نفوسهم واغتروا بباطلهم. ولسوف ينقلب الأمر إلى عكسه يوم القيامة حيث يفوز المؤمنون بالعاقبة السعيدة ويتمتعون بمنازل النعيم ويقفون من الكفار موقف الساخر الشامت لما صاروا إليه من مصير رهيب.
وقد جاءت الآية الأخيرة بمثابة التعقيب متسائلة عما إذا لم يكن الكفار بما صاروا إليه قد جوزوا الجزاء الحقّ على ما كانوا يفعلونه. وقد تضمنت جوابا إيجابيا على السؤال.
والآيات جاءت في معرض التعقيب على الآيات السابقة. وانطوت على التنديد بالكفار والبشرى للمؤمنين كما هو المتبادر. وفيها صورة لما كان عليه موقف الكفار من المؤمنين في مكة وقد جاءت ختاما للسورة وهو ختام مشابه لخواتم سور عديدة أخرى.
وقد تكون الصورة التي احتوتها الآيات بنوع خاص قرينة على ما نبهنا إليه من احتمال عدم صحة ترتيب السورة كآخر السور نزولا، ورجحان نزولها مبكرة بالإضافة إلى مضامين السورة وأسلوبها بصورة عامة.(5/513)
تنبيه
تفسير السور الخمسة التي يروي المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنية وتروى روايات أخرى أنها مكية والتي رجّحنا مكّيتها بدورنا على ما نبهنا عليه في الكلمة التي أضفناها إلى مقدمة التفسير في الجزء الأول. وستكون بالترتيب التالي على ما ذكرناه في الكلمة المذكورة:
الرعد- الحجّ- الرّحمن- الإنسان- الزلزلة.(5/514)
سورة الرعد
في السورة مقدمة رائعة في تقرير عظمة الله ونواميس كونه. وفصول من المشاهد الجدليّة التي كانت تقوم بين النبي والمشركين فيها صور من أقوالهم وتحدّيهم ومكابرتهم وإنكارهم رسالة النبي والآخرة، وطلبهم الآيات منه وردود عليهم فيها إفحام وإنذار وتسفيه وتمثيل ومقايسة بين الصالحين وذوي النيّات الحسنة والعقول السليمة، والأشرار ذوي العقول الغليظة والسرائر الخبيثة. وتمثيل للحقّ والباطل وتقرير بقاء الحقّ ونفعه. وتذكير بمواقف الأمم السابقة وإشارة إلى موقف أهل الكتاب المؤيد للرسالة النبوية والوحي القرآني وتثبيت وتطمين للنبي، وبيان مصائر المؤمنين والكفار المشركين في الآخرة.
وفصول السورة منسجمة تكاد تكون سلسلة واحدة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة.
وهذه السورة من السور المختلف في مكيتها ومدنيتها. وقد رجّحنا مكيتها لأن ما احتوته من تقريرات وتنبيهات وأمثال وصور مماثلة لما في السور المكيّة من مثل ذلك ولأنها تمثّل العهد المكيّ دون العهد المدنيّ. ولقد جاءت في المصحف الذي نعتقد أنه مرتّب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته في سلسلة من السور المكيّة التي تبدأ بحروف متقطعة مماثلة لما بدأت به وهي سور يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر مما يمكن أن يكون قرينة قوية إضافية على مكيتها والله أعلم.
والروايات التي تذكر مكية السورة تذكر أن بعض آياتها مدنية مع شيء من الاختلاف حيث يذكر بعضها أن من أول السورة إلى الآية [30] مدنيّ والباقي مكيّ، ويذكر بعضها أن الآيتين [31 و 43] مدنيتان وبعضها أن الآيات [11- 13](5/515)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
مدنيات «1» . وأسلوب هذه الآيات جميعها ومضامينها وانسجامها في سياقها نظما وموضوعا يسوغ الشك في هذه الروايات أيضا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
. (1) صنوان: جمع صنو وهو المثيل والمعادل. وقال المفسرون في معنى الكلمة النخلات العديدة أو الشجرات العديدة التي هي من أصل واحد. وما لم يكن كذلك فهو غير صنوان.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم والراء وقد روى المفسرون أنها ترمز إلى جملة (أنا الله أعلم وأرى) وزادوا (أعلم) لأن في الحروف قيما زائدة على ما في مطالع السور السابقة. ونحن نرجّح كما رجّحنا في أمثالها أنها للتنبيه والاسترعاء. وقد أعقبت الحروف إشارة تنويهية إلى آيات الله التي أنزلها الله على نبيه بالحق. وتنديد بأكثر الناس الذين لا يؤمنون بها وهذا مماثل لأكثر المطالع المماثلة.
ثم أخذت الآيات تلفت أنظار السامعين إلى كون الله العجيب في سمائه
__________
(1) انظر كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي والقاسمي.(5/516)
وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، وجباله وأنهاره، وجنّات الأعناب والنخيل والزرع التي تكون في أراض متجاورة والتي يكون من شجرها ما يمتّ إلى أصل واحد ويسقي الجميع بماء واحد ويتفاضل مع ذلك في الأكل والطعم. وتقرر أن الله إنما يفضل هذا لقوم رزقوا العقل السليم والفكر اليقظ والنيّة الحسنة ليروا آيات الله الباهرة الدّالة على وجوده وقدرته وحكمته واستحقاقه للعبودية وصدق الدعوة إليه ووجوب الإيمان بأن الله لم يخلق هذا عبثا وأنه لا بدّ للناس من رجعة إليه والوقوف بين يديه.
وقد جاءت الآيات مقدمة وتمهيدا لما يأتي بعدها مما هو مألوف في النظم القرآني وجاءت مطلعا جامعا ورائعا من شأنه أن يسترعي الأسماع والأذهان وأن ينفذ إلى العقول والقلوب.
وهي ليست الأولى من بابها فقد سبق مثلها في سور أخرى. ومردّ التكرار هو تكرر المناسبات والمواقف ولقد سبق التعليق على ما احتوته من تقريرات وبخاصة موضوع اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وموضوع ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بما يغني عن تعليق جديد.
وجمل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قد تكررت أو تكرر معناها في أمثال هذه الآيات التي وردت في السور السابقة ومن ذلك سورتا النحل الآيات [11- 13] والروم الآيات [21- 24] . وينطوي فيها كما هو المتبادر تنويه بالعقلاء والمتفكرين الذين تؤهلهم عقولهم ومداركهم وتفكيرهم لتدبر نواميس الله في كونه وتفهمها تنويها ينطوي في ما يتبادر لنا على تحميلهم مسؤولية ذلك. ثم حثّ للسامعين والناس عامّة في كل وقت ومكان على تدبّر هذه النواميس وتفهمها بكل وسيلة وطريقة. وينطوي في ذلك وجوب دراستها للانتفاع بها على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة.
هذا وللصوفيين تفسير عجيب للآية الثالثة جاء فيه: «هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه وسادة من عبيده. فإليهم الملجأ وبهم النجاة. فمن(5/517)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر» «1» .
والصوفية وأهل الطرق يقصدون بالأوتاد أقطابهم وزعماءهم. وفي التفسير كما هو ظاهر شطح يبتعد به المفسر عن معنى العبارة القرآنية الواضحة الصريحة الدلالة التي تكرر مثلها كثيرا في القرآن للتدليل على قدرة الله ومشاهد وحدانيته وعظمته في كونه ليستخرج من الآية تكأة للألقاب الصوفية وليجعل أوتاد الصوفيين وأقطابهم مرجعا للبشر وأملا في كشف الضرّ والفوز والنجاة وفي هذا ما فيه من شرك يخرج به المؤمن من ربقة إيمانه والعياذ بالله.
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
. (1) المثلات: الأمثال. والمراد منها عقوبات الله في الأمم السابقة.
وفي هذه الآيات تنديد بالكفار الذين يأخذ المرء أشد العجب من مواقفهم وأقوالهم بالرغم عما في كون الله العظيم من آيات باهرة مقنعة على النحو التالي:
أولا: يتساءلون تساؤل المنكر عمّا إذا كانوا حقيقة سيخلقون من جديد بعد أن يصبحوا ترابا، مما لا يصدر من الكفّار بالله ولقائه. وسيجزون على ذلك بالأغلال في أعناقهم وبالنار التي يخلدون فيها.
ثانيا: لا يفتأون يستعجلون السيء دون الحسن مما يوعدون وهو عذاب الله استعجال المستخفّ مع ما يعرفون من عقوبات الله السابقة في أمثالهم. ولقد جرى
__________
(1) التفسير والمفسرون ج 3 ص 54.(5/518)
الله على التسامح مع الناس فيما يصدر منهم من ظلم وبغي. ولكنه إذا عاقب فإن عقابه يكون شديدا قاصما.
ثالثا: وهم لا يزالون يتحدّون النبي صلى الله عليه وسلم بآية تنزل عليه من ربّه ومعجزة تقع على يده حتى يؤمنوا ويستجيبوا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلا داعيا إلى الله منذرا بعذابه مبشرا بثوابه. وليس في دعوته شذوذ يحتاج إلى البرهنة عليه بالآيات، كما أنه ليس في رسالته بدعا فقد جرت سنة الله على إرسال الرسل الهداة المنذرين إلى أقوامهم من قبله.
وفي الآيات صور مما كان يقع من الكفار من مشاقة وعناد وتحدّ كما هو واضح. وأسلوبها مطلق الحكاية والتنديد. وقد تكررت حكاية أمثالها مرات عديدة لأنها كانت تتكرر وقوعا. وفيها ردود تنديدية وإنذارية كأمثالها السابقة.
وقد احتوت الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة بالإضافة إلى الردّ تطمينا وتسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مما تكرر ذلك في المواقف المماثلة.
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات. ويجوز أن تكون من باب حكاية حال الكفار كما يجوز أن تكون حكاية لمشهد من مشاهد المواقف الجدلية الوجاهية التي كانت تقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. ولعلّ في الآيات التالية بعض القرائن على ذلك.
وقد أوّلنا تعبير وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ بما أوّلناه به آنفا لأن هذا هو المتّسق مع روح الآيات القرآنية بوجه عام. وهو ما عليه الجمهور أيضا.
ولقد أورد الطبرسي وهو من مفسري الشيعة في سياق الآية الأخيرة حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «أنه لما نزلت الآية قال رسول الله: أنا المنذر وعليّ الهادي من بعدي يا عليّ بك يهتدي المهتدون» وحديثا آخر قال إنه رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب «شواهد التنزيل» عن أبي بردة الأسلمي جاء فيه: «إنّ رسول الله دعا بالطهور وعنده عليّ بن أبي طالب فأخذ بيد عليّ بعد ما تطهّر فألزمها بصدره ثم قال: إنما أنت منذر ثم ردّها إلى صدر عليّ ثم قال: ولكلّ قوم هاد ثم(5/519)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
قال إنك منارة الأنام وغاية الهدى وأمير القرى وأشهد على ذلك إنك كذلك» .
والتكلف والهوى الحزبي بارزان على هذه الأحاديث شأنها شأن أحاديث وروايات كثيرة سبق إيرادها والتعليق عليها، ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث وقال إن فيها نكارة شديدة.
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 13]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)
. (1) تغيض: تنقص وتشحّ.
(2) سارب: سائر وذاهب في طريقه.
(3) معقّبات: موكلون يتعاقبون على مراقبته.
(4) من أمر الله: بمعنى بأمر الله.
(5) وال: ملجأ وولي.
(6) شديد المحال: شديد الأخذ، أو شديد العذاب، أو شديد الحيلة والكيد والمكر والخصومة.
في هذه الآيات:
1- تقرير بإحاطة علم الله بكل شيء: فهو يعلم ما تحمل كل أنثى في رحمها(5/520)
وما يطرأ على أرحام الإناث من أسباب الولادة والعقم والزيادة والنقص. وكل شيء مقدر من لدنه بمقدار يجري وفقه. وهو يعلم بكل حاضر وغائب وظاهر وخفي. ولا فرق في علمه بين ما يقوله الناس سرّا أو جهرا وبين ما يعملونه وهم مستخفون في ظلال الليل أو ظاهرون متحركون في النهار. وله على كل امرئ مراقبون وحفظة من أمامه وخلفه يراقبون حركاته وسكناته بأمر الله ومهيأون لتنفيذ أمر الله فيه.
2- وإشارة إلى خضوع الظواهر الجوية لمشيئته وتصريفه: فالبرق الذي يرى الناس فيه ما يخيفهم ويطمعهم إنما يرونه بأمره ويسير بتسييره. والسحب المثقلة بالماء إنما تنشأ وتتألف بتقديره. والرعد المثير لفزع الناس هو خاضع لهيبته مسبّح بحمده، والملائكة الذين لهم في النفوس الصور العظيمة هم مستشعرون دائما بخوفه، وهو الذي يرسل الصواعق من السماء فتصيب من تصيب بتقديره ومشيئته.
3- وتعقيب تنديدي بالذين يجادلون في الله وهو المحيط بعلمه المطلق في تصرفه الذي يخضع له كل قوى الكون. وإنذار لهم بنقمة الله وبطشه. فإنه شديد الحول والكيد والقوّة.
4- والفقرتان الثانية والرابعة من الآية الرابعة استطراديتان فيما هو المتبادر.
فالله الذي له على كل امرئ مراقبون وحفظة قد جعل تغيير ما عليه أي قوم من حالات وأطوار منوطا بما يبدو في خاصة أنفسهم من تغير. فإذا ما استحق قوم نقمة الله بسبب سوء تصرفهم فلا يمكن أن يكون لها دافع ولا راد، ولا يمكن أن يكون لهم ناصرون وأولياء ومعاذ من دونه مما ينطوي فيه إنذار قاصم لهم.
ويروي المفسرون «1» بعض روايات في نزول بعض هذه الآيات منها أن رسول الله أرسل يدعو إليه أحد عتاة العرب وفراعنتهم فلما قال له الرسول (رسول الله يدعوك) قال وما رسول الله وما الله أمن ذهب هو أم من فضة أم من لؤلؤ. فرجع الرسول إلى النبي فأمره بالعودة إليه ثانية ودعوته ففعل فكرر مقالته فأمر بالعودة إليه
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير وغيرهم.(5/521)
ثالثة فكرر مقالته فلم يلبث أن بعث الله سبحانه حيال رأسه وهو يتكلم ويجادل فرعدت ثم وقعت منها صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ومنها أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة قدما على رسول الله فسأله عامر ماذا يجعل له إذا هو اتّبعه وطلب أن يكون له المشرق وللنبي المغرب أو الوبر وللنبي المدر أو يكون الأمر مشتركا بينهما فأتى النبي فقال له أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا فقال له رسول الله يأبى الله عليك وأبناء قيلة- أي الأوس والخزرج- وقد حاولا أن يجدا غرة منه لقتله فمنع الله رسوله فخرجا يجمعان الناس لحربه فأرسل الله صاعقة فأحرقت أربد وطاعونا أهلك عامرا. فأنزل الله هذه الآية أو الآية السابقة لها أو الاثنتين معا. ومما جاء في الروايات أن جملة لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عنت رسول الله حين حفظه الله من الرجلين الذين تآمرا على قتله.
ولسنا نرى تناسبا منطقيا بين الروايات وبين الآيات كسبب للنزول. ويلحظ أن الآيات منسجمة مع بعضها كل الانسجام ومنسجمة في الوقت نفسه مع الآيات السابقة بحيث تبدو السلسلة وحدة تامة. لذلك فنحن نتوقف في صحة الروايات كسبب لنزول الآيات ونرجّح أن الآيات استمرار للسياق وتعقيب عليه. كأنما أريد القول بها والله أعلم أن الكفار الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة يجادلون في الله ويستعجلون عقابه ويشكّون في لقائه ويتحدّون رسوله بالمعجزات في حين أن الآيات والبراهين على عظمته وقدرته وجبروته وإحاطته بهم قائمة في كل شيء يشاهدونه في الكون وفي أنفسهم.
والروايات مدنية، وتقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أن الأسلوب المكي قوي البروز عليها بالإضافة إلى انسجامها الشديد بالآيات السابقة لها على ما نبّهنا عليه ولعل الروايات من أسباب رواية مدنية السورة.
ومن المحتمل أن تكون الأحداث التي ترويها الروايات قد وقعت فعلا وأن(5/522)
تكون الآيات تليت من قبيل الاستشهاد حين حلّ عذاب الله بالكافرين فالتبس الأمر على الرواة والله أعلم.
ومحتويات الآيات مما تكرر متفرقا ومجتمعا في مواضع عديدة لتكرر المواقف. وهي هنا مجموعة رائعة قوية النفوذ إلى العقول والقلوب كما هو شأن مطلع السورة. وقد تكون بسبيل ما ضمناه من الموقف الجدلي الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار.
وقد أورد المفسرون ورووا بعض الأقوال والتعليقات على بعض الآيات «1» .
ومن ذلك ما يتعلق بحمل المرأة ومدته وأيام حيضها وأيام غيض هذا الحيض مما لم نر في إيراده طائلا وفائدة.
ومنها ما يتعلق بجملة لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فيما قيل وروي في ذلك أنها تعني الجلاوزة والحرس الذين يحيط أصحاب السلطان بهم أنفسهم للمحافظة عليهم مما قدر الله أن يصيبهم بقصد بيان أن ذلك لن يجديهم إذا ما أراد الله بهم سوءا. ومنها قيل إنها عنت رسول الله حين حفظ من اللذين أرادا قتله على ما جاء في الرواية التي أوردناها آنفا. غير أن معظم التأويلات والأقوال في جانب كون المقصود من المعقبات هم الملائكة الموكلون بمراقبة الناس. وقد فسرت جملة مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بمعنى (بإذن الله) وبذلك استقام المعنى. ونرى هذا التأويل لمدى الآية هو الأوجه من القول الأول كما هو المتبادر.
ولقد علقنا على موضوع توكيل الله الملائكة لمراقبة الناس وإحصاء عملهم في سورة (ق) وأوردنا بعض الأحاديث المروية في صدد ذلك. ومن جملتها أحاديث وردت في سياق هذه الآيات. وذكرنا ما تبادر لنا من حكمة التنزيل والحديث من ذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به فلا نرى ضرورة للإعادة أو الزيادة.
__________
(1) انظر كتب التفسير المذكورة آنفا.(5/523)
ومن ذلك في صدد تسبيح الرعد، حيث روى بعضهم أن الرعد اسم لملك من ملائكة الله وبعضهم أنه زفرة ملك السحاب وهو يسوقه. والقولان يعنيان أن الملك هو المسبّح لله تعالى. وقد أورد بعضهم حديثا رواه الترمذي عن ابن عباس في تأكيد ذلك حيث جاء فيه: «أقبلت يهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال:
زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر قالوا صدقت» «1» . ويظهر أن هناك من لم يثبت عنده هذا الحديث حيث قال الطبرسي في تخريج الجملة إن الرعد يدل بنفسه على عظمة الله وصولته وهذا معنى تسبيحه. وقال الخازن إن صوت الرعد يسبّح الله عزّ وجلّ لأن التسبيح والتقديس عبارة عن تنزيه الله عز وجل عن جميع النقائص. ووجود هذا الصوت المسموع من الرعد وحدوثه دليل على وجود موجود خالق قادر متعال عن النقائص فهذا تسبيح ومن ذلك قوله تعالى:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] وإلى هذا قال الخازن قولا آخر وهو أن المراد من تسبيح الرعد أن من سمعه سبّح الله فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه، ونحن نميل إلى الأخذ بهذه الأقوال الظاهرة وجاهتها في تأويل وتخريج الجملة القرآنية.
ومن ذلك في تعريف الصواعق حيث قالوا إنها نار تنزل من السماء فتحرق ما تصادفه من مواد قابلة للاحتراق. ومما جاء في كشاف الزمخشري بصيغة قالوا إنها نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت بأجرامه وهي نار لا تمرّ بشيء إلّا أتت عليه إلّا أنها مع حدتها سريعة الخمود. وهي من فعل صعق الذي يفيد شدة الذهول أو الموت المفاجئ بسبب حادث أو صوت قوي يشهده المرء أو يسمعه. ومن هذا ما وصف به موسى حينما تجلّى ربّه للجبل بهذه الجملة فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الأعراف: 143] وما وصف به ما يطرأ على
__________
(1) التاج ج 4 ص 135، وقد قال المؤولون إن مخاريق النار هي البرق.(5/524)
البشر حينما يسمعون نفخ الصور بهذه الجملة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] التعريف مقارب للمعروف من الصاعقة. وعلى كل حال فالسمعون للقرآن يسمعون اسم ظاهرة كونية ويعرفون مداها بالمشاهدة والسماع بدون ريب. ومن ذلك في صدد كلمة البرق حيث أوردوا ما أوردناه في سياق الآية [24] من سورة الروم التي وردت الكلمة فيها لأول مرة. وعلقنا على ما أوردوه وذكرنا ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله.
وإن كان من شيء نقوله هنا في مناسبة ذكر الرعد والصواعق والبرق معا فهو أن هذه الظواهر الكونية مما كان ولا يزال يثير في نفوس الناس رهبة وهيبة وتساؤلا.
وإن حكمة التنزيل اقتضت ذكرها هنا بالأسلوب الذي وردت به بسبيل التدليل على كونها مما يخضع لأمر الله وتسييره على ما ذكرناه في شرحها وأسوة بسائر مشاهد كون الله في السموات والأرض وما بينهما على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وأن الأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد لا طائل ولا ضرورة له في مقام الهدف القرآني. والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ
والجملة الأولى جديرة بالتنويه لما تحتويه من تقرير لناموس إلهي اجتماعي يتقلّب البشر وفاقه بين النعم والنقم والصلاح والفساد وبالتالي لما تحتويه من تلقين جليل مستمر المدى حيث قصدت تقرير كون النعم والنقم والخيرات والويلات لا تأتي على الناس عفوا وإنما هي منوطة بسلوكهم وسيرتهم. فإذا كانوا متمتعين بالقوة والعزّة والنجاح والصلاح فإنما يكون ذلك بسبب ما يقوم عليه سلوكهم من أسس الاستقامة والحق فلا تتبدل حالتهم من الحسن إلى السيء إلا إذا انحرفوا عن الطريق القويم الذي يسيرون فيه. وإذا كانوا ضعافا يقاسون الويل والذلّ والفقر(5/525)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
والفوضى فإنما يكون هذا بسبب ما يقوم عليه سلوكهم من انحراف وإهمال وفساد فلا تتبدل حالتهم من السيء إلى الحسن إلا إذا عدلوا عمّا هم فيه وساروا في طريق الصلاح والاستقامة. وفي هذا ما هو ظاهر من الاتساق مع حقائق الأشياء. والإطلاق في الجملة يجعل مداها المشروح شاملا لجميع الناس والبيئات والطبقات والملل والنحل والحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولذلك فإنها تصحّ أن تعد من أمهات وجائز الحكم والأمثال والشواهد القرآنية البليغة. وفي سورة الأنفال آية فيها بعض المشابهة لهذه وهي:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. [53] على أن الجملة التي نحن في صددها أشمل بسبب إطلاقها الذي يتناول حالتي النعمة والنقمة معا.
وفي الجملة كما هو واضح صراحة بأن الناس يتحملون مسؤولية كسبهم بقابليتهم لتغيير ما في أنفسهم بإرادتهم مما هو متّسق مع التقريرات القرآنية التي نبّهنا عليها في المناسبات العديدة السابقة.
أما الجملة الثانية فليس فيها ما يفيد أن إرادة الله تعالى بقوم سوءا تكون جزافا وبدون سبب. بل إن الجملة الأولى من الآية تمنع ورود هذا الخاطر. وكل ما أرادت تقريره هو عدم قدرة أحد على منع السوء الذي تشاء حكمته إنزاله بقوم ما. وروح الجملة الأولى قوية الإلهام بأن ذلك إنما يكون حين ينحرف القوم عن الحق والهدى إلى البغي والضلال فيغير الله ما بهم وينزل نقمته عليهم. وهناك آيات فيها توضيح وتفسير ودعم حاسم لذلك منها آية سورة القصص هذه: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وآية سورة هود هذه: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) .
[سورة الرعد (13) : الآيات 14 الى 15]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
.(5/526)
(1) ضلال: هنا بمعنى الباطل الذي لا غناء منه ولا نفع فيه.
(2) الغدوّ: أول النهار.
(3) الآصال: جمع أصيل وهو آخر النهار.
في هاتين الآيتين:
1- تقرير على سبيل التنديد بأن الدعوة إلى الله هي الدعوة للحقّ. فمن يدعو إليه إنما يدعو إلى حقّ. ومن يدعوه إنما يدعو حقا سميعا مستجيبا قادرا مطلق التصرف. في حين أن غيره من المعبودات التي يدعوها الكفار لا يستجيبون لهم بشيء لعجزهم عن أي شيء. وأن مثل دعائهم إياهم كمثل العطشان الذي يدعو الماء إليه بيده ليرتفع ويصل إلى فمه من نفسه وإنه لن يفعل لأنه جماد عاجز لا يسمع ولا يشعر. وهكذا يذهب دعاء الكفار هباء ولا يكون منه إلا الخسارة والحسرة لهم.
2- وتعقيب على ذلك يحتوي تقريرا بخضوع كل شيء لله. فله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها ويسجد له ظلال كل شيء فيهما أيضا في الغدو والآصال.
ولقد خمّن المفسر الخازن أن يكون الضمير في (له) عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن تكون الآية الأولى بسبيل تقرير كون دعوة النبي على عامر وأربد هي المستجابة لأنها حقّ. وفي هذا تكلف ظاهر لا يبرره روح الآية ولا نصها. والكلام في الآيات السابقة عن الله عز وجل ومظاهر قدرته وعظمة ملكوته ونواميسه. والمتبادر أن الآيتين هما استمرار للسياق. وعلى سبيل المثال بين الله عز وجل وبين الذين يدعوهم المشركون من دونه مقايسة تنطوي على التنديد والتسفيه.(5/527)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
ولقد تعددت تخريجات المؤوّلين والمفسرين لجملة طَوْعاً وَكَرْهاً. منها أن الملائكة والمؤمنين يسجدون طوعا والمنافقين يسجدون كرها. ومنها أن الكفار المشركين يسجدون بقوة السيف، ومنها أن هؤلاء يسجدون لله مضطرين حين ما يحيق بهم الخطر ويدعون الله مخلصين له الدين كي ينجيهم مما حكته آيات عديدة في سور سابقة «1» .
والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي بسبيل تقرير خضوع كل شيء في السموات والأرض لتصريف الله ومشيئته. وفي هذا يتساوى كل ما في الكون من طائعين وعصاة ومن جماد ونبات ومعالم علوية وسفلية. وقد قررت هذا آيات عديدة جاءت مطلقة منها ما مرّ تفسيره «2» . والمتبادر أن ذكر (ظلالهم) هو بقصد توكيد ذلك الخضوع الشامل.
وجملة بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ يمكن أن تكون في صدد السجود. كما يمكن أن تكون في صدد الظلال. فإذا صحّ الاحتمال الأول فيكون التعبير أسلوبيا قصد به جميع الأوقات لأن هذا هو ما تقتضيه روح الآية التي هي بسبيل تقرير خضوع كل شيء لله في كل وقت. وإذا صحّ الاحتمال الثاني فيكون بقصد تقرير كون الظلال المرئية المتحركة في غدوّ النهار وأصيله للأشياء والناس هي في حركاتها وسكناتها خاضعة لتصريف الله تعالى كما تخضع له أصولها.
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) .
__________
(1) انظر آيات سورة يونس [12 و 32] والعنكبوت [65] . [.....]
(2) انظر مثلا آيات سورة النحل [48- 49] .(5/528)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
الخطاب في الآية موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:
1- أمر بالتساؤل عمّن هو ربّ السموات والأرض وبالإجابة على ذلك بأنه هو الله.
2- وأمر ثان بتوجيه أسئلة تنطوي على التنديد والتسفيه إلى المشركين عمّا في اتخاذهم غيره أولياء ونصراء وشركاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فضلا عن غيرهم من سخف. وعما إذا كان يصح في عقل عاقل أن يسوى بين الأعمى والبصير وبين الظلمات والنور حتى تصحّ التسوية بين القادر والعاجز. وعما إذا كان شركاؤهم قد خلقوا شيئا مثل ما خلق الله فالتبس الأمر عليهم ورأوا فيهم قدرة أو مزية.
3- وأمر ثالث بتقرير كون الله وحده هو خالق كل شيء وأنه هو الإله المتفرّد في الألوهية القهّار الذي يعنو لعظمته كل شيء.
والآية متصلة بالسياق كذلك كما هو المتبادر. وقد يكون فيها قرينة أخرى على أن السياق هو بسبيل مشهد من مشاهد الجدل الوجاهي بين النبي والمشركين.
وأسلوبها جدلي قوي وملزم كما هو ظاهر.
والأمر بالإجابة على السؤال الأول من قبل النبي وإن كان يبدو بذاته غير ملزم للمشركين في سياق الجدل فإن ما جاء في آيات كثيرة مرّت أمثلة منها في سورة يونس [31] والمؤمنون [84- 86] والزخرف [9 و 87] من حكاية جوابهم واعترافهم بأن خالقهم وخالق الكون هو الله يمكن أن يكون قرينة على أن هذا الجواب قد جاء كتقرير حقيقة لا يكابر فيها الفريق الآخر. وهذا سائغ مألوف في مواقف الجدل والمناظرة. وفي مضمون بقية الآية قرينة قوية على هذا التوجيه.
[سورة الرعد (13) : آية 17]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)
.(5/529)
(1) الزبد: الرغوة والحبب الذي ينعقد على وجه السوائل عند شدّة حركتها أو غليانها.
(2) رابيا: عاليا على السطح.
(3) جفاء: هباء. وهي من جفأه السيل أي رمى به.
في هذه الآية تمثيل للحقّ والباطل وعاقبة كل منهما: فالله ينزل من السماء الماء فتسيل به الوديان بالقدر المقدر له فيعلو على سطحه من شدّة الحركة والجريان زبد ورغوة. والمعدن الذي يوقد الناس تحته النار لصنع الحلي والأدوات الأخرى يظهر على سطحه كذلك زبد وحبب من شدّة الغليان والحرارة. فكما أن الرغوة والزبد والحبب لا يلبث أن يزول حين خمود حركة السيل أو الحرارة ولا يبقى إلّا النافع الحقيقيّ من الماء أو المعدن فكذلك الباطل الذي ليس هو إلّا كالرغوة والزبد لا أصل له ولا مادة ولا يحصل إلّا في الحركة الصاخبة فإنه لا يلبث أن يزول ويزهق حين الموازنة الهادئة ولا يبقى ثابتا قائما إلّا الحقّ الذي هو النافع الحقيقي.
والآية متصلة بالسياق، والتمثيل متصل بعقيدتي التوحيد والشرك اللتين ووزن بينهما في الآية السابقة وندد فيها بالمشركين الذين يتخذون شركاء لا نفع ولا قدرة لهم كما هو المتبادر. والتمثيل قوي مقتطع من مشاهد السامعين ومألوفهم كما هو ظاهر، وفي الآية مثل من روائع الأمثال التي احتوى القرآن طائفة منها مرّت أمثلة منها في السور السابقة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت(5/530)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
منها أجادب فأمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقّه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» . وينطوي في الحديث صورة تطبيقية للمثل الذي احتوته الآية كما هو المتبادر.
والتمثيل وإن كان متصلا من حيث السياق بعقيدتي التوحيد والشرك وما في الأولى من حقّ قائم نافع ودائم وفي الثانية من باطل وسخف ووهم فإنه بإطلاقه يصحّ أن يكون عامّ التطبيق شامل التلقين في كل متناقضين كالحقّ والباطل والصدق والكذب والإيمان والنفاق والكفر والجد والتهريج والعقل والهوى والعلم والجهل والنظام والفوضى إلخ وفي وجوب التمسك بالأولى دون الثانية وتأييدها.
[سورة الرعد (13) : آية 18]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)
. وفي هذه الآية:
1- بشرى للذين استجابوا إلى دعوة الله فآمنوا به وصدقوا برسالة رسوله، فلهم العاقبة الحسنى.
2- وتنديد وإنذار للذين لم يستجيبوا: فإن لهم سوء الحساب ومأواهم جهنّم وبئست هي من مضجع ومهاد. وأن مصيرهم من السوء والهول بحيث لو كان لهم ما في الأرض ومثله لهان عليهم أن يفدوا به أنفسهم!.
وظاهر أن الآية متصلة بالسياق ومعقبة عليه. ومستهدفة لتثبيت المؤمنين وتطمينهم وإرهاب الكفّار المشركين وحملهم على الندم والارعواء قبل فوات الوقت.(5/531)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 25]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
. (1) يدرأون: يدفعون.
تساءلت الآية الأولى تساؤلا استنكاريا عمّا إذا كان يصحّ التسوية بين الذي رأى نور الحق فشعّ في قلبه فاهتدى وتيقّن بأن ما ينزل على النبي إنما هو من الله، وبين أعمى القلب والبصيرة ثم قررت: إنما يعقل هذا ويتذكر به ذوو العقول السليمة.
ثم احتوت الآيات التالية وصفا قويّا محببا لمن يشع الإيمان في قلوبهم ويهتدوا بهدى الله ورسوله. فهم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ما ارتبطوا به من مواثيق. ويصلون ما أمر الله به أن يوصل من رحم وبرّ ومعونة وتسديد وإصلاح. ويحسبون حساب الوقوف بين يدي الله ويستشعرون خشيته. ويصبرون على الشدائد والمواقف الصعاب في سبيل الله وابتغاء رضوانه وحسب. ويقومون بواجباتهم التعبديّة. وينفقون المال في السرّ والعلن في وجوه البرّ والمعروف.
ويتقون عواقب الهنوات والسيئات ويدفعونها بالحسنات وأعمال الخير. فهؤلاء لهم خير الجزاء والتكريم في الآخرة ولمن سار على طريقتهم القويمة من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. حيث يدخلون الجنة ويتلقون تحية الملائكة من كلّ صوب.
واحتوت الآية الأخيرة بالمقابلة وصفا قويا لمن أظلمت قلوبهم وخبثت(5/532)