(3) السيارة: كناية عن قافلة التجارة أو أصحابها.
(4) وإنا له لناصحون: إنا له مخلصون لا نريد له إلا الخير.
(5) أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا: معظم الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أن الضمير في لَتُنَبِّئَنَّهُمْ عائد إلى يوسف وأن الله أوحى إليه بما كان من تآمر إخوته عليه على سبيل التطمين والتسلية مخبرا إليه أنه سوف يخبرهم بمؤامرتهم.
(6) نستبق: نتبارى في السباق.
(7) وما أنت بمؤمن لنا: أي وما أنت بمصدقنا.
(8) سولت لكم أنفسكم أمرا: زينت لكم أنفسكم أمرا مكروها.
(9) واردهم: الوارد هو الشخص الذي يرد الماء للاستقاء وقد أرسل أصحاب القافلة واردهم للاستقاء من البئر.
(10) أدلى دلوه: أنزل دلوه للبئر.
(11) أسرّوه بضاعة: أخفوه واعتبروه بضاعة للبيع.
(12) شروه: باعوه، وهي من الأضداد.
(13) كانوا فيه من الزاهدين: بمعنى أنهم باعوه بالثمن البخس بدون تمسك به ورغبة في الخلاص منه.
تعليق على الحلقة الأولى من قصة يوسف
هذه الآيات هي الحلقة الأولى من قصة يوسف، ومعانيها واضحة. والآية الأولى قد تدل على أن الوحي القرآني بالقصة كان بسبب سؤال بعض الناس عنها.
والآية الأولى تفيد أن سائلا سأل عن قصة يوسف وإخوته، وبعض المفسرين يروون أن السؤال من يهودي والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآية المذكورة مدنية. والرواية غريبة لأن فصول القصة مكية النزول والآية مفتاح لهذه الفصول.
ولم نطلع على تأييد لهذه الرواية، ونحن نشك في الرواية ونشك في كون السؤال من يهودي لأنه يكون على سبيل التعجيز. واليهود الذين كانوا في مكة قليلون وقد(4/13)
آمنوا بالرسالة النبوية والقرآن. ونرجح أن السؤال من بعض المسلمين ويتبع هذا الترجيح أن يكون الناس في مكة ومنهم المسلمون كانوا يسمعون شيئا من القصة فأراد السائل المسلم أن يعرفها عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية تنبيه إلى ما في قصة يوسف من آية وعبرة لمن يريد أن يسأل ويعتبر. وقد شاءت حكمة التنزيل أن يبرر ذلك في أسلوب الآيات وهي تحكي القصة في هذه الحلقة والحلقات الأخرى كما هو شأن القصص القرآنية عامة. ومما يرويه المفسرون عن أهل التأويل أن الشمس والقمر والكواكب في الآيات هي كناية عن أبوي يوسف وإخوته الأحد عشر. وهذا سديد. وقد أشارت إليه إحدى الآيات في آخر حلقات القصة. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة مروية عن التابعين وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول فيها زوائد كثيرة عما جاء في هذه الحلقة وحلقات القصة الأخرى في السورة. منها ما هو المتطابق مع ما جاء عنها في سفر التكوين المتداول اليوم. ومنها ما هو غير متطابق أو زائد عنه. وهذا يؤيد أن القصة كانت غير مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وطبيعي أن ذلك من طريق اليهود لأن القصة كما قلنا وردت مفصلة في سفر التكوين الذي كان بين أيديهم. وليس من المستبعد أن يكون ما رواه علماء الأخبار من الزوائد كان مما يرويه اليهود أيضا عزوا إلى أسفار وقراطيس أخرى كانت في أيديهم أو روايات كانوا يتداولونها.
ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيراد ما أوردوه أو ملخصه لا بالنسبة لهذه الحلقة ولا الحلقات التالية اكتفاء بما شاءت حكمة التنزيل أن يحتويه القرآن من خلاصات عنها مرصعة بما فيه الحكمة والموعظة والعبرة.
ولقد احتوت هذه الحلقة ما كان من الحيل التي احتال إخوة يوسف على أبيهم والمكيدة التي كادوها لأخيهم والتي أدت إلى تعريضه لخطر جسيم ثم إلى بيعه كعبد رقيق. وقد ذكر ذلك في الإصحاح (37) من سفر التكوين مع خلاف يسير غير جوهري. ونعتقد أن ما ورد في الآيات كان متداولا ومعروفا عن طريق اليهود وواردا في أسفار وقراطيس أخرى.(4/14)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
ومن شأن ما حكته آيات الحلقة من بشاعة حيلة الأبناء على أبيهم وخداعهم له وكذبهم عليه وبشاعة مؤامرتهم ومكيدتهم لأخيهم أن يثير الاشمئزاز من هذه الأفعال وهو من مواضع العبرة والموعظة في الحلقة.
[سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 35]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25)
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)(4/15)
(1) أكرمي مثواه: أحسني معاملته وكرمي إقامته.
(2) مكنا ليوسف في الأرض: أتحنا له أسباب التمكن والبروز فيها.
(3) راودته عن نفسه: طلبت منه إتيان الفاحشة معها.
(4) هيت لك: بمعنى هلمّ أقبل.
(5) إنه ربي أحسن مثواي: المقصود من ذلك الزوج لأنه كان مالك رقبة يوسف.
(6) همّت به: بمعنى اشتد عزمها وإلحاحها عليه.
(7) همّ بها لولا أن رأى برهان ربه: تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في تأويل الجملة، ومما أوردوه ورووه عن تابعين وصحابيين في جملة وَهَمَّ بِها أنه همّ بدفعها عنه أو ضربها أو همّ للاستجابة لها وأنه حلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من المرأة وكان من الممكن أن يواقعها لولا أن رأى برهان ربه، ومما أوردوه ورووه في جملة بُرْهانَ رَبِّهِ أن الله نبهه بالوحي إلى ما في ذلك من جريمة أو أنه أدرك ذلك بقوة النبوة التي أودعها الله فيه، أو أنه رأى أباه يهتف به منبها أو بالكتابة على الحائط أو على معصمه إلى ما في الزنا من جريمة أو أرسل الله إليه جبريل منبها محذرا، وكل هذه التأويلات وارد بالنسبة لمدى العبارة القرآنية مع القول أنه ليس شيء منها واردا في كتب الصحاح.
(8) استبقا الباب: سارعا إلى باب الدار متسابقين، وتفيد الجملة أنه فرّ منها فلحقت به.
(9) قدّت: مزقت.
(10) من دبر: من ناحية ظهره.
(11) ألفيا: وجدا.(4/16)
(12) العزيز: كناية عن منصب الذي اشترى يوسف ويدل على أنه منصب كبير في الدولة.
(13) قد شغفها حبا: لامس حبه شغاف قلبها أي غلافه، والجملة كناية عن شدة حبها وهيامها.
(14) بمكرهن: بأقوالهن وتنديدهن.
(15) أرسلت إليهن: دعتهن.
(16) أعتدت لهن: هيأت لهن.
(17) متّكأ: مقاعد يتكئون عليها وهناك من قال إن المتكأ هو الأترج أي نوع فاكهة يقطع بالسكين والقول الأول هو الأوجه كما هو المتبادر وفيها ما يفيد أنها هيأت لهن ما يقطع بسكين ويؤكل.
(18) أكبرنه: كبر وعظم في أعينهن لما عليه من بهاء وجمال.
(19) حاش لله ما هذا بشرا: حاش لله هنا في مقام اليمين والتوكيد بأن يوسف ليس بشرا لأن جماله فوق جمال البشر.
(20) لمتنني فيه: وجهتن اللوم إليّ بسببه.
(21) فاستعصم: فامتنع.
(22) من الصاغرين: من المهانين الذليلين.
(23) حتى حين: أي إلى أجل ما.
تعليق على الحلقة الثانية من قصة يوسف
الآيات حلقة ثانية من قصة يوسف، ومعانيها واضحة، وقد فسرنا بعض مفرداتها وجملها لتكون أكثر وضوحا. ولا حاجة إلى شرحها بأداء آخر وقد ورد ما فيها في الإصحاح (39) من سفر التكوين المتداول بشيء من الخلاف. فليس فيه مسألة تمزيق الرداء وليس فيه أنه همّ بها لولا أن رأى برهان ربه. وإنما فيه أنها دعته إلى نفسها مرة بعد أخرى فكان يأبى ويقول كيف أخطئ إلى الله وأفعل هذه السيئة العظيمة. وأخطئ بحق سيدي الذي ترك لي إدارة البيت ما عداك لأنك الجزء الرابع من التفسير الحديث(4/17)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
زوجته ثم فرّ منها وترك رداءه في يدها. وليس فيه ما قاله النسوة عن امرأة العزيز ودعوتها إياهن وتقطيعهن أيديهن. وليس فيه كذلك قصة شهادة الشاهد من أهل الزوجة، وفيه أن زوجها غضب على يوسف حينما زعمت زوجته أنه راودها عن نفسها وأودعه الحصن الذي يسجن فيه سجناء الملك لأنه كان رئيس شرطة مصر.
ونعتقد أن ما جاء في الآيات هو الذي كان متداولا عن طريق اليهود ومذكورا في الأسفار التي كانت في أيديهم وفي كتب التفسير بيانات حول هذه المباينات تؤيد كون ما جاء في القرآن كان متداولا معروفا.
ومن مواضع العبرة في الحلقة رعاية الله ليوسف وعنايته به وتمكينه في الأرض وصرفه عن السوء والفحشاء لأنه كان مخلصا له محسنا في أعماله ونواياه، وتنويهه به لأنه ثبت أمام التجربة فلم ينزلق في المهاوي المهلكة اتقاء لغضب الله واستشعارا بواجب الحق والوفاء، حيث ينطوي في ذلك حثّ على التمسك بأهداب الفضيلة والصدق والأمانة والاستقامة والوفاء، وإشارة إلى ما يناله أصحاب هذه الأخلاق من تكريم الله ورعايته.
[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 57]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)(4/18)
(1) فتيان: شابان.
(2) بتأويله: بأمره أو بشأنه.
(3) يا صاحبي السجن: يا رفيقيّ في السجن.(4/19)
(4) أأرباب: آلهة.
(5) ربه: هنا بمعنى سيده أو ملكه.
(6) ذكر ربه: تذكير سيده بأمر يوسف.
(7) عجاف: نحاف أو هزيلات.
(8) تعبرون: تعبّرون أو تفسرون.
(9) أضغاث أحلام: تخليط الأحلام.
(10) الذي نجا منهما: من رفقاء يوسف في السجن الذي نجا من الموت.
(11) ادّكر: تذكر.
(12) بعد أمة: بعد مدة ما.
(13) دأبا: باستمرار وجد.
(14) مما تحصنون: مما تخزنونه وتصونونه.
(15) يغاث الناس: ينزل الغيث على الناس أي تمطر السماء.
(16) يعصرون: يعصرون الثمار. كناية عن جودة الموسم.
(17) الآن حصحص الحق: بان الحق أو الآن يجب إظهار الحق.
(18) وما أبرىء نفسي: قيل إنها حكاية لقول يوسف على سبيل التواضع وذكر رحمة الله التي عصمته وقيل إنها تتمة لكلام امرأة العزيز على سبيل الاعتذار.
(19) أستخلصه لنفسي: أختص به لخدمتي.
(20) لدينا مكين أمين: أنت عندنا صاحب مكانة وأمانة.
تعليق على الحلقة الثالثة من قصة يوسف
وهذه حلقة أخرى من حلقات قصة يوسف وآياتها واضحة المعنى وقد احتوت قصة سجنه وتعبيره لرؤيتي رفيقيه في السجن وتعبير رؤيا الملك وتعيين الملك ليوسف في منصب خازن المملكة. وقد ورد ما جاء في الآيات في الإصحاحين (40 و 41) من سفر التكوين المتداول بشيء من التفصيل عدا طلب(4/20)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
يوسف سؤال النسوة وتبرئة زوجة العزيز ليوسف واعترافها بمراودتها إياه وبأنه صادق فيما قال. ونعتقد أن هذا مما كان متداولا أو واردا في نصوص السفر أو في أسفار أو قراطيس أخرى كانت في أيدي اليهود. وفي كتب التفسير روايات عن علماء الأخبار والتابعين تدور في نطاق ما جاء في الآيات حيث يؤيد هذا ما قلناه.
ومن العبر التي تخللت الحلقة اهتمام يوسف للتبشير بالله والحملة على الشرك في داخل السجن وانشغاله بذلك عما هو فيه حيث ينطوي في هذا حثّ على وجوب الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق في كل ظرف ومكان.
ومنها اهتمام يوسف لتبرئة نفسه حيث ينطوي في هذا حثّ على وجوب تبرئة النفس من التهم الكاذبة وحقّ الإنسان البريء في ذلك.
ومنها تراجع امرأة العزيز واعترافها بالحق حيث ينطوي في هذا حثّ على وجوب الصدق والاعتراف بالحقّ ولو على القائل، والتوبة من الذنب.
ومنها ما كان من ثقة الملك بيوسف لما رآه فيه من أمارات الصدق والأمانة والاستقامة حيث ينطوي في هذا حث على التزام هذه الأخلاق وفائدتها لأصحابها.
ومنها تقرير ما كان من رعاية الله تعالى ليوسف وعدم تضييعه أجر العاملين المتقين المؤمنين في الدنيا والآخرة مع التنويه بخاصة بأجر الآخرة الأكبر لأنه الأدوم. حيث ينطوي في هذا حث على الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وبشرى لأصحابها برعاية الله الدائمة في الدنيا والآخرة.
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 102]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82)
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)(4/21)
(1) منكرون: لم يعرفوه.
(2) جهزهم بجهازهم: كناية عن إعطائهم حاجتهم وتهيئتهم للسفر.
(3) لا كيل لكم عندي: ليس لكم عندي مؤونة تكتالونها.
(4) فتيانه: رجاله وخدمه.
(5) بضاعتهم: معظم المفسرين قالوا إن الكلمة كناية عن ثمن المئونة التي أخذوها حيث ردها يوسف إليهم بغير علمهم. وهذا ما ورد في سفر التكوين المتداول أيضا (الإصحاح 42) .
(6) رحالهم: أوعيتهم أو أكياسهم.
(7) متاعهم: أوعيتهم أيضا.
(8) ما نبغي: إما بمعنى أننا ماذا نطلب أكثر مما حصل لنا على سبيل التنويه، أو بمعنى ماذا نقصد من إبلاغك طلب العزيز منا إن لم يكن الحق، ورد البضاعة شاهد على صدقنا.
(9) نمير أهلنا: نمون أهلنا.
(10) ونزداد كيل بعير: أي حينما يزيد عددهم واحدا يزداد عدد دوابهم التي تحمل المئونة واحدا بالتبعية.
(11) يسير: هنا بمعنى كثير.
(12) موثقا من الله: عهدا عليكم أمام الله أو تقسمون لي بالله.
(13) إلّا أن يحاط بكم: إلّا أن تغلبوا جميعكم أو تهلكوا جميعكم.
(14) آوى إليه أخاه: أدخله عليه وحده.(4/24)
(15) فلا تبتئس: فلا تحزن ولا تهتم.
(16) السقاية: الإناء الذي يسقى به.
(17) أذن مؤذن: نادى مناد.
(18) العير: القافلة أو أهل القافلة.
(19) صواع: مرادفة للسقاية.
(20) أنابه زعيم: أنابه كفيل، وفي الجملة توكيد لمنع حمل البعير من المئونة لمن يأتي بالصواع المفقود.
(21) إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل: قال المفسرون إنهم عنوا بذلك يوسف، لأنه شقيق الذي وجدت السقاية في رحله ورووا خبر سرقة أتاها يوسف في صغره.
(22) فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم: كتم يوسف أمره ولم يظهر أنه عرف ما عنوا.
(23) أنتم شرّ مكانا: أنتم أسوأ من يوسف وأخيه.
(24) تصفون: هنا بمعنى تزعمون أو تقولون.
(25) فلما استيأسوا منه: فلما يئسوا من إجابته لمطلبهم.
(26) خلصوا نجيا: انفردوا ببعضهم للتشاور في أمرهم.
(27) فلن أبرح الأرض: فلن أغادر البلد الذي أنا فيه.
(28) القرية: بمعنى المدينة أو أهل المدينة.
(29) الكظيم: الكظم لغة امتلاء القربة أو الوعاء. والكلمة في مقامها بمعنى امتلأت نفسه حزنا.
(30) تفتأ: ما تزال أو تستمر.
(31) حرضا: مشرفا على الهلاك من إنهاك الجسم والحزن.
(32) بثّي: همي وحزني، أو شكواي.
(33) تحسسوا: تحروا وابحثوا.
(34) روح الله: هنا بمعنى رحمة الله.(4/25)
(35) ببضاعة مزجاة: ببضاعة قليلة، أو ناقصة، أو ليست جيدة، والجملة على سبيل الاعتذار وإظهار حالة الفقر.
(36) لقد آثرك: لقد فضلك.
(37) لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم: لا لوم ولا عتاب اليوم، والجملة بمعنى أنه صفح عنهم وسأل الله أن يغفر لهم.
(38) ولما فصلت العير: ولما غادرت القافلة أرض مصر.
(39) لولا أن تفندون: الفند بمعنى الخرف، والمقصود بالجملة لولا أن تسفهوني وتنسبوا لي الخرف بما أقول.
(40) تأويل رؤياي: تحقيق رؤياي.
(41) وجاء بكم من البدو: البدو هنا بمعنى البادية.
تعليق على الحلقة الرابعة والأخيرة من قصة يوسف
وهذه حلقة من قصة يوسف أيضا وهي الأخيرة، ومعاني الآيات واضحة وقد احتوت حكاية ما كان بين يوسف وإخوته حينما جاءوا ليتموّنوا من مصر إلى أن عرّفهم بنفسه وأحضر أبويه وسائر أهله وأسكنهم في مصر.
وفي الإصحاحات [42 و 43 و 44 و 45 و 46] من سفر التكوين المتداول حكاية ذلك مع شيء من الخلاف. ونعتقد أن ما جاء في الآيات هو ما كان متداولا وواردا في نسخة من التكوين، أو كان في أسفار وقراطيس أخرى. وفي كتب المفسرين روايات معزوة إلى ابن عباس وغيره والتابعين وعلماء الأخبار القدماء تدور في نطاق ما جاء في الآيات حيث يؤيد هذا كون ما جاء في الآيات كان متداولا.
والآية الأخيرة تثير نفس الإشكال الذي تثيره الآية الأخيرة من قصة نوح في سورة هود. وقصة يوسف مذكورة بإسهاب في سفر التكوين اليوم وكان هذا السفر(4/26)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
متداولا بين أيدي الكتابيين الذين كان منهم جماعات كثيرة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
وربما كانت واردة في قراطيس أخرى. ولا يمكن أن تكون مجهولة. والبيانات التي يرويها المفسرون عن علماء زمن النبي صلى الله عليه وسلم دليل على ذلك فلا مندوحة والحالة هذه من تأويل هذه الآية بمثل تأويل الآية الأخيرة من قصة نوح في سورة هود الذي سبق إيراده.
ومما تخلل آيات الحلقة من العبر ما كان من إذن الله تعالى ليوسف بالكيد لإخوته مقابل كيدهم حيث ينطوي في هذا إذن مقابلة العدوان والكيد بالمثل.
ومنها التعقيب المباشر في آخر الآية [76] الذي ينطوي فيه بليغ التلقين والتنبيه والتأديب لكل من يتسم بالعلم أو يدعيه بأن لا يغلو في دعواه ولا يظنن أنه بلغ من العلم الغاية، وأنه مهما بلغ فيجب عليه أن يتيقن أنه لا بد من أن يكون من هو أعلم منه أو أن هناك ما يمكن أن لا يكون عالما به.
ومنها ما كان من ندم أخي يوسف الكبير أولا ثم بقية إخوته على ما فعلوه في يوسف واعترافهم بخطئهم له ولأبيهم وطلبهم الاستغفار لهم حيث ينطوي في هذا حث على وجوب الاعتراف بالذنب والتوبة إلى الله منه.
ومنها ما كان من أمر يعقوب لبنيه بالبحث والتحري وعدم اليأس من روح الله حيث ينطوي في هذا تلقين عام بالأمل دائما في رحمة الله وفرجه.
ومنها تنويه يوسف بعاقبة المحسنين الصابرين المتقين، وعناية الله به بسبب ذلك حيث ينطوي في هذا حث على الصبر في الشدائد وتقوى الله في كل حال وبشارة مستمرة للصابرين المتقين المحسنين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 103 الى 107]
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)(4/27)
(1) ولو حرصت: مهما اشتد حرصك.
(2) غاشية: ما يغشى الناس ويحل بهم أو يظلهم.
تعليق على الآيات التي أعقبت قصة يوسف
احتوت الآيات تقريرات عن حقيقة موقف أكثر الناس من سامعي القرآن وهم الكفار وقد وجه الخطاب في الآيتين الأولى والثانية منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمهما اشتد حرصه على هداية الناس فإن أكثرهم بعيد عن التصديق والإيمان، في حين أنه لا يطلب منهم أجرا ولا ينتظر لنفسه نفعا، وليست رسالته ودعوته إلا لخيرهم وتذكيرهم وإرشادهم ولخير العالمين جميعا وتذكيرهم. وغفلتهم ليست قاصرة على التصامم الذي يبدونه إزاء الدعوة النبوية ففي السموات والأرض كثير من الآيات والبراهين التي من شأنها أن تسترعي الأذهان وتنبه العقول وتوقظ الضمائر ومع ذلك فإنهم يمرون عليها غافلين غير آبهين ولا متذكرين. بل إن غفلتهم ليست قاصرة على هذا وذاك. فإنهم مع اعترافهم بالله وزعمهم أنهم يؤمنون به فإن قلوبهم غافلة عن مقتضيات هذا الإيمان بدليل أن تصرفهم هو تصرف المشركين حيث يشركون مع الله في عبادتهم واتجاههم شركاء غيره، وقد انتهت الآيات بالتساؤل الذي ينطوي على التقريع والإنذار، فهذا الموقف الذي يقفونه لا يقفه إلّا من أمن عذاب الله في الدنيا، أو مفاجأة الساعة الرهيبة التي يأتي عذاب الله الخالد بعدها، فهل أمنوا ذلك العذاب أو هذه المفاجأة حتى يقفوا هذا الموقف العجيب؟.
وواضح أن الآيات قد استهدفت تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته في موقفه إزاء وقوف أكثر العرب موقف التصامم من دعوته والانصراف عنها ومناوأتها، وتقريع الكفار وشرح مهمة النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء وصراحة وهي الدعوة إلى الله دون انتظار أجر أو نفع.(4/28)
ومع أنه يبدو أن لا رابطة بين هذه الآيات والسلسلة القصصية الطويلة التي سبقتها فإنه يلمح أن بين الآية الأخيرة من السلسلة والآية الأولى من هذه الآيات رابطة ما. فتلك تتضمن توكيد كون السلسلة وحيا ربانيا، وهذه تذكر أن أكثر الناس مع ذلك لا يؤمنون بهذا الوحي الذي ينزل بالقرآن. كما أن الآية الأخيرة من السورة التي هي جزء منسجم من الآيات التي جاءت بعد السلسلة القصصية قد ربطت بينهما بما احتوته من التنبيه إلى ما في قصص القرآن من العبرة، ومن التأكيد بأنها ليست حديثا مفترى ولكنها وحي من الله سبحانه لتكون هدى ورحمة للمؤمنين حيث يسوغ كل هذا القول إن هذه الآيات وما بعدها قد جاءت بمثابة التعقيب على السلسلة القصصية.
ولقد أعقبت آيات قصة موسى وفرعون في سورة القصص التي بينها وبين هذه السورة تشابه من حيث البداية والدخول رأسا في موضوع القصة آيات ربطت بين هذه القصة وما بعدها ربط تعقيب واستطراد. وهكذا يبدو الانسجام رائعا في النظم القرآني.
استطراد إلى ما يفعله بعض المسلمين من أفعال فيها سمة من سمات الشرك
ولقد استطرد ابن كثير في سياق الآية وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ إلى ما يفعله كثير من المسلمين من أفعال يرتكسون فيها بشكل ما في الشرك كالحلف بغير الله والاستعانة والتعلق بغير الله وتعليق التعاويذ والرقى والتمائم والتطير وسؤال العرافين والكهان والرياء فيما يباشرونه من أعمال فيها طاعة ويكون قصدهم اكتساب المديح والشهرة دون ابتغاء مرضاة الله تعالى. وأورد في ذلك أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن ابن عمر قال:
«سمعت رسول الله يقول من حلف بغير الله فقد أشرك» . وحديث رواه أبو داود عن(4/29)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قبيصة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العيافة والطيرة والطرق من الجبت» .
وحديث رواه مسلم وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» . وحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود جاء فيه: «إن الرقى والتمائم شرك» . وحديث رواه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه:
«من تعلق شيئا وكل إليه» . وحديث رواه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «من علق تميمة فقد أشرك» . وحديث رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال:
الرياء» . وحديث رواه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشرك فهو أخفى من دبيب النمل» . وفي رواية «الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل» .
والاستطراد سديد، وفي الأحاديث تحذير للمسلمين من الارتكاس في هذه الأفعال التي فيها سمة ما من سمات الشرك.
[سورة يوسف (12) : آية 108]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
أمرت الآية النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن للناس هدف مهمته، وهو الدعوة إلى الله وحده دعوة جلية صريحة، وتنزيهه عن الشركاء وبراءته من الشرك والمشركين، وثباته هو ومن آمن به على هذه السبيل الواضحة مهما أصر المشركون على موقفهم وظلوا في غفلتهم عن تدبر الأمور وإدراك الحقائق والاستجابة إلى الدعوة.
والصلة بين الآية والآيات السابقة واضحة وفيها استمرار في تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته وتثبيته وشرح لمهمته.
توضيح لمدى سبيل الله وواجب المسلمين عامة والدعاة الإصلاحيون منهم خاصة إزاء الدعوة إليها والثبات عليها
وسبيل الله التي أمر الله رسوله بأن يقول إنه يدعو إليها هو ومن اتبعه هي الرسالة الإسلامية وما انطوى فيها من مبادئ إيمانية وسياسية واجتماعية واقتصادية(4/30)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
وأخلاقية وسلوكية ويكون في الآية والحالة هذه خطاب لكل مسلم ومسلمة في كل ظرف ومكان بوجوب الدعوة إليها والاستمرار والثبات عليها.
ولا تخلو الآية بالإضافة إلى ذلك من تلقين مستمر المدى لكل داع مصلح من المسلمين إلى سبيل الله هذه بوجوب الثبات على دعوتهم الإصلاحية وعدم المبالاة بمن خالفها وناوأها. والله أعلم.
[سورة يوسف (12) : آية 109]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
في الآية تقرير بأن الله تعالى لم يرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا رجالا مثله من أهل البلاد. وسؤال يتضمن معنى التنبيه والإنذار عما إذا كان الكفار لم يطوفوا في البلاد ولم يروا عاقبة الأمم التي وقفت مثل موقفهم مما لا يصح أن يكون من عاقل. وتقرير آخر بأن الدار الآخرة هي خير وأفضل للذين اتقوا الله، وأن عليهم أن يعقلوا هذه الحقيقة أيضا وقد تضمنت جملة أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) [109] تبكيتا للكفار الذين خوطبوا بها لأنهم لم يدركوا هذه الحقيقة.
والآية متصلة بالسياق كما هو المتبادر وفيها استمرار في تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمن السؤال الوارد فيها معنى التقرير بأن الكفار قد طافوا في الأرض ورأوا بأعينهم مشاهد تدمير الله للأقوام السابقين، وفي هذا حجة ملزمة كما هو ظاهر.
[سورة يوسف (12) : آية 110]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
لقد تعددت التأويلات المروية للشطر الأول من الآية كما تعددت الروايات في قراءة (كذبوا) حيث قرئت بضم الكاف وتشديد الذال كما قرئت بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال تبعا للتأويلات المروية. ومن هذه التأويلات ما روي عن(4/31)
ابن عباس وهو أن معنى الآية: «حتى إذا يئس الرسل من أن يستجيب قومهم لهم وظنّ قومهم أن رسلهم قد كذبوا عليهم بما أوعدوهم به من عذاب» ومنها تأويل آخر عن ابن عباس أيضا: «حتى إذا يئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا (بفتح الكاف) بما وعدوا به الكافرين والمؤمنين من عذاب للأولين ونجاة للآخرين بسبب إبطاء الله تعالى في تحقيق ذلك» .
وعلل ابن عباس حسب الرواية موقف الرسل هذا بأنه مظهر من مظاهر الضعف البشري. ومن التأويلات تأويل مرويّ عن عائشة: «حتى إذا يئس الرسل وظنّ من آمن بهم من قومهم أنهم كذبوا عليهم بسبب تأخر ما وعدوا به» . وعللت عائشة حسب الرواية تأويلها بتنزيه الرسل عن الظن بأن الله أخلف بما وعدهم.
ومن التأويلات تأويل عن الحسن: «أن الرسل لما يئسوا من قومهم واستيقنوا من تكذيبهم لهم أنهم لا يرجى منهم إيمان وخير أرسل الله عليهم عذابه فنجّى المؤمنون وأهلك المجرمون» . ونحن نرى هذا التأويل أوجه التأويلات. وقد فسر الحسن كلمة (ظنوا) بمعنى (استيقنوا) وهو صواب يزول به على ما يتبادر لنا الإشكال الذي يبدو أن المؤولين رأوه في الآية. وعلماء اللغة يقررون أن فعل (ظن) يأتي بمعنى (أيقن) ، وقد جاء في هذا المعنى في سورة الكهف وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) .
وهكذا تكون الآية قد احتوت تقرير سنة الله تعالى من أنبيائه وأقوامهم، فقد كان معظم الأنبياء يدعون أقوامهم وظل معظم أقوامهم يقابلون الدعوة بالعناد والمناوأة فكان كل ما انقطع أمل الرسل من ارعواء أقوامهم واستيقنوا أنهم لن يلقوا من قومهم إلّا التكذيب جاءهم نصر الله فكان فيه تدمير المجرمين المكذبين ونجاة الرسل والمؤمنين. وهذه الصورة هي غالبية صور الأنبياء وأقوامهم كما حكاها القرآن مكررا في سور عديدة.
وتكون الآية بذلك متصلة هي الأخرى بالسياق السابق، ومعقبة عليه وفيها تطمين وتثبيت وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنذار للكافرين المكذبين المجرمين.(4/32)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
[سورة يوسف (12) : آية 111]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
قررت الآية أن في قصص الرسل وأممهم التي يقصها القرآن عبرة وموعظة ينتفع بهما ذوو العقول، وأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما يدعو إليه ليس بدعا أو افتراء وإنما هو متطابق مع ما جاء في الكتب التي سبقت القرآن والأنبياء الذين نزلت عليهم، وأن فيه تفصيل كل شيء وفيه الهدى والرحمة لمن طابت سريرته ورغب في الهدى والإيمان.
وقد جاءت الآية خاتمة قوية للآيات التي أعقبت السلسلة القصصية وخاتمة قوية للسورة، ورابطة بين هذه السلسلة وبين الآيات التي جاءت بعدها، وداعمة للهدف القرآني العام من القصص وهو العبرة والموعظة بما في ذلك قصة يوسف التي هي موضوع السورة. وقد صرف معظم المفسرين «1» جملة ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى إلى القرآن عامة سواء في ذلك محكمه ومتشابهه وقصصه وغير قصصه، وفي هذا الصواب والحق على ما هو المتبادر.
وقد تبادر لنا إلى ذلك كله أن في جملة ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، دلالة على أن ما جاء في السورة من قصة يوسف أو ما جاء في السور الأخرى من قصص أخرى قد جاء في كتب وروايات سابقة للقرآن وليس فيه افتراء. وإذا صح هذا فيكون قرينة قرآنية على صحة ما قررناه في بحث القصص القرآنية في سورة القلم ونبهنا عليه في المناسبات العديدة الأخرى من أن هذه القصص مما كان متداولا معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم روايات على الألسنة وتسجيلات في كتب سابقة. والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر كتب التفسير السابق ذكرها آنفا.
الجزء الرابع من التفسير الحديث 3(4/33)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
سورة الحجر
في السورة حكاية لبعض أقوال الكفار ومناظراتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ولفت نظر إلى عظمة الله تعالى في كونه. وتذكير بقصة آدم وإبليس. وتذكير بمصائر بعض الأمم التي يمرّ العرب بديارهم المدمرة. وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتبشيرهم وإنذار ووعيد للكافرين.
وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا وذاك يلهمان أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة حتى تمّت، والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [87] مدنية. وانسجامها التام في السياق والموضوع يسوغ الشك في الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
(1) ربما: هنا بمعنى توقع الندم.
(2) كتاب معلوم: بمعنى أجل معين ومعلوم عند الله.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والراء التي بدأت بها السور الثلاث السابقة لها استرعاء لما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ولعل ذلك من(4/34)
قرائن تتابع السور الأربع في النزول الذي ذكرته الروايات، وقد أعقب الحروف إشارة تنويه وإشارة إلى آيات الكتاب والقرآن البليغة الواضحة مما جاء كذلك في مطالع السور الثلاث السابقة.
واحتوت الآيات الأربع التالية:
تقريرا ربانيا يتضمن معنى الإنذار بأنه سيأتي على الكفار يوم يتمنون فيه لو كانوا مسلمين ندما على ما كان منهم وتفاديا من العذاب الذي عرفوا أنه واقع عليهم، وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعهم يأكلون ويتمتعون ويتلهون بالآمال فلن يلبثوا أن يعلموا ويروا ذلك اليوم الرهيب. وتقريرا ربانيا بأن الله تعالى إذا لم يعجل لهم العذاب فإن ذلك لما اقتضته حكمته، وإن هلاك الأمم من قبلهم كان منوطا بآجال معينة في علمه، فلا تتقدم أمة عن أجلها ولا تتأخر عنه، وينطوي في هذا إنذار آخر كما هو المتبادر.
وواضح أن الآيات في صدد إنذار الكفار ووعيدهم بما ينتظرهم من المصير الرهيب الذي صار إليه من قبلهم. وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه. وهي مقدمة لما يأتي بعدها من حكاية أقوال الكفار ومواقفهم.
وهذه ثاني مرة يجتمع فيها تعبيرا (الكتاب) و (القرآن) في آية واحدة، وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يكون في ذلك من حكمة في سياق تفسير الآية الأولى من سورة النمل التي ورد فيها التعبيران معا فلا ضرورة للتكرار.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية أحاديث عديدة في معان متقاربة منها صيغة رواها الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أخرج أهل التوحيد من النار وأدخلوا الجنة ودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» «1» . وينطوي في
__________
(1) التاج ج 4 ص 137 والمتبادر أن المقصود بخروج أهل التوحيد من النار الذين كان عليهم ذنوب فأدخلوا النار لقضاء مدة ما عقابا عليها وهناك حديث رواه الشيخان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان» التاج ج 1 ص 27.(4/35)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
الأحاديث تبشير وإنذار متساوقان مع ما استهدفته الآية كما هو المتبادر.
[سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 8]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)
(1) الذكر: كناية عن القرآن.
(2) لو ما: مرادفة «لولا» بمعنى هلا للتحدي.
في الآيات حكاية لقول من أقوال الكفار وتحدياتهم حيث كانوا حينما يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ويقرر أنه وحي من الله يتحدونه مستهزئين معجزين بالإتيان بالملائكة ليؤيدوه إن كان صادقا في قوله، وينعتونه بالمجنون بسبب ما يخبر به ويقرره. وقد احتوت الآيات ردّا عليهم في صدد الملائكة بأن الله تعالى إنما ينزل الملائكة حينما يأتي الموعد المعين في علمه بالحق. وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهال الكفار وتأجيل هلاكهم وعذابهم.
ومع أن الله تعالى ينزل ملائكته بالحق في مهمات عديدة منها العذاب والتدمير على ما جاء في آيات كثيرة مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها فإن العبارة هنا تلهم أنها بسبيل العذاب والتدمير تنفيذا لوعيد الله واستهدافا لإنذار الكفار.
ولقد قرئت كلمة (ننزل) بصيغة (تنزل) فيكون الملائكة (فاعلا) والمعنى يظل على حاله في صحة أيّة من القراءتين.
ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيات التي تلهم أنها بسبيل حكاية مشهد من مشاهد المناظرة الوجاهية بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. وإذا صح هذا فتكون الآيات السابقة لها بمثابة مقدمة وتمهيد.(4/36)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
وتحدي الكفار النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالملائكة كدليل على صلته بالله تعالى قد تكرر منهم. وقد مر بعض أمثلة منه في سور هود والفرقان ويدل كما قلنا في المناسبات السابقة على عقيدة العرب بصلة الملائكة بالله تعالى أو بتعبير أدق باختصاص الملائكة بهذه الصلة.
وقد تكررت كذلك حكاية نعت الكفار للنبي بالمجنون، وروح الآية هنا تلهم بأنهم أرادوا بالنعت في هذا الموقف التنديد على نحو ما يقال لمن يقول قولا عظيما ويقف موقفا غريبا لا عهد به على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
[سورة الحجر (15) : آية 9]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
في الآية توكيد رباني بأن الله تعالى هو الذي ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وبأنه سيحفظه ويؤيده مهما كان موقف الكفار منه.
والآية متصلة بسابقاتها وبسبيل الردّ على الكفار الذين نعتوا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون وتحدوه بالإتيان بالملائكة حينما كان يقول إن القرآن منزل عليه من الله تعالى.
تعليق على ما في آية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من معجزة ربانية عظمى
ومع صلة الآية بسياق المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار فإنها صارت عنوان معجزة ربانية عظمى في حفظ الله تعالى قرآنه المجيد من كل تبديد وتغيير وتحريف وزيادة ونقص مجمعا عليه في رسم واحد ونص واحد ومصحف واحد وترتيب واحد في مشارق الأرض ومغاربها، محتفظا بكل إشراقه وسنائه وروحانيته ونفس ألفاظه وحروفه وأسلوب ترتيله وتلاوته التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبترتيبه الذي رتبه آيات في سور وسور في مصحف مما لم يتيسر لأي كتاب سماوي ولا لأي نبي.(4/37)
وما روى من جمع المصحف وتدوينه في زمن أبي بكر ثم في زمن عثمان رضي الله عنهما ليس جمعا وتدوينا جديدين. وإنما هو نفس ما كان مجموعا مدونا مرتبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما تمّ في زمن أبي بكر هو أن كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على رأسهم أرادوا وقد انقطع الوحي القرآني بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرروا نسخة تحفظ عند إمام المسلمين لتكون المرجع والإمام. وكل ما فعله عثمان وكبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أنهم أعادوا كتابة نسخة للمصحف الإمام بخط قريش وكتابتهم حتى لا يختلف المسلمون في قراءة القرآن وكتابته. وأمروا بإبادة أي مصحف مخالف له في الكتابة والإملاء ونسخ مصاحف جديدة عن هذه النسخة الجديدة «1» . وقد أطاع المسلمون الأمر فأبادوا ما لديهم من مصاحف مختلفة في الكتابة والإملاء ونسخوا مصاحفهم الجديدة عن مصحف عثمان وهو المصحف المتداول الآن من لدن ذلك العهد. وكل ما يقال خلاف ذلك غير صحيح البتة.
لأنه لو كان هناك مصاحف مخالفة له لبقيت ثم ظهرت وتداولت وهذا لم يحدث.
وليس من الممكن أن يكون عمال عثمان قد مشطوا كل بيت في كل مدينة وقرية وبادية في مشارق الأرض ومغاربها التي انتشر فيها المسلمون في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ليبعدوا أي مصحف مخالف لمصحف عثمان. فظل هذا المصحف الذي هو نفس المصحف المرتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مرجع كل خلاف وحكما في كل نزاع بين المسلمين على اختلاف فرقهم وأهوائهم، والقول الفصل في كل مذهب وعند كل نحلة من مذاهبهم ونحلهم على كثرتها منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وإلى ما شاء الله لهذا الكون أن يدوم. ويكفي لتبين خطورة المعجزة الربانية العظمى أن يذكر المرء ما كان من فتن وخلاف وشقاق وحروب وتنافس في سبيل الحكم والسلطان منذ صدر الإسلام الأول، وما كان من اجتراء أصحاب الأهواء في ذلك العهد وبعده على رسول الله صلى الله عليه وسلم والكذب عليه في وضع
__________
(1) اقرأ كتابنا القرآن المجيد ص 52- 115 ففي هذا الفصل دلائل من القرآن والحديث على أن القرآن كان يدون بصورة منتظمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذي رتب آياته في السور وسوره في المصحف.(4/38)
الأحاديث المتضمنة تأييد فئة على فئة، ورأي على رأي، ودعوة على دعوة، وما كان من وضع الأحاديث والروايات لصرف آيات القرآن إلى غير وجهها الحق وتأويلها بغير وجهها الحق بسبيل ذلك، وما كان من استعلاء قوم على قوم وشيعة على شيعة استعلاء القوة والسلطان، مع اشتداد العداء والتجريح واشتداد تيار الأحاديث المفتراة، وكان ممن صار له السلطان القوي الواسع المديد فئات كانت تقيم دعوتها على صرف تلك الآيات إلى هواها وتأويلها بغير وجهها الحق والاجتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسبيل ذلك، وأن يذكر أن هذا كان في وقت لم يكن القرآن فيه مطبوعا ولا مصورا، ولم يكن من المستحيل فيه أن يجرأ الذين اجترءوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكذبوا عليهم وصرفوا الآيات القرآنية إلى غير وجهها الحق- على كتاب الله تعالى فيغيروا ويبدلوا ويزيدوا وينقصوا تبديلا جوهريا سائغا على المسلمين مؤيدا لأهوائهم، وينشروا به مصاحف عديدة وبخاصة في الآيات التي حاولوا صرفها عن وجهها الحق إلى تأييد أهوائهم ودعوتهم، أو إضعافها لتكون أكثر مطابقة مع الوجوه التي أريد صرفها إليها سلبا وإيجابا، ونفيا وإثباتا، وفي وقت كانت الكتابة العربية سقيمة ولم يكن قد اخترع النقط والشكل وكان التشابه بين الحروف كثيرا واحتمال اللبس قويا. ولقد حفظت ببركة هذه المعجزة الربانية اللغة العربية- التي نزل بها- قوية مشرقة بكل ما وصلت إليه من سعة وبلاغة ودقة ونفوذ وعمق ونصاعة وضوابط لتظل لغة الأمة العربية الفصحى في كل صقع وواد، وفي كل دور وزمان، وهو ما لم يتيسر للغة أمة من أمم الأرض، ولتكون إلى ذلك لغة عبادة الله لجميع الأمم الإسلامية المنتشرة في أنحاء الأرض خلال ثلاثة عشر قرنا، ثم خلال القرون الآتية، بل ولتترشح لتكون لغة العالم الإسلامي بل لغة الإنسانية حينما يأذن الله بتحقيق وعده وإظهار الإسلام على الدين كله كما جاء في آيات عديدة، منها آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) .
وحفظت ببركتها الأمة العربية قوية الحيوية صامدة أمام ما وقع عليها من(4/39)
نكبات وتسلل فيها من عناصر غريبة، محتفظة بمواهبها العظيمة وخصائصها القومية التي كان من مظاهرها أن اصطفى خاتم الأنبياء منها، وأن نزل آخر كتاب سماوي بها مصدقا لما قبله ومهيمنا عليه، وأن حملت عبء الدعوة إلى الله ونشر رسالته المتممة لما سبقها والتي بقيت نقية صافية كما هي في منبعها الأول الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأن ترشحت بذلك لتكون خير أمة أخرجت للناس إن هي قامت بما حملها إياه القرآن من ذلك العبء ودعت إلى الخير وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر.
وتحميل القرآن الأمة العربية هذا العبء الذي غدت به وحده فقط ذات رسالة عالمية خالدة كما ورد في القرآن صراحة وضمنا ومن ذلك آيات سورة الزخرف [43- 44] وآية سورة الحج [78] .
نقول هذا ونحن نعرف أن هناك بعض روايات تروى عن بعض آيات وكلمات وحروف مختلف عليها في القرآن. وأن بعض المستشرقين والمبشرين تقولوا بعض الأقوال في صدد ذلك، غير أن هذا وذاك لا يمس جوهرا، وليس من شأنه أن ينقض المعجزة الربانية العظمى. وهو من الضالة والقلة إلى درجة لا تكاد تكون شيئا بالنسبة للمجموع، كما أنه لا يثبت على النقد والتمحيص، وهناك مستشرقون منصفون زيفوا بقوة الأقوال الصادرة عن الهوى والغرض والحقد والتعصب «1» .
وكذلك نعرف أن غلاة الشيعة الباطنيين يزعمون أنه كان في القرآن آيات وفصول كثيرة في إمامة علي وأولاده وحقوقهم ومركزهم عند الله ورسوله ثم في حق كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين منعوهم من حقوقهم بزعمهم أسقطت حينما جمع أبو بكر وعمر ثم عثمان رضي الله عنهم القرآن وكتبوه في مصاحف جديدة، بل بلغ بهم الزعم إلى حد أن المصحف لم يحتو إلا نصف ما نزل وأن
__________
(1) اقرأ الفصل المذكور آنفا من كتابنا القرآن المجيد، واقرأ كتاب حياة محمد لمحمد حسين هيكل طبعة ثانية ص 25- 39.(4/40)
الباقي أسقط لأنه في حق علي وأولاده وحقوقهم وإمامتهم وأعدائهم. وأن عليا جمع كل ما نزل مما أسقط ولم يسقط وأودعه أبناءه وهو محفوظ عندهم غير أن هذه المزاعم كاذبة جملة وتفصيلا. ومنحصرة كما قلنا في الغلاة غير الصادقين في إسلامهم الذين ترسموا الكيد للإسلام وهدمه والذين ليس لهم دين يردعهم عن الكذب على الله ورسوله وعليّ بن أبي طالب وأولاده، والذين كانوا يزعمونها وهم متيقنون كذبها ويعرفون أن جمهرة من أصحاب رسول الله كانوا يحفظون القرآن في حياة رسول الله وكان لهم مصاحف. وأن المسألة مسألة دين لا يمكن أن يغفل في أي حال تواطؤ أصحاب رسول الله عليها وهم الذين سجل الله رضاءه عنهم في آية سورة التوبة التي كانت من آخر ما نزل من القرآن: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
ومزاعمهم أوهى وأشد تهافتا وزيفا مما يتحمل نقدا وتفنيدا. ولقد انبرى لها كثير من العلماء وفندوها في كتب مشهورة متداولة. ولقد كان لأبناء علي بن أبي طالب سلطان قوي في بلاد إسلامية عديدة ولمدد غير قصيرة. ولو كان عندهم قرآن غير القرآن الذي كتب في عهد أبي بكر ثم في عهد عثمان ونسخ عنه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها مصاحفهم وحفظوه في صدورهم جيلا بعد جيل من لدن النبي صلى الله عليه وسلم لظهر.
وهذه المزاعم منحصرة في الغلاة المارقين أما المعتدلون الذين هم جمهرة الشيعة فإنهم يعترفون كما ورد في كتب كثير منهم أن المصحف المتداول احتوى جميع ما بلغه رسول الله وبقي بعده دون رفع ونسخ ونقص وحسب ترتيبه. ويقفون عند ذلك وإن كانوا يؤولون كثيرا من آياته تأويلا يتوافق مع هواهم الحزبي «1» .
__________
(1) انظر الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ومنهاج السنة لابن تيمية و «التحفة الإثني عشرية» لعبد العزيز غلام حكم الدهلوي بالفارسية وترجمته للأسلمي ومختصره للآلوسي وأجزاء كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي.(4/41)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
[سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 13]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
(1) شيع الأولين: فرق الأولين المتنوعة، كناية عن الأقوام السابقة.
(2) نسلكه: ندخله ونلقيه.
في الآيات خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أرسل من قبله رسلا إلى الأمم السابقة فكانوا يستهزئون بهم ويعجزونهم كما يفعل قومه معه. وتقرير رباني بأن هذا هو دأب المجرمين الذين فسدت أخلاقهم وخبثت سرائرهم فلا يؤمنون بما يأتيهم من ذكر من ربهم وقد مضت سنة الله في أمثالهم الأولين.
والآيات كذلك متصلة بالسياق، وقد استهدفت تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير طبيعة الكفار الإجرامية، وتعليل عدم إيمانهم بذلك، والتنديد بهم وإنذارهم وسلكهم في سلك الأمم السابقة التي أهلكها الله بسبب إجرامها الذي أداها إلى عدم الإيمان بما أنزل الله من كتب وبينات.
تعليق على مدى الآية كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ والآية التالية لها
والآيتان [12- 13] شبيهتان بالآيتين [200 و 201] من سورة الشعراء. وقد جاء كل منهما بعد ذكر القرآن. ولذلك أولناهما هنا كما أولناهما هناك وصرفنا الضمير في نَسْلُكُهُ ولا يُؤْمِنُونَ بِهِ إلى القرآن الذي عبر عنه هنا بكلمة (الذكر) .
ولقد اختلف المؤولون والمفسرون في عائدية الضمير في الكلمتين كما(4/42)
اختلفوا في ذلك سياق آيات سورة الشعراء ولكن بعضهم توسع في الشرح والتعليق حيث قال الذين حرفوا الضمير في نَسْلُكُهُ إلى الكفر والشرك والاستهزاء إن الجملة تعني أن الله سبحانه أدخل الكفر والشرك والاستهزاء في قلوبهم وحسّنه لهم وأنها أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ولم يعاند. وأنكروا صرف الضمير إلى الذكر الذي قاله فريق آخر. وقالوا إن هذا هو قول المعتزلة «1» . والحق الذي تبادر لنا أن صرف الضمير إلى القرآن هو الأولى المتسق مع نظم الآيات ومقامها وإن في صرفه إلى الاستهزاء والكفر لورود صيغة (يستهزئون) تكلفا. وليس من شأن نسبته القول إلى المعتزلة أن نتحاشى تأييده. ونحن نتحاشى كل التحاشي من تعبير (إن الله قد حسن الكفر للكافرين وأدخله في قلوبهم) لمجرد الرغبة في إثبات القدر من العبارات القرآنية ونرى فيه شيئا من البشاعة. وننزه الله تعالى عنه وهو الذي يقول: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ الزمر: [7] ويقول: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً [فاطر/ 39] . وفي القرآن مئات من الآيات التي تحمل الكفر والإجرام لأصحابهما وترتب عليهم عقابا بسببهما وحتى لو سلمنا جدلا أن صرف الضمير إلى الكفر والاستهزاء فلا يكون في ذلك الإثبات والبرهان اللذان التمسوهما من العبارة. لأنها تصف الكفار بالمجرمين وتكون من باب وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ إبراهيم: [27] ووَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ البقرة: [26] وكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يونس: [33] والله تعالى أعلم.
__________
(1) هذا ما قاله الخازن، وقد صرف الطبري والبغوي وابن كثير الضمير إلى الكفر والاستهزاء أيضا. أما الذين صرفوا الضمير إلى القرآن فهم الزمخشري والطبرسي ممن اطلعنا على كتبهم.(4/43)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
[سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
(1) يعرجون: يصعدون.
(2) سكرت: غطيت وأغلقت.
في الآيات حكاية لما يقدّر أن يقوله الكفار لو فتح عليهم باب من السماء، ونصب بينه وبين الأرض سلّم ليصعدوا عليه إلى السماء حيث كانوا يقولون حينئذ إن أبصارنا قد سكرت وإنا مسحورون، وإن ما نشاهده هو تخييل ووهم.
والآيات متصلة بالسياق كما هو المتبادر وهي بسبيل وصف شدة عناد الكفار ومكابرتهم والتنديد بهم، وبسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته في الوقت نفسه. وفيها تدعيم ما لما أوّلنا به الآيات السابقة حيث انطوى فيها تقرير طبيعتهم الفاسدة التي تجعلهم لا يقنعون بأي آية من آيات الله. وتوكيد للحكمة التي نبهنا عليها في مناسبات سابقة في عدم استجابة الله تعالى لتحدي الكفار بالإتيان بالمعجزات والخوارق حيث علم الله أنها لن تكون سببا لإيمانهم.
ولقد صرف بعض المؤولين كما جاء في تفسير الطبري وغيره الضمير في فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ إلى الملائكة بقرينة ذكرهم سابقا كما صرفه بعضهم إلى الكفار على ما جاء في الطبري وغيره أيضا. وهذا ما رجحناه في الشرح لأنه الأكثر اتساقا مع مجموع الآيات نصا وروحا، والله أعلم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 27]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)(4/44)
(1) رواسي: كناية عن الجبال.
(2) موزون: أوجه الأقوال أن الكلمة بمعنى مقدر بحساب.
(3) ومن لستم له برازقين: المقصود بذلك الحيوانات الأخرى.
(4) لواقح: ملقحة أو مولدة. والمقصود بالجملة تقرير كون الريح يولد المطر ويسببه.
(5) الوارثون: هنا بمعنى الباقون بعد فناء الناس.
(6) صلصال: طين يابس إذا نقر عليه رنّ وصوّت.
(7) حمأ: أسود اللون.
(8) مسنون: مصبوب أو مصوّر.
(9) الجان: لغة في الجن.
(10) السموم: أوجه الأقوال أنها الريح الحارة التي تنفذ في المسامات أو تسمم الإنسان وتقتله. وأوجه الأقوال في (نار السموم) التي لها لهب وريح شديد الحرارة قاتل.
تشير الآيات إلى مظاهر قدرة الله وعظمته وسننه الكونية ونعمه على البشر والمخلوقات الأخرى وتصرّفه في الكون تصرفا مطلقا، وعلمه الشامل المحيط بالناس سابقيهم ولا حقيهم وخلقه الإنس والجن وكونه مرجع كل شيء وأنه أزلي أبدي. وعباراتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمتبادر أنها جاءت معقبة على جميع الآيات السابقة التي حكت مواقف(4/45)
الكفار وعنادهم وإجرامهم بسبيل تقريعهم على هذه المواقف وتذكيرهم بعظمة الله واستحقاقة وحده للخضوع والعبادة.
تعليق على آية وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ والآيات التسع التالية لها
وما عدّد هنا من مظاهر قدرة الله تعالى قد تكرر في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة عديدة منها. وتضمنت جميعها لفت نظر الناس إلى ما يقع تحت أبصارهم ومشاهدتهم وحسهم، وتذكيرهم بشمول قدرة الله وعظمته ومطلق تصرفه وكونه الخالق المدبر الأزلي الأبدي، مما يؤيد ما قلناه غير مرة من أن القصد من ذلك هو العظة واسترعاء الأنظار والأذهان ودعوة الناس إلى الخضوع لله تعالى وحده، ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة المماثلة وبخاصة في سياق تفسير سورة القيامة إننا لا نرى طائلا من وراء محاولة استنباط نواميس الكون والخلق فنيا، والتوفيق بين ما هو معروف من هذه النواميس وبين ما في هذه الآيات وأمثالها، ولا من وراء محاولة استخراج قواعد فنية كونية منها. إذ أن كل هذا خارج عن نطاق هدف الآيات.
ولقد علقنا على موضوع استراق الشياطين للسمع من السماء ورجمهم بالشهب بما فيه الكفاية في تفسير سورة الجن، كما علقنا بما فيه الكفاية كذلك على خلق الجن من النار والإنسان من الطين في تفسير سورة ص فلا نرى ضرورة للإعادة. وننبه فقط على أن ذكر خلق الإنسان من صلصال والجن من النار بين يدي ذكر قصة آدم وإبليس الواردة في الآيات التالية لهذه الآيات يجعل الهدف التمثيلي والتلقيني في القصة أكثر بروزا.
ولقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: «كانت امرأة حسناء تصلّي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصفّ الأول لئلا يراها. وبعضهم(4/46)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
يتأخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله الآية: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ الحجر: [24] «1» . والحادث المذكور في الحديث من أحداث العهد المدني. ولا خلاف في مكية الآية فضلا عن انسجامها كل الانسجام مع السياق نظما وموضوعا. ولقد أورد الطبري الحديث ومع ذلك فإنه صوب تأويل العبارة بعلم الله لكل خلقه سواء منهم من مضى أو لم يخلق. وهذا هو الحق الذي رأيناه وأثبتناه قبل. ولقد أورد الحديث ابن كثير وقال إن فيه نكارة شديدة، والله تعالى أعلم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 44]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
(1) بما أغويتني: أوجه الأقوال في تأويل الجملة أن إبليس اعتبر أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم سببا لغوايته فأقسم ليغوين ذريته انتقاما.
(2) هذا صراط عليّ مستقيم: أوجه الأقوال في تأويل الجملة إن نهجي وتقديري في هذا الأمر واضح مستقيم لا تبديل فيه.
__________
(1) التاج ج 4 ص 137.(4/47)
(3) الغاوين: الضالين الذين سلكوا سبيل الغواية وانحرفوا عن الحق وطريق الهدى.
في الآيات تذكير بقصة آدم وموقف الملائكة وإبليس من أمر الله تعالى بالسجود له وتوكيد رباني بأن الذين يتبعون إبليس وتزييناته وينحرفون عن طريق الحق والهدى هم الأشرار الغواة الذين فسدت أخلاقهم وحق عليهم بسبب ذلك عذاب جهنم، وبأن إبليس لن يكون له سلطان وتأثير على عباد الله الصالحين المخلصين الذين حسنت نواياهم وطابت أخلاقهم فاتبعوا الحق والهدى.
والآيات كما يبدو جاءت استطرادية، حيث انتهت الآيات السابقة لها بذكر خلق الإنسان والجان، فجاءت هذه تستطرد إلى ذكر قصة آدم وإبليس اللذين يمثلان الإنس والجن.
وقد جاءت القصة هنا كما جاءت في السور السابقة في سياق ذكر مواقف الكفار وتعجيزهم ومكابرتهم وقصد بها التذكير والعظة. ولقد أسهبنا في التعليق على القصة من وجهة الأهداف ومن وجهة الموضوع بما فيه الكفاية في تفسير سورة ص والأعراف والإسراء فلا نرى حاجة إلى إضافة شيء جديد هنا إلا التنبيه إلى أن في سبق القصة بذكر خلق الإنسان من صلصال والجان من نار بيانا جديدا، يجعل الصلة والحكمة في القصة واضحتين أكثر.
تعليق على أبواب جهنم السبعة
لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في صدد ذلك، وليس منها شيء صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده المصدر الصادق لتوضيح المشاهد الأخروية الغيبية، ومع واجب المسلم بالإيمان بما جاء في القرآن من ذلك ومنها أبواب جهنم السبعة والوقوف عنده بدون تخمين وإيكال تأويله إلى الله تعالى فقد يتبادر أن من حكمة ذكر ذلك كونه متساوقا مع ما شاءت حكمة الله من وصف مشاهد الآخرة بأوصاف الدنيا المألوفة على ما نبهنا عليه سابقا وكون قصد الآية مع السياق هو(4/48)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
إرهاب الكفار وإثارة الخوف فيهم بتصوير مصيرهم في صحبة إبليس الذي كانوا يعرفونه عدوا لعينا هذا التصوير المفزع، والله تعالى أعلم.
تعليق على مدى جملة بِما أَغْوَيْتَنِي
ذكرنا في شرح الكلمات أوجه ما قيل في تخريج الجملة ونزيد هنا فنقول إنها حكاية لقول إبليس وليس في السياق إقرار لهذا القول. فتبقى من نوع حكاية أقوال الكفار والمشركين مثل: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ [الزخرف/ 20] و:
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل/ 35] وغيرهما. وقد سفّه الله قولهم في تتمة كل آية.
وفي المقام الذي نحن فيه وفي المقام الذي جاءت فيه الجملة في سورة الأعراف [الآيات 16 وما بعدها] ردّ من الله على إبليس متمثل في الآيات [41- 44] هنا وفي الآية [19] في سورة الأعراف. فلا يبقى إشكال ولا محل لتمحل المتمحلين في صدد العبارة القرآنية.
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
(1) غلّ: حقد.
(2) نصب: تعب ومشقة.
في الآيات بيان لما سوف يلقاه المتقون في الآخرة من تكريم وأمن وخلود الجزء الربع من التفسير الحديث 4(4/49)
في الجنات والعيون، والجلوس على الأسرّة هادئي البال قريري العين، وقد تطهروا من الغل والحقد وسائر الأعراض البشرية الدنيوية المكروهة، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن الناس أن الله هو الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم.
والمتبادر أن الآيات الأربع الأولى جاءت تتمة لما سبقها لمقابلة ذكر مصائر الكفار جريا على الأسلوب القرآني. أما الآيتان الأخيرتان فقد جاءتا كتعقيب ختامي للكلام انطوى فيه قصد إعلان الناس أن الله كما هو الغفور الرحيم للمخلصين والتائبين فإنه شديد العذاب للجاحدين الأشرار. وقد استهدفتا فيما استهدفتاه تثبيت المتقين المخلصين ودعوة للكفار والمذنبين إلى الإنابة إلى الله.
ولعل في الآية جوابا ضمنيا لما يمكن أن يرد على بال إنسان ما ممّا قد يعتري المرء من أبدية حياة رتيبة ولو كانت نعيما من ملل حيث تطمئن أهل الجنة بأنهم لن يمسهم فيها نصب. وفي سورة فاطر التي مرّ تفسيرها زيادة وهي لا يمسهم فيها لغوب أيضا واللغوب بمعنى الإعياء الذي هو فوق التعب العادي وذلك في الآيتين [34- 35] .
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [48] حديثا رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد من أهل الجنة إنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا» «1» . وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم يصح إيراده في مناسبة الآيتين [46 و 47] جاء فيه: «إنّ أهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون لله بكرة وعشيا» «2» . حيث يتساوق الحديثان النبويان في التلقين والبشرى مع الآيات القرآنية.
ولقد روى ابن كثير حديثين عن مصعب بن ثابت أخرج أولهما ابن أبي حاتم
__________
(1) التاج ج 5 ص 383.
(2) المصدر نفسه ص 375.(4/50)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
وثانيهما ابن جرير. وجاء في أولهما: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أناس من أصحابه يضحكون فقال اذكروا الجنة. اذكروا النار فنزلت نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) الحجر: [49- 50] وفي ثانيهما:
«طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أناس من أصحابه فقال: ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقرى قال إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله يقول لم تقنط عبادي، نبىء عبادي أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم» .
والأحاديث ليست وثيقة وهي من المراسيل كما وصفها ابن كثير. ومقتضاها أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان مع ما قبلهما ومع ما بعدهما.
ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلاهما في موقف مماثل للموقف المروي فالتبس الأمر على الرواة إذا صح الحديث، والله أعلم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 56]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)
(1) وجلون: خائفون.
هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية، ومعانيها واضحة. وفيها إشارة إلى قصة تبشير إبراهيم عليه السلام بغلام بعد أن شاخ ويئس من الإنجاب وقد جاء ذلك في سورة هود أيضا وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
وفي الآيات شيء جديد وهو حكاية المحاورة بين إبراهيم عليه السلام وضيفه في صدد البشرى بالغلام، في حين أن سورة هود حكت المحاورة في صدد(4/51)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
ذلك بين زوجة إبراهيم والضيوف، وسفر التكوين المتداول اقتصر على حكاية هذه المحاورة دون تلك. ونعتقد أن تلك المحاورة أيضا كانت مما هو وارد فيما كان بين أيدي اليهود من نصوص لم تصل إلينا ومما هو متداول في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه المحاورة مواضع عبر يتبادر لنا أن من أهداف الآيات دعوة سامعي القرآن إلى الاعتبار بها بدليل بدء الآيات بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنباء السامعين بالقصة.
وهذه العبر هي التأميل في رحمة الله والنهي عن القنوط منها، وتقرير كون الأمل متلازما مع الإيمان، والقنوط متلازما مع الكفر والضلال.
وبهذا تبدو حكمة تكرار القصص وتنوع أساليبها كما هو ظاهر.
[سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 77]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
(1) منكرون: مجهولون.(4/52)
(2) جئناك بما كانوا فيه يمترون: جئناك بما كان قومك يرتابون به ويكذبون ويجادلون فيه وهو عذاب الله.
(3) مصبحين: عند الصباح.
(4) يستبشرون: مظهرون فرحهم لأنهم ظنوا أنهم سيظفرون بالضيوف لقضاء وطرهم منهم على عادتهم القبيحة.
(5) مشرقين: عند الإشراق.
(6) المتوسمين: المتفكرين المتفرسين أو المتأملين في حقائق الأمور وعبر الدهر.
(7) وإنها لبسبيل مقيم: كناية عن بلاد لوط التي دمرها عذاب الله، فهي قائمة على طريق معروف للسامعين «1» .
وهذه حلقة ثانية من سلسلة القصص، وقد احتوت قصة لوط وقومه ومهّد لها بالمحاورة في صدد قوم لوط بين إبراهيم ورسل الله. ومعاني الآيات واضحة ومعظم ما جاء هنا قد جاء في سورة هود أيضا مع بعض الخلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل وقد علّقنا على القصة في سياق تفسير سورة هود بما يغني عن التكرار.
والجديد فيها الإشارة إلى أن قوم لوط كانوا يمارون في عذاب الله الذي توعدهم به، وأن بلادهم هي على طريق معروف ففي النقطة الأولى إنذار للكفار العرب الذين كانوا يمارون مثلهم فيما كانوا يوعدون من عذاب الله ويستهزئون به.
وفي الثانية تذكير لهؤلاء ببلاد قوم لوط التي هي في طريق قوافلهم والتي يشاهدون آثار تدمير الله فيها. ففي كل ذلك موعظة لمن يفكر ويتفرس في الأمور، وآية للمؤمنين. ولقد جاء هذا التذكير في آيات سورة الصافات [133- 138] بأسلوب أكثر صراحة.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في ابن كثير والطبرسي والبغوي.(4/53)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
ولقد أورد الطبري وابن كثير وغيرهما في سياق الآية [75] أحاديث نبوية منها حديث رواه الترمذي أيضا عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثمّ قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ «1» وأوردوا حديثا آخر أخرجه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسّم» .
ورواة الأحاديث من أهل العهد المدني فتكون قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العهد. وفيها استيحاء نبوي من الآية فيه تنويه بما يكون للإيمان من أثر في صاحبه حتى ليجعله ذا نفوذ وصدق ونظر وقول وحكم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 79]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)
(1) إمام مبين: أيضا بمعنى طريق واضح «2» حيث كانت منازل أصحاب الأيكة في طريق قوافل العرب في جهات العقبة.
الآيتان من السلسلة القصصية وفيهما إشارة خاطفة إلى أصحاب الأيكة وانتقام الله منهم كما اقتضته حكمة التنزيل.
وأصحاب الأيكة هم أهل مدين قوم شعيب على الأرجح على ما شرحناه في سياق سورة الشعراء التي ذكروا فيها مع اسم شعيب. ومدين واقعة في جهات العقبة على طريق قوافل العرب أيضا. وقد استهدفت الآيتان تذكير العرب بنقمة الله التي حلّت بأهلها والتي يرون آثارها حينما يمرون ببلادهم نتيجة لظلمهم وإنذارا لهم.
__________
(1) التاج ج 4 ص 137 و 138 وفي صيغة الطبري زيادة (وينطق بتوفيق الله) .
(2) انظر تفسير الآيات في ابن كثير والطبرسي والبغوي.(4/54)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
[سورة الحجر (15) : الآيات 80 الى 84]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
والآيات آخر حلقات السلسلة ومعانيها واضحة، وقد احتوت خبر تكذيب أصحاب الحجر لرسلهم وإعراضهم عن آيات الله وحلول عذاب الله فيهم نتيجة لذلك، دون أن يغني عنهم ما كسبوا وما نحتوا من البيوت في الجبال. وقد استهدفت- على ما هو المتبادر- تذكير كفار العرب وإنذارهم كما استهدفته الحلقات السابقة.
وأصحاب الحجر هم على الأرجح قبائل ثمود قوم صالح الذين ذكرت قصتهم مع نبيهم في سورة هود والشعراء والنمل والأعراف وغيرها. لأن نحت البيوت في الجبال قد كان ممّا وصف به ثمود قوم صالح في سور هود والشعراء والأعراف. وبلادهم تعرف اليوم بمدائن صالح. وهي الأخرى واقعة في طريق القوافل العربية من الحجاز إلى بلاد الشام حيث تكون القصة بالأسلوب الذي جاءت به قد استهدفت تذكير كفار العرب بالدمار الرباني الذي حلّ بهذه البلاد والذي يشاهدونه في ذهابهم وإيابهم نتيجة لتكذيبهم لرسل الله وإعراضهم عن آياته.
هذا، ويلحظ أن حلقة القصص استهدفت في هذه السورة التذكير بالأمم التي كانت تقطن المناطق الواقعة في طريق القوافل الحجازية، والآيات تلهم أن العرب كانوا يعرفون ويعترفون بأن ما حلّ في هذه البلاد من التدمير الذي كانوا يشاهدون آثاره كان عذابا ربانيا ومن هنا جاء الإنذار محكما والحجة قوية. وآيات سورة الصافات [132- 138] ذكرت ذلك صراحة: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وفي سورة العنكبوت مثل هذه الصراحة(4/55)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
بالنسبة لعاد وثمود: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [38] .
[سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 86]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
(1) فاصفح الصفح الجميل: المتبادر أن الجملة في معنى «واهجرهم هجرا جميلا» التي شرحناها في سورة المزمل.
في الآيتين توكيد رباني بأن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض وما بينهما عبثا، وإنما خلقهما بالحق ولحكمة جليلة لا بد من تحقيقها، وبأن الساعة التي يبعث الناس فيها آتية من دون ريب، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإغضاء عن مواقف الكفار المثيرة المعجزة وعدم الاغتمام والحزن منها، والمرور بها مرّ الكرام، فربّه هو الذي خلق الناس جميعا وهو العليم بأمورهم خفيها وعلنها.
والمتبادر أن الآيتين جاءتا معقبتين على موقف الكفار الذي حكته الآيات السابقة لسلسلة القصص بسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإنذار الكفار وتوكيد تحقيق ما يوعدون به. والمتبادر كذلك أن الآيات عنت بالساعة الآتية أنها من ذلك الحق الذي لم يكن عبثا من الله. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. ولقد ذكر المفسرون أن جملة فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ نسخت بآيات القتال وقد علقنا على مثل هذا في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار أيضا والجملة في مقامها قد توخت كما قلنا تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى.
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 89]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)(4/56)
(1) أزواجا منهم: بمعنى أصناف أو جماعات منهم.
الآيات استمرار في التعقيب وفي تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته. فقد كرمه الله وحباه بما آتاه من المثاني السبع والقرآن العظيم. فعليه أن يستمر في دعوته إلى الله تعالى وإعلان أنه نذير للناس من قبل الله، وأن يخفض جناحه للذين آمنوا وصدقوا ويغدق عليهم عطفه وبره، وألّا يبالي ولا يحزن مما يبدو من الكفار من عناد وإعراض ولا بما يتمتع به بعضهم من المال والجاه. فما آتاه الله خير وأبقى وما أوتوه عرض زائل لا يعني رضاء الله وإنما أوتوه باقتضاء حكمته ونواميس كونه.
تعليق على جملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
وقد تعددت الروايات والأقوال في «المثاني السبع» فروي أنها الفاتحة استنادا إلى حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «أم القرآن هي السبع المثاني» «1» . وأن تسميتها بالسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة أو لأن فيها ثناء على الله تعالى وهي سبع آيات. وروى بعضهم أنها السور السبع الطوال وأنكر بعضهم هذا القول لأن سورة الحجر نزلت قبل نزول السور السبع الطوال التي هي مدينة «2» .
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي. وقد جاء هذا الحديث في التاج برواية الترمذي بهذه الصيغة: «عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أمّ القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل» التاج ج 4 ص 138.
(2) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن والزمخشري. [.....](4/57)
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [87] التي فيها الجملة مدنية، ولعل ذلك بسبب ما روي من أن السبع المثاني هي السبع الطوال. ومعظم الأقوال تؤيد كون المقصود من الجملة سورة الفاتحة، وهو الأوجه والأرجح عندنا أيضا.
ولا سيما أن السبع الطوال لم تصبح كذلك إلّا بعد ترتيب القرآن آيات في سور وسورا في مصحف. وهذا إنما تم في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك فإن إنكار صرف الجملة إليها في محله، ويتبع هذا إنكار رواية مدينة الآية.
تعليق على الآية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ
روى ابن كثير في صدد الآية حديثا جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف ولم يكن عنده شيء فأرسل إلى رجل من اليهود يستلف منه دقيقا فقال لا إلّا برهن فرجع فأخبر النبي بجوابه فقال أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولو أسلفني لأديت له فلما خرج الرجل نزلت الآية» . والحديث ليس من الصحاح والحادث المذكور فيه مدني والآية مكية لا خلاف فيها وهي منسجمة نظما وسياقا مع ما قبلها ومع ما بعدها. فضلا عن أن الحديث لا يتناسب مع مدى الآية. ولقد ورد في سورة طه آية مماثلة لهذه الآية وروي في سياقها نفس الحديث. وفندنا صلته بالآية كما فعلنا هنا. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية نهيا للنبي صلى الله عليه وسلم عن تمني ما عند الكفار ونحن نجل النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يدور في خاطره ذلك. وكل ما يحتمل أن يكون تعجب منه أو من بعض أصحابه من حسن حال الكفار وكثرة مالهم على كفرهم فاقتضت حكمة التنزيل تسليتهم وتطمينهم على النحو الذي شرحناه والذي نرجو أن يكون فيه الصواب.
والتعجب من حسن حال الكفار حالة نفسانية كانت متجددة الباعث في العهد المكي بنوع خاص فضلا عن كونها كذلك في كل ظرف، وهذا ما يفسر حكمة تكرر النهي والتنبيه على ما هو المتبادر.(4/58)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
[سورة الحجر (15) : الآيات 90 الى 93]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)
(1) كما أنزلنا: قيل إن نظمها مرتبط بجملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي بحيث يكون تقدير الكلام «كما آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وأنزلنا على المقتسمين» وقيل إن نظمها مرتبط بجملة إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ بحيث يكون تقدير الكلام «إني نذير لكم بعذاب الله كما أنزل عذابه على من تحالف وتقاسم ضد أنبيائه من قبلكم» .
(2) المقتسمين: تعددت الأقوال في تأويلها فقيل إنها تعني اليهود والنصارى الذين اقتسموا كتب الله حيث اختص كل منهم بشيء منها. وقيل إنها تعني نفرا من زعماء مكة اقتسموا أبواب مكة ومداخلها ليلاقوا الوافدين عليها ويحذروهم من النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها إنها تعني الذين تقاسموا بالأيمان من المشركين والكتابيين على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل إنها تعني الذين تقاسموا بالأيمان على مخالفة الأنبياء من قبله فأنزل الله عذابه عليهم وأهلكهم. وقيل إنها تعني رهط صالح الذين تقاسموا على اغتياله فأهلكهم الله كما ورد في سورة النمل «1» .
(3) عضين: جمع عضة. قيل إنها بمعنى أجزاء متفرقة حيث يكون المقتسمون جعلوا القرآن أجزاء صدقوا بعضها وكذبوا بعضها، أو نعتوا بعضها بنعت وبعضها بنعت آخر وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: «هم أهل الكتاب جزّؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه» . وقيل إنها بمعنى السحر:
أي أن المقتسمين قالوا إن القرآن سحر «2» .
مهما بدا على الآيات من إشكال نظمي تحير فيه المفسرون وتعددت أقوالهم في صدد المقصود من المقتسمين وارتباط جملة كَما أَنْزَلْنا على ما شرحناه في
__________
(1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري.
(2) المصدر نفسه.(4/59)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
نبذة شرح الكلمات شرحا يغني عن تكراره مرة ثانية فالمتبادر أنها بسبيل إنذار الذين وقفوا من القرآن موقف الجحود ومن النبي صلى الله عليه وسلم موقف المناوأة، وتوكيد كون الله تعالى سوف يسألهم جميعا عما فعلوه ويجزيهم عليه بما يستحقون. وفيها في الوقت نفسه استمرار في تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته. ومن هنا تظل الصلة قائمة بينها وبين السياق السابق.
[سورة الحجر (15) : الآيات 94 الى 99]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
(1) اصدع: أطع ونفذ أو امض لما تؤمر به.
(2) اليقين: معظم الأقوال على أن الكلمة هنا عنت الموت، وهناك حديث رواه البخاري عن سالم بن عبد الله أحد أصحاب رسول الله أن الكلمة عنت الموت. «1»
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستمرار في الدعوة والجهر بها والقيام بالمهمة التي أمر بها دون مبالاة بالمشركين. وتطمين رباني بأنه قد كفاه شر المستهزئين به الذين يشركون مع الله غيره والذين سوف يرون سوء عاقبة كفرهم ومواقفهم فلن يصل إليه أذاهم. وتسلية ربانية ثانية له، فالله يعلم أنه ليضيق صدره بما يقولون عنه وعن القرآن ويحزن منه فليهدأ روعه وليطمئن قلبه وليسبح الله ويذكره ويسجد له ويعبده ما دام حيا، ففي ذلك سكينة للقلب وطمأنينة للروح وتهدئة للنفس.
__________
(1) التاج ج 4 ص 138.(4/60)
تعليق على الآية فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ والآيات الخمس التالية لها
ولقد روى الطبري وغيره في سياق الآية الأولى روايات تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل مستخفيا حتى نزلت، فخرج هو وأصحابه وهذه الروايات لم ترد في كتب الصحاح. ولقد استدللنا من نصوص السور المبكرة في النزول على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالدعوة منذ نزول الوحي عليه وظل على ذلك دون انقطاع. وكل ما يمكن أن يصح هو أنه كان يلتزم جانب الحذر في الاجتماع والصلاة بأصحابه حماية لهم على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والمزمل وقد يكون الاستخفاء الذي ترويه الروايات هو هذا.
ولقد روى الطبري وغيره في سياق الآية الثانية أن خمسة من ذوي الأسنان والشرف في قريش كانوا أكثر المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم مع اختلاف في أسمائهم فلما تمادوا دعا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية. وصار النبي بعدها يومىء على واحد منهم بعد الآخر فلا تلبث أن تصيبه نازلة فتقتله. وفي رواية إن جبريل نزل فأخذ النبي يشير إليهم واحد بعد آخر فيقول له كفيته ثم يصاب بنازلة فتقتله. وفي رواية إن الآية نزلت لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتبشيره ثم كانوا من هلكى بدر فتحققت البشرى.
والروايات لم ترد في الصحاح وقد تكون الأسماء التي ذكرت فيها ممن كانوا أشد أذى ومناوأة للنبي صلى الله عليه وسلم من غيرهم. ولكن روح الآيتين ومقامهما يلهمان أنهما جزء من السياق السابق، وإنهما بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وبث القوة والجرأة في نفسه مع بشرى من الله عز وجل بأنه كافيه وحاميه وعاصمه من المستهزئين بصورة عامة.
وهي قوية رائعة في تلقينها وتطمينها وفي الخطة الحكيمة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بترسمها إزاء موقف الكفار وعنادهم. وجاءت خاتمة قوية للسورة التي احتوت فصولا في مواقف الكفار وأقوالهم وإنذارهم وطابع الختام بارز عليهما كما هو المتبادر. ولقد تحققت بشرى الله عز وجل لرسوله بأنه قد كفاه المستهزئين وعصمه(4/61)
منهم فكانت معجزة من معجزات القرآن. وذلك بما كان من عدم قدرتهم عليه رغم مؤامراتهم، وثم بما كان من انتصاره عليهم وهزيمة الشرك الساحقة وهلاك معظم رؤساء المستهزئين والمناوئين ودخول الناس في الله أفواجا، ثم في سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من المكر والكيد والمؤامرات التي عمد أولئك الرؤساء إليها ضده والتي حكاها القرآن في آية سورة الأنفال هذه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) .
ونقف عند جملة فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لنقول إنها كما قلنا بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في الظرف الذي نزلت فيه وينبغي أخذها على هذا الاعتبار لا على اعتبار أمر الله لنبيه بإهمال المشركين وتجاوزهم. فدعوة المشركين إلى الله من مهمة النبي الأصلية. والقرآن واصل أوامره للنبي صلى الله عليه وسلم بمواصلة الجهد في سبيل هذه المهمة. والنبي ظل يواصلها فعلا والأمر فَاصْدَعْ ينطوي على وجوب هذه المواصلة بحيث يكون معنى وَأَعْرِضْ في مقامها (لا تأبه بمناوأتهم) وقد تكرر مثل هذا في المواقف المماثلة ومرت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها.
وبعضهم يرى أن الجملة ترك المشركين وشأنهم وأنها نسخت بآيات القتال في العهد المدني، وقد يصدق النسخ بالنسبة لمن وقف وظل يقف من الإسلام والمسلمين موقف الأذى والعدوان، وهذا ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة أيضا.(4/62)
سورة الأنعام
في السورة فصول ومشاهد متنوعة عما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من مناظرات. وقد حكي فيها تعجيزهم وما كان يلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من همّ وغمّ من جرّائها. وفيها تنديدات وإنذارات قاصمة للكفار وبخاصة لزعمائهم على مواقف المكابرة والعناد التي يقفونها والأدوار الخبيثة التي يقومون بها. واستشهاد بالذين أوتوا الكتاب على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصلة القرآن بالله وشهادتهم بذلك. وفيها تقريرات عديدة عن عظمة الله تعالى وقدرته وشمول حكمه وبديع نواميس كونه.
وفيها فصول وصور عن عقائد العرب ونذورهم وتقاليدهم في الأنعام والحرث وقتل الأولاد والذبائح، وحجاج في صددها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار وفيها مجموعة رائعة من الوصايا في التوحيد ومكارم الأخلاق وحملة على الذين يتبعون الأهواء.
والسورة من أمهات السور الجامعة الرائعة، وقد روى ابن كثير بخاصة وغيره من المفسرين مثل البغوي والطبرسي والخازن والزمخشري أحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدد خطورة هذه السورة ونزولها منها عن ابن عباس قال:
«نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح» وعن أسماء بنت يزيد قالت: «نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة وأنا آخذة بزمام ناقته، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة» . وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في كتب الصحاح بل ولم يرو الطبري الذي كان أقدم وأكثر المفسرين استيعابا للمأثور منها شيئا. ومع ذلك فيتبادر لنا أنها تدل على ما كان من ذكريات خطورة شأن السورة حين نزولها. وفصول السورة منسجمة(4/63)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
متلاحقة وهذا يلهم بحد ذاته أن تكون نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [20 و 22 و 91 و 93 و 114 و 141 و 152 و 153] مدنيات. وروى البغوي عن ابن عباس أن الآيات [91 و 92 و 93 و 151 و 152 و 153] مدنيات. وسياق هذه الآيات وفحواها وانسجامها مع ما قبلها وبعدها على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها يسوغ الشك في هذه الروايات وترجيح مكية الآيات والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
(1) يعدلون: يساوون أو يجعلون لله تعالى معادلين ومساوين وهم شركاؤهم.
(2) ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده: معظم المفسرين على أن الأجل الأول هو فترة الحياة الأولى إلى الموت والأجل الثاني هو موعد بعث الله الأموات للحساب الأخروي.
معاني الآيات واضحة وقد احتوت تنديدا بالكفار المشركين لتسويتهم بين الله تعالى وشركائهم ومماراتهم في البعث، وإعراضهم عما يأتيهم من ربهم مع أنه هو الذي خلقهم وهو رب السموات والأرض يعلم سرهم وجهرهم وما يكسبون(4/64)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
وجعل لهم أجلا في الحياة ثم أجلا للبعث والحساب. ثم أنذرتهم بأنهم سوف يرون تحقيق ما أوعدوا به جزاء استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم لها، وذكرتهم بالأمم التي من قبلهم والتي أهلكها الله لمثل ذلك السبب وكانت أقوى منهم قوة وتمكينا.
والآيات مقدمة استهلالية بين يدي حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار، وروحها تلهم أن الكفار كانوا يعترفون بالله وكونه صاحب الأمر في الكون، وأنهم كانوا يعرفون خبر الأمم السابقة التي أهلكها الله لمواقفهم من رسله وآياته، وبهذا وذاك تبدو قوة الحجة والإلزام في الآيات وهذا وذاك مما قررته آيات وفصول قرآنية كثيرة مرت أمثلة عديدة منها.
ولقد قال بعض المؤولين على ما رواه البغوي إن جملة وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ تعني الكفر والإيمان غير أن الجمهور على أنها تعني الليل والنهار وهو الأوجه المتساوق مع روح الآيات هنا وفي مكان آخر. وإن كان القرآن استعمل في آيات أخرى هذه الجملة لذلك المعنى كما جاء في آية سورة إبراهيم هذه:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [1] وتكرر هذا في غير سورة.
والمؤولون يصرفون تعبير خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ إلى خلقه آدم الأول الذي ذكر بأنه خلقه من طين ومن تراب في آيات عديدة أخرى مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها. غير أن ورود التعبير بضمير الجمع المخاطب لا بد له من حكمة وقد يكون من ذلك تذكير السامعين من بني آدم بأصل خلقتهم وقدرة على خلقهم وبعثهم ثانية حين ينقضي الأجل المعلوم.
[سورة الأنعام (6) : آية 7]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
(1) قرطاس: الورق أو ما يقوم مقامه للكتابة من مواد مصنوعة. وجملة الجزء الرابع من التفسير الحديث 5(4/65)
كِتاباً فِي قِرْطاسٍ تعني قرطاسا مكتوبا عليه كتابة.
في الآية وصف لشدة عناد الكفار وتكذيبهم حتى لو أنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم قرطاسا عليه كتابة فلمسوه بأيديهم لقالوا إن هذا سحر وليس حقيقة.
ولقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية نزلت جوابا لتحدي بعض زعماء الكفار حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم لن يؤمنوا حتى ينزل عليه كتاب في قرطاس ومعه أربعة من الملائكة يشهدون على صحة صدوره من الله وعلى صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والرواية لم ترد في الصحاح ولكن القرآن حكى مثل هذا التحدي عن زعماء كفار قريش في سورتي المدثر والإسراء. حيث جاء في الأولى هذه الآية: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) وحيث جاء في الثانية: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [93] والذي يتبادر لنا من نظم الآية وعطفها على ما سبقها أنها جاءت مع الآيات السابقة واللاحقة لها سياقا واحدا بسبيل تصوير كون مواقف ومطالب الكفار هي عنادا وليست رغبة في القناعة عن حسن نية. وهذا لا يمنع أن يكون انطوى في الآية جواب على تحدّ وقع من الكفار في ظروف نزولها. ويكون الجواب في هذه الحالة من نوع الأجوبة السلبية التي تكررت في القرآن واقتضتها حكمة الله بعدم الاستجابة لتحدي الكفار كلما طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
تعليق على كلمة «قرطاس»
وبمناسبة ورود كلمة قرطاس لأول مرة نقول إن من المفسرين من قال إنه الورق ومن قال إنه الصحيفة ومن قال إنه الكاغد «2» . وقد وردت الكلمة في القرآن
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبرسي والخازن والبغوي.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير مثلا.(4/66)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
مرة أخرى بصيغة قراطيس في إحدى آيات هذه السورة بمعنى الصحف أو أوراق الصحف.
وعلى كل حال فالمتبادر أنه مادة ملساء خاصة بالكتابة ولعله الورق الحريري الذي يقال له البارشمن والذي روي أنه كان مستعملا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد المتحضرة. أو لعله الورق المصري المصنوع من البردي والمسمى بالبابيروس.
وورود الكلمة في القرآن يدل على أن الورق أو ما يمكن أن يوصف بهذا الوصف كمادة يكتب عليها مما كان معروفا ومستعملا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل نزول القرآن.
ولقد روت الروايات أنه كان يكتب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته ممتدا إلى ما قبله على الرق المتخذ من جلد الأنعام وعلى أكتاف العظام ولحاف الشجر وقطع النسيج. وقد يكون هذا صحيحا، غير أن أسلوب الآية وعدم ورود ذكر لغير القرطاس والرق «1» في القرآن كمادة للكتابة قد يدل على أن الكتابة على هاتين المادتين هي المألوف الذي لا يرد على البال غيره. ولما كان القرطاس قد تكرر ذكره في القرآن وجاء في صيغة جمع كما قلنا آنفا فيكون هو المألوف في الدرجة الأولى. ويكون ما استقر في الأذهان من بدائية أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته وكون أكتاف العظام ولحاف الشجر وقطع النسيج هي مادة الكتابة عندهم مبالغا فيه كثيرا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 8 الى 9]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
(1) وللبسنا عليهم ما يلبسون: أوجه التأويلات لهذه الجملة أنها بمعنى
__________
(1) الرق هو ما يتخذ من جلود الأنعام وجمعه رقوق. وقد ورد ذكره كشيء يكتب عليه في آيات سورة الطور هذه: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) .(4/67)
(التبس عليهم الأمر فألبسهم الله ما ألبسوه لأنفسهم من الشك في كون رسل الله إليهم بشرا مثلهم) .
تعليق على طلب «الكفار استنزال الملائكة وردّ القرآن عليهم»
في الآيات حكاية تحدّ للكفار يطلبون به أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ملك يؤيد صلته بالله. وردّ عليهم أولا: بأن الله تعالى لو أنزل ملكا لكان في ذلك إيذان بحلول أجلهم وقضاء أمر الله فيهم، وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهالهم وينصب عليهم البلاء والتدمير. وثانيا: بأن حكمة الله لو اقتضت إنزال ملك لجاءهم على صورة رجل، وحينئذ لا تكون المشكلة قد حلت إذ يكون التبس الأمر عليهم ولم يروا ما طمعوا في رؤيته على حقيقته. ووقعوا في الشك الذي وقعوا فيه حينما شكوا في أن يرسل الله رسولا من البشر فكانوا سببا في إلباس الله لهم ما ألبسوه لأنفسهم بهذا الشك.
ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد المحكي قولهم في الآية الأولى.
ويلحظ شيء من الفرق بين أسلوب هذه الآية وأسلوب الآية السابقة لها حيث جاءت الآية السابقة بأسلوب المفروض من موقفهم إذا أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم كتابا في قرطاس في حين جاء أسلوب هذه الآية حكاية لطلب وتحدّ من بعض الكفار.
وحيث يسوغ هذا أن يقال إن الآيات بسبيل حكاية موقف تحدّ وجدل وجاهي والرد عليه. وإذا صح هذا تكون الآيات السابقة مقدمة لهذا الموقف، على أن احتمال كون الآيات استمرارا للسياق السابق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم المتكررة واردا أيضا وفي هذه الحالة يكون ما حكته من تحدّ قد سبق نزول السورة فأشير إليه في معرض حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم.
ولقد تكررت حكاية طلب الكفار استنزال الملائكة ومرت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها التي سبقت هذه السورة مباشرة على التوالي أي سور الحجر وهود ويونس ثم في سورتي الإسراء والفرقان قبلها. حيث يدل هذا على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر من الجزء الكبير الذي كان يشغله الملائكة في أذهان(4/68)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
العرب قبل الإسلام واعتقادهم بوجودهم وصلتهم واختصاصهم بالله وكونهم منفذي أوامره وأصحاب الحظوة لديه.
والجديد هنا هو ذكر كون الله تعالى إذا ما شاء إنزال ملك أنزله في صورة رجل وهناك آيات تفيد أن سنّة الله جرت على مثل ذلك في الملائكة الذين كان يرسلهم الله إلى بعض أنبيائه. ومن ذلك ما تفيده آيات [68- 80] من سورة هود والآية [17] من سورة مريم.
وهناك أحاديث صحيحة أوردناها في تعليقنا على موضوع الملائكة في تفسير سورة المدثر تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك أحيانا في صورة رجل وأن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه في صورة رجل، والموضوع في أصله أي موضوع الملائكة مما يجب على المسلم الإيمان بما جاء عنه في القرآن وثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تفويض الأمر فيه إلى الله ورسوله على ما شرحناه في التعليق المذكور بما يغني عن التكرار مع ملاحظة ما ذكرناه في التعليق من أهداف ومقاصد.
ولقد علل المفسرون والمؤولون حكمة الله في إنزال الملك في صورة رجل إذا ما شاء إنزاله على بشر بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة أو أن الملائكة في أصلهم نورانيون لا يمكن أن يراهم البشر. فيشاء الله أن يتمثلوا لهم في صورة رجل وعللوا ما روته بعض الأحاديث التي وردت في الصحاح وأوردناها في سياق تعليقنا المذكور والتي تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الملك في هيئته الأصلية سادا الأفق بأن ذلك خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم والتعليلات وجيهة فيما هو المتبادر. والله أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
جاءت الآيتان معقبتين على سابقاتهما وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار الكفار(4/69)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
حيث قررتا أن ما يفعله هؤلاء قد فعلته الأمم السابقة مع رسلهم وقد حاق بهم شر ذلك. وعلى الكفار أن يسيروا في الأرض ليروا آثار بلاء الله تعالى وتدميره وكيف كانت عاقبة المكذبين وليتعظوا بذلك، وهناك آيات عديدة مر بعضها في سور سبق تفسيرها تذكر أن من سامعي القرآن من زار أماكن الأقوام السابقين ورأوا آيات تدمير الله فيها مثل آيات الفرقان [40] والصافات [133- 138] والعنكبوت [38] حيث يبدو أن الأمر بالسير ورؤية آثار بلاء الله في الأقوام السابقة هو من قبل الإلزام والإفحام.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
في الآيتين توكيد بأسلوب السؤال التقريري بأن كل ما في السموات والأرض هو لله وهو المتصرف المطلق في كل ما تحرك وسكن في الليل والنهار وأن رحمته قضت أن يجمع الناس جميعا إلى يوم القيامة وأنه ليس في هذا أي مجال للريب، وهناك يرى الذين لا يؤمنون أنهم هم الذين خسروا وأضاعوا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم.
هذا ومن المفسرين والمؤولين من قال إن جملة كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [12] هي في مقام قسم رباني جوابه في الجملة التي بعدها. ومنهم من تبادر له من الجملتين أن من الرحمة التي كتبها الله على نفسه أن أمهل الكفار وأمدّ لهم في الدنيا لعلهم يغنمون الفرصة ويدينوا بدين الحق. وأن منها حكمته التي اقتضت البعث والحساب الأخرويين لينال أهل الدنيا جزاء أعمالهم خيرا كانت أم شرا، ولا تحتمل التأويلات من الوجاهة.
ولقد أورد المفسرون في سياق جملة كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الأعراف: [156] أحاديث نبوية في مدى رحمة الله تعالى. وقد أوردنا هذه(4/70)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
الأحاديث في سياق جملة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في سورة الأعراف الآية [156] فنكتفي بهذا التنبيه مع التنبيه على أن جملة آية الأعراف أوسع شمولا ومدى منها هنا كما هو المتبادر والله أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 16]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
معاني الآيات واضحة والخطاب فيها موجه للنبي صلى الله عليه وسلم يؤمر فيها بإعلان عقيدته الخالصة بالله وحده وينطوي فيها كما هو المتبادر إعلان ودعوة وتحذير للسامعين من مؤمنين وغير مؤمنين.
ولقد روى بعض المفسرين «1» أن الآيات نزلت ردا على قول الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا علمنا أنه لا يحملك على ما تقول إلّا الفقر ونحن نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا.
ولقد روي مثل هذه الرواية في مناسبات عديدة مرت أمثلة منها غير أن فحوى الآية هنا لا يساعد على التسليم بصحة الرواية كمناسبة لنزولها. والمتبادر من التشابه بين هذه الآيات والآيات السابقة لها واللاحقة بها معا أنها سياق واحد.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 18]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
(1) القاهر فوق عباده: الجملة بمعنى صاحب القدرة والسيطرة على عباده.
__________
(1) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي.(4/71)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
والآيات استمرار كذلك في السياق وتعقيب عليه كما هو المتبادر، ومعانيها واضحة. وكأنما أريد أن يقال للكفار في هذه الآيات وسابقاتها بسبيل الرد والتنديد إنكم إذا كنتم تتخذون أولياء غير الله ظنا منكم بأنهم يمكنهم أن يكشفوا عنكم ضرا أو يجلبوا لكم نفعا فإنكم في ضلال. فلن يملك ذلك إلّا الله تعالى الذي فطر السموات والأرض. والذي لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل الناس ولا يستحق العبادة والاتجاه وإسلام النفس إلّا هو وحده الذي له القدرة والسيطرة على كل عباده والذي لا يقضي إلّا بما فيه الحكمة الخبير بكل شأن وأمر.
[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
في الآية أوامر ربانية للنبي صلى الله عليه وسلم تأمره بأن يسأل عمن هو أعظم شهادة وأن يقرر أنه هو الله تعالى وأن يعلن أنه يجعل الله شهيدا بينه وبين الذين يتجادل معهم على أن الله هو الذي أوحى إليه بالقرآن لينذر به الناس السامعين ومن يبلغه خير هذا الإنذار من الغائبين، وبأن يعلن إذا أصرّ المشركون على إشراك آلهة أخرى مع الله أنه بريء مما يشركون وأنه لا يشهد إلّا بأن الله واحد لا شريك له.
وقد روى البغوي والطبرسي أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اذكر لنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم فإننا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فنزلت الآية ردا عليهم.
وروى الطبري أن بعض أشخاص من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ما تعلم مع الله إلها غيره. فقال لا إله إلا الله. بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو. فأنزل الله هذه الآية مع التي بعدها. ورواية الطبري تقتضي أن تكون الآية مدينة. وليس هناك رواية بذلك باستثناء الآية [20] على ما ذكرناه في مقدمة السورة. وفحوى الآية أنها في صدد جدال مع المشركين. وفي الآية [20] تأييد دعوى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعقل(4/72)
أن تكون نزلت للرد على اليهود الذين آذنت أنهم يعرفون حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم بصفتهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ البقرة: [146] وهذا وذاك يسوغ الشك في رواية الطبري، أما الرواية الأولى فإن شطرها الثاني مناقض للآية [20] كما هو واضح.
والذي يتبادر لنا من أسلوب الآية أنها استمرار في السياق وأن ضمير الجمع المخاطب الذي يعود إلى الكفار على الأرجح يربط بينها وبين موقف الجدل الوجاهي الذي حكته الآيات السابقة ثم أخذت ترد عليه ردا بعد رد منددة ومنذرة ومقرعة ومذكرة.
تعليق على الآية قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ... إلخ
وأسلوب الآية نافذ إلى الأعماق في صدد الدعوة إلى الله وحده. والجملة على أي مظهر من مظاهر الشرك ثم في جعل الله شهيدا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا يبلغ إلّا الصدق. وأن القرآن هو من وحي الله وجملة وَمَنْ بَلَغَ تتضمن عموم الدعوة المحمدية وخلودها وشمولها لكل ظرف ومكان وجنس ونحلة كما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية وردت صيغ مقاربة لها في كتب الصحاح. منها حديث رواه الشيخان عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليبلغ الشاهد الغائب فإنّ الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه» «1» .
وحديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«بلّغوا عنّي ولو آية» «2» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نضّر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمع فربّ مبلّغ أوعى من سامع» «3» .
__________
(1) التاج ج 1 ص 58- 60.
(2) التاج ج 1 ص 58- 60.
(3) التاج ج 1 ص 58- 60.(4/73)
وينطوي في الأحاديث إيجاب نبوي صريح على كل مسلم في كل زمن ومكان تبليغ شيء مما يعرف من آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم لأي كان لا يعرف ذلك. سواء أكان مسلما أم غير مسلم، فكأنما حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا ما أمر به في الآية من إنذار السامعين بالقرآن ومن يبلغه خبره من غيرهم على المسلمين استمرارا لتحقيق أمر الله تعالى له. وهذا يعني واجب الدعوة إلى الإسلام على كل مسلم في كل زمن ومكان. والمتبادر أن هذا الواجب أشد إيجابا على القادرين عليه علما وسلطانا واستطاعة. وبالدرجة الأولى على أولياء أمر المسلمين الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والإسلام. فالله سبحانه وتعالى أرسل رسوله مبشرا وداعيا ونذيرا لجميع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم ونحلهم وأمر المسلمين أن يجعلوه أسوة وأن يستمروا على نهجه ولا ينقلبوا على أعقابهم بعده كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [144] وكما جاء في آية سورة الأحزاب هذه: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [21] فصار واجب التبليغ والدعوة واجبا لازما على كل مسلم وكل بحسب قدرته واستطاعته. مع شرط مهم هو أن يكون الصدق والإخلاص رائدهم في كل ما يبلغونه وأن يتحروا في ذلك أشد التحري وأن لا يكون فيه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حيث جاء في حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو: «ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «1» . وفي القرآن آيات عديدة فيها إنذار رهيب لمن يكذب على الله تعالى منها آية سورة الأعراف [27] التي سبق تفسيرها ومنها آية الزمر هذه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) .
__________
(1) التاج ج 1 ص 58.(4/74)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
[سورة الأنعام (6) : آية 20]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
في الآية تقرير رباني بأن الكتابيين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته وصحة وحي الله إليه بالقرآن معرفة يقين كما يعرفون أبناءهم. وبأن الذين لا يؤمنون بذلك هم الذين خسروا أنفسهم وأشقوها بعنادهم ومكابرتهم.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مدينة ولقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم في المدينة إن الله قد أنزل على نبيه هذه الآية. وسأله كيف هذه المعرفة. فقال له عرفته حين رأيته كما أعرف ابني هذا وإني أشهد أنه رسول الله حقا. ولقد توقفنا في رواية مدنية الآية مع غيرها مما ذكر أنها مدنيات في تعريف السورة لانسجامها مع السياق. وقد تكون رواية مدينة هذه الآية ملتبسة بهذه الرواية. وإنه ليتبادر لنا بقوة أنها متصلة بالسياق وبخاصة بالآية السابقة لها مباشرة اتصال تدعيم. فقد جعلت الآية السابقة لها الله تعالى شهيدا على صدق وحي الله بالقرآن وجاءت هذه الآية لتقرر ذلك بطريق إشهاد أهل الكتاب. ولعل فيها ردا على ما روته الرواية التي أوردناها من قبل، التي ذكرت أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم سألوا عنه اليهود والنصارى فأنكروه.
تعليق على جملة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ
والآية تتضمن تقريرا يقينيا بأن أهل الكتاب يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم معرفة يقينية كما يعرفون أبناءهم. وينطوي فيها تقرير كونهم يعرفون صدق دعوته وصحة الوحي القرآني. وكان هذا يتلى علنا، فلا بد من أنه كان مستندا إلى مشاهد ووقائع ثابتة لا تدحض.
ولقد كان ذلك فعلا وهو ما حكته آية سورة الأعراف [157] وآيات سورة(4/75)
القصص [52 و 53] وآيات سورة الإسراء [107- 109] التي سبق تفسيرها من مشاهد قوية صريحة.
وفي سور مكية أخرى تسجيل لذلك منها الآية [10] من سورة الأحقاف والآية [47] من سورة العنكبوت والآية [36] من سورة الرعد.
وفي سور مدنية تسجيلات أخرى من ذلك في آيات البقرة [121، 146] وآل عمران [112- 114 و 199] والنساء [55] والمائدة [82 و 83] التي أوردناها في سياق تفسير آية الأعراف المذكورة.
وفي هذه السورة آية تذكر أن الذين أوتوا الكتاب يعرفون أن القرآن منزّل من الله بالحق.
وإذا كان القرآن المدني قد سجل حقا مواقف مناوئة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته من طوائف من أهل الكتاب وأحبارهم ورهبانهم مما تضمنته سلسلة آيات البقرة [40] وما بعدها إلى الآية [175] وآيات آل عمران [19- 25 و 64- 120] والنساء [43- 56 و 150] والمائدة [45- 86] والتوبة [29- 35] والجمعة [5- 8] ففي سياق التسجيل تقريرات بأن موقفهم هذا آت من الغيظ والحسد والرغبة في كنز الذهب والفضة وأكل الأموال بالباطل مع علمهم في قرارة أنفسهم بصحة نبوة النبي والوحي القرآني كما يظهر لمن يقرأ هذه الآيات.
ومن الجدير بالذكر أنه ليس في القرآن المكي ذكر لمواقف مناوئة من أهل الكتاب حيث يدل هذا على أنهم استجابوا للدعوة التي عرفوا أنها الحق وانضووا إليها، حيث ينطوي في هذا شهادة عيانية خالدة من أهل الكتاب بصدق وحي الله بالقرآن وبصدق الرسالة المحمدية وإيمانهم بهما حينما يرتفع قوله عن كل منفعة مادية وحقد وحسد وأنانية ومكابرة ويرغبون في الحق والهدى كما كان شأن الجماعة التي كانت في مكة التي كانت متنوعة الجنسيات وفيهم أولو العلم والاطلاع. وحجة خالدة على مدى الدهر على كل من يقف موقف الجاحد المعطل من القرآن والرسالة المحمدية.(4/76)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
[سورة الأنعام (6) : آية 21]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
[21] .
(1) ومن أظلم: ومن أشد جرما وبغيا.
الآية استمرار في السياق كما هو المتبادر، وقد قال بعض المفسرين «1» في تأويل جملة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنها بمعنى (ليس أحد أظلم ممن تقوّل على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله) ومعظم المفسرين «2» أولوها بمعنى (ليس أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى أن له شركاء) وكلا التأويلين وجيه ومتسق مع السياق. وفي حال الأخذ بالتأويل الأول تكون الجملة بمثابة تعقيب وتدعيم لجملة إشهاد الله على صحة الوحي القرآني الواردة في الآية [19] بأسلوب قوي رائع. وفي حال الأخذ بالتأويل الثاني تكون الجملة بمثابة تعقيب على أمر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم مجاراة المشركين في شهادتهم بأن مع الله آلهة أخرى وبإعلان براءته مما يشركون وهذا كذلك مما ورد في الآية المذكورة أيضا.
ولعل الآيات التالية لهذه الآية ترجح التأويل الثاني الذي قال به معظم المفسرين.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
(1) ثم لم تكن فتنتهم: بعضهم أوّلها بمعنى (ثم لم تكن عاقبة فتنتهم)
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير.
(2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن ورشيد رضا.(4/77)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
وبعضهم أوّلها بمعنى (ثم لم يكن اعتذارهم) وكلا التأويلين وجيه.
(2) كذبوا على أنفسهم: بمعنى خدعوا أنفسهم.
(3) ضل عنهم: غاب عنهم شركاؤهم الذين أشركوهم مع الله افتراء عليه.
في الآيات وصف للموقف المحرج الذي يقفه المشركون يوم يحشرهم الله تعالى يوم القيامة، حيث يسألهم عن شركائهم فيسقط في أيديهم ويأخذون يحلفون الأيمان على أنهم لم يكونوا مشركين. وهكذا يكذبون أنفسهم ويتنصلون من جريمتهم عبثا، ويغيب عنهم الشركاء الذين أفتروهم ولا يجدون لهم منهم أولياء ولا نصراء.
والآيات متصلة بالسياق وهي مرجحة كما قلنا قبل للتأويل الثاني للآية السابقة عليها حيث يتبادر أن الضمير فيها راجع إلى (الظالمين) الذين يفترون على الله ويكذبون بآياته.
وقد استهدفت إثارة الخوف في المشركين وحملهم على الارعواء فيما استهدفته.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [23] مدينة مع أنها متصلة اتصالا تاما بسياق الآيات التي قبلها وبعدها وبموضوعها حتى إن الآيات الثلاث تبدو وحدة تامة مما يسوغ الشك في الرواية بقوة بل نفيها ولم نطلع على رواية ما في كتب التفسير تؤيد ذلك.
[سورة الأنعام (6) : آية 25]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
(1) وقرا: صمما.
في الآية إشارة إلى موقف من مواقف المناظرة التي كانت تحدث بين(4/78)
النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث كانوا يستمعون إليه حينما يتلو القرآن فلا ينفذون إلى ما فيه من علوية وروحانية عنادا ومكابرة ولا يجدون ما يقولونه إلّا أنه أساطير الأولين وقصصهم وكتبهم.
وقد أورد المفسرون «1» في سياقها رواية جاء فيها أن أبا سفيان وأبا جهل والنضر بن الحارث وآخرين من زعماء المشركين كانوا يستمعون القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ قال: ما أدري إلّا أني أراه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم، فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل: كلا، كلا إن الموت أهون علينا من أن نقرّ بذلك «2» .
وضمير (منهم) وعطف الجملة على ما سبقها يدلان على أن الآية من سلسلة السياق. ولم تنزل لحدتها فصلا مستقلا، وهذا لا يمنع أن يكون قد حدث ما ذكرته الرواية فأشير إليه في الآية.
تعليق على جملة وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وجملة وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها
معترضة أو استطرادية. ويتبادر أنها بسبيل تصوير شدة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان والتصديق مهما رأوا من آيات الله. وقد تكرر مثل هذا التعبير في مثل هذه المناسبة. ومن ذلك آيات سورة الإسراء [45- 46] التي مرّ تفسيرها وعلّقنا عليها بما فيه الكفاية وما قلناه هناك ينسحب على هذه الآية بما في ذلك ما لمحناه من قصد التسجيل لواقع الكفار حين نزولها. ويتبادر لنا أنه قصد بالعبارة هنا بخاصة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهوين عناد الكفار ومواقفهم عليه. والأسلوب الاستطرادي مما يؤيد ذلك.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي والطبرسي. [.....]
(2) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير لهذه الآيات.(4/79)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
[سورة الأنعام (6) : آية 26]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
قال المفسرون «1» في تأويل الآية إن زعماء المشركين كانوا ينأون عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن القرآن فلا يؤمنون به وينهون غيرهم عن الإيمان به فجمعوا بذلك بين القبيحين. وهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم دون أن يشعروا. ورووا مع ذلك «2» أن الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدافع عنه ولا يؤمن به في الوقت نفسه.
وقد صوب الضحاك وقتادة ومجاهد والطبري التأويل الأول وهو ما نراه الأوجه، ولا سيما إذا لوحظ أن الآية جاءت في سياق تعنيف زعماء الكفار على مواقف عنادهم ومكابرتهم ثم في سياق جدلهم في القرآن. وليس في السياق مجال للاستطراد إلى وصف موقف عمّ النبي صلى الله عليه وسلم والآية بعد معطوفة على ما قبلها وليست فصلا مستقلا. والآيات التالية لها هي استمرار في السياق أيضا. أما الشطر الثاني من الآية فقد جاء بمثابة تعقيب على ما حكاه شطرها الأول حيث قرر أن ما يفعله الكفار إنما يضرون به أنفسهم ويهلكونها به دون أن يشعروا ويدروا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)
الآيتان معطوفتان على الآية السابقة في صدد الإشارة إلى مواقف الكفار وإنذارهم والضمير فيها راجع إليهم. وقد حكت الآية الأولى ما سوف يشعرون به من الندم على هذه المواقف حينما يقفون على النار يوم القيامة ويتيقنون من مصيرهم الرهيب فيها فيأخذون يتمنون العودة إلى الدنيا فلا يكذبون بآيات الله ويكونون من المؤمنين برسله. وقد احتوت الآية الثانية تنديدا وتبكيتا للكفار ثم
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.
(2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.(4/80)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
توكيدا بأنهم لو عادوا إلى الدنيا كما طلبوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
وينطوي في هذا تعليل لذلك بأنهم إنما كانوا يصدرون عن نية خبيثة وطوية فاسدة.
ولقد أوّل المؤولون الشطر الأول من هذه الآية بتأويلين أحدهما: «إنهم إنما قالوا ما حكته الآية الأولى عنهم لأنهم بدا لهم عاقبة وبال ما كانوا يخفونه من المساويء والمعاصي» . وثانيهما: «إنهم ظهر لهم مصداق ما كانوا مستيقنين منه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يدعو إليه ويبلغه ويبشر وينذر به والذي كانوا يجحدونه استكبارا وحسدا وغيظا» . وكلا التأويلين وارد. ولقد أشير إلى الأول في آية سورة السجدة [12] وآية سورة فاطر [37] وأشير إلى الثاني في آية سورة ص [7] وآيات سورة فاطر [42 و 43] وآية سورة الزخرف [31] .
وواضح أن الآيتين استهدفتا فيما استهدفتاه إنذار الكفار وإثارة الخوف في قلوبهم وتصوير ما استقر في نفوسهم من تعمد العناد والكفر وفقدهم الرغبة الصادقة في الإيمان والصلاح وفيهما تطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أيضا بالإضافة إلى ما فيهما من مشهد أخروي يجب الإيمان به.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 29 الى 30]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
في الآية الأولى حكاية لما كان يقوله الكفار حيث كانوا يزعمون ويؤكدون أنه ليس من حياة وراء هذه الحياة، وأنهم لن يبعثوا بعد الموت. وفي الآية الثانية ردّ إنذاري موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أو إلى سامع القرآن إطلاقا، وهذا من أساليب الخطاب العربي بسبيل توكيد بعثهم وحكاية لما سوف يكون بينهم وبين الله تعالى إذ ذاك حيث يسألهم حينما يقفون أمامه أليس ما يرونه هو الحق الذي كانوا ينكرونه، فيجيبون بالإيجاب فيقول لهم إذا ذوقوا العذاب جزاء إنكارهم وكفرهم.
والآيتان معطوفتان كذلك على سابقاتهما واستمرار في السياق. وفيهما قصد الإنذار مع توكيد البعث والجزاء. وما جاء في الآيتين من أقوال الكفار قد تكرر الجزء الرابع من التفسير الحديث 6(4/81)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
كثيرا ومرّ منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها لأن الموافقة المماثلة كانت تتكرر وتتجدد.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 31 الى 32]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
(1) الساعة: في أكثر مواضع القرآن تأتي كناية عن وقت قيام القيامة وقد أوّلها المفسرون هنا كذلك أيضا. غير أن الذي يتبادر لنا والله أعلم أنها هنا بمعنى ساعة أجل المكذبين في الحياة، لأن هذا هو الأكثر تأثيرا على السامعين الموجه إليهم الإنذار من حيث إن موعد قيام الساعة العام متأخر عنهم.
(2) يزرون: يحملون.
الآية الأولى تقرر خسران المكذبين بلقاء الله والبعث، وتحكي ما سوف يستشعرون به من الحسرة والندامة على ما فرطوا في حياتهم وأضاعوا الفرصة حينما تأتيهم الساعة بغتة ويلقون الله حاملين خطاياهم وآثامهم، وبئست من حمل.
والثانية تقرر بأسلوب فيه توكيد وتنديد بأن الحياة الدنيا ليست إلا لعبا ولهوا وأن الآخرة هي خير وأبقى للذين يتقون الله تعالى وأن هذا مما يجب أن يدركوه لو تعقلوا وترووا. وفي صيغة الاستفهام معنى التثريب والتنديد.
والآيتان معقبتان على الآيات السابقة كما هو المتبادر وفيهما تنديد وإنذار للكفار وتصوير لما سوف يحل بهم من الندامة بأسلوب آخر ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن المتبادر أن من حكمة ذكره قصد إثارة الخوف والارعواء فيهم وقد تكرر ذلك في آيات كثيرة، مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها.
ويلحظ أن وصف حالة ندم الكفار يوم القيامة على ما قدموا قد تكرر في(4/82)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
السياق وهذا مما يدعم قصد الإنذار وإثارة الخوف والارعواء قبل فوات الوقت، وبالتالي قصد الإصلاح في الآيات كما هو المتبادر.
تعليق على جملة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وقد يتبادر إلى الوهم أن الآية الأخيرة هي في صدد الدعوة إلى الفراغ من الدنيا ونبذها والذي يستلهم من روح الآية أن القصد هو تعظيم شأن الآخرة وتعظيم شأن الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح والتقوى والاعتقاد فيها اعتقادا يجعل المرء يراقب الله في أعماله ولا يستغرق في متاع الدنيا وشهواتها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس. وتوكيد كون الحياة الدنيا بقصر أمدها وبنسبتها إلى الحياة الأخروية الخالدة هي بمثابة لعب ولهو لا يتحمل استغراقا مثل هذا الاستغراق.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 36]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تثبيته وتسليته فالله تعالى يعلم أن ما يقوله الكفار له- من أنه مفتر ومن أنه شاعر ومن أنه كاهن ومن أنه ساحر- يحزنه ويؤلمه. ولكن ليس من داع إلى ذلك لأنهم لا يكذبونه هو بل يكذبون آيات الله ويجحدونها، ولذلك فهم خصماء الله وعليه جزاؤهم. وموقفهم هذا ليس بدعا إزاءه بخاصة. فقد كذبت رسل من قبله أيضا فصبروا على التكذيب والأذى حتى أتاهم نصر الله. وهذه هي سنة الله التي لا تتبدل. وقد عرفها مما جاء إليه من أنباء(4/83)
الرسل ومصائر الأمم في القرآن. وليس من موجب لتفكيره في صنع المستحيل كأن يحفر نفقا ينزل فيه إلى أعماق الأرض أو ينصب سلما يصعد فيه إلى أعالي السماء ليأتيهم بآية يقنعون بها بسبب ما يعظم عليه من إعراضهم ويشق عليه من عدم استجابتهم. فذلك من شأن الجهلاء الذين لا ينبغي أن يكون هو منهم. فلو شاء الله لجمعهم على الهدى. ولكن حكمته قضت بأن يكون الناس أصحاب اختيار حرّ ليستجيبوا إلى الدعوة أو يعرضوا عنها باختيارهم، والناس أقسام فمنهم ذوو قلوب حية، ومنهم ذوو قلوب ميتة. فالأولون يسمعون ويستجيبون إلى نداء الله ودعوته.
أما الآخرون فهم بمثابة الموتى الذين لا يسمعون فلا يستجيبون للنداء. ومرجع هؤلاء إلى الله تعالى فسوف يبعثهم ثم يجزيهم بما يستحقون.
والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة التي حكت مواقف الكفار وجحودهم وشدة عنادهم وبخاصة زعمائهم واحتوت في ذات الوقت إنذارا لهم ووعيدا وتنديدا. وأسلوبها رائع نافذ حقا فيما استهدفته من تطمين نفس النبي صلى الله عليه وسلم وتهدئته وفي تصوير شدة إشفاقه ورغبته في هداية قومه وحزنه من تصاممهم وتكذيبهم له.
وفي الآية الأخيرة ثناء وتنويه بالذين يذعنون للحق والحقيقة، ولا يكابرون فيهما وتقريع للذين يعاندون ويكابرون عن خبث نية وفساد طوية. أولا: وفيها توكيد لما نبهنا عليه مرارا من أن الذين يكفرون ويقفون مواقف المناوأة والتكذيب وعدم الاستجابة، إنما يصدرون عن خبث طوية ومكابرة.
وقد يكون في الآيات صورة للسامعين للقرآن. غير أن أسلوبها المطلق يجعل تلقيناتها الجليلة المشروحة مستمرة المدى.
تعليق على جملة فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ
لقد روى الترمذي في سياق الآية الأولى حديثا عن علي بن أبي طالب قال:
«إنّ أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم نحن لا نكذّبك ولكنّا نكذّب بما جئت به فأنزل الله(4/84)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
الآية» «1» . وروى الطبري أن جبريل جاء يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده حزينا فسأله عما يحزنه فقال له إنهم كذبوني فقال له إنهم يعلمون أنك صادق فهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون بآيات الله وبلّغه الآية عن الله» . والحديثان لا يعزوان ما جاء فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المرجع الذي ينقل عنه مثل ذلك. والآية بعد منسجمة مع الآيات الأخرى ومع السياق بحيث يسوغ التوقف في كونها نزلت لمناسبة ما جاء في الأحاديث. وهذا لا يمنع أن يكون ما جاء في حديث الترمذي واقعا في ذاته وقد مرّ في سياق تفسير الآية [28] من هذه السورة رواية من بابها تفيد أن الكفار كانوا مستيقنين من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم كانوا يقفون منه موقف المناوأة استكبارا وحسدا وقد أوردنا في سياق ذلك بعض الآيات التي تفيد ذلك أيضا.
على أن الطبري وغيره يروون في الوقت نفسه أن الذي عنته الآية من حزن النبي صلى الله عليه وسلم هو تكذيبهم إياه فعلا وقولهم إنه شاعر وإنه كاهن وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه ساحر مما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها كذلك، فأنزل الله الآية على سبيل تثبيته وتطمينه والتنديد بالكفار وذكر الحقيقة من مواقفهم ولا يخلو هذا من وجاهة أيضا، والله أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 39]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
في الآيات حكاية لتحدي الكفار النبي صلى الله عليه وسلم باستنزال آية ومعجزة من الله مؤيدة له. وأمر بالرد عليهم: بأن الله قادر على ذلك ولكن أكثر المتحدين لا يعلمون ولا يدركون حكمة الله تعالى في تحقيق ذلك أو عدم تحقيقه. وبأن قدرته أوسع شمولا وتناولا وأن آياته ماثلة للعيان في كل شيء. وأنه ليس في الأرض دابة وليس في
__________
(1) روى هذا الحديث الترمذي أيضا انظر التاج ج 4 ص 98.(4/85)
السماء طائر إلا هو من خلقه تتناولهم قدرته ويجري فيهم حكمه وتدبيره. وأنه ليس من شيء يمكن أن يفلت من علمه ويخرج من نطاق تصرفه وحكمه، وأن كل مخلوق راجع أمره إليه، وأن الذين يكذبون بآيات الله الماثلة لعيانهم في كل شيء والتي تنبههم إليها آيات القرآن هم في موقفهم التعجيزي الذي يطالبون فيه بآية جديدة كالصمّ الذين لا يسمعون، والبكم الذين لا ينطقون، وكالذين في الظلمات لا يرون شيئا فمن شاء الله أضله ومن شاء جعله على طريق مستقيم.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد ما حكته الآيات من طلب الكفار آية من النبي صلى الله عليه وسلم ينزلها عليه ربه. وعطف الآيات على ما قبلها، وما بينها وبين ما قبلها من تماثل وانسجام يسوغ القول إنها استمرار في السياق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتعجيزاتهم والتنديد بهم بصورة عامة.
ويلفت النظر إلى أسلوب القرآن الحكيم في الإجابة على التحدي باستنزال الآية بما هو أولى، فالكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم باستنزال آية والقرآن يلفت نظرهم إلى آيات الله العظيمة الماثلة لأعينهم في السماء والأرض والإنسان والدواب والطير. فمن لم يؤمن بالله واستحقاقه للعبادة وحده وعظمته بما يراه من هذه الآيات لا يؤمن بأية آية أخرى. ولا سيما أن الإيمان بذلك يتوقف على سلامة العقل والرغبة في الحق والنية الحسنة ولا ينبغي أن يكون متوقفا على معجزات خارقة وعابرة. وهذه المعاني تكررت في القرآن في سياق حكاية كل تحدّ مماثل صدر عن الكفار وهي معان قوية رائعة نافذة حقا.
تعليق على آية وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
1- قال المفسرون ورووا عن أهل التأويل أن الشطر الأول من الآية يعني أن الله جعل الدواب والطيور أصنافا مثل البشر، تتصرف في حياتها بما أودعه الله فيها كما يتصرفون، وهذا وجه سديد.(4/86)
2- وقالوا ورووا في صدد جملة ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أن الدواب والطيور تحشر يوم القيامة وتحاسب ويقضى بينها ثم يقول الله لها كوني ترابا فتكون ترابا. وأوردوا أحاديث في ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال:
«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال يا أبا ذرّ هل تدري فيم تنتطحان؟
قال: لا، قال: ولكن الله يدري وسيقضي بينهما» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» وحديث غير معزو للنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة جاء فيه: «يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فتكون ترابا» . وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» ولقد عقب الطبري على كل هذا بقوله إنه ليس في الآية صراحة عن وقت الحشر وليس هناك خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فجائز أن يكون الحشر ليوم القيامة كظاهر الآية وجائز أن يكون بمعنى أنه جامعهم وحاشرهم إليه بالموت. ونرى هذا سديدا والوقوف عنده أسلم. ويظهر من هذا أن حديث مسلم والترمذي لم يثبت عنده. وإذا صح فالحكمة المتبادرة منه هي قصد التوكيد والتشديد على المؤمنين بأداء حقوق بعضهم إلى بعضهم وعدم ظلمهم بعضهم لبعض، والله أعلم.
3- أما جملة ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فهناك من أول الكتاب بأم الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي روى أن الله تعالى أمر بكتابة كل ما هو كائن حين خلقه عليه وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سورة البروج ورجحنا أنه يعني علم الله المحصي لكل شيء. وهناك من أولها بعلم الله المحيط بكل خلقه الذي لا ينسى من رزقه وتدبيره أحدا ولا شيئا ومنهم من أول الكتاب في الجملة بالقرآن وأورد آية سورة النحل هذه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [89] لتأييد تأويله. وقد ردّ قائلو هذا على من قال إن القرآن ليس فيه تفاصيل كل علم وفن(4/87)
ومذهب وتاريخ. فإن القصد من العبارة بيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، أو بأن القصد منها وجود إشارات أو أساس لكل شيء بقطع النظر عن التفاصيل والجزئيات.
وهذه الأقوال والتأويلات اجتهادية وتطبيقية، وليس هناك شيء فيما اطلعنا عليه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في تأويل الجملة. ويلحظ أنها ليست مستقلة عن ما قبلها وعن ما بعدها بحيث يسوغ القول إنها في صدد ما جاء في الآية من تقرير كون الله جمع الحيوانات من بشر ودواب وطيور صنوفا وكون مردهم وحشرهم إليه وكون علم الله محيطا بهم أن أي تفريط بشيء من أحوالهم وأمورهم. وهذا يتسق من حيث الإطلاق بالقول الثاني أيضا. وسيأتي بعد قليل في هذه السورة آية تدعم هذا وهي الآية [59] وقد ورد في سور سبق تفسيرها آيات فيها هذا الدعم وهي آيات النمل [75] ويونس [75] وهود [6] وما ذكرته هود بخاصة تكاد تكون في عبارتها مثل الآية التي نحن في صددها وهناك آيات أخرى من باب ذلك في سور أخرى لم يسبق تفسيرها أيضا.
وفي كل ما تقدم نفي لكون (الكتاب) في الجملة قد عنى (القرآن) ورد على من يقتطع الجملة من الآية من مسلمين وغير مسلمين ويأخذها كعبارة مستقلة عن ما قبلها وبعدها وكونها عنت (القرآن) وعلى من يدلل من المسلمين من هؤلاء بها على أن القرآن احتوى كل شيء ويحاول محاولات فيها كثير من التمحل والمجازفة بسبيل إثبات ذلك في حين ينتقد غير المسلمين من هؤلاء القرآن على ضوء ما يقوله أولئك المسلمون من حيث إن القرآن لا يحتوي على كل شيء.
وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات التي جاءت فيها العبارات الثلاث هي في صدد تقرير شمول علم الله تعالى وقدرته وحكمته وتدبيره وإحاطته للتدليل على أن الذي له هذا الشمول لا يعجز عن إنزال آية يتحداه بها حفنة من خلقه، وأن الأولى هو الوقوف عند هذا الحد في صدد مدى النصّ القرآني. والله تعالى أعلم.(4/88)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
تعليق على جملة مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
وقد توهم الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة أن الله قد شاء وحتم الضلال لأناس والهدى لأناس إطلاقا. ولقد ورد مثل هذه العبارة في آيات أخرى مقيدة بما يزيل مثل ذلك الوهم حيث ذكر فيها أن الله إنما يضل الفاسقين [آية سورة البقرة 26] وإنما يضل الظالمين [آية سورة إبراهيم 27] ويهدي إليه من أناب [آية سورة الرعد 27] فمن الحق أن تفهم هذه العبارة حينما تجيء مطلقة كما هي هنا على ضوء القيد الوارد في الآيات المذكورة وأمثالها وحينئذ لا يبقى محل للتوهم على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة سابقة. وأن يلحظ أنه لا يصح أن يكون الله قد شاء الضلال لأحد وهو الذي أرسل رسله للناس وهو الذي يقول في آية في سورة الزمر وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [7] ومع ذلك ففي الآيات التي نحن في صددها قرينة ملهمة لذلك حيث وصف الكفار بالصمم والبكم وأنذروا بالنار بسبب كفرهم وتكذيبهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
(1) الساعة: المرجح أنها هنا بمعنى الأجل والموت بالنسبة للسامعين على ما شرحناه قبل قليل. وروح الآيات هنا مؤيدة لتأويلها بذلك بقوة عند إمعان النظر فيها.
في الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار عما إذا كانوا يدعون غير الله حينما يحدق بهم خطر أو عذاب أو حينما يشعرون بدنو أجلهم وحلول ساعتهم إذا(4/89)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
كانوا صادقين في دعواهم الإيمان به. وفي الآية الثانية تعقيب تقريري بواقع ما يفعلون وإلزامهم الحجة حيث إنهم لا يدعون فعلا إلى الله وحده، وينسون شركاءهم في مثل هذه المواقف على اعتقاد أن الله وحده هو الذي يملك كشف الضر والبلاء.
والآيتان استمرار في حكاية موقف الجدل والمناظرة. وهما متصلتان بالسياق كما هو المتبادر. وفيهما تنديد وإلزام وإفحام للمشركين الذين لا يلجأون إلا إلى الله تعالى وحده في أوقات الخطر في حين أنهم يشركون معه غيره ويتصاممون عن الدعوة إليه وحده في أوقات الرخاء. وهذا الذي احتوته الآية الثانية احتوته آيات عديدة أخرى بصراحة أكثر، مرّ مثال منها في سورة يونس [الآيات 22- 23] .
والآية الثانية قوية الصراحة في صدد بيان عقيدة المشركين في الله والشركاء كما هو المتبادر.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
(1) البأساء: البؤس وشدة الفقر.
(2) الضراء: الأسقام والعلل.
(3) يتضرعون: يتذللون إلى الله ليكشف البأساء والضراء عنهم.
(4) فلولا: بمعنى فهلّا.
(5) مبلسون: يائسون من النجاة، ولعلها بمعنى أنهم ضاعت عليهم فرصة النجاة.(4/90)
(6) ظلموا: هنا بمعنى أجرموا وبغوا وتمردوا وكفروا.
في الآيات تقرير وتذكير بما كان من أمر الأمم السابقة، فقد أرسل الله تعالى إليها رسله بالبينات والمواعظ فلم تستجب ولم تتعظ، فأخذها الله بشيء من الشدة في الأموال والأنفس والأجسام لعلها تتضرّع إليه وتذكره فلم تفعل. وظلت سادرة في غيّها متبعة لتزيينات الشيطان لما هي عليه من ضلال. وزاد الله في امتحانهم فآتاهم اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة ففرحوا وازدادوا نسيانا لله وانصرافا عن دعوة رسله ومواعظهم. وحينئذ فاجأهم بعذابه وبلائه فانقطع دابر الظالمين وضاعت عليهم فرصة النجاة والإنابة إلى الله التي تهيأت لهم.
والآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه كما هو المتبادر، وقد جاءت جريا على الأسلوب القرآني في التذكير بالأمم السابقة عقب حكاية مواقف كفار العرب وعنادهم وإعراضهم بسبيل إنذار هؤلاء الكفار بأنهم أمام امتحان رباني فلا يغتروا بما هم فيه من مال وسلامة ووفرة، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيقعوا فيما وقع فيه من قبلهم.
والآيات إلى هذا احتوت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمينا لقلبه وبشرى له بأن الله قاطع دابر الظالمين، وأن ما هم فيه من رغد ورخاء ليس إلّا امتحانا ربانيا.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تنبيها عاما شاملا لكل زمن ومكان إلى وجوب ذكر الله وتجنب غضبه واتباع آياته وأوامره في كل حال، وعدم الاغترار ببسمات الدهر ونسيان الله فيها.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية بعد أن قالوا إنها من قبيل الاستدراج والإمهال حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنما هو استدراج ثم تلا الآية» «1» . وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء
__________
(1) النص من تفسير ابن كثير.(4/91)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» «1» . وفي الأحاديث توضيح وتحذير نبوي متساوقان مع مدى الآيات كما هو واضح. وننبه على أن في سورتي الأعراف والقلم اللتين مرّ تفسيرهما آيات فيها توضيح أكثر صراحة وهما الآيتان [183 و 184] في الأعراف و [44 و 45] في القلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 47]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
(1) نصرف الآيات: نقلب وجوه الكلام في القرآن.
(2) يصدفون: يعرضون.
في الآيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار عما إذا كان غير الله يستطيع أن يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وعقولهم إذا ما طرأت عليها الطوارئ فذهبت بها، وعما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى إذا أرسل عذابه عليهم فجأة بدون مقدمة، أو جهرة بعد مقدمات هل يمكن أن يهلك به غير الظالمين الباغين حتى يقفوا هذا الموقف الظالم الباغي الذي فيه اغترار وطمأنينة إلى الدهر. والفقرة الثانية من الآية الأولى جاءت معقبة ومنددة، فالله تعالى يضرب لهم الأمثال ويبيّن لهم الحقائق بأساليب متنوعة في آياته ولكنهم يعرضون عنها.
والآيتان استمرار للسياق بسبيل إنذار الكفار والتنديد بهم والتعقيب على مواقفهم المحكية كما هو المتبادر وفي السؤالين اللذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيههما إلى الكفار واللذين لا شك في أنه وجههما مقرعا منددا إفحام وإلزام قويان مستمدان من عقيدة المشركين التي حكتها آيات سابقة بكون الله تعالى هو المتصرف
__________
(1) التاج ج 2 ص 64.(4/92)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
المطلق وحده في الكون، وهو وحده الذي يكشف الضرّ ويدفع البلاء.
وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية نصّ من النصوص القرآنية الحاسمة التي تكررت كثيرا بأن عذاب الله إنما يحيق بالظالمين بسبب ظلمهم، أي إجرامهم وعصيانهم وبغيهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
والآيتان كذلك متصلتان بالسياق اتصالا تعقيبيا كما هو المتبادر حيث احتوتا تقريرا ربانيا بعد الآيات الإنذارية والتقريعية التي سبقتهما بأن الله تعالى إنما يرسل رسله للتبشير والإنذار، ثم يكون الناس صنفين حسب مواقفهم منهم. فالذين يؤمنون ويعملون الصالحات لهم البشرى والفوز ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والذين يكذبون لهم العذاب جزاء ما وقع منهم من فسق وتمرد على الله.
وفي الآيات أيضا نصّ من النصوص القرآنية الحاسمة بأن رحمة الله وأمنه وعذابه إنما يكون حسب سلوك الناس من إيمان وصلاح وفسق وعصيان باختيارهم بعد أن يكونوا قد بشروا وأنذروا من قبل رسل الله تعالى.
[سورة الأنعام (6) : آية 50]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
أمرت الآية النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن أنه لا يزعم لنفسه أنه يملك خزائن الله أو يعلم الغيب أو أنه ملك، وإنما هو رسول أرسله الله للتبشير والدعوة ولا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل إلا وفقا لوحي الله، وبأن يسأل الكفار سؤال استنكار وتبكيت عما إذا كان يستوي الأعمى والبصير، وبأن يندد بهم لأنهم لا يتفكرون في الأمور.
ولقد عزا الطبري إلى مجاهد وغيره تأويل الكافر والمؤمن والضال والمهتدي(4/93)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
لكلمتي الأعمى والبصير. والمقام قد يتحمل ذلك وإن كان احتمال حقيقة العمى والإبصار فيه أقوى ورودا فيما روي على سبيل التمثيل والمقارنة.
تعليق على آية قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ
والآية متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتوضيح كما هو المتبادر وضمير الجمع المخاطب فيها عائد إلى الكفار المشركين موضوع الآيات السابقة التي حكت مواقفهم وتحديهم ونددت بهم وأنذرتهم. وهي قوية رائعة نافذة في تقريرها طبيعة النبي صلى الله عليه وسلم البشرية ومهمته التبشيرية والإنذارية وفي أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول إنه ليس ملكا، وليس عالما بالغيب وليس مالكا لخزائن الله وبأن ليس له إلّا أن يقف عند حدود ما يوحى إليه به. وقد سبق تقرير ذلك وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في سورتي الأعراف ويونس.
ولقد رأينا المفسر الخازن يقول في سياق تفسيره للآية إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى عن نفسه ما نفاه تواضعا لله واعترافا بالعبودية له. وهو قول غريب، وقد غفل المفسر عن أن ما نفاه عن نفسه هو حقيقة منبثقة من طبيعة النبي البشرية التي قررها القرآن مرة بعد أخرى، وعن أن الله تعالى هو الذي أمره بقول ذلك، وليس الكلام من النبي مباشرة. وهذا لا يمنع من القول بأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم كان ولا شك رائعا أخاذا حينما نفذ أمر الله تعالى فأعلن للناس جميعهم المؤمنين منهم والمشركين على السواء ما أمر بنفيه عن نفسه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 51 الى 55]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)(4/94)
(1) يخافون أن يحشروا إلى ربهم: يخافون يوم حشرهم إلى ربهم.
(2) فتكون من الظالمين: فتكون من الجائرين في عملهم.
(3) فتنّا بعضهم ببعض: جعلنا التفاوت بينهم اختبارا لمعرفة سلوكهم إزاء بعضهم.
(4) ولتستبين سبيل المجرمين: قرئت سبيل بالرفع وبالنصب «1» . ومعنى الجملة في الحالة الأولى (ولتظهر الطريق الذي يسلكه المجرمون) ومعنى الجملة في الحالة الثانية (ولتعرف أيها النبي السبيل الذي يسلكه المجرمون) .
في الآية الأولى أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينذر بالقرآن بنوع خاص الطبقة التي تخشى الله تعالى يوم الحشر وتؤمن بالرجوع إليه وتعترف بأنه ليس لها من دونه من ولي ولا شفيع، فهي التي يمكن أن تنتفع بالإنذار والموعظة وتتقي الله.
وفي الآية الثانية نهي رباني للنبي صلى الله عليه وسلم عن طرد المؤمنين الذين يبتغون وجه الله ويتجهون إليه ويدعونه في الصباح والمساء فليس عليه حسابهم وليس عليهم حسابه، فإذا طردهم كان من الظالمين الجائرين.
وفي الآية الثالثة حكاية لموقف الكفار من المؤمنين وما كان في ذلك من اختبار رباني. فقد كان زعماء الكفار حينما يرون بعض الفقراء الأرقاء والضعفاء المسلمين ملتفين حول النبي صلى الله عليه وسلم يتساءلون تساؤل المحتقر المستهزئ عما إذا كان هؤلاء هم الذين اختصهم الله برحمته من بينهم ومنّ عليهم بهدايته. وردّ عليهم بأن
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبري.(4/95)
الله إنما جعل التفاوت بين الناس امتحانا ليعلم تصرفهم إزاء بعضهم وهو الأعلم بالصالحين للهداية الشاكرين لنعمة الله بها.
وفي الآية الرابعة أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالبرّ بالمؤمنين حينما يقبلون عليه فيحييهم ويبشرهم بأن ربهم آلى على نفسه بمقتضى صفة الرحمة التي اتصف بها أنه من عمل منهم عملا سيئا وهو جاهل ثم ندم عليه وتاب منه وعمل صالحا يكون موضع غفرانه ورحمته.
وفي الآية الخامسة تقرير رباني بأن الله تعالى يفصل الآيات حتى يعرف السبيل التي يختار سلوكها المجرمون بوضوح.
والآيات وحدة مترابطة الأجزاء، والآية الأخيرة التي جاءت بمثابة التعقيب قرينة على ذلك، وهي غير منقطعة عن السياق. فبعد أن جودل الكفار وأفحموا وأنذروا جاءت هذه الآيات ملتفتة إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية لتقرر أنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بالموعظة والإنذار القرآني لما ثبت من حسن نيتهم وصفاء نفوسهم وصدق رغبتهم في الاهتداء، ولتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بهم وإغداق عطفه عليهم وتبشيرهم برحمة الله وعفوه وبعدم المبالاة بموقف الكفار وبخاصة الزعماء منهم.
تعليق على الآية وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآيات روايات عديدة «1» جاء في بعضها أن زعماء الكفار كانوا إذا مروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحوله فقراء المسلمين سخروا وقالوا هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا فهداهم. وفي بعضها أنهم طلبوا من النبي طردهم حتى يتبعوه أو طردهم إذا ما جلسوا إليه أو أرادوا الاجتماع به. وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الطبري أكثرهم استيعابا للروايات.(4/96)
خطر بباله أن يستجيب إلى طلبهم وأن عمر بن الخطاب اقترح عليه ذلك ليظهر مدى موقف الزعماء وأن النبي همّ بأن يكتب لهم عهدا بذلك فأنزل الله الآيات.
وهناك رواية تذكر أن الذين طلبوا بعض هذه المطالب هم زعيما قبيلتي تميم وبني فزارة. وهناك رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترفوا ذنوبا كبيرة فجاؤوا إلى النبي نادمين فلم يرد عليهم فأنزل الله الآية [54] ومقتضى هذه الرواية أن هذه الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة جدا بما قبلها وبعدها. على أن هناك حديثا ذكره مسلم عن سعد جاء فيه: «كنّا مع رسول الله ستة نفر فقال المشركون للنبي اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله وحدّث نفسه فأنزل الله عز وجل وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... [52] إلخ «1» .
ومهما يكن من أمر فالآيات تنطوي على صورة من صور السيرة النبوية.
فكثير من الذين آمنوا في أول الأمر كانوا من الفقراء والمساكين، فكان زعماء الكفار يتخذونهم موضوع سخرية ويعدونهم مظهرا من مظاهر إخفاق النبي صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته. وكان بعضهم يتحججون بهم في عدم الاستجابة لئلا يكونوا معهم في مستوى واحد، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم من مجلسه حينما يريدون أن يجتمعوا به أو يريد أن يجتمع بهم. ومضمون الآيات قد يلهم أن موقف زعماء الكفار كان يؤثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم بعض الشيء، ويوجد فيه أملا في اهتداء زعماء الكفار ويجعله يتشاغل عن تلك الطبقة أو يهملها أو يفكر في إقصاء من يكون في مجلسه منها أحيانا انسياقا وراء هذا الأمل. فنبه في الآيات إلى ما في هذا من خطأ، كما عوتب على موقف مثل هذا الموقف في أوائل سورة عبس التي مرّ تفسيرها.
ولقد احتوت سورة الكهف آية فيها صراحة في هذا الباب وهي هذه:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ
__________
(1) التاج ج 5 ص 165.
الجزء الرابع من التفسير الحديث 7(4/97)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [28- 29] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ والرد فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى الله عليه وسلم.
على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية مواقف الكفار وتعجيزاتهم، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه.
وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلّم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح، ويندد بمن يتبجح بعلوّ طبقته ويحتقر ما دونه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
(1) يقصّ الحق: قال المفسرون معنى يقص هنا يقول. وروى الطبري أن(4/98)
كلمة (يقص) قرئت (يقضي) ورأى في ذلك وجاهة أكثر لأنها تتسق بذلك مع الجملة التالية لها.
(2) الفاصلين: من الفصل بمعنى القضاء بين الناس.
(3) الظالمين: هنا بمعنى الطاغين المنحرفين المجرمين.
في الآيات أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن للكفار أن الله تعالى نهاه عن عبادة ما يدعون من دونه من اتباع أهوائهم، لأنه يكون حينئذ ضالا غير مهتد في حين أنه غدا على بينة من ربّه بالرغم من تكذيبهم وجحودهم، وبأن يعلن لهم كذلك أن ما يستعجلونه ليس في يده ولو كان في يده لكان الأمر قد انقضى بينه وبينهم، ولكنه بيد الله الذي يقول الحق ويقضي به وهو خير الفاصلين، وهو الأعلم بالظالمين الباغين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بالسياق المستأنف فيه حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حجاج ونقاش.
ومن المحتمل أن تكون جملة لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ ردا على ما كان زعماء الكفار يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم به من إقصاء فقراء المسلمين عنه مما تضمنته الآيات السابقة، كما أن من المحتمل أن يكون في صدد ما طالبوا به من التساهل معهم في بعض الشؤون مما تضمنته آيات أخرى مرّ بعضها منها في آيات سورة الإسراء [73- 74] وآيات سورة القلم [9- 10] أما جملة ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فالجمهور على أنها تعني العذاب الذي أوعد القرآن الكفار به وكان الكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بالتعجيل به استخفافا وإنكارا وهو وجيه. وقد حكته عنهم آيات عديدة مرّ بعضها، مثل آيات سورة يونس [48- 50] وآية سورة هود [8] وآيات سورة الشعراء [202- 208] .
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة جاء فيه: «إنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة. إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل(4/99)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا» . وقال ابن كثير إن الحديث ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن طريق الزهري عن عروة عن عائشة.
وينطوي في الحديث أولا: مشهد من المشاهد الروحانية التي كشفها الله للنبي صلى الله عليه وسلم لتسكينه وتطمينه. وثانيا: حكمة حكم الله ورسوله فيما كان من عدم التعجيل بالعذاب على قومه الذين ناوأوه وهذا ما تكررت الإشارة إليه في آيات عديدة بعضها في سور سبق تفسيرها. وثالثا: صورة من صدق عاطفة النبي صلى الله عليه وسلم وإشفاقه التي كانت تعتلج بها نفسه صلى الله عليه وسلم. ولقد صدق الله ظنه فآمن كثير من الكافرين وأخرج من أصلابهم مؤمنين مخلصين صادقين.
أما عبد ياليل المذكور في الحديث فهو زعيم الطائف حيث ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليها بعد موت عمه لعله يجد نصيرا، فرد أقبح ردّ ورشق حتى أدمي. وعاد كسيرا حزينا وناجى ربه في الطريق مناجاة سنوردها في سياق تفسير سورة الأحقاف لأن لها مناسبة أكثر ملاءمة فيها، فكان ذلك المشهد والحوار اللذان ذكرا في الحديث.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)(4/100)
(1) جرحتم: اقترفتم وعملتم.
في الآيات تقرير بأن مفاتح الغيب بيد الله لا يعلمها إلّا هو، وقد أحاط علمه بكل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة في السموات والأرض والبرّ والبحر والظلمات، وهو الذي يتوفى الناس بالليل ويعلم ما كسبوا في النهار ويمدهم بأسباب الحياة حينما يستيقظون إلى أن تنتهي آجالهم المعينة عنده، ثم يرجعون إليه ليحاسبهم على ما فعلوه، وهو القاهر فوقهم، وعليهم من قبله رقباء وحفظة، وحينما يجيء أجل أحدهم تتوفاه رسله الذين لا يفرطون في شيء مما أمروا به ثم ردوا إلى الله مولاهم الذي له الحكم والذي هو أسرع الحاسبين.
والآيات تتمة على ما هو المتبادر للرد الذي احتوته الآيات السابقة في صدد تقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس في يده شيء، وكون الأمر كله بيد الله والغيب كله عنده، وهو الأعلم بالظالمين، ولا بد من أن يجزيهم بما يستحقون حينما يحين الوقت المعين في علمه. وهي إذن متصلة بالآيات السابقة. والضمير المخاطب فيها راجع إلى الكفار الذين هم موضوع الرد.
تعليق على الآية وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ... والآيات الثلاث التالية لها
1- أورد المفسرون في صدد جملة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أحاديث عديدة منها حديث رواه البخاري عن ابن عمر جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ(4/101)
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
لقمان: [34] «1» . وهذه الآية هي الآية الأخيرة والذي يلحظ أن هذه الآية لم تصنف الأمور الخمسة صراحة بأنها لا يعلمها إلّا الله ولم تحصر المغيبات التي لا يعلمها إلّا الله بها، وليس فيها ما ينفي بأن الله تعالى قد يلهم بعض ما في علمه لبعض خلقه. ولا ينفي أن يكون هناك أمور مغيبة أخرى يختص الله تعالى بعلمها.
وقد ذكر هذا بعض المفسرين مثل الطبرسي والسيد رشيد رضا. ومع أن الطبري أورد حديث البخاري فإنه قال إن تأويل الجملة هو أن الله تعالى هو أعلم بالظالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو صانع بهم فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه وعنده علم جميع ما يعلمونه فلا شيء يخفى عن الناس أو لا يخفى ولا شيء كان أو هو كائن إلّا علمه عنده. وننبه على أن الآية جاءت بعد جملة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيكون إيضاح الطبري هذا متصلا بهذه الجملة التي عطفت عليها الآيات التي نحن في صددها، وشيء من هذا يرويه البغوي عن الضحاك ومقاتل، ولقد قال الزمخشري إن تعبير مفاتح الغيب مجازي بمعنى أن الله وحده هو الذي يعلم الغيب. حيث يبدو من هذا أن الأحاديث التي تجعل مفاتح الغيب ما ذكرته آية لقمان حصرا لم تؤخذ من قبل بعض علماء التابعين وأئمة المفسرين كقضية مسلمة وفسروا الجملة تفسيرا موضوعيا أو متصلا بما قبلها أو أخذوها على أنها جملة عامة مطلقة تشمل كل ما في علم الله تعالى من أمور مغيبة ويبدو لنا هذا وجيها على مدى النصّ القرآني في مقامه والله أعلم.
2- روى المفسرون عن أهل التأويل أن جملة كِتابٍ مُبِينٍ تعني اللوح المحفوظ الذي روي أن الله أمر بكتابة كل ما هو كائن عليه حين خلقه كما رووا عنهم أنها تعني علم الله الشامل لكل ما كان ويكون. وهذا وذاك مما يتكرر في سياق الجمل المماثلة في هذه السورة والسور الأخرى ومرّ منه بعض الأمثلة. وفي تعليقنا على اللوح المحفوظ والقلم في سورتي القلم والبروج انتهى الأمر بنا إلى أن
__________
(1) التاج ج 4 ص 181 والأحاديث الأخرى لم ترد في الصحاح فاكتفينا بهذا الحديث.(4/102)
مدى التأويلين واحد وهو علم الله بكل ما كان ويكون فنكتفي بهذا التنبيه.
3- روى المفسرون عن أهل التأويل في صدد جملة وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أن العرب كانوا يعبرون عن النوم بالوفاة الصغرى والموت بالوفاة الكبرى وأن ذلك من قبيل المجاز لما بين النوم والموت من بعض التشارك. ورووا أن هذه الجملة مع جملة وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أن هذا قد هدف إلى تقرير هيمنة الله تعالى على عباده هيمنة تامة في كل حالاتهم ثم إلى التدليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم وكون ذلك بالنسبة إليه كبعثهم بعد نومهم. وفي هذه التأويلات وجاهة متسقة مع الجملة في مقامها.
4- روى المفسرون عن بعض أهل التأويل أن الضمير في جملة ثُمَّ رُدُّوا عائد إلى رسل الله كما رووا عن بعض آخر أنه عائد إلى الذين يتوفاهم رسل الله، وقد أخذنا في شرحنا السابق بالتأويل الثاني لأنه تبادر لنا أنه أكثر اتساقا مع بقية الآية التي جاءت فيها الجملة.
5- وفي صدد ما جاء في الآية [61] عن الحفظة الذين يرسلهم الله على عباده ورسل الله الذين يتوفون عباده حينما تنتهي آجالهم نقول إن ذلك من الأمور المتصلة بالملائكة وخدماتهم لله تعالى ومن الأسرار الإلهية الغيبية التي يجب الإيمان بها لأنها ذكرت بصراحة وقطعية في القرآن وقد مرت أمثلة عديدة من ذلك في سور سبق تفسيرها، فلا طائل في التخمين والتزيد بسبيل استشفاف الماهيات على ما شرحناه في المناسبات السابقة وبخاصة في سورة المدثر. ويكفي استشفاف الحكمة من ذكر ما ورد في الآية ومطلعها يلهم أن القصد مما جاء فيها من ذلك هو تقرير كون الله تعالى هو المتصرف المطلق في عباده فيكون ذلك من تلك الحكمة.
وأسلوب الآيات في جملتها قوي رائع، وقد هدف فيما هدف إليه على ما يتبادر من روحها إلى تقرير إحاطة علم الله تعالى بكل شيء ومطلق تصرفه في كل شيء وإنذار الكفار بتحقيق ما يوعدون به وتوكيد قدرة الله تعالى عليه، وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء، والله تعالى أعلم.(4/103)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 64 الى 65]
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
(1) يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض: يخلط عليكم الأمور حتى تصيروا فرقا وأحزابا متباغضين ويسلط بعضكم على بعض بالأذى والشدة والقتال والحرب.
(2) يفقهون: يفهمون فهما تاما.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار عن الذي يدعونه سرّا متذللين إليه حينما يكونون في رحلاتهم البرية والبحرية فيكتنفهم الظلام ويحدق بهم الخطر ويرجونه كشف ما هم فيه ويقطعون على أنفسهم العهد بأنهم يكونون شاكرين له معترفين بفضله إذا نجاهم، وبالإجابة على السؤال بأن الله هو المرجى لكل ذلك وهو الذي في يده نجاتهم من تلك الأخطار ومن كل خطر آخر. ومع ذلك فهم يشركون معه غيره في الاتجاه والدعاء في حالة السلامة والظروف العادية.
وبإنذارهم بأن الله قادر على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، أو يجعلهم فرقا وأحزابا متباغضة متناحرة ويسلط بعضهم على بعض بالقتال والحرب. وجاءت الآية الأخيرة معقبة على ما احتوته الآيات السابقة لها منبهة إلى أن الله تعالى يقلب وجوه الكلام لهم لعلهم يفقهون مداه فيتدبرون فيما هم فيه ويرتدعون.
والآيات كما هو المتبادر هي أيضا متصلة بالسياق واستمرار في الرد على الكفار وإنذارهم. وجملة قُلِ اللَّهُ وإن كانت تقريرا ربانيا فإنها تلهم أنها بسبيل تقرير واقع أمر الكفار الذين يعترفون بالله ويدعونه وحده مخلصين له الدين في الأخطار مما حكته آيات أخرى بصراحة أكثر مرّ بعضها مثل الآيات [40- 41] من(4/104)
هذه السورة والآيات [22- 23] من سورة يونس، ومما تضمن الإلزام والإفحام والتبكيت الشديد كما هو واضح.
بعض الأحاديث الواردة في صدد الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ وتعليق عليها
لقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل مثل مجاهد وقتادة أن هذه الآية نزلت في أمة محمد وما كان من تفرقها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحروبها فيما بينها وتسلط الأمراء الطغاة الضالين والعبيد السفلة عليها عدا الخسف والرجم اللذين لم يقعا واللذين سوف يقعان. ورووا في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري في كتاب التفسير في سياق الآية عن جابر قال: «لمّا نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سمع قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أعوذ بوجهك وحينما سمع أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال أعوذ بوجهك وحينما سمع بقيتها قال هذا أهون أو هذا أيسر» «1» . وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص في هذه الآية: «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار اللسان فيها أشدّ من وقع السّيف» «3» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «قال إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي يبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألّا يهلكها بسنة عامة وألّا يسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإنّ ربي قال يا محمد إني إذا
__________
(1) التاج ج 4 ص 98 و 99 أورد الحديث الثاني ابن كثير برواية الإمام أحمد وجاء فيها أن سعد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال ... » .
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 5 ص 276.(4/105)
قضيت قضاء فإنه لا يردّ. وإني أعطيتك لأمتك ألّا أهلكهم بسنة عامة وألّا أسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا» . وفي رواية أبي داود زيادة وهي: «وإنما أخاف على أمّتي الأئمة المضلّين. وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمّتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمّتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلّهم يزعم أنه نبيّ. وأنا خاتم النبيّين لا نبيّ بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» «2» .
وتعليقا على ما تقدم نقول أولا: إن الآية جزء من آيات موجهة إلى المشركين السامعين على سبيل التنديد بهم وإنذارهم. وليس في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد القول إنها نزلت في أمة محمد. والأرجح أن هذا القول قد كان تطبيقيا، ومن وحي الأحداث التي وقعت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وعبارة الآية تسوغ هذا التطبيق الاجتهادي بالنسبة لكل سامعي القرآن في كل ظرف من المسلمين وغيرهم على سبيل الإنذار في حالة انحرافهم أو ضلالهم وبغيهم واستحقاقهم لمثل هذا العذاب الذي أنذرت به الآية سامعي القرآن الضالين البغاة مباشرة. وثانيا: إن ما جاء في الأحاديث هو من قبيل الاستدراك النبوي المنبعث من الإنذار الرباني في الآية وفيها صورة رائعة للشفقة النبوية على أمته من بعده ومن الحكمة الملموحة
__________
(1) التاج ج 5 ص 275 و 276. وجملة (سنة عامة) تعني قحطا عاما أو مجاعة عامة. [.....]
(2) التاج ج 1 ص 39 و 40 وهناك أحاديث أخرى رواها أئمة حديث آخرون ليسوا من أصحاب الكتب الخمسة أوردها المفسرون وبخاصة ابن كثير من باب الأحاديث التي أوردناها مع بعض زيادات ونقص فاكتفينا بما أوردناه.(4/106)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
فيها التحذير والتنبيه. وهما موجهان إلى كل مسلم في كل ظرف بطبيعة الحال وفيها كشف رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بما سوف يكون من أحداث في أمته وقع كثير منها بعد وفاته.
وفي الأحاديث الصحيحة وعد رباني بأن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم. وفي هذا بشرى ربانية بارتداد عدوهم عنهم وعدم تمكنه منهم أبديا. ولقد وقع هذا في مختلف حقب التاريخ الإسلامي ووعد الله حق ولسوف يتم ذلك بالنسبة للعدو اليهودي اللئيم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
(1) وكيل: هنا بمعنى مسؤول.
(2) لكل نبأ مستقر: لكل أمر نهاية يستقر عندها. وروي عن ابن عباس تأويل لكلمة (مستقر) بأنها بمعنى (حقيقة تظهر وتتحقق) وهذا لا يبعد عن المعنى الأول.
بعض المفسرين أرجع ضمير (به) إلى القرآن والرسالة المحمدية «1» وبعضهم أرجعه إلى العذاب الذي وعد به الكفار في الآية السابقة لهذه الآية «2» . وهذا هو الأوجه المتسق مع النظم على ما يتبادر لنا.
وعلى هذا فتكون الآية الأولى تقريرا لموقف الكفار المكذبين بالعذاب الموعود مع أنه حق لا ريب فيه. وقد أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانهم بأنه ليس مسؤولا عنهم واحتوت الآية الثانية إنذارا بأنه لكل نبأ نهاية يستقر عندها وأن ما وعدوا به سوف يتحقق وسوف يرون مصداق ذلك.
والآيتان بهذا الشرح متصلتان بالسياق وتتمة له كما هو المتبادر. ولقد
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبرسي.
(2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والزمخشري.(4/107)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
تحققت معجزة الآية بما كان من هلاك رؤساء الكفار الذين ظلوا مصرين على العناد والتكذيب والمناوأة في وقعة بدر الكبرى.
ولقد روى ابن كثير عن زيد بن أسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حينما نزلت الآية السابقة لهاتين الآيتين لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف قالوا له ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال نعم فقال بعضهم هذا لا يكون أبدا يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون فأنزل الله الآيتين» . وهذا لم يرد في كتب الأحاديث المعتبرة وعبارة الآيتين تسوغ التوقف فيها بكل قوة فلا يمكن أن تكون أولاهما عنت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أن الآيتين منسجمتان موضوعيا في السياق السابق واللاحق. ويظل شرحنا هو الأوجه الذي يستفاد أيضا من شروح غير واحد من المفسرين والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعضهم إن جملة قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ قد نسخت بآيات القتال، وهذا يتكرر في كل مناسبة مماثلة وهذا إنما يصح في حالة إذا رافق موقف الكفار والمكذبين طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة (الكافرون) .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
(1) يخوضون: أصل معنى الخوض العبور في الماء ثم استعير للتعبير عن الدخول في الحديث والإفاضة فيه. ويستعمل على الأغلب في الإفاضة في الجدل والعبث والباطل من الكلام.(4/108)
(2) الإبسال: قيل إنها بمعنى الهلاك. وقيل إنها بمعنى الارتهان والحبس، وهي هنا بالمعنى الأول.
(3) وإن تعدل كل عدل: بمعنى وإن تفتد بكل فدية.
في الآيات نهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن مجالسة الكفار إذا ما سمعهم ورآهم يخوضون في آيات الله خوضا خارجا عن حدود الأدب والحق. وإذا أنساه الشيطان ذلك ثم ذكر النهي فليبادر إلى ترك مجلسهم، وتقرير بأن المتقين لا يتحملون إثم الكفار في عملهم ولكن النهي تذكير لهم ليبتعدوا عن مجالس الظالمين الآثمين.
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يهتم للذين غرتهم الحياة الدنيا وما تيسر لهم فيها من مال وقوة ورغد عيش وجعلوا الدين لعبا ولهوا، وأن يتركهم ويكتفي بتبليغ رسالته وإنذار الناس حتى لا يهلكوا أنفسهم ويصبحوا رهينة بما كسبوا يوم لا يكون لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يؤخذ منهم فدية مهما عظمت حيث يعذبون أشد العذاب مع شرب الماء الحار جدا جزاء ما كانوا يقترفون ويفترون.
تعليق على آية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
ولقد روى الطبري أن المشركين كانوا يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزأوا، فنزلت الآية الأولى. وروى الطبرسي والبغوي والخازن أن المسلمين قالوا حينما نزلت هذه الآية: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا ونخاف أن نتركهم ولا ننهاهم! فنزلت الآية الثانية.
ويتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها وانسجام الآيتين الأوليين بالآيات التالية لها أن الآيات وحدة مترابطة، وأنها استمرار للسياق المستأنف في حكاية مواقف الكفار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأذى من استهزاء الكفار- الذين يجلس إليهم(4/109)
ويجلسون إليه- بالقرآن الذي يتلوه عليهم، وبالمواعظ والنذر التي يوجهها إليهم، ويتحرج من ترك مجالستهم وإهمال إنذارهم، فنزلت الآيات تسلية له ورفعا للحرج عنه وبيانا لمدى مهمته ومسؤوليته وإنذار للكفار في الوقت نفسه.
ومع أن الخطاب في الآية الأولى قد يكون منصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة ضمير المخاطب المفرد فإن نص الآية الثانية يسوغ القول بأن الحظر الذي احتوته الآية الأولى ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو عام للمسلمين. وقد يكون من دعائم ذلك آية سورة النساء هذه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [140] حيث احتوت الآية إشارة إلى آيات الأنعام التي نحن في صددها.
ويلحظ أن النهي محدود بوقت الخوض وبمن يقترفونه، وهو المتسق مع مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين التبشيرية.
ولقد تكررت الآيات المكية التي فيها إشارة إلى خوض الكفار والمشركين والمنافقين منها آية في سورة المدثر التي سبق تفسيرها وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وآية في سورة الطور الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) وآية في سورة الزخرف فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وآية أخرى في سورة الأنعام ستأتي بعد قليل، حيث يبدو من هذا أن ذلك كان من ديدنهم ومن جملة الصور التي كانوا يواجهون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن، مع التنبيه إلى أن آية النساء التي أوردناها قد نزلت بخاصة في خوض المنافقين على ما يتبادر من سياقها، على ما سوف يشرح في مناسبته.
ولقد قال بعض المفسرين «1» إن آية النساء المذكورة قد نسخت هذه الآية ولسنا نرى في آية النساء نسخا بل نرى توكيدا. فآية الأنعام لم تسمح بالقعود مع
__________
(1) انظر تفسير الخازن.(4/110)
الخائضين وإنما تسامحت في نسيان أمر الله بذلك وأوجبته في حالة التذكر.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية قد نسخت بآيات القتال، وهذا صواب إذا كان الخوض طعنا في الدين وفي الله وكتابه ورسوله. فكل هذا صار من مستوجبات القتال بعد الهجرة على ما جاء في آية سورة التوبة هذه: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) وهذه الحالة هي غير حالة الأمر بالصبر على الكفار والإعراض عنهم الذي تكرر في سور مكية عديدة وقال بعض المفسرين إنه نسخ بعد الهجرة بآيات القتال. فإن هذا إنما يصح إذا رافق موقف الكفار طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة الكافرون.
ومع خصوصية الآيات وصلتها بظروف السيرة النبوية فإنها تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى في حظر مجالسة الهازئين الطاعنين في دين الله ورسله وكتبه والخائضين في مواضيع خارجة عن الأدب والحق كما هو المتبادر. فضلا عن كون الهزء والطعن في الدين من موجبات الجهاد على المسلمين على ما ذكرناه آنفا.
تعليق على جملة وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم
ولقد وقف بعض المفسرين «1» عند هذه الجملة وتساءلوا عن جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم ثم جواز تأثره بالشيطان. والآية صريحة بجواز النسيان عليه، وعلى غيره من الأنبياء. وفي القرآن آيات عديدة أخرى تؤيد ذلك. مثل آية الكهف هذه التي يخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [24] وآية طه [115] بالنسبة لآدم وآية الكهف [62] بالنسبة لموسى. وقد أمر الله رسوله والمؤمنين بالدعاء لله بأن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا في الآية الأخيرة من سورة البقرة.
__________
(1) انظر تفسير الخازن.(4/111)
وهو منبثق من طبيعة الأنبياء البشرية. وهناك أحاديث عديدة عن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة، فقال وما ذاك؟ قال صلّيت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلّم وفي رواية قال أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون ثم سجد سجدتي السهو» «1» .
ويتبادر لنا أن نسبة الإنساء للشيطان في الجملة هو تعبير أسلوبي أو هو وسوسة الشيطان التي تجوز على كل إنسان، وهي ليست من قبيل سلطان الشيطان الذي نبهت آيات عديدة على أن ذلك ليس واردا بالنسبة لعباد الله المخلصين الذين يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم.
وإنساء الشيطان أيسر من نزغ الشيطان، ومع ذلك ففي آية سورة الأعراف التي سبق تفسيرها ما يجعل النزغ الشيطاني جائزا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم على ما شرحناه في سياقها. وجواز السهو والنسيان على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحتمل في الشؤون البشرية والدنيوية. أما الشؤون الدينية والتبليغ عن الله تعالى فالمتفق عليه عند الجمهور أنه معصوم عنهما وهو الحق «2» .
وقد استنبط بعضهم «3» من الآية الأولى التي فيها هذه الجملة رفع مسؤولية ما يقع من الإنسان من أمور محظورة نسيانا وسهوا وخطأ غير متعمد. وأيدوا ذلك بالحديث النبوي الذي رواه ابن ماجه وأبو داود وجاء فيه: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «4» . وفي سورة الأحزاب هذه الآية: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) وقد
__________
(1) التاج ج 1 ص 197.
(2) انظر تفسير الآيات في الطبرسي ومنار رشيد رضا.
(3) انظر تفسير ابن كثير والمنار.
(4) التاج ج 1 ص 29.(4/112)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
علم الله كما قلنا رسوله والمؤمنين بالدعاء بأن لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطأوا ومقتضى حكمة ذلك الاستجابة لهذا الالتماس. وفي حديث رواه البخاري والترمذي أن الله تعالى كان يوحي للنبي صلى الله عليه وسلم حينما أنزل آخر آيات البقرة بكلمة نعم عند كل مقطع من مقاطع الالتماسات التي في هذه الآية «1» .
وننبه على أن في سورة النساء آية ترتب الكفارة والدية على قتل الخطأ، وهي الآية [92] ولا نرى هذا متعارضا مع ذاك لأنه ليس في هذا الترتيب عقوبة على إثم وإنما فيه تعويض عن حق وتوبة إلى الله بالكفارة للتنبيه على ما في إزهاق النفس من خطورة ولو كان ذلك خطأ. والله تعالى أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
(1) استهوته الشياطين: استجاب لنداء الشياطين وتبعهم، وكان من صور عقائد العرب في الجن أنهم ينادون من يرونه منفردا في القفر فيتبعهم وتختلط عليه الأمور فيضلّ ويضيع ويقع في المهلكة.
(2) عالم الغيب والشهادة: الغيب هنا بمعنى المغيب والمخفي والمستقبل والشهادة بمعنى الحاضر والمشاهد.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتساؤل بلهجة استنكارية عما إذا كان يصح في العقل أن يدعو هو والمسلمون غير الله مما لا ينفعهم ولا يضرهم وأن يرتدوا على
__________
(1) التاج ج 4 ص 64.
الجزء الرابع من التفسير الحديث 8(4/113)
أعقابهم ضالين بعد أن هداهم الله وأن يصبح شأنهم كشأن الذي استهوته الشياطين في الأرض فاتبعها وتاه ووقف موقف الحائر الذاهل الذي ضل عن الطريق الذي يحسن أن يسلكه لينجو، وله رفاق مهتدون آمنون يدعونه إليهم فلا يتبعهم.
وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتف بأن هدى الله هو الهدى الحق، وبأنه أمر ومن معه بإسلام النفس لله وإقامة الصلاة له واتقائه بصالح العمل، فهو الذي يحشر الناس إليه وهو ربّ العالمين، الذي خلق السموات والأرض بالحق، والذي يحيط علمه بكل شيء من حاضر وغائب وسرّ وعلن وماض ومستقبل، والذي يقول الحق ويقضي به، ويكون له الملك والحكم والأمر دائما وفي يوم القيامة أيضا والذي يتم كل ما يشاء وقت ما يشاء بما في ذلك بعث الناس بمجرد تعلق مشيئته بتمامه، وهذا ما عبر عنه بجملة وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ.
والمتبادر أن جملة الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أسلوب آخر لما عنته آيات سورة ص [27- 29] على ما سبق شرحه. ومن هذا الباب آيات الأنبياء [16، 33] والدخان [38 و 39] والروم [8] .
تعليق على الآية قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا والآيتين التاليتين لها
لقد روى الطبري عن ابن عباس أن في الآيات مثلا ضربه الله تعالى للآلهة وعبادها والدعاة إليها ولنفسه سبحانه وتعالى ولمن يدعو إليه وحده. وهذا ملموح فيها. ولقد روى عن السدي أيضا أن المشركين قالوا للمؤمنين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فأنزل الله الآيات. ومقتضى الرواية أن تكون الآيات نزلت في مناسبة خاصة، ومستقلة عن السياق. في حين أن المتبادر من فحواها وفحوى السياق السابق أن الاتصال قائم بينها وبين هذا السياق، وأنها جاءت معقبة عليه.
والموضوع الذي تضمنته من المواضيع والصور التي ما فتئت فصول السورة(4/114)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
تحكيها. ولا يمنع هذا أن يكون ما رواه السدي صحيحا في ذاته وأن المشركين كانوا أحيانا يقفون موقف الناصح الواعظ ويدعون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى العودة إلى دين الآباء وتقاليدهم التي انحرفوا عنها بزعمهم فاحتوت الآيات إشارة إلى ذلك وهي تعقب على الآيات السابقة وترد عليهم وتسفه عقولهم وتنذر بمنطقهم وتقرر ما هم فيه من ضلال يمنعهم سماع دعوة الحق والهدى. وتعلن وحدة الربوبية لله تعالى وشمول علمه وقدرته وكونه وحده المستوجب للخضوع والعبادة والدعاء. ولقد حكت ذلك عنهم آية العنكبوت هذه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) .
والصورة طريفة من دون ريب في مجال الحجاج والنقاش حيث كان زعماء الكفار ونبهاؤهم يظهرون بمظهر القوة فيصرون على أنهم على الدين الحق ويدعون الذين يدعونهم إلى هدى الله إليهم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل قصصي عن الأنبياء مما جرى عليه النظم القرآني واقتضته حكمة التنزيل، بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآيات جاءت خاتمة للفصول السابقة التي فيها حجاج ونقاش لمواقف الكفار وتعجيزاتهم، والرد عليهم وإنذارهم، وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والتي بدأت منذ أوائل السورة. وفيها من الصور المتلاحقة ما يدل على ما كان بين جبهتي التوحيد والشرك من احتكاك وما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من عناد ومكابرة وما لقيه من عناء، مضافة إلى الصور المماثلة الكثيرة التي تضمنتها السور السابقة ثم التي تضمنتها فصول السورة الآتية وكثير من السور الآتية أيضا. ولقد شرحنا موضوع النفخ بالصور في سور سبق تفسيرها فلا نرى ضرورة للإعادة في مناسبة ورود ذلك في الآيات.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 90]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)(4/115)
(1) ملكوت السموات والأرض: سعة ملك الله في السموات والأرض أو عظم ملك الله.
(2) جن عليه الليل: أظلم.
(3) الآفلين: من الأفول وهو الزوال والاحتجاب والتغير والانطفاء والتنقل من حال إلى حال.(4/116)
(4) بازغا: مشرقا أو ساطعا.
(5) ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: ولم يشوبوا أو يخلطوا إيمانهم بإثم وظلم وجرم أو شرك.
(6) فإن يكفر بها هؤلاء: الجملة تعني كفار العرب الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين «1» أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير.(4/117)
مواضع العبرة في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لا حظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية سورة الحج هذه وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [78] وآيات سورة البقرة هذه وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة(4/118)
والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والاقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال إن الآية [82] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه «1» . وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا لقد روى المفسرون «2» في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أيّنا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح «إن الشرك لظلم عظيم» وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار.
(2) المصدر نفسه.(4/119)
قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده ومنها آية سورة الحج هذه حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ولا سيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم البنوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا «1» في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول «2» . والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك- إن لم نقل إننا نرجح- أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم (إلياس) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية.
__________
(1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن. [.....]
(2) الإصحاح 12.(4/120)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
(1) تجعلونها قراطيس: تجعلونها أوراقا مفرقة ومجزأة.
في الآيات تنديد بالكفار على مكابرتهم وتجاهلهم أو عدم إدراكهم عظم شأن الله وقدره وسابق أحداثه مع أنبيائه ونفيهم نزول أي شيء منه على بشر ما.
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بسؤالهم بأسلوب استنكاري عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى والذي يذكرونه ويعرفونه ويجعلونه مع ذلك أجزاء مفرقة يبدون أو يعترفون بما يريدون منه ويخفون أو ينكرون ما يريدون وهو الأكثر حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وعلموا أشياء كثيرة لم يكونوا يعلمونها هم وآباؤهم من قبل. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالهتاف بأن الله تعالى هو الذي أنزله وبأن يدعهم بعد ذلك وشأنهم غارقين في خوضهم وثرثرتهم وغوايتهم لأنهم يقولون ما يقولون مكابرة وعنادا. وتقرير رباني بأن الله قد أنزل القرآن الكتاب المبارك على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما أنزل كتاب موسى من قبل، وهو مؤيد لما سبقه من كتب الله ومتطابق معها لينذر به أهل مكة ومن حولها. وتنبيه تنويهي إلى أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بذلك ويحافظون على أداء عبادتهم وصلاتهم لله تعالى.
تعليق على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والآيتين التاليتين لها
لقد أورد المفسرون روايات عديدة في نزول الآيات ومداها. منها أن حبرا(4/121)
من يهود المدينة كان يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بلجاجة وكان سمينا فقال له أنشدك بالله أنزل التوراة على موسى أما تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين، فغضب وقال:
والله ما أنزل الله على بشر شيئا، ومنها أن هذا الحبر أو جماعة آخرين من يهود المدينة أنكروا أن يكون الله قد أنزل القرآن على رسوله فنزلت الآية تندد بهم لأنهم يعرفون أن الله أنزل كتابا على موسى فليس بدعا أن ينزل كتابا على رسول آخر.
ومنها أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله عليه كتابا أو ألواحا من السماء كما أنزل على موسى فقال لهم لقد كفرتم بما أنزل على موسى فغضبوا وأنكروا كل شيء.
ومنها أن مشركي مكة أرسلوا يسألون أحبار يهود المدينة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن يكون نبيا وأن يكون القرآن منزلا عليه من الله فأنزل الله الآية. وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية الأولى مدينة ولو صحّ ذلك لكان من المحتمل أن تصحّ الروايات الأولى تبعا لذلك. ولم نر تأييدا لمدنية الآية وطابع المكية بارز عليها بقوة وقد رجح الطبري أن يكون القول حكاية عن مشركي مكة في موقف حجاجي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما أن السياق في صددهم. ونحن نرجح ذلك أيضا ولا سيما أن رواية المدنية محصورة في الآية الأولى مع أنها منسجمة كل الانسجام مع الآيتين التاليتين لها.
وقد يبدو أن عبارة تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً أشبه أن تكون صادرة عن يهود. وأن ترجيح صدورها عن المشركين يبدو غريبا، ونقول في صدد ذلك إن في القرآن آيات تفيد أن المشركين يعرفون رسالة موسى وتوراته ومعجزاته منها آيات سورة القصص [47- 50] التي مرّ تفسيرها. وأن الموقف قد تجدد فكابر المشركون مرة أخرى فحكت عنهم ذلك الآيات التي نحن في صددها. وقد تكون رواية إرسال المشركين لليهود وسؤالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوابهم صحيحة فنزلت الآية لتردّ عليهم وعلى اليهود معا. وجملة وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ بعد العبارة نفسها تلهم بقوة أن الكلام كلام المشركين وأن الخطاب موجه إليهم. هذا وما تقدم من الشرح هو بسبيل تقرير صلة الآيات بالسياق السابق للفصل القصصي والذي دار على مواقف المشركين والتنديد بهم. والمتبادر أن(4/122)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
الفصل القصصي جاء استطراديا بعد ذلك السياق جريا على النظم القرآني. ثم جاءت هذه الآيات بعده استئنافا لفصول جديدة أخرى من مواقف المشركين. والله أعلم.
تعليق على جملة وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
ويلحظ أن الآية الثانية ذكرت أن الله تعالى أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم لينذر أم القرى ومن حولها. والمتبادر أن هذا الاختصاص ناشىء من كون الحجاج والجدال قام في أكثر أدوار العهد المكي بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة التي كانت (أمّ القرى) أي عاصمة للبلاد الحجازية ومن يقيم حولها من أهل المدن والقرى والبادية، وليس من شأنه نقض عموم الدعوة الذي تقرر بأساليب عديدة في القرآن مرّت أمثلة منها ولفتنا النظر إلى فحواها. ويبدو أن التنويه الذي احتواه شطر الآية الثاني هو تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا للدعوة. فهؤلاء قد صدقوا وآمنوا بالآخرة، وواظبوا على عبادة الله والصلاة إليه. وقد يدل هذا على أن الإيمان بالآخرة كان وظل ميزان استجابة الناس للدعوة النبوية. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك مرّت أمثلة منها.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
(1) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا: بمعنى ومن أشد جرما وإثما ممن افترى على الله كذبا.(4/123)
(2) غمرات الموت: شدائد الاحتضار عند الموت.
(3) فرادى: منفردين مجردين من أموالكم وأولادكم وأنصاركم.
(4) خوّلناكم: منحناكم وأعطيناكم ومتعناكم به.
(5) تقطع بينكم: انقطعت بينكم الصلات.
في الآيات تساؤل إنكاري بمعنى التقرير بأنه ليس من أحد أشد ظلما من الذي يفتري على الله الكذب فينسب إليه ما ليس منه، أو ممن يدعي بأن الله أوحى إليه ولم يكن قد أوحى إليه. أو ممن يجرؤ على القول بأنه سينزل مثل ما أنزل الله.
وإشارة إنذارية إلى ما سوف يكون من أمر الظالمين عند الموت وبعده حيث تحيط بهم الملائكة حينما يكونون في غمرات الموت وشدائد الاحتضار ينتظرون خروج أرواحهم ويذكرون لهم ما سوف يلقون من العذاب والهوان عقوبة على ما كانوا يقولونه على الله تعالى من الباطل ويبدو منهم من استكبار على آيات الله. وحكاية لما سوف يخاطبون به من قبل الله تعالى بعد ذلك من خطاب توبيخي حيث يقول لهم إنكم قد جئتمونا منفردين كما خلقناكم لأول مرة مجردين من كل ما كنتم تتمتعون به في الدنيا، من مال وقوة وأنصار، وليس معكم الشفعاء الذين كنتم تعبدونهم كشركاء مع الله وتركنون إلى شفاعتهم وقد غابوا عنكم وتقطعت الصلات بينكم وبينهم.
تعليق على جملة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ
والمصحف الذي اعتمدناه روى أن الآية [93] مدنية كذلك. وروى المفسرون روايات عديدة في سياقها «1» ، منها أن المعنى بمن افترى على الله كذبا هما مسيلمة والأسود اللذان ادعيا النبوة وزعما أن الله تعالى أوحى إليهما، ومنها أن المعنى بمن قال سأنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن سرح أحد كتاب الوحي
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن والبغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري.(4/124)
الذي ارتدّ وفرّ من المدينة. وأنه كان يكتب بعض مقاطع قرآنية مخالفة لما كان يمليها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيكتب (غفور رحيم) بدلا من (عزيز حكيم) و (عليم حكيم) بدلا من (خبير عليم) وأنه قال مرة حينما أملى النبي صلى الله عليه وسلم آية سورة المؤمنون هذه:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [14] قال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد نزلت كما قلت فاكتبها، فقال: إني إذا أنزل كما أنزل الله.
ومنها أن شطر الآية الأولى نزل في مسيلمة والأسود النبيين الكذابين اللذين ظهرا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في اليمامة واليمن وأن الشطر الثاني نزل في عبد الله بن سرح. ولقد روي أن عبد الله هذا بعد ذلك الحادث ارتدّ ولحق بمكة ووشى بعمار وجبر وغيرهما من الأرقاء المؤمنين فأخذهم مواليهم وعذبوهم حتى أجبروهم على الكفر ونزل فيه وفيهم آية النحل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) [106] ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح. ويلوح أن رواية مدنية الآية متصلة برواية كونها في شأن مسيلمة والأسود أو برواية كونها في شأن عبد الله بن سرح بعد الهجرة.
ولسنا نرى أي حكمة ومعنى لوضع هذه الآية في سياق يحكي مواقف مشركي مكة لو كانت مدنية ومنفصلة عن السياق. وحركة مسيلمة والأسود كانت كما قلنا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فتكون صلتها بالآية أكثر بعدا. والروايات في صدد عبد الله بن سرح مضطربة، وسورة المؤمنون التي تروي إحداها قول عبد الله الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم إنما مطابق لما نزل نزلت بعد سورة الأنعام بمدة غير قصيرة.
وكذلك سورة النحل التي تروي بعض الروايات أن بعض آياتها نزلت في سعد والمرتدين المكرهين. وعبد الله هو أخو عثمان بن عفان بالرضاعة، وقد عينه في زمن خلافته واليا على مصر بعد أن عزل عمرو بن العاص. وروت الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه بسبب ارتداده حتى تشفع فيه أخوه، وكل هذا يجعلنا نخشى أن(4/125)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
يكون اسمه قد أقحم لأهواء سياسية ويجعلنا نشك أولا في رواية مدنية الآية وثانيا في الروايات المروية كسبب لنزولها. لأن هذا وذاك يقتضيان أن تكون نزلت منفردة بل ومجزّأة أي إن شطرا منها نزل في مناسبة وشطرا في مناسبة أخرى وأن تكون أقحمت على السياق إقحاما مع أنها منسجمة انسجاما تاما في السياق والموضوع وشطرها الأول متصل بشطرها الثاني. وفحوى الآية التالية لها والتي تعطف عليها وتنذر الظالمين وتحكي ما كان منهم من استكبار عن آيات الله وافتراء عليه يلهم بكل قوة أنها في صدد مشركي العرب موضوع الكلام في الآيات السابقة.
وقد رأينا الطبري يتحفظ بعض التحفظ في كون الآية نزلت للأسباب المذكورة في الروايات.
وقد يكون حادث ارتداد عبد الله بن سرح ولحوقه بمكة صحيحا «1» ولكن التوقف هو أن تكون الآية نزلت فيه.
والذي يتبادر لنا بقوة أن الآية الأولى بخاصة تضمنت ردا على الكفار الذين حكت الآية [90] إنكارهم لإنزال الله شيئا على بشر حيث قررت ضمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أنه ليس من أحد أشد ظلما ممن ينسب إلى الله ما ليس منه ويدعي بأنه موحى إليه ولم يوح إليه. ثم تبعتها الآيات التالية لها منددة منذرة. وبذلك يتصل السياق. والردّ قوي موجه إلى العقول والقلوب السليمة وقد تكرر في كل مرة حكى القرآن فيها زعم الكفار بافتراء النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بنفس القوة والنفوذ ومن ذلك آية سورة الأحقاف هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) [8] ومن هذا الباب آية سورة الشورى [24] وآية سورة يونس [17] .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
__________
(1) روى هذا الحادث ابن هشام أيضا انظر ج 4 ص 28.(4/126)
(1) فالق الحب والنوى: الفلق بمعنى الشق. والحب للزرع والنوى للشجر ومعنى الجملة الذي يفلق الحب والنوى ويجعلهما ينموان في الأرض فيكون منهما الزرع والشجر.
(2) فالق الإصباح: بمعنى مخرج نور الفجر من ظلمة الليل.
(3) وجعل الشمس والقمر حسبانا: حسبانا مصدر آخر لفعل حسب أيضا، ومعنى الجملة جعل الله حركات الشمس والقمر بحساب مقدر محدد.
(4) ترتيب: مرتب ترتيبا دقيقا.
(5) أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع: الشطر الأول يعني وحدة الذكر والأنثى كأنهما نصفان يتمم بعضهما بعضا، وقد تعددت تأويلات الشطر الثاني. ويتبادر لنا أن أوجهها هو (استقرار نسمة الحكمة واستيداعها) ويكون معنى الجملة والله أعلم أن الله خلقكم من نفس واحدة مقسومة إلى ذكر وأنثى. وجعل نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم تصبح مستقرة في أرحام النساء.
(6) خضرا: الرطب أو الطري من الزرع.
(7) حبا متراكبا: حبا منضدا في السنابل.
(8) طلعها: ثمرها.
(9) قنوان: قطوف.
(10) دانية: قريبة أو مدلاة سهلة التناول.(4/127)
(11) مشتبها وغير متشابه: مشتبه في الخلق والشكل والورق واللون غير متشابه في الثمر والطعم. أو منها ما هو متشابه في الشكل واللون والورق والثمر والطعم ومنها ما هو غير متشابه.
(12) انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه: ينعه بمعنى نضجه وبلوغه ومعنى الجملة انظروا كيف يبدأ ثمره ثم ينمو حتى ينضج.
احتوت الآيات تنويها تقريريا بمظاهر قدرة الله تعالى وعظمته وبديع نواميس كونه في خلقه الحب والنوى وإخراجه الحي من الميت والميت من الحي. وفي خفاء وحركات الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم وما يكون من هدايتها الناس في البر والبحر. وفي الماء الذي ينزل من السماء فينبت به متنوع النبات والشجر ذات الألوان والأشكال المتشابهة في المنظر المتغايرة في الثمر والطعم. وفي الإنسان الذي خلقه الله في الأصل نفسا واحدة ثم جعله سلالة يتوالد بعضها من بعض فتكون نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم مستقرة في أرحام النساء. وفي جعله ينتفع بكل هذه المظاهر والنواميس في مختلف ظروف حياته ومعاشه ويقيم به أوده ويحمي به نفسه. وأسلوبها قوي نافذ، وقد انتهى كل مقطع منها بالتنبيه مرة على ما في هذه المظاهر من دلائل على وجود الله واستحقاقه للعبادة والخضوع له وحده، ومرة بالتنديد بالناس لانصرافهم عن التفكير في ذلك، ومرة بالتنويه بأن الله إنما يفصل الآيات للنبهاء والعقلاء والعلماء ليتدبروا فيها وليؤمن من حسنت نيته ورغب في الهدى.
وورود ضمير المخاطب الجمع فيها أولا وأسلوب خواتمها ثانيا يدلان على أن الآيات موجهة للكفار في الدرجة الأولى على سبيل التنديد بهم على تجاهلهم ما في الكون من مظاهر رائعة ينتفعون بها، وتدل على قوة الله تعالى وشمول قدرته وربوبيته، ثم على وقوفهم من الدعوة إليه وحده موقف المكابر الجاحد، وافترائهم عليه الكذب وإشراكهم غيره معه. وهي والحالة هذه متصلة بمواقف الحجاج والمناظرة التي ما فتئت فصول السورة تحكيها.(4/128)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
ولقد تعددت أقوال المفسرين «1» في تأويل معاني بعض الجمل للتوفيق بينها وبين ما هو معلوم من المسائل الفنية والحياتية كما أن هناك من حاول استخراج قواعد فنية وحياتية وفلكية منها.
ونكرر هنا ما نبهنا إليه غير مرة من أن الآيات هنا وفي المناسبات المماثلة إنما تخاطب الناس في نطاق مشاهداتهم وما يقع عليه حسهم وتستوعبه أذهانهم بصورة عامة وأن من الواجب إبقاؤها في هذا النطاق وعدم الخروج منه إلى تأويلات واستنباطات ومحاولات في صدد نواميس الكون والحياة وأنظمتها الفنية لأن الآيات لم تهدف إلى ذلك ولأن مثل ذلك من شأنه أن يخرج القرآن من نطاق قدسيته وهدفه الإرشادي الموجه إلى جميع الناس في كل ظرف ومكان ويعرضه للأخذ والرد دونما طائل ولا جدوى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
(1) وخرقوا له: اخترعوا له.
(2) بديع: المبدع من العدم. والإبداع فعل ما لم يسبق إلى مثله.
(3) صاحبة: زوجة.
(4) وكيل: حافظ أو كفيل.
في الآيات حكاية لبعض عقائد العرب وردّ عليهم: فقد جعلوا الجن شركاء لله تعالى واخترعوا له بنين وبنات كذبا وبدون بينة في حين أنه هو الذي خلقهم
__________
(1) انظر تفسير الآيات في المنار والطبرسي والخازن والجواهر لطنطاوي جوهري.
الجزء الربع من التفسير الحديث 9(4/129)
وليس لمن يشركونه معه يد في خلق، وفي حين أنه هو الذي أبدع السموات والأرض وكل شيء، وليس له زوجة ولا يعقل أن يكون له ولد أو أن يكون في حاجة إلى ذلك، لأنه ربّ كل شيء وخالق كل شيء والوكيل المتصرف المحيط بكل شيء. وليس من إله إلّا هو، لا تحيط بكنهه العقول ولا تدرك ماهيته الأبصار ولا يماثله شيء من خلقه حتى يقاس به وهو المستحق وحده للعبادة.
تعليق على الآية وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ
من أهل التأويل الذين يروي المفسرون أقوالهم من أخذ الجملة الأولى على ظاهرها، ومنهم من قال إن كلمة الجن تعني الملائكة من حيث إن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. وعلى اعتبار أن كلمة الجن التي تعني الخفاء تصدق على الملائكة ومنهم من قال إن الجملة تعني عقيدة المجوس الذين كانوا يعتقدون أن الجن أو الشياطين آلهة الظلمة والشر. والذين قالوا القول الأول قالوا إن العرب كانوا فعلا يعبدون الجن ويشركونهم مع الله.
وأوردوا آيات سورة سبأ هذه للتدليل على ذلك: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ونرى هذا القول هو الأوجه بالنسبة للنص القرآني. ولا سيما إن آيات سبأ قد جمعت الجن والملائكة فلا يصح أن يكون (الجن) بمعنى الملائكة كما جاء في القول الثاني.
وفي سورة الجن آية تشير إلى شيء من عقائد العرب في الجن وهي: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) والكلام كما هو واضح في صدد مشركي العرب فيكون ذكر عقائد المجوس مقحما.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن كلمة (بنين) عنت عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله وعقيدة النصارى بأن المسيح ابن الله وقد جاء هذا وذاك في آيات(4/130)
قرآنية «1» . ومع صحة هذا القول في ذاته فلسنا نرى محلا لإقحام اليهود والنصارى أيضا في سياق يدور حول عقائد مشركي العرب. ولقد حكى القرآن عن هؤلاء قولهم إن الله اتخذ ولدا وعنوا بذلك الملائكة كما يستفاد من آيات سورة الأنبياء هذه: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
. وقد يكون ورود كلمة (بنات) يجعل القول أن المقصودين هم الملائكة واردا. غير أن نص الآية يجعلنا نؤكد على ترجيحنا أن الجن هم المقصودون.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية في مقام التنديد بمشركي العرب للتعبير عن ماهية شركهم بجعلهم لله أولادا بنين وبنات والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ
ولقد كانت هذه الجملة مناسبة لإدارة المفسرين الكلام حول موضوع رؤية الله عز وجل حيث رآها بعضهم نافية للرؤية ولم ير ذلك بعض آخر. وأوردوا في سياق ذلك أقوالا للمؤولين وبعض الأحاديث النبوية في النفي والإثبات معا مؤيدا كل منهم قوله بما أورده «2» . وتعليقا على ذلك نقول إن الآية جاءت في سياق تنديدي لعقائد المشركين وتنزيهي لله تعالى عن الشركاء وتنويهي لعظمة الله وقدرته وكمال صفاته. وإن الأولى أخذها وفهمها على هذا الاعتبار والوقوف عنده وعدم تحويل الآية إلى ما لم تنزل بسبيله. وإن كانت يمكن أن تكون ضابطا من ضوابط العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلم في الله عز وجل وتنزيهه بها عن الجسمانية
__________
(1) عقيدة اليهود ذكرت في آية سورة التوبة [31] وعقيدة النصارى ذكرت في هذه الآية وآيات أخرى.
(2) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي والخازن ورشيد رضا.(4/131)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
والحدود والحلول والمشابهة للخلق. ولقد علقنا على موضوع رؤية الله عز وجل بما فيه الكفاية وأوردنا الأقوال المتعارضة والأحاديث الواردة فيه في سياق تفسير سورة القيامة فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
في الآيات هتاف بالناس بأنه قد جاءهم من ربهم الهدى والبينات، فمن أبصر واهتدى فلنفسه، ومن عمي عن ذلك وضلّ فإنما يضرّ نفسه. وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس حفيظا عليهم ولا مسؤولا عنهم. وتقرير رباني بأن الله تعالى يصرف الآيات القرآنية ويقلب فيها وجوه الكلام تبيانا للناس الذين يحبون أن يعلموا ويتبينوا الأمور حتى يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم درست، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يتبع ما يوحى إليه من ربه الذي لا إله إلّا هو، وأن يلتزم الحدود المرسومة له وألا يبالي بالمشركين إذا أصروا على شركهم. فلو شاء الله ما أشركوا لأن في قدرته إجبارهم على الهدى، وإنما تركهم لاختيارهم ليظهر الطيب من الخبيث، وسليم القلب الراغب في الهدى من سيء النية المتعمد المكابرة والتكذيب ولم يجعله الله مسيطرا عليهم ولا مسؤولا عنهم. وصلة الآيات بسابقاتها وبمواقف المناظرة والجدل والإنذار واضحة وأسلوبها نافذ وموجه إلى العقل والقلب معا.
وواضح من الشرح المستلهم من فحواها أنها تتضمن تقريرا جديدا لما قررته آيات عديدة سبقت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها من مهمة النبي صلى الله عليه وسلم التبليغية والإنذارية ومن ترك الناس بعد ذلك لضمائرهم وتحميلهم مسؤولية مواقفهم إزاء رسالة الله بعد ذلك.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن معنى جملة وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ أنه بمعنى حتى (يقول الكفار أنك درست وتعلمت ما تتلوه من أهل الكتاب) . ولقد(4/132)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
قرئت كلمة (درست) بفتح السين وتسكين التاء من الدروس أي بمعنى (حتى يقولوا إن ما تتلوه قديم دارس من أساطير الأولين) . والجمهور على أن كلمة (درست) من الدرس لا من الدروس. وقد خطر لنا تأويل آخر نرجو أن يكون هو الصواب وهو (حتى يقولوا كفاك فقد بلغت وقرأت وكررت وبينت فدع الناس فيؤمن من يبصر ما فيه من هدى ويكفر من عمي قلبه) وقد استلهمنا هذا من الجملة السابقة للجملة وهي وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فالله يقلب وجوه الكلام ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم تبليغه للناس حتى يقولوا كفى فقد بلغت. وفي أسس البلاغة للزمخشري (درست الكتاب) كررت قراءته للحفظ.
وجملة وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ليست بمعنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركهم بدون تبليغ، فهذا من مهمته الأصلية وإنما هي بمعنى الأمر بعدم الاهتمام بموقفهم.
وهذا ما تكرر بأساليب عديدة سبقت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن الجملة نسخت بآيات القتال. وهذا إنما يصح إذا رافق مواقف المشركين بعد الهجرة طعن في الإسلام وأذى للمسلمين وحسب على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
هذا، ونظم الآية الأولى يوهم أن الكلام هو كلام النبي مباشرة ومثل هذا قد تكرر ومرّت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا على ذلك في سياق الآيات الأولى من سورة هود تعليقا ينسحب على هذه الآية. ومع ذلك فإنه يلحظ أن الآية الثانية احتوت كلاما ربانيا مباشرا في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينطوي فيه كون الكلام الأول هو إيعاز رباني بأن يقول ذلك.
[سورة الأنعام (6) : آية 108]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
(1) عدوا: بغيا وتجاوزا لحدود الأدب.(4/133)
في الآية نهي للمسلمين عن سبّ آلهة المشركين وعقائدهم، وتنبيه إلى أن هذا قد يحملهم على المقابلة فيسبون الله تعالى بغيا وجهلا واندفاعا في العصبية والحمية الجاهلية. وتقرير بأن الله تعالى قد جبل الناس على طبيعة استحسان ما يعملون أو أن من مقتضى النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري أن يستحسن الناس ما يعملون، وأن مرد الجميع إليه حيث ينبئهم بما عملوا ويوفيهم عليه بما استحقوا.
تعليق على جملة وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
وقد روى المفسرون أنه لما نزلت آية: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ الأنبياء: [98] أنذر المشركون النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: لتكفن عن سب آلهتنا ولنشتمن إلهك فنزلت الآية «1» . وهذه الآية من آيات سورة الأنبياء التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة بثماني عشرة سورة. وقد روى المفسرون أيضا أن بعض زعماء المشركين جاءوا إلى أبي طالب حينما حضرته الوفاة وطلبوا منه أن ينصح ابن أخيه بعدم سب آلهتهم في سياق طويل، فلما يئسوا منه قالوا له: لتكفن عن سب آلهتنا أو نسب إلهك، فنزلت الآية «2» . وأبو طالب توفي أواخر العهد المكي حيث يفرض أن سورة الأنعام نزلت قبل ذلك بأمد غير قصير، ويضاف إلى هذا أن النهي موجه إلى المؤمنين عامة وليس للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
ومهما يكن من أمر فالآية تدل بدون ريب على أن آلهة المشركين كانت تشتم، وأن المشركين توعدوا بمقابلة الشتيمة بمثلها أو قابلوها فعلا، والظاهر أنه كان يحتدم بين المؤمنين والمشركين نقاش ونزاع وأن المؤمنين كانوا ينالون من عقائد هؤلاء ومعبوداتهم سبّا وتحقيرا فيندفع هؤلاء بالحمية والعصبية إلى المقابلة فنهت الآية المسلمين عن ذلك.
ومع ما هناك من خصوصية زمنية فإن إطلاق النهي والتعليل في الآية ينطويان
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي وابن كثير والخازن والبغوي.
(2) المصدر نفسه.(4/134)
على تلقين مستمر المدى حيث أوجب على المسلمين في كل زمن ومكان التزام هذا الأدب وعدم شتم أديان غيرهم وعقائدهم، وفي هذا ما فيه من الجلال والروعة التأديبية التي تهدف إلى إبعاد المسلم عن الفحش والبذاءة وإثارة الغير وجرح عاطفته الدينية مهما كانت. ولا سيما أن ذلك متناف مع مبدأ حرية التدين الذي قرره القرآن على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون) شرحا يغني عن التكرار، ومع مبدأ الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة الذي قررته آية سورة النحل هذه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) .
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من سبّ والديه، قالوا يا رسول الله وكيف يسبّ الرجل والديه؟ قال: يسبّ أبا الرجل فيسب الرجل أباه ويسب أمه فيسب أمه» حيث ينطوي في الحديث تأديب نبوي رفيع مستمد من التأديب القرآني ومتساوق معه.
تعليق على جملة كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ
إن إطلاق العبارة في هذه الجملة ألهمنا أن نؤولها بما أوّلناها في الشرح المباشر للآية. ونرجو أن يكون هو الصواب وفي الجملة التالية قرينة على ذلك حيث تنذر الناس جميعا بأن مرجعهم إلى الله فينبئهم بما عملوا ويجزيهم عليه.
وبكلمة أخرى قرينة على أن الجملة لم تعن قط أن الله أغراهم وزيّن لهم ما يعملون حسنا كان أم سيئا. والآية في جملتها تعني أن الله قد وكلهم في ذلك إلى أخلاقهم وقابلياتهم، ولقد ورد في سورة النمل التي سبق تفسيرها آية فيها مثل هذه الجملة مصروفة إلى المجرمين حيث يكون تأويلنا على ضوء ذلك في محله أيضا.
ولقد أوردنا في سياق الجملة المذكورة في سورة النمل تأويلات المؤولين والمفسرين وعلقنا عليها تعليقا وافيا، وما قلناه هناك يصح هنا أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.(4/135)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 109 الى 110]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
في الآيات حكاية لما كان الكفار يحلفونه من الأيمان الغليظة بأنهم ليؤمنن إذا ما جاءتهم آية من الله مؤيدة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم قائلا إنما الآيات عند الله وليست في متناول قدرته. وبأن يسأل مخاطبين قريبين عما إذا كان لا يخطر ببالهم أن الله لو أظهر معجزة أن ينقض الحالفون أيمانهم ولا يؤمنوا بها.
وتقرير رباني بأن قلوبهم ستظل قاسية وأبصارهم متعامية كما هو دأبهم قبل. ثم يبقون عمهين في طغيانهم مصرين على مكابرتهم لا يؤمنون كدأبهم منذ البدء أو منذ وقفوا مثل هذا الموقف لأول مرة.
تعليق على آية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها
ولقد روى المفسرون أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه عيون الماء وأن عيسى كان يحيي الموتى وأن هودا أتى بمعجزة الناقة لثمود فأتنا بآية حتى نصدقك، قال: فإن فعلت ما تقولون، أتصدقونني؟ قالوا: نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. فقال: ما تحبون أن آتيكم به، قالوا اجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك وأتنا بالملائكة يشهدون لك فقام يدعو ربه فجاءه جبريل يقول له إن الله يبلغك إن شئت أرسل آية فإن لم يؤمنوا أخذهم بالعذاب وإن شئت تركهم حتى يثوب ثائبهم فقال: بل اتركهم حتى يثوب ثائبهم فنزلت الآيات. وروى الطبري أن جملة وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) موجهة إلى المؤمنين لأن هؤلاء قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما طلب المشركون آية وأقسموا أنهم ليؤمنن إذا جاءتهم، سل ربك يا رسول الله ذلك، فوجه الله الخطاب في الآية إليهم.(4/136)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
والآيات لم ترد في الصحاح ولكنها متساوقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وفيها صورة طريفة من صور العهد المكي وما كان يعتلج في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معا من رغبة ملحة في اهتداء قومهم وهذه الصورة ملموحة في الآية الأولى ولو لم تصح الروايات.
ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت للمناسبة المذكورة في الروايات بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها، ومن المحتمل أن تكون المناسبة سابقة فأشير إليها في سياق الإشارة إلى مواقف المشركين. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني لأن السياق متساوق والآيات معطوفة على ما قبلها.
ولقد علقنا على موضوع تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات وموقف الوحي القرآني من ذلك وحكمته في سياق تفسير سورة المدثر. وفي هذه الآيات توكيد جديد لهذا الموقف يضاف إلى ما جاء من مثله في سور سبق تفسيرها مثل طه والقصص والإسراء ويونس وهود. وفيها كذلك تعليل جديد لموقف الكفار وهو أن موقفهم ناشىء عن مكابرة وعناد. وليس موقف رغبة صادقة في الإيمان.
وبعض العبارات توهم ظاهرا أن الله سبحانه هو الذي يحول دون إيمان الكفار ويذرهم يستمرون ويعمهون في طغيانهم. والذي يتبادر لنا أن العبارات أسلوبية وبسبيل تقرير شدة مكابرة الكفار وإصرارهم على العناد وعدم صدق رغبتهم كما هو شأن الصيغ المماثلة. ونرجو أن يكون الشرح الذي شرحنا به العبارات هو الوجه والصواب.
ولقد أرسل الله رسوله بالبينات والهدى للناس وطلب منهم أن يؤمنوا وبشّر المؤمنين وأنذر الكافرين في آيات كثيرة جدا وخاطبهم في آية في سورة الزمر قائلا: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [7] فيتنزه الله عن منعهم من الإيمان.
[سورة الأنعام (6) : آية 111]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)(4/137)
(1) قبلا: عيانا أمامهم.
في الآية تقرير بأن الله لو أنزل الملائكة فرآهم المشركون جهرة وأحيا لهم الموتى فكلموهم ولبى كل ما يقترحون ويطلبون وجعله ماثلا أمامهم عيانا لما آمنوا إلّا أن يشاء الله إيمانهم وأن أكثرهم يجهل هذه الحقيقة ويتصرفون إزاءها تصرف الجهال.
والآية كما هو واضح متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وإيضاح، والمتبادر أنها بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتثبيتهم وإقناعهم بعدم صدق رغبة المشركين وتصميمهم على المكابرة والجحود على أي حال.
ومع ما هو ظاهر من خصوصية الآية وصلتها بموقف مكابرة الكفار وهدفها من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن بعض المفسرين وقفوا عند عبارة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وقالوا إنها تقرر أن المشيئة لله تعالى في كل حال وفي كل أمر. فهو الهادي وهو الضال «1» . وقال فريق آخر «2» إنها بمعنى «إلّا أن يجبرهم ويقسرهم على الإيمان» ونحن نرجح المعنى الثاني الذي انطوى في آيات أخرى بصراحة أكثر، منها ما مرّ شرحه في هذه السورة وما قبلها. ولا يقتضي هذا ما يحتج به بعض علماء الكلام أن يقع من الكفار ما لا يشاء الله تعالى وإنما ينطوي فيه معنى أكدته آيات أخرى بصراحة أكثر مرّت أمثلة عديدة منها وهو أن حكمة الله وناموس خلقه اقتضيا أن يكون للناس حرية الاختيار والكسب وإرادتهما. وهذا من مشيئة الله الأزلية فليس هناك تعارض على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة وبخاصة في التعليق الذي علقناه على هذا الموضوع في سورة المدثر ويجب أن نذكر دائما آية سورة الزمر التي أوردناها آنفا فهي من الضوابط في هذا الموضوع وهي تنسب الكفر والشكر للناس.
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير مثلا.
(2) انظر المنار والزمخشري والطبرسي.(4/138)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 112 الى 113]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
(1) ولتصغي إليه: ولتميل إليه.
تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ
في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري. وهو أن ينبري لكل نبي عدو من شياطين الإنس والجن فيوحي بعضهم إلى بعض بالوساوس وتزيين الباطل بزخرف القول للتغرير والخداع. وقد تضمنت الفقرة الأخيرة من الآية ثم الآية الثانية تسلية وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم: فعليه أن لا يأبه بمن انبرى له من الشياطين العتاة بل يدعهم وما يفترون. ولن يكون لهم تأثيرا إلا على الناس الذين لا يؤمنون بالآخرة فهؤلاء هم الذين تميل قلوبهم إلى ما يقولونه ويزوقونه ويرضون به ليستمروا في اقتراف ما يقترفونه من آثام. أما جملة وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فجائز أن تكون أسلوبية فيها تتمة للتسلية والتطمين، وجائز أن تكون بقصد تقرير كون الله عز وجل لو شاء لمنعهم من فعل ما يفعلونه ولكنه تركهم لاختيارهم حتى يستحقوا جزاءهم وفاقا له.
وبهذا الشرح المستلهم من فحوى الآيات وروحها لا يبقى إن شاء الله محل للتوهم من ظاهر العبارة بأن الله قد شاء أن يجعل أعداء من الشياطين لكل نبي أرسله.
وفي حصر الميل للشياطين ووساوسهم بالذين لا يؤمنون بالآخرة قرينة على صواب التأويل السابق من جهة وتعليل لذلك الميل من جهة أخرى. فلا يميل إلى(4/139)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
وساوس الشياطين إلّا الكفار المجرمون الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم الذين يستمرون في اقتراف الآثام واتباع الشهوات أكثر من غيرهم لأنهم لا يخشون عاقبة أفعالهم بعد الموت.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والسياق السابق دار على مواقف الكفار وتعجيزاتهم. والمتبادر أن تعبير شياطين الإنس قد قصد به زعماء الكفار الذين كانوا يقودون المناوأة. أما ذكر شياطين الجن فجائز أن يكون من باب التنديد بزعماء الكفار بتقرير كون مواقفهم متأثرة بوساوس شياطين الجن. وكانوا يعرفون أن الشياطين يوحون إلى الناس ويتنزلون عليهم ويوسوسون لهم على ما يستفاد من آيات عديدة سبق تفسيرها. وقد قرر القرآن في آيات عديدة سبق تفسيرها أن الشياطين إنما يوحون وينزلون على الآثمين الأفاكين وأنهم ليس لهم سلطان على المؤمنين المخلصين فصار التنديد بالكفار مستحكما.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 117]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
(1) مفصلا: هنا بمعنى واضح مبين.
(2) الممترين: الشاكين.
(3) يخرصون: يخمنون تخمينا.
في الآيات تساؤل استنكاري بلسان النبي صلى الله عليه وسلم عما إذا كان يصح أن يتخذ حكما ومرشدا غير الله تعالى الذي أنزل عليه الكتاب واضحا مبينا ليكون هدى للسامعين المخاطبين. وتقرير رباني بأن الذين أوتوا الكتاب من قبله يعلمون أنه(4/140)
منزل بالحق من الله تعالى. وتحذير من الشك والمماراة في ذلك. وتقرير آخر بأن كلمات الله تعالى وأحكامه قد كملت وبلغت الغاية في الإحكام والصدق والعدل بحيث لا يستطيع أحد أن يجرحها ويبدل أو يغير فيها، وهو السميع لكل شيء العليم بكل شيء فلا تصدر أحكامه إلّا عن علم شامل لكل مقتض. وتنبيه إلى أن أكثر الناس إنما يسيرون في عقائدهم وأفكارهم بالظن والتخمين والتوهم، وأن السير على طريقتهم وطاعتهم أو مجاراتهم فيما يقولون يؤدي إلى الضلال والانحراف عن سبيل الله. وتقرير فيه معنى التحدي بأن الله تعالى هو الأعلم بحقائق الناس ومن هو المهتدي ومن هو الضال منهم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير بلسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الكلام انتقل في بقية الآية إلى التقرير الرباني مما لا يدع مجالا للتوهم بأن الكلام الأول هو كلام النبي المباشر. ولقد تكرر هذا ومن ذلك ما جاء في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة هود في هذا الجزء بما يغني عن التكرار.
تعليق على الآية أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً والآيات الثلاث التالية لها
ضمير المفرد المخاطب في الآيات قد يسوغ القول إن العبارات التي ورد فيها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذات. وقد يكون في الآيتين [116 و 117] قرينة قوية على ذلك. وفي هذه الحالة تكون العبارات بسبيل تثبت النبي صلى الله عليه وسلم وتدعيمه في موقفه إزاء الأكثرية التي كانت تناوئه وتجادله. وليست بسبيل مفهوم العبارة الحرفي فيقين رسول الله صلى الله عليه وسلم العميق بصدق ما أنزل الله عليه واستحالة جنوحه إلى طاعة الجاحدين والضالين لا يمكن أن تسوغا أخذ العبارة بمفهومها الحرفي الظاهري.
وقد تكرر هذا الأسلوب الذي ينطوي فيه هذا المعنى على ما شرحنا في الآيات المماثلة التي سبق تفسيرها.(4/141)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
والآيات قوية نافذة في ما احتوته من تقرير وتثبيت وتحذير وتحدّ. وبنوع خاص الآية [115] التي انطوت على بشرى وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن كلام الله الذي أنزل عليه صادق كل الصدق عادل كل العدل متحقق بحذافيره ولن يستطيع أحد أن يحدث فيه تبديلا.
والمصحف الذي اعتمدناه ذكر أن الآية [114] مدينة ولم نطلع على ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. والآية منسجمة مع الآيات التي تأتي بعدها كل الانسجام وليس هناك قرينة في السياق يمكن أن يؤيد ذلك. وروح الآية وفحواها يفيدان أنها جاءت كردّ على الكفار موضوع الكلام السابق. والمفسرون يعزون كل آية فيها إيمان أهل الكتاب وتصديقهم إلى يهود المدينة ولعل الرواية جاءت من هذه الناحية غير أن هذا غير مسلم به على إطلاقه، وهناك آيات لا خلاف في مكيتها تذكر ذلك مثل آيات الإسراء [107 و 108] وهناك روايات تكاد تكون يقينية أن أهل الكتاب في مكة أو فريق منهم على الأقل كانوا آمنوا وصدقوا في مكة ومنهم صهيب الرومي الصحابي الجليل.
وصلة الآيات بالسياق السابق واللاحق ملموحة بقوة بحيث يمكن أن تكون من جهة قد جاءت بعد الآيات السابقة للتدعيم والتعقيب. ومن جهة جاءت لتكون مقدمة للآيات اللاحقة في الوقت نفسه، والله تعالى أعلم.
وفحوى الآية [114] قوي في تثبيته وتدعيمه والمتبادر منه أن ما ذكر فيها ليس تقريرا لواقع معلوم وحسب بل هو مستند إلى موقف إيماني وتصديقي من أهل الكتاب حيث ينطوي في ذلك شهادة عيانية جديدة لأعلام النبوة المحمدية. وصدق القرآن وصلته بالله تعالى من الفريق الذي تغلب الحق فيه على الباطل والرغبة في الإذعان للحق على المكابرة والهوى تضاف إلى شهادات عديدة أخرى مرّت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها مثل الأعراف والقصص والإسراء.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 121]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)(4/142)
(1) فسق: عصيان الله.
في الآيات أمر رباني موجه للمسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وتحذير لهم بعدم التردد في ذلك لأن الله تعالى قد بين لهم ما حرم عليهم في غير ظروف الاضطرار، وإشارة إلى أن كثيرا من الناس يفعلون ما يفعلون بسائق الهوى فينحرفون عن سبيل الله وتقرير بأن الله تعالى يعلم الذين يتجاوزون الحدود التي رسمها ويعتدون في تصرفاتهم. وأمر آخر للمسلمين بالابتعاد عن الإثم ظاهره وباطنه وعلنه وسرّه، وإنذار للذين يقترفون الإثم بأنهم سينالهم القصاص الحق العادل ونهي للمسلمين عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأن ذلك يجعله فسقا وإثما وخروجا على أوامر الله وحدوده. وتنبيه إلى أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا المسلمين في هذه المواضيع وتحذير للمسلمين من مجاراتهم ومطاوعتهم لأنهم بذلك يغدون مشركين مثلهم.
تعليق على آية فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ والآيات الثلاث التالية لها
وجمهور المفسرين على أن الذي أمر المسلمون بأكله إذا ذكر اسم الله عليه في الآيات ونهوا عن أكله إذا لم يذكر اسم الله عليه هو المواشي والذبائح. وهذا مؤيد بآيات قرآنية أخرى جاء فيها ذكر ذلك صراحة وهي آية سورة المائدة:(4/143)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) .
والآيات وإن كانت تبدو فصلا جديدا فإن مما يمكن أن يستلهم من مضمونها ومضمون سابقاتها أنها غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة لها وأنها متصلة بما كان يقوم بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من جهة، والكفار من جهة ثانية من مواقف جدلية متنوعة مما حكته فصول السورة.
ولقد أورد المفسرون «1» في سياقها روايات متنوعة، ذكر فيها أن المشركين أو اليهود كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في تحريمه لأكل الميتة التي قتلها الله وتحليل الذبيحة التي قتلها الإنسان وأن مجوس فارس كانوا يكتبون لكفار قريش ليجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه النقطة. وهناك رواية تذكر أن أناسا من المسلمين قالوا يا رسول الله كيف نأكل ما نقتله ولا نأكل ما يقتله الله فنزلت الآية [114] .
ورواية المجوس تبدو غريبة جدا، وأكل الميتة عند اليهود محرم فلا يعقل أن يكون من المنتقدين لعدم أكل الميتة أو المجادلة فيه. وأوثق الروايات هو الرواية الأخيرة فقد رواها الترمذي عن ابن عباس «2» والروايات الأخرى لم ترد في كتب الصحاح.
ويلحظ من جهة أن الآيات ليست في صدد أكل الميتة وإنما هي في صدد الحث على الأكل مما ذكر اسم الله عليه والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن الآية [114] من جهة أخرى من سلسلة متكاملة فضلا عن الاتصال الملموح بين هذه السلسلة وبين الآيات السابقة.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن.
(2) روى هذا الترمذي، انظر التاج ج 4 ص 101.(4/144)
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنه كان يقع بين المسلمين والمشركين جدل ومناظرات في صدد الذبائح، فالمشركون كانوا يأكلون ما يموت حتف أنفه ولم يكونوا يذكرون كذلك اسم الله تعالى على ما يذبحونه.
وتلهم أن بعض النبهاء من الزعماء كانوا يلقنون الذين يتصلون بالمسلمين من الكفار ما يجادلونهم به من حجج، وأن بعض المسلمين كانوا يترددون في هذه الأمور لسابق عهدهم بالتقاليد التي كانوا يجرون عليها قبل إسلامهم. فنزلت الآيات للقضاء على هذا التردد، ولبيان الأمر بصورة حاسمة على الوجه الذي جاءت به، وللتنبيه إلى أن التقاليد الجاهلية ليست قائمة على علم وحق وإنما هي بنت الأوهام والأهواء والظنون وأن السير على هذه التقاليد ومطاوعة المشركين فيها هو شرك.
وهكذا تكون الآيات من الفصول الحاسمة التي جاءت لهدم تقليد من تقاليد الشرك والجاهلية.
ولقد أشكل على المفسرين محتوى الآية الثانية التي تذكر أن الله قد فصل للمسلمين ما حرم عليهم لأن ذلك لم يرد في السور السابقة في النزول سورة الأنعام. وبعضهم قال إن تفصيل ذلك ورد في آية سورة المائدة التي أوردنا نصها قبل قليل. وبعضهم أنكر ذلك لأن سورة المائدة مدنية وردّ التفصيل إلى ما احتوته آيات تأتي قريبا في سورة الأنعام «1» وهو وجيه مع فرض أن الآيات المذكورة قد نزلت مع هذه الآيات دفعة واحدة وهو فرض في محله.
ولم نر المفسرين فيما اطلعنا عليه يتعرضون لتعليل تردد المسلمين في أكل ما كان يذكر اسم الله عليه حتى اقتضت حكمة التنزيل إباحته والحث عليه بالأسلوب القوي الذي جاءت عليه الآيتان الأولى والثانية. ولقد روى المفسرون في سياق آية سورة الحج هذه لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي.
الجزء الرابع من التفسير الحديث 10(4/145)
أن العرب كانوا لا يأكلون مما يقربونه لآلهتهم أو ينذرون تقريبه لهم. فلما أسلم من أسلم منهم وصاروا يذكرون اسم الله على القرابين التي يقربونها لله في موسم الحج وغيره أو ينذرون تقريبها لله ظلوا على عادتهم في الامتناع عن الأكل منها.
والمتبادر أن ما ورد في الآية متصل بذلك.
وللفقهاء أقوال متنوعة في صدد هذا الموضوع على ما ورد في كتب التفسير فبعضهم أوجب ذكر اسم الله جهرا عند ذبح الذبيحة وبعضهم قال تكفي النية.
وبعضهم قال بحل الذبيحة التي يذبحها المسلم ولو نسي ذكر الله عليها أو حتى لو تعمد عدم ذكره. وبعضهم قال بحل ما نسي دون العمد. وبعضهم توقف في الذبيحة التي لا يعرف بجزم أنها ذكر اسم الله عليها. وبعضهم أباح ذلك إذا كان يعرف يقينا أن الذابح مسلم. وهناك أحاديث نبوية صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني على الأرجح في هذا الصدد لم نر بأسا في إيراد ما فيه التوضيح في مناسبة التشريع الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد.
ومن الأول حديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة «قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا، أنأكل منها فقال سمّوا الله وكلوا» «1» . ومن الثاني أحاديث أوردها ابن كثير واحد بتخريج الحافظ بن عدي عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمّي فقال النبيّ اسم الله على كلّ مسلم» . وواحد بتخريج البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمّي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل» . وواحد بتخريج أبي داود عن الصلت السدوسي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» .
وتعليقا على ذلك نقول إنه يتبادر لنا أن المقصود بحل أكل ما يذكر اسم الله
__________
(1) التاج ج 3 ص 95. [.....](4/146)
عليه من الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه هو تثبيت فكرة الله وحده في نفوس المسلمين ومخالفة المشركين الذين كانوا يغفلون عن ذلك أو يذبحون لشركائهم أو يشركون شركاءهم مع الله عند الذبح. وأن المحرم هو ما ذبحه المشركون الذين يعرف يقينا أنهم لا يذكرون اسم الله وحده. وإن القول بجواز ذكر الله سرّا أو نية من قبل المسلم أو حل ذبيحة المسلم لو نسي ذكر الله صواب حتى لو لم تصح الأحاديث التي أوردها ابن كثير. أما القول بحل ذبيحة المسلم إذا تعمد عدم ذكر الله ففيه نظر فيما يتبادر لنا لأنه مخالف لنص الآية بدون عذر لنسيان.
وصفة المسلم لا تكفي هنا إزاء النص فضلا عن إثم هذا المسلم لتعمده إساءة الأدب مع الله بعدم ذكره اسمه مع إيجاب القرآن ذلك.
وللفقهاء كلام في صدد ذبيحة الكتابي على ما جاء في كتب التفسير فمنهم من أحلها إطلاقا لنص آية المائدة هذه: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [5] ومنهم من أحلها إذا تيقن المسلم أنهم لم يذكروا اسم المسيح أو مريم عليها وحرمها إذا تيقن لأن القرآن حرم أكل ما يهل به لغير الله على ما جاء في آية سورة المائدة الثالثة وغيرها وأجازها إذا لم يتيقن من ذلك. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث وأقوال أخرى في صدد المحرمات من الحيوانات وكيفيات الذبح سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
تعليق على جملة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ
لقد احتوت هذه الجملة مبدأ من المبادئ القرآنية الجليلة وهو رفع الحظر عن المنهيات حين الاضطرار.
ومع أنه جاء هنا وتكرر أكثر من مرة في صدد الذبائح والأطعمة المحرمة مما سيأتي مثال له في آيات قريبة من هذه السورة فإن هناك آيات أخرى تلهم أنه من(4/147)
المبادئ القرآنية العامة، ومنها آية سورة النحل هذه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) .
وواضح أن القرآن في إقراره هذا المبدأ قد تمشى مع ظروف الحياة وطبائع الأمور، من حيث إن الأوامر والنواهي إنما يمكن تنفيذها ضمن نطاق الإمكان والوسع وانتفاء الخطر والضرر والاضطرار. وهذا المبدأ شبيه لمبدأ عدم تكليف الله نفسا إلّا وسعها الذي شرعناه في سياق الآية [42] من سورة الأعراف وأوردنا في مناسبته أحاديث عديدة متساوقة مع التلقين القرآني، والأحاديث واردة بالنسبة لهذا المبدأ كما هي بالنسبة لذاك ويحسن بالقارىء أن يرجع إليها لتكون الصورة ماثلة له وهو يقرأ هذه الكلمة.
وبمثل هذا المبدأ وذاك صلحت الشريعة الإسلامية للخلود والتطبيق في كل ظرف ومكان. والمتبادر أن القاعدة الشرعية القائلة «الضرورات تبيح المحظورات» قد استندت إلى هذا المبدأ. وهناك آيات قررت بصراحة أن حالة الاضطرار التي تبيح المحظور يجب أن تكون بقدر الضرورة وعدم تجاوز هذا الحد، منها الآية [145] من سورة الأنعام الآتية قريبا، وهذا مما يقف دون القول إن هذا المبدأ قد يفتح باب التساهل على مصراعيه فينشأ عنه تجاوزات دينية وغير دينية لأن الذين لا يتقيدون بالضرورة عند الاضطرار يعتبرون خارجين عن نطاق الكلام في صدد التقيد بالمبادىء القرآنية والانتفاع بها بطبيعة الحال.
تعليق على جملة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
هذه الجملة وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار عليه الكلام في الآيات فإن إطلاقها يجعل تنديدها وإنذارها عامين. ولقد قرئت الياء في (ليضلّون)(4/148)
بالفتح من الضلال وبالضمّ من الإضلال. ومقامها يحتمل القراءتين وإن كنا نرجح الفتح. وعلى كل حال فإن فيها تنديدا بكل من يرتكس في الضلال متأثرا بهواه وهوى الآخرين بدون علم وبرهان. وبكل من يضل الناس بهواه بدون علم وبرهان كذلك معتديا ومتجاوزا لحدود الحق والصدق إلى الباطل والحلال إلى الحرام واليقين إلى الشبهات. مما يمكن أن يشمل كل شأن من شؤون الدين والدنيا. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى بوجوب عدم تنطع أحد من المسلمين للكلام والدعوة والوعظ والإيعاز والفتيا مندفعا بالهوى متجاوزا حدود الحق والصدق غير مستند إلى علم وبرهان، وبوجوب تثبت المسلم في كل قول يسمعه ورأي يلقى إليه أو عمل يوعز به إليه أو مذهب يزين له. فلا يأخذ من ذلك إلّا ما برىء من الهوى وقام على صحته وسلامته وحقه وصدقه علم وبرهان.
وفي القرآن آيات كثيرة مكية ومدنية فيها تنديد بمن يتبع الهوى ويأمر به ويتخذه إلهه دون الحق والصدق ويفتري على الله ورسوله فيقول هذا حلال وهذا حرام. وهذا يجوز وهذا لا يجوز وهذا حق وصواب وهذا باطل بدون علم وبرهان. مما مرّ منه أمثلة عديدة حيث يدل هذا على ما أعارته حكمة التنزيل لهذا الأمر من اهتمام وعناية.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» «1» . وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» «2» ، وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم
__________
(1) التاج ج 1 ص 63 و 64 و 65.
(2) المصدر نفسه.(4/149)
بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهّالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» «1» .
تعليق على الآية وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ
هذه الآية قد تكون متصلة بالموضوع الذي جاء في الآيات التي هي جزء من سلسلتها. وبسبيل التنبيه إلى وجوب الوقوف في استباحة المحظور في حالة الاضطرار في نطاق الضرورة. وبمعنى آخر بسبيل الاستدراك لما يمكن أن ينشأ عن إباحة المحظورات عند الاضطرار من سوء تأويل وتوسع فعلى المسلم أن يبتعد عن الإثم في سره وعلنه وظاهره وباطنه دون تأول وتوسع ومحاولة تبرير غير صادقة.
وهذا تلقين جليل كما هو ظاهر ومستمر المدى، كما أنه يزيل ما توهمه الآية من غرابتها على الموضوع والسياق. على أن إطلاق الأمر الرباني في الآية يجعلها جملة قائمة بذاتها أيضا. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره في مدى ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ عن أهل التأويل في صدر الإسلام. منها أن (الظاهر هو ما حرم الله من الأنكحة والباطن الزنا السري) ومنها (الظاهر هو كل ما عصي به الله وانتهكت به محارمه علنا، والباطن كل ما كان من ذلك سرا) . ونرى القول الثاني هو الأوجه المتساوق مع إطلاق العبارة. وعلى كل حال فالجملة تنطوي من ناحية الإطلاق على تلقين من أروع التلقينات وأجلها. فيه إيقاظ لضمير المسلم وتنبيه له إلى وجوب تجنب الإثم والبغي مطلقا وليس في حالة العلن التي قد يترتب عليها ضرر للشخص من الناس والسلطان فيجعله يمتنع من ذلك بل وفي حالة السر أيضا التي قد لا يترتب عليها مثل هذا الضرر المانع. ثم ليس بسبيل الانطباق على ظواهر الأمور وتأويل النصوص وحسب بل بسبيل حقائق الأمور ونيات القلوب أيضا. فإن كثيرا من الناس يحاولون إيجاد المخارج للتحلل من الحرام والآثام ويؤولون النصوص تأويلا متسقا مع أهوائهم أو تأويلا أوسع مما تتحمله النصوص. وقد
__________
(1) التاج ج 1 ص 63، 64، 65.(4/150)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
يكونون ممن يعرفون الأمر على حقيقته في قرارة نفوسهم.
ولقد جاء في آية في سورة الأعراف شيء مماثل لما جاء في هذه الآية:
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [33] . غير أن للآية التي نحن في صددها معنى أوسع كما هو ملموح حيث يراد بها الذنوب والمعاصي والانحرافات التي لا توصف أو لا تعرف بالفواحش. ومن الفروق بين هذه الآية وآية الأعراف أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون آية الأعراف بأسلوب التحريم في جهة أن آية الأنعام جاءت بأسلوب الأمر والحض على ترك الإثم. ومن ذلك أن ما أمر بتركه في آية الأنعام ليس هو ما كان فاحشا لا يسع أحدا اقترافه بدون ترتيب واندفاع بالذنب بل ما يمكن أن يتأوله الناس ويجرأوا عليه في السر والعلن من أمور تكون في حقيقتها معصية غير خافية على مقترفها. وهكذا يمكن أن تكون الآية هنا تتمة للتعليم والتأديب والتشريع ليكون الأمر شاملا للفواحش والآثام الكبيرة وغير الكبيرة ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.
[سورة الأنعام (6) : آية 122]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)
تتساءل الآية على سبيل التمثيل عما إذا كان يصح في العقل أن يكون من أحياه الله بعد جهله وضلاله بالهدى وجعل له منه نورا يمشي به في الطريق القويم الواضح مثل الذي يتسكع في الظلمات لا يستطيع أن يخرج منها أو أن يرى الطريق القويم الواضح. ثم تقرر تقريرا فيه معنى التنديد والتقريع بأن الكافرين الذين هم الفريق الثاني إنما صاروا كذلك لأنهم زين لهم عملهم المنحرف فرأوه حسنا واستمروا فيه.
وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في صدد المقايسة بين رجل من المسلمين وآخر من المشركين اختلفت الروايات في اسميهما، منها ما ذكر أنهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو جهل، ومنها ما ذكر أنهما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو(4/151)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
جهل، ومنها ما ذكر أنهما عمار بن ياسر أو حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وأبو جهل «1» . ومع أن الآيات التي تلي هذه الآية قد تساعد على القول إن هذه الآية في صدد التنديد ببعض أكابر مشركي قريش وبالتالي تساعد على القول بوجاهة إحدى تلك الروايات إجمالا فإن هذا لا يمنع أن تكون جاءت تعقيبا على الآيات السابقة بسبيل التنديد بالذين يسيرون على وهم وجهل ومكابرة، وبسبيل التنبيه إلى ما بينهم وبين الذين يسيرون على علم وهدى من فرق عظيم، بصورة عامة وهو ما رجحه ابن كثير وأن تكون الآيات التالية لها قد جاءت استطرادا لذكر مواقف مكابرة أكابر المجرمين وعنادهم وهذا ما نرجحه.
والآية في حدّ ذاتها من روائع الآيات في أسلوبها وتنويهها وتنديدها، وفيها تلقين جليل مستمر المدى ينطبق على كل ظرف ومكان في سبيل المقايسة بين الضالين والمهتدين، والمستقيمين والمنحرفين. ويمكن تأويل جملة (زين لهم) بأن فساد أخلاقهم وارتكاسهم في تقليد الجاهلية وعنادهم هو الذي زين لهم عملهم وبذلك يزول أي وهم وإشكال قد يردان على بال إنسان ما. والله تعالى أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 123 الى 124]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
(1) صغار: هوان وذلة.
في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري وهو وجود زعماء ماكرين مجرمين في كل بيئة دأبهم الكيد والمكر
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي.(4/152)
والوقوف من رسل الله ودعاة الخير موقف التعطيل والعناد. فإذا جاءتهم آية كابروا وقالوا لا نصدق حتى نرى وندرك ما يراه رسل الله ويدركونه. وردّ عليهم بأن كيدهم لن يضرّ غيرهم ومكرهم لن يحيق إلّا بهم دون أن يشعروا. وتقرير بأن الله تعالى يعلم أين يضع رسالته، وكيف يصطفي ويختار رسله من بين الناس وإنذار قاصم بأن الماكرين المجرمين سيصيبهم هوان وذلة عند الله، وسينالهم العذاب الشديد جزاء مكرهم وكيدهم.
والتنديد الشديد بالمجرمين من القرائن على صواب تأويلنا للجملة الأولى الذي أولنا به جملة مماثلة في الآية [112] من هذه السورة والآية [31] من سورة الفرقان، وبه يزول ما يمكن أن يوهمه ظاهر الجملة من أن الله تعالى هو الذي يسوق الأكابر إلى الإجرام والصد أو يجعل أكابر المجرمين يسودون.
تعليق على آية وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ
وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت بمناسبة قول الوليد بن المغيرة من زعماء قريش لو كانت النبوة حقا لكنت أولى منك بها لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا، أو بمناسبة قول أبي جهل: «زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان فقالوا منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه» . والرواية متسقة مع مضمون الآيات. وفي سورة ص آية تحكي تساؤل زعماء الكفار بأسلوب الاستكبار والإنكار عن اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن عليه من دونهم وهي: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [8] ، وفي سورة الزخرف آية تحكي قول زعماء الكفار بأنه كان يجب أن ينزل القرآن على أحد عظماء مكة أو الطائف وهي: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والطبرسي.(4/153)
عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) حيث يفيد هذا أن مثل هذا القول الذي حكته الآيات قد صدر من زعماء المشركين أكثر من مرة وبأساليب مختلفة. غير أننا نلحظ أن الآيات هنا جاءت بأسلوب مطلق وتقريري ومعطوفة على ما قبلها حيث يلهم هذا أنها استمرار في السياق وفي صدد الإشارة إلى زعماء المشركين وكبار مجرمي مكة الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل للرسالة النبوية بصورة عامة، وفي صدد وصف شدة مكابرتهم وعنادهم. وإن كان هذا لا يمنع أن كان بعضهم حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بوحي الله إليه وبصلته به وبما يراه من تجليات ربانية ويتلو آيات القرآن يتخذ ذلك وسيلة إلى العناد والمكابرة والتعجيز حسدا ومنافسة ويعلن أنه لن يصدق ما لم يدرك هذا بنفسه وتقوم عليه الدلائل في ذاته. وعلى كل حال ففي الآيات صورة جديدة من صور الحجاج واللجاج والتحدي بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء المشركين.
وفي أسلوبها المطلق تلقينات مستمرة المدى، ففيها تنديد بذوي الزعامة والوجاهة الذين يقفون من الدعوة إلى الخير والإصلاح وأصحابها موقف اللجاج والتعطيل والصد والتعجيز استكبارا وحسدا وغيظا، وفيها تثبيت لأصحاب مثل هذه الدعوة وتشجيع لهم بتقرير كون مكر الماكرين الصادين المعطلين حائقا بهم وحدهم. وفيها تنبيه إلى مسؤولية الزعماء وما ترتكس فيه أممهم من الآثام والانحراف بسبب مكرهم وإجرامهم وعنادهم ومكابرتهم لأنهم القدوة والأسوة.
ولعله مما ينطوي فيها التحريض على التمرد على مثل هؤلاء الذين يحاولون إبقاء أممهم في نطاق مصالحهم ومآربهم، فهم مجرمون ماكرون ولا ينبغي الرضوخ لهم والسير في فلكهم.
وفي جملة اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ردّ مفحم حاسم من جهة، وتنويه بالغ بقدر النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه من جهة أخرى. فمرتبة النبوة من أعظم المراتب التي لا يوصل إليها إلّا بأعظم الخصائص الروحية والعقلية. والذين يختارهم الله تعالى لرسالته وتجلياته تكون هذه الخصائص قد بلغت فيهم إلى(4/154)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
الدرجة العالية من الكمال. وينطوي في هذا وصف تقريري عظيم لما بلغته خصائص النبي العربي العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الخلقية والعقلية والإنسانية من مرتبة عالية حتى صار بها مظهرا لاصطفاء الله تعالى وتجلياته. وكفى به وصفا يزري بكل ما يصفه به الناس، وقد كانت آية سورة القلم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) تعبيرا قرآنيا جليلا عن هذه الخصائص التي تحققت فيه قبل بعثته وتأهيل بها للاصطفاء الرباني على ما شرحناه في مناسبته.
ولقد احتوى القرآن إشارات عديدة إلى ما ظهر وظلّ يظهر من عظمة أخلاق وكمال صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبره وإشفاقه وعمق إيمانه وصميمته ما بلغ الذروة التي تفسر أسباب اصطفاء الله تعالى له للرسالة العظمى، مما نبهنا عليه في سور سبق تفسيرها ومما سوف ننبه عليه في ما يأتي من السور.
وفي كتب الأحاديث أحاديث كثيرة جدا فيها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال الأخلاق والصفات مما بلغ الذروة كذلك وفيها مصداق ذلك أيضا «1» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 127]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
(1) كأنما يصعد في السماء: يتصعد، ومعنى الجملة كأنما يتكلف مشقة ارتقاء مرتفع عال حيث يضيق صدره ونفسه بذلك.
__________
(1) انظر ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة الخمسة في التاج مثلا ج 3 ص 204- 220.
وهذه الأحاديث هي في صدد أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته وحسبه. وهناك أحاديث كثيرة جدا في هذه الكتب فيها من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه ومواعظه وحكمه ومعالجاته لمختلف ما كان يعرض عليه من شؤون نفسية واجتماعية وأخلاقية وسلوكية وقضائية ما يصح أن يكون مظهرا بالغ الذروة من مظاهر صفاته وأخلاقه أيضا.(4/155)
(2) الرجس: هنا بمعنى الخزي.
ينطوي في الآيات تقرير بأن الإيمان والاهتداء إليه والضلال والانحراف عنه مسألة قلب ورغبة وبأن الناس صنفان منهم من طهر قلبه وحسنت نيته وصدقت رغبته في الاهتداء إلى الإيمان، ومنهم من خبثت سريرته وانعدمت فيه الرغبة. فالله سبحانه يشرح صدر الأولين للإسلام حينما توجه الدعوة إليهم، أما الآخرون فيكونون كمن يتكلف ارتقاء مرتفع عال حيث تضيق صدورهم وتتلاحق أنفاسهم ويعتريهم الاضطراب ولا يستجيبون للدعوة ولا يؤمنون فيحق عليهم الخزي والخذلان والعذاب. وإعلان بأن صراط الله قد بان واضحا مستقيما وأن الله تعالى قد فصّل الآيات للناس حتى ينتفع بها الذين يحبون أن يتدبروا ويتذكروا ويهتدوا فيستحقوا بذلك رضاء الله وينزلون عنده في دار السلام والطمأنينة ويكون وليهم وناصرهم بما قدموا وعملوا.
تعليق على جملة فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
والآيات متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها كما هو المتبادر، وروحها ومضمونها يلهمان أن التأويل الذي أوّلناه بها هو الأوجه المتسق مع روح الآيات القرآنية عامة. وأنها ليست بسبيل تقرير أن الهدى والضلال حتم من الله على أناس بأعيانهم كما قد توهمه العبارة لأول وهلة، والتنديد بغير المؤمنين وتقرير الرجس عليهم وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين وتبشيرهم فيها ووصفهم بالمتذكرين قرائن حاسمة على ذلك. ولقد قررت آيات عديدة أن الله تعالى إنما يضل الفاسقين والظالمين ويهدي المنيبين إليه، على ما أوردناه وشرحناه في مناسبات سابقة حيث يكون فيها قرائن حاسمة أخرى ومقيدة للإطلاق ويزول بها التوهم أيضا ويجب أن يذكر آية الزمر وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [7] ففيها أيضا ضابط حاسم.
ومما يتبادر أن الآيات بالإضافة إلى ما شرحناه من تقريراتها قد استهدفت(4/156)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء تصامم وعناد زعماء قومه والتنويه بالمؤمنين الذين استجابوا إلى دعوته.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن عبارة وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً تعني الإسلام. وروى ابن كثير عن بعض أهل التأويل أنها تعني (القرآن) وكلا التأويلين وجيه وهما في الحقيقة شيء واحد. ولقد أول المفسرون عبارة (دار السلام) بالجنة. وهو تأويل وارد وقد مرّ مثل هذه العبارة في سورة يونس مع التنبيه على أننا نلمح في العبارة مدى أقوى في صدد تطمين المؤمنين بما يكون لهم عند الله من أمن وسلام، والله تعالى أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 128 الى 132]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
(1) قد استكثرتم من الإنس: قد أضللتم وأغويتم كثيرين من الإنس.
(2) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا: يكون الظالمون بعضهم أولياء بعض.
(3) أهلها غافلون: هنا بمعنى في غفلة وعماء أو غير منبهين إلى الحق والهدى.
في الآية الأولى والآية الثالثة حكاية لبعض ما يكون يوم القيامة حيث يوجه الله تعالى الخطاب إلى الجن منددا بهم لكثرة ما أضلوا من الإنس. وحيث يجيب الضالون من هؤلاء على سبيل الاعتذار بأن كلا من الطرفين قد انخدع بالآخر(4/157)
واستمتع به غافلا عن المصير، فلم يلبثوا أن اصطدموا جميعا بالحقيقة ورأوا حقيقة الموعد الذي وعدهم الله به، والأجل الذي عينه لهم وحيث يجابون حينئذ أن مثواهم النار بسبب ذلك خالدين فيها إلّا ما شاء الله.
وحيث يوجه الخطاب إلى الإنس والجن ثانية بصيغة السؤال الإنكاري والتنديدي عما إذا لم يكن قد جاءهم رسل منهم يتلون عليهم آيات الله وينذرونهم لقاء هذا اليوم فيجيبون بالإيجاب مقررين وشاهدين على أنفسهم بالكفر والاغترار بالحياة الدنيا.
أما الآيات الثانية والرابعة والخامسة ففيها تعقيب على الحوار المحكي تنطوي فيه العبرة والموعظة، حيث قررت الثانية أن الظالمين إنما يتولى بعضهم بعضا ويتبع بعضهم بعضا لاتحادهم في الصفات والأفعال. وحيث نبهت الآيتان الرابعة والخامسة إلى أن الله تعالى لم يكن ليهلك القرى ويعذب أهلها ظلما وهم غافلون متروكون في عماء وجهالة وغير منبهين بالدعوة إلى الحق والهدى، وإنما يستحقون ذلك لكفرهم وإثمهم عن بينة وبعد أن يكونوا قد أنذروا بلسان رسل الله.
وإلى أن كل امرئ إنما ينال الدرجة والمنزلة التي يستحقها حسب عمله، وأن الله تعالى غير غافل عما يفعله الناس. ولم يرو المفسرون رواية ما كمناسبة لنزول الآيات. والصلة بينها وبين سابقاتها ملموحة. ومع واجب الإيمان بما جاء فيها من خبر المشهد الأخروي فالمتبادر أن من حكمته العظة والتنبيه وإثارة الرعب والخوف والندم في نفوس الكفار أيضا.
تعليق على الآية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ والآيات الأربع التالية لها
لقد أوّل المؤولون والمفسرون على ما جاء في كتب التفسير (استمتاع الإنس والجن بعضهم بعضا) الذي حكى عن لسان الإنس في الآية الأولى بأن استمتاع الإنس بالجن هو ما كان العرب يعتقدونه من آثار الجن في نوابغ الشعراء والكهان(4/158)
السحرة وباستجابة الجن لهم حينما كانوا يستعيذون بهم في الوديان أثناء الليل.
وبأن استمتاع الجن بالإنس هو ما كان من تعظيم العرب لشأن الجن والعياذ بهم والتعبد لهم. وهذا التأويل وجيه متسق مع ما أشارت إليه بعض الآيات القرآنية صراحة وضمنا مثل آيات الشعراء [221- 223] وآية الجن [6] وآية الأنعام [100] وقد مرّ تفسير ذلك بحيث يصح أن يقال إن في هذه الإشارة توكيدا جديدا للصور التي كانت في أذهان العرب عن الجن والتي شرحناها في سياق تفسير سورتي الناس والجن.
ومن المؤولين والمفسرين على ما جاء في كتبهم من قال إن في الآية [130] دليلا على أن الله يرسل رسلا إلى الجن كما يرسل إلى الإنس. ودعم قائلو ذلك ببعض الآيات العامة مثل آية فاطر [24] التي مر تفسيرها: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) ومثل آية النحل هذه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [36] ومنهم من قال إن جميع رسل الله وأنبيائه من الإنس وأن الله أرسلهم للإنس والجن معا، وإن كلمة (منكم) في الآية يصح أن تكون للإنس وحدهم وإنه ليس في آيات القرآن صراحة بأن الله أرسل من الجن رسلا. ودعم هؤلاء قولهم بآيات سورة الجن [1 و 2 و 13 و 14] وآيات سورة الأحقاف [29- 31] التي يخبر الله فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طوائف من الجن استمعوا للقرآن وآمنوا وأنذروا قومهم ودعوهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن. حيث ينطوي في الآيات أن الجن اعتبروا أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن موجهان إليهم. ويتبادر لنا أن هذه النصوص لا تحتوي صراحة قطعية تثبت أو تنفي الرسل إلى الجن من الجن ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وأن الأولى الوقوف في هذه المسألة عند ما اقتضته حكمة التنزيل الإيحاء به وتفويض حقيقة الأمر وتأويله إلى الله تعالى. مع ملاحظة أن هدف الآيات الجوهري المتبادر منها هو التنديد بالكفار وإلزامهم وإنذارهم وحملهم على الارعواء والندم والله تعالى أعلم.(4/159)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
وفي الآية [129] تلقين مستمر المدى حيث ينطوي فيها تقرير كون الظالمين لا يتولاهم ولا يتعاون معهم إلا الظالمون أمثالهم. وتحذير للمؤمنين الصالحين من مسايرتهم بأي شكل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا مرفوعا أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود جاء فيه: «من أعان ظالما سلطه الله عليه» وقد احتوى الحديث تلقينا متسقا مع التلقين التحذيري المنطوي في الآية.
وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح فيها تنديد بالظلم والظالمين وحثّ على الوقوف في وجوههم بدون تردد وخوف أوردناها في تعليقنا على موضوع الظلم في سورة الفرقان فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي هذه الآيات قرينة على ما قلناه في صدد أسلوب الآيات التي سبقتها ونفي لإرادة الله سبحانه الهدى لأناس والضلال لآخرين دون أن يكون لأخلاقهم واختيارهم تأثير في ذلك.
وتعليقا على جملة إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ في صدد خلود الكافرين في النار نقول إن مثل هذه الجملة قد ورد في آيات في سورة هود، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذه الإشارة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
وجه الخطاب في الآيتين الأولى والثانية إلى الكفار حيث قرر فيهما أن الله تعالى هو غني عن الناس وهو متصف بالرحمة أيضا وأنه يستطيع إذا شاء أن يهلكهم ويستخلف من بعدهم ما يشاء، كما استطاع أن ينشئهم من ذرية قوم قبلهم. وأنه إذا لم يفعل ذلك فورا فلأن رحمته قد وسعت الجميع وحكمته قد(4/160)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
اقتضت التأجيل، وأن ما يوعدون به آت لا ريب فيه وهم غير معجزين لله وغير خارجين عن نطاق قدرته وجبروته. أما الآية الثالثة فقد احتوت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم ليقول للذين وقفوا منه موقف الجحود والعناد بأسلوب فيه تحدّ ويقين سيروا وابقوا على ما أنتم عليه، وأنا سائر وثابت على ما أنا عليه والمستقبل بيننا حيث يعرف الذي تكون له العاقبة الحسنى والفوز النهائي من الفريقين، ولن يصيب الظالمون نجاحا ولا فوزا.
وظاهر أن الآيات استمرار في التعقيب على ما سبق من الآيات وإنذار قوي بأسلوب رصين نافذ إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنه بث البشرى والطمأنينة والوثوق في قلب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم على الحق وأنهم المفلحون في العاقبة وقد تحقق ذلك فعلا فكان فيها معجزة باهرة.
وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه خاتمة قوية ثانية لمواقف المناظرة واللجاج القائمة بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار والتي ما فتئت الفصول التي جاءت بعد سلسلة قصص الأنبياء تحكي صورها المتنوعة استئنافا لمثلها قبل هذه السلسلة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)(4/161)
(1) ذرأ: خلق.
(2) الحرث: الزروع وغلاتها.
(3) ليردوهم: ليوقعوهم في هوة الضلال والإثم.
(4) ليلبسوا عليهم دينهم: ليخلطوا ويشوشوا عليهم في دينهم وعقائدهم.
(5) حجر: محجورة أو موقوفة أو ممنوعة.
(6) لا يطعمها: لا يأكل منها.
(7) الأنعام: الكلمة تشمل الغنم (الضأن والمعز) والإبل والبقر.
(8) سفها: جهلا.
في الآيات إشارة تنديدية إلى بعض عادات وتقاليد كان العرب يمارسونها ويصبغونها بصبغة دينية، فقد كانوا ينذرون شيئا من أنعامهم وزروعهم لله تعالى وشيئا للشركاء الذين كانوا يدعونهم ويعبدونهم معه. وكانوا يحابون بين قسم الله وقسم الشركاء. فإذا ظهر أن الأول أكثر نتاجا أو غلة بدلوا في التقسيم ليكون هذا من قسم الشركاء ولا يفعلون العكس. وكان بعضهم يقتل أولاده بوسوسة الشياطين وتزيينهم. وكانوا ينذرون تحريم أكل بعض الأنعام وغلات الزروع على أناس دون أناس. وينذرون تحريم ركوب بعض الأنعام وتحميلها ولا يذكرون اسم الله على ما يذبحونه منها. وكانوا ينذرون بعض ما في بطون أنعامهم للذكور دون الإناث إذا ولد حيا ويشركون الإناث فيما يولد ميتا. وكانوا يفعلون كل هذا على اعتبار أنها تقاليد دينية مقدسة. ويظنون أنهم في ممارستهم لها إنما يتقربون إلى الله تعالى ليحقق لهم مطالبهم ورغباتهم التي ينذرون نذورهم من أجلها.
وقد نعت الآيات هذه التقاليد والعادات الباطلة وقررت أن الذين يمارسونها(4/162)
يسيرون وراء وسوسة الشياطين وتزييناتهم وأنهم في نسبتها إلى الله سبحانه يفترون الكذب عليه وأن كل من يقتل ولده ويحرّم ما رزقه الله وينسب ذلك إلى أصل ديني إلهي جهلا أو كذبا هو ضالّ وليس على حقّ وهدى.
تعليق على «تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وحجرهما وقتل الأولاد نذرا لله أو لمعبوداتهم»
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي تبدو فصلا ذا موضوع جديد. وعطفها على ما سبقها وإضمار الفعل في (وجعلوا) الذي يعود كما هو واضح إلى أناس كانوا موضوع الحديث في الآيات المعطوف عليها وهم المشركون يجعل الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها كما هو المتبادر، بحيث يسوغ القول إن الآيات جاءت استطرادية للتنديد بالمشركين بسبب ما كانوا يمارسونه من عادات وتقاليد سخيفة يصبغونها بصبغة دينية وينسبونها إلى الله سبحانه افتراء وجهلا في حين أنها من وساوس الشياطين.
وقتل الأولاد المذكور في الآية الثانية ليس هو كما يتبادر لنا من روحها وأد البنات الذي أشير إليه في سورة التكوير التي سبق تفسيرها، ولا قتل الأولاد خشية الإملاق الذي نهي عنه في سورة الإسراء التي سبق تفسيرها أيضا، وإنما هو تقليد من التقاليد الجاهلية الدينية كان يمارسه العرب على سبيل النذر، حيث كانوا إذا ما اشتد على أحدهم خطب أو كان له مطلب عظيم نذر بتقريب أحد أولاده قربانا لله أو للشركاء.
وقد روت الروايات «1» أن عبد المطلب جدّ النبي صلى الله عليه وسلم نذر مثل هذا النذر. وأن امرأة بدوية نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة إن فعلت شيئا عينته ففعلته فأرادت أن تفي بنذرها بعد الإسلام فقيل لها إن الله قد حرّم ذلك فأفدت كما فدى عبد المطلب ابنه «2» .
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 141 وما بعدها.
(2) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج 5 ص 200.(4/163)
ومهما قيل في هذه الروايات فإن ورود الإشارة إلى هذا التقليد في القرآن دليل على أن العرب كانوا يمارسونه.
ولقد ورد في سورة الصافات آيات تذكر أن إبراهيم عليه السلام أمر في منامه بذبح ابنه قربانا لله كما ترى في هذه الآية: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) وهذه القصة واردة في سفر التكوين أيضا «1» . فلا يبعد أن يكون التقليد الجاهلي مقتبسا من هذا التقليد القديم أو متصلا به ولا سيما أن العرب كانوا كما قلنا في مناسبات سابقة يتداولون صلة بنوّتهم بإبراهيم وسيرهم في تقاليدهم وفق تقاليد إبراهيم وملّته.
أما التقاليد الأخرى فالمستفاد مما رواه المفسرون «2» أنها من حيث أساسها كانت تهدف إلى التقرب إلى الله والشركاء بقصد تكثير النسل والغلات أو الشكر إذا كثر النسل والغلات أو إذا تحقق للمشركين مطلب. ويبدو من الآية الأولى أنهم كانوا يحابون شركاءهم ويحولون نصيب الله إليهم إن كان هو الأفضل انسياقا وراء مفهوم مألوف في معاملات الناس وصلاتهم ببعضهم حيث يرون أنهم لا بد لهم من شفعاء لدى الله لتحقيق مطالبهم، وأن الحصول على رضاء هؤلاء الشفعاء هو المهم في نظرهم لأن شفاعتهم مقبولة لدى الله حتما في تصورهم.
ومما رواه المفسرون من تفصيل في سياق هذه الآيات أنهم كانوا يجعلون ما لله للضيوف وما للشركاء لسدنة الأوثان الرامزة إلى الشركاء. وأنه كان إذا نزل الماء في أرض منذورة لله دون المنذورة للشركاء أو إذا كانت غلة الأرض أو نتاج الأنعام المنذورة لله أحسن من المنذور للشركاء حولوها للشركاء. وإذا سقط شيء مما هو منذور لله في نصيب المنذور للشركاء أبقوه فيه وإذا سقط شيء مما هو للشركاء في
__________
(1) الإصحاح 22.
(2) انظر تفسير الآيات في كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(4/164)
نصيب الله ردوه إلى نصيب الشركاء وإذا أصابهم جوع أكلوا مما نذروه لله دون المنذور للشركاء، وقالوا إن الله غني عن نصيبه دون الشركاء. والغالب أن هذا كان يجري بإيعاز من السدنة لأنهم أصحاب الحظ والمصلحة.
ولم يذكر المفسرون شيئا واضحا في صدد جملة: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ [138] والمتبادر أنهم كانوا ينذرون بعض الأنعام والزروع لأناس ويحرمونها على أناس. ويعتبرون نذرهم هذا إلزاما دينيا لهم ولم يرووا شيئا واضحا كذلك في صدد الآية [139] وإنما قالوا قولين في تفسير جملة: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ أحدهما أنها تعني اللبن وثانيهما أنها تعني الجنين. والقول الثاني هو الأوجه بقرينة جملة وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ التي وردت في نفس الآية. والمتبادر أنهم كانوا ينذرون الأجنة قبل ولادتها للذكور فإذا جاءت حية اعتبروا ذلك علامة رضاء الله والشركاء فحرموا أكلها على الإناث وإذا جاءت ميتة اعتبروا أن الله والشركاء لم يرضوا عن نذرهم فأكلوا الميتة هم ونساؤهم معا.
أما ما جاء في الآية [139] من الإشارة إلى تحريم ظهور بعض الأنعام فقد كان بسبب اعتبارات ونذور معينة. وكان يطلق على الأنعام نتيجة لها اصطلاحات خاصة. وقد ذكرت هذه الاصطلاحات في آية سورة المائدة هذه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [103] وروى المفسرون أنهم كانوا يشقّون أذن الناقة التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها شكرا لله فلا يركبونها ولا يحلبونها ولا يجزون وبرها ولا يمنعونها من كلأ وماء ويسمونها (بحيرة) اشتقاقا من (بحر) بمعنى شق الأذن. وكانوا إذا مرض لهم مريض أو كانت لهم أمنية أو طال عليهم غياب غائب نذروا أن يعتقوا ناقة يعينونها فإذا شفي المريض أو تحققت الأمنية أو عاد الغائب (سابوا) الناقة المذكورة وسموها (سائبة) وصار له من المزايا ما ذكرناه في صدد البحيرة وكانوا إذا أنتج الفحل عشرة بطون أعتقوه وسموه (حاميا) أي حمى نفسه وصار له نفس المزايا. وكانوا إذا ولدت الشاة لأول مرة أنثى كانت لهم(4/165)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
فلا يصح عليها ذبح ولا قربان. وإذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وهو الذي يذبح ويقرب فإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد كانت حالة الذكر كحالة الأنثى فلا يصح أن يقرب أو يذبح لله وقالوا إن الأخت وصلت أخاها أي صانت دمه وسموها (وصيلة) ونص آية سورة المائدة صريح بأنهم كانوا يفعلون ذلك كنذر ملزم دينيا.
والمتبادر أن الإشارة المنطوية في آية الأنعام [139] التي نحن في صددها هي في صدد الحالات النذرية الثلاث الأولى.
وقد روى المفسرون أن القصد من جملة لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا هو أن المشركين كانوا يذكرون على قرابينهم وأضاحيهم المنذورة أسماء شركائهم دون اسم الله عند ذبحها. وهذا متصل بالاعتبارات التي ذكرناها في صدد شرح سبب محاباتهم للشركاء.
هذا والآية الرابعة تعطينا صورة لما كان يلحق بالمرأة العربية قبل الإسلام من تهضم واستهانة شأن. مما تعددت صورة في القرآن على ما سوف يأتي بيانه في مناسباته وقد يكون فيها دليل على أن العرب كانوا يأكلون ما يموت من الأنعام حتف أنفه أو ما يخرج من أرحامها من أجنة ميتة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 142]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
(1) معروشات: أوجه الأقوال فيها أنها الأشجار المتعرشة والأرجح أنها تعني أشجار العنب.
(2) حمولة: للحمل.(4/166)
(3) فرشا: قيل إنها بمعنى الذبح وقيل إنها بمعنى الأثاث الذي يصنع من أوبار الأنعام وأصوافها وأشعارها.
معاني الآيات واضحة وفيها تنويه بما خلق الله للناس ويسّر منافعه لهم من الأنعام والزروع والأشجار على اختلاف أنواعها، وإهابة بهم إلى التزام حدود الاعتدال وتجنب الإسراف في الانتفاع بها وأداء حقه منها، وعدم اتباع خطوات الشيطان ووساوسه لأنه شديد العداوة لهم.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على سابقاتها، وقد انطوى فيها إفحام وإلزام للكفار، فالله سبحانه وحده الذي خلق كل شيء وليس لأي كائن علاقة أو دخل في ذلك. وقد أباح للناس ما خلق أكلا وانتفاعا. وتحريم ما أحلّ إنما هو من وساوس الشيطان المضللة. وواضح أن الإلزام والإفحام في الآيات مستمدان من عقيدة الكفار بالله وكونه هو الخالق البارئ المطلق التصرف في كونه ومخلوقاته، وهو ما قررته آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة.
تعليق على الآية وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ والآية التالية لها
ومع أن للآيات خصوصية زمنية وجدلية فإنها انطوت على مبدأ من المبادئ القرآنية العامة المستمرة المدى تكرر في مناسبات متعددة وهو إباحة الاستمتاع بكل طيب حلال مما خلقه الله من ماشية وزرع وشجر في حدود الاعتدال وعدم الإسراف. مع أداء حق الفقراء منه وعدم التحليل والتحريم وفقا لتقاليد وعادات واعتبارات لا تستند إلى شرع إلهي ومحاربة كل تقليد وعادة واعتبار من شأنه أن يخل بذلك في تلك الحدود.(4/167)
ومع أن جملة وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ تفيد بقوة الأمر بإفراز الزكاة من غلة الأشجار والزروع وتوزيعها على مستحقيها. فإن الطبري وغيره يروون عن بعض أهل التأويل أن هذه الجملة لا تعني الزكاة لأن الزكاة فرضت في المدينة، وإنما عنت الأمر بالتصدّق من ثمار الأرض، وأنها نسخت حين فرضت الزكاة.
ويلحظ أنه ليس في السور المدينة ما يفيد بصراحة أن الزكاة إنما فرضت في العهد المدني وكل ما فيه بصراحة آية في سورة التوبة فيها تعيين لمصارف الزكاة. وبقية الآيات تأمر بإيتاء الزكاة مع الصلاة إطلاقا.
ولقد علقنا على موضوع الزكاة تعليقا مسهبا في سورة المزمل رجحنا فيه أن الزكاة فرضت على المسلمين ومورست وعينت مقاديرها في العهد المكي. وأوردنا ما لمحناه من قرائن على ذلك في الآيات المكية ومن ذلك كلمة حَقَّهُ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها. ومن ذلك آيات سورة المعارج هذه:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وآية سورة الذاريات هذه:
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) ففي كل ذلك قرائن قوية على ذلك. وآيات المعارج والذاريات تذكر (أموالهم) مطلقا وآية الأنعام التي نحن في صددها تفيد أن غلات الأرض مما كان قد أوجب أداء زكاته أيضا.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأولى مدنية، وروى البغوي أنها نزلت في ثابت بن قيس الذي صرم خمسمائة نخلة في يوم واحد وقسمها على الفقراء ولم يترك لأهله شيئا فنبهت الآية على أن للفقراء حق ولكن ليست لهم جميع الغلة. والرواية غير واردة في الصحاح، ولعل رواية مدنيتها متصلة بذلك.
والآية منسجمة كل الانسجام مع السياق والرواية غريبة في فحواها وتطبيقها. وهذا يسوغ التوقف فيها، والله أعلم.
هذا، وفي الآية دليل شرعي أن زكاة غلات الأرض تؤدى في موسم الحصاد ولا تتبع لقاعدة حول الحول عليها المقررة لزكاة الأموال والعروض التجارية إذا ما كانت هذه الغلات قد كانت النصاب المقرر في السنة وزيادة. وسنزيد هذا الأمر شرحا في مناسبة آتية.(4/168)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 الى 145]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
(1) أزواج: حينما يكون الفرد لحدته يكون فردا وحينما يكون معه واحد آخر من نوعه ومن غير رحم أخرى يسمى كل منهما زوجا. وتعبير الزوجين يقصد به ذكر واحد وأنثى واحدة من نوع واحد. ومنه الآية خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى النجم: [45] ومن الضأن اثنين أي زوجين ذكر وأنثى. وهكذا صار الجميع ثمانية أزواج لأنها أربعة أنواع كل نوع زوجان ذكر وأنثى.
(2) نبئوني بعلم: بينوا لي وأخبروني بما عندكم من الدليل العلمي عن الله في ذلك.
(3) شهداء: بمعنى حاضرين وشاهدين.
(4) فمن أظلم: فمن أشد جرما وضلالا.
(5) طاعم يطعمه: مأكول يأكله الناس.
(6) دما مسفوحا: دما سائلا.
(7) أهلّ: ذبح.
(8) باغ: من البغي وهو تجاوز الحد المرسوم.
(9) عاد: من العدوان.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بمحاججة المشركين في صدد ما يحلونه ويحرمونه(4/169)
من الأنعام ومطالبتهم بما عندهم من برهان وعلم على أن الله تعالى هو الذي حرّم ما يحرّمون وأحلّ ما يحلّون. وتنديد استطرادي بالذين يفترون على الله الكذب في ذلك. ليضلوا به الناس وإيذان بأن الله لا يمكن أن يسعد ويوفق الظالمين الذين يفعلون ذلك وتقرير بأنه ليس فيما أوحى الله شيء محرم على الآكلين إلّا أربعة:
وهي الميت حتف أنفه والدم السائل ولحم الخنزير وما ذبح باسم غير الله. مستثنى من ذلك حالة الاضطرار التي يغفرها الله على شرط عدم تجاوز الضرورة وعدم التوسع في الاستباحة ظلما وعدوانا على حدود الله المرسومة، ومعللا بكون تحريم الثلاثة الأولى ناشئا من نجاستها وخبثها، وتحريم الرابعة ناشئا مما انطوى فيه من الفسق أي الشرك مع الله وذكر اسم الشركاء على الذبيحة.
وأسلوب الآيات الأولى أسلوب تقريع وتحدّ وإنكار من جهة، وفيه إلزام وإفحام من جهة أخرى، فالذكور والإناث من الأزواج الثمانية مشتركة في إنتاج النسل من ذكر وأنثى وهذا النسل لا يلبث أن يشترك في إنتاج نسل آخر من ذكر وأنثى، فكيف يمكن أن يكون نتاج ما هو حل محرما أو نتاج ما هو محرم حلالا، أو كيف يمكن أن يكون بعض نتاج ما هو حل محرما وبعضه حلالا أو بعض نتاج ما هو محرم حلالا، وبعضه محرما؟.
وصيغة الآيات وأسلوبها يدلان على أنها في صدد حكاية موقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين في مواضيع تقاليدهم الجاهلية.
ويتبادر لنا أن هذه الحكاية لا تنحصر في هذه الآيات بل تشمل الآيات السابقة لها أيضا ابتداء من الآية [136] لما بين موضوعها وموضوع هذه الآيات من ارتباط وثيق.
ومضمون الآيات هنا يدل أيضا على أن العرب كانوا يعتبرون هذه التقاليد التحليلية التحريمية تقاليد دينية أولا، وأنها من شرائع الله الأعظم ثانيا. وقد قررت كذبهم وافتراءهم على الله ونددت بهم أشد تنديد لأنهم يقولون ويفعلون بغير علم ولا برهان.(4/170)
تعليق على الآية فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
هذه الآية وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار الكلام عليه في الآيات فإن إطلاقها يجعل ما فيها تنديدا وإنذارا عاما مستمر التلقين. ولقد جاء في الآية [119] من هذه السورة جملة فيها بعض المشابهة وعلقنا عليها بما تبادر لنا أنه المتوافق مع ما يلهمه فحواها ومقامها غير أنه يلحظ فرق بين فحوى الآيتين.
حيث جاءت الآية [119] كإخبار وإنذار وجاءت هذه كتنديد وإنذار. وحيث تتحمل الأولى أن تكون تصدت من يضل متأثرا بهواه أو يضلّ غيره بهواه. وجاءت هذه صريحة ضدّ الذين يضلون غيرهم ووصفتهم بالظالمين ومع ذلك فإن ما نبهنا عليه وبخاصة ضد الذين يضلمون الناس بأهوائهم وافترائهم على الله بدون علم وبرهان ينطوي في هذه الآية أيضا.
ولقد حرمت الشريعة الموسوية التي تعتبر شريعة مسيحية أيضا من الوجهة النظرية والتي حكتها الأسفار المتداولة عزوا إلى توراة موسى المفقودة وإلى الروايات عنها هذه المحرمات الأربعة، غير أنها حرمت أشياء كثيرة أخرى من المأكولات غير محرمة في الشريعة الإسلامية بدون تعليل برجس أو فسق على ما سوف نذكره بعد. كما أنها لم تذكر حالة الاضطرار التي ذكرها القرآن وعفا عنها في نطاق الضرورة حيث يكون في هذا مصداق لما ذكرته آية الأعراف [157] من مهمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال والتكاليف الشديدة التي كانت على اليهود والنصارى وبالتالي يكون في ذلك توكيد لذلك الترشيح.
تعليق على الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واستطراد إلى أسلوب التشريع النبوي
في تعليل المحرمات الأربعة في الآية بالرجس والفسق وحصر التحريم فيها ونفي تحريم أي شيء غيرها من المأكولات مبدأ من المبادئ القرآنية المحكمة(4/171)
بحل كل ما هو طيب وليس فيه معصية ولا خبث ولا نجاسة من المأكولات عامة.
ومثل هذا يقال بالنسبة إلى استثناء حالة الاضطرار التي يسمح فيها للمضطر عدم الالتزام بذلك وشرط أن لا يكون في ذلك تحايل ولا تجاوز للضرورة. وفي كل هذا ما فيه من ترشيح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول، وهذه المبادئ مما تكرر تقريره في القرآن في مناسبات عديدة مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها وبخاصة في سورة الأعراف.
ويلحظ أن الآية وصفت الدم المحرم بالمسفوح أي السائل بحيث يقال إن هذا هو الأمر المستقر. ولقد روى البغوي عن ابن عباس وغيره أن المسلمين في الصدر الأول كانوا يرون الدم العالق باللحم والمخ والعظم والعروق خارجا عن نطاق التحريم لأنه غير سائل ويرون التحريم منحصرا في ما خرج من الأوداج سائلا في حالة حياة الحيوان، حيث كان العرب يفصدون الحيوان، وهو حي ويطبخون دمه. ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد حالة الاضطرار المذكورة في الآية، منها حديث رواه الطبري بطرقه عن أبي واقد الليثي قال: «قلنا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا أو تغتدوا أو تحتفؤوا بقلا فشأنكم بها» . وروى حديثا آخر عن الحسن جاء فيه:
«سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم إلى متى يحل لي الحرام قال إلى أن يروى أهلك من اللبن أو تجيء ميرتهم» . وروى حديثا ثالثا عن مروة جاء فيه: «سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم في الذي حرم الله عليه وأحله له. فقال: يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث.
إلا أن تفتقر إلى طعام فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال رجل: وما فقري الذي يحلّ لي وما غناي الذي يغنيني عنه؟ فقال: إذا كنت لا ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فاطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال أعرابي: وما غناي الذي أدعه إذا وجدته فقال: إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرّم الله» .
ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث في السياق نفسه وعزا أولها إلى الإمام أحمد وأورد بالإضافة إليها حديثا رواه إلى أبي داود جاء فيه: «إن ناقة ضلت لرجل(4/172)
فوجدها آخر فمرضت عنده فقالت له امرأته أنحرها فأبى فنفقت فقالت له اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها فنأكله فقال لا حتى أسأل رسول الله فأتاه فسأله فقال هل عندك غنى يغنيك قال لا قال كلوها» . والأحاديث وإن لم ترد في الصحاح فإن فيها توافقا لروح الآيات وبيان لمداها. ولقد عقب ابن كثير على هذه الأحاديث فقال إن تناول المحرمات واجب إذا خاف المسلم على نفسه ولم يجد غيرها، وأورد حديثا أخرجه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» .
وحديثا آخر أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبل عرفة» . والحديثان وإن لم يردا في الصحاح فإن ما فيهما متسق مع فكرة الرخصة القرآنية كما هو المتبادر. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الحكم وابن مردويه عن ابن عباس جاء فيه: «كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذّرا فبعث الله نبيّه وأنزل كتابه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه فما أحلّ فهو حلال وما حرّم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقرأ آية الأنعام التي نحن في صددها» . وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه أيضا جاء فيه: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن السّمن والجبن والفراء فقال الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو ممّا عفا عنه» «1» .
وينطوي في الحديث حصر التحريم والتحليل في المأكولات في كتاب الله واعتبار ما سكت عن ذكره القرآن مباحا. غير أن هناك أحاديث عديدة تبدو لأول وهلة أنها مناقضة للمبدأ الذي قرره هذا الحديث، وإخلال لنطاق التحريم الذي حددته الآية التي نحن في صددها.
منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن رسول
__________
(1) التاج ج 3 ص 48.(4/173)
الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا القطة إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» «1» . وحديث رواه الترمذي وابن ماجه جاء فيه: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الذئب فقال ويأكل الذئب أحد فيه خير» «2» . وحديث رواه ابن ماجه جاء فيه:
«قيل يا رسول الله ما تقول في الثعلب؟ قال: ومن يأكل الثعلب» «3» . وحديث رواه الخمسة عن أبي ثعلبة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع» .
وحديث رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلّ ذي ناب من السباع وعن كلّ ذي مخلب من الطيور» «4» . وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن جابر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الهرّ وعن أكل ثمنه» «5» . وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه: «ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم القنفذ، فقال خبيثة من الخبائث» «6» .
وحديث رواه أبو داود ومسلم عن جابر قال: «نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» «7» . وحديث رواه ابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحلّت لنا ميتتان ودمان. فأمّا الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» «8» . وحديث رواه الخمسة عن ابن أبي أوفى قال: «غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستا كنا نأكل معه الجراد» «9» .
وحديث رواه الخمسة كذلك عن خالد بن الوليد جاء فيه: «إنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضبّ محنوذ فأهوى النبي يده إليه فقال بعض النسوة أخبروا النبيّ بما يريد أن يأكل فقالوا هو ضبّ يا رسول الله. فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله قال لا ولكنّه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته والنبيّ ينظر» «10» . ومع ذلك فإن رشيد رضا أورد حديثا قال إنه أخرجه أبو داود عن
__________
(1) التاج ج 3 ص 86 وما بعدها.
(2) التاج ج 3 ص 86 وما بعدها.
(3) التاج ج 3 ص 86 وما بعدها. [.....]
(4) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(5) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(6) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(7) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(8) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(9) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(10) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.(4/174)
عبد الله بن شبل: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الضبّ» . وهذا الحديث لم يرد في التاج الذي جمع مؤلفه فيه أحاديث الخمسة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي على ما قال في مقدمته.
وتعليقا على ذلك نقول:
أولا: إن الأحاديث التي فيها تحليل وتحريم جديدان قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني. والآية التي نحن في صددها مكية فليس ما يمنع أن يكون الله تعالى قد أوحى لرسوله وحيا غير قرآني فيه تعديل وتوسيع لمدى الآية.
ثانيا: إن ما جاء في الحديثين اللذين يذكران أن الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو عفو قد صدرا على الأرجح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الأحاديث التي فيها تحليل وتحريم جديدان. ثم أجرى الله على لسانه هذه الأحاديث بقصد التيسير والتوضيح والتنبيه. وهذا ما انطوى في الحديث المروي عن المقدام بن معدي كرب حيث يلمح أن القصد فيه هو بيان أن الله تعالى قد ألهم ويلهم النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة لم ترد في القرآن ليحدث الناس بها أمرا ونهيا وتشريعا وخطة وتحذيرا وتمثيلا وأخبارا مغيبة إلخ ... والأخذ بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن واجب لأن الله جعل النبي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن وأمر بردّ كل ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله الذي يمثله القرآن وإلى الرسول الذي تمثله أحاديثه بعد موته إذا ثبتت عنه على ما جاء في آية سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [59] وقد أمر الله بأخذ كل ما أمر به الرسول والانتهاء عن كل ما نهى في آية سورة الحشر هذه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [7] وقد جعل الله طاعة الرسول من طاعة الله في آية سورة النساء هذه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [80] .(4/175)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
وننبه بهذه المناسبة على أن التشريع النبوي المتصل بما ورد في القرآن قد جرى على أساليب منها ما فيه توضيح لغامض أو مبهم ومنها ما فيه تقييد لمطلق. ومنها ما فيه تشديد أو تخفيف لنص عام. ومنها ما فيه تشريعات جزئية تتمة لتشريعات رئيسية في القرآن، ومنها ما فيه تشريع لأمر مسكوت عنه في القرآن من الأمور الكلية الواردة فيه «1» . وليس فيه على كل حال على ما عليه الجمهور نسخ أو نقض أو خلاف أو تغيير لتشريع قرآني قطعي وصريح والله تعالى أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 146 الى 147]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
. (1) الحوايا: ذكر الطبري أن الكلمة في أصلها تعني ما يحتويه البطن وما اجتمع واستدار وأنها تطلق على بنات اللبن والمباعر والمرابض والأمعاء.
(2) أو ما اختلط بعظم: قال المفسرون إن ذلك عنى عظم العصعص في
__________
(1) من الأمثلة على هذه الأساليب: (1) إن القرآن فرض الصلاة ولم يعين كيفياتها وأوقاتها.
(2) إن القرآن فرض الزكاة ولم يعين مقاديرها وأوقاتها. (3) إن القرآن ذكر المسائل الرئيسية في الإرث دون الجزئيات. (4) إن القرآن وضع حدا للزانية والزاني دون ذكر المحصن وغير المحصن. (5) إن القرآن سكت عن الذين لا يفتدون أنفسهم ولا يمنّ السلطان عليهم من الأسرى بدون فداء. (6) إن القرآن لم يذكر نصاب السرقة الذي يقطع به اليد. ولا وضع حدا على شارب الخمر. ولا عقوبة على المرتد وعلى اللواط. (7) إن القرآن لم يبين كيفيات أداء مناسك الحج. وبعض أركان الصيام ونواقض الوضوء وطهارة الثياب إلخ. فكل هذا وأمثاله تمّ بالتشريع النبوي على ما سوف نشرحه في مناسباته.(4/176)
الإلية وقالوا إن ما اختلط بهذا العظم من الشحم هو المستثنى دون الإلية.
في الآية الأولى إشارة إلى ما حرّم الله تعالى على اليهود من لحوم كل ذي ظفر ومن شحوم البقر والغنم، وإلى أن هذا التحريم إنما كان قصاصا على ما بدا منهم من بغي وانحراف وفيها توكيد بأن هذا الصدق لا يتحمل ريبا. أما الآية الثانية فقد وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. بإنذار المشركين إذا كذبوه بأن المجرمين لن ينجوا من عذاب الله القاصم على ما اتصف به من الرحمة الواسعة وقد انطوى في هذا أن المجرمين بإجرامهم قد حرموا من رحمة الله.
ولم ير المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والمتبادر أنهما استمرار للمناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين وفصل من فصولها. وبالرغم مما يبدو لأول وهلة من غرابة بسبب ذكر اليهود فإن إنعام النظر يؤدي إلى لمس الصلة ووحدة الموضوع بين الآيتين والآيات السابقة.
تعليق على آية وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ
ويتبادر أن هناك ثلاثة احتمالات لقيام تلك الصلة: الأول قصد الاستدراك في صدد التحريمات. فالآيات السابقة أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول إنه لم يجد فيما أوحي إليه من المحرمات إلّا الأربعة المذكورة فأتبعت بالآيتين للإشارة إلى ما حرمه الله على اليهود خاصة إضافة إلى الأربعة المذكورة. وهو لحم كل ذي ظفر وشحم الغنم والبقر. وبذلك تبدو الصلة بين الآيتين وسابقاتهما واضحة من حيث إن التحريم الرباني على اليهود هو وحي رباني. والثاني أن المناظرين الذين كانوا يعرفون على الأرجح أن عند اليهود محرمات أخرى احتجوا في سياق المناظرة بتحريم التوراة لحم كل ذي ظفر وشحم الغنم والبقر بقصد إفحام النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعلن إيمانه بالتوراة وكونها منزلة من الله، وكون القرآن قد جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة، ثم بقصد تبرير تقاليدهم على اعتبار أنهم ليسوا بدعا في نسبة ما هم عليه من تقاليد التحريم والتحليل إلى الله تعالى، وفي دعوى كون ذلك متوارثا الجزء الرابع من التفسير الحديث 12(4/177)
بينهم جيلا بعد جيل. وبهذا أيضا تكون الصلة بين الآيتين وسابقاتها قائمة. والاحتمال الثالث هو أن الآيتين استمرار لما سبقهما في صدد بيان ما حرّم الله، فالله قد حرم الأربعة المذكورة في الآية السابقة لهما مباشرة وحرم كذلك على اليهود ما ذكرته الآية الأولى من الآيتين بالإضافة إلى الأربعة، وبذلك تبدو الصلة قوية أيضا.
وعلى فرض وجاهة الاحتمال الثاني تكون الآيتان ردا على المشركين حيث احتوت أولاهما تعليلا لما احتجوا به من تحريم محرمات أخرى عند اليهود فقررت أن ذلك إنما كان عقوبة لليهود وليس للسبب الأصيل الجوهري للتحريم وهو الرجس والفسق. وقد يرد أنه لا يوجد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم ما يفيد أن ذلك كان عقوبة. وهذا لا يمنع أن يكون قد ورد في أسفار وقراطيس مفقودة. والمفروض أن يكون التحريم في أصله في التوراة التي أوحيت إلى موسى وكتبها في سفر خاص وهي مفقودة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف، ولقد أشير إلى كون ذلك عقوبة من الله في آيات أخرى مكية ومدنية مثل آية النحل هذه: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) وآية سورة النساء هذه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وكانت تتلى على مسمع اليهود.
وفي سورة آل عمران آية تحدّت اليهود بالإتيان بالتوراة وتلاوتها حيث كانوا يحاججون في مسائل المحرمات بما لا يتطابق مع التوراة على ما تلهمه الآية وهي:
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) والذي نرجحه أن اليهود أدخلوا على هذه المسألة تحريفا في الأسفار المتداولة اليوم لأنها تسجل عليهم قصاصا ربانيا.
ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الجمع الغائب في كَذَّبُوكَ إلى اليهود ومنهم من صرفه إلى المشركين «1» . ويلحظ أن المناظرة والحديث هما في
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الخازن والطبري وابن كثير والبغوي.(4/178)
صدد تقاليد المشركين وبين هؤلاء وبين النبي صلى الله عليه وسلم. والآيات مكية، ولم يرو خبر أي احتكاك ومناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في العهد المكي وهذا ما يجعلنا نرجح القول الثاني ونقول إن ذكر اليهود قد جاء في سياق المجادلة والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين. وفي الآيات التالية تأييد لذلك حيث يستمر الكلام عن المشركين.
هذا، وفي سفر الأحبار المسمى أيضا باللاويين ثالث أسفار العهد القديم المتداولة اليوم بيان أمر الله موسى وهرون تبليغه إلى بني إسرائيل مما يحل لهم ويحرم عليهم من الحيوانات على اختلافها ومن الشحوم بشيء من التفصيل، بحيث يقال إن الآية الأولى احتوت ما رأت حكمة التنزيل ذكره كافيا من ذلك.
وهناك توافق من جهة وتخالف من جهة أخرى في أمر الشحوم. ففي الإصحاح الثالث من السفر المذكور حرم أكل شحم القرابين الذي على المعي والكليتين والخاصرتين وجعله وقيدة للرب. ومع ذلك ففي آخر الإصحاح هذه العبارة (كل شحم هو للرب برسم الدهر على ممر أجيالكم في جميع مساكنكم. كل شحم وكل دم لا تأكلوها) وهذا كذلك في حين أن الآية استثنت الشحوم التي تحملها ظهور البقر والغنم فقط أو حواياهما أو ما اختلط بعظم. ومهما يكن من أمر فالذي نعتقده أن ما جاء في الآية كان واردا في قراطيس يهودية ومتداولا بين اليهود.
أما ذوات الظفر فقد ذكر في الإصحاح الحادي عشر من السفر المذكور أن المحرم منها هو ما كان ذا ظفر غير مشقوقة سواء أكان مجترا أم غير مجتر مثل الجمل والوبر والأرنب والنعام التي هي من المجترات وذوات أظفار غير مشقوقة ومثل الخنزير الذي هو غير مجتر ولكنه من ذوات الأظفار غير المشقوقة. وظاهر أنه ليس هناك تخالف بين هذا وبين مدى الآية. ولقد روى الطبري وغيره عن علماء الصدر الأول أن جملة كُلَّ ذِي ظُفُرٍ تعني كل ما لم يكن مشقوق الأصابع أو منفرج الأصابع من الأنعام والطير كالأيل والنعام. وهكذا يتفق المؤولون القدماء في فهم مدى الجملة مع ما كان متداولا عند اليهود وواردا في أسفارهم التي وصلت إلينا.(4/179)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
وواضح من هذا أن من المحرمات اليهودية ما هو غير محرم في الشريعة الإسلامية كالأيل والأرنب والنعام والدم المتجمد غير المسفوح. وفي سفر الأحبار محرمات أخرى غير محرمة في الشريعة الإسلامية مثل حيوانات الماء من بحار وأنهار التي ليس لها زعانف في حين أن الله قد أحل للمسلمين صيد البحر مطلقا بدون تفريق كما جاء في آية سورة المائدة هذه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [96] وفي ما حلّ للمسلمين وحرم على اليهود في شريعتهم مصداق لما قلناه من تخفيف رباني في الشريعة الإسلامية يرشحها للخلود والعموم.
وفي كتب التفسير بعض الأحاديث في صدد الشحوم. حيث روى البغوي بطرقه عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح المكي «إن الله ورسوله حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستضيء الناس بها فقال لا هو حرام ثم قال قاتل الله اليهود إن الله عزّ وجلّ لما حرّم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» . حيث يفيد هذا أن شحم الميتة حرام أكلا واستعمالا دون شحم ما يذبح ذبحا. والحديث لم يرد في كتب الصحاح والذي ورد في هذه الكتب مماثل للشطر الثاني منه حيث روى البخاري عن جابر قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها» «1» . حيث يفيد هذا أن الشطر الأول لم يثبت عند البخاري وليس في الشطر الثاني تحريم وإنما فيه تحذير المسلمين من الاحتيال على شرائع الله كما فعل اليهود والله تعالى أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
__________
(1) التاج ج 4 ص 101.(4/180)
(1) شهداؤكم: تكرر ورود هذه الكلمة وكلمة شهداء أيضا وجاءت في معان متنوعة، منها الشركاء ومنها سدنة الأصنام ورجال الدين عند المشركين.
ومنها جمع للشهيد الذي يشهد على ما يقع بين الناس من أفعال ومعاملات.
ومنها جمع للشهيد الذي يحصي على الناس أعمالهم من الملائكة ويشهد عليهم ويشهد محاسبتهم يوم القيامة. ومنها جمع للشهيد الذي يموت شهيدا في الجهاد وفي غير الجهاد. والكلمة هنا رجال دين المشركين على ما يفيده فحوى العبارة.
(2) وهم بربهم يعدلون: يجعلون لربهم معادلين وأندادا.
في الآيات حكاية لما يمكن أن يقوله المشركون أمام الحقائق التي يقررها القرآن والحجج الدامغة التي يفحمهم بها حيث يعمدون إلى المداورة والمماراة فيقولون إن الله لو شاء لما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا شيئا مما جرينا على تحريمه. وردّ على أقوالهم هذه بأن أمثالهم من قبلهم كانوا يعمدون إلى مثل مداورتهم ومماراتهم في مواقف الجحود والمكابرة والتكذيب التي كانوا يقفونها من أنبيائهم فأدّى ذلك إلى وقوع بأس الله وعذابه فيهم. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بمطالبتهم بإظهار ما عندهم من علم أو برهان على صحة تقاليدهم وصدق نسبتها إلى الله.
وبأن يقرر لهم بأنهم لا يتبعون إلا الظن والتخمين. وبأن يعلن أن لله الحجة البالغة وأنه لو شاء لهدى الناس جميعا. وبأن يتحدى المشركين بالإتيان بشهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما يحرمون. وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم اتباع أهواء وأوهام المكذبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ويجعلون لله شركاء وأندادا معادلين له إذا ما(4/181)
جاءوا فعلا بشهدائهم وشهدوا بما يؤيد مزاعمهم وبعدم التسليم بصحة شهادتهم وتصديقهم فيها.
وواضح أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وفصل من فصول المناظرة القائمة بين المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم في صدد تقاليد التحريم والتحليل.
وبدء الآية الأولى يتضمن أن القول الذي حكي عن المشركين هو ما يتوقع صدوره منهم. وهذا الأسلوب مألوف في المناظرات كما لا يخفى. ولا يبعد أن يكون قد وقع منهم في موقف مماثل فتوقع أن يقولوه في هذا الموقف. وفي آية في سورة النحل سجل صدور ذلك منهم فعلا وهي هذه: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) .
والمتبادر أن المشركين قصدوا إفحام النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم إنما يفعلون ما يفعلون بمشيئة الله وأنه لو لم يشأ لما فعلوه. فردت عليهم الآيات ردّين أشارت في أولهما إلى وحدة أخلاق وطبيعة الجاحدين المكذبين دائما في نزوعهم إلى المراوغة واللعب بالألفاظ. وأكدت في ثانيهما أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا، حيث انطوى فيه تقرير حكمة الله سبحانه التي اقتضت أن يكون للناس حرية الاختيار والسلوك لتكون له عليهم الحجة الدامغة البالغة.
تعليق على الآية سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ والآيتين التاليتين لها
ولقد كانت هذه الآيات موضوع بحث وجدل في بعض كتب التفسير بين أصحاب المذاهب الكلامية المختلفة منهم، الذين يقول فريق منهم إن الإنسان(4/182)
خالق أفعاله وإن الله يقدرها عليه من الأزل تقديرا لا حيلة له فيه. والذين يقولون إنه خالق كل شيء ومقدره ومن ذلك أفعال العباد.
والآيات في أصلها حكاية لقول المشركين وردّ عليهم وتكذيب لهم. ومع ذلك فنحن نرى فيها على ضوء الشرح الذي شرحناه بها والذي نرجو أن يكون الصواب ردا مستمر التلقين على كل من يريد أن يقرر أن القرآن يؤيد فكرة التحتيم الجبري الأزلي على الناس في تصرفاتهم وأفعالهم. وعلى كل من يحاول التنصل من مسؤولية ما يقترفه من آثام بحجة أن هذا مكتوب عليه وأن الله لو لم يشأ فإنه لا يكون. وفي الآية الأولى نصا وروحا قرينة على أننا على صواب إن شاء الله حيث حكت حجة المشركين التي عمدوا إليها بأسلوب تنديدي وتسفيهي وأنكرتها إنكارا شديدا وأرجعتها إلى الروح الخبيثة التي يصدر عنها المشركون المكابرون المكذبون في كل ظرف ومكان وهي روح التعطيل والمراوغة والجدل والمكابرة.
وفي الآية نكتة لاذعة، فالمشركون حاولوا أن يقيموا الحجة على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم لو شاء الله ما أشركنا والقرآن يردّ عليهم ويقول إن الحجة البالغة لله تعالى فهو لو شاء لهداهم ولكنه تركهم لاختيارهم لتكون حجته هي الدامغة وتدحض بذلك حجتهم. فالله لا يمكن أن يشاء لهم الشرك وإنما يدعوهم إلى الإيمان فإذا كانوا اختاروا الشرك وتقاليده فذلك من حثهم وعدم ارعوائهم لدعوة الحق.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن في كل ما تقدم تقبيحا قرآنيا مستمرا لهذه الروح ودعوة للمسلمين إلى النفرة منها. ولقد تكرر هذا في القرآن كثيرا ومرت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. ولا نرى هذا متنافيا مع واجب الإيمان بما قرره القرآن بأساليب متنوعة بأن مشيئة الله هي النافذة في كونه وخلقه وعباده. ولقد قلنا في مناسبة سابقة بأنه جعل الاختيار والكسب للناس لتحميلهم مسؤولية أعمالهم في الأصل من مشيئة الله أيضا وأن الله لا يمكن أن يشاء لعباده الكفر والكذب والتكذيب لآياته ورسله وقد رتب عليهم الجزاء الذي يستحقه ذلك وهذا مما يصح أن يورد في هذا المقام أيضا. والله أعلم.(4/183)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
تعليق على جملة قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا
لم نطلع في كتب التفسير التي اطلعنا عليها على بيان لمدى كلمة الشهداء في مقامها. وروح الآية تلهم أنهم أشخاص أحياء يمكن أن يستشهد بهم وأن يشهدوا، وتلهم أن لهم صفة دينية ما تسوغ لهم الشهادة في الأمور والتقاليد الدينية والفصل في مشاكلها ويستشهد بهم فيها. والذي يتبادر لنا أنهم إما أن يكونوا من اليهود في معرض الاستشهاد على ما عندهم. وقد قلنا قبل قليل في سياق تفسير الآيتين السابقتين إن من المحتمل أن يكون المشركون قد احتجوا بهم. ولقد كان في مكة بعض أفراد من الإسرائيليين على ما تفيده آية وردت في سورة الأحقاف وهي هذه:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وإما أن يكونوا سدنة الأصنام أو سدنة الكعبة أو أناسا كان لهم صفة أو مركز ديني عند العرب يرجع إليهم في الشؤون والمشاكل الدينية مما هو مألوف في كل ملة ونحلة.
ولقد ذكرت الروايات»
أنه كان في مكة طبقة خاصة تسمى الأحماس يعترف العرب لها بالامتياز وكانت تسنّ بعض السنن والعادات فيسير الناس عليها. ونحن نميل إلى أن الآية قد عنت هذه الطبقة أكثر مما عنت اليهود. وفي الآية قرينة على هذا الترجيح حيث انطوى فيها توقع شهادة الشهداء بما يؤيد مزاعم المشركين وتقاليدهم والله أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري والجزء الخامس من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ص 224- 228 وكتابنا عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة ص 194- 195.(4/184)
(1) مستقيما: النصب في الكلمة على الحال.
(2) ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله: ولا تسيروا في طرق متعددة فتضلوا عن سبيل الله لأن طريق الله التي فيها الهدى واحدة.
الآيات واضحة العبارة، والمتبادر أنها متصلة بموقف المناظرة والمحاججة الذي حكته الآيات السابقة لها وتعقيب عليها. وأنها موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين الذين هم الطرف الثاني في المناظرة.
تعليق على آية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ والآيتين التاليتين لها
ومع ما في توجيه الخطاب في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية فإنها في حد ذاتها من جوامع الآيات القرآنية المشتملة على الأوامر والنواهي الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية العامة التي يمكن توجيهها لجميع الناس ولجميع المسلمين في كل زمن ومكان.
ولقد تكرر في القرآن هذا النوع من الجوامع، وقد مرّت اثنتان غير هذه، واحدة في سورة الفرقان وأخرى في سورة الإسراء. ويلحظ أن كلا من المجموعات الثلاث جاء بأسلوب خاص. مجموعة الفرقان جاءت وصفا لأخلاق وسيرة عباد الله(4/185)
المخلصين المؤمنين ومجموعة الإسراء جاءت كوصايا ربانية مباشرة. وهذه المجموعة جاءت كبيان موجه إلى السامعين بما حرم الله وأمر في سياق مناظرة قائمة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين مما فيه صور من النظم القرآني وتنوعه.
وهذه المجموعة أكثر تشابها وتساوقا مع مجموعة الإسراء، وقد علقنا على هذه المجموعة بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الإسراء، وجل ما قلناه ينسحب على هذه المجموعة فلا نرى حاجة إلى تكراره. غير أن في هذه المجموعة مبدأين لم يردا في تلك. أولهما: النهي عن محاباة ذوي القربى وقول الحق والعدل دون غيرهما. وثانيهما: إيجاب التزام سبيل الله الواضح الواحد الذي لا يتعدد وعدم التفرق مذاهب وشيعا.
والمبدأ الأول ينطوي على وجوب التزام المرء الحق والعدل والإنصاف في كل ظرف، وتجاه أي مؤثر داخلي وخارجي. وفي هذا من السموّ والقوة ما هو ظاهر ولا سيما إن عصبية القرابة من الأمور الراسخة في النفوس.
أما المبدأ الثاني فهو مزدوج المدى من حيث إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين تعقيبا على المناظرة وينطوي في ذلك تنبيه إلى أن سبيل الله واحدة لا تعدد فيها وواضحة لا عماء فيها وأن على المشركين الذين يعترفون بالله ويتحججون بمشيئته في ما هم عليه من تقاليد أن يلتزموا هذه السبيل ويدعوا المراوغة والأهواء التي تبعدهم عنها إذا كانوا حقا راغبين في الهدى ودين الله.
ومن حيث شمول الخطاب للمسلمين في كل زمان ومكان.
والمتبادر أنه ينطوي في هذا بالنسبة للمسلمين تقرير كون سبيل الله واحدة وواضحة فيما يقرره القرآن والرسول من المبادئ المحكمة وإيجاب التزام ذلك وعدم الحيدان عنه، لأن في هذا الضلال عن سبيل الله.
وخواتم الآيات الثلاث جديرة بالتنويه من حيث انطواؤها على التنبيه إلى أن هذه الآيات المتضمنة لوصايا الله وبيان ما حرمه إنما تتلى على الناس ليتدبروها ويعقلوها ويتفكروا بواجباتهم فيما يفعلون وليراقبوا الله ويتقوه في أعمالهم. ولقد(4/186)
أورد ابن كثير في سياق هذه السلسلة أحاديث عديدة منها ما أورده في صدد المجموعة جملة ومنها ما أورده في صدد مفرداتها.
فما أورده في صدد المجموعة جملة حديث رواه الحاكم في مسنده عن عبادة بن الصامت قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم يبايعني على ثلاث. ثم تلا الآيات ثم قال فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته. ومن أخّر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه» ، حيث ينطوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر هذه المجموعة جامعة لأمهات الأمور.
ومن ذلك حديث أخرجه الأودي عن ابن مسعود قال: «من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات» . وحديث رواه الحاكم عن ابن عباس قال: «في الأنعام آيات هن أم الكتاب، وقرأ هذه الآيات» .
ولقد أوردنا بعض ما أورده في المفردات في سياق سلسلة الإسراء ونورد هنا بعض ما لم نورده. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذر الغفاري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل فبشّرني أنه من مات من أمتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنة» قلت: «الكلام لأبي ذر» وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق وكرّر السؤال فكرّر النبيّ الجواب وفي الرابعة قال على رغم أنف أبي ذرّ» «1» .
ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» .
ومن ذلك حديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان إنكم ولّيتم أمرا هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم» . ومن
__________
(1) التاج ج 1 ص 26، ولقد أورد مؤلف التاج بعد هذا الحديث حديثا آخر رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أنس (ص 27) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان» حيث يمكن أن يقال إن الله تعالى إذا لم يغفر للزاني والسارق اللذين يموتان ولا يشركان به شيئا فإنه يعذبهما ما شاء ثم يخرجهما من النار ويدخلهما الجنة. وبعبارة أخرى يكون في هذا الحديث توضيح لمدى الحديث الأول والله أعلم.(4/187)
ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: «خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما، وخطّ عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلّا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [153] .
هذا ويلفت النظر إلى قيد قتل الأولاد خشية الإملاق حيث يجعل هذا القيد الفرق واضحا بين هذا العمل وقتل الأولاد المذكور في الآية [137] من هذه السورة من حيث إن ما ذكر في الآية [137] كان تقليدا دينيا على ما شرحناه في مناسبتها في حين أن ما ذكر في الآية [151] التي نحن في صددها عمل ناتج عن أسباب اقتصادية.
هذا، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات الثلاث مدينة ولم نر ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. ويلحظ أن الانسجام قوي بينها وبين الآيات السابقة لها حتى لتكاد تكون جزءا غير قابل للانفصال عن المناظرة القائمة في صدد التحليل والتحريم. وأسلوبها أكثر انطباقا على أسلوب الآيات المكية من حيث هو أسلوب حثّ وتشويق ووصية. وأكثر من واحد من المفسرين «1» قالوا إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين ولهذا فإننا نتوقف في هذه الرواية.
ولعل الحديث الذي رواه الحاكم عن عبادة بن الصامت وأوردناه قبل قليل أوهم بعض الرواة أنها نزلت في المدينة ولم ينتبه إلى الصلة الشديدة بينها وبين الآيات السابقة. والله أعلم.
تعليق على جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
ومما يحسن لفت النظر إليه بخاصة تعبير لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
في صدد توفية الوزن والكيل حيث يكون من المألوف شيء من النقص والزيادة فيهما
__________
(1) انظر تفسيرها في الخازن والبغوي وابن كثير.(4/188)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
لا يمكن تجنّبه. والتعبير يلهم تقرير كون المرء إنما يؤاخذ إذا تعمد الغش. أما إذا انتفت نية ذلك فلا محل للتشدد إلى درجة الوسواس. ويكفي المرء أن يبذل جهده. ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال:
«قال رسول الله من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ» . والحديث لم يرد في الصحاح ولكنه متساوق مع روح الآية والمبدأ بإطلاقه أي لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها البقرة: [286] من المبادئ القرآنية المحكمة وقد ورد مثل هذا التعبير في الآية [42] من سورة الأعراف وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
. (1) أن تقولوا: لئلا تقولوا.
(2) عن دراستهم: عن كتبهم أو لغتهم.
(3) صدف: أعرض أو انحرف أو انصرف.
في الآيات أولا: تقرير رباني بأن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ومفصلا لكل ما يحتاج إليه قومه ليكون لهم فيه الهدى والرحمة فيؤمنوا بالله ولقائه وإشارة تنويهية إلى القرآن وتقرير كونه مباركا ودعوة العرب إلى اتباعه وتقوى الله في أعمالهم لعلهم يكونون بذلك مظهر رحمة الله أيضا.(4/189)
ثانيا: تنبيه إلى أن الله قد أراد بإنزال القرآن دفع كل حجة يمكن أن يحتج بها العرب فلا يقولوا إن الكتب السماوية إنما نزلت على طائفتين بلسانهما وهم غافلون عن هذه الكتب ولغتها ودراستها، ولئلا يقولوا كذلك إننا لو أنزل إلينا كتاب من الله بلساننا كما أنزل إليهم لكنا أهدى منهم.
ثالثا: رد على الحجج التي فرض أن العرب يتحججون بها بأنه قد جاءهم القرآن بلسانهم وفيه بينة من ربهم وهدى ورحمة. وقد زالت أسباب الاحتجاج بالغفلة عن الكتب السابقة وعدم دراستها ومعرفة لسانها. وأنه ليس بعد هذا من أحد أشد جرما وإثما ممن كذب بآيات الله وانصرف عنها، وأن كل من يفعل ذلك سيناله من الله شديد العذاب.
وضمائر الجمع المخاطب في الآيات الثانية والثالثة والرابعة وإن كانت مطلقة فإنها عائدة على ما هو المتبادر إلى المشركين في الدرجة الأولى الذين وجه إليهم الكلام السابق. والآيات والحالة هذه متصلة بموقف المناظرة واستمرار له أو فصل من فصوله.
تعليق على الآية ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ والآيات الثلاث التالية لها
ولقد تعددت أقوال المفسرين «1» في محل ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فقيل إنها معطوفة على جملة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وقيل إنها معطوفة على جملة ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وقيل إن هناك محذوفا مقدرا وهو (ثم اتل عليهم أو ثم أخبرهم) والإشارة إلى القرآن بعد كتاب موسى مما تكرر في أكثر من سورة ومن ذلك ما جاء في آيات سورة الأنعام [90- 91] وما جاء في آية سورة هود [17] التي سبق تفسيرها.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري. [.....](4/190)
ولقد قيلت أقوال عديدة كذلك «1» في تأويل جملة تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ فمنها أنها بمعنى (تام على أحسن الوجوه) ومنها أنها بمعنى (تماما على الذي أحسنه موسى من العلم والشرائع) ومنها أنها بمعنى (إتماما لجزائنا له على ما أحسنه من عمل وطاعة) ومنها أنها بمعنى (إتماما لما أحسن الله إلى موسى من نبوة وتكريم وتكليم) والمعنى الأخير هو الأوجه على ما يتبادر لنا. وقد تبادر لنا معنى آخر وهو (إتماما لإحسانه الذي أحسنه على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون وقومه) . ولعل ضمير الجمع الغائب العائد إلى بني إسرائيل في الآية مما يوجه هذا المعنى.
ولقد قلنا في سياق شرح الآية أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أنها لإزالة سبب احتجاج العرب بأن لغة الكتب المنزلة بغير لغتهم. وهذا مستلهم من آية سورة الأحقاف هذه: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) وآية سورة فصلت هذه: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) ومن آيات سورة الشعراء [192- 199] التي مرّ تفسيرها.
وفي الآية [157] ينطوي على ما هو المتبادر صورة لموقف العرب من أهل الكتب السماوية وكتبهم. وهو أنهم كانوا ينقدون أهل الكتاب على ما هم فيه من خلاف ونزاع وقتال ويقولون لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم. والآية إن حكت هذا عنهم كشيء متوقع فإن آية سورة فاطر [42] التي مرّ تفسيرها قد حكته عنهم كشيء واقع حيث حكت أنهم كانوا يحلفون بالله لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.(4/191)
الأمم مع فرق هو أن آية فاطر حكت تمنيهم مجيء نذير وهذه الآية توقعت تمنيهم نزول كتاب.
ونظن أننا في غنى عن التنبيه إلى أن الآية [156] ليس من شأنها نقض ما قررناه مرارا من أن العرب قد عرفوا كثيرا من المعارف الدينية وغير الدينية من طريق أهل الكتاب وأن كثيرا مما عرفوه وارد في أسفار العهد القديم والجديد.
فالمحكي المفروض هو عدم اطلاعهم ودراستهم وفهمهم هذه الأسفار مباشرة على اعتبار أن الهداية لا تتم إلّا بذلك.
تعليق على موضوع ترجمة الكتب السماوية السابقة
وقد تفيد الآية [156] أنه لم يكن للكتب التي كانت في أيدي أهل الكتاب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة عربية. وهناك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم» حيث يفيد الحديث نفس الشيء.
ومن الأمور اليقينية أنه كان كتل كبيرة عربية في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق العربي في عهد دولتي الغساسنة والمناذرة يدينون بالنصرانية.
والمستبعد أن لا يكون في أيديهم ترجمة لما كان يتداوله أهل النصرانية من كتب دينية من جملتها التوراة وأسفار العهد القديم التي كان فيها الشرائع التي يلتزمون بها لأن رسالة عيسى عليه السلام لم تنسخ من الشرائع الموسوية إلّا القليل كما يفيد ذلك آية سورة المائدة هذه: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وآية سورة آل عمران هذه حكاية عن لسان عيسى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [50] وهو الأمر(4/192)
المستمر إلى اليوم حيث يعتبر النصارى أسفار العهد القديم كتابا مقدسا لهم.
وإزاء ذلك يمكن القول إن ما ينطوي في الآية [156] وحديث البخاري كان لتسجيل الواقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومهبط وحيه الذي كان معظم النصارى فيه (وهم قلائل) ومعظم اليهود وهم كتلة كبيرة غير عرب. وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في صدد بدء نزول الوحي لأول مرة على النبي صلى الله عليه وسلم خبر عن ورقة بن نوفل يذكر أن ورقة كان قد تنصّر وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ما يفيد أن بعض الذين تنصروا أو تهودوا من العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أفراد تعلموا لغة الكتب الدينية التي يدينون بها.
ولقد استمر هذا إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم يسألون علماء اليهود الذين أسلموا عن بعض الأمور فيجيبونهم بإجابات يعزونها إلى التوراة فيتقبلون ذلك منهم. وكان من هذه الإجابات ما لا يمكن أن يكون في التوراة. من ذلك مثلا إن أبا هريرة اختلف مع رفيق له على الساعة التي يستجيب الله فيها دعاء سائليه يوم الجمعة على ما إذا كانت في السنة أو في كل جمعة فسألا كعب الأحبار فقال إنها مرة في السنة فأصرّ أبو هريرة أنها مرة في كل جمعة فرجع كعب إلى التوراة ثم عاد فقال إنها كما قال أبو هريرة «1» . حيث يفيد هذا المثل أنه لو صار في أيدي أصحاب رسول الله بعد النبي ترجمة للتوراة لما جرأ كعب على أن يعزو إلى التوراة ما لا يمكن أن يكون فيها.
ومن الجدير بالذكر أن النتف التي يذكرها الطبري عزوا إلى التوراة والإنجيل وكتاب تفسيره من أقدم وأطول ما وصل إلينا من كتب التفسير تدل على أنه لم يكن مطلعا على ترجمة لهما لأن فيهما مفارقة وأخطاء كثيرة. وقد تدل بالتالي على أن الترجمة التي رجحنا أنها كانت في أيدي نصارى العرب قبل الإسلام في الشام والعراق وجزيرة الفرات والتي من المحتمل جدا أنها ظلت في أيدي من بقي على
__________
(1) انظر هذه الرواية في تفسير سورة الجمعة في تفسير البغوي.
الجزء الرابع من التفسير الحديث 13(4/193)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
نصرانيته منهم بعد الفتح الإسلامي إلى بضع عشرات السنين لم تكن منتشرة أو لم تكن تامة. ولقد تبدل الحال بعد ذلك. ففي تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير مثلا وهم من أهل القرون الخامس والسادس والسابع ما يمكن أن يفيد أنهم كانوا مطلعين على ترجمة عربية لأسفار العهد القديم والعهد الجديد أو لبعضها وبخاصة لبعض الأناجيل المتداولة. والله تعالى أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 158 الى 160]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)
(1) ينظرون: ينتظرون.
(2) لست منهم في شيء: لست مسؤولا عن عملهم أو أنت بريء منهم.
(3) لا يظلمون: لا يكون عليهم حيف وجور إلّا حسب استحقاقهم.
في الآيات سؤال استنكاري عما ينتظره الكفار المشركون بعد ما جاءتهم بينة الله وكتابه وهداه وتفصيل طريقه القويم، وهل ينتظرون أن تأتيهم الملائكة أو يأتيهم الله أو تأتيهم بعض آيات الله حتى يؤمنوا؟ وتقرير بأن بعض آيات الله سوف تأتيهم ولكن الفرصة تكون حينئذ قد ضاعت منهم، ولم يعد الإيمان ينفع الذين لم يكونوا قد آمنوا وعملوا الصالحات والخيرات قبلها. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم على سبيل الإنذار والإمهال انتظروا ذلك فنحن أيضا منتظرون. وخطاب له بأنه ليس مسؤولا عن الذين اتبعوا الأهواء في الدين وتفرقوا فيه شيعا، وأنه بريء منهم وأن أمرهم في يد الله ومرجعهم إليه حيث ينبئهم بما فعلوا ويجزيهم عليه بما استحقوا، ومن فعل الحسنة جوزي بعشر أمثالها ومن اقترف السيئة جوزي بمثلها دون ظلم ولا إجحاف.(4/194)
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له وتعقيب عليه كما هو المتبادر.
تعليق على الآية يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
ولقد قال المفسرون إن هذه الآية تعني ما يسمى بعلامات الساعة التي تسبق ختام الدنيا كما تضمنت أن باب التوبة والإيمان ينسد حينئذ فلا ينفع نفسا إيمانها وتوبتها. وأوردوا في صدد ذلك أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما لم يرد وكثير مما لم يرد في الكتب الخمسة مقارب لما ورد في هذه الكتب. فرأينا أن نكتفي بطائفة مما ورد في هذه الكتب لأنها الأوثق. فمن ذلك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة في تفسير الآية قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها» «1» . وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل:
الدجّال والدابة وطلوع الشمس من المغرب أو من مغربها» «2» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعته يقول إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيّهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا» «3» .
وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، قال إنها لن تقوم حتى
__________
(1) التاج ج 4 ص 102.
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 5 ص 304- 307. وفي التاج أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.(4/195)
تروا قبلها عشر آيات. فذكر الدخان والدّجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف. خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» «1» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديّ خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود» «2» .
وتعليقا على ما تقدم نقول أولا: إنه يلحظ أن الآية التي نحن في صددها جزء من التعقيب الذي احتوته الآيات التي قبلها وتضمنت إنذار الكفار السامعين والتنديد بهم. وإن الأولى أن تصرف في مقامها إليهم وبكلمة أخرى إلى أمر قريب متصل بظرفهم وأشخاصهم. لأن هذا هو الذي يكون له التأثير والمعنى في إنذارهم وحملهم على الارعواء. في حين أن قيام الساعة كما جاء في الأحاديث بعيد جدا عنهم. وليس في الأحاديث إلى هذا صراحة بأن الآية قصدت ذلك وكل ما فيها هو تطبيق ما فيها على ما سوف يكون عند قيام الساعة. ولعل فيها إنذارا للكفار السامعين بغمرات الموت أو بوقوع عذاب من الله عليهم بغتة- وهذا يندرج في معنى بعض آيات ربك- فيحول ذلك بينهم وبين تلافي أمرهم. ودعوة لهم إلى اغتنام فرصة العافية وسعة الوقت قبل فواته. قد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة مرت أمثلة منها.
ومع خصوصية هذا التوجيه الزمني فإن الآية في حد ذاتها عامة الشمول في إنذارها وتحذيرها بطبيعة الحال.
وثانيا: ما دام أن هناك أحاديث عديدة وردت في الكتب المعتبرة بطرق
__________
(1) التاج ج 5 ص 304- 307. وفي التاج أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.
(2) المصدر نفسه.(4/196)
متعددة وعن أشخاص متعددين عن علامات الساعة بالإضافة إلى ما في القرآن من إشارات عديدة في هذا الصدد منها آيات سورة الأنبياء هذه: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) فالواجب على المسلم أن يؤمن بما احتوته من أخبار مغيبة أسوة بكل ما ورد في القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذه الأخبار مع الاستشفاف للحكمة المنطوية في الإخبار بذلك بالأسلوب الذي جاء به. ويستلهم من فحوى الأحاديث أن من هذه الحكمة تنبيه الناس وتحذيرهم وحملهم على الارعواء والاستعداد حتى لا يباغتوا ويضيعوا فرصة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والعمل الصالح. والله أعلم.
هذا، وفي الأحاديث ذكر لخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى وظهور الدجال والدابة. ولقد علقنا على موضوع الدابة وأوردنا بعض ما ورد في صددها في سياق سورة النمل، وسنلمّ في مناسبات قريبة أكثر ملاءمة بالأمور الأخرى إن شاء الله.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ
وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات عن أهل التأويل في سياق هذه الآية ومداها. وقد استوعب الطبري أكثرها، من ذلك أن عليا رضي الله عنه كان يقرأ فَرَّقُوا فارقوا وكأنه كان يذهب إلى أنها عنت من فارق دينه أو ارتد عنه- وهذا كلام الطبري- ومن ذلك أن جملة إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً عنت اليهود والنصارى. ومن ذلك أنها عنت الخوارج أو أهل البدع والأهواء والضلالة عامة. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة» . وهناك صيغ أخرى في الطبري والبغوي لهذا الحديث مروية عن عائشة أيضا. وروى الطبري في صدد جملة(4/197)
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قولين: واحد بأنها عنت اليهود والنصارى وأنها نسخت بآيات القتال: وواحد بأنها عنت الذين فرقوا دينهم من أمة محمد وأنها محكمة لأن النسخ إنما يكون لأجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعديل موقفه. وحكم الآية هو بالنسبة لمن يكون بعده من أمته. ويكون مداها إعلانا مسبقا لبراءة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل البدع والأهواء والضلالة والشبهات من أمته.
والأحاديث التي تفسر الآية لم ترد في الكتب الخمسة وإن كان في هذه الكتب أحاديث في التنديد بأهل البدع بدون عطف على الآية على ما سوف نورده بعده.
وروح الآية ومقامها وفحواها يلهم بقوة أنها جاءت مثل سابقتها معقبة على الموقف الحجاجي والجدي الذي وقفه المشركون في التحريم والتحليل ومزاعمهم الكاذبة بدون علم بأن ذلك من دين الله وأنها هي الأخرى بسبيل التنديد بمواقفهم ومزاعمهم وتقاليدهم. وفي الآية السابقة لها قرينة على ذلك لأنها تعني المشركين الذين سبق الكلام عنهم كما هو واضح بكل قوة. ومما يؤيد هذا آيات في سورة الروم آية فيها صراحة وهي: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) .
ويمكن أن يقال والحالة هذه أن ذكر تفرقة اليهود والنصارى شيعا وفرقا وذكر أهل الأهواء والبدع والضلالة والخوارج في معرض هذه الآية هو من قبيل التطبيق.
ولقد ذكر اختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في القرآن كثيرا مما مرّ منه أمثلة. ولقد ندد في القرآن بأهل البدع والأهواء أيضا. ولقد حذر المسلمون في القرآن من ذلك فكان هذا وذاك وسيلة إلى هذا التطبيق.
هذا من ناحية تفسير وشرح الآية في مقام ورودها وظرفها، غير أن إطلاق عبارتها يجعلها هي الأخرى كما هو المتبادر عامة الشمول مستمرة التلقين في إنذارها وتنديدها بكل من يشذ عن طريق الدين الواضح والذي لا يتحمل فرقة ولا(4/198)
انقساما على ما قررته الآية [153] التي سبقت هذه الآية، ويسير في سبيل الشقاق والفرقة والخلاف بدافع من الهوى والمآرب الخاصة. ثم في إعلانها المسبق ببراءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن يفعلون ذلك من أمته.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير في سياق هذه الآية أحاديث نبوية عديدة بالتنديد بالتفرق والاختلاف والبدع والضلالات. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما لم يرد وإن كان مقاربا لما ورد في هذه الكتب فنكتفي بإيراد بعض ما ورد في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل إن هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشيّ، فإنه من يعش منكم ير اختلافا كثيرا. وإياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ» «1» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة زاد في رواية ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» «2» .
وحديث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمّد. وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار» «3» . وفي الأحاديث تنبيه وتحذير نبويان يؤيدان ما في عبارة الآية المطلقة من تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل زمن ومكان.
__________
(1) التاج ج 1 ص 39 و 40.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 37 وهناك أحاديث أخرى في التاج من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.(4/199)
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد، فالذي يتبادر من روح الآيات والأحاديث أن البدعة والأمور المحدثة المندد بها والمنهي عنها هي ما كان مخالفا للتشريعات والأحكام والنصوص الصريحة في كتاب الله والتأثر في سنة رسوله القولية والفعلية. وكذلك لما في كتاب الله وسنته ورسوله من تنبيهات وتعليمات وتلقينات وخطوط ومبادئ عامة.
ومعلوم أن أئمة المذاهب المشهورة الذين تواترت الروايات عن حرصهم على اتباع كتاب الله وسنة رسوله ولم يكونوا من أهل البدع والأهواء ومن سار على دربهم من العلماء والمجتهدين يختلفون في أمور كثيرة في المعاملات والعبادات والاستنباطات والأحكام نتيجة لاختلاف التأويلات وتعدد الأحاديث وقوتها ومراتبها. فالمتبادر أنهم لا يدخلون في شمول هذه الآية والآية [153] حيث يكونون قد اجتهدوا وتحروا الحق والحقيقة فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله.
أما أصحاب الأهواء المشهورة الذين يعمدون إلى الأخذ بما يرونه متساوقا مع أهوائهم من أحاديث وتأويلات ولو لم تكن صحيحة فإنهم يدخلون في شمول الآيتين وهم من الذين عنتهم الأحاديث فيما هو المتبادر، والله أعلم.
وهناك شؤون دنيوية متنوعة ليس فيها شيء في كتاب الله وسنة رسوله.
والمتبادر أن ما لم يكن مناقضا للخطوط والتلقينات والمبادئ القرآنية والنبوية العامة، ولما هو متعارف عليه أو متفق عليه بين جمهور المسلمين بأنه من مصلحة المسلمين العامة وأمنهم وأعرافهم من اجتهادات وقرارات وخطوات وعزائم ومشاريع فيها تنظيم وتقويم وتحسين لمختلف الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعمرانية والسلوكية يباشرها ويقوم عليها المسلمون أفرادا وجماعات أو حكومات. فالمتبادر أن ذلك لا يدخل في نطاق المنهي عنه المنذر به ولو يكن منه شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. ولو اختلف فيه المسلمون في قطر دون قطر ودولة دون دولة وظرف بعد ظرف ما دام أنه لا يناقض ولا يخالف الخطوط العامة القرآنية والنبوية.(4/200)
وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يورد لتدعيم هذا القول قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» «1» . حيث يفيد الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغب عنه احتمال تطور حياة المسلمين وإحداثهم أمورا لم تكن في عهده ولم يأمر ولم ينه عنها وإنه لم ير بأسا أن يستن المسلمون سننا حسنة فيها صالحهم الخاص والعام لأفرادهم وجماعاتهم وحكوماتهم وعلى مختلف الوجوه وليس فيها مخالفة للكتاب والسنة بوجه ما بل حبذها وشجع عليها وقرر الأجر الدائم لمستنّها. وإن البدع التي عنادها وندد بها في الأحاديث السابقة هي ما كانت سننا سيئة محدثة مخالفة للكتاب والسنة بوجه ما وفيها ضرر وضلالة في الدين والدنيا، والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها
جاءت هذه الآية معقبة على ما سبقها من إنذار وتنديد. وجاءت في الوقت نفسه مطلقة العبارة ليكون فيها حثّ وتشجيع دائمان على الأعمال الحسنة ونهي وتحذير دائمان من الأعمال السيئة، مع تمثل رحمة الله وإحسانه وعدله في زيادة أجر المحسنين وعدم زيادة وزر المسيئين.
ولقد احتوت سورة القصص التي سبق تفسيرها آية مماثلة مع فرق هو أن آية القصص ذكرت بالنسبة لعامل الحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها (القصص/ 84) وهذه ذكرت فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها حيث ينطوي في هذا تنوع في أسلوب الحث والتحذير اقتضته حكمة التنزيل وصورة من صوره. وفي سور أخرى صور أخرى من ذلك
__________
(1) التاج ج 1 ص 66.(4/201)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
حيث جاء مثلا في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) وآية البقرة هذه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [260] .
ولقد أورد ابن كثير حديثا عزاه إلى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي لم نجده في مجموعة الكتب الخمسة عن أبي ذر الغفاري على هامش الآية قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» . والحديث يقتضي أن تكون الآية مدينة لأن الصيام فرض في المدينة وليس هناك ما يؤيد ذلك. ولعل ذلك كان من قبيل التطبيق فالتبس على الرواة.
وهناك أحاديث أخرى يوردها المفسرون على هامش الآية أيضا متقاربة في المدى لم ترد في الكتب الخمسة نكتفي بواحد منها أورده ابن كثير بإخراج الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة» . وفي رواية «ومن همّ بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله إنما تركها من مخافتي» .
وفي الأحاديث تساوق مع الهدف القرآني في الترغيب والحثّ على الأعمال الحسنة والتحذير من الأعمال السيئة كما هو ظاهر، والله أعلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 165]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)(4/202)
(1) قيما: قرئت بكسر القاف وفتح الياء المخففة وقرئت بفتح القاف وكسر الياء المشددة والمعنى مقارب وهو المستقيم والثابت.
(2) الملة: هي الطريقة الدينية، أو الشريعة الدينية، وقالوا في أصل الكلمة إنها من الإملاء كأن ما يأتي به الشرع ويورده الرسول يملى على أمته فيكون لهم ملة متبعة «1» .
(3) نسكي: عبادتي. وتأتي النسك كناية عن القربان الذي يتقرب به الإنسان إلى الله.
(4) ولا تزر وازرة وزر أخرى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى.
(5) ليبلوكم: ليختبركم.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحّدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله.
وبأن يتساءل تساؤل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربّا له وهو ربّ كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يحمل أحد تبعة أحد وإثمه، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائف في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسّره لهم ومكّنهم فيه، كلا بحسبه ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في مجمع البيان للطبرسي.(4/203)
ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره.
تعليق على آية قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً إلخ والآية التالية لها
وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملّة التي هدى الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملّة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية.
ولقد ذكرت الروايات «1» أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملّة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبّدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق ومهما يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملّة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي صلى الله عليه وسلم إليها في هذه الآية يمكن أن يسوّغا القول بجزم إن ملّة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملّة إبراهيم، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم
__________
(1) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 419- 434، الطبعة الأولى و 696- 720 الطبعة الثانية. وانظر أسد الغابة ج 2 ص 178.(4/204)
مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويستجيب إلى دعوته، ولتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان إسلامه إلى الله ربّ العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة.
تعليق على جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ
هذا، وقد توهم جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرّضون في تفاوتهم إلى اختبار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد.
وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلّا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس.
وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [32] .
وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر(4/205)
الفضل بينهم بالتقوى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [13] .
وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [51- 54] من هذه السورة التي مرّ شرحها بما يغني عن التكرار.
وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» «1» .
__________
(1) التاج ج 5 ص 35، والتناجش هو المكايدة في البيع والشراء. [.....](4/206)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
سورة الصافات
في السورة حكاية لبعض مواقف وأقوال وعقائد العرب. وفصول من المناظرات والمشاهد بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. وبيان لمصير المخلصين والجاحدين يوم القيامة. وسلسلة قصص بعض الأنبياء وأقوامهم ومصائرهم وفيها بعض مواضيع السورة السابقة حتى تكاد أن تكون تتمة لها أو تعقيبا عليها مما فيه قرينة على صحة نزولها بعد سورة الأنعام، وفي أسلوبها ونظمها خصوصية فنية. ففيها تسجيع متنوع القوافي وقد ألحقت حلقات سلسلة القصص بلازمة تتكرر عقب كل قصة مثل حلقات سورة الشعراء مع اختلاف الصيغة وفصولها مترابطة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة وهي خامسة سور القرآن في عدد الآيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
(1) الزاجرات: المانعات أو الرادعات أو السائقات.
(2) المشارق: الجمهور على أنها هنا تعني مشارق الشمس من حيث إن للشمس مشارق عديدة بحسب منازلها ومساراتها في مدار السماء. ويتبادر أن(4/207)
تكون بمعنى مشارق الأرض أيضا وليس هذا يعني أنه ربّ المشارق فقط، وإنما هو أسلوبي شاءت حكمة التنزيل أن يكون القسم به وحده.
(3) لا يسمّعون: بمعنى لئلا يتسمعوا.
(4) دحورا: طردا عنيفا أو دفعا عنيفا.
(5) واصب: دائم أو ثابت.
(6) شهاب ثاقب: شهاب ساطع أو مضيء.
في الآيات قسم رباني على سبيل التوكيد بأن إله الناس واحد وحسب، وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق، الذي زين السماء الدنيا بالكواكب وجعلها في الوقت نفسه حافظة لها من كل شيطان باغ لمنعه من التسمع إلى الملأ الأعلى وقذفه من كل جانب من جوانبها قذفا شديدا، بالإضافة إلى ما له من عذاب دائم وكل من خطف خطفة من السمع منهم تبعه شهاب ثاقب قضى عليه.
ولقد تعددت الأقوال في المقصود بالمقسوم به في الجمل الثلاث الأولى، وأوجهها الذي رجحه جمهور المفسرين أنهم الملائكة. فهم الصافون للعبادة صفا والزاجرون الناس عن المعاصي والتالون لآيات الله والمبلغون لأوامره.
وعلى كل حال فالآيات بسبيل توكيد ما بعدها. وهي جارية على الأسلوب القرآني المألوف ونرجح أن سامعيها أو من سامعيها من قد فهم المقصود ولم تكن مبهمة عليه.
ويمكن أن يستلهم من الآيات التالية أن هذه الآيات مقدمة لمشهد من مشاهد المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المشركين جرى فيه جدل حول وحدة الله تعالى وحقيقة البعث بعد الموت. وهي مقدمة قوية نافذة، تضمنت لفت نظر السامعين إلى عظمة كون الله تعالى والتدليل على وحدته وربوبيته كما هو المتبادر. ولقد علقنا في سياق تفسير سورتي الجن والحجر على موضوع الشياطين وتسمعهم إلى السماء ورجمهم بالشهب بما فيه الكفاية فلا ضرورة إلى زيادة شيء آخر في هذا المقام بمناسبة ورود ذكر ذلك في الآيات.(4/208)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 18]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18)
. (1) طين لازب: طين ملتصق متحجر.
(2) يستسخرون: يشتدون في السخرية.
(3) داخرون: صاغرون.
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزولها.
وهي كما هو المتبادر في صدد مشهد من مشاهد المناظرة في البعث والجزاء الأخرويين بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، أو في صدد حكاية مواقفهم وأقوالهم والردّ عليهم.
والسؤال الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه إليهم فيه قوة وإلزام. فالسموات والأرض وما بينهما والملائكة والشياطين كل هذه قد خلقها الله وكلها في تصرفه المطلق. والذي خلق كل هذا الخلق العظيم قادر من باب أولى عليهم وهم أضعف من أي منهم وقد جاء الرد والتوكيد في الآية الأخيرة عنيفا ليتناسب مع ما حكته الآيات من مكابرتهم وسخريتهم وجحودهم وتصاممهم.
وليس من شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفذ أمر ربه فقذف الكفار مواجهة بالرد العنيف دون مبالاة بهم وهم الأكثر عددا والأشد قوة حيث تتجلى بذلك قوته المعنوية وموقف الاستعلاء الذي يشعر به بالنسبة لهم وقد تكرر هذا الأسلوب مرارا.
ولقد تكررت حكاية مواقف الكفار التي حكتها الآيات وأقوالهم كثيرا.
والمتبادر أن ذلك آت من تكرر المشاهد وتجددها. ولقد شرحنا مدى قول الكفار الجزء الرابع من التفسير الحديث 14(4/209)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
عن البعث إنه سحر في مناسبات سابقة وعلقنا عليه بما فيه الكفاية فلا ضرورة للإعادة. وقد تكون حكمة صيغة ومحتويات الآيات السابقة هي بيان ضعف الكفار بالنسبة للأكوان وبخاصة لمردة الشياطين الذين يحرقهم الله بقذائف السماء فإن القادر على الأقوى قادر من باب أولى عليهم. ولقد كان الكفار يعتقدون ويتداولون بما جاء في الآيات فردده القرآن واستحكمت فيهم الحجة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 19 الى 24]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)
. (1) زجرة: صرخة أو صيحة.
(2) يوم الدين: يوم الجزاء.
(3) الذين ظلموا: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والإثم.
(4) أزواجهم: هنا بمعنى أمثالهم ومن هم على شاكلتهم أو أشياعهم.
(5) اهدوهم: أرشدوهم ودلوهم.
(6) صراط: طريق.
الآيات جاءت معقبة على الأمر الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم الذي احتوته الآية الأخيرة من الآيات السابقة كما هو المتبادر. وقد احتوت حكاية ما سوف يكون من أمرهم حينما يأتي وعد الله. فليست إلّا صرخة واحدة فإذا هم أحياء ينظرون إلى ما حولهم نظرة الرعب ويقولون يا ويلنا هذا يوم الجزاء فيقال لهم هذا يوم القضاء الذي كنتم تكذبون به. ويؤمر الملائكة بحشر صنوف الظالمين وفئاتهم المتشاكلة وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله بدلا من عبادة الله وحده أو يشركونها مع الله تعالى في العبادة وسوقهم جميعا إلى طريق الجحيم وإيقافهم للسؤال والحساب.(4/210)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
والآيات قوية نافذة، ومع واجب الإيمان بما حكته من مشهد أخروي فإن من الحكمة المتبادرة فيها إثارة الخوف والرهبة في السامع وحمله على التراجع إن كان جاحدا.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الذين يؤمر بحشرهم مع الظالمين من الآلهة هم الأصنام أو الشياطين أو غير عباد الله الصالحين الذين اتخذهم الناس آلهة ومعبودات وشركاء مثل الملائكة والعزير والمسيح على اعتبار أن هؤلاء غير مسؤولين عن فعل المشركين. وقد حكت بعض الآيات تنصلهم منهم ما مرّ مثاله في الآيات [16- 17] من سورة الفرقان.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ الصافات: [24] حديثا عن أنس بن مالك قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من داع دعا إلى شيء إلّا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه. وإن دعا رجل رجلا ثم قرأ قول الله تعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» «1» ويلحظ أن الضمير في الآية عائد بصراحة حاسمة للظالمين المشركين خاصة. فإن صح الحديث فيكون النبي صلى الله عليه وسلم هدف إلى استلهام الآية لوعظ المسلمين وتحذيرهم من أي قول أو عمل فيه انحراف وضلال.
هذا، وللشيعة تأويل غريب على عادتهم للآية، حيث قالوا إنها في حق الذين أنكروا ولاية عليّ ومنعوها عنه، بل لقد رووا في ذلك حديثا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «2» لم يرد في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة وتغافلوا عن أن الآية مكية وأنها في سياق التنديد بالمشركين الظالمين وإنذارهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 25 الى 33]
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
__________
(1) التاج ج 4 ص 195.
(2) ترجمة مختصر التحفة الإثني عشرية ص 157.(4/211)
(1) لا تناصرون: لا تتناصرون أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلون في الدنيا.
(2) تأتوننا عن اليمين: أوّلها بعضهم بأن الذين أضلوا الناس كانوا يحلفون لهم بأنهم على هدى ويحولون بينهم وبين الإيمان بالله والاستجابة لدعوته. وأوّلها بعضهم بأنها كناية عن الوسوسة والتزيين من جهة يمينهم لأن هذه الجهة هي الميمونة المأمونة والتي اعتاد الناس أن يسروا إلى بعضهم بما يريدون من ناحيتها.
الآيات استمرار لحكاية ما سوف يكون من أمر الكفار يوم البعث، فسيسألون سؤال التهكم والتحدي عن سبب عدم تناصرهم كما كانوا يفعلون في الدنيا فلا يكون جوابهم إلّا الاستكانة والاستسلام. ولسوف يقبل بعضهم على بعض يتعاتبون ويتخاصمون. فيقول التابعون للمتبوعين وهم الزعماء: إنكم كنتم تزينون لنا الجحود والغواية وتصدوننا عن الهدى فيجيبهم هؤلاء: إنكم كنتم ضالين طغاة غير مصدقين في قرارة نفوسكم ولم يكن لنا عليكم سلطان قاهر لو استجبتم. ولم نكد نقف موقف الصد والغواية حتى تابعتمونا. ولقد حق علينا حكم الله ووعيده فنحن جميعا ذائقون مرارة أعمالنا وضلالنا. وقد عقبت الآية الأخيرة على هذه المحاورة بتقرير أنهم سيكونون جميعا في العذاب مشتركين ولن يغني الاعتذار والتنصل والتلاوم أحدهم شيئا.
والآيات كسابقاتها قوية التصوير ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن من حكمة الأسلوب المتبادرة الذي جاءت عليه إثارة الخوف والرعب والارعواء في قلوب الكفار تابعين ومتبوعين. ولعل مما استهدفته تنبيه التابعين الذين كانوا الأكثر إلى أن الزعماء الذين يتبعونهم لن ينفعوهم في الآخرة شيئا.(4/212)
إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
[سورة الصافات (37) : الآيات 34 الى 39]
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38)
وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
. الآيات كما هو المتبادر معقبة على ما سبقها من حكاية ما سوف يكون من أمر الكفار بعد البعث. فما حكي هو ما سوف يحل بالمجرمين لأنهم كانوا يستكبرون إذا قيل لهم لا إله إلا الله وكانوا يستنكرون أن يتركوا آلهتهم لشاعر مجنون بزعمهم في حين أنه إنما جاءهم بالحق المتطابق مع ما جاء به المرسلون الأولون. ومن أجل ذلك سيقال لهم إنكم لذائقو العذاب الأليم وإنكم لم تجزوا إلّا بما عملتم وقدمتم.
وفي الآيات صورة لما كان يقفه الكفار من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومن شخصه أيضا، وقد تكررت في مناسبات عديدة مماثلة حيث كانت المشاهد والمواقف تتكرر وتتجدد. وقد علقنا على نعت المجنون والشاعر الذي كان الكفار ينعتون به النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه الكفاية في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة لزيادة أو إعادة.
ويلحظ في الحوار الذي يجري بين الكفار والأقوال التي تقال لهم أنها مقتبسة من مألوفات الدنيا وأساليب خطابها ومشاهدها. وهذا طبيعي لأنه هو الأشد تأثيرا في الوعظ والإنذار والترغيب والترهيب، وهو مما استهدفته الآيات كما قلنا.
[سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 49]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
. (1) معين: لا ينضب أو لا ينقطع أو ظاهر على وجه الأرض.(4/213)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
(2) غول: خمار السكر وحدته.
(3) ينزفون: تذهب عقولهم.
(4) قاصرات الطرف: غاضات الأنظار. والتعبير كناية عن العفاف والطهر.
(5) عين: ذات عيون نجلاء.
(6) بيض: يطلق مجازا على حبات اللؤلؤ الكبيرة.
(7) مكنون: مصون عن الابتذال.
في الآيات وصف لما يكون من أمر المؤمنين يوم القيامة مقابل وصف ما يكون من أمر الكفار على سبيل الاستطراد وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وقد بدأت بحرف الاستثناء ليعني أن عباد الله المخلصين مستثنون من ذلك المصير الذي حكي أنه سيكون بالنسبة للكفار. فلهم الرزق الوافر والفواكه والتكريم في جنات النعيم حيث يجلسون متقابلين على الأسرّة ويطاف عليهم بشراب أبيض لذيذ من منبع لا ينضب ولا يسبب خمارا ولا نزيفا لشاربه ويتمتعون بالنساء النجل العيون اللاتي كأنهن اللؤلؤ بياضا وجمالا، الطاهرات المصونات عن الابتذال.
والآيات متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وأسلوبها قوي مثل سابقاتها، ومن شأنها إغراء السامعين وحملهم على الاستجابة وإثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر أيضا.
والوصف هنا كالوصف هناك مستمد من مألوفات الناس وصور الحياة الدنيا لأنه أقوى على التأثير على ما قلناه في صدد الآيات السابقة. مع واجب الإيمان بحقيقة ما انطوى فيها من مشهد أخروي.
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)(4/214)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
(1) قرين: جليس أو صاحب.
(2) مدينون: مبعوثون للقضاء والجزاء.
(3) سواء الجحيم: وسط النار.
(4) لترديني: لتسقطني وتهلكني.
الآيات استمرار في السياق كما هو واضح، وفيها حكاية لما يكون من حوار بين المخلصين بعد أن ينزلوا منازل التكريم في الآخرة حيث يقبل بعضهم على بعض يتجاذبون الحديث فيذكر أحدهم قرينا كان له يسأله سؤال الساخر المستكبر عما إذا كان يصدق ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم من أن الناس مبعوثون للجزاء بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما فيجاب القائل أن انظر فينظر فيرى قرينه في وسط النار فيخاطبه مؤنبا مبكّتا لقد كدت تهلكني بوسوستك وجحودك ولو لم تتداركني رحمة الله لكنت معك أقاسي ما تقاسي. ثم يتساءل المخلصون الناجون تساؤل الفرح عما إذا كانوا حقا لن يموتوا بعد الآن ولن يتعذبوا. ويهتفون مغتبطين مسرورين: ألا إن هذا لهو الفوز العظيم. وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين أن لمثل هذا المصير الكريم فليعمل من أراد العمل.
وقد استهدفت الآيات إثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وإنذار الكفار فيما استهدفته كما هو شأن سابقاتها مع واجب الإيمان بحقيقة المشهد الأخروي الذي حكته.
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 70]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)(4/215)
(1) نزلا: منزلا.
(2) الظالمين: هنا كناية عن الكافرين المجرمين.
(3) أصل الجحيم: قاع النار.
(4) طلعها: ثمرها.
(5) شوب من حميم: شراب من الماء الحار.
(6) ألفوا: وجدوا.
(7) يهرعون: يسارعون في السير.
في الآيات سؤال تبكيتي وتقريعي عما إذا كان النعيم الذي أعدّ للمخلصين المذكور في الآيات السابقة خيرا منزلا أم شجرة الزقوم التي أعدها الله لعذاب الظالمين والتي تنبت في قاع الجحيم ولها ثمر كأنه رؤوس الشياطين في القبح والبشاعة. حيث يأكلونه ويملأون به بطونهم ثم يشربون عليه ماء شديد الحرارة فتزداد حرقتهم وعطشهم وعذابهم. ولسوف يكون الجحيم مصيرهم الخالد فقد وجدوا آباءهم ضالين فساروا في السير على طريقهم بدون تروّ ولم يستجيبوا لدعوة الحق والهدى التي وجهت إليهم.
وصلة الآيات بالسياق واضحة: حيث جاءت معقبة على وصف مصير المخلصين للتنبيه إلى الفرق العظيم بين هذا المصير ومصير الظالمين. والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب والهلع في الكفار كما هو شأن سابقاتها.
مع واجب الإيمان بحقيقة المشهد الأخروي الذي حكته.
وقد ذكر بعض المفسرين «1» أن تعبير إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) أريد به
__________
(1) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي والكشاف وابن كثير.(4/216)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
الإشارة إلى ما أحدثه ذكر وجود شجرة الزقوم في النار من استنكار واستغراب لدى الكفار. على أن بعضهم «1» قال إن كلمة فِتْنَةً هنا بمعنى شدة العذاب. ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء السابقة لهذه السورة في الترتيب أن الله جعل الشجرة الملعونة في القرآن فتنة للناس وقال جمهور المفسرين إنها عنت شجرة الزقوم. ولعل هذا متصل بذاك ومع ذلك فإن للقول الثاني وجاهته أيضا والله أعلم.
وفي تشبيه طلع شجرة الزقوم الجهنمي برؤوس الشياطين دلالة على أن العرب كانوا يتخيلون الشياطين بأشكال قبيحة مفزعة، فجاء التشبيه متسقا مع ما في أذهانهم زيادة في التأثير والتخويف.
أما شجرة الزقوم الدنيوية فهي شجرة معروفة في بلاد الحجاز بكثرة شوكها وشدة مرارة ثمرها وإثارته عطشا شديدا في آكله.
[سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 74]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
. وهذه الآيات معقبة على ما قبلها كما هو المتبادر: فأكثر الأمم السابقة ضلوا كما ضلّ أكثر العرب. ولقد أرسل الله إليهم منذرين فلم يستجيبوا، فاستحقوا ما استحقوه من سوء العاقبة باستثناء المخلصين من عباد الله الذين استجابوا واهتدوا، وقد انطوى في الآيات تقريع وإنذار للكفار وتنويه بالمؤمنين.
وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه مقدمة لسلسلة قصص الأنبياء التي تأتي بعدها جريا على النظم القرآني.
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
__________
(1) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي والكشاف وابن كثير.(4/217)
(1) الكرب العظيم: الشدة التي كانوا يلقونها من قومهم.
(2) تركنا عليه في الآخرين: بمعنى أبقينا له ذكرا حسنا في الناس من بعده أو تكرمة دائمة من التحية والصلاة والسلام.
هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية جاءت عقب ذكر مواقف الكفار ومصائرهم جريا على الأسلوب القرآني. وقد شاءت حكمة التنزيل أن تأتي فيها قصة نوح بهذا الأسلوب المقتضب الذي فيه تنويه بنوح عليه السلام وإشارة إلى تنجيته وأهله من الشدة التي كانوا يلقونها من قومهم وجعل ذريته هي الباقية وإغراق الآخرين. وجعله ذا ذكر حسن دائم في العالمين وفقا لعادة الله تعالى في جزاء المحسنين المؤمنين من عباده.
ومقصد العبرة والتذكير فيها واضح، حيث انطوى فيها إنذار للكفار وتنويه وتطمين وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين الذين اتبعوه.
والآيات [77- 81] قد تكررت بشيء يسير من الاختلاف مع كل حلقة من حلقات السلسلة حيث صارت لازمة مثل اللازمة التي لحقت بسلسلة قصص سورة الشعراء، مما فيه صورة من صور النظم القرآني.
ولقد علقنا على قصة نوح عليه السلام وقومه وطوفانه في المناسبات السابقة فلا ضرورة للإعادة. غير أن هناك حديثا نبويا روي في سياق هذه الآيات رأينا أن نؤيده حيث روى الترمذي عن سمرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «حام وسام ويافث» وفي رواية رواها الحاكم وأحمد مع الترمذي «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» «1» . وفي الإصحاح التاسع من سفر التكوين ذكرت الأسماء الثلاثة
__________
(1) التاج ج 4 ص 195.(4/218)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
كالأبناء الباقين مع نوح وأنهم الذين انبث منهم الناس في الأرض بعد الطوفان وذكرت أجناس نسلهم بما يتسق مع الاقتضاب الذي جاء في الحديث حيث يفيد هذا أن الأمر كان معروفا على هذا الوجه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته.
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 113]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
. (1) من شيعته: من فئته أو جماعته أو أمثاله.
(2) أئفكا آلهة دون الله تريدون: أتتخذون من دون الله آلهة إفكا وزورا.
(3) نظر نظرة في النجوم: إشارة إلى ما كان تبينه من الضلال في عبادة النجوم على ما جاء في سورة الأنعام السابقة.
(4) قال إني سقيم: قال إني مريض، من قبيل الاعتذار.
(5) فتولوا عنه مدبرين: فتركوه وخلفوه.(4/219)
(6) فراغ: مال وانعطف.
(7) يزفون: يسرعون.
(8) فلما أسلما: فلما انقادا لله وأرادا تنفيذ أمره.
(9) تله للجبين: سحبه وطرحه على الأرض وجعل جبينه نحوها تهيؤا لذبحه.
(10) إن هذا لهو البلاء المبين: إن هذا لهو الامتحان والاختبار الشديد الذي تعرّض له إبراهيم وأقدم على تنفيذه.
(11) ذبح: ذبيحة، كناية عن الحيوان الذي يذبح.
تعليقات على قصة إبراهيم عليه السلام وتمحيص مسألة الذبح من ولديه
وهذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه وأصنامهم وقصة رؤياه في المنام أنه يذبح ابنه وإقدامه على تنفيذ ذلك على اعتبار أنه أمر رباني وفدائه بذبيحة ربانية. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والشطر الأول من القصة لم يرو في سفر التكوين المتداول اليوم ولكن ذلك لا يمنع أن يكون ورد في أسفار وقراطيس مفقودة وهو ما نعتقده. وفي سورتي الشعراء ومريم ورد شيء مما جاء في هذا الشطر وجاء هنا بشيء من الخلاف الأسلوبي وشيء من الزيادة كما اقتضته حكمة التنزيل لتتكامل القصة وعبرتها.
ولقد علقنا على ما جاء في السورتين المذكورتين اللتين سبق تفسيرهما ونبهنا على ما فيهما من عبرة بالنسبة للعرب فلا نرى ضرورة للإعادة.
والزيادة الجديدة هنا هي تآمر قوم إبراهيم عليه وإلقاؤهم إياه في النار وإحباط الله كيدهم وتنجيته، وقد جاء ذلك في القرآن مرتين أخريين واحدة في سورة الأنبياء وأخرى في سورة العنكبوت.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين [68- 69] من سورة الأنبياء اللتين ذكر فيهما الخبر الزائد الجديد بيانات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/220)
وتابعيهم في كيفية تأجيج قوم إبراهيم النار وشدة وهجها واتقادها وتسجيرها سبعة أيام ورميهم إبراهيم فيها بالمنجنيق بإشارة من إبليس وصيرورة النار عليه بردا وسلاما حتى إنها لم تحرق وثاقه وتلقى جبريل له فيها إلخ إلخ مما يفيد أن هذا الخبر بتفصيلاته مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يرووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس له مصدر والحالة هذه إلّا اليهود كما هو المتبادر.
والعبرة في الزيادة هنا واضحة فيما كان من عناية الله تعالى بإبراهيم الذي أخلص لله وأسلم نفسه له وتنجيته إياه من كيد الكفار ونارهم.
أما الشطر الثاني من القصة فقد ذكر في الإصحاح (22) من سفر التكوين المتداول بأسلوب متوافق إجمالا مع ما جاء في الآيات [102- 107] مع ذكر كون الذبيح اسحق عليه السلام. وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد ذلك منها ما يفيد أن الذبيح اسحق ومنها ما يفيد أنه إسماعيل. وفيها مع ذلك استنباطات اجتهادية للمفسرين وللعلماء منها ما انتهى إلى أنه إسحق ومنها ما انتهى إلى أنه إسماعيل أيضا. وقد شغل هذا الموضوع جزءا كبيرا في هذه الكتب. والذين استنبطوا من القرآن أنه اسحق قالوا إنه ليس في السلسلة إلّا اسم إسحق وفيها بشارة به وهو غلام وبشارة بنبوته. وإنه ليس في القرآن بشارة إلّا بإسحاق. حيث ورد ذلك صراحة في آيات سورة هود [69 و 70] التي سبق تفسيرها وضمنا في آيات في سورة الذاريات فيها قرينة قوية على ذلك ومماثلة لآيات هود: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) . والذين استنبطوا من القرآن أنه إسماعيل قالوا إن الله ذكر البشارة بإسحاق في آيات هذه السورة بعد الفراغ من قصة الرؤيا والذبيح. وأن الله بشر بإسحاق ومن ورائه يعقوب في آيات سورة هود فلا يصح أن يكون أمر بذبحه لأنه بشره بأنه سيكون له نسل، ونحن نرى في هذا وجاهة وسدادا.(4/221)
وننبه أولا: على أنه ليس شيء من مما يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك واردا في كتب الصحاح. وثانيا: على أن معظم الأحاديث والروايات في جانب كون الذبيح هو إسماعيل وكون الحادث وقع في منطقة مكة بعد أن أسكن إبراهيم إسماعيل عليهما السلام فيها. وإسكان إبراهيم لإسماعيل في منطقة مكة مؤيد بآيات وردت في سورتي البقرة وإبراهيم حيث جاء في سورة إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) وحيث جاء في سورة البقرة هذه الآية التي تفيد كون الذي أسكنه إبراهيم هو إسماعيل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) .
ولقد روى البغوي فيما روى أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا يهوديا كان أسلم وحسن إسلامه عن شخص الذبيح فقال إنه إسماعيل ولكن اليهود زعموا أنه إسحق حسدا للعرب لأن إسماعيل الذي كرّمه الله بالنداء هو أبوهم فأرادوا أن يجعلوا الفضل لأنفسهم حيث ينطوي في هذا اتهام لليهود بتحريف الخبر في كتبهم. ومثل هذا التحريف ملموح في سفر التكوين حيث تعمد كاتبوه تفضيل إسحق على إسماعيل مع أن هذا بكر إبراهيم وتفضيل يعقوب على عيسو مع أن عيسو بكر إسحق لأن يعقوب وإسحق هما أصلا بني إسرائيل دون إسماعيل وإخوته الآخرين ودون عيسو مما نبهنا عليه وعلى أمثاله في سياق تعليقنا على التوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف، وفي القرآن ورد أكثر من مرة أنهم كانوا يحرفون كتاب الله ويقولون عما يكتبون إنه من الله وما هو من الله فليس ذلك التحريف بعيدا عن طباعهم والله تعالى أعلم.
وفي الإصحاح (22) من سفر التكوين إن الفداء كان كبشا وجده إبراهيم قربه، وبعض الروايات التي يرويها المفسرون عن علماء الصدر الأول تذكر أنه كبش أقرن أملح نزل من الجنة. وبعضها يذكر أنه تيس من الأروى هبط إلى إبراهيم من جبل ثبير بين عرفات ومنى. ومما ذكرته هذه الروايات أن إبليس تعرض(4/222)
لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وحاول التشويش عليهما وتعويقهما عن تنفيذ ما أمر إبراهيم بفعله في المنام الذي اعتبره وحيا ربانيا فكان إبراهيم يرجمه بالحصى مرة بعد مرة. وكان هذا الرمي هو أصل تقليد رمي الحصى الذي يرميه الحجاج في منى بعد نزولهم من عرفات. وهذه الروايات من جملة الروايات التي تفيد أن الذبيح إسماعيل والله أعلم.
وعلى كل حال فالذي نرجحه أن سامعي القرآن كانوا يعرفون القصة. وأن المهم فيها هو ضرب المثل بعباد الله الصالحين الذين منهم إبراهيم عليه السلام حيث أقدم على تنفيذ ما ظنه وحيا من الله مهما كان فيه تضحية بالغة للتدليل على انقياده وإسلامه النفس لله تعالى، وحيث وافق ابنه الصبي على ذلك بطيبة خاطر ورضاء نفس للتدليل كذلك على انقياده وإسلامه النفس لله تعالى، وبذلك استحقا ثناء الله وتنويهه وتكريمه وكانا مظهر رعايته وتجلياته.
ولقد انطوى في جملة وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ تقرير واقع الأمر بالنسبة لذرية إبراهيم وإسحق عليهما السلام حيث كان منهم المحسن الصالح والمنحرف الآثم المهلك نفسه بانحرافه وإثمه. ومن الممكن أن يلمح في هذا ردّ على دعوى بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار. فهم مثل سائر البشر منهم الصالح الذي يستحق تكريم الله ورحمته والآثم المنحرف الذي يستحق عذاب الله وسخطه وغضبه. وفي آية في سورة المائدة ذكر هذا التأويل بصراحة وهي هذه:
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) . مع التنبيه على أن في القرآن آيات كثيرة «1» تفيد أن جميعهم إلّا قليلا صاروا موضع سخط الله وغضبه ولعنته بما كان منهم من نقض لميثاقه وانحراف ديني وخلقي ومواقف مؤذية لرسل الله ثم لخاتم رسله.
__________
(1) سلسلة البقرة [40- 160] وسلسلة آل عمران [65- 120] وسلسلة النساء [44- 56] و [150- 162] والمائدة [12- 15] .(4/223)
ويلحظ أن الشطر الأول من القصة احتوى إشارة إلى ما كان من نظرة إبراهيم عليه السلام في النجوم التي ذكرت في السورة السابقة حيث يمكن أن يكون ما جاء هنا زيادة بيانية عما جرى بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه قد جاء تتمة للكلام في سورة الأنعام وحيث يمكن أن يكون في ذلك دلالة على صحة رواية نزول هذه السورة بعد سورة الأنعام.
تعليق على جملة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ
ونريد أن ننبه إلى أمر كان من مواضيع الجدل بين المفسرين وعلماء الكلام حيث استند بعضهم على آية وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ في تقرير كون الله عز وجل قد خلق الناس وخلق أعمالهم وأن أعمال الناس غير مكتسبة منهم وإنما هي مقدرة محتمة عليهم، بينما أنكر ذلك فريق آخر «1» . وبقطع النظر عن عدم اتساق التقرير المذكور مع تقريرات القرآن الحاسمة الكثيرة التي تؤكد بأساليب مختلفة قابلية الناس على الكسب والاختيار واستحقاقهم الجزاء، وفاق ذلك على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة، فإن الآية المذكورة ليست تقريرا قرآنيا مباشرا في صدد خلق الناس وأعمالهم، وإنما هي من جملة ما حكي من أقوال إبراهيم عليه السلام لقومه في صدد محاججتهم والتنديد بهم. فهم يعبدون أصناما ينحتونها بأيديهم فقال لهم إن الله خلقكم وخلق ما تنحتون على سبيل الإفحام والإلزام، وإن إيراد الآية في معرض الاستدلال على خلق الله لأعمال الناس في غير محله. ولقد جاء في سورة العنكبوت آية حكي فيها قول لإبراهيم عليه السلام لقومه أيضا نسب فيه الخلق إليهم وهي هذه: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [17] مما فيه تأييد لما نقول.
__________
(1) انظر تفسير الآية في الخازن والبغوي والزمخشري(4/224)
ولقد تكرر هذا كثيرا من علماء الكلام والمفسرين لدعم مذهب أو رأي أو تأويل حيث يعمد بعضهم إلى اقتطاع آية من سلسلة أو جملة من آية ويوردونها دليلا، في حين أن بقية الآية أو بقية السلسلة في صدد آخر لا تتحمل ما أرادوا تحميله لهما مما مرّ منه أمثلة عديدة.
تعليق على ما وصف بكذبات إبراهيم عليه السلام
ويورد المفسرون في سياق جملة إِنِّي سَقِيمٌ المحكية عن لسان إبراهيم في هذه الآيات وفي سياق جملة: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ في الآية [63] من سورة الأنبياء حديثا رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم عليه السلام قطّ إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبّار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها إنّ هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فاخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإنّي لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلمّا دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار فأتاه فقال له لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلّا لك فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك ففعلت فعاد فقبضت يده أشدّ من الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشدّ من القبضتين الأوليين فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله ألّا أضرّك ففعلت فأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر. قال فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف الخادم فقال لها مهيم (ماذا جرى؟) قالت خيرا كفّ الله يد الفاجر وأخذ الجزء الرابع من التفسير الحديث 15(4/225)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
منّي خادما قال أبو هريرة فتلك أمّكم يا بني ماء السماء» «1» .
ومع ذلك فإن بعض المفسرين أرادوا صرف صفة الكذب الصريح عن إبراهيم عليه السلام فقالوا إن كلامه كان من المعاريض وبعضهم لم ير بأسا في الوصف وقد جاء صريحا في الحديث النبوي. ومعظمهم رأوا في مثل هذه الكذبات وظروفها أسوة يمكن أن يسار عليها ويتأسى بها. ولا سيما إذا كانت في سبيل الله ودرء ضرر فادح. ولا يخلو هذا وذاك من وجاهة وسداد استنادا إلى نص الحديث النبوي فضلا عن المبدأ الحكيم بالإذن بالمحظور عند الاضطرار والخطر على ما شرحناه في سياق آية سورة الأنعام [145] وهناك حديث نبوي يصح أن يساق في هذا المساق رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: «سمعت رسول الله وهو يقول ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا. قالت ولم أسمع يرخّص في شيء مما يقول الناس كذب إلّا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل لامرأته وحديث المرأة لزوجها» «2» .
هذا وقصة إبراهيم وسارة والجبار واردة في الإصحاح (12) من سفر التكوين بفروق طفيفة غير جوهرية. والقصة كانت مع فرعون مصر. وهذا يؤيد ما قلناه مرارا من أن هذا السفر كان متداولا معروف المحتوى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته.
أما القولان الآخران فلم يذكرا في هذا السفر تبعا لعدم ورود قصص إبراهيم مع قومه فيه على ما نبهنا عليه من قبل.
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
__________
(1) التاج ج 3 ص 262 و 263 وتلك أمكم يعني هاجر أم العدنانيين لأنها أم إسماعيل على ما ذكرته الروايات.
(2) التاج ج 5 ص 40.(4/226)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
(1) المستبين: المبين الواضح.
وهذه حلقة ثالثة فيها إشارة تنويهية إلى موسى وهرون عليهما السلام بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل والسياق.
وعبارتها واضحة، والعبرة فيها ملموحة وهي ضرب المثل والتذكير بما كان من عناية الله ونصره وهدايته لموسى وهرون بسبب أنهما من عباد الله المؤمنين المحسنين.
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
. (1) فإنهم لمحضرون: فإنهم لمحشورون إلى الله وعذابه.
(2) إلياسين: من المفسرين من قال إن الكلمة جمع (الياس) تشمل أتباعه المنسوبين إليه. وهناك من قرأها (آل ياسين) وهناك من خرجها على التعريب لأن إلياس ليست صريحة العروبة، وقد يكون القول الأول هو الأوجه، والله أعلم.
تعليق على قصة إلياس عليه السلام
وهذه حلقة رابعة فيها قصة النبي إلياس مع قومه الذين كانوا يعبدون البعل من دون الله أحسن الخالقين ربهم وربّ آبائهم الأولين. وقد حكت تأنيب إلياس(4/227)
عليه السلام لقومه وتكذيبهم له وتنويها به وثناء عليه لأنه من عباد الله المحسنين المؤمنين.
وإلياس هذا هو النبي إيليا الذي ورد ذكره في السفر الأول من أسفار الملوك حسب الطبعة البروتستانتية، والثالث حسب الطبعة الكاثوليكية، وما ورد في الآيات مقتضبا قد ورد مسهبا في الإصحاحات (16 و 17 و 18 و 19) من السفر المذكور حيث ذكر فيها ما كان من استشراء عبادة البعل وكثرة معابده وأنبيائه في زمن آحاب ملك دولة إسرائيل بتأثير زوجته إيزابيل بنت ملك صور وما كان من إنذار إيليا لهما بأمر الله وغضبهما عليه ومحاولتهما اعتقاله والبطش به وتسليط الله عليهما غزوات خارجية وقحطا وجفافا بسبب ذلك في سياق طويل.
والمتبادر أن هذا مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق اليهود فأشير إليه في معرض التذكير والتمثيل والموعظة. وهو الهدف الملموح والجوهري في الحلقة، حيث ذكرت ما كان من إنذار إلياس لقومه وتأنيبه لهم وتكذيبهم له وعقاب الله لهم والتنويه به بسبب إخلاصه وإيمانه وإحسانه.
وفي كتب التفسير «1» نقلا عن محمد بن إسحاق والقرظي وغيرهما من رواة الأخبار ومسلمة اليهود بيانات كثيرة حول قصة إلياس، فيها ما ذكر في إصحاحات السفر المذكور آنفا وما لم يذكر حيث يدل هذا على أن القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم وعصره.
ولم نر طائلا في اقتباس ما جاء في كتب التفسير أو في إصحاحات السفر المذكور لأن القصد منها، وهو العبرة، قد حصل بما اقتضت حكمة التنزيل ذكره منها.
تعليق على اسم بعل
وبعل هو معبود بلاد الشام جميعها: أي سورية ولبنان وشرق الأردن
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.(4/228)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
وفلسطين قبل الميلاد المسيحي «1» . وكان يعني إله القمر أو إله السماء. وكان كذلك في جنوب جزيرة العرب وفي العراق أيضا حيث يبدو أنه من آلهة الجنس العربي الرئيسية وقد قرىء في آثار اليمن اسم (بعل سمين) بمعنى إله السماء «2» .
وقد دخلت كلمة بعل في عداد اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام وصارت بمعنى الزوج ومالك الشيء. وقد وردت عديدة في القرآن بمعنى الزوج ومن ذلك آية سورة هود [72] التي مر تفسيرها.
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
. (1) في الغابرين: في الهالكين من قوم لوط.
تعليق على قصة لوط عليه السلام
وهذه حلقة خامسة فيها إشارة إلى قصة لوط مع قومه إشارة مقتضبة. وقد وردت هذه القصة بتفصيل أكثر في سور سابقة. وفي الحلقة شيء جديد متصل بأهل الحجاز حيث تذكرهم بأنهم يمرون على مساكن قوم لوط التي دمرها الله في الصباح وفي الليل وتندد بهم لأنهم لا يعقلون ولا يعتبرون بما يرون. وهذه المساكن على شواطىء بحر الميت في غور أريحا في فلسطين. وكانت قوافل الحجازيين التجارية تمر بها حينما تأتي من الحجاز إلى مصر أو ترجع من مصر إلى الحجاز. وكانوا يرون آثار التدمير التي ما تزال موجودة إلى اليوم. وكانوا يعرفون قصة قوم لوط وتدمير الله لمساكنهم من طريق اليهود، وبذلك استحكم فيهم
__________
(1) انظر الجزء الرابع من تاريخ الجنس العربي تأليفنا ص 97 و 194 و 296.
(2) انظر الجزء الثالث من تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي ص 157.(4/229)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
الإفحام والتنديد. وهذا ما انطوى في الحلقة من عبرة وعظة بالإضافة إلى ما في ذكر نجاة لوط وأهله من عذاب الله بسبب إيمانهم واستثناء امرأته من النجاة بسبب انحرافها من عبرة وعظة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
. (1) أبق: فرّ متمردا.
(2) المشحون: المملوء.
(3) ساهم: دخل في المساهمة وهي القرعة.
(4) المدحضين: الساقطين.
(5) التقمه: ابتلعه.
(6) مليم: ملوم أي أتى بما يلام عليه.
(7) نبذناه: طرحناه وألقيناه.
(8) العراء: وجه الأرض الخالي من الشجر والظل.
تعليق على قصة يونس عليه السلام
وهذه حلقة سادسة من سلسلة القصص وهي الأخيرة. وقد ذكر فيها قصة يونس مع قومه وقد وردت هذه القصة في سورة القلم ووردت إشارات خاطفة إليها في سورة يونس التي مرت وفي سورة الأنبياء الآتية بعد قليل وجاءت هنا بشيء من الزيادة اقتضتها حكمة التنزيل.(4/230)
ولقد قلنا في سياق تفسير آيات في سورة القلم ذكرت (صاحب الحوت) أن قصة يونس مذكورة في سفر يونان من أسفار العهد القديم وأوردنا خلاصة ما جاء في السفر. وهي متطابقة إجمالا مع ما جاء عنها في الآيات التي نحن في صددها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. واسم يونس جاء هذا بصراحة مع ذكر التقام الحوت له وهذا الاسم معرب يونان على ما هو المتبادر.
وإذا كان من شيء يزاد هنا فهو تباين بين خبر شجرة اليقطين في الآيات وشجرة الخروعة في السفر. وهناك تباين آخر ففي الآيات أن الله أنبت الشجرة لامتحانه وليس لوقايته بعد خروجه من بطن الحوت. فقد غضب يونس لعدم اتباع الله العذاب الموعود من الله على قومه- وهذا ما يمكن أن يفيده فحوى آية في سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ... [87] فأنبت الله الخروعة وهو ذاهب مغاضب لقومه ليستظل بها فأرسل الله دودة فجففتها، فعاتب ربّه على ذلك فقال له الله أشفقت على شجرة لم تتعب بها أفلا أشفق على مدينة عظيمة فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من أناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم عدا ما فيها من بهائم، والذي نعتقده أن ما جاء في القرآن أيضا كان مما كان واردا في قراطيس ومتداولا بين أوساط اليهود.
والعبرة التي انطوت في آيات القصة هنا وهي الجوهرية فيها ذكر ما كان من مغادرة يونس لقومه خلافا لأمر الله حتى نعت بالآبق. ومجازاة الله تعالى له بما كان من قذفه في البحر والتقام الحوت له لتنبيهه وزجره. وقد ندم وسبح الله واستغاث كما ذكرت الآيات هنا وفي آية سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فتاب الله عليه وأنقذه من بطن الحوت ثم أرسله إلى قومه فاستأنف دعوتهم إلى الله فآمنوا. وكل هذا مما احتواه السفر أيضا وهذه النهاية هي المهمة في مساق العبرة حيث ينطوي فيها تأميل بإيمان من لم يكن قد استجاب للدعوة النبوية إذا ما واظب النبي على دعوتهم.(4/231)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
هذا، وننبه على صيغة الآية [147] حيث قد يتبادر إلى الوهم منها أن هناك شكا في عدد قوم يونس مما لا يجوز على الله تعالى فنقول إنه أسلوب مألوف من الأساليب الخطابية والأساليب القرآنية. وهو ما ظللنا نعبر عنه بجملة (التعبير الأسلوبي) والقصد من التعبير هو التنويه بكثرة عدد الذين أرسل إليهم وآمنوا كما هو المتبادر.
والمناسبة قائمة لإيراد حديث رواه البخاري والتعليق عليه حيث روى عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» «1» . وقد أوضح الشراح أن القصد هو النهي عن تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على يونس عليه السلام. ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» «2» . هذا بالإضافة إلى أن القرآن يذكر بصراحة أن الله فضل بعض النبيين على بعض كما جاء في الآية [55] من سورة الإسراء التي سبق تفسيرها وفي آية [253] من سورة البقرة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وشراح حديث الترمذي يقولون إما أن يكون هذا الحديث قد صدر من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم أنه فضل على النبيين وإما أن يكون من قبيل التواضع وتعليم المسلمين لواجب احترام جميع أنبياء الله، والله أعلم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 157]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)
__________
(1) التاج ج 4 ص 195 و 196.
(2) التاج ج 1 ص 205. [.....](4/232)
(1) أم لكم سلطان مبين: أم لكم برهان من الله واضح على ما تزعمون.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال المشركين مستفتيا مبكتا عما إذا كان يصح أن يكون لله البنات ولهم البنون، وعما إذا كانوا حاضرين حينما خلق الله الملائكة فرأوا أنه خلقهم إناثا كما يزعمون. وتنبيه إلى ما في زعمهم من اتخاذ الله أولادا من كذب. وتسفيه في صيغة الأسئلة الإنكارية لزعمهم أن الأولاد الذين اتخذهم واصطفاهم بنات وليسوا بنين، وخروجهم في زعمهم وحكمهم عن نطاق المنطق والعقل وتحدّ لهم بإظهار ما عندهم من بينة أو كتاب على صحة زعمهم إن كانوا صادقين فيه.
وفي الآيات التفات خطابي إلى المشركين الذين كانوا موضوع الحديث قبل سلسلة القصص حيث استؤنف فيها موقف المناظرة والجدل الذي حكته آيات السورة الأولى والتحم السياق بين أولها وآخرها. وبذلك تكون الآيات التي جاءت بين الآيات الأولى من السورة وهذه والتي احتوت بيان مصير الكفار والمخلصين وقصص بعض الأنبياء وأقوامهم قد جاءت من قبيل الاستطراد والاستشهاد والتذكير.
وقد تكرر هذا في سور عديدة بحيث يصح أن يقال إنه من أساليب النظم القرآني.
تعليق على انصباب التنديد بالمشركين، على زعم اتخاذ الله بنات دون البنين
وقد يبدو لأول وهلة أن آيات الاستنكار مصبوبة بقوة أكثر على نسبة البنات لله تعالى دون البنين من قبل المشركين، وعلى تقرير كون البنين هم المفضلين على البنات. وهذا ما يبدو في مناسبات أخرى ذكرت فيها عقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله وقد مرّ مثال ذلك في سورة النجم.(4/233)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
والحقيقة أن هذا هو من قبيل المساجلة والجدل كما تلهم روح الآيات القرآنية وصيغتها. فالتكذيب القرآني لأساس الفكرة أي لاتخاذ الله أولادا قاطع وحاسم. غير أن العرب لما كانوا يكرهون ولادة البنات على ما حكته عنهم آيات عديدة في سياق مجادلة المشركين في هذه العقيدة وتسفيه عقولهم منها آيات سورة النحل هذه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) سلكت الآيات سبيل التأنيب في مساجلتهم تسفيها لعقولهم وسخرية من تناقضهم إذ يفضلون الذكر ويسيغون أن يكون لله غير المفضل.
وقد علّقنا بما فيه الكفاية على عقيدة الكفار في الملائكة وكونهم بنات الله وعبادتهم لهم ليكونوا شفعاء لديه في سياق تفسير سورة النجم فلا نرى ضرورة للإعادة. غير أننا ننبه إلى أن مضمون الآيات هنا يلهم أن العرب المشركين كانوا يرون أنهم على حقّ في عقيدتهم هذه وكانوا يجادلون عنها بقوة وعناد، فتحدتهم الآيات بقوة مماثلة وشددت عليهم بالتسفيه والسخرية.
[سورة الصافات (37) : الآيات 158 الى 159]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
. في الآية الأولى إشارة تبكيتية إلى عقيدة من عقائد المشركين، وهي زعمهم بوجود نسب بين الله والجنة. وردّ تكذيبي عليهم في صورة تقرير كون الجنة يعلمون أن قائلي هذا الزعم محضرون إلى عذاب الله يوم القيامة، واحتوت الآية الثانية تعقيبا تنزيهيا عما يصفه المشركون ويزعمونه.
والمتبادر أن الآيتين غير منفصلتين عن السياق، وقد جاءت تحكي عقيدة أخرى من عقائد المشركين بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات السابقة عنهم.(4/234)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
تعليق على جملة وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً
ولقد تعددت الأقوال والروايات في مفهوم ومدى العقيدة التي حكتها الآية الأولى»
فمنها أن كلمة الْجِنَّةِ تعني الملائكة لأنهم مغيبون لا يرون، وأن الآية بسبيل التنديد بعقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله. ومنها أن الجنة قبيل من الملائكة الذي منه إبليس. ومنها أنها تعني عقيدة إشراك الجن مع الله وعبادتهم.
وهي ما ذكرت في آية سورة الأنعام [100] السابقة ومنها أن الله أصهر إلى الجن فكان الملائكة نتاج ذلك.
ونحن نستعبد أن يكون المقصود أحد القولين الأولين ونرى القولين الأخيرين أوجه بل ونرى أن مضمون الآية يجعل الرجحان للقول الأخير منهما.
وقد ذهب إلى ذلك الزمخشري وأبو السعود وابن كثير في تفسيرهم للآية. ونص الرواية التي أوردها الأخير «قال مجاهد قال المشركون: الملائكة بنات الله، فقال أبو بكر: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سروات الجن» .
وفي هذه العقيدة العربية إذا صحت الروايات التي قد تلهم الآية صحتها طرافة في مجال الخيال الديني. فالجن ناريون والملائكة نورانيون ومصاهرة الله للجن صفّت من نارهم نورا فكان منه الملائكة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 160 الى 163]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
. (1) فاتنين: مضلين.
(2) صال الجحيم: الذي أهّلته أعماله ليكون من أهل النار أو يصلى النار.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والزمخشري والبغوي والخازن.(4/235)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
الآية الأولى ترديد لآية صارت بمثابة لازمة في هذه السورة حيث تكررت عقب فصولها مرارا وفيها تنزيه واستثناء لعباد الله المخلصين من أن يكونوا كالكفار والمشركين وأن يصيروا إلى مصائرهم. والآيات الثلاث التالية احتوت خطابا تنديديا موجها إلى الكفار المشركين بضمير المخاطب، تقول لهم فيه إنكم وما تعبدون من دون الله لن تستطيعوا أن تفتنوا وتضلوا إلّا من خبثت نيته واستحق أن يصلى النار.
والآيات متصلة بما سبقها كما هو المتبادر. ولعلها تنطوي على دلالة على ما كان من جهد زعماء المشركين بسبيل المناضلة والمجادلة عن عقائدهم ومحاولتهم إقناع الناس بفضلها وصحتها حيث ينطوي في ذلك صورة من صور السيرة النبوية واعتداد المشركين بأنفسهم وعقائدهم وقد تكرر ذلك على ما نبهنا إليه في بعض المناسبات السابقة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 166]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
. وفي الآيات تقرير صادر من عباد مخلصين بأن كلا منهم عارف حده ومقامه وأنهم جميعا صافون لله مسبحون مقدسون له.
تعليق على آية وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ والآيتين التاليتين لها
وقد قال المفسرون «1» إن المحكي كلامهم هم الملائكة، وإن فيها تكذيبا للمشركين الذين عبدوا الملائكة على اعتبار أنهم بنات الله أو قالوا إن بينه وبينهم
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن والبغوي والطبري.(4/236)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
نسبا. والقول وجيه مؤيد بسبق ذكر عقائد المشركين في الملائكة وعلى هذا فيكون بين الآيات وسابقاتها صلة وإن بدت كأنما جاءت معترضة في السياق.
ويلفت النظر إلى أن العبارة لا تحتوي ما يدل على أنها حكاية لأقوال المقررين وإنما هي تقرير مباشر منهم. ولا يذكر المفسرون تعليلا وتأويلا فيما اطلعنا عليه.
والآيات مماثلة أسلوبيا لآيات سورة مريم [64- 65] التي سبق تفسيرها وفيها كذلك مماثلة موضوعية لأن آيات مريم تحكي كلاما للملائكة أيضا ولقد علقنا على هذه الصورة الأسلوبية من صور الوحي القرآني بما فيه الكفاية في سياق تفسير آيات سورة مريم فلا نرى ضرورة للزيادة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 167 الى 170]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
. في الآيات حكاية لما كان يقوله الكفار وهو: لو جاءهم ما جاء الأمم السابقة من ذكر الله وكتبه لآمنوا وكانوا عبادا مخلصين لله وحده. وردّ تنديدي عليهم فقد جاءهم ما كانوا يتمنون فكفروا به ونقضوا عهدهم وقولهم. وإنذار لهم على موقفهم، فلسوف يعلمون ويرون عاقبته السيئة.
والآيات غير منقطعة عن السياق، ومعطوفة على ما سبقها ومن نوعه من حيث حكايتها لأقوال الكفار وردها عليهم.
وهذا الذي حكته الآيات عن الكفار قد حكي عنهم أكثر من مرة في القرآن، وحكي عنهم في السورة السابقة لهذه السورة. ويظهر أن ذلك كان رغبة أو أمنية واسعة النطاق كثيرة الترديد فاستحكمتهم الحجة والتنديد استحكاما شديدا لتناقضهم بين القول والفعل.
ولقد علقنا على الموضوع في سياق تفسير الآيات [42- 43] من سورة فاطر(4/237)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
والآيات [155- 157] من سورة الأنعام بما فيه الكفاية فلا ضرورة للإعادة والزيادة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
. (1) وأبصرهم فسوف يبصرون: أنظرهم أو أنذرهم فسوف يرون تحقيق ما ينذرون.
في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى قد وعد أنبياءه ورسله بالنصر وبأن جنده وحزبه هم الغالبون في النهاية. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكفار وعدم المبالاة بهم واستمهالهم إلى الأمد المحدود المعين في علم الله فسوف يرون تحقيق وعيده. وتساؤل ينطوي على التبكيت والوعيد عما إذا كان الكفار يستعجلون عذاب الله حقا. وتقرير بأن هذا العذاب حينما يقع عليهم فإن صباح وقوعه يكون عليهم سيئا مشؤوما. وتكرار الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عنهم ويمهلهم إلى الأمد المحدود ويؤكد لهم رؤية ما يوعدون به. وتنزيه لله عما يصفه به الكفار وينسبونه إليه وتحية ربانية لرسل الله وتقرير بحمد الله رب العالمين الجدير وحده بذلك.
والآيات كما هو المتبادر جاءت معقبة على ما انتهت إليه الآيات السابقة من إنذار الكفار وخاتمة لفصول المناظرة وخاتمة للسورة معا. وقوة هذه الخاتمة ملموسة نافذة، شأن كثير من خواتم حكاية مواقف الكفار ومشاهد مناظراتهم مع النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد استهدفت فيما استهدفته توكيد الإنذار الرباني وإثارة الخوف في قلوب الكفار وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتثبيتهم.(4/238)
وصيغة الآيات تحتمل أن يكون الإنذار فيها بما سيحدث للكفار في الدنيا، ويحتمل أن يكون بمصيرهم في الآخرة، ويحتمل أن يكون بما يكون لهم في الدنيا والآخرة على السواء. وهذا مما تكرر في القرآن ومن شأنه بعث القوة والثقة والثبات والشعور بالاستعلاء والنصر النهائي في نفس النبي وأصحابه من دون ريب. على أن الآيات قد صارت مصداقا لمعجزة ربانية بما تحقق من وعد الله بالنصر الذي تم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على زعماء المشركين وبصيرورة كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين السفلى.
وجملة فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ مما تكرر معناها بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها. وهي هنا كما هي في المواضع الأخرى بسبيل التثبيت والتسلية والتبشير والتطمين بنصر الله الذي وعد بالآيات التالية لها. وليست بقصد الإيعاز للنبي صلى الله عليه وسلم بالانصراف عن إنذارهم ودعوتهم. لأن هذا من مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الأساسية التي لا يمكن أن ينقطع عنها وتوالي نزول القرآن بذلك مما يؤيد هذا.(4/239)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة لقمان
في السورة تنويه بالمؤمنين المحسنين وتقريع للكافرين المعطلين المستكبرين. وحكاية لبعض أقوالهم. وردود مفحمة عليهم وإشارة إلى لقمان وحكمته وجملة من مواعظ لابنه على سبيل ضرب المثل والحث على كريم الأخلاق والمبادئ. واستدراك في صدد طاعة الوالدين وتنويه بعظمة الله وسوابغ نعمه على الناس. وحث على الاستجابة إلى الدعوة وعدم إضاعة الفرصة. وتنديد بتمسك المشركين بتقاليد الآباء رغم سخفها وبطلها.
وأسلوب السورة وترابط فصولها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [27- 29] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآيات وتواثقها مع سائر الآيات السابقة واللاحقة لها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
(1) المحسنون: هنا بمعنى الذين يعملون الأعمال الحسنة أو الذين يحسنون فيما يعملون أو يعملون أكثر مما يجب عليهم عمله.(4/240)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
بدأت السورة بحروف الألف، واللام، والميم، لاسترعاء السمع والذهن لما بعدها. وأعقبها إشارة تنويهية إلى آيات الكتاب المحكم في أسلوبه وأهدافه وعظاته، الذي فيه الهدى والرحمة لمن حسنت نيتهم وأعمالهم، التي منها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان اليقيني بحقيقة الحياة الأخروية وما وعد الله فيها.
فهؤلاء هم على هدى الله وهم الناجحون الفائزون.
وصيغة الآية الخامسة تنطوي كما هو المتبادر على التنويه بشأن الذين تحققوا بالصفات الثلاثة التي جمعت الآية الرابعة بينها، وينطوي فيها بطبيعة الحال حثّ على التحقق بها. وروح الآية الثالثة ومضمونها يلهمان تقرير كون الذين ينتفعون بآيات الكتاب ويكون لهم فيها هدى ورحمة هم ذوي القلوب السليمة والروح الطيبة الراغبة في الحق والخير والهدى. ولقد نبهنا إلى ما في التنويه بالمحسنين من مقصد جليل في تعليق كتبناه على الكلمة في سورة المرسلات التي سبق تفسيرها. وهذا المقصد الجليل بارز في هذه الآيات بروزا قويا كما هو المتبادر.
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
. (1) لهو الحديث: الباطل من الحديث الذي يلهي عن الحقيقة.
(2) وقر: صمم.
الجزء الرابع من التفسير الحديث 16(4/241)
(3) عمد: جمع عمود أو عماد أي سند.
(4) تميد بكم: تتحرك بكم.
(5) من كل دابة: من كل نوع من أنواع الحيوان.
(6) زوج: بمعنى صنف.
في الآيات تنديد بفريق من الناس يتمسكون بالأحاديث الباطلة ليضلوا بها سامعيها عن سبيل الله دون علم. وحينما تتلى عليهم آيات الله استكبروا وولوا كأنهم لم يسمعوها أو كأن في آذانهم صمما يحول دون سماعها. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار هؤلاء وتبشيرهم بعذاب الله المهين الأليم. وهناك مقابلهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقد وعدهم الله جنات النعيم وعدا حقا وهو العزيز القادر على تحقيق وعده الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمة وإتقان، والذي من آياته الباهرة خلق السموات وإمساكها بدون سند يراه الناس، وإرساء الجبال فوق الأرض لئلا تتحرك من تحتهم وتكبهم، وبثّه فيها من كل نوع من أنواع الدواب وإنزاله الماء من السماء وإنباته به من كل صنف كريم من صنوف النبات.
وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين وتحديهم: فهذا ما خلق الله وأبدع فما الذي خلقه غيره من الآلهة التي يشركها الناس معه بالعبادة والاتجاه. ثم قررت حقيقة أمر الظالمين الذين يدعون غير الله فهم في ضلال ليس بعده ضلال.
وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية الأولى عنت النضر بن الحرث الذي كان يرحل إلى بلاد فارس ويعود منها فيقول للناس إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أستطيع أن أحدثكم عن رستم وإسفنديار وإن حديثي لأشهى من حديثه. والرواية محتملة مع التنبيه على أنها تكررت في مناسبات عديدة ومع التنبيه كذلك على أن الآيات وحدة منسجمة بحيث يمكن القول إنها نزلت جميعها- وليست الآية الأولى فقط- في صدد الموقف الذي ذكرته الرواية أو موقف مماثل له فيه تشويش من بعض نبهاء الكفار على القرآن. ومقابلته ما يتلى عليه منه بالاستهزاء
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن.(4/242)
والاستخفاف والإعراض والاستكبار. ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف وجاهيا كما أن من المحتمل أن تكون الآيات الأولى من السورة جاءت كمقدمة تمهيدية له.
تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وحديث ورد في صددها في الغناء والمغنيات
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل في الصدد الأول أن جملة لَهْوَ الْحَدِيثِ تعني الغناء. وأوردوا حديثا رواه الترمذي أيضا عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلّموهنّ ولا خير في تجارة فيهن وثمنهنّ حرام» «1» وفي مثل هذا أنزلت الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) ولقد علق ابن كثير على الحديث قائلا إنه غريب وإن أحد رواته وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء.
ومع هذه العلل فإذا صح الحديث فيكون فيه استلهام نبوي في العهد المدني من تلقين الآية وحسب. ومع أن الغناء في حدّ ذاته يمكن أن يوصف بصفة (اللهو) فالمتبادر من روح الآيات ومضمونها أن المقصود من الكلمة هو أوسع شمولا من الغناء بحيث يمكن أن تتناول كل باطل من قول وعمل مؤدّ إلى احتلال الناس وصرفهم عن الحق والطريق السوي والتلهي بذلك والاستهزاء والاستهانة به عن الحق. ولقد أورد الطبري الأقوال ثم قال إن الكلمة عامة تتناول الغناء والشرك وتتناول كل ما نهى الله ورسوله عن سماعه والاشتغال به، وهذا هو المتبادر من روح الآيات كما ذكرنا.
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 180 والقينات تعني المغنيات.(4/243)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
تعليق على وصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس وعلى وصف السماء بأنها رفعت بدون عمد
ووصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس ووصف السماء بأنها رفعت بدون عمد يراها الناس قد تكرر في سور أخرى ترتيبها متأخر عن هذه السورة. والإيمان بما جاء في القرآن في صدد المشاهد الكونية واجب مع واجب الوقوف عند ما اقتضت الحكمة وحيه بالأسلوب الذي جاء به واستشفاف الحكمة في ذلك. والمتبادر من ذلك أن هذا الوصف مما كان مستقرا أيضا في أذهان السامعين الذين كانوا يعترفون بالله وكونه خالق السموات والأرض على ما ذكرناه في مناسبات سابقة فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها من خلال ذلك بقدرة الله وإبداعه والتدليل على شمول قدرته للبعث والجزاء الأخرويين أيضا. وعلى كل حال إن القرآن لم يقصد تقريرات فنية لأن ذلك خارج عن هدفه في الهداية والإرشاد على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وعلى ضوء هذا الشرح تبدو الآيات قوية رائعة في تذكيرها وتنويهها وتحديها، والله أعلم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(4/244)
(1) الحكمة: حسن التدبر والإدراك وبعد النظر وسعة العقل.
(2) الجمهور على أن جملة (أن أشكر لله) وما بعدها هي خطاب رباني للقمان أي أننا آتيناه الحكمة وأمرناه أن يشكر الله إلخ.
(3) وهنا على وهن: ضعفا على ضعف. أي حملته أمه على ضعفها فزاد ضعفها بحمله.
(4) فصاله في عامين: إرضاعه عامين ثم فطمه حيث كان العرب يرون ذلك هو الأفضل. وقد جاء هذا صريحا في آية سورة البقرة هذه: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [233] والفصال بمعنى الفطام.
(5) إن جاهداك: إن بذلا جهدهما معك وألحّا عليك.
(6) وصاحبهما في الدنيا معروفا: وعاشرهما وكن لهما صاحبا رفيقا في الدنيا مما هو متعارف عليه ومحمود من الأبناء للآباء.
(7) من أناب إليّ: من آمن بي وسلك سبيلي واتجه إليّ.
(8) المعروف: كل ما هو متعارف على أنه خير وصالح وطيب.
(9) المنكر: كل ما هو متعارف على أنه شر وضار وخبيث.
(10) لا تصعّر خدك للناس: تصعير الخد بمعنى لوي الوجه أو العنق والجملة بمعنى النهي عن التكبّر والزهو والخيلاء.
(11) مرحا: بطرا وزهوا.
(12) المختال: الذي يمشي متمايلا منتفخا بالكبر والزهو.
(13) فخور: الذي يتفاخر بنفسه وقوته وماله.
(14) اقصد في مشيك: اعتدل وتوسط في مشيك أو تأنّ بدون اختيال.
(15) اغضض من صوتك: اخفض صوتك وخففه.(4/245)
(16) أنكر الأصوات: أقبح الأصوات وأشدها بعثا على الإنكار والاشمئزاز، ولعل المناسبة هي علو صوت الحمير حيث جاء التشبيه مقابل الأمر بالغض من الصوت وعدم رفعه.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع.
وبيّن له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة. وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثّه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان.
ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر:
1- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضرّه كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
2- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون(4/246)
الدنيا من جهة، واتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائرا في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جمعيهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
3- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
4- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في قول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة «1» .
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.(4/247)
مشتق من (لقم) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له: لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن.
ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار «2» . منها المعقول ومنها الغريب.
وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له: (أنت لقمان عبد بني الحسحاس؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم؟ قال نعم. قال أنت الأسود؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال: «غضّي بصري وكفّي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى» . ومما أورده الطبري «إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا» . وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي آتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليس من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 2 ص 34- 36.
(2) انظر كتب التفسير المذكورة سابقا.(4/248)
المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يرد في القرآن من ذلك ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في كلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورتي النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه إلى أقوامهم من ذلك في سياق السور التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذرّ عن رسول الله عن الله تعالى قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر» . وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقا» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق» . وحديث رواه مسلم(4/249)
وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد» .
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [14 و 15] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بين ما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورتي الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البرّ بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبرّ بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود طاعة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم اتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل وهو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آية سورة الممتحنة هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» .
__________
(1) التاج ج 3 ص 40.(4/250)
ولقد ذكرت الروايات «1» أن الآيتين نزلنا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش فأخذت أمه تحاول ردّه عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبرّ بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقتضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالة سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارة على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين وولد مؤمن، وكان فيه تساؤل وحيرة وأزمة نفسية. وقد تكرر هذا في سورة العنكبوت أيضا حيث جاء فيها هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) مما يسوغ القول أن المسألة لم تكن مسألة شخص سعد لحدته، وإنما كانت أكثر من شخص.
وهذا مما أوضحته روايات السيرة «2» التي ذكرت عددا غير يسير من شباب قريش وفتيانهم آمنوا بالرسالة المحمدية رغم بقاء آبائهم على الكفر والشرك، وتعرضوا لاضطهاد وضغط آبائهم، وهاجروا إلى الحبشة نتيجة لذلك مثل خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف، وأخوه عمرو وامرأته فاطمة بنت صفوان، والأسود بن نوفل بن خويلد وعامر بن أبي وقاص، والمطلب بن أزهر بن عوف وامرأته رملة بنت أبي عوف، وعبيد الله بن جحش وامرأته رملة بنت أبي سفيان، وعثمان بن ربيعة، ومعمر بن عبد الله ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس وامرأته عمرة، ويزيد بن زمعة بن الأسود وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم.
ومما روي عن سعد «3» أن أمه اشتدت في الإلحاح عليه وقالت له: لأضربن
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري.
(2) انظر ابن هشام ج 1 ص 340 وما بعدها.
(3) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري.(4/251)
عن الطعام حتى أهلك فيعيرك الناس، فقال لها: يا أمه والله لو كان لك مائة نفس وخرجت منك واحدة بعد أخرى ما تركت ديني وفي هذا صور رائعة من صور السيرة النبوية.
ومن المتبادر أن يكون الشباب الذين آمنوا رأوا أنفسهم في حرج لأن آيات الإسراء والأنعام تأمرهم بالبرّ والإحسان بوالديهم إطلاقا فأفضوا بحرجهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمة التنزيل نزول هذه الآيات للاستدراك ورفع الحرج وفي هذه صورة من صور تطور التنزيل القرآني.
تعليق على وصف الشرك بالظلم العظيم
ووصف الشرك بالظلم العظيم جدير بالتنويه لما فيه من تعظيم إثم الشرك.
ويتضح عظم هذا الإثم ومصداق هذا الوصف إذ يلاحظ أن المشرك يجني على نفسه جنايات متنوعة فهو أولا يناقض نفسه ويظهرها في مظهر السخف والغباء في اعترافه بالله الخالق المدبر النافع الضار، ثم إشراك غيره معه في الدعاء والاتجاه والعبادة. وثانيا يعرض نفسه لسخط الله وغضبه في شذوذه عن الحق وما يجب عليه من الإخلاص له وحده وفي تسويته بينه وبين بعض خلقه. وثالثا يخضع نفسه لمفهومات وتصورات وقوى باطلة لا حقيقة لها وليس من شأنها أن تجلب له خيرا أو تدفع عنه ضرا.
تعليق على اختصاص الأم بالذكر
واختصاص الأم بالذكر جدير بالتنويه أيضا حيث ينطوي فيه من ناحية تنبيه إلى الحنان العظيم الذي تمنحه الأم لوليدها، ومن ناحية تنبيه إلى ما يجب على الأولاد نحو أمهاتهم خاصة من واجب البر والرحمة. ولقد أخرج البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة جاء فيه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحقّ الناس بحسن صحبتي يا رسول الله؟ قال له: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثم(4/252)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك «1» . وأخرج الترمذي وأبو داود حديثا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله من أبرّ؟ قال:
أمّك، ثم أمّك ثم أمّك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب «2» . وأخرج الطبراني حديثا عن طلحة بن معاوية السلمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: أمّك حيّة؟ قلت: نعم، قال: الزم رجلها فثمّ الجنة «3» .
وأخرج الطبراني أيضا حديثا عن أبي أمامة جاء فيه إن أول ما تفوّه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن وصّى بالأمهات «4» ، حيث يبدو التساوق بين تنويه كتاب الله عز وجل ووصايا رسوله صلى الله عليه وسلم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
. (1) أسبغ: أتمّ أو أوفى.
وجّه الكلام في الآية الأولى إلى السامعين المخاطبين على سبيل الالتفات فنبهوا إلى ما سخّره الله لهم من وسائل وقوى في السموات والأرض، وما أسبغه عليهم من نعمه الظاهرة والباطنة مما يقع تحت مشاهدتهم الحسية، ويرون آثاره في أنفسهم وما يحيط بهم ومما يكفل لهم السلام والقوة والرخاء. ثم أشير إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون رغم ذلك في الله ووحدته وعظمته وحقه وحده بالخضوع والإخلاص جدالا لا يستند إلى علم وهدى ولا كتاب. واستمرت الآية
__________
(1) التاج ج 5 ص 4.
(2) الجزء نفسه ص 5.
(3) مجمع الزوائد ج 8 ص 138. [.....]
(4) الجزء نفسه ص 139.(4/253)
الثانية في التقريع بهم، وحكت ما يقولون إذا ما دعوا إلى اتباع ما أنزل الله حيث كانوا يجيبون أنهم يفضلون اتباع ما وجدوا عليه آباءهم. وانتهت الآية بسؤال استنكاري لاذع عما إذا كان هؤلاء يقفون هذا الموقف العنيد ولو كان الشيطان هو الذي يمليه عليهم ويدفعهم به إلى عذاب السعير في الحقيقة وواقع الأمر.
وفي الآيتين وصل بين أجزاء المشهد الذي بدىء بحكايته في آيات السورة الأولى والذي اعترضته آيات لقمان على سبيل الاستطراد وضرب المثل إذا ما أمعن النظر فيها.
وقد روي «1» أن الآيتين نزلتا في الحارث بن النضر وآخرين من زعماء المشركين كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في صفات الله وشفاعة الملائكة وصلة عقائدهم بالله وكون ما هم عليه وما كان آباؤهم عليه هو الأولى بالاتباع. وروح الآيتين تتسق إجمالا مع الرواية وتلهم أنهما بسبيل وصف موقف جدل وحجاج مع زعماء الكفار مثل الآيات الأولى من السورة. وكل ما هناك أن تسلسل السياق يلهم أن الآيتين لم تنزلا لحدتهما من أجل هذا الموقف وإنما احتوتا الإشارة إليه في سياق حكاية مواقف الكفار ومشاهد جدلهم بصورة عامة.
ولذعة الفقرة الأخيرة من الآية الثانية قوية حقا، وفيها صدى للصرخة القوية الجريئة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجهها بلسان القرآن إلى الكفار وزعمائهم حينما تنعقد بينهم وبينه مواقف مناظرة أو يحتدم الجدل واللجاج.
تعليق على الحملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء
والآية التي احتوت حكاية قول الكفار بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا والتنديد بهم فيها بسبب قولهم تأتي بصيغتها لأول مرة. وقد تكرر فحواها مرارا في القرآن المكي والمدني حيث يدل هذا على شدة تمسك كفار العرب بتقاليد آبائهم واعتبارهم إياها مقدسة واعتبار الدعوة إلى تركها بدعة وعدوانا. ومن المرجح أن الموقف الشديد الذي وقفوه من الدعوة النبوية التي فيها تهديم لكثير من تلك
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والطبرسي وغيرهما.(4/254)
التقاليد متأتّ من ذلك أو أن ذلك من أهم أسبابه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا ليس خاصا بالعرب وإنما هو قدر مشترك بين الناس جميعا حيث لا يستسيغ التساهل في التقاليد الموروثة أو تركها إلّا الفئة النيرة الفتية التي تفتحت أذهانها ولم تكن تلك التقاليد راسخة فيها.
ولعل هذا يفسّر لنا حكمة الله عز وجل في اختصاص النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولما يتجاوز سنّ الشباب، ويفسر لنا كون معظم أفراد الرعيل الأول من السابقين إلى الإسلام هم من زمرة الشباب وغير المتقدمين في السن كأبي بكر وعمر وعثمان وسعد وعلي وأبي عبيدة وجعفر وأبي سلمة وخالد بن سعيد وطلحة والزبير وسعيد وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم. ولعل بين هذا الذي نقرره في مناسبة الآيتين وبين آيات لقمان ثم بينه وبين تقرير سقوط حق الطاعة على الأبناء إذا ما أرادهم آباؤهم على الشرك مناسبة قوية أيضا. فكثير من أفراد هذا الرعيل من قريش شبّانا وفتيات آمنوا رغم آبائهم بل ومنهم من كان آباؤهم يقودون حملة المعارضة الشديدة ضد النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. ولقد بقي معظم شيوخ بني هاشم عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم الأقربين على الشرك تمسكا بتقاليد الآباء وفي مقدمتهم أبو طالب عمّه وحاميه وأبو جعفر وعليّ اللذين اتبعا دين ابن عمهم وأسلما في أول الدعوة، مع أنهم كانوا يعلنون حمايتهم له بدافع العصبية.
وغني عن البيان أن التنديد القرآني بالتمسك بتقاليد الآباء التي لا تستند إلى علم وحق ومنطق يحتوي تلقينا عاما مستمر المدى في صدد تقبيح التمسك بالتقاليد الموروثة تمسكا أعمى والاعتذار بها عن اتباع ما هو الأفضل، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
تعليق على جملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً
وجملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ(4/255)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
ظاهِرَةً وَباطِنَةً
مستمدة من مشاهدات الناس وممارساتهم وأن سامعي القرآن مباشرة يعرفون مداها، فقصدت حكمة التنزيل تنبيههم إلى ما يعرفون ويتمتعون به من فضل الله عليهم، وواجب الاعتراف به والشكر على ذلك. ولا نراها من جهة أخرى تقتضي أن يكون معناها إن الله خلق السموات والأرض وما فيهما لأجل بني الإنسان خاصة ولكنها قد تنطوي مع ذلك على تقرير اختصاصهم دون غيرهم من الأحياء بالتغلب على ما في السموات والأرض من قوى ونواميس وتسخيرها والانتفاع بها نتيجة لما اختصهم به من تكامل عقلي. وهكذا يكون هذا المعنى قائما واسع المدى متساوقا مع تطور العقل والفكر والمعارف الإنسانية والنشاط الإنساني في كل ظرف ومكان. ويكون قد انطوى على حث الإنسان والمسلمين بخاصة على الانتفاع بهذه القوى والنواميس بمختلف الأساليب والوسائل والصور.
وقد تكرر تقرير ذلك فيما يأتي من السور. وفي بعضها يبدو المعنى أوضح على ما سوف ننبه عليه في مناسباته.
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
. معاني الآيات واضحة، وقد جاءت معقبة على سابقاتها كما هو المتبادر، واحتوت في الوقت نفسه تسلية للنبي على عناد الكفار وأقوالهم وتمسكهم بتقاليد الآباء الباطلة وإنذارا لهم فلا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحزن من كفرهم. وقصارى أمرهم متعة قصيرة الأمد ثم يصيرون إلى العذاب الشديد الخالد الذي استحقوه. واحتوت كذلك حثّا على إسلام النفس لله عز وجل والاتجاه إليه وحده والجمع بين ذلك وبين الأعمال الحسنة الصالحة وتنويها بالذين يفعلون ذلك. فإنهم يستمسكون بعروة وثقى لا تنفصم.
وأسلوب الآيات من الأساليب الصريحة المحكمة التي تقرر كسب الناس(4/256)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
لأعمالهم واستحقاقهم للجزاء وفق ذلك والتي تكرر أمثالها كثيرا.
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
. الآيتان استمرار في السياق التعقيبي وفيهما التفات إلى المشركين وتنديد بهم بسبب ما يبدو منهم من تناقض، فلو سئلوا عمن خلق السموات والأرض لأجابوا أنه الله ثم يقفون من الدعوة إليه وحده ومن رسوله موقفهم العنيد العجيب. وقد أمرتا النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحمد الله على هداه، وقررتا حقيقة أمر الكفار وهي أن أكثرهم جاهلون فيقعون في التناقض جهلا وحمقا. كما قررتا حقيقة من حقائق الله عز وجل وهي أن كل ما في السموات والأرض له، وأنه الغني عن الناس، المستوجب للوجود والحمد، سواء آمنوا به أم جحدوه.
والآية الأولى صريحة في تقرير عقيدة مشركي العرب بكون الله هو الخالق الرازق المتصرف في الكون مما حكته آيات عديدة أخرى مرّت أمثلة منها في السور السابقة. ومن هنا جاء الإفحام قويا مستحكما ضدهم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 30]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
. (1) كلمات الله: المتبادر أنها تعني آياته ومخلوقاته ومشاهد ربوبيته ونواميسه الكونية وحكمه.
الجزء الرابع من التفسير الحديث 17(4/257)
في الآيات:
1- تقرير بأنه لو قطّعت كل شجرة في الأرض وجعلت قطعها أقلاما وصار البحر ومعه سبعة أبحر مدادا لتدوين آيات الله وآلائه ومشاهد ربوبيته ونواميسه ومخلوقاته وحكمه لنفدت الأقلام والمداد ولم تنفد هذه الآيات والآلاء والمشاهد والنواميس والمخلوقات والحكم، فهو العزيز الجانب القادر الحكيم في كل ما يقضي ويخلق ويشاء.
2- وتقرير آخر بأن خلق الناس جميعا وبعثهم جميعا بالنسبة إليه ليس إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها. وهو السميع لكل ما يقال، البصير لكل ما يكون.
3- وسؤال في معنى التقرير بأن الله هو الذي يعاقب بين الليل والنهار فيدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر ليجريا وفقا للنظام الذي رتبه لهما إلى الأجل المعين في علمه وحكمته. وأنه هو الخبير بكل ما يفعله الناس، وأن في هذه المشاهد التي يراها الناس بأعينهم ويتمتعون بفوائدها أقوى الأدلة على قدرته وعظمته وأفضاله، وأنه هو الحق وحده المستحق للعبادة والدعاء والخضوع وحده، وأن ما عداه مما يدعوه المشركون باطل، وأنه هو العلي الكبير الذي لا يدانيه شيء في علوه وعظمته.
والمتبادر أن الصلة بين هذه الآيات والآيات السابقة وثيقة وأنها استمرار في تقرير المعاني التي احتوتها تلك الآيات وتوكيد لها من جهة، ولإفحام المجادلين المكابرين الذين حكيت أقوالهم ومواقفهم وعقائدهم في تلك الآيات من جهة أخرى.
وقد جاءت بأسلوب قوي نافذ إلى القلوب والعقول معا، وتضمنت فيما تضمنته حقيقة يقينية يظهر كل يوم مظهر من مظاهرها وأثر من آثارها فيما ينكشف للناس نتيجة لتقدم العلوم من عظمة كون الله ونواميسه وحكمته وتجاوز ذلك كل معنى من معاني التحديد مما يثير الدهشة والذهول.
والآية الثانية [28] جاءت بأسلوب المخاطب. ونرجح أنها موجهة للمشركين الذين ينكرون البعث الأخروي بسبيل الرد عليهم. فهم يعترفون بأن الله(4/258)
هو الذي خلق السموات والأرض كما جاء في الآية [25] وهم يعترفون بأن الله هو الذي خلقهم كما جاء في آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) فمن المناقضة أن يعترفوا بقدرة الله بدءا وينكروها إعادة، ومن الغباء أن يظنوا أن هناك تحديدا لقدرة الله وفرقا بالنسبة إليها بين خلق فرد وبين خلق جميع الناس وبعثهم، وفي ما هو ماثل أمامهم من عظمة كون الله الذي يعترفون بخلقه إياه وبآياته ونواميسه الباهرة فيه برهان لا يدحض على ذلك.
وجملة أَلَمْ تَرَ التي تبدأ بها الآية الثالثة قد تلهم أن سامعي القرآن يعرفون ويفهمون مدى ما احتوته الآيات من نواميس كونية ربانية، وبذلك يستحكم في المشركين منهم التنديد القرآني بقوة أشد، والله تعالى أعلم. وفي القرآن آيات فيها جملة أَوَلَمْ يَعْلَمُوا في مقام (أولم يروا) كما هو الأمر في الآية [37] من سورة الروم والآية [52] في سورة الزمر.
تعليق على رواية مدنية الآيات [27، 28، 29]
ولقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [27 و 28 و 29] مدنيات. ولقد روى الطبري عن ابن عباس: «أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يا محمد أرأيت قوله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الإسراء: [85] . إيانا تريد أم قومك فقال: كلاكما. فقالوا ألست تتلو فيما جاءك إنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء؟ فقال: إنها في علم الله قليل وعندكم من ذلك ما يكفيكم فأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ... إلخ [27] ونحن نتوقف في هذه الرواية وفي رواية مدنية الآيات بالتبعية لأنها منسجمة مع ما قبلها وبعدها انسجاما وثيقا سبكا ومعنى وتوجيها وموضوعا على ما يبدو عند إنعام النظر. ولا تفهم أي حكمة لوضعها لو كانت مدنية في هذا السياق.
وقد روى بعض المفسرين «1» أن بعض المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.(4/259)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
السؤال بإيعاز من اليهود. وقد يكون هذا صحيحا لأن من المشركين من كان يحاول إفحام النبي صلى الله عليه وسلم ومحاجته في ما يتخيله من تناقض في ما يتلوه من الفصول القرآنية. وقد كان في مكة والمدينة يهود كثيرون، ولا يبعد أن يكون بعضهم وسوس لبعض المشركين بإلقاء ذلك السؤال بقصد التعجيز والإفحام وإظهار التناقض أيضا.
غير أن الذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها منفصلة عن ما سبقها ولحق بها، والصلة الوثيقة بين ما سبقها ولحق بها بارزة.
وكل ما يحتمل أنها احتوت ردا على ما أورده أو احتج به بعض المشركين أو بعض الكتابيين في موقف من المواقف.
[سورة لقمان (31) : الآيات 31 الى 32]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
. (1) صبّار: شديد الصبر والثبات.
(2) الظلل: جمع ظلة. وهي هنا كناية عن عظمة الموج وارتفاعه حتى كأنه يظلل الركاب والسفن.
(3) مقتصد: معتدل في جحوده وغلوائه. ومن المفسرين «1» من أوّل الكلمة بأنه الذي كفّ عن غلوائه ووفى بعهده بالإخلاص لله بعد أن نجاه الله من خطر البحر. ولا يخلو التأويل من وجاهة بقرينة الجملة التي أتت بعد الكلمة.
(4) ختّار: شديد الختل والغدر.
__________
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي.(4/260)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
في الآية الأولى سؤال تقريري بقصد لفت النظر إلى أحد النواميس الكونية في سير المراكب فوق البحار، وما في ذلك من نفع للناس، وفرص لمشاهدتهم آثار الله وآياته في كونه. فإن ذلك هو من نعم الله، وفيه دلائل راهنة على عظمته وقدرته، يدركها الصابرون الثابتون عند حدود الله، الشاكرون لنعمه وأفضاله.
وفي الآية الثانية حكاية تنطوي على التعجب والتقريع لحال بعض الناس الذين يركبون البحر، فإذا تعاظمت أمواجه حتى أصبحت كالظلل من فوقهم، وأحدق بهم الخطر ذكروا الله وحده ودعوه وحده مخلصين له الدين. فإذا ما نجاهم إلى البرّ فمنهم من يكفّ عن غلوائه ويبقى على إخلاصه الذي عاهد الله عليه، ومنهم من ينكث ويغدر، وهذا دأب الختار الجحود.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع وأسلوب.
ولقد روي «1» أنهما نزلتا في عكرمة بن أبي جهل الذي فرّ من مكة حينما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم وركب البحر فأحدق به الخطر فعاهد الله لئن نجاه ليؤمنن فنجاه فآمن.
ويلحظ أن الآيتين مكيتان ولم نقع على رواية لمدنيتهما أولا. وأنهما منسجمتان مع السياق أسلوبا وموضوعا ثانيا. وأن مثل هذا قد تكرر في آيات مكية كما جاء في آيات سورة يونس [22- 23] التي سبق تفسيرها ثالثا. ومع ذلك فقد يلمح فيهما صورة جديدة في حادث واقعي. ولا يبعد أن يكون بعض المكيين قاموا برحلة بحرية فأحاق بهم الخطر فدعوا الله وحده وعاهدوه على البقاء على ذلك أو الإيمان برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم فلما نجوا وعادوا إلى مكة وفّى بعضهم بعهده، فكفّ عن موقفه الجحودي واعتدل أو آمن، في حين نكث الآخرون عهدهم وغدروا وعادوا إلى مواقف الجحود والعناد. وهذا لا يعني فيما نرى أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن السياق، فنحن نرجح أنهما جزء منه. وأن الإشارة إلى الحادث جاءت للاستطراد والإفحام.
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي.(4/261)
(1) لا يجزي: بمعنى لا ينوب ولا يسد.
في الآية الأولى هتاف بالناس ودعوة لهم إلى تقوى الله والخوف من يوم القيامة، حيث لا يسد فيه والد مسد ولد، ولا ولد مسد والد، وحيث يكون كل امرئ مسؤولا عن عمله ومشغولا بنفسه عن غيره، وإن كان أقرب الناس إليه وألصقهم به، وتوكيد لهم بأن وعد الله هذا حق، وتحذير لهم من الاغترار بالحياة الدنيا والاستماع إلى وساوس الشيطان وإغراءاته.
وفي الثانية تقرير بأن علم موعد يوم القيامة هو عند الله الذي ينزل الغيث، ويعلم ما تحمل الأرحام، وبأنه ليس من أحد يستطيع أن يعرف ماذا يفعل غدا وماذا يكسب، وفي أي أرض يموت، فالله وحده هو العليم بكل شيء، الخبير بحقائق الأمور وسيرها ونتائجها.
ولقد روى الطبري «1» أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة سؤال رجل النبي صلّى الله عليه وسلم قائلا: «إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت. فأنزل الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى آخر الآية» . وروى البغوي أنها نزلت في الحارث بن عمرو من أهل البادية الذي جاء إلى النبي فسأله هذه الأسئلة. وروح الآيتين تلهم وجود ترابط قوي بينهما أولا وبينهما وبين الآيات السابقة لهما ثانيا. وتلهم كون الآية الثانية جاءت لتدعيم ما احتوته الآية الأولى من إنذار وتحذير، هذا فضلا عن تساوق الفاصلة في الآيتين وتساوقها كذلك في الآيات السابقة. وكل هذا يجعلنا نرى أن
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.(4/262)
الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وسبكا وموضوعا، وأنهما جاءتا خاتمة للسورة وما احتوته من فصول المناظرة أو مشاهدها معا. وقد تضمنتا هتافا قويا للناس محذرا منذرا داعيا إلى الله وتقواه.
وما قلناه لا يمنع أن يكون بعض الناس قد وجهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسئلة وأن الآية الأخيرة قد احتوت إجابات عليها.
تعليق على آية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلخ وحديث مفاتيح الغيب
ولقد أورد المفسرون «1» في مناسبة الآية الأخيرة حديثا نبويا عن ابن عمر جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مفاتيح الغيب خمس ثم تلا الآية. وأوردوا «2» كذلك حديثا آخر عن ابن عمر أيضا جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله، فلا يعلم ما في غد إلّا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلّا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلّا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلّا الله، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت.
والحديث الأول مما أخرجه البخاري «3» ، ونحن في حيرة من ذلك. لأن بدء كل من الحديثين يفيد الحصر ويعني أن الأمور الخمسة هن مفاتح الغيب مع أنهن لسن كل ما يغيب عن الناس علمه، ثم إن جملة وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ في الآية لا تعني أنه لا يعلم وقت نزول الغيث إلّا الله، والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. وفي هذه الكتب صيغ لأحاديث أخرى من هذا الباب أيضا لم ترد في كتب الصحاح.
(2) المصدر نفسه.
(3) التاج ج 4 ص 181.(4/263)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
سورة سبأ
في السورة حكاية لأقوال وعقائد الكفار، وفصول مناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلى جهود الزعماء في التعطيل والصدّ واعتدادهم بالأولاد والأموال. وتنويه بالمؤمنين المخلصين. وإشارة إلى داوود وسليمان وما كان من إسباغ الله عليهما نعمه وشكرهما إيّاه. وإلى سبأ وما كان من رغدها وعدم شكرها ونقمة الله عليها، وفيها صور لما كان عليه الموقف في مكة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وزعماء الكفار وسوادهم ومعتدليهم ومتطرفيهم.
وفصول السورة مترابطة مما يسوّغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآية [6] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآية الوثيق في السياق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
. (1) يلج: يدخل.
(2) يعرج: يصعد.
الآيتان مطلع بارز للسورة، ومقدمة لما بعدهما. وقد احتوتا تقرير الحمد لله في كل وقت والتنويه بحكمته ورحمته وإحاطته ومطلق تصرفه في السموات(4/264)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
والأرض وما فيهما وشامل علمه بما يقع فيهما مما هو من موجبات استحقاقه للعبادة والحمد والثناء.
[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 5]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
. (1) لا يعزب: لا يبتعد ولا يختفي.
(2) كتاب مبين: كناية عن علم الله وشموله.
(3) رجز: صفة لشدة العذاب وسوئه.
في الآيات حكاية لإنكار الكفار لمجيء الساعة، أي البعث والحياة الأخروية. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتوكيد بمجيئها مقسما على ذلك بالله الذي يعلم الغيب والذي لا يخفي عليه ولا يخرج عن شمول علمه وتصرفه مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أكبر ولا أصغر من ذلك. وقد اقتضت حكمته وعدله أن تأتي الساعة ويبعث الناس للحساب ليجزي المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة بما يستحقون من المغفرة والرزق الكريم. والكافرين الذين يسعون في تعطيل دعوة الله وإطفاء نورها بما يستحقون من العذاب الشديد الموجع.
ومن المحتمل أن تكون الآيات ترديدا لقول قاله الكفار في موقف وجاهي، وهي على كل حال تحتوي مشهدا من مشاهد الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ومواقفهم منه. وتلهم أن مطلع السورة جاء كما قلنا مقدمة لحكاية هذا المشهد أو الموقف وما بعده من مشاهد ومواقف. وقد تكررت حكاية مثل هذا المشهد وحكاية إنكار الكفار للبعث وتوكيد القرآن له كثيرا حيث يدل كما قلنا قبل على أن(4/265)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
هذا الأمر من أهم ما كان يثور الجدل والحجاج حوله بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين مختلف فئات الكفار.
والتوكيد بالقسم نافذ والحجة على قدرة الله على تحقيق الوعد قوية. فعلم الله وقدرته وتصرفه المطلق في الكون، كل هذا مما يعترف به الكفار، وكل هذا مما يجعل تحقيق الوعد في نطاق قدرة الله تعالى. وحكمة ذلك ظاهرة لأنه مقتضى صفة العدل في الله عز وجل حتى ينال كل من المحسنين والمسيئين جزاء أعمالهم.
[سورة سبإ (34) : آية 6]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
. (1) يرى: هنا بمعنى يعلم أو يدرك.
الآية معطوفة على سابقاتها، وقد احتوت تقرير كون ما احتوته الآيات القرآنية من توكيد البعث الأخروي وقدرة الله تعالى عليه وحكمته فيه، شأنه أن يجعل الذين أوتوا العلم يتأكدون من أن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ربّه هو الحق الهادي إلى صراط الله العزيز المستحق للحمد وحده.
تعليق على جملة وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وعلى رواية مدينة الآية [6] التي جاءت فيها
وقد تعددت أقوال المفسرين للمقصود في جملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ حيث قال بعضهم: إنها عنت أهل الكتاب أو بعض مسلمي اليهود منهم، وبعضهم إنها عنت أولي العلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم إنها عنت أولي العلم والفهم(4/266)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
إطلاقا «1» . ونحن نرجح القول الأخير حيث يكون معنى الآية: «إن كل ذي علم وفهم وإذعان يدرك صدق ما أكدته الآيات القرآنية من حكمة البعث وقدرة الله عليه ويتأكد من أن القرآن لا بدّ من أن يكون حقا منزلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل ليهدي الناس إلى صراط الله القويم. ومع هذا فالأقوال الثانية لا تخلو من وجاهة، وقد ورد في بعض آيات السور المفسرة السابقة حكاية اعتراف أهل العلم والكتاب بصحة نزول القرآن من الله هاديا للناس مثل آيات سورة الأنعام [114] وآيات سورة الإسراء [107- 109] والقصص [52- 55] .
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية مدنية، وروى بعض المفسرين «2» أنها نزلت في عبد الله بن سلام أو غيره من مسلمة يهود المدينة الذين شهدوا بصدق القرآن ونبوة النبي صلّى الله عليه وسلم. والروايات غير موثقة، والآية إلى ذلك منسجمة أشد الانسجام مع ما قبلها وما بعدها. وفي حالة انفرادها في النزول لا تؤدي المعنى الذي شرحناه شرحا نرجو أن يكون الصواب والحق. وحتى على فرض أن يكون المقصود من جملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أهل الكتاب، فإن هذا لا يقتضي أن يكون المقصودون هم مسلمة يهود المدينة. فقد كان في مكة يهود ونصارى، وقد أسلموا وشهدوا بصحة الرسالة المحمدية وصدق صلة القرآن بالله على ما ذكرته آيات مكية عديدة مرّ بعضها في السور المفسرة السابقة المذكورة آنفا.
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والكشاف والطبرسي.
(2) انظر تفسير الطبري.(4/267)
(1) مزقتم كل ممزق: كناية عما يصير إليه الناس بعد الموت من البلى والتفتت والانتثار.
(2) جنة: الجن والجنون وهنا بمعنى الجنون.
في الآيات حكاية لأقوال أخرى للكفار حول البعث حيث كانوا حينما يكرر النبي صلّى الله عليه وسلم أخبار الآخرة وأهوالها وينذر بها ويؤكد حقيقية البعث يستنفرون الناس استنفار تشويش واستنكار وهزء قائلين لهم تعالوا ندلكم على الرجل الذي ينبىء الناس أنهم سيخلقون خلقا جديدا بعد أن يموتوا وتبلى أجسادهم وعظامهم وتتفتت وتنتثر في الأرض. وكانوا يتساءلون على سبيل التهويش والاستنكار عما إذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقوله يفتري على الله الكذب أو أنه اعتراه الجنون. ورد عليهم بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين في حقيقة الأمر في ضلال وأن لهم من أجل ضلالهم هذا العذاب الشديد. ثم انتقل الكلام في الآيات إلى البرهنة على قدرة الله وعظمته، فكيف يشكون في ذلك وهم يرون مشاهد عظمة الله تعالى وقدرته ماثلة في السماء والأرض وبين أيديهم وخلفهم. ثم أنذرتهم الآية الأخيرة إنذارا رهيبا فلو شاء الله لعجل عليهم بلاءه القاصم فخسف بهم الأرض أو أسقط عليهم كسفا من السماء، وأهابت بأصحاب النوايا الحسنة ففي الكون من الآيات الدالة على قدرة الله براهين يدركها كل من حسنت نيته فأناب إلى الله واعترف بالعبودية له.
وصلة الآيات بسابقاتها واضحة من حيث إنها استمرار في حكاية إنكار المشركين للبعث أو استمرار في حكاية المشهد الجدلي والحجاجي حوله بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبينهم.
وأسلوب الآيات إجمالا يدل بصراحة أكثر من المناسبات السابقة على أن تساؤلهم هو تساؤل المستغرب المندهش وأن نسبتهم الجنون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت(4/268)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
تعبيرا عما يخالجهم في أنه يقول ما لا يصدق وما لا يعقل. كما أن أسلوبها ومضمونها يدلان أكثر من المناسبات السابقة على أن البعث الأخروي كان من الأسباب الرئيسية لكفر الكفار ووقوفهم من الدعوة موقف الإنكار والعناد.
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
. (1) أوّبي: رجّعي. والقصد رجّعي التسبيح مع داود.
(2) سابغات: دروع وافية كاملة لجميع الجسم.
(3) قدر في السرد: التقدير بمعنى الحساب وحسن التدبير. والسرد صفة لنسج الحديد وقيل صفة للمسمار، والمقصود من الجملة أمر بإتقان عمل الدرع ونسجه. والدرع زرد وحلقات، ومن هنا يكون معنى النسج.
(4) غدوّها شهر ورواحها شهر: الغدوّ من الصباح إلى منتصف النهار والرواح من بعد منتصف النهار إلى المساء. والغدوّ هو الذهاب في الصباح، والرواح هو العودة في المساء أيضا. ومعنى الجملة أن ما كان يسار في وقت الغدوّ على الريح من المسافة ذهابا يعدل مسيرة شهر وما كان يسار في وقت الرواح يعدل مسيرة شهر آخر.
(5) عين القطر: قال المفسرون: إنها نبع نحاس ذائب أجراه الله لسليمان.(4/269)
والذي نرجحه أنها تعني نبعا من النفط أو عينا من النفط. حيث يكون أسود كثيفا، وأن هذا كان يسمى القطر، ومنه القطران أو الزفت. وقد ذكر القطر في آية في سورة الكهف بما يلهم أنه الزفت الذي يزفت به البناء وهي: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) وقد ذكر القطران في آية في سورة إبراهيم وهي: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) وكان العرب يعرفون القطر والقطران ويستعملونها بدليل وجود اللفظين في لغتهم من قبل البعثة.
(6) يزغ: يحيد ويتهرب.
(7) محاريب: قيل إنها جمع محراب مكان العبادة، وقيل إنها القصور والمساكن عامة.
(8) تماثيل: الهياكل المخلقة.
(9) جفان: جمع جفنة وهي طبق الطعام الكبير.
(10) الجواب: جمع جابية وهي الحوض. وشبهت الجفان بالجواب للدلالة على عظمها.
(11) قدور: جمع قدر. وهي آنية الطبخ.
(12) راسيات: ثابتات.
(13) دابة الأرض: اسم الدودة المعروفة بالسوس والتي تنخر الخشب وهي الأرضة.
(14) منسأته: عصاه.
(15) خرّ: وقع.
احتوت الآيات إشارة إلى ما كان من أفضال الله على داود وسليمان عليهما السلام حيث آتى الأول فضلا فأمر الجبال والطير بترجيع تسابيحه وترانيمه. وألان في يده الحديد وألهمه عمل الدروع السابغة أو أمره بإتقان صنعها، وبفعل الأعمال الصالحة، ونبهه إلى أنه بصير بما يعمله رقيب عليه فيه وحيث سخر للثاني الريح فكانت تقطع مسيرة شهر في الغدو ومسيرة شهر في الرواح. وأسال له عين القطر(4/270)
لينتفع بها شتى الانتفاعات. وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان واسعة كأنها الأحواض وقدور عظيمة ثابتة. وأمرهم بالائتمار بأمره وأنذر من يحاول التملص والتفلت بالعذاب الشديد. وقد أمر الله آل داود أي داود وسليمان شكر نعمة الله وفضله عليهم، والشاكرون من عباده قليلون. ولما قضى الله الموت على سليمان لم يعرف الجن ذلك إلا بعد أن خرّ على الأرض بسبب انقصاف عصاه التي كان يتكىء عليها من نخر السوس. وجاء ذلك برهانا على أن الجن لم يكونوا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمونه لعلموا بموت سليمان حينما مات، ولما ظلوا يقاسون العذاب المهين فيما كانوا يقومون به من الخدمات الشاقة مدة طويلة بعد موته.
تعليق على قصة داود وسليمان في السورة
والمتبادر الذي تلهمه روح الآيات أنها بسبيل التذكير بما كان من إخلاص داود وسليمان واعترافهما بفضل الله وشكرهما له مع ما كان لهما من سعة ملك وسلطان، وضرب المثل بهما للكفار الذين يقفون من آيات الله ونعمه موقف العناد والمكابرة والجحود والتكذيب. وعلى ذلك تكون الآيات استطرادية متصلة من ناحية التمثيل والتذكير بالآيات السابقة لها التي احتوت ذكر مواقف الكفار وجحودهم شأن القصص القرآنية عامة.
ولعله أريد بالآيات تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الكفار يقفون من دعوته إلى الله ذلك الموقف فإن من عباده من يشكره على نعمه ويقف منه موقف العابد الأواب المسبح دائما بحمده وهم من أعظم الناس شأنا وسلطانا كداود وسليمان عليهما السلام.
ولقد جاء في سورتي «ص» و «النمل» اللتين سبق تفسيرهما فصلان طويلان عن داود وسليمان في أعقاب ذكر ما كان من مواقف تكذيب الكفار ومكابرتهم وعنادهم. ولمحنا فيهما هذا القصد حيث تكون حكمة التنزيل اقتضت أن ينزل مثل ذلك مرة أخرى في مناسبة مماثلة متجددة.(4/271)
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على قصص داود وسليمان في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا نرى ضرورة لإعادة ما قلناه، غير أننا ننبه إلى أن في الآيات هنا أشياء لم ترد في السورتين مثل: إلانة الحديد لداود وصنعه الدروع، وإسالة عين القطر لسليمان، ومثل تعيين المسافة التي كان يقطعها الريح المسخر لسليمان في الغدوّ والروح، وتفصيل ما كان يصنعه الجن لسليمان من منشآت عظيمة.
وهذه الزيادات أيضا لم ترد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي تقص سيرة داود وسليمان عليهما السلام، غير أن هذا لا يعني أنها لم ترد في أسفار أخرى كانت متداولة وفقدت بل نحن نعتقد ذلك كما هو الأمر فيما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة من قصص بني إسرائيل وأنبيائهم على ما ذكرناه في المناسبات السابقة.
ولقد أورد المفسرون «1» في سياق هذه الآيات بيانات كثيرة في صدد هذه الزيادات منسوبة إلى علماء السير والأخبار. ولسنا نرى طائلا في إيرادها هنا لأن ذلك لا يتصل بأهداف القصص القرآنية فضلا عما فيها من تزيد ومفارقات، مع التنبيه إلى أن ذلك مما يدل على أن هذه الزيادات ليست غريبة عن سامعي القرآن، ومما كان متداولا بينهم، ومصدره على الأرجح بنو إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانيهم.
ولقد كان من جملة ما أوردوه حديث أورده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان سليمان نبيّ الله إذا صلّى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك فتقول كذا فيقول لأيّ شيء أنت فإن كانت تغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟
قالت: الخروب. قال: لأيّ شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان:
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي مثلا، وانظر أيضا تاريخ الطبري ج 1 ص 336- 350.(4/272)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
اللهمّ عمّ على الجنّ موتي حتّى يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكّأ عليها حولا ميتا والجنّ تعمل فأكلتها الأرضة فسقط فتبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين» . وقد أورد الطبري أحاديث من باب هذا الحديث معزوة إلى ابن مسعود وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون عزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأحاديث غير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة، فإذا كانت صحيحة فيكون فيها توضيح لأمور مغيبة وردت الإشارة إليها في الآيات فيوقف عندها.
والله أعلم.
ولقد سبقت تقريرات قرآنية متنوعة عن الجنّ وعلقنا عليها بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة لزيادة شيء هنا إلّا تقرير واجب الإيمان بما يخبر به القرآن عنهم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى ومقتضى حكمته المغيبة عنا. وقد يكون في ذكر حالتهم بالأسلوب الذي ورد في الآيات وتقرير جهلهم ما غاب عنهم وتسخيرهم هذه السخرة وتكليفهم هذه الخدمات وإجبارهم عليها مع ما فيها لهم من عذاب مهين هدفا استهدفته الآيات للتنبيه إلى هوان شأن هذه المخلوقات التي كان لها صورة فخمة مفزعة في أذهان العرب حتى وصل أمرهم منها إلى عبادتها والاستعاذة بها والتقرب إليها مما مرّت أمثلة لها في السور المفسرة السابقة، وتقرير كونها ليست إلّا من عباد الله يسخرها لعباده المخلصين، وليس من شأنها أن تعلم الغيب أو تجرا على ملكوت الله، أو تطلع على أسراره أو تستحق عبادة وتزلفا والله أعلم.
هذا، ومما يجدر التنبيه إليه التناظر بين أوائل سورة لقمان السابقة وبين أوائل هذه السورة، وما يلهمه من وحدة الأهداف من جهة، ومن صحة ترتيب السورتين في النزول واحدة بعد أخرى من جهة ثانية.
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 19]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)(4/273)
(1) العرم: قيل إنه اسم واد كانت تتجمع فيه المياه، وقيل إنه المطر الشديد. وقيل إنه اسم سدّ كان يحبس فيه الماء.
(2) الخمط والأثل والسدر: أشجار طبيعية تنبت في الصحارى ذات شوك.
وثمرها غير صالح تعافه النفس.
(3) القرى التي باركنا فيها: قيل إنها بلاد الشام التي كان موسعا عليها برزقها ومناخها، وقيل إنها بلاد المقدس التي باركها الله كما جاء في سورة الإسراء، والعجيب ألّا يذكر القائلون بلاد الحجاز التي كانت هي الأخرى مباركة. فهي أقرب إلى بلاد سبأ أي اليمن من بلاد الشام، وبينها وبين سبأ قرى ومدن عديدة.
ونحن نرجح أنها هي المقصودة.
(4) ظلموا أنفسهم: جنوا عليها بانحرافهم وكفرهم.
في الآيات إشارة إلى سبأ وما كان من أمر أهلها.
فقد يسّر الله لهم رغد العيش في مسكنهم، وكانت لهم جنات عن اليمين وعن الشمال ليأكلوا من رزق ربهم ويشكروا له نعمه، فبلدتهم طيبة الرزق وربهم غفور. ولكنهم أهملوا واجب الشكر وكفروا بنعمة الله فعاقبهم الله على جري عادته فأرسل عليهم سيل العرم فاجتاح جناتهم وخربها وبدلها بجنات من أشجار كريهة المنظر كثيرة الشوك مرة الطعم من الخمط والأثل والسدر. ولقد كان من نعمة الله عليهم أن جعل العمران متصلا بين بلادهم والبلاد التي بارك فيها بقرى ظاهرة متتابعة بحيث يستطيعون أن يسيروا ليالي وأياما آمنين شر أخطار الأسفار ومشاقها،(4/274)
فلم يقدروا هذه النعمة أيضا حق قدرها وتحدوا الله بأقوامهم أو أفعالهم أن يباعد بين أسفارهم فظلموا بذلك أنفسهم وآذوها إذ سببوا انصباب نقمة الله وغضبه عليهم، فمزقهم في الأرض كل ممزق وجعلهم أحاديث الناس وموضوع نقدهم وتثريبهم ومضرب مثلهم.
وقد انتهت الآيات بتقرير رباني بأن في كل ذلك آيات وعبرا لا يدرك مغزاها ولا ينتفع بها إلّا كل صبار ثابت على الإخلاص لله، شاكر لنعمه وأفضاله قولا وعملا.
تعليق على قصة سبأ وسيل العرم
والآيات كما هو المتبادر تحتوي مثلا ثانيا مضروبا لمشركي العرب وجاحدي النبوة المحمدية تعقيبا على المثل الأول، فداود وسليمان شكرا الله وعملا الصالحات على ما كان لهما من ملك وعظمة شأن، فأسبغ الله عليهما نعمه وأفضاله وسخر لهما قوى الكون المتنوعة.
وأهل سبأ انحرفوا عن جادة الحق وكفروا بنعمة الله فعاقبهم ومزقهم وجعلهم أحاديث للناس.
ومن هنا يظل الاتصال قائما مستمرا بين هذه الآيات والآيات السابقة. وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن ما كان من أمر سبأ وما صاروا إليه ليس غريبا على السامعين، وهذا ما يجعل العبرة والمثل قويين وملزمين هنا أيضا.
وسيل العرم من الحوادث التي أطنبت فيها الكتب العربية القديمة بناء على الروايات المتداولة من عهد الجاهلية «1» . وقد ذكرت فيما ذكرته أن السيل اقتلع السدّ وطغى على القرى والجنات فخربها فأدى ذلك إلى هجرة كثير من قبائل اليمن إلى شمال جزيرة العرب وسواحلها الشرقية وبلاد الشام والعراق، منهم الأوس والخزرج الذين نزلوا في يثرب «المدينة المنورة» ، ومنهم الغساسنة الذين أنشئوا
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي والزمخشري، انظر أيضا بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي ج 3 ص 287- 288.(4/275)
دولة في بلاد الشام، ومنهم اللخميون الذين أنشئوا دولة في بلاد العراق، ومنهم بنو عبد القيس الذين أنشئوا دولة في عمان. وقد قدر المؤرخون أنه حدث قبل البعثة النبوية بنحو أربعمائة عام.
ولقد سبق تعريف لسبأ في سياق آيات في سورة النمل ذكر فيها هذا الاسم، وإذا كان من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو أن النقوش اليمنية ذكرت خبر وقوع خراب وعطب على سد مأرب العظيم مرة بعد مرة خلال القرون الخمسة التي سبقت البعثة النبوية. إن اسم سبأ ظل على ما تلهم الآيات إلى حادث سيل العرم يطلق على البلاد التي كان يطلق عليها من القديم وإن هذه البلاد ظلت مزدهرة عامرة إلى ذلك الوقت يتصل عمرانها بالبلاد المباركة التي رجحنا أنها الحجاز أكثر من بلاد الشام إلى أن أحدث السيل فيها ما أحدثه من تخريب وتدمير.
ولقد أورد المفسرون «1» بيانات كثيرة في سياق الآيات عن بلاد سبأ وسدها وجناتها وقراها وعمرانها وسيل عرمها وما أحدثه من خراب وما أدى إلى ذلك من هجرة أهلها وتفرقهم في أنحاء الأرض وما نبت في أرض جناتها من أشجار الأثل والخمط والسدر معزوة إلى علماء التابعين فيها الغث والسمين لم نر ضرورة إلى إيرادها، وفيها دلالة على أن أخبار سبأ وسيل العرم مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم وعصره في نطاق ما ورد في الآيات، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بذلك على سبيل العبرة والتمثيل.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في مناسبة جملة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم/ 5] في الآية الأخيرة من الآيات حديثين أحدهما رواه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربّه وصبر، يؤجر المؤمن في كلّ شيء حتّى في اللّقمة يرفعها إلى في امرأته» . وثانيهما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجبا
__________
(1) انظر الهامش السابق. [.....](4/276)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلّا كان خيرا له. إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن» . حيث ينطوي في هذا توضيح نبوي للجملة القرآنية وحثّ للمسلمين على أن يكونوا من الصابرين على الضرّاء الشكورين للسرّاء.
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
. (1) حفيظ: هنا بمعنى رقيب.
جاءت الآيتان معقبتين على الآيات السابقة حيث قررتا أن إبليس قد توسم فيهم قابلية الانحراف فوسوس لهم فتحقق ظنه وتوسمه فيهم فاتبعوه باستثناء فريق منهم كانوا مؤمنين فلم يؤثر عليهم. وأن إبليس لم يكن في الحقيقة له عليهم أي سلطان نافذ، وإنما كان امتحانا ربانيا ليظهر من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك. وأن الله رقيب على كل شيء من أعمال الناس.
وقد قال بعض المفسرين «1» : إن الضمير في «عليهم» عائد إلى أهل سبأ.
ومنهم من قال إنه عائد إلى الناس إطلاقا، ونحن نرجح أنه عائد إلى كفار مكة بقرينة الآيات التي جاءت بعدها وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم فيها بتوجيه الخطاب إلى كفار مكة ومشركيهم متحديا منددا، وعلى هذا فإن الآيتين تكونان بمثابة انتقال من حكاية الماضي وعظته إلى حكاية موقف الكفار وواقع أمرهم وتعليل لذلك بعد ما جاءهم من الموعظة ما جاءهم.
والتعليل والاستدراك في شأن إبليس وتسلطه على الناس وعدم استطاعته
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير وغيرهما.(4/277)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
التأثير إلّا على الذين فيهم قابلية الغواية قويان محكمان. فالناس بإبليس ووسوسته أمام امتحان يميز طيبهم من خبيثهم وصالحهم من فاسدهم. وفي كل مرة ذكرت فيها قصة إبليس أو وسوسته أو وسوسة الشيطان ورد هذا التعليل والاستدراك مما يمكن أن يسوغ القول إنه أريد بذلك توكيد مبدأ قرآني عام بأن الفاسدين في قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم هم الذين يتأثرون بالوساوس ولا يؤمنون بالآخرة ولا يستجيبون إلى دعوة رسل الله.
وقد توهم الآية الثانية بأن الله لم يكن يعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك قبل امتحان الناس بإبليس، ولما كان علم الله شاملا لكل ما كان ويكون فالوجه في العبارة أن تؤول بأن المراد منها هو إظهار نتائج الوسوسة عيانا حتى تسقط حجة المحتج. وقد تكرر هذا في القرآن كثيرا. وهو من التعابير الأسلوبية المعتادة بين الناس في التخاطب أيضا، والفقرة الأخيرة من الآية نفسها من شأنها أن تزيل الوهم أيضا وتؤيد هذا التأويل.
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 28]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)
. (1) شرك: بمعنى شركة وشراكة.
(2) ظهير: معين ومظاهر.(4/278)
(3) حتى إذا فزع عن قلوبهم: التفزيع هو إزالة الفزع وكشفه. ومعنى الجملة: حتى إذا زال أثر الدهشة والفزع عن قلوبهم.
(4) أجرمنا: من الإجرام وهو اقتراف الذنب.
(5) يفتح: بمعنى يحكم ويقضي.
(6) كافة للناس: أوّلها بعض المفسرين بمعنى مانع وكاف أي يمنع الناس ويكفّهم عن الكفر، وأوّلها بعضهم بمعنى جميع الناس. وكلا القولين وجيه ومؤيد بنصوص أخرى حيث يؤيد الأول جملة: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء/ 107] ، ويؤيد الثاني جملة: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف/ 158] وإن كان أسلوب الآية يجعل الرجحان للقول الأول.
في الآيات:
1- أمر للنبي عليه السلام بتحدي الكفار بدعوة من يزعمون أنهم شركاء الله.
2- وتقرير بكون أولئك الشركاء لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض وليس لهم فيهما شركة ما، وليس لله منهم معين ومظاهر.
3- وتقرير بأن الشفاعة عند الله لن تنفع أحدا إلا بإذن الله ورضائه.
4- وتقرير ما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حينما يبعثون وتزول آثار الدهشة والفزع عنهم ويسألون عما وعدهم الله حيث يعترفون بأن ما وعد الله هو الحق وأن الله هو العلي الكبير الذي لا يدانيه أحد في علوّه وعظمته.
5- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم بتعيين الشركاء الذين أشركوهم مع الله وألحقوهم به وجعلوا لهم صلة به أو جعلوهم جزءا منه. وبنفي ذلك عن الله عز وجل لأنه العزيز القوي الذي لا يحتاج إلى شريك، الحكيم الذي تكون كل أعماله وفقا لمقتضيات الحكمة.(4/279)
6- وأمر آخر بسؤالهم عن الرازق الحقيقي لهم من السماء والأرض وبالإجابة على ذلك بأنه هو الله وحده.
7- وأمر آخر بتوجيه الكلام إليهم على سبيل المساجلة والجدل بأنه لا بد من أن يكون أحد الفريقين (النبي والمؤمنون من ناحية، وهم أي الكفار من ناحية) ضالا وأحدهما على هدى وبأن كل فريق هو المسئول وحده عن عمله وما قد يقترفه، وبأن الله سيجمع بينهما معا ثم يقضي بينهما بالحق وهو الحاكم العادل العليم بأعمال الناس ونواياهم وأحوالهم.
8- وانتهت الآيات بآية وجّه الخطاب فيها للنبي عليه السلام بأن الله إنما أرسله كافة للناس بشيرا ونذيرا ولو لم يدرك هذا أكثرهم.
والآيات بمجموعها احتوت- كما هو المتبادر- صورة لموقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلّى الله عليه وسلم والمشركين الكفار. وهي قوية في لذعها وتحديها وتنديدها ومساجلتها وإنذارها، وتدل على أن موقف النبي صلّى الله عليه وسلم كان موقف الواثق المستعلي، أو هي بسبيل بثّ الوثوق والاستعلاء في نفسه.
ولم نطلع على رواية خاصة بسبب نزولها، ويتبادر لنا أنها ليست فصلا مستأنفا وإنما هي استمرار في السياق المستمر في حكاية مواقف الكفار.
والمتبادر أن الآية الأخيرة قد انطوت على تطمين للنبي عليه السلام وتسلية، فهو ليس مسؤولا عن موقف الجحود والعناد الذي يقفه الكفار وليس إلا بشيرا ونذيرا للناس. وهو ما تكرر كثيرا في المواقف المماثلة.
والآيات [24 و 25 و 26] قد جاءت بالأسلوب الذي جاءت به على سبيل المساجلة، وليس من محل للشك في قصد تقريرها أن فريق النبي صلّى الله عليه وسلم وأتباعه هم الفريق المهتدي الفائز بحكم الله ورضائه، وهذا أسلوب مألوف في التخاطب وبخاصة في مواقف الجدل والمناظرة. ومع ذلك فقد يكون فيها مظهر من المبدأ القرآني المقرر لحرية التدين بالنسبة لمختلف الأطراف وفي نطاق ما قررته سورة(4/280)
(الكافرون) وشرحناه شرحا وافيا في سياقها.
ولقد روى البخاري والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة في سياق جملة حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حديثا جاء فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السّماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير فيسمعها مسترقو السّمع فيلقيها إلى من تحته ثمّ يلقيها الآخر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان السّاحر أو الكاهن فربّما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعت من السّماء» «1» .
ونحن في حيرة من هذا الحديث لأن مضمون الآية وسياقها وروح الآيات بصورة عامة تلهم أنها في صدد تحدي المشركين وشركائهم وحكاية مشهد من مشاهد البعث الأخروي أو نفي الشفاعة عند الله إلّا لمن أذن له. وليس لها صلة قريبة أو بعيدة باستماع الشياطين لكلام السماء وأوامر الله حين يقضي قضاءه في شؤون خلقه في الحياة الدنيا.
على أن الطبري والبغوي وابن كثير الذين أوردوا هذا الحديث وحديثا آخر من بابه رووا تأويلات أخرى للجملة القرآنية عن بعض علماء التابعين مثل مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير تفيد أن ما تضمنته الجملة هو ما يكون من أمر المشركين يوم القيامة أو حين ينزل فيهم الموت حيث يسألهم الملائكة سؤال التبكيت عن ما قال الله فيقروا أنه الحق حين لا ينفعهم الإقرار. وهذا التأويل متسق مع روح الجملة القرآنية أكثر كما هو المتبادر ويدل على أن هؤلاء العلماء لم يأخذوا الحديث على أنه تفسير للجملة.
وقد رأينا الزمخشري والخازن والطبرسي والنسفي والنيسابوري يؤولون
__________
(1) التاج ج 4 ص 191- 192.(4/281)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
الجملة كذلك على أنها حكاية محاورة بين الكفار والملائكة يوم القيامة أو عند الموت.
[سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
والآيتان استمرار في حكاية مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكفار ومعطوفتان على ما سبقهما. وقد تكررت حكاية سؤال الكفار الوارد في الآية الأولى مما يدل على أن الكفار كانوا كلما تكرر وعيدهم بالبعث والعذاب الأخرويين بادروا إلى هذا السؤال الذي ينطوي فيه تحد واستهانة واستهتار، وقد احتوت الآية جوابا رزينا فيه توكيد وقوة وإنذار معا. وهو ما تكرر مثله أيضا.
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
. (1) الذي بين يديه: كناية عن كتب الله السابقة للقرآن.
(2) أندادا: شركاء معادلين.
(3) أسرّوا الندامة: قال بعض المفسرين: إن (أسروا) من الأضداد ومعناها هنا (أظهروا الندامة) ، وقال بعضهم: إن كلا من الفريقين أخفى ندمه الذي شعر به(4/282)
عن الآخر خوف الخزي والفضيحة على نحو ما يجري بين الناس في الدنيا، ويمكن أن تكون بمعنى شعروا في داخل صدورهم بالندامة.
بدأت الآيات بحكاية قول للكفار، وهو توكيدهم القاطع بعدم تصديقهم وإيمانهم بالقرآن ولا بما جاء قبل القرآن من الكتب السماوية. وأعقبت حكاية قولهم بسرد ما سوف يكون من أمرهم في الآخرة حينما يقفون أمام الله ويرون يقين ما أوعدوا به من حساب وعذاب وأغلال في الأعناق حيث يستشعرون الندامة على ما كان منهم، وحيث تقع محاورة بين المستضعفين والمتكبرين أو التابعين من العامة والمتبوعين من الزعماء فيقول الأولون للآخرين لولا أنتم لكنا آمنا وصدقنا ويردّ الآخرون منكرين منعهم عن الهدى وملقين تبعة ضلالهم عليهم ومقررين أنهم كانوا مجرمين ضالين بطبيعتهم ويردّ التابعون مرة أخرى على الزعماء مذكّرين بما كان منهم من تحريض وتآمر واجتماعات في الليل والنهار وحثّ على التمسك بالشركاء والكفر بالله ورسوله. وقد انتهت الآيات بسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والتقرير بأنهم إنما يجزون بما كانوا يعملون.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها متصلة بموقف المناظرة والجدل الذي ما فتئت الآيات السابقة تشير إليه ثم بموقف إصرار الكفار على عنادهم وجحودهم وبمثابة ردّ تنديدي وإرهابي عليهم أولا.
وفيها إشارة إلى الدور الذي كان يلعبه الزعماء في الصدّ والتعطيل والتحريض ضدّ النبي صلّى الله عليه وسلم ودعوته، وما كان لهم من أثر فعال في بقاء الأكثرية الكبرى في صف الكفر والجحود في العهد المكي من السيرة النبوية ثانيا. وفيها أمارة ما على ما أثارته الدعوة المحمدية من حركة في أوساط مكة وأفكار أهلها على اختلاف فئاتهم ثالثا.
ويلحظ أن الآية الأولى قد حكت قول الكفار بأنهم لن يؤمنوا في حين أن من الثابت اليقيني أن كثيرا من الذين حكي عنهم هذا القول قد آمنوا وحسن إيمانهم قبل الهجرة وبعدها حيث يسوغ القول إن هذا من باب تسجيل واقع الكفار حين(4/283)
نزول الآيات وإنه ليس على التأبيد إلا بالنسبة للذين ظلوا وماتوا كفارا على ما شرحناه في سياق سورة البروج.
تعليق على المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين
والمحاورة التي حكت الآيات أنها ستقع بين الضعفاء والمستكبرين يوم القيامة جديرة بالتعليق. ولقد تكرر هذا في مواضع أخرى مثل آيات سورة غافر هذه: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وآية سورة إبراهيم هذه: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) .
والإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب، مع ملاحظة أنه لا بدّ لذكره بالأسلوب الذي جاء به من حكمته، والحكمة الملموحة في هذا المشهد هي قصد إثارة الخوف والرهبة في نفوس الكفار وبخاصة التابعين الذين هم السواد الأعظم وفصلهم عن الزعماء.
وتدل الآيات التي نحن في صددها بخاصة على شدة جهد الزعماء ونشاطهم في التأثير على السواد الأعظم وحملهم على الإعراض والتصامم عن الدعوة النبوية. ولعل هذا نظير حكمة التنزيل فيما أنذرته للزعماء بالعذاب المضاعف في آيات عديدة منها آية النحل هذه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) .
تعليق على جملة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
ولقد قال بعض المفسرين: إن جملة وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مصروفة إلى(4/284)
يوم القيامة «1» وقال آخرون: إنها مصروفة إلى الكتب السماوية السابقة للقرآن «2» .
وهذا هو الأصح بقرينة ذكر القرآن قبل الجملة.
ولم نر مع ذلك أحدا من الذين صرفوا الجملة إلى الكتب السماوية علل صدورها عن الكفار في مقامها ويتبادر لنا تعليل لذلك وهو كون الكتب السماوية وأهلها كانوا موضوع استشهاد في آيات قرآنية عديدة سابقة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وصحة صلة القرآن بالوحي الرباني وإشادة بهم لإيمانهم بهما من جهة وكونهم من جهة ثانية مصدرا لمعارف العرب الدينية واعتقاد هؤلاء أن الكتب التي في أيديهم منزلة من عند الله على ما حكته آيات عديدة ورد بعضها في سور سابقة مثل آية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى إلخ [48] . ومثل آيات سورة الأنعام هذه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ... [155- 157] فمن المحتمل أن يكون الحديث في هذا الصدد قد تجدد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين بعضهم وأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكرهم بما كان منهم وما كان من الكتابيين. بل وفي الآية [6] من آيات السورة ما يمكن أن يكون مناسبة جديدة لذلك حيث تذكر ما كان من تصديق أهل العلم بما يقوله القرآن ويعد به.
ولكنهم ظلوا مكابرين معاندين وقالوا ما حكته عنهم الآية الأولى غيظا واستكبارا.
وقد حكت عنهم ذلك آيات سورة فاطر: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ... [42- 43] . وفي كل هذا صورة لقوة ما كان عليه الزعماء الكفار من عناد ولجاج ومكابرة أمام الدعوة النبوية.
__________
(1) انظر تفسير الطبرسي.
(2) انظر تفسير الزمخشري والطبري والخازن.(4/285)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
. (1) مترفوها: كناية عن الزعماء والأغنياء وذوي الجاه.
(2) ويقدر: هنا بمعنى يقبض أو يقتر.
(3) زلفى: على وزن قربى وبمعناها.
(4) جزاء الضعف: الجزاء المضاعف والقصد من الكلمة في الآية الزيادة.
(5) الغرفات: البيوت العالية والعليات.
(6) ويبسط: هنا بمعنى يوسع ويمد.
في الآيات تقرير رباني عن عادة الزعماء ذوي النعمة والترف في الأمم من الوقوف موقف الجحود والعناد من رسل الله، وحكاية لما يقولونه حيث كانوا يقولون: إننا الأكثر أموالا وأولادا، وإننا سنكون من أجل ذلك في نجوة من العذاب. وأمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن الله هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويضيقه على من يشاء، وبأن أموالهم وأولادهم التي يزهون ويعتدون بها لن تفيدهم شيئا عند الله ولن تقربهم إليه، وبأن الذين يؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا هم وحدهم الذين ينالون جزاء أعمالهم مضاعفا ويكونون آمنين في غرفات الجنة. أما الذين يقفون من دعوة الله موقف المنكر المعطل المعجز والمكابر العنيد فلن ينجو من عذاب الله وهم محضرون إليه وواقعون فيه.(4/286)
وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد القول الأول بأن ربه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويضيقه على من يشاء وأنه هو الذي يخلف على المنفقين ما أنفقوه وهو خير الرازقين.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: «كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى السّاحل وبقي الآخر فلمّا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل فكتب إليه إنّه لم يتبعه أحد من قريش إنّما اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلّني عليه وكان يقرأ الكتب فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إلى ما تدعو؟ قال: أدعو إلى كذا وكذا، قال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما علمك بكذا؟ قال: إنّه لم يبعث نبيّ إلّا اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم فنزلت الآية: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) فأرسل إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ الله عزّ وجلّ قد أنزل تصديق ما قلت» .
وهذه الرواية لم ترد في مساند الصحاح وهي غريبة فليس صحيحا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبعه في بدء أمره أحد من قريش ولم يتبعه إلا أراذل الناس ومساكينهم فقط.
والثابت اليقيني أن خديجة وأبا بكر وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير بن العوام وفاطمة بنت الخطاب زوجة سعيد رضي الله عنهم كانوا من الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته في برهة قصيرة»
. وهم من بيوتات قريش ثم تبعهم في السنين الثلاث الأولى عشرات الرجال والنساء من مختلف بيوتات قريش من بني أمية وبني هاشم وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني التيم وبني عدي وبني جمح وبني سهم وبني عامر رضي الله عنهم بحيث يكفي هذا الواقع اليقيني لتفي الرواية كسبب لنزول الآية أو تصديقا لما روي من قول الرجل إنه لا يتبع الأنبياء إلّا أراذل الناس ومساكينهم.
__________
(1) اقرأ أسماء المهاجرين الأولين في ابن هشام، ج 1 ص 321 وما بعدها.(4/287)
وإذا كانت الآية تذكر مواقف المترفين من رسل الله فليس ضروريا أن يكون كل ابن بيت ونعمة مندرجا في صفهم بطبيعة الحال. والآية بعد غير منقطعة عن السياق السابق كما أنها والآيات التي بعدها سياق واحد بحيث يصح القول إنها جاءت من جهة معقبة على الآيات السابقة. ومن جهة منددة منذرة لطبقة المترفين المنحرفين الذين يقودهم الترف والانحراف إلى الوقوف من رسل الله والدعوة إليه موقف الجحود ثم لمثل هذه الطبقة من مترفي مكة الذين كانوا هم الواقفين من النبي مثل هذا الموقف. ومن جهة مسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنة أن هذا الموقف من هذه الطبقة ليس بدعا وخاصا به.
تعليق على جملة نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
ويبدو أن الزعماء كانوا يوازنون في معرض التبجح بينهم وبين النبي وأتباعه في الأموال والبنين. ويجرون في هذا على ما اعتادوه من كون أصحاب الأموال والأولاد يكونون أكثر قوة وأضمن نصرا فاقتضت الحكمة الرد عليهم بالرد القوي الذي جاء في الآيات وبتكرار التوكيد بأن سعة الرزق لن تغني عن أصحابها شيئا عند الله. وأنها ليست اختصاصا لهم من الله مستمرا، فالله هو الذي يداول الرزق بين الناس بسطا وضيقا وفقا للنواميس التي أودعها في خلقه وكونه. وليس لذلك أثر في منازلهم عند الله التي إنما تكون حسب أعمالهم. وفي هذا المستلهم من فحوى الآيات وروحها وما فيه من تلقين مستمر المدى يضاف إلى ما فيها من تلقين بتقبيح الترف الذي يقود أصحابه إلى الوقوف من رسل الله والدعوة إليه موقف الجاحد المعطل والتنديد بهم والتحذير منهم.
أحاديث واردة في سياق الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
ولقد أورد البغوي حديثا عن أبي هريرة رواه بطرقه في سياق الآية الأخيرة من(4/288)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
هذه الآيات جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» .
وحديثا ثانيا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وأورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده حذر الإنفاق ثم تلا هذه الآية: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) . حيث ينطوي في هذه الأحاديث صور من التطبيق والاستلهام النبوي للتقريرات القرآنية وحث للمسلمين على الإنفاق والإيمان بوعد الله تعالى بالإخلاف على المنفقين.
ولقد مرت آيات كثيرة في الحث على إطعام المساكين، وفي السور الآتية وبخاصة المدنية آيات كثيرة في الحث على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء والمساكين ومنها ما جاء ذلك في سياق التشريعات المالية في الدولة الإسلامية. وهناك أحاديث كثيرة أخرى في ذلك حيث يبدو أن هذا الأمر قد شغل حيزا كبيرا في الدعوة الإسلامية لما له من خطورة بعيدة المدى في حياة المجتمع الإسلامي الذي وضع القرآن والحديث له أقوى الأسس ليكون المجتمع الفاضل المتعاون المتكافل الذي يجد فيه المحتاج والفقير ما يسد فيه عوزه وحاجته ويتيح له الحياة الكريمة. وأكثر الآيات والأحاديث بل جلها قد نزلت وصدرت في العهد المدني لأن هذا العهد قد فتح المجال لقيام المجتمع الإسلامي في ظل الدولة الإسلامية تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رأينا أن نؤجل إيراد الأحاديث الأخرى واستيفاء التعليق على هذا الأمر إلى مناسبات الآيات المدينة والاكتفاء هنا بما تقدم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)(4/289)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
(1) الذين ظلموا: أي الذين ظلموا أنفسهم وأضروها بشركهم وانحرافهم.
في هذه الآيات حكاية لمواجهة يجريها الله بين الكفار المشركين والملائكة ونتيجتها حيث يجمع الله بين الفريقين. ثم يسأل الملائكة عما إذا كان المشركون يعبدونهم فعلا فيجيبون منزهين الله تعالى عن الشركاء قائلين إنه هو وليهم من دونهم وإن المشركين إنما كانوا يعبدون الجن وإن أكثرهم كانوا مؤمنين بهم.
وحينئذ يقول الله عز وجل للمشركين إن أحدا منكم لا يملك للآخر ضرا ولا نفعا فذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها.
والمتبادر أن الآيات استمرار لما احتوته الآيات السابقة من الرد على الكفار وتسفيههم وإنذارهم ووصف ما يكون من أمرهم في الآخرة وفيها صورة أخرى لما يكون فيها، وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك تقرير ضلال المشركين وإفكهم وتكذيبهم في عقائدهم في صدد الملائكة وتقرير كونهم إنما يعبدون الجن لا الملائكة وهم الذين يوسوسون لهم ويضلونهم. لأن الملائكة مخلصون لله عارفون لحدودهم ودائبون على تنزيهه وتقديسه. وهذا ينطوي في الوقت نفسه على هدف إفحام الكفار وحملهم على الارعواء والتدبر كما هو ظاهر. وهذه هي المرة الثانية التي تحكى فيها هذه الحكاية حيث حكيت في سورة الفرقان التي مر تفسيرها وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك بسبيل التحذير والتنديد والإفحام لأن عقيدة المشركين في الملائكة كانت واسعة النطاق.
[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 45]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)(4/290)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
(1) نكير: أي نكيري بمعنى قصاصي وعقابي وعاقبة إنكاري وغضبي.
في الآيات حكاية لأقوال الكفار حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم آيات القرآن الواضحة وحججه البالغة حيث كانوا يقولون للناس إن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلّا رجلا يريد أن يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم، وإن القرآن ليس إلّا كذبا مفترى على الله، وإن يوم الحساب الحق الذي كانوا ينذرون به ليس إلّا من قبيل السحر والتخييل ولا حقيقة له. وتقرير ينطوي على التبكيت بأن الكفار يقولون هذا في حين أن الله لم ينزل إليهم قبل القرآن كتبا ولم يرسل إليهم قبل النبي رسلا حتى يكون كلامهم مستندا إلى علم وتجربة. وتذكير بالأمم السابقة لهم والتي كذبت رسلها مثلهم وما كان من تدمير الله لها في حين أن الكفار العرب لم يبلغوا في القوة والعظمة معشار ما بلغته.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة هذه الآيات، والسياق غير منقطع بينها وبين سابقاتها كما هو المتبادر من حيث تتابع الكلام عن الكفار ومواقفهم. فهي استمرار له، وفحواها يدل على أن الكلام المحكي عن الكفار صادر عن الزعماء وموجه إلى عامة الناس على سبيل الصد والتعطيل والحض على الجحود وعدم التصديق. وأسلوبه ينطوي على صورة لما كان هؤلاء الزعماء عليه من عناد، وما كانوا يبذلونه من جهد في ذلك السبيل.
[سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 50]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)(4/291)
(1) أعظكم بواحدة: أنصحكم أو أطلب منكم شيئا واحدا أو مسألة واحدة.
(2) أن تقوموا لله: أن تتفكروا بتجرد مخلصين لله.
(3) مثنى وفرادى: اثنين اثنين أو واحدا واحدا.
(4) ما يبدىء الباطل وما يعيد: معنى الجملة الحرفي أن الباطل لا يخلق أصلا ولا يعيد ثانية، ومعناها ليس للباطل أصل ولا دوام ولا بقاء.
في الآيات أوامر للنبي صلى الله عليه وسلم:
1- بمخاطبة الكفار وطلب شيء واحد منهم وهو: أن يخلصوا النية لله ويتجردوا عن الهوى والعناد، ثم يتفكروا كل واحد لنفسه أو كل اثنين لحدتهما معا فيما يدعوهم إليه حيث يتأكدون أن صاحبهم أي النبي صلى الله عليه وسلم ليس مجنونا وأنه إنما هو نذير من الله بعذاب شديد إذا لم ينيبوا إليه ويسيروا في طريق الهدى.
2- بالتوكيد لهم بأنه لا يطلب على إنذاره أجرا، فأجره ونفعه لهم وحدهم وأن أجره هو على الله الشهيد على كل شيء والعالم بكل شيء.
3- وبالهتاف بأن الله هو الذي يقرر الحق ويؤيده وهو العليم بما هو خفي من نوايا الناس وضمائرهم، وبأن الحق قد جاء واضحا جليا كاسحا للباطل الذي لا أصل له ولا بقاء ولا قرار أمام الحق.
4- وبالإعلان بأنه إذا كان ضالا فضلاله عائد إليه، وإن كان مهتديا فإنما ذلك بوحي ربّه السميع لكل شيء والقريب من كل شيء.
ولم نطلع على رواية عن سبب نزول هذه الآيات وهي غير منقطعة عن السياق واستمرار له فيما هو المتبادر. وقد جاءت بمثابة إنهاء لموقف المناظرة والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار أو لما هو في مقامهما. وقد تكرر مثل هذه الخواتم(4/292)
لمثل هذه المواقف ولذلك يمكن أن تعد أسلوبا من الأساليب النظمية القرآنية البديعة.
وقد جاء أسلوب الآيات هنا قويا أخاذا رائعا من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق.
وقد خوطب به العقل والقلب معا. وفي الهتاف بالحق وقوته وضلال الباطل ومحقه بنوع خاص روعة لا تزال قائمة ما قام الجدل بين الحق والباطل، وتوطيد قرآني مستمر المدى والتلقين للحق ودعوة قرآنية مستمرة المدى ضد الباطل.
وأسلوب النفي لطلب النبي صلى الله عليه وسلم أجرا في هذه المرة جاء أقوى من المرات السابقة حيث أمر بأن يهتف في الناس أن كل ما يرجوه من نفع من رسالته هو لهم، وأن أجره إنما هو على الله وحده.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الآية الأخيرة لا تعني الشك في حقيقة الواقع من أمر الدعوة النبوية، وإنما جاءت بأسلوبها على سبيل المساجلة كما هو الأمر في آيات سابقة من هذه السورة نبهنا عليه، وكما تكرر غير مرة فيما مرّ من السور أيضا.
تعليق على جملة إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى
وفيما احتوته الآية الأولى حكمة اجتماعية عامة وصورة من صور ما كان عليه موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار وموقفهم منه أيضا، فالاجتماعات العامة يختلط فيها الحابل والنابل، وتسود فيها الأهواء وتضعف فيها قوة المنطق، ولا يؤدي الجدال فيها إلى نتيجة حاسمة ومرضية.
والزعماء الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل بدافع الاستكبار والمكر السيء على ما ذكرته آيات سورة فاطر [42- 43] التي أوردناها قبل وغيرها كانوا يتوخون التشويش والتهويش على الناس. ولعلهم كانوا يعقدون الاجتماعات العامة للحث على التمسك بعقائد الآباء وللتحريض على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشارت الآية [33] من(4/293)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
هذه السورة إلى شيء من ذلك. ولذلك طلب القرآن من الناس أن يتفكروا في أمر الدعوة النبوية وهم منفردون بإخلاص وتجرد وأن يترووا ويحكموا العقل ولا يؤخذوا بالتهويش والتشويش والعصبية والهوى، وحينئذ تبان لهم الحقيقة ساطعة ناصعة.
والخطاب في الآية وإن كان موجها للناس عامة فلا يبعد أن يكون قد قصد فيه بنوع خاص ذلك الفريق المعتدل الذي كان يعترف في نفسه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وكان خجله أو وجاهته أو مصلحته الخاصة أو مركزه في قومه وعشيرته أو سنّة تمنعه من الإسلام، وفي سورة القصص التي مرّ تفسيرها آيات تشير إلى بعض هؤلاء على ما نبهنا إليه في سياق تفسيرها. وقد وردت روايات عديدة تذكر ذلك أيضا وقد أوردنا بعضها في سياق تفسير بعض السور السابقة مثل القلم والمدثر والإسراء والقصص والأنعام وغيرها.
وكل ما انطوى في الآية من هذا مستمر التلقين في صدد مواقف التهويش والتشويش التي يقفها ذوو النيات السيئة والمآرب الخاصة من دعوة الإصلاح والحق كما هو المتبادر.
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
. (1) فزعوا: خافوا واندهشوا.
(2) فلا فوت: لن يفوت منهم أحد أو يقال لهم ذلك.
(3) التناوش: التناول أو التمسك.
(4) ويقذفون بالغيب: كناية عن الاندفاع وراء الظنون والتخمينات، وحكاية(4/294)
لما كانوا يفعلونه ويرمون به النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) حيل بينهم: بمعنى منعوا وحجبوا.
(6) أشياعهم: بمعنى أمثالهم.
في الآيات إشارة إلى ما سوف يكون من حال الكفار حينما يحل فيهم وعد الله وقد بدأت بأسلوب فيه معنى التنبيه والإنذار ووجّه الخطاب فيه إلى السامع أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فحينما يحل وعد الله وعذابه سترى حال الكفار عجيبا وموقفهم رهيبا. حيث يعتريهم الفزع وتستولي عليهم الدهشة لأنهم يرون أنفسهم قد أخذوا بكل سرعة ومن أقرب مكان وآمنه في ظنهم. ودون أن يفوت أو يفلت منهم أحد. وحيث يهتفون بالإيمان ولكن هذا لا يكون مجديا لأن الأمر قد بعد عنهم وفرصة تناوله والانتفاع به قد ضاعت عليهم. فقد كفروا به من قبل وذهبوا في التخمين والظنون والرجم بالغيب في سياق التكذيب والجحود أبعد المذاهب. وسيحال بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأمثالهم الكافرين المكذبين من الأمم السابقة لهم، وحينئذ يرون حقيقة ما كانوا يشكون فيه شكهم الشديد المريب الذي لا يستندون فيه إلى عقل وحق وعلم.
وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة، وهي في ذات الوقت استمرار للآيات السابقة لها بسبيل إنهاء موقف الجدل والمكابرة أو حكايته، وهي قوية نافذة، وقد استهدفت فيما استهدفته على ما يتبادر إثارة الخوف والندم في السامعين من المشركين وحملهم على الارعواء قبل فوات الفرصة.
ولقد أورد المفسرون تأويلا معزوا لبعض علماء التابعين لجملة وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) بأنها تعني أخذهم بعذاب دنيوي أو خسف أو انكسار في حرب أو في يوم بدر، وروح الآيات تلهم بقوة أنها بسبيل وصف مشهد الكفار يوم القيامة وتبكيتهم وإنذارهم.
ولقد أورد الطبري حديثا عن ربعي بن حراش قال: «سمعت حذيفة بن(4/295)
اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب.
قال: فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السّفيانيّ من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق وجيشا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ثم يخرجون متوجّهين إلى الشام فتخرج راية هذا من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على الفئتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السّبي والغنائم ويخلي جيشه التالي بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل فيقول يا جبرائيل اذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم فذلك قوله في سورة سبأ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [51] الآية، ولا ينفلت منهم إلّا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة فلذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين» . وعقب الطبري على هذا برواية تفيد الشك في رواية الحديث عن سفيان الثوري الذي ذكر في سلسلة الرواة. والحديث متهافت ومحل شك بدون ريب وفيه صورة من صور التطبيق على الأحداث والأهواء والفتن التي كانت في الصدر الإسلامي وزمن الأمويين وبعدهم مما يقع المرء على كثير منه على هامش الآيات القرآنية. ولقد أورد الطبري بعد إيراده الحديث والرواية المشككة فيه أقوالا معزوة إلى عطاء ومجاهد وقتادة تفيد أن الجملة القرآنية هي في صدد مشهد المشركين يوم القيامة أو جهة خروجهم من قبورهم وهو ما تلهم روح الآيات على ما نبهنا عليه آنفا.(4/296)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
سورة الزّمر
في السورة دعوة إلى الله وحده وتنويه بقدرته وعظمة مشاهد الكون، وحكاية لبعض عقائد المشركين وأقوالهم وحملة عليهم ومقايسات بين المؤمنين والكافرين، وتنويه بالقرآن وأثره في النفوس الطيبة، وتصوير رائع للبعث والقضاء بين الناس. وقد تخلل آيات السورة أمثال ومواعظ ومبادئ عامة، وتلهم بعض آياتها أن فيها إذنا للمؤمنين بالهجرة.
والمقايسات التي فيها جاءت بأسلوب نظمي خاص يجعله خصوصية من خصوصيات السورة، وفصولها مترابطة تسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [52- 54] مدنية، وانسجامها في السياق موضوعا وسبكا يسوغ الشك في ذلك.
ولقد روى الترمذي عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل» حيث ينطوي في الحديث عناية نبوية خاصة بهاتين السورتين لا بد لهما من حكمة قد يكون منها ما احتوتاه من مواعظ وحكم وتنويه بالقرآن. وفي الحديث دلالة على أن هذه السورة كانت تامة الترتيب معروفة الاسم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
__________
(1) التاج ج 4 ص 17.(4/297)
(1) الدين: هنا بمعنى الخضوع والاتجاه والعبادة.
(2) لا يهدي: هنا بمعنى لا يوفق ولا يسعد، على ما تلهمه روح الآية.
بدأت السورة بتقرير كون الكتاب أي القرآن هو تنزيل من الله العزيز الذي عظمت قدرته وعز جانبه، الحكيم الذي جميع أفعاله حكمة وصواب. ثم وجه الخطاب في الآيات التالية للمطلع للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أنزل إليه الكتاب بالحق وأمره بعبادة الله وحده والإخلاص له في الخضوع والاتجاه لأن ذلك إنما يجب له وحده. وأشير بعد ذلك إلى المشركين إشارة تنطوي على التقريع لأنهم اتخذوا من دون الله أولياء يشركونهم معه في الخضوع والاتجاه زاعمين أنهم إنما يفعلون ذلك ليكونوا أسباب قربى وحظوة لهم عند الله. ثم قرر بأسلوب إنذاري بأن الله سوف يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون ومرتكسون ويجزيهم على ما يزعمون بما يستحقون وأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد كل كاذب كافر. وانتهت الآيات بحجة جدلية من قبيل المساجلة وهي أن الله لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى أحسن ما يخلق، ثم أكدت تنزهه عن ذلك فهو الواحد القهار الغني عن الولد والمحيط بكل شيء والذي يعنو لحكمه كل شيء.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات، ويلوح من حكاية اعتذار المشركين عن شركهم وزعمهم أنهم إنما يعبدون الشركاء ليكونوا لهم سبب قربى إلى الله أن الآيات نزلت بسبيل التعقيب على مشهد مناظرة وجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم أو بسبيل تسجيله والتنديد بهم من أجله.
والآية الأخيرة توضح مفهوم الأولياء الذين ورد ذكرهم في ما قبلها وتوضح(4/298)
مفهوم عقيدة المشركين فيهم. وبذلك تتضح الحجة الجدلية التي احتوتها من قبيل المساجلة كما قلنا ونعني عقيدة العرب بكون الملائكة بنات الله وكونهم يعبدونهم ليكونوا شفعاء لهم عنده. وفي أسلوب الآيات التنديدي في هذه العقيدة توكيد جديد بأن أي اتجاه إلى غير الله بأي معنى وصفة- حتى ولو بقصد التوسل والتقرب إليه- يعتبر شركا لا يرضى عنه الله قط مما تكرر كثيرا ومما هو مبدأ أساسي محكم من مبادئ القرآن والإسلام.
تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
وتأويلنا لجملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) مستمد من وصف الكاذب الكافر المتحقق في أصحابه لأن هذا الوصف يعني فيما يعنيه أيضا فساد الخلق وسوء النية وعدم الرغبة في الحق والهدى وأن ذلك هو الدافع للمتصفين به إلى المواقف الباغية التي يقفونها.
ويتبادر لنا إلى هذا معنيان أو مقصدان آخران في الجملة وأمثالها مثل (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين والكافرين والمجرمين والمفسدين) . أولهما مستلهم من سياق الآيات التي ترد فيها وهو مقصد التنديد والتبكيت والإنذار وحمل أصحاب الصفات المذكورة على الارعواء والتوبة عن مواقفهم. وثانيهما أنها قاصرة على من يبقى متصفا به، وأنها لا تعني مع ذلك أنه من المحتم على الموصوفين به أن يبقوا في الضلال والفسق والفساد والظلم والإجرام والكفر والكذب محرومين من توفيق الله وعنايته وهدايته. فما دام أن الله تعالى قد جعل فيهم قابلية للتدبر والتفكر والاختيار فإن احتمال عودتهم عن مواقفهم إلى الحق والصواب ونيلهم لرضاء الله وتوفيقه يظل قائما. ويدعم هذا الآيات الكثيرة التي نزلت للتوبة وفتح الباب تجاه الكافرين المجرمين المنافقين الظالمين الكاذبين لينيبوا إلى الله، على ما شرحناه في سياق سورة البروج وأوردناه من الآيات الكثيرة في صدده. ولقد وقع ذلك فعلا فإن معظم الذين كانت هذه النعوت تعنيهم قد تابوا وأنابوا إلى الله وآمنوا بالقرآن(4/299)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
والرسالة المحمدية وغدوا موضعا لعناية الله تعالى وأهلا لرضائه وحملوا مشعل الهداية الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها. واستحقوا وصف الله عز وجل:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة/ 100] .
[سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
. (1) يكوّر: بمعنى يلفّ بعضه على بعض أو يدخل بعضه على بعض.
(2) أنزل لكم: هنا بمعنى أوجد لكم أو سخر لكم.
(3) ثمانية أزواج: ذكر وأنثى من كل من الضأن والماعز والإبل والبقر وقد عبر عن ذلك بنفس التعبير في آيات سورة الأنعام [143- 144] .
(4) أنى تصرفون: أين تذهب أفكاركم وتنصرف عقولكم.
جاءت هذه الآيات معقبة على ما سبقها وبسبيل توكيد استحقاق الله وحده للخضوع والعبادة، وقد استعمل فيها ضمير المخاطب الجمع كأنما هي موجهة للسامعين وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
وهي قوية رائعة في أسلوبها ولفتها النظر إلى مشاهد عظمة الله ونواميس(4/300)
ملكوته وخلق الناس والأنعام وأفضاله على خلقه، بسبيل البرهنة على استحقاقه وحده للعبادة وضلال الذين يشركون غيره معه فيها.
تعليق على جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وما بعدها
وقد قرر جمهور المفسرين «1» أن جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها تعني الإشارة إلى أصل خلق بني آدم حيث خلق الله آدم من تراب ثم نفخ فيه من روحه ثم خلق زوجته حواء من ضلع من أضلاعه. وهذا ما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين.
وقد يكون القصد من الجملة الإشارة العامة إلى النوع الإنساني الذي خلقه من زوجين من جنس واحد فكأنما هما نفس واحدة، وقد يكون ضمير الجمع المخاطب من القرائن على هذا القصد في هذا المقام.
وقد قرر جمهور المفسرين كذلك «2» أن جملة خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ تعني الصور التي تتطور بها الأجنة في بطون الأمهات وأن جملة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ تعني ظلمة صلب الرجل حيث تكون النطفة أولا ثم ظلمة رحم المرأة حيث تنمو النطفة ثم ظلمة المشيمة التي تلف الجنين في الرحم.
وقرروا كذلك «3» أن جملة: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [6] في معنى خلق لكم زوجين من كل نوع من الأنعام الأربعة وهي الضأن والمعز والإبل والبقر على ما جاء بصراحة في آيات سورة الأنعام [143- 144] التي مرّ تفسيرها.
ولقد علقنا على ما جاء في الآيتين الأولى والثانية في سياق آيات مماثلة في
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي.
(2) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي.
(3) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي.(4/301)
سورتي الأعراف ويس بما يغني عن التكرار «1» . ونكتفي بالقول هنا بمناسبة ما ورد في الآية الثانية من الإشارات إلى كيفيات الخلق أن في أسلوب الآيات ومضمونها ما يدل على أن القصد منها كما هو في أمثالها الكثيرة على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة هو التنبيه إلى مشاهد عظمة الله وقدرته ونعمه على الناس بأسلوب يتسق مع أفهام الناس على اختلاف فئاتهم وبما هو ماثل أمام أعينهم وفي أنفسهم وما يتمتعون به من وسائل الحياة وليس تقرير نواميس كونية وخلقية من وجهة فنية وأن الواجب عدم تجاوز هذا النطاق في هذه الآيات لأن ذلك ليس من المقاصد القرآنية.
تعليق على جملة إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
والآية الأخيرة من الآيات الحاسمة في تقرير كون كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وما ينشأ عن ذلك من الهدى وعمل الصالحات والضلال والكفر واقتراف الآثام إنما هو من مكتسبات الإنسان وقابليته الاختيارية التي شاء الله أن يودعها فيه. وفي تقرير تنزيه الله عز وجل عن تحتيم الكفر والإثم على أحد تحتيما لا يجعل له مناصا منهما. فهو الغني عن الناس إن كفروا به ولا يرضى بذلك ولا يحبه لهم قط في حين أنه يرضيه منهم أن يعترفوا به ويشكروه ويحبه لهم.
ومع وضوح الآيات ومقاصدها في التنويه بالشكر والتنديد بالكفر فإن أصحاب المذاهب الكلامية «2» تشادوا حولها فقال بعضهم: إن عدم الرضا وعدم الإرادة في معنى واحد وإن الكفر لا يمكن أن يقع بإرادة الله. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا: إن هناك فرقا بين الرضا والإرادة ولا يقع في ملك الله إلّا ما أراد وإن كان
__________
(1) آيات سورة الأعراف [54 و 189] وسورة يس [38- 40] و [71- 73] .
(2) انظر تفسير الآية في الكشاف للزمخشري وما عليه من تعليقات لابن المنير الإسكندري (الطبعة الأولى مطبعة مصطفى محمد) وانظر أيضا تفسيرها في تفسير الخازن.(4/302)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
لا يرضى عن بعض ما يقع. ونحن نرى التشاد حول الآية تكلفا لا تقتضيه ولا تتحمله ولو كان مقصد كل فريق تقديس الله من وجهة نظره. ونرى الأولى أخذ الآية وأمثالها على مقصدها الواضح فيها وهو الحث على الإيمان والشكر والتنديد بالكفر والتحذير معه.
[سورة الزمر (39) : آية 8]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
. (1) خوله: بمعنى منحه أو مكنه.
في الآية تنديد بخلق من أخلاق كثير من الناس، فإذا أصاب أحدا ضرر أو أحدق به خطر لجأ إلى الله تعالى وحده واستغاث به فإذا ما استجاب له وكشف عنه ما ألمّ به وبدّله نعمة بعد سوء نسيه وجعل له أندادا وشركاء في الدعاء والعبادة متخليا عن موقفه الأول ضالا بذلك عن سبيل الله. وفي آخر الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لذلك الإنسان وأمثاله تمتع بكفرك قليلا في الدنيا فإنك من أصحاب النار جزاء ما أنت فيه من ضلال وتناقض.
ولقد قال البغوي في صدد نزول الآية: (قيل إنها نزلت في عتبة بن ربيعة.
وقال مقاتل: نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وقيل هي عامة في كل كافر) ونحن نرجح القول الأخير استلهاما من روحها وعطفها على ما سبقها ونرى أنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا في صدد الجدل القائم بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين وأنها جاءت استطرادية لتندد بموقف التناقض الذي يقفه المشركون من الله عز وجل في حالتي الشدة والفرج. وهذا لا يمنع أن يكون حدث في ظروف نزولها موقف من بعض المشركين مماثل لما حكته الآية فكان مناسبة لما اقتضته حكمة التنزيل من التنديد بتناقض المشركين.(4/303)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
وفي الآية توكيد لما احتوته آيات في سور أخرى سبق تفسيرها من اعتراف المشركين في قرارة نفوسهم بالله وبأنه هو وحده كاشف الضرّ والسوء ومن عادتهم في اللجوء إليه وحده حينما يحدق بهم خطر أو يلم بهم ضرر. وفي ذلك توكيد حاسم آخر بأن الله لا يقبل من عباده إلّا أن يكون اتجاههم إليه وحده في كل ظرف وبأن غير ذلك هو شرك وكفر.
وفي الآية تلقين مستمر المدى في صدد من لا يذكر الله إلّا في وقت الشدة وينساه وينحرف عن جادة الحق والتقوى في وقت الرخاء وما في ذلك من قبح وبشاعة وإثم عند الله.
[سورة الزمر (39) : آية 9]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
. (1) قانت: خاضع أو خاشع أو طائع.
في الآية تساؤل عما إذا لم يكن الأفضل هو الخاضع لله وحده العابد له، آناء الليل وأطراف النهار، والذاكر له وقت الشدة والرخاء معا، يحسب حساب الآخرة وأهوالها، ويرجو من ربّه أن يشمله برحمته. وأمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالتساؤل ثانية عما إذا كان يصح أن يسوّى بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون أو أن يكون الفريقان في مقام واحد. وتقرير بأن أرباب العقول الراجحة السليمة هم فقط الذين يتذكرون ويدركون حقائق الأمور.
ولقد روى البغوي عن عطاء أن الآية نزلت في أبي بكر، وعن الضحاك أنها نزلت في أبي بكر وعمر، وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان، وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله عنهم جميعا «1» . وليس ذلك واردا
__________
(1) انظر أيضا تفسير الزمخشري والخازن حيث رويا بعض هذه الأسماء.(4/304)
في مساند الصحاح وأسلوب الآية عام مطلق وبينه وبين أسلوب الآية السابقة تناظر. فالموضوع في كلتيهما مطلق عام. وفي كلتيهما أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستنكار وإعلان الحقيقة الواجب إدراكها. وهذا ما يسوغ القول إن هذه الآية متصلة أولا بالآية السابقة وإن كلتيهما متصلتان بالسياق وقد جاءتا على سبيل الاستطراد والتنبيه. ولا نريد بما قلناه أن ننفي خبر استغراق بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين في التهجد بالليل بنوع خاص واشتهار ذلك بحيث جعلتهم حكمة التنزيل مناسبة للمفاضلة بينهم وبين أشخاص بطرين مستكبرين من الكفار.
والمتبادر أن التساؤل الأول على سبيل المقايسة بين المؤمن الصالح والكافر المشرك الذي أشارت إليه الآية السابقة والذي لا يذكر الله إلّا في وقت الشدة وينحرف عن سبيله وقت الرخاء. وأن التساؤل الثاني تعقيب على الأول وبسبيل التنويه بالفريق الصالح الذي هو وحده يدرك ويعلم والتنديد بالفريق المنحرف بسبب عدم فهمه وعلمه. وواضح أن الشطر الثاني من الآية ينطوي على التقرير الإيجابي بأفضلية المؤمن الصالح على المشرك المنحرف الضال بقطع النظر عن المركز الاجتماعي لكل منهما. واستنكار التسوية بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وفي هذا- وبخاصة في تقرير أفضلية المؤمن الصالح- تلقين جليل مستمر المدى.
تعليق على جملة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
ومع أنه قد يكون المقصود القريب من هذه الجملة المؤمنين والكافرين حيث أدرك الأولون وعلموا حقائق الأمور فاتبعوا طريق الهدى وعميت أبصار الآخرين عن ذلك فإن في إطلاق عبارتها مسوغا للقول إنها تتناول كل ما يصح أن يكون موضوع مقايسة بين أمرين أو بين رجلين أو بين جماعتين أحدهما يدعم رأيه أو موقفه بالحجة الواضحة ويستند فيه إلى علم وتفكير والثاني مهوش مضلل لا يعي الحقيقة ولا يدرك موضع الحق ولا يستند في موقفه إلى علم وبينة. ولهذا فإن الجزء الرابع من التفسير الحديث 20(4/305)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
التعبير قد أصبح مثلا من الأمثلة القرآنية يتمثل به في كثير من المناسبات لما انطوى فيه من حكمة وصواب وحق.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا ورد في مسند الإمام عبد بن حميد عن أنس: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو في الموت فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أرجو وأخاف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلّا أعطاه الله عزّ وجلّ الذي يرجو وأمّنه الذي يخافه» . وقد ذكر ابن كثير أن الترمذي والنسائي وابن ماجه قد رووا هذا الحديث أيضا وينطوي في الحديث تطبيق نبوي للتلقين القرآني في المناسبات على سبيل الوعظ والتنبيه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 15]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)
. في الآيات أوامر ربانية للنبي عليه السلام وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
وهي كما يتبادر لنا غير منفصلة عن السياق السابق وقد احتوت تقريرات حاسمة كأنها تقريرات ختامية للموقف الذي ظل فيه الكفار مصرين معاندين وتعقيبا عليه. وقد هتف فيها بالمؤمنين بما هتف تثبيتا لقلوبهم وتطمينا لروعهم وحثا لهم على الصبر والتمسك بأهداب التقوى والإيمان والعمل الصالح. وتبشيرا لهم بالعاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة. واحتوت الآية الأخيرة تنديدا وإنذارا وتعنيفا لاذعا للمشركين متناسبا مع الموقف وباثا في الوقت نفسه الوثوق والاستعلاء في النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه. فليعبدوا ما شاءوا من دون الله فهم الخاسرون يوم القيامة ومن يكن خاسرا يوم القيامة فهو الخاسر لكل شيء.(4/306)
تعليق على تكرر أمر الله في السورة للنبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله وحده مخلصا له الدين
والمتبادر أن أمر الله عز وجل للنبي عليه السلام بإعلان ما أمر بإعلانه هو لأجل قطع أي أمل لدى المشركين في تساهله معهم في صدد آلهتهم وشركائهم وتراجعه عما كان المشركون يبذلون جهدهم في سبيل تحقيقه على ما حكته آيات في سور أخرى سبق تفسيرها مثل سورتي القلم والإسراء.
ويلحظ أن مثل هذا الأمر ورد في مطلع السورة، وقد تكرر هذا الثالث مرة في موضع آخر في أواخر السورة أيضا حيث يمكن أن يدل على أن المشركين قد جددوا جهودهم واقتراحاتهم في ظروف نزول السورة.
تعليق على إلهام جملة وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ بالهجرة إلى الحبشة
والآية الأولى تلهم بالإضافة إلى ما قلناه أنها تحتوي إذنا ربانيا أو حثا ربانيا للمضطهدين من المؤمنين على الهجرة من مكة وتبشيرا لمن يهاجر بأنه سوف يجد في أرض الله سعة وبأن الله سييسر له ما تقر به عينه ويؤتيه أجر صبره وافيا بغير تقتير ولا حساب على ما يناله من أذى وجهد وفراق.
وهذا ما يستفاد من تأويلات الصدر الأول التي رواها المفسرون حيث رووا عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما أن فيها أمرا للمسلمين بالهجرة من مكة. ولقد قال البغوي دون عزو إلى أحد: إنها نزلت في مهاجري الحبشة، وقال الخازن دون عزو إلى أحد: قيل إنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين هاجروا إلى الحبشة، ونرجح أن هذا القول من وحي الهجرة التي كانت في أواخر الهجرة الخامسة على ما يستفاد من روايات السيرة وبعبارة أخرى بعد هذه الآيات التي(4/307)
يخمن نزولها في مثل هذا الوقت، إذا ما لوحظ المقدار الذي نزل من القرآن قبلها.
والروايات تذكر «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على منعهم. قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم، فخرجت أولى قافلة منهم مؤلفة من عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت النبي وأبي حذيفة بن عتبة وزوجته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وزوجته ليلى وأبو سبرة بن أبي رهم وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم.
والأسماء تدل على أن المهاجرين كلهم أو جلهم من بيوتات قريش حيث يزيل هذا ما يقع في الوهم أنهم من الفئات الضعيفة أو الفقيرة. وكل ما كان من أمر هو أن آباءهم وذويهم نقموا عليهم إسلامهم واضطهدوهم وحاولوا أن يفتنوهم عن دينهم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله بالهجرة. والروايات تذكر أنه بلغ المهاجرين خبر إسلام قريش فعادوا إلى مكة بعد أشهر فظهر لهم خطأ ما بلغهم فعاد أكثرهم ثانية إلى الحبشة وهاجر معهم عدد كبير آخر حيث بلغ عدد قافلتهم هذه المرة 83 رجلا و 17 امرأة جلهم من قريش.
ولقد حقق الله وعده للمهاجرين، وظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم حيث وجدوا الحماية والعناية من ملك الحبشة فأقاموا فيها آمنين مطمئنين إلى السنة السادسة بعد الهجرة أي إلى أن انعقد صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أتى بهم إلى المدينة معززين مكرمين وهكذا ضرب الرعيل الأول من المسلمين أروع الأمثلة في التمسك بدين الله وتحمل مشاق الهجرة ومخاطرها ومفارقة الوطن والحرمان في سبيله.
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 321 وما بعدها.(4/308)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
التلقين المنطوي في الآية قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.. إلخ
وبالإضافة إلى ما احتوته هذه الآية من حث المسلمين الأولين على الهجرة إلى أرض الله الواسعة فإنها بأسلوبها العام تتضمن هتافا دائما بما احتوته إلى عباد الله المخلصين. وتتضمن تلقينا مستمر المدى بوجوب عدم الخنوع للظلم والكفر وبغي أهلهما والهجرة من أرضهما إلى أرض الله الواسعة التي يجد المؤمن فيها الأمن والحرية والطمأنينة، ووعدا ربانيا دائما للمتقين المحسنين الصابرين بالعاقبة الحسنة في الدنيا قبل الآخرة. ولقد تكرر هذا الهتاف والوعد في آيات أخرى منها آية سورة النحل هذه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) وآية سورة النساء هذه: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) .
ولقد اجتمع في الآية ثلاثة أخلاق من أكثر ما حث عليها القرآن ووعد المتخلقين بها بأحسن العواقب في الدنيا والآخرة وهي التقوى والإحسان والصبر وبذلك تكون من الآيات المفردة في ذلك.
[سورة الزمر (39) : الآيات 16 الى 20]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
. (1) ظلل: جمع ظلة وهي ما يخيم فوق الرأس ويحيط فوق الشيء.(4/309)
وهي هنا بمعنى إحاطة النار بهم من فوقهم ومن تحتهم.
(2) الطاغوت: الراجح أنها صيغة مبالغة من الطغيان على وزن جبروت وملكوت. واستعملت في القرآن في معان متعددة متقاربة حيث استعملت في معنى الأصنام وفي معنى الشرك وفي معنى الشيطان وإبليس وفي معنى الشخص الشديد الكفر والبغي. والجامع في هذه المعاني شدة الطغيان والبغي والشر وأسبابها.
(3) غرف: جمع غرفة. وأصل معناها العلية أو المسكن العالي، والقصد هنا بيان أن أصحاب الجنة يسكنون القصور العالية المشرفة.
في الآيات:
1- بيان لمصير الخاسرين الذين ذكروا في الآية السابقة لها، فالنار ستحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم.
2- ولفت نظر عباد الله الصالحين إلى ما في هذا المصير من هون.
3- وتقرير كون الله إنما يوحي بذلك ليحذرهم منه ويدعوهم إلى اتقائه بالإيمان وصالح الأعمال.
4- وثناء وتنويه بالذين يجتنبون عبادة الأصنام ويخلصون في الاتجاه إلى الله وحده. فلهؤلاء البشرى وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر عباد الله الذين يتروون فيما يسمعون ثم يتبعون أحسن ما فيه وهو دعوة الخير والهدى. فهم الذين يكون الله قد هداهم وهم ذوو العقول السليمة.
5- وتساؤل في معنى المقايسة بين من استحق العذاب بالكفر وبين المؤمنين المتقين. فإن مصير الأولين النار في حين أن الآخرين يحلون في الغرف العالية التي تجري من تحتها الأنهار.
6- وتقرير بكون هذا هو وعد الله الحق وأن الله لن يخلف الوعد.
7- وسؤال للنبي صلى الله عليه وسلم عما إذا كان مستطيعا إنقاذ من في النار كأنما أريد بهذا السؤال تقرير كون الكافرين الذين استحقوا النار قد بيتوا الجحود والعناد فهم بمثابة(4/310)
من ألقى نفسه في النار، وإفهام النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطمين والتسلية أنه ليس من مهمته إرغام هؤلاء على الإيمان ولا هو بمستطيع ذلك.
ويلفت النظر إلى الآية [18] وما في شطرها الأول بخاصة من قوة التنويه والتلقين والمدى. فذو العقل السليم واللب الطيب هو الذي يتروى في كل ما يسمعه ثم يتبع ما يكون فيه من الصواب والهدى دون أن يؤثر فيه غرض وهوى.
ولذلك فإنه يصح أن يكون من تلقينات القرآن العامة المدى والاستمرار في صدد من يتروى فيما يسمع ويتبع الصواب منه وفي وجوب ذلك.
ولقد روي «1» أن الآية [17] نزلت في إسلام عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد الذي تمّ على يد أبي بكر، كما روي أنها نزلت في زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي رضي الله عنهم جميعا، ويلحظ أن الآية منسجمة مع السياق قبلها وبعدها انسجاما تاما وأن معظم الذين ذكرت الرواية أسماءهم أسلموا منذ عهد مبكر، ومنهم من أسلم في العهد المدني مثل أبي ذر وسلمان في بعض الروايات. على أن هناك من قال إنها بقصد التنويه بالمؤمنين بصورة عامة «2» . وهو الأوجه لا سيما أنه لم يرو أحد أنها نزلت لحدتها وإنما هي من سلسلة تامة متصلة السياق بما قبلها وما بعدها على ما هو المتبادر.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أبي سعيد الخدري قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ أهل الجنّة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغهم غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين» . وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن علي قال: «قال رسول الله: إنّ في الجنة غرفا يرى بطونها من ظهورها
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير. [.....]
(2) المصدر نفسه.(4/311)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
وظهورها من بطونها. فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلّى بالليل والناس نيام» . وصيغة أخرى لهذا الحديث رواها الإمام أحمد أيضا عن أبي مالك الأشعري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدّها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصّيام وصلّى والناس نيام» . حيث ينطوي في الأحاديث صورة مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلق به على الآيات القرآنية على سبيل التبشير والتشويق والتوضيح.
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
. (1) يهيج: يتم جفافه.
(2) حطاما: فتاتا أو محطما مهشما.
المتبادر أن الآية غير منفصلة عن سابقاتها وأنها جاءت بمثابة استطراد وتعقيب عليها لتنبيه الناس إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من نزول المطر من السماء وتسربه إلى باطن الأرض ثم خروجه منها ينابيع وانسياحه على سطحها وما ينبت به من زرع مختلف الألوان ثم يتم نضجه وجفافه ثم يصفر ثم يصبح حطاما. وفي كل هذا ذكرى لذوي العقول والإذعان. وقد قال بعض المفسرين: إن فيها تنبيها على أنه لا بد أن يكون للكون صانع مدبر، ودليلا على قدرة الله على بعث الناس وإعادتهم ثانية. وقال بعضهم: إن فيها تمثيلا لمظاهر الحياة للتحذير من الاغترار بها فكل ما يبدو فيها بهيجا عاقبته إلى الجفاف والدمار.
وكلا القولين وجيه، مع التنبيه إلى أن ما في القول الثاني من قصد التحذير من الاغترار بالدنيا لا يعني الدعوة إلى نفض اليد منها. فذلك ما نفاه القرآن في(4/312)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
مواضع عديدة بل واستنكره في آية سورة الأعراف هذه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) وإنما يعني التحذير من الاستغراق فيها استغراقا مسرفا ينسي المرء واجبه نحو الله والناس والمصير الأخروي الذي سوف يلقى فيه جزاء ما قدم بين يديه من خير وشر.
[سورة الزمر (39) : آية 22]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
. تساءلت الآية تساؤلا إنكاريا عمن هو الأفضل، أليس هو الذي شرح الله صدره فاهتدى وهو على نور من ربّه؟ ثم أنذرت ذوي القلوب القاسية التي لا تخشع ولا تلين عند ذكر الله وقررت أنهم في ضلال مبين.
وقد انطوى في الآية كما هو المتبادر جواب إيجابي بأفضلية الأولين كما احتوت تنويها بهم وتقريعا للكافرين وذوي القلوب القاسية.
والآية كما يبدو جاءت معقبة على الآية السابقة في صدد استخراج العبرة التي انطوت فيها والتي دعي أولو الألباب إلى تدبرها فإذا كان الناس متنوعين في مشاربهم وميولهم فالأفضلية بطبيعة الحال هي للصالحين المهتدين بهدى الله ونوره.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية حديثا عن عبد الله بن مسعود قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا رسول الله كيف انشراح صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك، قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور. والتأهّب للموت قبل نزول الموت» .
حيث ينطوي في الحديث صورة من ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من محاورات في صدد الآيات القرآنية ومداها وما كان من انتهاز الرسول صلوات الله عليه الفرصة لوعظ أصحابه وتهذيبهم وحفزهم على صالح الأعمال.(4/313)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
[سورة الزمر (39) : آية 23]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
. (1) متشابها: الراجح أن الكلمة هنا بمعنى حسن التساوق والانسجام في نظم القرآن ومحتوياته وأنها غير ما تعنيه جملة وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ في آية سورة آل عمران هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ....
(2) مثاني: جمع مثنى، وهي إما أن تكون من التثنية بمعنى التكرار والترديد مرة بعد مرة، وإما من الثناء. وكلاهما مما يتحمله مفهوم الآية. فالمعنى الأول يعني ما جاء الأسلوب القرآني به من تكرار الوعظ والقصص والأمثال وترديدها.
والمعنى الثاني يعني ما احتواه القرآن من صفات الله وأسمائه ومشاهد قدرته وتقرير استحقاقه للثناء والحمد.
في الآية تنويه بالقرآن الكريم وأثره، فالله قد أنزل على رسوله أحسن الكلام.
وقد جاء في حسن التساوق والانسجام والمواعظ الروحانية وتنوع أساليب الإنذار والتبشير والقصص وصفات الله وأسمائه الحسنى ومشاهد قدرته وعظمته ما من شأنه أن يثير في الذين يؤمنون بالله ويخافونه شعور الرهبة والهيبة والخشوع فتقشعر جلودهم لذكر الله ثم لا تلبث أن تستشعر بالسكينة والطمأنينة. وهذا من أثر هداية الله التي يوفق الله إليها من يشاء من عباده، أما من لم يوفقه إليها فلن ينتفع بذلك.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: لو حدثتنا فنزلت الآية. ومقتضى الرواية التي لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أن الله أنزل الآية ردا عليهم. والرواية في المعنى المتبادر منها محل توقف من دون ريب لأن أصحاب رسول الله الأولين رضوان الله عليهم أجل من أن يظنوا أن(4/314)
حديث رسول الله يضارع حديث الله أو يغني عنه. والشطر الثاني من الآية يدعم ذلك ويفسر مدى شطرها الأول حيث يسوغ القول إنها في صدد التنويه بالمؤمنين الأولين الذين اهتدوا وتأثروا بالقرآن ومواعظه وتساوقه وانسجامه وروحانيته أقوى التأثر. والآية بعد فيما هو المتبادر متصلة بسابقتها ومعقبة عليها. فقد احتوت السابقة تنويها بمن شرح الله صدره للإسلام وتنديدا بقساة القلوب عند ذكر الله فجاءت هذه الآية تبين ما هو ذكر الله وما هو أثره في القلوب الصافية السليمة.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية عن عروة بن الزبير قال: «قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عزّ وجلّ تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم» . حيث ينطوي في الحديث توكيد تطبيقي لأثر القرآن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين رضي الله عنهم.
ومعجزة الآية في المؤمنين مستمرة المدى في كل ظرف ومكان، فلن يسمع القرآن مؤمن يخاف الله ولا يكابر في آياته إلّا استشعر بروحانيته وخشع قلبه له.
ويستوي في هذا العربي الذي يفهم لغة القرآن والأعجمي إذا سمع ترجمة معانيه ترجمة صادقة.
هذا، وليس من محل للاستشكال في الآية بسبب الإطلاق في عبارة: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) فإن الإشكال يزول بآيات عديدة أخرى قرنت فيها هداية الله وإضلاله بأسبابها ونص فيها على أن الله إنما يضل الفاسقين والظالمين أي الذين فسدت أخلاقهم وساءت نياتهم، وإنما يهدي إليه من أناب أي من رغب في الحق والهدى على ما نبهنا إليه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية حديثا عن عباس بن عبد المطلب قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها» . وحديثا آخر جاء فيه: «إذا اقشعر(4/315)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار» . حيث ينطوي في الحديثين حثّ وترغيب للمسلمين في صدد مدى هذه الآية.
هذا، ولقد علقنا على موضوع ذكر الله وأثره وأوردنا ما ورد في ذلك من آثار فنكتفي هنا بهذا التنبيه بمناسبة ما احتوته الآيات من أثر ذكر الله في المؤمنين المخلصين.
[سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 26]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
. في الآيات:
1- تساؤل في معنى المقايسة بين الذي لا يجد ما يتقي به عذاب الله يوم القيامة إلا وجهه لأنه لم يقدم عملا صالحا يتقي به، وبين من يقدم هذا العمل الذي يتقي به من النار.
2- وحكاية تتضمن معنى الإنذار والتبكيت لما سوف يقال للظالمين الذين جنوا على نفوسهم بالكفر والانحراف عن طريق الحق والخير حينما يذوقون طعم ذلك العذاب حيث يقال لهم ذوقوا اليوم جزاء ما اجترحتم من الآثام.
3- وتذكير للكفار بالأمم السابقة التي كذبت رسلها مثلهم فحلّ فيها عذاب الله من حيث لا تشعر ولا تحسب وأذاقها الخزي في الحياة الدنيا.
4- وتقرير ينطوي على الإنذار بأن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم سيكون أكبر وأشدّ لو فكروا وعلموا.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها كذلك اتصال سياق وأسلوب وموضوع وقد جاءت في معرض التوكيد والبيان.
ومما يلفت النظر إليه تكرر التساؤل في معرض المقايسة في آيات السورة مما(4/316)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
يسوغ القول إنها في صدد حكاية مواقف جدل ومناظرة أو ما هو بسبيل ذلك.
ولعلها في ذات الوقت ردود على بعض كفار غلوا في الزهو والاعتداد بالنفس والمال والقوة، وفي الاستخفاف بالمؤمنين وضعفهم وفقرهم. فردت الآيات في معرض المناظرة والجدل ردودا متتابعة استهدفت بيان الفضل الحقيقي والتفوق الحقيقي في تقوى الله والمصير السعيد الذي سيصير إليه المؤمنون، والعذاب الأكبر الذي سيكون من نصيب الكافرين.
وفي مضامين الآيات يمكن أن يرى المتمعن قرائن على هذا أولا، كما أن مثل هذا الزهو والتبجح والاستخفاف مما حكته آيات قرآنية عديدة ثانيا.
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 29]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)
. (1) متشاكسون: متنازعون.
(2) سلما: بمعنى خالصا بدون منازع.
في هذه الآيات:
1- تنويه بما احتواه القرآن من الأمثال المتنوعة التي ضربها الله تعالى للناس فيه بقصد حملهم على التدبر والتذكر.
2- وإشارة إلى أن القرآن الذي احتوى هذه الأمثال هو قرآن عربي لا عوج فيه ولا إغراب ولا تعقيد، وقد جعله الله كذلك حتى يفهمه السامعون بسهولة وتبعث فيهم أمثاله شعور تقوى الله.
3- ومثل مستأنف من جملة هذه الأمثال على سبيل المقايسة: فحالة المشركين والموحدين مثل حالة مملوكين أحدهما يملكه شركاء عديدون متنازعون(4/317)
عليه كل واحد منهم يجذبه إليه، وآخر لمالك واحد خالصا له لا ينازعه فيه أحد.
فكما أن حالة هذين المملوكين ليست متساوية وكما أن المنطق يؤدي إلى تفضيل حالة المملوك لصاحب واحد، كذلك حالة المشرك والموحد لا يمكن أن تكون متساوية لأن المشرك مقسم بين معبودات عديدة هو بينها بين جذب ودفع في حيرة من أمره لا يدري أيها أنفع وأيها يجب أن يخلص له الاتجاه أكثر من غيره في حين أن الموحد قد نجا من هذه الحيرة حيث عرف له ربا واحدا فأسلم نفسه إليه وجعل اعتماده عليه وحده. والمنطق يؤدي إلى تفضيل حالة الموحد على المشرك.
وانتهت الآيات بتقرير استحقاق الله وحده للحمد بعبارة أريد بها عدم تجويز العقل والمنطق أن يسوى بين الله والشركاء وتقريع المشركين على ما يبدو منهم من حمق وعدم إدراك وعلم لما في شركهم من سخف وضلال.
الآيات كما هو المتبادر تعقيب على سابقاتها واستمرار لها في السياق.
والمثل الذي احتوته الآيات مقتطع من حياة العرب الذين كانوا أول من وجه القرآن إليهم، حيث كان المملوك الواحد يقع أحيانا في ملك عدة شركاء وارثين فيكون في صدده مشادات ومشاحنات فيما بينهم. ومع ذلك فإنه مما يصح أن يكون عاما أيضا لأنه قائم على منطق صحيح يتسق مع كل ظرف وحال.
تعليق على جملة قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ واستطراد إلى ما روي من معاني حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ومداه وإلى كتابة القرآن
والمتبادر أن الآية الثانية ليست في صدد تقرير كون لغة القرآن هي اللغة العربية لأن هذا تحصيل الحاصل، وإنما هي في صدد تقرير كون لغته العربية سليمة مأنوسة لا إغراب فيها ولا تعقيد ليستطيع السامعون على مختلف طبقاتهم أن يفهموه ويفهموا ما فيه من مواعظ وأمثال. وفي هذا ردّ قرآني على من قال: إن لغة القرآن كانت فوق مستوى مدارك العرب وأفهامهم وتوكيد بأن لغته هي اللغة التي(4/318)
كان يفهمها السامعون أو معظمهم على اختلاف فئاتهم ومنازلهم.
ولقد أشرنا إشارة عرضية إلى حدوث نزول القرآن على سبعة أحرف في سياق تعليقنا على التوراة والإنجيل في سورة الأعراف. وقد رأينا أن نستوفي الكلام عن ذلك ونستطرد إلى قراءات القرآن في الوقت نفسه في مناسبة هذه الجملة.
فنقول إن هناك أحاديث وردت في الكتب الخمسة عن نزول القرآن على سبعة أحرف منها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبيّ بن كعب جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال:
أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف فأيّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا» «1» . ولفظ الترمذي: «يا جبريل إنّي بعثت إلى أمة أمّيين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قطّ، قال: يا محمّد إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف» «2» . وحديث رواه مسلم عن أبيّ قال: «كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثمّ دخل رجل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعا على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل هذا فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأا فحسّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا، فقال لي: يا أبيّ أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثالثة اقرأه على سبعة أحرف فلك
__________
(1) التاج ج 4 ص 27.
(2) المصدر نفسه.(4/319)
بكلّ ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت اللهمّ اغفر لأمتي اللهمّ اغفر لأمتي وأخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلّهم حتى إبراهيم» «1» . وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدوني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» «2» . وحديث رواه الأربعة أن عمر بن الخطاب قال: «سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه ثمّ أمهلته حتى انصرف، ثم لبّبته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، ثمّ قال: اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثمّ قال لي: اقرأ فقرأت فقال: هكذا أنزلت إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسّر منه» «3» .
ولقد تعددت تخريجات علماء القرآن للأحرف السبعة حتى بلغت اثنين وعشرين تخريجا منها الغريب الذي لا علاقة له بقراءة النص القرآني «4» . وأوجهها وأرجحها عندنا هو أن المراد به سبعة أوجه للقراءة، أو سبعة أوجه يقع فيها تغاير في فتح ورفع وكسر وتقديم وتأخير وتخفيف وتشديد وإدغام. وروح الأحاديث تدعم ذلك فيما هو المتبادر، ويتسق مع روح الآية التي نحن في صددها، ومن الجدير بالتنبيه أن الاختلاف بين القراءات الصحيحة التي يعدها بعضهم سبعا وبعضهم عشرا «5» يدور على الأغلب على:
__________
(1) التاج ج 4 ص 26 و 27 و 28.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 26 و 27.
(4) الإتقان للسيوطي ج 1 ص 48 وبعدها.
(5) القراءات السبع تنسب إلى سبعة أئمة من القراء هم: نافع بن أبي رويم في المدينة، وعبد الله بن كثير في مكة، وأبو عمرو بن العلاء في البصرة، وعبد الله بن عامر في الشام، وعاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي الكسائي في الكوفة. وهناك من يلحق بهم أبا جعفر بن يزيد في المدينة، ويعقوب الحضرمي في البصرة، وخلف البزاز في الكوفة فتبلغ القراءات بذلك عشرا.(4/320)
1- مخارج الحروف كالترقيق والتفخيم والميل إلى المخارج المجاورة.
2- والأداء كالمدّ والقصر والوقف والوصل والتسكين والإمالة والإشمام.
3- والرسم كالتشديد والتخفيف والإدغام والإظهار والهمز.
4- والتنقيط والحركات النحوية. وهذا كما هو واضح متصل بأمر التيسير والتسهيل في القراءة وبالتالي متسق مع وجهة النظر التي رجحناها.
وهناك مسألة هامة متفرعة عن هذه المسألة وهي كتابة القرآن، فإن من العلماء وقراء القرآن من أوجب الاحتفاظ في كتابة القرآن برسم المصحف العثماني، ومنهم من كره كتابته برسم آخر، ومنهم من حرّمها. ولم نطلع على أقوال وأحاديث موثوقة متصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه في هذا الشأن، حيث يسوغ أن يقال إنها أقوال اجتهادية. ولما كان من المتواتر السائغ عند جميع المسلمين كتابة القرآن بخط غير خط مصحف عثمان الذي هو قريب من الرقعة حيث كتب المسلمون مصاحفهم بالخط الكوفي والخط الفارسي والخط الهمايوني والخط المغربي والخط المعلق والخط الثلث إلخ ... بدون حرج ولا إنكار فيكون التشدد هو في صدد طريقة الكتابة أي إملائها وليس في صدد الخط ذاته.
ويبدو أن التشديد متصل بروايات القراءات السبع أو العشر وبالقول إن هذه القراءات صحيحة كلها لأنها تقع في نطاق وحدة الرسم «1» من ناحية، ومتصلة بالسماع المتسلسل الواصل إلى قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية أخرى، بحيث يراد القول إن من شأن كتابة القرآن بغير الرسم العثماني.
وبالخطوط الدارجة في الأزمنة التالية أن تحول دون قراءة الكلمات القرآنية بقراءات مختلفة يحتملها الرسم العثماني ومتصلة بقراء الصحابة فيكون في ذلك تحكم في تصويب قراءة دون قراءة وإبطال قراءة دون قراءة أو مؤد إليهما. وإن هذا هو ما
__________
(1) مثلا: يفعلون وتفعلون، ويغشى ويغشّى، وتبينوا وتثبتوا، وفتحت وفتّحت، وملك ومالك، وكتب وكتاب، ومسجد ومساجد ...
الجزء الرابع من التفسير الحديث 21(4/321)
تحرز العلماء والقراء في مختلف العصور تورعا وتدينا وزيادة في التحري في تلاوة القرآن تلاوة قويمة صحيحة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم والذين سمعوا منه وتلقوا عنه.
ومهما يبدو من وجاهة القول ونتائجه وبخاصة فوائده التي من أهمها احتفاظ المصاحف خلال ثلاثة عشر قرنا برسم واحد قد كتب وفاقا لما يكتب في عهد النبي وبإملائه وحفظ القرآن بذلك من التحريف والتشويه، ومن الخلافات التي لا بد من أن تنشأ بسبب تطور الخطوط من وقت لآخر وتبدلها في زمن لم يكن فيه مطابع ولا تصوير شمسي. والحيلولة دون تكرر المأساة التي أفزعت الخليفة عثمان بن عفان حينما علم أن المسلمين يقرأون القرآن قراءات مختلفة من مصاحف مختلفة في الإملاء والهجاء، وكلّ يدعي أن قراءته هي الصحيحة فحمله ذلك على توحيد هجاء القرآن وكتابته، فإننا نعتقد أنه ليس من شأن ذلك أن يمنع جواز كتابة المصحف بالخط الدارج على شرط مراعاة قراءة من القراءات المشهورة والنص على ذلك في مقدمة المصحف. لأنه لا يوجد نص صريح ثابت متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يمنع ذلك فيما اطلعنا عليه، ولأننا نعتقد أن في ذلك تيسيرا واجبا لتعليم القرآن وتعلمه وحسن ضبطه وإلقائه. والرسم العثماني ليس توقيفيا كما قد يظن البعض، فليس هناك نص وثيق بل وغير وثيق متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه في ذلك وإنما هو في حقيقة الأمر الطريقة الدارجة للكتابة في ذلك العصر ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب وإنما كان يملي ما يوحى إليه به على كتّابه فيكتبونه وفق ما يعرفونه من طريقة الكتابة. وبين الرسم العثماني والخط الدارج فروق غير يسيرة، ومن العسير أن يتعلم القارئ الرسم العثماني بالإضافة إلى الرسم الدارج الذي ألفه في كتابته وقراءاته الأخرى. وما دامت طريقة الكتابة قد تطورت فإن تسويغ كتابة المصحف وفق الطريقة الدارجة طبيعي أيضا وخاصة بعد أن صار الاحتفاظ بالرسم العثماني ليكون المرجع والإمام مطبوعا ومصورا كما قلنا ممكنا إلى ما شاء الله.
ويجب أن يلاحظ أن هناك مسلمين وغير مسلمين لا يتيسر لهم تلقي القرآن من قراء مجازين أو قراء تلقوا أو قرأوا أو سمعوا من قراء مجازين مما يصعب معه إتقان تلاوة القرآن برسمه العثماني بدونه. والمصاحف في متناول جميع الناس على(4/322)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
اختلاف الملل والأجناس. وفي كتابته بالرسم الدارج منع لمغبة الغلط في قراءة كتاب الله وتشويهه وسوء فهمه وتفسيره، وتيسير واجب لنشر القرآن الذي هو من أهم واجبات المسلمين أيضا. ولا سيما أن الرسم العثماني محفوظ لن يبيد بما يوجد منه من ملايين النسخ المطبوعة وغير المطبوعة وبالتصوير الشمسي الذي فيه ضمانة لبقائه المرجع الإمام أبد الدهر. وقد رأينا للإمام ابن كثير في كتابه «فضائل القرآن» قولا يبيح كتابة المصحف على غير الرسم العثماني، وفي هذا توكيد وتوثيق لوجهة نظرنا.
[سورة الزمر (39) : الآيات 30 الى 31]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
. (1) تختصمون: تقفون موقف الخصومة والتقاضي.
وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقررة أنه سوف يموت وأنهم سوف يموتون والراجح أن ضمير (إنهم) عائد إلى المشركين.
ووجه الخطاب في الآية الثانية للجميع بأسلوب الجمع المخاطب أي للنبي صلى الله عليه وسلم والمشركين معا على ما هو المتبادر، مقررة أنهم سيقفون يوم القيامة أمام الله موقف الخصومة والتقاضي.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها ليست منقطعة عن السياق السابق وأنها حلقة في سلسلة الجدل والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين.
ولقد ورد في سورة الطور هذه الآيات: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) التي تفيد أن المشركين الكفار كانوا يقولون إن محمدا لن يلبث أن يموت فتنتهي حركته. ولقد(4/323)
ورد في سورة الأنبياء هذه الآية: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) التي تفيد ذلك أيضا. حيث ينطوي في هذا صورة من صور السيرة النبوية والتشاد الناشب بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين.
والظاهر أنهم قالوا هذا أيضا في ظروف نزول السورة فاحتوت الآية الأولى ترديدا لقولهم واحتوت الثانية استدراكا وإنذارا بأن أمر الفريقين لن ينتهي بالموت حيث يرجعان إلى الله جميعا فيقضي بينهما بالحق.
تعليق على أحاديث مروية في سياق جملة ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
ولقد روى البغوي وابن كثير وغيرهما في سياق هذه الآية حديثا جاء فيه:
«أنه لمّا نزلت هذه الآية قال الزبير: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواصّ الذنوب؟ قال: نعم ليكررن عليكم حتّى يؤدى إلى كلّ ذي حقّ حقّه.
قال الزبير: والله إنّ الأمر لشديد» «1» . حيث ينطوي في هذا الحديث صورة من صور تعليق أصحاب رسول الله على الآيات وتوضيح نبوي ينطوي فيه العظة والتنبيه. وإلى هذا الحديث روى المفسران المشار إليهما بضعة أحاديث أخرى منها حديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: عشنا برهة من الدهر وكنّا نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين قلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتّى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسّيف فعرفت أنها فينا نزلت. ورووا مثل ذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنّا نقول ربّنا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد فما هذه الخصومة فلمّا كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسّيوف قلنا نعم هو هذا. ورووا أيضا حديثا ثالثا عن إبراهيم قال: لمّا نزلت هذه الآية قالوا
__________
(1) ورد هذا الحديث في مسند الترمذي بنص آخر وهذا نصه: «قال يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا قال: نعم، فقال: إن الأمر إذن لشديد» التاج ج 4 ص 198- 199.(4/324)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
كيف نختصم ونحن إخوان؟ فلمّا قتل عثمان قالوا: هذه خصومتنا. وهذه الأحاديث لم ترد في مساند الصّحاح. والمتبادر أنها مما أخذ يروى أو يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة للخلاف والنزاع الذي وقع في آخر عهد عثمان وبعده واندمج فيه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن نصّ الآية وما قبلها وما بعدها يدل دلالة قاطعة على أنها في حقّ فريقي الكفار المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولا يتحمل أن يصرف إلى المسلمين فقط في حال.
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
. (1) مثوى: مقام أو منزل.
(2) جاء بالصدق: كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء برسالة الله وقرآنه وأصحابه الذين صدقوا به.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا تنديديا بأنه ليس من أحد أشد ظلما وجناية على نفسه ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه وهو القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وبأنه من الطبيعي أن تكون جهنم مثواه. ثم تقريرا تنويهيا بالمقابلة بمن جاء بالصدق وصدق به الذين هم المتقون والذين من الطبيعي أن يكون لهم عند الله ما يشتهون ويشاؤون لأن هذا هو جزاء المحسنين عنده. ولسوف يكفر الله عنهم أسوأ ما فرط منهم من ذنوب ويغفرها ويجزيهم أجرهم بأحسن ما عملوا جزاء استجابتهم وتصديقهم وتقواهم.
ولقد روى المفسرون أقوالا عديدة عن علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في المقصود بمن جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ منها أن الأول جبريل(4/325)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
والثاني النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن الأول النبي صلى الله عليه وسلم والثاني أبو بكر ومنها أن الأول النبي صلى الله عليه وسلم والثاني علي. وهذه الرواية انفرد فيها الطبرسي الذي عزاها إلى ابن عباس وقال إنها المروية عن أئمة الهدى من آل محمد. ومنها أن الأول النبي صلى الله عليه وسلم والثاني كل مصدق مؤمن إلى يوم القيامة.
والذي يتبادر لنا أن الآيات جاءت معقبة على الآيتين السابقتين لها لتقرر نتائج الخصومة بين يدي الله استكمالا للاستدراك والإنذار ولتظهر حالة فريقي المؤمنين والمكذبين، وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والارعواء في المشركين وتبشير المؤمنين وتطمينهم. وأنها والحالة هذه عامة بحق الفريقين حاضرين ثم مستمرتا الشمول لكل مكذب كافر ولكل مصدق مؤمن. وأن ذكر أبي بكر وعلي رضي الله عنهما هو من قبيل ما أخذ يروى على هامش الآيات القرآنية من روايات تنافسية نتيجة لما صار يقع من تشاد بين الأحزاب الإسلامية في صدر الإسلام وما كان يساق من روايات وأقوال في المفاضلة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية الأخيرة تلقين جليل مستمر المدى في بثّ الأمل بالغفران الرباني لما يمكن أن يقترفه المؤمن المخلص من ذنوب. وهو ما تضمنته آيات عديدة مرّت أمثلة منها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
. (1) كاف: بمعنى كافل وحافظ.
في الآيات سؤال في معنى التقرير والتوكيد بأن الله حافظ لعبده ورسوله وكافله. وإشارة وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى تخويف المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم بشركائهم من دون الله وتعقيب على ذلك بأن الذي يضله الله لا يمكن أن يهديه أحد(4/326)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
والذي يهديه لا يمكن أن يضله أحد. وسؤال آخر في معنى التقرير والتوكيد والإنذار بأن الله قوي منتقم لن يعجز عن جاحديه ولن يفوته الانتقام منهم.
وقد روى المفسرون «1» في سياق الآيات أن المشركين كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم من انتقام معبوداتهم بسبب ما كان يوجهه إليهم من تسفيه وتنديد كما رووا «2» أن المشركين خوفوا خالد بن الوليد من بطش العزّي حينما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليهدم بيتها. والحادث الأخير كان بعد فتح مكة. والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجب استبعاد الرواية الثانية والأخذ بالرواية الأولى مع القول إن الآيات لم تنزل لمناسبة جديدة من ذلك وإنما جاءت لتردد أقوال المشركين وترد عليها في سياق سلسلة الجدل والمناظرة التي هي حلقة منها وليست منفصلة عنها. وعلى كل حال ففي الآيات صورة أخرى مما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين.
ولقد نبهنا في مناسبات سابقة إلى وجوب الرجوع إلى الآيات التي تفيد إضلال الله للظالمين والفاسقين وهداية الله للمنيبين إليه المتقين لإزالة الإشكال الذي قد يرد في الآيات التي يرد ذلك فيها مطلقا. ونكرر هذا التنبيه بمناسبة هذه الآيات.
[سورة الزمر (39) : آية 38]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
. جاءت الآية معقبة على ما سبقها حيث تقرر أولا تناقض المشركين العجيب في اتخاذهم شركاء مع الله مع أنهم لو سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عمن خلق السموات والأرض لاعترفوا بأنه الله عز وجل وحيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا بسؤالهم سؤالا يتضمن جواب النفي والتحدي والتهوين عما إذا كان هؤلاء الشركاء قادرين على
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن.(4/327)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
دفع ضرّ يريده الله به أو منع رحمة يناله بها، وحيث تأمر النبي ثالثا بأن يعلن أن الله هو حسبه وكافيه وهو وحده الجدير بأن يتوكل عليه المتوكلون. والآية كما هو ظاهر قوية نافذة في سؤالها وتحديها وأمرها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن أن حسبه الله الذي يتوكل عليه المتوكلون.
والآية وإن كانت موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتثبيته إزاء مواقف المشركين فإن تلقيها مستمر المدى لكل مسلم في كل وقت. يستمد منها القوة والطمأنينة وعدم الخوف من غير الله وعدم الاعتماد والتوكل على غير الله، والوقوف في وجه المشركين به المنحرفين عن صراطه موقف القوة والتحدي والنضال. ولقد علقنا في مناسبة سابقة على التوكل عليه وما يهدف القرآن من الأمر بذلك من معالجة وتثبيت للمؤمنين المتوكلين على الله فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)
. (1) مكانتكم: هنا بمعنى على حالتكم.
والآيتان معقبتان أيضا على ما سبقهما، وقد احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين استمروا إذا شئتم على حالتكم وضلالكم وأنا مستمر على ما أنا عليه.
ولسوف تعلمون وترون أيّا منا يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم دائم.
وفي ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله للمشركين تثبيت له من ناحية وإشعار بأنه في موقف المستعلي عليهم المتحدي لهم الواثق بأن عذاب الله وخزيه إنما سوف يحلان فيهم، وقد تكرر هذا في المناسبات العديدة المماثلة.
[سورة الزمر (39) : آية 41]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)(4/328)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
والآية أيضا استمرار في التعقيب والتثبيت. وقد وجه الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم فالله قد أنزل عليه الكتاب لإنذار الناس ودعوتهم إلى الحق ثم هم وشأنهم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه وينفع نفسه وينقذ نفسه ومن ضل فإنما يضر نفسه ويهلك نفسه وليس هو وكيلا عليهم ولا مسؤولا عنهم.
ولعل الآية قد جاءت إنهاء لموقف الجدل والمناظرة التي ما فتئت الآيات السابقة تذكر صوره، مما تكرر في المواقف المماثلة ومرت منه أمثلة عديدة.
وجملة فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها من التعبيرات الحاسمة والمحكمة المقررة لقابلية الناس للاختيار بين الهدى والضلال وتحمل مسؤولية اختيارهم والتي تكررت كثيرا ومرت أمثلة عديدة منها في السور السابقة. وتصح أن تكون ضابطا من الضوابط القرآنية في مداها، ومرجعا لإزالة ما قد يبدو في بعض الآيات من إشكالات ظاهرة.
[سورة الزمر (39) : آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
. تعددت الأقوال والتأويلات التي أوردها المفسرون «1» للشطر الأول من الآية. من ذلك أنه يعني أن الله يقبض أرواح الناس إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتلتقي وتتعارف ما شاء الله ثم يمسك التي تكون ماتت ويرسل الأخرى لتعود إلى أجسام أصحابها إلى أن ينتهي الأجل المعين لها. ومن ذلك أنه يعني أن لكل إنسان نفسين نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت فيكون الموت ونفس التمييز وهي التي تفارقه عند النوم وإن الله تعالى يتوفاهما كلتيهما فيمسك التي قضى على
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(4/329)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
أصحابها الموت ويرسل التي لم يكن قضاه على أصحابها. ومنها أن للروح شعاعا مخيما تخرج الروح من الجسم بالنوم يبقى شعاعها الذي فيه مظاهر حياته فإذا ما قضى الله على صاحبها الموت يخرج الشعاع أيضا. وإذا لم يكن قضى عليه الموت تعود إليه الروح فتكون اليقظة. وليس شيء من هذه التعريفات معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في مساند الصحاح.
والذي يتبادر لنا أولا أن الآية غير منقطعة عن السياق الذي قررت بعض آياته أن الله هو وحده النافع الضار، خالق الأكوان والمتصرف فيها وأن المعبودات التي يشركها المشركون قد لا تملك جلب نفع ولا دفع ضرّ فجاءت هذه الآية تقرر شيئا آخر مماثلا في صدد الموت والحياة وكونهما في يد الله وحده كذلك. وأن أسلوبها تمثيلي وتقريبي بسبيل التدليل على شمول حكم الله وتصرفه في كونه ومخلوقاته تصرفا مطلقا في كل حال وأن ما جاء فيها هو مستمد مما كان السامعون يشاهدونه ويعتقدونه في حالات النوم واليقظة والموت. وفي الشطر الثاني من الآية دليل على هذا القصد حيث يهتف بالسامعين بأن في ذلك آيات دالة على قدرة الله ومطلق تصرفه لمن يريد أن يتدبر ويتفكر في آياته. ولسنا نرى والحالة هذه طائلا في التخمين أو التوفيق بين ما جاء في الآية وما عرف من نواميس الحياة ونرى الأولى الوقوف في الأمر حيث وقف القرآن واستهدفه من العبرة والتدليل في نطاق ما شرحناه ونرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله.
[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 44]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
. في الآيات تساؤل ينطوي على التقريع والتسفيه عن حقيقة الشفعاء الذين اتخذهم المشركون من دون الله وأشركوهم معه في العبادة والدعاء، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسألهم سؤالا ينطوي على التحدي والتنديد عما إذا كان يجوز في عقل ومنطق(4/330)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
أن يشركوهم مع الله ولو لم يكن لهم من أمر الكون شيء ولو لم يعقلوا شيئا مما يوجه إليهم من دعاء وعبادة. وأمر آخر له بأن يقرر أن الشفاعة جميعا هي لله وحده الذي له ملك السموات والأرض وإليه مرجع الجميع في النهاية.
في الآيات عود على بدء في صدد محاججة الكفار وحكاية عقائدهم وتسفيههم عليها. وهي من هذه الناحية ليست منقطعة الصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا، ولعلها من ناحية ما استمرار لما احتوته تلك الآيات من حجج مفحمة بسبيل توكيد عجز شفعائهم وشركائهم عجزا تاما في جميع الحالات.
وتعبير لِلَّهِ الشَّفاعَةُ هنا تعبير أسلوبي على ما يتبادر لمقابلة تعبير شُفَعاءَ وما يرتجى منهم من الشفاعة. والمقصد منه تقرير كون دفع الضرر وجلب الخير اللذين يتوسل بالشفعاء لدى الله لنيلهما هما في يد الله وحده وأنه هو وحده المرجّى.
وتعبير وَلا يَعْقِلُونَ (43) في الآية الأولى يلهم أن المقصود من الشفعاء هنا هو الأصنام لا الملائكة. هذا في حين أن آيات عديدة أخرى ومنها ما ورد في هذه السورة تقرر أن المشركين كانوا يتخذون الملائكة شفعاء لهم عند الله. ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة النجم أن المشركين كانوا يعبدون أصنام اللاة والعزى ومناة على اعتبار أنها رموز للملائكة أو هياكل لها في الأرض، استلهاما من روح الآيات ومضامينها. فيقيمون عندها طقوسهم ويقربون عندها قرابينهم على هذا الاعتبار، وبهذا يزول الإشكال ويتم التساوق كما هو المتبادر.
على أن من المحتمل أن يكون بعض المشركين كانوا ينسون الرمزية في الأصنام ويتوسلون بها إلى الله مباشرة، وأن الآية قد قصدت ذلك في تنديدها ووصفها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 46]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)(4/331)
(1) اشمأزت: نفرت وانقبضت.
(2) يستبشرون: يظهرون البشر والفرح والسرور.
(3) عالم الغيب والشهادة: العالم الظاهر والخفي أو الحاضر والمستقبل، والشهادة تعني الحاضر أو الظاهر.
(4) تحكم: تقضي.
في الآية الأولى صورة من صور مواقف الكفار. فإذا ذكر الله وحده انقبضت قلوبهم ونفروا في حين أنهم يسرّون ويستبشرون إذا ما ذكر شركاؤه. وفي الآية الثانية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاتجاه إلى الله تجاه هذا الموقف الباطل السخيف قائلا اللهم خالق السموات والأرض عالم الخفي والظاهر والحاضر والمستقبل أنت الذي تقضي بين عبادك فيما هم فيه مختلفون فتؤيد الحق وأهله وتزهق الباطل وحزبه وتجزي كلا منهم بما يستحقه.
والآيتان متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع كما هو واضح، وقد انطوى فيهما تبكيت على سخف المشركين وضلالهم في موقفهم بعد أن لزمتهم الحجة التي كان من مظاهرها إظهار عجز الشركاء عجزا مطلقا في كل شيء. كما انطوى فيهما تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وإشعار بالوثوق والاستعلاء في موقفه من المشركين.
وجملة الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كوصف للمشركين تنطوي على توكيد كون موقفهم ناشئا عن عدم إيمانهم بالآخرة وبعبارة أخرى عن عدم خوفهم من العواقب بعد الموت. وقد تكرر هذا أكثر من مرة. ومرت أمثلة منه. وينطوي فيه حكمة من حكم الله عز وجل في الحياة الأخروية والإنذار القرآني المستمر بها، لأن الخوف منها يجعل الإنسان يرعوي عن مواقف الإثم والضلال والانحراف.(4/332)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
ولقد روى البغوي في سياق الآية الثانية أن عائشة قالت: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاة الليل بقوله اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
وأورد ابن كثير في سياقها حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إنّي أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمّدا عبدك ورسولك فإنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير وإنّي لا أثق إلّا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفّينيه يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد إلّا قال الله عزّ وجلّ لملائكته يوم القيامة: إنّ عبدي قد عهد إليّ عهدا فأوفوه إيّاه فيدخله الله الجنة» . وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي راشد الحبراني قال: «أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقلت له حدّثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى بين يديّ صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت فيها فإذا فيها أنّ أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علّمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال له: قل اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت ربّ كلّ شيء ومليكه أعوذ بك من شرّ نفسي وشرّ الشيطان وشركه أن أقترف على نفسي سوءا أو أجرّه إلى مسلم» حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور استلهام رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية في مناجاة ربّه في الليل وتعليمه مثل ذلك لأصحابه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 48]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
. (1) ما لم يكونوا يحتسبون: ما لم يكن قد خطر ببالهم من هول وعذاب.(4/333)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
(2) سيئات ما كسبوا: سوء نتائج آثامهم التي ارتكبوها بظلمهم وشركهم.
في الآيتين إشارة إلى هول ما سوف يلقاه المشركون الظالمون لأنفسهم يوم القيامة، حيث يعرضون لعذاب يكون من الشدة ما يهون عليهم معه أن يفتدوا منه بملك الدنيا وما فيها ومثله معه لو كانوا يملكونه، وحيث يرون من نكال الله وغضبه ما لم يكن يخطر لهم ببال وحساب، وحيث يعاينون سوء آثامهم التي ارتكبوها وحيث يحيق بهم ما كانوا يستخفون به ويستهزئون منه.
والآيتان متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع أيضا، وقد استهدفتا فيما استهدفتاه على ما هو المتبادر إثارة الرعب في قلوب المشركين وحملهم على الارتداع والارعواء، وينطوي فيهما صورة لما كان عليه المشركون من شدة عناد ومكابرة وما كان يبدو منهم من استخفاف واستهتار وهزء بالدعوة النبوية والنذر الأخروية.
[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
. (1) فتنة: اختبار وامتحان.
(2) فما أغنى عنهم: فما نفعهم.
(3) والذين ظلموا: هنا بمعنى والذين أجرموا وأثموا وانحرفوا عن الحق.
الآية الأولى تشير إلى خلق في الناس، فإذا ما نزل في إنسان ضرّ وضيق وعسر دعا الله لكشفه فإذا استجاب له وأزاله عنه وبدله نعمة ويسرا جحد الله وزعم أن ما ناله إنما ناله بسعيه وعلمه وبراعته. وقد احتوت الآية ردا على هذا الجحود(4/334)
حيث قررت أن ما يمنحه الناس من نعم وما يصابون به من مصائب هو من قبيل الامتحان الرباني ولكن أكثر الناس يغفلون عن هذه الحقيقة.
والآيتان الثانية والثالثة تقرران أن مثل هذا الجحود وتلك الدعوى قد كان من الأمم السابقة فلم ينفعهم ما نالوه وكسبوه ولم يلبثوا أن وقعوا في شرّ جحودهم وأصابهم ما استحقوا من عقاب الله عليه. وأن الظالمين من السامعين للقرآن هم أيضا سيقعون في شرّ آثامهم ويصيبهم ما يستحقون من عقاب الله بدورهم، وليس الله عاجزا عنهم ولن يستطيعوا الإفلات منه.
أما الآية الرابعة فقد احتوت سؤالا استنكاريا موجها لهؤلاء السامعين الظالمين عما إذا كانوا لا يعلمون أن بسط الرزق وقبضه هما في يد الله يبسطه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء وفقا لمقتضيات حكمته. ثم انتهت بتقرير كون هذا ينطوي على آيات ربانية لينتفع بتدبرها المؤمنون، وصيغة السؤال وروح الآية معا تلهمان أن السامعين يعلمون ما قررته الآية، ولهذا فإن التنديد جاء قويا محكما.
وقد سجلت آيات عديدة عليهم ذلك من جملتها الآية [39] من هذه السورة، والآية [31] من سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) .
وهذه الآيات أيضا متصلة بالسياق أو استمرار له في صدد تقريع الكفار المشركين على مواقف عنادهم وجحودهم على مختلف صورها، و (فاء) التعقيب التي بدأت بها قرينة على ذلك بالإضافة إلى ما فيها من تساوق في صدد مواقف الكفار التي ما فتئت الآيات السابقة تحكيها.
تعليق على جملة فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ وما بعدها وما فيها من تلقين
ومع ما يتبادر من خصوصية هذه الآيات الزمنية فإنها تصح أن تكون موعظة(4/335)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
من مواعظ القرآن وتلقيناته الشاملة المستمرة في صدد تنبيه الناس أولا: إلى ما في جحود نعم الله وما في ذكره في الشدة ونسيانه في الرخاء من تناقض وإثم. وثانيا:
إلى كون ما يمنحه الناس من نعمة ويسر بدءا أو بعد شدة وضر هو اختبار رباني وليس حظوة منه واختصاصا. وثالثا: إلى ما يجب على أمثال هؤلاء الناس من ذكر الله وشكره والقيام بواجباتهم نحوه ونحو الناس وعدم الاستشعار بالبطر والزهو والاعتداد بالنفس في حالة اليسر والصبر في حالة العسر.
وقد انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة تلقين جليل خاص وهو تقرير أثر الإيمان في رضاء النفس وطمأنينتها حيث يساعد صاحبه على لمس يد الله وقدرته في جميع الأمور فيشكره في حالة اليسر ويتحمل صابرا راضي النفس مطمئن القلب في حالة الشدة والعسر.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [52] مدنية، ويلحظ أنها منسجمة انسجاما تاما مع الآيات سبكا وموضوعا وأن فيها تتمة لما قبلها، وكل هذا مما يسوغ الشك في رواية مدنيتها.
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
. في الآيات:(4/336)
1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلّم بأن يهتف بعباد الله أن لا يقنطوا من رحمته مهما أسرفوا على أنفسهم وأن لا يظنوا أن باب الإنابة قد سد في وجههم بسبب ذلك، فالله يغفر كل ذنب مهما عظم وهو المتصف بالغفران والرحمة إذا تاب صاحبه منه وأناب إليه. وبأن يحثهم على سرعة الإنابة والرجوع إلى الله وإسلام النفس له وهم في متسع من الوقت وقبل أن يأتيهم عذاب الله فلا يكون لهم منه مخلص ولا محيص ولا نصير. وبأن يدعوهم إلى اتباع أحسن ما أنزل الله إليهم من دعوة الهدى والحق والخير من قبل أن يحل فيهم عذابه بغتة دون أن يشعروا بمقدماته.
2- وتحذير للمذنبين من إضاعة الفرصة المواتية للتوبة والإنابة إلى الله حتى لا يندموا على ما فرط منهم من آثام ومواقف ساخرة مستهترة. ولا يتنصلوا من مسؤولية آثامهم قائلين إن الله لو هداهم لكانوا من المتقين. ولا يتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ثانية فيكونوا من المحسنين، وهتاف بهم بأن ذلك سوف يكون عبثا حيث يقال لهم: لقد جاءتكم آيات الله ودعوته فكذبتم بها واستكبرتم وكنتم من الكافرين.
والآيات قد تبدو فصلا مستأنفا لا صلة لها بسابقاتها. غير أن العودة إلى مخاطبة الكفار في الآية الأخيرة تجعل الاستمرار في السياق قائما، ولعل مما يصح أن يقال إنها جاءت استطرادية لتهتف بما هتفت به وتنذر بما أنذرت به وتحذر مما حذرت منه، وهذا أسلوب مألوف في النظم القرآني، وقد مرّ منه أمثلة عديدة.
تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وما بعدها
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيتين 53 و 54 مدنيتان.
وروى المفسرون بعض الروايات «1» في سبب نزول الآية [53] منها ما ذكر
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والزمخشري والبغوي. وانظر أيضا تفسير سورة الزمر في كتاب التفسير من صحيح البخاري وتفسير سورة الزمر في فصل التفسير في مجمع الزوائد الجزء 7. [.....](4/337)
عزوا إلى ابن عباس أنها نزلت في حق وحشي الحبشي قاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد حيث استعظم ذنبه فأنزل الله آية الفرقان [70] التي فيها هذه الجملة: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فقال وحشي: هذا شرط شديد. فأنزل الله آية سورة النساء [48] التي فيها هذه الجملة:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فقال: أراني بعد في شبهة فأنزل الله آية الزمر [53] التي نحن في صددها فقال: هذا نعم، ثم جاء فأسلم.
فسأل المسلمون: هل هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بل للمسلمين عامة «1» . ومنها ما ذكر عزوا إلى ابن عمر أن الآيات نزلت في نفر من المسلمين منهم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد كانوا أسلموا ثم عذبوا وفتنوا فافتتنوا فكان المهاجرون يقولون: لا يقبل الله لهم صرفا ولا عدلا أسلموا ثم تركوا دينهم من العذاب. فأنزل الله الآيات فكتبها عمر بن الخطاب وأرسلها إليهم فأسلموا وهاجروا «2» . ومنها ما ذكر عزوا إلى ابن عباس أيضا أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لما عملنا كفارة فنزل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ إلخ الفرقان: [68] ونزل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً الزمر: [53] ورواية ابن عباس الأخيرة قد رواها البخاري أيضا «3» .
وقال المفسرون فيما قالوه بصدد الآية: إنها موجهة للمؤمنين وفي حقهم عامة وإنها أرجى آية في القرآن وأبعثها أملا وسكينة لقلوب المذنبين منهم «4» . بل
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر التاج ج 4 فصل التفسير ص 199.
(2) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر التاج ج 4 فصل التفسير ص 199.
(3) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر التاج ج 4 فصل التفسير ص 199.
(4) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.(4/338)
قال بعضهم إن الإطلاق في الآية يجعل تقييد غفران الذنوب بالتوبة خلاف الظاهر «1» واستندوا في قولهم هذا إلى آية النساء [47] المار ذكرها ونصها. وقد أوردوا في مناسبتها أحاديث نبوية منها حديث رواه أبو أيوب الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لولا أنّكم تذنبون لخلق الله عزّ وجلّ قوما يذنبون فيغفر لهم» . وحديث رواه أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتّى تملأ خطاياكم ما بين السّماء والأرض ثمّ استغفرتم الله تعالى لغفر لكم. والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عزّ وجلّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم» «2» .
ومنها حديث عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى آخر الآية فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» «3» . وحديث عن عمرو بن عنبسة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدّعم على عصا له فقال: يا رسول الله إنّ لي غدرات وفجرات فهل يغفر لي؟ قال: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى وأشهد أنك رسول الله. فقال: قد غفر لك غدراتك وفجراتك» «4» . وحديث عن علي بن أبي طالب قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله تعالى يحبّ العبد المفتّن التوّاب» » .
ويلحظ أولا: أن روايات وحشي غريبة في مناسبتها وظرفها ثم في تدرجها لأجل إقناعه وجعله يسلم وهي لم ترد في كتب الصحاح. وفضلا عن ذلك إن آية النساء [48] التي تروي هذه الروايات أنها نزلت لإقناعه ليست في صدد تأميل غير المشركين وإنما هي في صدد تعظيم جريمة الشرك بالله كما هو ظاهر بقوة في أسلوبها.
__________
(1) انظر تفسير الخازن.
(2) انظر تفسير ابن كثير.
(3) النصوص من ابن كثير.
(4) النصوص من ابن كثير.
(5) النصوص من ابن كثير.(4/339)
وثانيا: إنها مروية عن ابن عباس مع أن رواية كون الآية نزلت بمناسبة مراجعة أناس من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها البخاري قد رواها ابن عباس أيضا.
وثالثا: إن الآية منسجمة انسجاما تاما مع الآيات التالية لها إلى آخر الآية [59] وإن القول إنها أو إنها والآية [54] فقط مدنيتان غير مستقيم. وتبعا لذلك نشك في رواية مدنية الآية أو الآيتين ونشك بالتالي في رواية كونهما نزلتا في شأن وحشي أو في شأن النفر الذين ارتدوا ولم يهاجروا مع المهاجرين. وكل ما يمكن احتماله أن تكون الآية ذكرت لهم أو لهم ولو حشي على سبيل الترغيب والتشجيع والتأميل. والرواية الثانية التي رواها البخاري هي الأكثر احتمالا ولا يضعف هذا الاحتمال جمع الرواية هذه الآية مع آية الفرقان التي نزلت قبلها بمدة طويلة. فمن الممكن أن يفرض أن مراجعات أناس من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة قد تكررت فنزلت أولا آيات الفرقان ثم آيات الزمر التي نحن في صددها فجمع ابن عباس رضي الله عنه المناسبات المتكررة مع بعضها في روايته. وروح الآيات ومضمونها تدعم هذه الرواية أو بعبارة ثانية تدعم كون الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين والكفار. وقد حكت ما سوف يبدونه من ندم وحسرة لإضاعتهم الفرصة. وفي الآية الأخيرة دليل حاسم. وكل هذا يسوغ القول بجزم أن الآيات سلسلة واحدة متماسكة لا يصح فصل بعضها عن بعض وهي في مجموعها في صدد حث الكفار على الإنابة إلى الله والاستجابة إلى دعوة الإسلام والترغيب في ذلك وهم في سعة من الوقت والتحذير من إضاعة الفرصة بالإهمال والتباطؤ.
وروح الآيات ومضمونها مجتمعة تسوغ استغراب ما قاله بعض المفسرين أو رووه عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الآية الأولى أرجى آية في القرآن أو أن الإطلاق فيها يجعل تقييد غفران الذنوب بالتوبة هو خلاف الظاهر. فإذا كانت الآية تقول: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فإن الآية التي تلتها ردفت ذلك بالحث على سرعة الإنابة إلى الله واتباع أحسن ما أنزل وبالتحذير من التباطؤ والإهمال وما(4/340)
يجرانه من حسرة وندم. وهذا فضلا عن أن القول إن الله يغفر جميع الذنوب والآثام دون توبة وندم وتلاف للذنوب بصالح العمل والإصلاح هو إفراط لا يتسق مع آيات القرآن التي لا تكاد تحصى كثرة في صدد الإنذار والتبشير والوعد والوعيد وتقبيح القبيح وتحسين الحسن وتوفية الناس جزاء أعمالهم كلا بحسب عمله. وما ورد من الأحاديث النبوية يحمل فيما نعتقد في حالة صحتها ولا ننفي ذلك على قصد الترغيب في التوبة والحث عليها وعلى تقرير كون الله تعالى يغفر للنادم والتائب المستغفر وبهذا يتم التساوق ويزول التناقض.
على أن الآيات تتضمن تلقينا بليغا مستمر المدى يتسق مع مبدأ التوبة القرآني الذي شرحناه في سياق تفسير سورة الفرقان وهو عدم إيئاس أي كائن دون تلافي أخطائه والرجوع عن آثامه المتنوعة من كفر ومما دون الكفر، وإصلاح نفسه دينيا ودنيويا وإبقاء باب العفو مفتوحا لمن حسنت فيهم النيات واستيقظت الضمائر إذا ما ترووا وندموا وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن ما أنزل منه وهم في متسع من الوقت وفسحة من العمر والعافية.
ونقطة أخرى جديرة بالتسجيل عن الآيات، من حيث إنها تنطوي على تقرير محكم حاسم يضاف إلى التقريرات المحكمة الحاسمة الكثيرة بأهلية الإنسان للكسب والاختيار بين الهدى والضلال وبمسؤوليته عن كسبه واختياره. والآية [57] بخاصة قوية جديرة بالتنويه في هذا الباب حيث تندد بالذي يقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. وقد ردت عليه الآية التي تلتها فقررت أن الله قد أراه طريق الهدى بآياته التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم ولكنه كذّب واستكبر وكان من الكافرين فاستحق عذاب الله.
تعليق على جملة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وقد يوهم تعبير وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أن فيما نزل ما هو حسن وما هو أحسن. ولسنا نرى محلا للتوهم ونرى أن التعبير أسلوبي. هذا(4/341)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
فضلا عن إمكان صرف تعبير أَحْسَنَ إلى الهدى والخير والحث عليهما بالنسبة لما حذر منه القرآن من الشر والضلال والآثام. فالله قد بيّن طريق الخير وحقيقة الخير وأنواعه ودعا إليه، وبيّن طريق الشر وحقيقة الشر وأنواعه وحذر منه.
وأحسن ما أنزل هو الأول، والناس مدعوون إلى اتباعه دون الثاني. وجميع المأمورات الإيمانية والأخلاقية تدخل في شمول الأول كما هو المتبادر.
[سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 63]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)
. (1) مفازتهم: بمعنى فوزهم أي بما فازوا به من رضاء الله بسبب تقواهم.
(2) مقاليد: هنا بمعنى أمور وشؤون وحكم. ويؤول المؤولون من التابعين كلمة مقاليد بمفاتح خزائن السموات والأرض أيضا.
الآيات معقبة على ما قبلها تعقيب توضيح وتقرير كما هو المتبادر حيث احتوت بيان مصير الكافرين الذين كذبوا على الله بالشرك حيث تسوّد وجوههم وتكون جهنم مثواهم، وبيان مصير المؤمنين بالمقابلة جريا على الأسلوب القرآني حيث ينجيهم الله لأنهم فازوا برضائه بسبب تقواهم. فالله خالق كل شيء وهو شهيد على كل شيء وعالم بكل شيء. وفي يده مقاليد السموات والأرض. فمن يكفر بهذه الحقائق فهم الخاسرون حتما.
والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته تدعيم الإنذار والتحذير والتخويف للذين يهملون اغتنام الفرصة وهم في فسحة من العمر والوقت والتنويه والتطمين لمن آمن واتقى، مع التنبيه على واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي.(4/342)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
[سورة الزمر (39) : الآيات 64 الى 66]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال استنكاري فيه معنى التقريع للكفار عما إذا كانوا يريدونه أن يعبد غير الله كما يفعلون بجهلهم في حين أن الله قد أوحى إليه وإلى الأنبياء من قبله أن الذي يشرك بالله يحبط عمله ويكون خاسرا، وأن عليه أن يعبد الله وحده ويكون له شاكرا.
وفي توجيه الخطاب في الآية الأولى للكافرين عود على بدء في صدد محاججتهم والتنديد بهم، وربط بين هذه الآيات وما قبلها سياقا وموضوعا، وقرينة على أن الآيات السابقة لها متصلة أيضا بموقف الجدل والحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وبسبيل دعوة الكفار إلى الله وحده.
ولقد قال المفسرون «1» في سياق تفسير الآية الأولى: إنها جواب لطلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم ليعبدوا إلهه. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية. ونحن نرجح أن الآية متصلة بالسياق السابق واللاحق ولم تنزل منفصلة لسبب جديد. وهذه ثالث مرة يتكرر فيها مثل هذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم في السورة، ولقد نبهنا إلى ذلك في مناسبة سابقة منها وعلّلناه بما تبادر لنا ونرجو أنه الصواب فنكتفي بذلك.
[سورة الزمر (39) : الآيات 67 الى 70]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
__________
(1) انظر تفسير الآية في كتب تفسير الخازن وابن كثير والزمخشري.(4/343)
(1) الشهداء: الجمهور على أن الشهداء هنا هم الملائكة الذين يحصون على الناس أعمالهم ويكتبونها.
في الآيات إشارة تعنيفية إلى الكفار المشركين على عدم إدراكهم حق الإدراك وتقديرهم حق التقدير مدى عظمة الله وقدرته وشأنه واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة وتنزهه وتعاليه عن الشركاء. واستطراد إلى ذكر ما يكون يوم القيامة من دلائل عظمته وقدرته وشمول تصرفه حيث تكون الأرض في قبضته والسموات مطويات بيمينه. وحيث ينفخ في الصور للمرة الأولى فيخرّ من في السموات والأرض إلا من شاء الله مصعوقا. ثم ينفخ فيه للمرة الثانية فيقومون جميعا مندهشين ينتظرون مصائرهم. وحيث يتجلى الله حينئذ على الأرض فتمتلىء إشراقا بنوره. وينعقد مجلس القضاء ويؤتى بكتب أعمال الناس وبالنبيين والشهداء ويقضى بين الناس بالحق دونما إجحاف وظلم وتوفّى كل نفس ما عملت والله أعلم بما يفعلون.
تعليقات على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والآيات الثلاث التي بعدها
ولقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: «مرّ يهوديّ بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا يهوديّ حدّثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرض على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ وأشار الراوي محمد بن الصلت بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله تعالى:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ(4/344)
بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
«1» . ومقتضى الرواية أن تكون الآية مدينة وأن تكون نزلت لحدتها. ولم يرو أحد مدنية الآية، وارتباطها بما بعدها قوي. وهي بعد معطوفة على ما قبلها. وضمير الفاعل في وَما قَدَرُوا اللَّهَ هو عائد على المعطوف عليه وهم الكفار موضوع الكلام في الآية السابقة.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات عن عبد الله بن مسعود قال:
«جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله، فقال: يا محمّد إنّا نجد أنّ الله يجعل السموات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثمّ قرأ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولعل التباسا ما وقع في الرواية حيث يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا هذه الآية حين ما سأل اليهودي فظن الراوي أنها نزلت في مناسبة السؤال.
وكل ما تقدم يسوّغ التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية في المدينة والقول إن الآيات وحدة تامة ومعطوفة على ما قبلها ومتصلة به. وأنها استهدفت كما قلنا في شرحها فيما استهدفته التنويه بعظم قدرة الله تعالى ومطلق تصرفه في خلقه ثم توكيد البعث الأخروي ومحاسبة الناس على أعمالهم وجزائهم بما يستحقون عليها.
ولقد روى البغوي في سياق الآية حديثا عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطوي الله السموات يوم القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبّارون، أين المتكبّرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهنّ بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبّارون أين المتكبّرون» . ولقد روى ابن كثير هذا الحديث من إخراج الإمام أحمد بصيغة أخرى فيها مماثلة وفيها زيادات قال: «قرأ رسول
__________
(1) التاج ج 4 ص 199- 200.(4/345)
الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ورسول الله يقول هكذا بيده يحرّكها.
يقبل بها ويدبر، يمجّد الربّ نفسه أنا الجبّار، أنا المتكبّر، أنا العزيز، أنا الكريم فيرجف المنبر برسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى قلنا ليخرّنّ به» .
والحديث لم يرد بهذا النص أو ذاك في كتب الصحاح ولكن ورد شيء منه فيها حيث روى الشيخان حديثا جاء فيه: «يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين الملوك» «1» . وفي هذه الأحاديث صورة من تعليقات رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الآية للتنويه بعظمة الله بما هو إلهام من عند الله عز وجل.
والنفخ في الصور في الآيات رافقه صعق واستثناء، ومع أن القرآن استعمل الصعق بمعنى الإغماء كما جاء في آية سورة الأعراف هذه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ فإن الجمهور على أنها هنا بمعنى الموت الصاعق. وفي جملة: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) ما قد يدعم هذا الرأي.
ولقد كرر المفسرون هنا ما قالوه في سياق آيات سورة النمل [87- 90] في جملة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ حيث قالوا إن المستثنين هم الشهداء أو كبار الملائكة.
ثم يقضي الله على هؤلاء بالموت فلا يبقى إلّا الله عز وجل. ونص الاستثناء صريح بأن هناك فريقا قد يشاء الله تعالى أن يستثنى من الصعق. وهذا ما يجعل ما يقولونه موضوع توقف في نطاق النص القرآني. وليس هناك حديث صحيح في ذلك فنرى الوقوف عند ما اقتضته حكمة التنزيل التي قد يلمح أن منها قصد بيان ما يكون عليه وقت البعث والحشر من رهبة وهول.
ولقد اختلفت الأقوال في مدى تعبيري قبضته ويمينه. وقد ألمحنا بهذا الموضوع في تعليق عقدناه في آخر تفسير سورة القصص فنكتفي بهذا التنبيه.
__________
(1) التاج ج 4 ص 200.(4/346)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
ويلحظ ما بين المشهد الذي احتوته الآية [69] وما اعتاده الناس في الدنيا من مجالس القضاء لإحقاق الحق والعدل. حيث يتسق هذا مع حكمة التنزيل التي نوهنا بها في تعليقاتنا على الحياة الأخروية بوصف مشاهد هذه الحياة بأوصاف مألوفة للناس على سبيل التقريب والتمثيل والتأثير مع التنبيه على واجب الإيمان بحقيقة المشهد المذكور في الآية.
وقد يكون في الآيتين [69 و 70] تعليم رباني للناس وبخاصة للحكام بوجوب حرصهم على إظهار الحق والعدل بالبينات بقطع النظر عن ما يمكن أن يكون لهم علم بحقيقة وواقع القضايا المعروضة عليهم، مما عبر عنه بالقاعدة المشهورة (الحاكم لا يحكم بعلمه) .
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
. (1) زمرا: جمع زمرة، والكلمة هنا كناية عن الأفواج أو الجماعات بعضها وراء بعض.
الآيات استمرار للسياق، وتتمة لما سبقها من مشاهد المحاسبة والقضاء.
وعبارتها واضحة.(4/347)
والصورة التي احتوتها الآيات رائعة من شأنها أن تثير في المؤمنين المتقين شعور السكينة والغبطة وفي الكفار شعور الخوف والرهبة. وهذا مما استهدفته كما هو المتبادر مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي المغيب المذكور فيها.
وقد جاءت خاتمة لفصول الجدل والحجاج وحكاية مواقف الكفار كما جاءت خاتمة للسورة بطابع ختامي رائع شأن كثير من السور وبخاصة المكية.
وما احتوته الآيات من استقبال خزنة الجنة والنار للمؤمنين والكفار وكون الملائكة حافين بالعرش يسبحون بحمد ربهم بعد القضاء بين الناس هو متصل بأمر الملائكة المغيب الواجب الإيمان به مع الإيمان بأن لا بد من أن يكون لوروده بالصيغة التي ورد بها حكمة ربانية، ويتبادر لنا أن ما كان في أذهان السامعين من صورة فخمة عن الملائكة وأن قصد تصوير عظمة الله تعالى وروعة سلطانه من هذه الحكمة والله أعلم.
ويلحظ أن المشاهد المذكورة في الآيات من سوق أهل الجنة وأهل النار وقيام خزنة على الجنة وعلى النار ووجود أبواب للجنة والنار مشابهة لما في الحياة الدنيا مما هو متساوق مع الحكمة المتوخاة من اتساق كثير من أوصاف المشاهد الأخروية مع مألوفات الدنيا للتأثير والتمثيل مع واجب الإيمان بحقيقتها المغيبة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية التي تذكر سوق المتقين إلى الجنة أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة ومشاهد منازل المتقين فيها أوردنا بعضها في مناسبات سابقة «1» وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة.
ولقد أورد هذا المفسر أيضا في سياق الآيات أحاديث عديدة عن أبواب الجنة. منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب، فمن كان
__________
(1) انظر تعليقنا على الجنات الأخروية في سورة القلم وتفسير الآية [85] من سورة مريم.(4/348)
من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الرّيان. فقال أبو بكر: يا رسول الله ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي فهل يدعى منها كلّها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم» «1» . وحديث رواه مسلم عن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد يتوضّأ فيبلغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيّها شاء» . وحديث روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «يقول الله تعالى يا محمّد أدخل من لا حساب عليه من أمّتك من الباب الأيمن وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر. والذي نفس محمّد بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكّة وهجر وفي رواية مكة وبصرى» . وحديث روي عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الرّيان لا يدخله إلّا الصائمون» . وواضح من روح الأحاديث أنها تنطوي على البشرى للمؤمنين وإثارة الغبطة في قلوبهم مع الرغبة في الاستكثار من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى والمؤدية إلى الجنة الموعودة مما هو متساوق مع الهدف القرآني العام.
ولقد ذكر في الآية [44] من سورة الحجر أن لجهنم سبعة أبواب. فاكتفى المفسرون بالإشارة إلى ذلك في سياق الآيات. ولقد أوردنا ما روي في صدد أبواب جهنم السبعة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
__________
(1) ذكر ابن كثير أن هذا الحديث رواه البخاري ومسلم أيضا. [.....](4/349)
سورة غافر
في هذه السورة حملة شديدة على الكفار وحكاية لمواقفهم الجدلية والساخرة. وإنذار لهم بالخزي في الدنيا والآخرة. ولفت نظر إلى مشاهد قدرة الله تعالى ونواميسه وأفضاله وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويه بالمؤمنين واختصاصهم باستغفار الملائكة وشفاعتهم دون المشركين. وإشارة تذكيرية إلى ما كان من مواقف الكفار الأولين من رسل الله وعاقبتهم وندمهم وحسرتهم وعدم انتفاعهم بالإيمان بعد فوات الفرصة. وفيها فصل قصصي عن موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون بسبيل التذكير والعظة.
وقد سميت السورة باسم (المؤمن) أيضا اقتباسا من ذكر مؤمن آل فرعون، وهي أولى سلسلة السور المعروفة بالحواميم. وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الحواميم ديباج القرآن «1» . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لكلّ شيء لباب ولباب القرآن الحواميم «2» . ولقد كثر في هذه السور ذكر القرآن على سبيل التنويه والتعظيم وفي معرض لجاج الكفار فيه وفي طرق وحيه ولعل ما روي متصل بذلك.
وفصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيتين [56- 57] مدنيتان والرواية تتحمل الشك والتوقف.
__________
(1) انظر تفسير هذه السورة في تفسير الطبرسي والخازن.
(2) المصدر نفسه.(4/350)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
. (1) ذي الطّول: ذي القدرة والفضل على الغير.
(2) لا يغررك: لا يخدعنك ذلك ولا يجعلك تيأس.
(3) تقلبهم في البلاد: كناية عما أصابوه من قوة ونجاح وطول يد في الدنيا والبلاد.
(4) الأحزاب: كناية عن الأمم التي تحزبت ضد رسلها.
(5) همت: حاولت أو قصدت.
(6) ليدحضوا: ليبطلوا ويوهنوا ويزيلوا ويتغلبوا.
بدأت السورة بحرفي الحاء والميم اللذين تعددت الأقوال في تخريجهما فقيل إنهما من أسماء الله أو إنهما يرمزان إلى اسمي الله الرحمن الرحيم أو إنهما قسم أقسم الله به أو إنهما بمعنى القضاء من حمّ أو إنهما حروف مفردة كسائر الحروف المفردة الأخرى للتنبيه والاسترعاء، وهو ما نرجحه كما رجحناه بالنسبة للمطالع المماثلة. وعبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تنويها بالقرآن وتقريرا لما اتصف به الله تعالى- الذي أنزله- من صفات العزة والعلم والغفران للتائبين والشدة على المكابرين الذين هم وحدهم الذين يجادلون في آيات الله. وتحذيرا للنبي صلى الله عليه وسلم من الانخداع بما أصابوه من قوة ونجاح وطول يد وتطمينا له. فقد كذبت قبلهم أمم أخرى عديدة من لدن قوم نوح وما بعدهم وجادلوا بالباطل لإزهاق الحق(4/351)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وطمسه وحاولوا أن يبطشوا برسلهم فأخذهم الله أخذا قويا ما تزال آثاره قائمة وأخباره دائرة يراها الناس ويسمعونها، ولقد حقت كلمته بالإضافة إلى أخذه الشديد في الدنيا بأن الكافرين هم أصحاب النار في الآخرة.
والآيات كما هو المتبادر مقدمة قوية نافذة في صدد إنذار الكفار العرب في الدنيا والآخرة وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته.
ويلفت النظر إلى ما بين هذه المقدمة وبين آيات السورة السابقة الأخيرة من تساوق تأكيدي في صدد غفران الذنوب وقبول التوبة وتقرير كون كلمة العذاب إنما حقت على الكافرين المكابرين على الله المكذبين بآياته مما يمكن أن يكون قرينة ما على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة الزمر.
تعليق على جملة ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
وجملة: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا في الآية الرابعة تضمنت تقرير كون الذين يجادلون في آيات الله وينكرونها هم الذين تعمدوا العناد وبيتوا الكفر والمكابرة فقط. حيث انطوى في ذلك معنى محكم يصح أن يزال على ضوئه إشكال ما يرد مطلقا في آيات أخرى، وانطوى فيه تبعا لذلك تحميل الكافرين مسؤولية موقفهم الذي يقفونه عن عمد وباطل. وقد انطوى في هذا وذاك في الوقت نفسه تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتعنيف قارع للكفار، وكل هذا مما استهدفته الآيات. وفي السور السابقة آيات وعبارات انطوى فيها ذلك، مما يصح أن يعد من المبادئ القرآنية المحكمة.
[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)(4/352)
(1) قهم السيئات: من الوقاية. ومضمون الآية يسوغ تأويلها بالدعاء لله بأن يغفر للمؤمنين ما بدر منهم في الحياة من سيئات وهفوات. أو بالدعاء بأن يحميهم من الوقوع في السيئات في الحياة.
في الآيات إشارة ضمنية إلى الملائكة وإيمانهم بالله وتقديسهم له، واستغفارهم للمؤمنين والدعاء لهم، بأسلوب قوي رائع وعبارة واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة لتنوه بالمؤمنين المنيبين إلى الله المتبعين سبيله والملتفين حول رسوله، ولتبثّ فيهم الطمأنينة والغبطة والبشرى بما ينتظرهم من قرة العين وعظيم الفوز في الآخرة، وما بسبيل ذلك من استغفار الملائكة لهم والدعاء إلى الله من أجلهم مقابلة لذكر مصير الكفار وما احتوته الآيات السابقة من التنديد بهم وإنذارهم.
تعليق على ما جاء عن الملائكة في هذه الآيات
ومع التنبيه إلى أن ما ذكر عن الملائكة في هذه الآيات متصل من حيث ذاتية الأمر بسرّ الملائكة المغيب الذي يجب الإيمان به، على ما شرحناه في سياق سورة المدثر، فإن مما يتبادر والله أعلم أن ذكرهم بالصيغة الرائعة التي ذكروا بها قد قصد به الإشارة إلى أن أكثر الملائكة قربا إلى الله وهم حملة العرش ومن حوله هم أكثر المخلوقات خضوعا له واعترافا بعظمته أولا، وإلى أن شفاعتهم واستغفارهم إنما هما للمؤمنين المتقين ثانيا. وفي هذا وذاك أسلوب من الرد القوي على المشركين العرب فيما يعتقدونه من كون الملائكة بنات الله وإشراكهم معه في العبادة على أمل(4/353)
شفاعتهم لهم عند الله. وفيهما كذلك أسلوب من التنويه القوي بالمؤمنين المستجيبين إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة البروج أن تعبير عرش الله أولى أن يصرف إلى قصد تصوير عظمة الله، وأنه تعبير تمثيلي لأن الناس في الدنيا اعتادوا أن يروا عروش الملوك وأن يقيسوا عظمتهم بعظمة ملكهم وعروشهم وأن يروا هذه العروش رمزا لملكهم وسلطانهم وقوتهم بل وأن يعبروا عن ذلك بها. ويتبادر لنا والله أعلم أنه يحسن أن يفسّر قصد ذكر حمل الملائكة العرش والتفافهم حوله على ضوء ذلك.
ولقد أورد بعض المفسرين في سياق هذه الآيات بيانات حول ماهية الملائكة وخلقهم وكيفية حملهم العرش ومواقفهم حوله فيها كثير من الإغراب. من ذلك ما رواه البغوي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: «إنّ ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله والأشياء كلّها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة» . وعن وهب بن منبه أنّ حول العرش سبعين ألف صفّ من الملائكة صفّ خلف صفّ يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء.
فإذا استقبل بعضهم بعضا هلّل هؤلاء وكبّر هؤلاء ومن ورائهم سبعون ألف صفّ قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا: سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلّك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر، الخلق كلّهم راجون، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفّ من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلّا وهو يسبّح بتحميد لا يسبّحه الآخر. ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام، واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابا من نور وسبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من درّ أبيض وسبعين حجابا من(4/354)
ياقوت أصفر وسبعين حجابا من زبرجد أخضر وسبعين حجابا من ثلج وسبعين حجابا من ماء وسبعين حجابا من برد وما لا يعلمه إلّا الله تعالى. ولكلّ واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان.
ولكلّ واحد منهم أربعة أجنحة جناحان على وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق وجناحان يهفو بهما كما يهفو الطائر بجناحيه إذا حرّكهما ليس لهم كلام إلّا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد. ومن ذلك ما رواه الخازن عن ابن عباس أنّ ما بين أحد أحد الملائكة الذين يحملون العرش إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، وأقدامهم في تخوم الأرضين والأرضون والسموات إلى حجزهم وقيل إنّ أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشدّ خوفا من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشدّ خوفا من التي تليها والتي تليها أشدّ خوفا من التي تليها وحملة العرش هم أشرف الملائكة وأفضلهم لقربهم من الله عزّ وجلّ وهم على صورة الأوعال» . وعن ابن وهب أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنّه يحمل عرش الله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية من الملائكة أقدامهم في الأرض السابعة ومناكبهم خارجة من السموات عليها العرش.
وأنّ الله لما خلقهم سألهم أتدرون لم خلقتكم؟ قالوا: خلقتنا ربّنا لما تشاء، قال:
تحملون العرش. ثمّ قال: سلوني من القوة ما شئتم أجعلها فيكم. فقال واحد منهم: قد كان عرش ربّنا على الماء فاجعل فيّ قوة الماء. قال: قد جعلت. وقال آخر: اجعل فيّ قوة السّموات. قال: قد جعلت. وقال آخر: اجعل فيّ قوّة الأرض، قال: قد جعلت. وقال آخر: اجعل فيّ قوّة الرياح. قال: قد جعلت ثمّ قال: احملوا فوضعوا العرش على كواهلهم فلم يزولوا قال: فجاء علم آخر إنّما كان علمهم الذي سألوه القوة فقال لهم: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فقالوا، فجعل الله فيهم من الحول والقوة ما لم يبلغه علمهم فحملوا» .
وفي تفسير البغوي زيادة في وصف الملائكة قال: إنها من حديث نبوي دون أن يذكر راويا أو سندا وفي الزيادة: «أنّ الملائكة على صورة الأوعال بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء» . وفي رواية من حديث آخر بدون راو ولا سند(4/355)
«أنّ لكلّ منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر» . وفي تفسير ابن كثير حديث عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذن لي أن أحدّثكم عن ملك من حملة العرش بعد ما بين شحمة أذنه وعنقه مخفق الطير سبعمائة عام» .
وفي تفسير الطبري في سياق تفسير آية الأحقاف هذه: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) قول منسوب إلى ابن عباس أن الثمانية هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلّا الله، وهذه غير موثقة الإسناد وغير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة. وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن العباس رضي الله عنه قال: «كنت جالسا في البطحاء في عصابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم إذ مرّت عليهم سحابة فنظروا إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما اسم هذه؟ قالوا: نعم هذا السّحاب. فقال: والمزن قالوا: والمزن قال: والعنان قالوا: والعنان ثم قال: هل تدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟ فقالوا: لا قال: إن بعد ما بينهما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة والسماء التي فوقها كذلك حتى عدّهنّ سبع سموات ثم قال: فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما من السماء إلى السماء وفوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهنّ وركبهنّ ما بين سماء إلى سماء فوق ظهورهنّ العرش بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء والله فوق ذلك» «1» .
ومهما يكن من أمر فإن من واجب المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن والحديث النبوي الصحيح وبقدرة الله على كل شيء مع تنزيهه عن الجسمانية والمماثلة لأي شيء من خلقه ومع الإيمان بأن ما ورد في القرآن والحديث الصحيح على الوجه الذي ورد به لا بد من أن يكون لحكمة سامية، منها ما ذكرناه في بداية هذا التعليق، والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إن المعنى في هذه الجملة تكرر في آيات أخرى، وجاء تقريرا مباشرا من الله
__________
(1) التاج ج 4 ص 244.(4/356)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
عز وجل مثل آية الرعد هذه: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) وآية سورة الطور هذه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) . ويتبادر لنا بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانية المغيبة التي يجب الإيمان بها أنه قد هدف بذلك أولا إلى تطمين المؤمنين الصالحين بمصير من يمتّ إليهم برحم قريب بمصير يجمعهم معهم في مصير سعيد واحد تساوقا مع الظاهرة الانسانية المعروفة أي شغف الناس بذوي رحمهم القريبين، وهذا متساوق مع نظم القرآن وحكمة الله في كون مشاهد الحياة الأخروية مماثلة لمألوفات الدنيا على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وثانيا: إلى التنبيه على أن ذلك رهن بصلاح ذوي رحم المؤمنين الصالحين، وأنه ليس من شأن نسبتهم إليهم وحسب أن تجعل لهم سبيلا إلى ذلك المصير السعيد المماثل لمصير ذويهم الصالحين إذا لم يكونوا مؤمنين صالحين مثلهم.
وفي هذا ما فيه من تلقين جليل شامل ومستمر المدى.
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
. (1) المقت: الغضب الشديد.
في الآيات بيان لما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حيث يصرخ فيهم صرخة التبكيت والتقريع ويقال لهم: إن مقت الله وغضبه عليكم أشد من مقتكم أي نقمتكم على أنفسكم بسبب امتناعكم عن الاستجابة إلى دعوة الله ومقابلتها(4/357)
بالمكابرة والجحود. وحيث ترتفع أصواتهم بالندم قائلين: ربنا إنك أمتنا مرتين وأحييتنا مرتين وقد أدركنا الآن خطأنا واعترفنا بذنوبنا فهل لنا من سبيل نخرج به من ورطتنا. فيقال لهم: إن ما أنتم فيه الآن هو حق وعدل لأنكم كنتم حينما يدعى الله وحده تستكبرون وتجحدون وحينما يشرك به تؤمنون. فالملك اليوم لله وقد حكم عليكم بما استحققتموه حكمه العادل وهو العلي عن كل شريك الكبير الذي لا يدانيه شيء.
وواضح أن في الآيات عودا على بدء في صدد ذكر ما أعد للكفار يوم القيامة، وهي متصلة بالسياق. وقد استهدفت فيما استهدفته إنذار الكفار وإثارة الرعب والندم في نفوسهم، مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي أخبرت به.
تعليق على جملة أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
ولقد تعددت أقوال المفسرين في مفهوم جملة أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ورووا عن ابن مسعود وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم أحاديث في سياقها وفي سياق آية سورة البقرة [28] التي جاء فيها: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) «1» وأوجه ما فيها أنهم فسروا هذه الجملة بآية البقرة وفسروا الموت الأول في آية البقرة بحالة الإنسان قبل الحياة. والحياة الأولى بحياة الإنسان في حالة الجنين فالولادة. والموت الثاني بموت الأجل، والحياة الثانية بحياة البعث الأخروي.
على أن روح الآيات تلهم أن مجيء القول على لسان حال الكفار قد قصد به حكاية ما سوف يصدر منهم من اعتراف بقدرة الله على الإماتة والإحياء، والإحياء
__________
(1) انظر تفسير هذه الآية وتفسير آية البقرة المذكورة في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي مثلا.(4/358)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
والإماتة المرة بعد المرة في سياق استشعارهم بالندم والتماسهم الوسيلة للخروج من ورطتهم في رجعة ثانية إلى الدنيا هي في قدرته مما تضمنت آيات أخرى حكايته عن لسانهم منها الآية [58] من السورة السابقة التي تقول:
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وآية سورة فاطر هذه: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) .
[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 17]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
. (1) رزقا: هنا بمعنى الماء على اعتبار ما يكون من أثر المطر في تيسير الرزق.
(2) الروح: هنا كناية عن الوحي الرباني.
(3) يوم التلاق: يوم الاجتماع وهو كناية عن يوم القيامة.
الآيات كما هو المتبادر استمرار وتعقيب للآيات السابقة في إنذار الكفار والتنويه بالمؤمنين وبيان أهوال يوم القيامة ومهمة الرسول في تنبيه الناس وإنذارهم. وقد احتوت تنويها بمشاهد قدرة الله وعظمته ونعمته بسبيل التدليل على قدرته على تحقيق وعده ووعيده. وأسلوبها قوي رائع، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.(4/359)
تعليق على جملة وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
وجملة وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) في الآية الأولى من هذه الآيات تضمنت تقرير كون الذين يرغبون في الحق والإنابة إلى الله هم وحدهم الذين يفهمون آياته ويشعرون بعظمة كونه ويؤمنون به حينما يدعون ويذكرون وهي مقابل جملة ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا في الآية الرابعة من السورة حيث انطوى فيها كذلك معنى محكم يصح أن يزال على ضوئه إشكال ما يرد مطلقا في آيات أخرى.
تعليق على آية فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14)
وفي الآية [14] تكرار للأوامر الربانية التي تكررت في السورة السابقة بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له مع زيادة ذات مغزى وهي حث النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على ذلك ولو أغاظ الكفار وكرهوه. حيث قد يفيد هذا أن الأوامر الربانية الأولى قد أغاظت الكفار وجعلتهم ييأسون من تراجع النبي صلى الله عليه وسلم عن موقفه تجاه شركهم وتقاليدهم. وحيث قد يكون قرينة أخرى على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد السورة السابقة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول دبر كلّ صلاة حين يسلّم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير لا حول ولا قوة إلّا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلّا إيّاه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلّا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. وكان يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهلّل بهذه الكلمات دبر كلّ صلاة. حيث ينطوي في الحديث صورة من صور التعليم النبوي المستلهم من الآيات القرآنية بسبيل إعلان الإخلاص له وحده.(4/360)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
[سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 20]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
. (1) الآزفة: القريبة أو التي تسوق الناس وتزفهم بالسرعة. وهي كناية عن الساعة أو يوم القيامة.
(2) إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين: الكظم بمعنى الكتم والإمساك.
ومعنى الجملة إذ القلوب ترتفع من شدة الاضطراب إلى الحناجر فتكتم حلوق أصحابها وأنفاسهم فلا تستطيع خروجا ولا تستطيع العودة إلى أماكنها. وهي بسبيل تصوير حالة الهلع الشديد التي تعتري الكفار.
(3) حميم: صديق مشفق.
(4) خائنة الأعين: ما ينطوي في نظرات الأعين من مقاصد يريد أصحابها إخفاءها فتخونهم هذه النظرات.
وهذه الآيات احتوت كذلك إنذارا وتنديدا بأسلوب آخر. فهي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بيوم القيامة القريب الذي يزف الناس فيه زفا ويساقون سوقا وبما سوف تكون حالتهم فيه من الهلع والرعب بحيث يشتد اضطرابهم حتى ترتفع قلوبهم إلى حناجرهم وتكاد أن تسد عليهم مجرى النفس ولا يجد الظالمون صديقا مشفقا ولا شفيعا مستجابا مطاعا. وقد أشارت إلى سعة إحاطة الله بأعمال الناس ونواياهم فهو يعلم كل حركة من حركاتهم خفيها وظاهرها حتى ما يدق على المشاهدين مما تنطوي عليه لحظات العيون وتخفيه الصدور من النوايا المريبة.
فهو السميع لكل شيء النافذ بصره إلى كل شيء. وهو الذي سيقضي بين الناس بالحق وفق أعمالهم، أما الشركاء الذين يدعوهم المشركون مع الله فليس لهم أي قدرة على شيء أو القضاء في أي شيء أو النفوذ إلى أي شيء.(4/361)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
وواضح أن هذه الآيات هي أيضا استمرار للآيات السابقة وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب واليأس في قلوب المشركين وحملهم على الارعواء.
[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
. تساءلت الآيات تساؤل المنكر المندد المذكر عما إذا كان الكفار لم يسيروا في الأرض ولم يروا من الآثار ما كان عاقبة الذين من قبلهم حيث أخذهم الله بذنوبهم أخذا قويا مدمرا ما تزال آثاره قائمة مشاهدة ولم يكن لهم منه نصير ولا واق وقد كانوا أشد منهم قوة وتمكنا وآثارا في الأرض، وذلك بسبب كفرهم حينما كانت تأتيهم رسل الله بالبينات وتدعوهم إليه. ولقد أخذهم الله وهو قوي شديد العقاب قادر على أخذ أمثالهم أيضا.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وتذكير وإنذار واستطراد وروحها ومضمونها يلهمان أن العرب كانوا يشاهدون آثار الأمم السابقة المدمرة ويتداولون فيما بينهم أنها دمرت ببلاء رباني مما تكرر تقريره في آيات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في السور السابقة وهذا ما يقوي الآيات في إنذارها وتنديدها.
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 44]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)(4/362)
(1) سلطان مبين: حجة واضحة مستعلية.
(2) استحيوا نساءهم: أبقوا نساءهم أحياء دون الذكور.
(3) ظاهرين في الأرض: غالبين وظافرين في الأرض.
(4) دأب: عادة أو عمل.
(5) يوم التناد: كناية عن يوم القيامة حيث يتنادى الناس للاستغاثة أو بالويل والثبور.
(6) ما لكم من الله من عاصم: ليس لكم من يحميكم ويمنعكم من الله.
(7) كبر مقتا عند الله: ما أكبر ما يستوجبه من المقت والغضب عند الله.
(8) الصرح: البناء الظاهر المرتفع.
(9) أسباب السموات: طريق السموات أو أبوابها.
(10) تباب: هلاك وخسران وضياع.
(11) لا جرم: هنا بمعنى لا ريب من قبيل التوكيد.
جاء هذا الفصل معقبا على الآيات السابقة التي ندد فيها بالكافرين المشركين وأنذروا وبخاصة على الآيتين السابقتين مباشرة اللتين ذكّروا فيهما بآثار الأمم السابقة المدمرة بالبلاء الرباني قصاصا منها على تكذيبها رسل الله وكفرها بدعوتهم مما جرى عليه النظم القرآني في إيراد القصص على ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة وقد احتوى تفصيل ما كان من موقف فرعون وقومه من موسى ورسالته وعبارته واضحة.(4/364)
تعليق على قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون وما فيها من تماثل مع صور السيرة النبوية والتقريرات القرآنية المباشرة في صددها وما في ذلك من عبر وتلقين
والجديد في القصة جمع قارون إلى فرعون وهامان وكون موسى أرسل إليه أيضا. وحكاية موقف الرجل المؤمن من آل فرعون وخطابه إلى فرعون وقومه، وقول فرعون ذروني أقتل موسى.
أمّا ما عدا ذلك فهو متسق إجمالا مع ما جاء في السور السابقة خلال قصص موسى وفرعون مما علقنا عليه بما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله فنكتفي بذلك بالنسبة لما اتسق بين ما جاء في هذه السورة والسور السابقة.
ولقد ذكر قارون في سورة القصص وأنه كان من قوم موسى فبغى عليهم، ولم يذكر فيها أنه كان في زمن موسى ولم ينف ذلك أيضا. وفي تعليقنا على قصة قارون في السورة المذكورة رجحنا أن قصة قارون وهويته مما كان واردا في بعض أسفار اليهود المتداولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما يتسق مع ما ورد عنها إجمالا في القرآن، وأن سامعي القرآن من العرب أو بعضهم كان يعرف ذلك عن طريق اليهود. وهذا يشمل فيما هو المتبادر وما ذكر عنه في هذه السورة ولم يذكر في سورة القصص.
ولقد ذكر في سورة القصص أن رجلا حذر موسى وحثه على الخروج، ورجحنا في سياق تفسير ذلك أنه مما كان متداولا بين اليهود وواردا في بعض أسفارهم التي كانت في أيديهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما يصح أن يقال بالنسبة للرجل المؤمن من آل فرعون وموقفه. وهذا يقال أيضا في صدد قول فرعون ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى الذي ليس واردا في الأسفار المتداولة اليوم.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فيها بعض البيانات عن مؤمن آل فرعون واسمه وهويته ووقت إيمانه مما يمكن أن يدل على(4/365)
تداول قصته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته ويؤيد ما رجحناه «1» . ومن ذلك أنه ابن عم لفرعون وأن اسمه جبريل أو حزبيل أو حبيب وأنه هو الذي حذر موسى ونصحه بالخروج على ما جاء في سورة القصص وأنه خرج مع موسى حينما خرج ببني إسرائيل من مصر.
وأسلوب آيات القصة ومضمونها يؤكدان أن هدفها هو إنذار الكفار العرب وتخويفهم وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن ما يلقونه هو ما كان يلقاه الرسل والمؤمنون السابقون الذين أيدهم الله ونصرهم وأهلك أعداءهم.
ولقد ذكرت الروايات بعض مواقف لبعض المؤمنين استنكروا ما كان يبدو من بغاة قريش من عدوان وطغيان ضد النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان هذا سببا لإيمانه وإعلانه مناصرة النبي صلى الله عليه وسلم مثل حمزة عمه الذي ثار غضبه على أبي جهل حينما علم بموقف شديد بذيء له مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضربه فشجه، ثم أعلن إسلامه أمام ملأ من قريش في فناء مكة. ولقد وجد أبو بكر يوما بعض بغاة قريش محدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأحدهم يشد رداءه على عنقه فأخذ يصرخ باكيا: «أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله» حتى تعرض هو نفسه للأذى والشر. ولقد ذكرت الروايات فيما ذكرت أن بعض زعماء قريش المعتدلين كانوا ينصحون قومهم بترك النبي صلى الله عليه وسلم وشأنه فإن نجح كان في جناحه عزهم وقوتهم. ومنهم من كان يبدي دهشته من بلاغة القرآن وروحانيته وينكر أن يكون شعر شاعر وسجع كاهن وتخييل ساحر.
ففي قصة الرجل المؤمن مماثلة لبعض هذه الصور «2» وتذكير بمواقف مماثلة في
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.
(2) انظر الجزء الأول والثاني من سيرة ابن هشام والجزء السادس من كتابنا (تاريخ الجنس العربي) ففيها هذه الصور وصور عديدة مماثلة أخرى. وموقف أبي بكر رضي الله عنه ذكر في حديث أخرجه البخاري جاء فيه: «سئل عبد الله بن عمرو عن أشدّ ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم. التاج ج 4 ص 203 وانظر روايات أخرى لهذا الموقف في تفسير ابن كثير والبغوي لهذه الآيات.(4/366)
سياق قصة رسول من رسل الله السابقين.
وفي آيات القصة حكاية لأقوال عديدة من أقوال مؤمن آل فرعون مشابهة لجمل قرآنية عديدة وجهت مباشرة إلى كفار العرب منها إنذار مؤمن آل فرعون لقومه بمصير الأمم السابقة المكذبة مثل قوم نوح وعاد وثمود، ومنها تنبيه المؤمن قومه إلى أن الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار وأن من عمل سيئة فلا يجزى إلّا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. ففي كل هذا يظهر هدف العظة والزجر والدعوة والتأسي والتسلية والتثبيت والتنديد في آيات القصة قويا بارزا كما ينطوي فيه تلقينات مستمرة المدى. وهذا بالإضافة إلى ما في موقف هذا المؤمن الجريء المندد بفرعون وقومه والداعي إلى الله والمنذر بعذابه للمصرّين على الكفر رغم كونه وحيدا من تلقين في إيجاب المواقف المماثلة على المؤمنين المخلصين دون خوف ورهبة من الظالمين. ولقد روى أصحاب السنن حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر» «1» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع ما استلهمناه من التلقين القرآني.
ولقد جاء في آيات هذه السورة والسورة السابقة لها فضلا عما قبلهما أوامر قرآنية مباشرة للنبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له ورفض دعوة المشركين إلى مشاركتهم في عبادتهم وتقاليدهم، وبين هذا وبين ما جاء في القصة من كلام الرجل المؤمن لقومه [الآيات/ 41- 44] تماثل.
ولقد جاءت في آيات هذه القصة مقاطع فيها تعليقات وتنبيهات وعظية بليغة جريا على الأسلوب القرآني البديع، منها ما هو تعليقات وتنبيهات مباشرة، ومنها ما جاء على لسان مؤمن آل فرعون، فالله لا يسعد ولا يوفق البغاة
__________
(1) التاج ج 5 ص 203.(4/367)
الكذابين [الآية 28] . والله لا يريد ظلما لعباده ولذلك جرى على سنة إرسال رسله لإنذارهم ودعوتهم [الآيات 29- 30] والله إنما يضل البغاة المرتابين الذين يجادلون في آيات الله بالباطل والذين استوجبوا مقت الله وإنما يطبع على قلوب المتكبرين الجبارين [الآيات 33- 34] .
وإنه من عجيب أمرهم أنه بينما يدعوهم إلى النجاة يدعونه إلى النار ويريدون أن يكفر بالله ويشرك به غيره الذي لا يملك من الأمر شيئا، وإن مرد الناس جميعهم إلى الله وأن المفسرين في الانحراف هم وحدهم أصحاب النار [41- 43] ولسوف يذكرون ما يقوله لهم في يوم ما ويندمون على مواقفهم وأنه يفوض أمره إلى الله البصير بأمور عباده [44] .
وبين هذه التعليقات ما جاء في كثير من التقريرات القرآنية المباشرة التي مرّت أمثلة منها في السور السابقة تماثل كذلك. وواضح أن هذا التماثل مما يبرز قصد القصة الوعظي والتذكيري والتمثيلي.
استطراد إلى مذهب التقية بصورة عامة وعند الشيعيين بصورة خاصة وتعليق عليه
إن مفسري الشيعة وفقهاءهم يقفون عند جملة رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ فيسوقونها كدليل من جملة الأدلة على مذهب التقية الذي يعتنقونه. وقد روى المفسر الطبرسي في سياقها قولا لأبي عبد الله أحد الأئمة جاء فيه: «إنما هذا الرجل كان يكتم إيمانه تقية من القتل، وإن التقية من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الأرض» .
والمتبادر أن في اتخاذ الشيعة هذه الآية سندا لمذهب التقية تجوزا، فهي من سياق فيه حكاية قصة من قصص رسالة موسى عليه السلام وليست تشريعا للمسلمين، وفي السياق إلى هذا حكاية الموقف الجريء الذي نوهنا به والذي يتناقض مع فكرة التقية والمداراة.(4/368)
ويستند الشيعة إلى آية سورة آل عمران هذه أيضا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) والآية إنما تجيز التقية إزاء الكفار وحسب في حين أن الشيعة يتوسعون في مذهبهم ويسوغونه في كل حالة وموقف وإزاء الكفار والمسلمين على السواء ويعتبرونه أساسا مهما من أسس الدين أو المذهب كما تفيده الرواية المروية عن أبي عبد الله التي أوردناها آنفا، ويسوقون مع هذه الرواية أحاديث نبوية أخرى لتأييد مذهبهم التوسعي لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. من ذلك حديث يرويه العياشي أحد محدثيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه:
«لا دين لمن لا تقيّة له» «1» . وهذه الجملة وردت في القول المنسوب لأبي عبد الله ومنها حديث رواه الديلمي جاء فيه: «إنّ الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض وفي رواية بعثت بالمداراة» «2» . ومنها حديث رواه ابن عدي وابن عساكر جاء فيه: «من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» . ويسوقون مع هذه الأحاديث رواية طريفة يرويها المفسر العسكري جاء فيها: «إن الباقر وهو إمامهم الرابع نظر إلى بعض شيعته وقد دخل خلف بعض المنافقين إلى الصلاة- والمقصود إنّه صلى مؤتما بإمام سني غير شيعي- وأحسّ الشيعي أن الباقر عرف ذلك منه فقصده وقال له: أعتذر إليك يا ابن رسول الله عن صلاتي خلف فلان فإنها تقية. ولولا ذلك لصليت وحدي. فقال له الباقر: يا أخي إنما كنت تحتاج أن تعتذر لو تركت. يا عبد الله المؤمن ما زالت ملائكة السموات السبع والأرضين السبع تصلي عليك وتلعن إمامك ذاك. وإنّ الله تعالى أمر أن تحسب صلاتك خلفه بسبعمائة صلاة لو صليتها وحدك فعليك بالتقية» «3» .
__________
(1) مختصر ترجمة التحفة الإثني عشرية ص 288- 289.
(2) مختصر ترجمة التحفة الإثني عشرية ص 288- 289.
(3) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 96- 97 عزوا إلى المفسر الشيعي العسكري.(4/369)
وبقطع النظر عن صحة هذه الأحاديث وعدمها فقد يصح أن يقال إن مذهب التقية أو المداراة وجيه وحق في حالة مواجهة الخطر والضرر المؤكدين اللذين لا يمكن اتقاؤهما بغير ذلك وسواء أكان هذا إزاء الكفار أم إزاء شرار المسلمين وبغاتهم والقادرين على الكيد والضرر والأذى منهم مما قد يلهمه تلقين آية سورة النحل هذه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ... وآية سورة البقرة هذه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» . وحديث رواه الأربعة عن عائشة قالت: «استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ثم أذن له فألان له القول فلمّا خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال: يا عائشة، إنّ من شرّ الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه» «2» . غير أن التوسع في هذا المذهب وتشميله لأيّة حالة وموقف إطلاقا هو من مميزات المذهب الشيعي الذي لا نراه معقولا إلّا في حالة الخطر والضرر الأكيدين والله أعلم.
هذا، وهناك أقوال وحدود أخرى للمؤولين والمفسرين وردت في سياق آية سورة آل عمران [38] سنوردها ونعلّق عليها عند تفسير هذه الآية.
تعليق على ذكر عاد وثمود ورسالة يوسف عليه السلام في الآيات
وفي الآية [31] ذكر لعاد وثمود مع قوم نوح، وقصتا عاد وثمود لم تردا في الأسفار اليهودية المتداولة. وهما، على ما قلنا قبل، عربيتا الموطن أي كانتا في
__________
(1) التاج ج 1 ص 29.
(2) التاج ج 5 ص 25.(4/370)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
جزيرة العرب. وقد يورد هذا سؤالا عما إذا كان يصح أن تورد قصتهما على لسان مؤمن آل فرعون. ولسنا نرى محلا لهذا النقد فليس ما يمنع أن يكون خبر عاد وثمود مما كان معروفا في ظروف رسالة موسى عليه السلام. وأن يكون ذلك واردا في قراطيس يتداولها اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. وفي الأسفار المتداولة اليوم اسم سبأ وددان وبلاد العرب وملوك العرب متكرر الورود.
وفي الآية [34] خطاب لفرعون وقومه يتضمن خبر كون يوسف عليه السلام مرسلا من الله لفرعون وقومه في وقت وجوده في مصر. وفي الإصحاح الواحد والأربعين من سفر التكوين المتداول الذي يحكي قصة حلم فرعون مصر وتفسير يوسف له ذكر أن يوسف قال: إنه يفسر الأحلام بأمر الله. وإن فرعون قال له: «بعد ما عرفك الله هذا كله فليس فيهم حكيم مثلك. أنت تكون على بيتي وإلى كلمتك ينقاد كل شعبي ولا أكون أعظم منك إلّا بالعرش» وفي هذا ينطوي مصداق ما جاء في الآية وبالتالي كون ما جاء فيها مما كان معروفا متداولا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته.
[سورة غافر (40) : الآيات 45 الى 50]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49)
قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
. (1) وما دعاء الكافرين إلّا في ضلال: بمعنى أن دعاءهم عبث لا جدوى من ورائه ولا استجابة له.(4/371)
في الآيات تعقيب على الفصل القصصي كما هو الظاهر، واحتوت تقرير وقاية الله للمؤمن وحكاية ما سوف يكون من أمر فرعون وقومه بعد الموت ويوم القيامة وما سوف يذوقونه من شديد العذاب ومحاورة التابعين والمتبوعين وإلقاء هؤلاء التبعة على أولئك وندم الجميع وحسرتهم ويأسهم من النجاة وأنيب خزنة النار لهم حينما طلبوا منهم دعاء الله بالتخفيف عنهم.
وأسلوبها قوي نافذ، والهدف الذي استهدفه الفصل القصصي وهو الزجر والعبرة والتذكير والموعظة والإنذار والتنديد قد انطوى في هذا التعقيب أيضا، ويلفت النظر إلى المحاورة المحكمية بين الضعفاء والمستكبرين، حيث ورد مثلها على لسان المستضعفين والمستكبرين العرب أيضا في سورة سبأ السابقة لهذه السورة، وحيث ينطوي في هذا التماثل قصد الإنذار والزجر للسامعين أيضا كما هو المتبادر.
تعليق على جملة النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [46] واستطراد إلى الأحاديث عن عذاب القبر
ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وأوردوا تأويلات صحابية وتابعية وأحاديث نبوية في صددها. من ذلك ما رواه الطبري عن البلخي قال: «سمعت الأوزاعي وسأله رجل قال: رحمك الله رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله فإذا كان العشيّ رجع مثلها سودا قال: وفطنتم إلى ذلك قالوا: نعم قال: تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيّا فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سودا فتنبت عليها من الليل رياش بيض وتتناثر السود ثم تغدو يعرضون على النار غدوّا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها فذلك دأبها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله: أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب قالوا: وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف» .
والحديث لم يرد في كتب الصحاح وهو على غرابته يقتضي أن يكون آل فرعون(4/372)
فقط هم الذين يعرضون على النار!. وقد روى الطبري إلى هذا عن قتادة أنها تعني أن منازلهم من النار تعرض عليهم غدوا وعشيا توبيخا ونقمة وصغارا لهم. وعن مجاهد أنهم يعرضون على النار غدوّا وعشيا- ما كانت الدنيا- وهذا يعني أن هذا العرض قبل يوم القيامة. ثم قال الطبري ما مفاده: أن الأولى أخذ الجملة على ظاهرها والوقوف عند ذلك. فالله قال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ فنقول ذلك وحسب. ومن ذلك ما رواه البغوي عن قتادة ومقاتل والسدي والكلبي أن روح كلّ كافر تعرض على النار بكرة وعشيا ما دامت الدنيا. ومن ذلك قول ابن كثير أنهم- يعني العلماء والمفسرين قبله- استدلّوا بهذه الآية على عذاب القبر الذي ورد خبره في أحاديث صحيحة وأورد حديثا رواه الإمام أحمد عن عائشة جاء فيه: «كانت تخدمنا يهودية فلا نصنع لها شيئا من المعروف إلا قالت:
وقاك الله عذاب القبر فدخل عليّ رسول الله فقلت يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال: لا من زعم ذلك قالت: هذه اليهودية لا أصنع معها شيئا من المعروف إلّا قالت وقاك الله عذاب القبر قال: كذبت يهودية وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات نصف النهار مشتملا بثوبة محمرّة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته: «القبر كقطع الليل المظلم، أيّها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيرا وضحكتم قليلا. أيّها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإنّ عذاب القبر حقّ» . وننبه على أن ابن كثير أورد أيضا صيغة مختصرة لهذا الحديث رواها البخاري جاء فيها: «إنّ يهودية دخلت على عائشة فقالت: نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: نعم عذاب القبر حقّ. ثم قالت: فما رأيت رسول الله بعد صلى صلاة إلّا تعوّذ من عذاب القبر» . ومع ذلك فإن ابن كثير لاحظ أن الآية مكية وأن هذه الأحاديث مدنية واستشكل في صواب الاستدلال بالآية على عذاب القبر ثم قال: إن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ- أي بعد الموت وقبل القيامة- وتألمه بسببه فلم(4/373)
يدل عليه إلّا السنة في الأحاديث.
ومهما يكن من أمر فإن صيغة الجملة في ذاتها تفيد أن العرض هو بعد الموت وقبل يوم القيامة أو فيما يسمونه البرزخ. وأن من الواجب الإيمان بما ذكرته الجملة وبقدرة الله على ذلك. ومع ما في تأويل قتادة ومقاتل والسدي والكلبي من وجاهة فإن فيما التزمه الطبري من الوقوف عند الجملة بدون تخمين الصواب ما دام ليس هناك أثر نبوي صحيح يفسرها. وهذا لا يمنع القول إن الجملة قد استهدفت أيضا إثارة الرعب في الكفار من مثل هذا المصير الرهيب.
وما دام عذاب القبر قد ذكر في سياق هذه الجملة فنرى أن نستطرد هنا إليه فنقول إن هناك أحاديث نبوية عديدة في ذلك في ذلك بالإضافة إلى الحديثين اللذين أوردهما ابن كثير ونقلناهما آنفا عنه. فمن ذلك حديث يرويه البغوي في سياق هذه الجملة عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فيقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» . ومن ذلك حديث رواه الخمسة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه وإنّه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل- أي محمّد صلى الله عليه وسلم- فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» «1» . وحديث رواه الشيخان والنسائي عن أسماء قالت: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ما من شيء لم أكن أريته إلّا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار. فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال يقال: ما عملك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن، فيقول هو محمّد
__________
(1) التاج ج 1 ص 338.(4/374)
رسول الله جاءنا بالبيّنات والهدى فأحببناه واتبعناه هو محمّد ثلاثا فيقال: نم صالحا قد علمنا إن كنت لموقنا به. وأما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» «1» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنّهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير ثم قال: بلى أمّا أحدهما فكان يسعى بالنّميمة وأمّا الآخر فكان لا يستتر من بوله، وفي رواية لا يستبرىء من بوله ثمّ أخذ عودا رطبا فكسره باثنين ثم غرز كلّ واحد منهما على قبر ثمّ قال: لعلّه يخفّف عنهما ما لم ييبسا» «2» . وحديث رواه الشيخان والنسائي جاء فيه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال» «3» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر والآخر نكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان قد كنّا نعلم أنك تقول هذا ثمّ يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين وينور له فيه ثم يقال له: نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلّا أحبّ أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.
وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثلهم لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذّبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» «4» . وهناك أحاديث عديدة أخرى في صيغ متقاربة. وهناك حديث طويل عن البراء أورد في سياق تفسير الآية [27] من سورة إبراهيم سنورده في سياقها فنكتفي هنا بما أوردناه «5» .
__________
(1) التاج ج 1 ص 338- 340. [.....]
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) النص منقول عن ابن كثير للآية 27 من سورة إبراهيم.
(5) انظر تفسير آية إبراهيم المذكورة في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(4/375)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
وتعليقا على الموضوع نقول إنه ما دام قد ورد فيه أحاديث صحيحة فمن واجب المسلم أن يؤمن به كواجبه بالإيمان بأخبار الغيب المتنوعة التي تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يدركها العقل العادي ويقف عند ذلك كما هو الشأن فيما جاء من ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذلك في نطاق قدرة الله وبأنه لا بدّ لذكر ذلك من حكمة. وقد يتبادر أن من هذه الحكمة في هذا الموضوع هو تطمين المؤمن وتثبيته وتشويقه والحثّ على الإيمان والإخلاص وتخويف الكافر والمنافق وتقبيح الكفر والنفاق.
[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 55]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
. (1) يوم يقوم الأشهاد: الأشهاد جمع شاهد، والجملة كناية عن يوم القيامة.
(2) الظالمين: المنحرفين المجرمين.
في الآيات توكيد بأن الله سينصر رسله والذين آمنوا معهم في الحياة الدنيا أولا ثم في الآخرة حيث لا ينفع الظالمين المجرمين ما سوف يقدمونه من أعذار وتدمغهم شهادة الشهود وتحقّ عليهم لعنة الله وخزيه وينزلون أسوأ المنازل.
وإشارة إلى ما كان من هدى الله وفضله على موسى وبني إسرائيل ليكون في ذلك هدى وذكرى لأولي العقول السليمة. وقد انطوى في هذه الإشارة على ما هو المتبادر قصد التدليل على نصر الله وفضله لرسله والمؤمنين في الحياة الدنيا.
وقد التفتت الآية الأخيرة في خطابها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرته بالصبر وطمأنته(4/376)
بتحقيق وعد الله الحق بالنصر والتأييد، وأمرته بالثبات في موقفه متكلا على الله مستغفرا لذنبه مسبحا بحمد ربه صبحا ومساء.
تعليق على جملة إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
والآيات استمرار للتعقيب على الفصل القصصي كما هو واضح. وقد استهدفت تطمين النبي والمؤمنين وتثبيتهم وبعث الأمل والوثوق في نفوسهم إزاء ما يلقونه من عنت الكفار وبغيهم. ولقد سبق تطمين قوي مثل هذا التطمين في سورة الصافات التي نزلت قبل قليل من هذه السورة حيث يمكن القول إن ظروف السيرة في مكة كانت تقتضي مواصلة ذلك. وإنه كان من عوامل ما كان يبدو من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأولين من قوة وثبات وجرأة ويقين واستغراق في الله ودينه ودعوته. ونكرر هنا ما قلناه قبل من أن الله تعالى قد حقق وعده للنبي والمؤمنين فعلا فنصرهم الله وصارت كلمته هي العليا وتحققت بذلك المعجزة القرآنية.
ومع خصوصية هذا التطمين وصلته بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنّ في إطلاق العبارة القرآنية تلقينا جليلا مستمر المدى يستمد منه كل مؤمن يدعو إلى الله ودينه ومبادئه السامية ويناضل في سبيلها اليقين والقوة والجرأة ويجعله يستبشر بنصر الله وتأييده إذا ما كانت دعوته ونضاله بصدق وإخلاص.
تعليق على جملة وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
هذه الجملة في الآية [55] هي أولى المرات التي يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالاستغفار لذنبه، وهناك آيات من بابها في سور أخرى.
ولقد تعددت تخريجات المفسرين لهذه الجملة «1» منها أنه خوطب بذلك
__________
(1) انظر تفسير هذه الآيات وتفسير آيات سورة النساء [105- 107] وآية سورة محمد [19] في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(4/377)
لتستن أمته بسنته. ومنها أنها بمعنى استغفر لذنوب أهل بيتك ومنها أن اشتغاله بأمر الناس كان يشغله عن التفرغ لعبادة الله فكان هذا عنده تقصيرا أو ذنبا من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولقد أورد المفسرون حديثا جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كلّ يوم مائة مرة» «1» . وفسروا الغين بالغيم الرقيق الذي يغشى السماء وفسروه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم بالفترات والغفلات فكان يعتبر ذلك ذنبا نحو الله تعالى ويستغفره منه. وهذا أوجه التخريجات. ولقد خطر ببالنا تخريج آخر نرجو أن يكون صوابا. وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يأمر بشيء أو ينهى عن شيء أو يفعل شيئا اجتهادا منه بغير وحي ويكون ذلك أحيانا غير الأولى في علم الله ويعاتب عليه في القرآن مما مرّ منه بعض الأمثلة فكان يستغفر الله تعالى ويؤمر بالاستغفار لنفسه من مثل ذلك. ومن هذا الباب آيات سورة النساء هذه: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) وليس هذا ولا ما ورد في التخريج السابق من الغين ذنبا فيه تقصير في حق الله تعالى أو انحراف عن أوامره مما يجب الاعتقاد بعصمته منه صلى الله عليه وسلم.
وبالإضافة إلى الحديث السابق أورد المفسرون أحاديث عديدة في صدد استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه فيها حديث عن أبي هريرة جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرّة. وفي رواية أكثر من سبعين مرة» «2» . وحديث عن ابن عمر قال: «إن كنا لنعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة قوله ربّ اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم» «3» . وحديث جاء فيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في آخر الصلاة: اللهمّ اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به
__________
(1) روى هذا الحديث مسلم وأبو داود. انظر التاج ج 5 ص 135.
(2) روى هذا الحديث بالصيغة الأولى فقط البخاري. انظر التاج ج 5 ص 135.
(3) روى هذا أبو داود والترمذي انظر التاج ج 5 ص 135.(4/378)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
مني أنت إلهي لا إله إلّا أنت» «1» . وحديث جاء فيه: «يا أيّها الناس توبوا إلى ربّكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» «2» . وحديث جاء فيه:
«إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهمّ اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهمّ اغفر لي هزلي وجدّي وخطئي وعمدي وكلّ ذلك عندي» . حيث ينطوي في كل هذا صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بعظم مسؤوليته نحو الله عز وجل وعظم خوفه من أن يكون قد أتى في حالة من حالاته ما لا ينبغي أن يصدر عنه.
هذا، وجملة وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) يجب أن تؤخذ على أنها في صدد ما خلفه موسى عليه السلام في بني إسرائيل أو سلمه إليهم من المدونات التي فيها شرائع الله وتبليغاته والتي ذكرنا خبرها في سياق تفسير سورة الأعراف استنادا إلى آيات القرآن من ناحية، وبعض نصوص ما هو متداول في الأيدي اليوم من أسفار من ناحية أخرى وحسب، وليست في صدد تقرير اقتصار إرث كتاب الله عليهم لأن المسلمين قد أورثوا كتاب الله تعالى بدورهم. ولا في صدد كون ذلك شاملا جميع ما في أيديهم من أسفار لأنها مكتوبة بأقلام بشرية في أزمنة مختلفة فيها الغثّ والسمين والمناقضات والمبالغات وما تنزّه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه من أوامر وتبليغات وإن كان يجوز أن يكون فيها بعض ما بلّغه الله لموسى وغيره من أنبيائه وبلّغوه بدورهم لبني إسرائيل، والله تعالى أعلم.
[سورة غافر (40) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
. في الآية تنديد بالذين يجادلون في آيات الله ويكابرون فيها بغير برهان وعلم، وتقرير لواقع أمرهم من حيث إنهم يكونون مندفعين في ذلك بسائق الكبر والغرور.
__________
(1) النص من تفسير ابن كثير لسورة محمد وقد وصف المفسر الحديث بالصحيح.
(2) النص أيضا من تفسير ابن كثير سورة محمد وقد وصف بالصحيح كذلك.(4/379)
وتطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تأمره بالاعتصام بالله والاستعاذة به فهو السميع الذي يسمع كل شيء والبصير الذي يرى كل شيء، وليكون على ثقة من أنهم لن يصلوا إلى ما يرمون إليه من تعطيل آيات الله ودحضها.
تعليق على موضوع المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن هذه الآية مدنية، وروى بعض المفسرين أنها نزلت في اليهود ومكابرتهم وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم إن المسيح الدجال هو صاحبهم وإنه سوف يظهر ويملك الدنيا وتعم دعوته ويعيد لليهود سابق سلطانهم وملكهم. وقال المفسرون الذين رووا ذلك: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من فتنته «1» .
ويلحظ أن آية قريبة في الصيغة إلى هذه الآية قد وردت في الفصل القصصي السابق [الآية/ 34] في صدد التنديد بالكافرين المتكبرين مما يسوغ القول إن هذه الآية أيضا مكية وفي صدد الكافرين وفيها عود على بدء بالتنديد بهم وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته من ناحيتهم. ويلحظ أيضا أن الآية السابقة لهذه الآية مباشرة قد وجه الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر والاعتماد على الله وتسبيحه عشيا وبكورا، وأن الفقرة الأخيرة قد احتوت شيئا مثل ذلك من حيث توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالاستعاذة بالله، فهذا التماثل أيضا مما يقوي ترجيح مكية الآية وصلتها بالسياق سبكا وموضوعا.
ولقد كانت رواية مدنية الآية وقول اليهود إن المسيح الدجال هو صاحبهم وسيلة للمفسرين لذكر الدجال وظهوره وصفته ونزول عيسى بعده وقتله له «2» ولإيراد أحاديث نبوية عديدة في ذلك مختلفة الرتب والنصوص، مما دعانا إلى
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والبغوي. ومن العجيب أن المفسر الطبري لم يذكر شيئا من ذلك في سياق هذه الآية.
(2) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والبغوي. ومن العجيب أن المفسر الطبري لم يذكر شيئا من ذلك في سياق هذه الآية.(4/380)
شيء من التعليق لأن كتب المفسرين مستفيضة به فنقول: إن كلمة المسيح هي نفس كلمة (مسيا) العبرانية والمقصود بها رجل يمسح الرئيس الديني بالدهن على رأسه ويملك على اليهود وفقا لتقاليدهم.
وفي سفري صموئيل الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية وسفري الملوك الأول والثاني في الطبعة الكاثوليكية خبر مسح أول ملك بالدهن وهو طالوت حيث طلب بنو إسرائيل من كاهنهم الأكبر أن يجعل لهم ملكا فاختار لهم طالوت بأمر الله ومسح رأسه بالزيت وقال له: إن الربّ مسحك قائدا على ميراثه»
وصار يدعى مسيح الرب «2» . وكان هذا شأن داود وملوك بني إسرائيل من بعدهما. واليهود يعتقدون استنادا إلى ما في أيديهم من أسفار وبخاصة في سفر نبوءة أشعيا من بشارات بظهور مسيح للربّ يملك عليهم ويصلح حالهم ويقوم معوجهم ويعيد لهم مجدهم. ولما ظهر عيسى عليه السلام ظن بعضهم أنه المسيح المنتظر «3» فلما رأوه يخالف منهجهم ويهاجم رجال الدين المنحرفين عن الشريعة ويدعو جميع الناس إلى الله عز وجل بدون اختصاص لبني إسرائيل ويبشر بملكوت السموات دون ملكوت الأرض كذبوه وناوأوه وصاروا يلقبونه بمسيح الربّ وملك اليهود استهزاء وسخرية «4» . ثم ظلوا ينتظرون مسيحا، وقد ظهر عدة مسحاء من اليهود بعد عيسى ولكنهم جحدوهم ونعتوهم بالكذابين أيضا. وكلمة الدجال وردت في الأحاديث النبوية المروية، ومعنى الكلمة: المضلل الكذاب. فمن الطبيعي أن يكون هذا الوصف غير يهودي لأنه لا يعقل أن يسمي اليهود مسيحهم المنتظر به كما ذكرت الرواية التي رواها المفسرون وأوردناها قبل. والمتبادر أنه نعت نصراني على اعتبار أن المسيح الصادق قد ظهر وهو عيسى وأن ما ينتظره اليهود مسيح كذاب ودجال.
وأن هذا النعت مقابلة مسيحية لما كان ينعت به اليهود عيسى ابن مريم عليه السلام
__________
(1) انظر الإصحاحين 9 و 10 من صموئيل الأول.
(2) انظر الإصحاح 24 من السفر نفسه. [.....]
(3) انظر مثلا الإصحاح 16 من إنجيل متى.
(4) انظر مثلا الإصحاح 27 من إنجيل متى والإصحاح 15 من إنجيل مرقس.(4/381)
من نعوت بذيئة حيث كان العداء مشتدا بين اليهود والنصارى. وكلمة (الدجال) عربية فصحى وردت كما قلنا في الأحاديث النبوية. ونرجح أنها كانت مستعملة قبل البعثة في نعت المسيح الذي ينتظره اليهود من قبل النصارى، بل نكاد أن نجزم بذلك. وفي الإصحاح الثاني من سفر رسالة القديس يوحنا الأولى وهذا السفر من ملحقات العهد الجديد ذكر للمسيح الدجال بصيغة تؤيد ذلك على ما سوف نورده بعد قليل. ومن المحتمل أن يكون نصارى العرب الصرحاء الفصحاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد الشام والعراق أو جزيرة العرب قد استعملوها كذلك. كما أن من المحتمل أن يكونوا ترجموها من لغة النصارى غير العرب الصرحاء من سريانيين وفينقيين وكلدانيين وأقباط وأشوريين أو روم.
ولقد قلنا إن أحاديث نبوية عديدة مختلفة الرتب والنصوص قد رويت في المسيح الدجال وصفته وظهوره وفتنته ونزول عيسى عليه السلام من السماء في النهاية وتمكنه من قتله. ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. منها حديث رواه مسلم عن أنس بن مالك جاء فيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة» . ومنها حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي بكر جاء فيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة» .
ومنها حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي جاء فيه: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ ذكر الدجال فقال: إنّي لأنذركموه وما من نبيّ إلّا وقد أنذر قومه، ولكنّي سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبيّ لقومه، إنّه أعور وإنّ الله ليس بأعور» . ومنها حديث رواه البخاري ومسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «ليس من بلد إلّا سيطؤه الدجّال إلّا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلّا عليه الملائكة صافّين تحرسها، فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج إليه منها كلّ كافر ومنافق» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمر رواه مسلم جاء فيه: «أنّ رسول الله قال: يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله عيسى ابن مريم عليه(4/382)
السلام كأنّه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة» «1» .
ومنها حديث رواه أبو داود والحاكم والإمام أحمد عن أبي هريرة جاء فيه:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بيني وبين عيسى عليه السلام نبيّ. وإنّه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه. رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصّرتين وكأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام ويهلك المسيح الدجال ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنمار مع البقر والذئاب مع الغنم وتلعب الصبيان بالحيّات، فيمكث عيسى في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون» «2» .
ومنها حديث رواه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» ثم قال أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) «3» [سورة النساء: 159] .
ومنها حديث رواه الشيخان والنسائي جاء فيه: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجّال» «4» . ومنها حديث طويل رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس أخبر فيه
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 313- 327 وفي هذه الصحف أحاديث أخرى اكتفينا منها بما أوردناه. وجملة (إن الله ليس بأعور) تتضمن كون الدجال سيدعي الألوهية.
(2) التاج ج 5 ص 325- 326.
(3) المصدر نفسه.
(4) التاج ج 1 ص 340.(4/383)
النبي صلى الله عليه وسلم الناس بحديث حدثه به تميم الداري عن مسيح الدجال فقال له إنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام. فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر حين مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقالوا: ويلك ما أنت فقالت: أنا الجسّاسة قالوا: وما الجسّاسة قالت: أيّها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق فخافوا أن تكون شيطانة وانطلقوا سريعا حتى دخلوا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأوه خلقا وأشدّه وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد فسألهم عن نخل بيسان هل يثمر وعن ماء بحيرة طبريا هل لا يزال فيها ماء وعن عين زغر هل فيها ماء وهل يزرع أهلها فأجابوه نعم. فسألهم عن نبيّ الأميين ما فعل قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب قال: أقاتله العرب قالوا: نعم قال: كيف صنع بهم فأخبروه أنه ظهر عليهم وأطاعوه فقال لهم: إني مخبركم إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلّا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرّمتان عليّ، كلما أردت أن أدخل واحدة استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدّني عنها وأنّ على كل نقب منها ملائكة يحرسونها قالت الراوية قال رسول الله: وطعن بمخصرة في المنبر هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة يعني المدينة ألا هل كنت حدثتكم ذلك فقال الناس: نعم قال:
فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة» «1» .
وفي رواية الترمذي من هذا الحديث عن تميم الداري: «أنّ أناسا من أهل فلسطين ركبوا سفينة في البحر فجالت بهم حتى قذفتهم في جزيرة من جزائر البحر فإذا هم بدابة لبّاسة ناشرة لشعرها فقالوا: ما أنت؟ قالت: أنا الجسّاسة قالوا:
فأخبرينا قالت: لا أخبركم ولا أستخبركم ولكن ائتوا أقصى القرية فإنّ ثمّ من يخبركم ويستخبركم. فأتينا أقصى القرية فإذا رجل موثق بسلسلة فقال: أخبروني عن عين زغر قلنا ملأى تدفّق. قال: أخبروني عن البحيرة؟ قلنا: ملأى تدفّق.
__________
(1) التاج ج 5 ص 313- 315.(4/384)
قال: أخبروني عن نخل بيسان الذي بين الأردن وفلسطين هل أطعم؟ قلنا: نعم.
قال: أخبروني عن النبيّ هل بعث؟ قلنا: نعم. قال: أخبروني كيف الناس إليه؟
قلنا: سراع. قال: فنزا نزوة حتى كاد قلنا فما أنت؟ قال: إنه الدجّال وإنه يدخل الأمصار كلّها إلا طيبة وطيبة المدينة» «1» . وحديث رواه الشيخان عن المغيرة قال:
«ما سأل أحد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته وإنه قال لي: ما يضرّك منه؟ قلت:
لأنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء، قال: هو أهون على الله من ذلك» «2» .
وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأنا أعلم بما مع الدجّال منه معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجّج، كلما أدركن أحدا فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم ليطأطىء رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد، وإن الدجّال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر، يقرأه كلّ مؤمن كاتب وغير كاتب» «3» . وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن النواس بن سمعان قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفّض فيه ورفع حتى ظننّاه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفّضت فيه ورفّعت حتى ظننّاه في طائفة النخل. فقال: غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كلّ مسلم، إنه شاب قطط، عينه طافئة كأنّي أشبّهه بعبد العزّى بن قطن. فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج خلّة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا. قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال:
أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره.
قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح. فيأتي
__________
(1) التاج ج 5 ص 316.
(2) المصدر نفسه ص 318.
(3) المصدر نفسه.(4/385)
على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمدّه خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمرّ بالخربة فيقول أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلّل وجهه يضحك. فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق بين مهرودتين (حلتين) واضعا كفّه على أجنحة ملكين. إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نفسه إلّا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه. فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ فيقتله. ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدّثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إنّي قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبيّ الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. ثم يهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثمّ يرسل الله مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة. ثمّ يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردّي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلّون بعجفها ويبارك في الرّسل حتى أن اللّقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللّقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كلّ مؤمن وكلّ مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة» «1» .
__________
(1) التاج ج 5 ص 321- 324.(4/386)
وهناك أحاديث أخرى يرويها البغوي وهو من أئمة الحديث في سياق تفسير هذه الآية، منها حديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي المسيح الدجّال من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دير أحد ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك» ، وحديث عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبع الدجّال من أمتي سبعون ألفا عليهم التيجان» وعن أبي أمامة: «مع الدجّال يومئذ سبعون ألف يهودي كلّهم ذو تاج وسيف محلى» .
وحديث عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجّال فقال إن بين يديه ثلاث سنين تمسك السماء فيها في أول سنة ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها والثالثة تمسك السماء قطرها كلّه والأرض نباتها كلّه فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلّا هلك وإنّ من أشدّ فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم أني ربّك؟ فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعا وأعظم سناما، ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول: أرأيت إن أحييت لك أباك وأخاك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه. قالت: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ ممّا حدثهم قالت: فأخذ بلحمتي الباب فقال: مهيم أسماء فقلت يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجّال، قال: إن يخرج وأنا حيّ فأنا حجيجه وإلّا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن. قالت أسماء: فقلت يا رسول الله والله إنا لنعجن عجينا فما نخبره حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال:
يجزئهم ما يجزىء أهل السماء من التسبيح والتقديس» .
فتعليقا على ذلك نقول: إن من واجب المسلم أن يؤمن بما يرد في القرآن وبما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار غيبية متصلة بالدنيا والآخرة وأنها في نطاق قدرة الله تعالى ويفوض الأمر فيما لم يدرك عقله مداها إلى الله تعالى الذي لا بد من أن يكون له فيها حكمة وإن لم تظهر للناس أو تدركها عقولهم. ومن جملة(4/387)
ذلك أن يؤمن بما جاء في الأحاديث التي أوردناها إذا صحت ويؤمن بأنها قد استهدفت عظة أو عبرة أو تنبيها أو إنذارا مما يتصل بالرسالة النبوية، وهذه نقطة مهمة جدا في الموضوع. والموضوع بعد ليس من الأمور التي تدخل في صميم الدين ومبادئ الإسلام المحكمة، فلا طائل من التوقف عنده والتزيد والتخمين فيه.
ومع ذلك فهناك ما يسوّغ القول إن ما جاء في الأحاديث من خبر ظهور الدجّال ونزول عيسى عليه السلام وقتله إياه كان مما يتداوله أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته وبخاصة النصارى بسبب ما كان من عداء وتناحر وتناظر بينهم وبين اليهود.
وليست أخبارا غيبية بحتة، فكان ذلك مناسبة للأحاديث التي هدفت إلى العظة والتحذير والإنذار والتنبيه والعبرة فيما هدفت إليه.
ولقد كان من جملة الأحاديث حديث رواه مسلم وأبو داود والحاكم عن الدجال حدث به تميم الداري النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في الحديث أن تميما هذا كان نصرانيا يقيم في فلسطين حيث قد يكون في هذا تأييد لذلك الاحتمال. وفي الإصحاح الثاني من رسالة القديس يوحنا الأول من أسفار العهد القديم هذه العبارة: «أيها الأولاد هذه هي الساعة الأخيرة وكما أنكم سمعتم أن المسيح الدجّال يأتي، يوجد الآن مسحاء دجالون كثيرون، فمن هذا نعلم أن هذه هي الساعة الأخيرة. منّا خرجوا ولكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لاستمروا معنا ولكن ليتبين أن ليسوا جميعا منا أما أنتم فإن لكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء. فلم أكتب إليكم لأنكم لا تعرفون الحق بل لأنكم عارفون به وبأن كل كذب ليس من الحق من الكذاب إلّا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو المسيح الدجال الذي ينكر الأب والابن. لأن كل من ينكر الابن ليس له الأب ومن يعترف بالابن له الأب أيضا» . وفي الإصحاح العشرين من سفر رؤيا هذا القديس وهذا السفر هو كذلك من ملحقات العهد الجديد هذه العبارة: «وإذا تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في زوايا الأرض الأربع يأجوج ومأجوج ليحشدهم للقتال في عدد كرمل البحر. فطلعوا على سعة الأرض(4/388)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة. فهبطت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وطرح إبليس الذي أضلّهم في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب. هناك يعذبون نهارا وليلا إلى دهر الدهور» . وهذان السفران متداولان اليوم وقد كانا متداولين بين أيدي النصارى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وقبله. وهناك عبارات وردت في رسائل بولس أحد رسل وحواريي عيسى وهي مجموعة رسائل من ملحقات الأناجيل أيضا قد تفيد أن المسيح سيظهر ويجيء. من ذلك في الإصحاح الثالث من سفر رسالة بولس إلى أهل كولسي «ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا فأنتم أيضا تظهرون حينئذ معه في المسجد» وفي الإصحاح الثاني من رسالته إلى أهل تسالونيكي: «ماذا رجاؤنا أو فرحنا أو إكليل فخرنا. أليس إياكم أمام ربنا يسوع المسيح عند مجيئه» . وفي الإصحاح الرابع من هذه الرسالة: «إنا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين لأن الرب نفسه عند الهتاف عند صوت رئيس الملائكة وبوق الله سينزل من السماء» حيث ينطوي في هذه النصوص تأييد لتلك الاحتمالات أيضا والله تعالى أعلم «1» .
[سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 59]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
. في الآيات:
(1) تنبيه إلى أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس مما ينطوي فيه قصد تقرير كون الله الذي خلق السموات والأرض على عظم ما فيها من دليل على قدرة الله قادرا من باب أولى على خلق الناس وإعادتهم.
__________
(1) سنعلق على موضوع ظهور يأجوج ومأجوج في سورة الكهف لأنهم ذكروا فيها بصراحة.(4/389)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
(2) وتنديد بأكثر الناس الذين يغفلون عن هذه الحقيقة البديهية فيجادلون في مسألة البعث.
(3) وتنبيه إلى عدم جواز التسوية بين الأعمى والبصير وبين المؤمنين الصالحين والكافرين المسيئين، وتنديد بالذين لا يدركون هذه الحقيقة البديهية الثانية التي تنطوي فيها حكمة الله في البعث والجزاء الأخروي ليوفى كل امرئ بما قدم.
(4) وتوكيد حاسم بمجيء الساعة وحقيقة البعث وتنديد بالذين يصرون على جحودهما مع ثبوت قدرة الله عليهما وحكمته فيهما.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية الأولى من هذه الآيات مدنية، ويلحظ أنها في صدد التدليل على قدرة الله على البعث وخلق الناس ثانية على ما شرحناه مما احتوت توكيده الآية الثالثة ومما ظلت الآيات السابقة تشير إليه وتؤكده. وليس فيها صورة ما للعهد المدني، وهي أشد مماثلة للأسلوب والآيات المكية. وهذا ما يجعلنا نتوقف في رواية مدنيتها ونرجح مكيتها ثم نرجح صلة الآيات بالسياق السابق وموضوعه.
[سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 63]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
. (1) داخرين: صاغرين.
(2) تؤفكون: تنصرون وتذهبون ومعنى فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ إلى أين تذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة.(4/390)
في الآيات:
1- بيان بأن الله فرض على الناس أن يتجهوا إليه وحده في الدعاء والعبادة ووعدهم بالاستجابة لدعائهم وشمولهم بعطفه وعنايته، وأوعد الذين يستكبرون عن عبادته ودعائه وحده بجهنم يدخلونها صاغرين.
2- وتنبيه إلى بعض مظاهر عظمة الله وأفضاله على الناس. فهو الذي جعل الليل مظلما ليسكن الناس فيه ويرتاحوا، وجعل النهار مضيئا ليسعوا فيه في سبيل الرزق ومظاهر الحياة. فهو صاحب الفضل على الناس المستحق من أجله شكرهم وإخلاصهم له.
3- وتنديد بأكثر الناس الذين يهملون هذا الواجب ولا يؤدون حق الله عليهم من الشكر والإخلاص.
4- وتقريع للجاحدين لفضل الله الحائدين عن سبيله، فالله رب الناس جميعهم وخالق كل شيء لا إله إلا هو فكيف ينصرف الناس عن سبيله ويذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة ويجحدون فضله وعظمته.
5- وقد احتوت الآية الأخيرة استدراكا هاما فالذين يذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة وينصرفون عن سبيل الله إنما هم الذين يكابرون في آيات الله ومشاهد عظمته ويجحدونها.
والآيات استمرار في موضوع الآيات التعقيبية التي جاءت بعد الفصل القصصي كما هو المتبادر، وقد احتوت التفاتا أو انتقالا من الغائب للمخاطب ودعوة وتنويها وإنذارا وتنديدا، وقد يدل هذا على أن السياق كله في صدد مشهد من مشاهد الجدل والحجاج أو في صدد التعقيب عليه.
وقد انطوى في الآية الأخيرة شيء من الوعيد للجاحدين الغافلين وتقرير كون الجحود إنما يحدث ممن خبثت نياتهم ورغبوا عن الحق والحقيقة، ولذلك يتحملون مسؤولية عملهم.(4/391)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
[سورة غافر (40) : الآيات 64 الى 65]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
. (1) قرارا: مستقرّا.
والآيتان استمرار للسياق في التعقيب على مشهد الجدل والحجاج أو في صدده وقد احتوت كالآيات السابقة لها تنبيها إلى مشاهد فضل الله وعظمته ورحمته في جعل الأرض للناس مستقرا والسماء فوقهم بناء وتصويرهم على أحسن الصور وتيسير الطيبات من الرزق لهم، واحتوت كذلك إهابة بالناس بدعائه وحده والإخلاص له وحده والشكر له وحده فهو ربهم الذي لا إله إلا هو ربّ العالمين تبارك وتعالى.
[سورة غافر (40) : آية 66]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)
. عبارة الآية واضحة، وهي صريحة الدلالة أكثر مما قبلها على أن السياق في صدد مشهد جدلي أو صدد التعقيب عليه، وقد تكرر ما جاء في الآية من نهي وأمر في هذه السورة مباشرة وعلى لسان مؤمن آل فرعون وفي السورة السابقة حيث يدل ذلك على أن المشركين ظلوا يواصلون اقتراحاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في التساهل معهم والمشاركة فيما هم عليه من طقوس وتقاليد.
[سورة غافر (40) : الآيات 67 الى 68]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)(4/392)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
في الآيات تقرير موجه للمخاطبين بأن الله ربّ العالمين الذي نوهت به الآيات السابقة بمشاهد قدرته هو الذي خلقهم أيضا من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم أخرجهم إلى الدنيا أطفالا ثم يبلغون أشدهم رجالا ومنهم من يتوفى ومنهم من يفسح في عمرهم فيصيرون شيوخا ويعيشون الأجل المعين في علم الله وتتاح لهم الفرصة لتدبر آيات الله وتعقلها وهو الذي بيده كذلك الحياة والموت وهو الذي يوجد كل ما يريده بمجرد اقتران إرادته بوجوده.
والآيات استمرار للسياق في صدد البرهنة على عظمة الله وقدرته واستحقاقه وحده للعبادة والإخلاص والشكر.
ويلفت النظر إلى ما في أسلوب هذه الآيات والتي قبلها من قوة وروعة، وقد وجه الخطاب فيها إلى العقول والقلوب معا مما من شأنه أن يؤثر في ذوي النيات الطيبة والعقول السليمة والرغبات الصادقة فيجعلهم يدركون ما في عبادة غير الله من سخف وضلال واستحقاق الله وحده للعبادة والدعاء والاعتماد. والأسلوب متساوق مع مشاهدات المخاطبين في الكون وفي أنفسهم ثم مع مدركاتهم وليس هو بسبيل تقريرات فنية على ما نبهنا إليه في سياق الفصول المماثلة الكثيرة ومنها ما ورد في هذه السورة.
وجملة وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ في الآية [67] قد تلهم أن اختصاص بني آدم بالذكر بأطوار خلقهم التي يشترك فيها معهم غيرهم من الحيوانات إنما هو بقصد التنويه بما اقتضت حكمة الله من تمييزهم عن غيرهم بالعقل والتكليف ومن ترتيب نتائج ذلك عليهم مما لم يرتب على غيرهم من الحيوانات، والله أعلم.
[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)(4/393)
(1) يسجرون: من سجر بمعنى وضع وقودا في التنور، ومعنى الجملة الواردة فيها أنهم يلقون في النار ليكونوا فيها وقودا.
(2) ضلوا عنا: هنا بمعنى غابوا عنا.
(3) كذلك يضل الله الكافرين: بمعنى لا يسعدهم ولا يوفقهم.
(4) تمرحون: بمعنى تبطرون ويشتد فرحكم أو زهوكم ولهوكم.
وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأسلوب قصد به استثارة تعجبه من انصراف الكفار عن آيات الله ومكابرتهم فيها وتكذيبهم لكتاب الله ورسله وما أرسلهم به من رسالة الحق والهدى. ثم أخذت الآيات تصف ما سوف يلقونه يوم القيامة من نكال وعذاب وخزي وخذلان. وتذكر ما سوف يوجه إليهم من التنديد والتقريع وما سوف يكون منهم من الندم والحسرة والاعتراف بما كانوا فيه من ضلال.
والآيات كما هو المتبادر تعقيب على تلك السلسلة القوية الرائعة المملوءة بالشواهد العقلية والقلبية على عظمة الله وآياته وربوبيته وقدرته التي جاءت في صدد المشهد الجدلي الحجاجي. والإنذار والوصف اللذان احتوتهما الآيات قويان رهيبان من شأنهما إثارة الرعب والندم والارعواء وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. ولعل فيها كذلك تطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتسلية لهم بما سوف يكون من مصير المكذبين المكابرين وحسرتهم وندمهم.(4/394)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
تعليق على جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)
وهذه الجملة جاءت بمثابة تعقيب أو تعليق على اعتراف المشركين كما هو واضح، وقد تضمنت تقرير كون الذين يضلهم الله ولا يوفقهم ولا يسعدهم هم الكافرون أي الذين بيتوا أو تعمدوا الكفر والجحود والمكابرة وهي من نوع:
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ في آية سورة إبراهيم [27] وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ في آية سورة البقرة [26] ويصح أن تكون محكمة يزول بها الإشكال في ما يرد من الآيات المطلقة.
ولما كان معظم الكافرين من العرب الذين كانت هذه الآية وأمثالها تشير إليهم وتندد بهم وتذكر مصائرهم السيئة في الآخرة قد أسلموا فيصح أن يقال إنها من جهة تسجيل لواقع أمرهم حين نزول القرآن من جهة وأن فحواها إنما يبقى قائما بالنسبة للذين يظلون على كفرهم وظلمهم حتى الممات.
[سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
. في الآيات:
1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يراه من المشركين من مكابرة وعناد.
2- وتطمين له بأن وعد الله فيهم حق محتم التحقيق سواء أعاش حتى يراه بعينه أم مات قبل ذلك.
3- وتقرير بأنهم على كل حال سوف يرجعون إليه وهو القادر عليهم في كل آن.(4/395)
4- وتنبيه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنة الله في الرسل من قبله. فقد أرسل الله من قبله رسلا كثيرين منهم من قص عليه أخبارهم ومنهم من لم يقصها. وأن سنة الله جرت على أن لا يأتي أحد من رسله بآية مما يتحداه به الكفار أو فيها عذاب الله إلا بإذنه وحيثما تقتضيه حكمته وأن الذي عليه هو انتظار أمر الله وقضائه فإذا ما جاء كان النصر للحق وأصحابه والخسران للباطل وأهله.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات، ومع أن المتبادر منها أنها استمرار للآيات السابقة في التعقيب والتطمين والتسلية فإن مضمونها قد يلهم احتمال تضمنها ردا على تحدّ للكفار بدر منهم في ظروف نزول السورة باستعجال العذاب الموعود أو الإتيان بآية وهو ما تكرر منهم على ما حكته آيات أخرى في سور مرّ تفسيرها أو أن يكون فيها جواب على ما كان يقوم في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين من تساؤل عن موعد تحقيق وعيد الله فيهم أو رجاء بإحداث آية تقنعهم أو ترهبهم حتى ينتهوا من موقف عنادهم وجحودهم. وهذا أيضا مما حكته آيات أخرى في سور مرّ تفسيرها.
وقد علق المفسر ابن كثير على هامش الآية الأولى أن الله سبحانه وتعالى قد أرى نبيه مصارع كثير من كبار زعماء الكفار في بدر وغيرها كما أراه علو كلمة الله وانخذال الكفر والشرك في جزيرة العرب فحقق له بذلك بعض ما وعده الله به من نصر.
تعليق على روايات عدد الأنبياء
ولقد كانت الآية الثانية وسيلة لإيراد بعض الأحاديث والروايات في عدد الأنبياء حيث روى الطبرسي في «مجمع البيان» بدون سند ولا اسم راو أن عددهم مائة وأربعة وعشرون ألفا وروى كذلك رواية أخرى ذكرت أن عددهم ثمانية آلاف منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل. وقد روى الطبري الرواية معزوة إلى أنس بن مالك بدون رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما روى رواية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله بعث أربعة آلاف نبي. ورواية عن علي بن أبي طالب أن الله بعث نبيا عبدا حبشيا(4/396)
وهو الذي لم يقصصه عليه. ولقد أورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث بنصها أو مع التغاير، كما أورد أحاديث أخرى من بابها في سياق تفسير الآية [163] من سورة النساء. ومن ذلك حديث طويل عن أبي ذرّ جاء فيه فيما جاء: «قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة وأربعة وعشرون ألفا. قلت: كم الرسل منهم؟ قال:
ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير. قلت: يا رسول الله آدم نبي مرسل؟ قال: نعم. ثم قال: يا أبا ذر أربعة سريانيون وهم آدم وشيت ونوح وخنوخ وهو إدريس وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك. وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد. قلت يا رسول الله كم كتاب أنزله الله؟
قال: مائة كتاب وأربعة كتب. أنزل على شيت خمسين صحيفة وعلى خنوخ ثلاثين وعلى إبراهيم عشرا، وعلى موسى قبل التوراة عشرا وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» . ومن ذلك عن أنس حديث جاء فيه: «إنّ الله بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف بني إسرائيل وأربعة آلاف إلى سائر الناس» . وحديث روي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني خاتم ألف نبي أو أكثر» وفي رواية: «إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر» وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في كتب الصحاح.
وقد أورد ابن كثير أقوال بعض أئمة الحديث في صددها. من ذلك أن الإمام أبا الفرج بن الجوزي ذكر حديث أبي ذر في «الموضوعات» واتهم به إبراهيم بن هشام أحد رواته وقال المفسر: إن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل تكلموا في إبراهيم من أجل هذا الحديث. ومن ذلك قول المفسر عن الحديث المروي عن أنس أنّ إسناده ضعيف وفيه رواة ضعفاء. ومن ذلك قوله عن الرواية الثانية من حديث أبي سعيد أنها قد تكون مقحمة. وفي متن حديث أبي ذرّ مآخذ أخرى فليس أول أنبياء بني إسرائيل موسى، فإنّ الأسباط هم أيضا بنو إسرائيل الذي هو اسم آخر ليعقوب. وهم أنبياء موحى إليهم ومنزل عليهم على ما يستفاد من آية سورة البقرة هذه: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ... وآيات سورة النساء هذه التي فيها نصّ مماثل للنصّ الذي نحن في صدده: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى(4/397)
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
[163- 164] .
وقد ذكر يوسف الذي هو أحد الأسباط باسمه الصريح كرسول في إحدى آيات سورة غافر نفسها، وذكر كذلك في سورة الأنعام في عداد الأنبياء. وآية سورة البقرة المذكورة آنفا تفيد أنه أنزلت كتب على الأسباط بالإضافة إلى إسماعيل وإسحق ويعقوب. ولم يذكر هؤلاء في عداد من أنزل عليهم كتب الله في الحديث. واللغة السريانية لهجة من اللغة الآرامية لم تتميز باسمها إلّا قبيل الميلاد المسيحي أو بعده بقليل. في حين يذكر الحديث أنها لغة آدم ونوح وشيت وخنوخ. وكل هذا يوجب التحفظ والتوقف في هذا الأمر الذي هو من الأمور الغيبة التي لا يصح الأخذ فيها إلّا بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.
ومهما يكن من أمر فالآيات صريحة أن الله تعالى أرسل رسلا لم تشأ حكمة التنزيل أن يقصهم على رسوله. وفي القرآن ورد أربعة وعشرون ذكروا في سور متعددة بأن الله أوحى إليهم وأنزل عليهم وهم: آدم ونوح وإدريس وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهرون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا وعيسى ويحيى وذو الكفل وهناك اسم مختلف فيه وهو لقمان. وهناك الأسباط الذين لم يذكر منهم باسمه إلّا يوسف، وقد ذكرنا أسماءهم في سياق تفسير سورة الأعراف نقلا عن الإصحاح (46) من سفر التكوين.
وفي القرآن آيات تفيد أن هناك أنبياء ورسلا آخرين من بني إسرائيل مثل آية سورة البقرة هذه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وآية سورة آل عمران هذه: الَّذِينَ(4/398)
قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) .
وفي أسفار العهد القديم المتداولة اليوم أسماء عديدة لأنبياء كانوا يظهرون في بني إسرائيل ويأمرهم الله بتبليغ أوامره وإنذاراته مثل دبوره وابينوعيم وناتان وياهو وأحيا «1» وغيرهم وغيرهم. وبين أسفار هذا العهد أسفار عديدة منسوبة إلى رجال يبدو من صيغتها وعناوينها أنهم من أنبياء الله أيضا مثل يشوع وعزرا ونحميا وطوبيا وأشعيا وأرميا وباروك وحزقيال ودانيال وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا وميخا ونحوم وحبقوق وصفنيا وحجاي وملاخي. ويصح أن يسلك في هذا السلك تلامذة أو حواريو عيسى عليه السلام الذين ذكرت بعض آيات القرآن خبرهم مثل هذه الآية من سورة المائدة: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) وهذه الآية من سورة الصف: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والذين ذكرت الأناجيل المتداولة أن عيسى عليه السلام أمرهم بالتبشير بين الناس فقاموا بذلك في حياته وبعد وفاته. وهم سمعان المدعو بطرس ثم اندراوس أخوه ويعقوب بن زبدى ويوحنا أخوه وفيلبس وبرتلماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفى وتداوس وسمعان القانوني ويهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه.
وقد يستثنى الأخير لخيانته «2» والله أعلم.
ومنطقة الرسل والأنبياء المذكورين في القرآن بما فيهم الأسباط ولقمان المختلف فيه والأنبياء الآخرون من بني إسرائيل والحواريون هي جزيرة العرب وما
__________
(1) انظر الإصحاح 4 من سفر القضاة و 12 من سفر الملوك الثاني في الطبعة الكاثوليكية الأول في الطبعة البروتستانتية و 15 من سفر الملوك الثالث و 16 من هذا السفر أيضا.
(2) انظر الإصحاح 10 من إنجيل متى و 3 من إنجيل مرقس و 6 من إنجيل لوقا. [.....](4/399)
جاورها باستثناء بعض حواريي عيسى الذين وصلوا إلى سواحل أوروبا الجنوبية الشرقية وبشروا فيها. ولقد ذكر القرآن أن الله تعالى شاءت حكمته أن يبعث في كل أمة رسولا كما جاء في آية سورة النحل هذه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) وفي سورة فاطر التي مرّ تفسيرها آية من هذا الباب وهي إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) بحيث يمكن القول إن من الرسل الذين لم تشأ حكمة الله ذكرهم في القرآن رسلا أرسلوا إلى مختلف أنحاء الدنيا ومختلف أجناس البشر في مختلف الأدوار السابقة للبعثة النبوية. وليس ما يمنع أن يكون الرجال العظام الذين تنسب إليهم الشرائع والأديان والكتب المتنوعة التي فيها أحكام وتعاليم ووصايا اجتماعية وأخلاقية في بلاد الهند والصين وجاوا والفرس واليابان وغيرها منهم أيضا. وليس لمسلم أن ينفي ذلك جزافا، وقد يكون فيما ينسب إلى بعضهم من وصايا مخالفة لمبادىء القرآن كذبا أو محرفا، والشأن في ذلك مثل الشأن في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى.
وفي سورة الحديد آية مهمة في هذا الباب وهي: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) فذكر ذرية نوح من ذرية إبراهيم يفيد أنه قصد من ذلك تقرير ظهور أنبياء آخرين من غير ذرية إبراهيم التي منها معظم أنبياء بني إسرائيل وبخاصة موسى وعيسى عليهما السلام اللذين تنسب إليهما اليهودية والنصرانية. وأنزلت عليهم كتب الله مثل ما أنزل على الأنبياء من ذرية إبراهيم. وقد ذكر القرآن أن الله تعالى نجّى نوحا من الطوفان مع أهله وجعل ذريته هم الباقون كما جاء مثلا في آية سورة الصافات [77] وفي سفر التكوين «1» أول أسفار العهد القديم ذكر أن الذين نجوا
__________
(1) انظر الإصحاحات 7- 10.(4/400)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
مع نوح من الطوفان هم زوجته وأبناؤه سام وحام ويافث ونسوتهم وأن هؤلاء الأبناء الثلاثة صاروا أجدادا لأمم كثيرة نمت وانتشرت في آسيا وإفريقية، ومقتضى ذلك أن يكون ظهر منهم أنبياء وأنزلت عليهم كتب، والله تعالى أعلم.
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
. في الآيات عودة إلى خطاب المشركين ولفت نظرهم إلى بعض أفضال الله عليهم منطوية على التنديد بجحودهم ومكابرتهم.
فالله سبحانه هو الذي خلق لهم الأنعام وسخرها ليركبوا بعضها ويأكلوا بعضها وفي الجملة لينتفعوا بها في شتى وجوه النفع وقضاء الحاجات. وهو الذي سخر لهم كذلك الفلك في البحر لتحملهم أيضا بالإضافة إلى الأنعام ويقضوا بذلك حاجاتهم ومنافعهم. وفي كل ذلك آيات ربانية أقوى من أن تنكر وأسطع من أن تجحد.
وصلة الآيات بالسياق ظاهرة كما هو المتبادر.
وفي أسلوب الآيات ومضمونها دلالة على ما قلناه من أن القرآن يخاطب الناس في صدد آيات الله ومشاهد كونه ونواميس خلقه بما يتسق مع واقع مدركاتهم ومشاهداتهم وممارساتهم استهدافا لإثارة ضمائرهم وتنبيههم إلى ما يتحقق لهم من أفضال الله ومنافع ما أوجده في كونه.
ولقد تكرر في القرآن تذكر السامعين بنعمة الأنعام وتذليلها وما فيها من منافع كثيرة لهم مما مرّ منه أمثلة حيث يدل هذا على ما كان لها عند السامعين من خير فاقتضت حكمة التنزيل مواصلة تذكيرهم بذلك.
[سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)(4/401)
(1) بأسنا: عذابنا وشدتنا وبلاءنا عليهم.
احتوت الآيات تساؤلا استنكاريا عما إذا كان كفار العرب لم يسيروا في الأرض ويشاهدوا آثار عذاب الله في أمثالهم من الأمم السابقة. ثم أخذت تذكر حالة هذه الأمم: فقد كانوا أكثر منهم عددا وأشد قوة وأوسع آثارا وتمكنا في الأرض فلم يغن ذلك عنهم شيئا. ولقد اغتروا بما كانوا عليه من كثرة وغنى ومعارف فلما جاءتهم رسل الله بآياته وبيناته كذبوهم فحاق بهم شرّ موقفهم وحلّ عليهم غضب الله. ولقد اضطربوا حينما رأوا بلاء الله يحلّ فيهم فأظهروا الندم وأعلنوا إيمانهم بالله وحده ونبذوا ما كانوا يشركونهم معه من الشركاء، ولكن هذا لم يكن لينفعهم لأنه جاء بعد فوات الفرصة، وقد حلّ فيهم الخزي والخسران.
وهذه سنة الله التي قد جرى عليها في عباده.
وواضح أن الآيات متصلة بالسياق وما جاء بسبيله من تعقيب على موقف المشركين الجدلي والحجاجي. وقد استهدفت تذكير المشركين وحملهم على الارعواء والاعتبار بما كان من أمر أمثالهم الذين كانوا أقوى وأغنى منهم.
وأسلوبها قوي نافذ، وقد جاءت في ذات الوقت خاتمة للسورة وربطت بين أولها وآخرها حيث احتوت أوائل السورة آية مماثلة للآية الأولى منها.
وفي الآية الأخيرة تلقين مستمر المدى، فالتراجع عن مواقف البغي والانحراف والجريمة، والإنابة إلى الله إنما يمكن أن ينفع قبل فوات الوقت إلى(4/402)
قبل وقوع العذاب أو الموت. وقد تكرر تقرير هذا في سور مكية ومدنية عديدة وبعضها في سور سبق تفسيرها. وقد نبهنا على ذلك في تعليقنا على التوبة في سورة البروج. وفي تكرار ذلك حكمة سامية وهي مواصلة الإهابة بالضالين والمنحرفين إلى الارعواء، والرجوع إلى الله والاستقامة واتباع طريق الحق والهدى في فسحة من العمر والعافية.(4/403)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
سورة فصّلت
في السورة تنويه بالقرآن وإحكامه ولغته وحكاية لما كان من مواقف الكفار الحجاجية وشدة إنكارهم وإعراضهم وتحدّيهم للقرآن وردود عليهم وإنذارهم وتذكير لهم بما كان من أمثالهم. وفيها صور لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة من خزي وحسرة. وفيها لفت نظر إلى مشاهد قدرة الله وعظمته في الكون واستحقاقه للعبادة والخضوع وحده، وتنويه بالمؤمنين ومصائرهم وبشرى لهم وحثّ على مكارم الأخلاق والتزامها وتطمين بنصر الله وتأييده وإرغام الجاحدين في الدنيا قبل الآخرة.
وفصول السورة مترابطة تلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، وتسمى السورة باسم السجدة أيضا اقتباسا مما ورد فيها كما هو شأن الاسم الأول الموضوع عنوانا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
.(4/404)
بدأت السورة بحرفي الحاء والميم كسابقتها وما قلناه في حرفي سابقتها نقوله هنا. وقد أعقبهما تنويه بكتاب الله تعالى وتقرير بكونه منزلا من الرحمن الرحيم مفصل الآيات واضح البيان والغايات بلسان عربي لقوم يستطيعون أن يفهموه ويدركوا ما احتواه ليكون لهم بشيرا ونذيرا. ثم أعقب ذلك تنديد بالكفار الذين أعرضوا عنه ولم يستمعوا له وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إن قلوبنا محجوبة فلا يتسرب إليها شيء مما تدعونا إليه، وإن في آذانهم صمما يجعلهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم وإن بيننا وبينك سدا لا ينفذ إلينا منه شيء من أقوالك ونذرك، وإنهم ثابتون مصرون على ما هم عليه فليفعل ما يشاء. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم فيها بقوله لهم إنه بشر مثلهم يوحى إليه أن إله الناس جميعا واحد، وإن كل ما عليه أن يدعوهم إليه وإلى السير في طريقه المستقيم والاستغفار عما بدا منهم من ذنوب وأخطاء، وأن ينذر المشركين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يؤتون زكاة أموالهم بالويل وأن يبشر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات بأجر الله الدائم.
والآيات كما هو المتبادر بسبيل حكاية موقف جدلي حجاجي بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، وبدء السورة بمثابة مقدمة لحكاية هذا الموقف مما جرى عليه النظم القرآني.
ووصف سامعي القرآن بوصف لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) ينطوي على صورة لما كان عليه المخاطبون العرب أو زعماؤهم ونبهاؤهم على الأقل من الفهم والإدراك.
وينطوي على الأقل على تقرير كونهم يفهمون اللغة القرآنية ومعاني الآيات القرآنية.
ولذلك جاءت الآيات التالية للآية الثانية التي احتوت هذه الجملة تعلل موقفهم بكونه موقف المكابر العنيد المتصامم عن قصد وتصميم.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة وتوضيحا لمدى جملة لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) حديثا عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثمّ مرض قيل للملك الموكل به اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إليّ» . حيث ينطوي في الحديث(4/405)
توضيح لمدى الجملة وتبشير وتطمين مستمران للمؤمنين المخلصين متساوقان مع ما انطوى فيها.
ووصف المشركين بوصفي الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) جدير بالتنويه حيث يمكن أن يكون بقصد وصفهم بأظهر سببين جعلاهم يقفون موقف الجحود من الرسالة النبوية. ولقد شغل هذان السببان حيزا كبيرا في القرآن وبخاصة المكي منه مما مرت منه أمثلة كثيرة حيث يؤيد هذا ما قلناه من أنهما أظهر سببين فاقتضت حكمة التنزيل وصف المشركين بهما هنا.
ولقد روى بعض المفسرين «1» في سياق تفسير هذه الآيات رواية ينطوي فيها صورة لما كان من تأثير القرآن على بعض زعماء قريش حينما كانت تتيح لهم الفرص سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم على انفراد حيث روي أن زعماء قريش كلفوا أحدهم عتبة بن ربيعة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم فينصحه بالكفّ عما هو فيه ويعرض عليه باسمهم ما يرضاه من مطالب الدنيا فجاء إليه وقال له فيما قال: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل منها بعضها. فقال له: قل أسمع. فقال: إن كنت تريد مالا جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك حتى لا نقطع دونك أمرا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا- جنيا- طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك. فلما انتهى قال له: استمع مني ثم أخذ يقرأ هذه السورة حتى بلغ موضع السجدة منها فسجد، فسجد معه عتبة ثم انصرف إلى قومه متغير الوجه فسألوه فقال لهم: إني سمعت كلاما حلوا نافذا ما هو بقول شاعر ولا سجع كاهن ولا نفث ساحر ثم اقترح عليهم أن يخلوا بينه وبين العرب فإن تصبه العرب فقد كفوه بغيرهم وإن يظهر عليهم فملكه ملكهم وعزه عزهم وكانوا أسعد الناس به. فقالوا له: سحرك والله
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي.(4/406)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
بلسانه ثم ظلوا مصرّين على عنادهم وجحودهم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
. (1) قدر فيها أقواتها: جعل فيها كل ما هي في حاجة إليه وكل ما يكون أهلها في حاجة إليه من وسائل الحياة.
(2) سواء للسائلين: قرئت سواء بالنصب وبالجر على ما قاله المفسرون الذين قالوا إنها على الجر صفة لأربعة أيام لتفيد أن الأيام الأربعة هي مدة خلق جميع ما في الأرض وعلى النصب تكون تمييزا بمعنى أربعة أيام كاملة مستوية.
وقالوا في تأويل لِلسَّائِلِينَ إما أنها بمعنى: هذا هو مقدار المدة لمن أراد أن يسأل عنها وإما أنها بمعنى إن الله قد أوجد في الأرض كل شيء ليستوفي كل سائل فيها ما هو في حاجة إليه.
(3) وأوحى في كل سماء أمرها: وضع ورتب أمر كل سماء من السموات.
في الآيات:
أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال استنكاري فيه معنى التقريع عما إذا كان يصح منهم أن يكفروا بالله ويجعلوا له شركاء معادلين في حين أنه هو وحده رب العالمين جميعا وأنه خلق الأرض في يومين، وأوجد فيها ما تحتاج إليه هي وأهلها في يومين آخرين، وأنه هو الذي خلق السموات السبع ورتب أمر كل سماء بما يقتضيه في يومين آخرين، وزين السماء الدنيا بمصابيح وشهب لحفظها. وكانت السماء دخانا فأمرها وأمر الأرض بالخضوع له طوعا أو كرها فلم يكن لهما إلا الإذعان(4/407)
والخضوع والطاعة. وكل هذا تقدير العزيز العليم القادر على كل شيء والعليم بكل شيء.
والآيات كما هو المتبادر استمرار في التقريع والإنذار والجدل الذي ابتدأ في الآيات السابقة لها.
وهي قوية الأسلوب والمضمون بسبيل ذلك، ولقد كان المشركون الذين توجه إليهم الآيات يعترفون بأن الله تعالى هو خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما على ما حكته آيات عديدة عنهم مرّ بعض أمثلة منها في السور السابقة.
ومنها هذه الآية في سورة الزخرف: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) فجاءت الحجة فيها مفحمة لهم.
تعليق على خلق السموات والأرض الوارد في السورة
ولقد علقنا بما رأينا فيه الكفاية على مواضيع خلق السموات والأرض في ستة أيام وعدد السموات السبع وتزيين سماء الدنيا بالمصابيح والكواكب والشهب الحافظة لها في سياق سور عديدة سابقة مثل (ص) و (ق) و (الأعراف) و (الجن) و (الحجر) فلا نرى حاجة إلى تعليق آخر إلا أن نقول إن أسلوب الآيات هنا أيضا مع واجب الإيمان بما جاء فيها من كيفيات الخلق والإبداع وواجب إيكال كنه ذلك وحكمته إلى الله عز وجل واضح الدلالة على أن البيان الذي احتوته إنما قصد به استرعاء الأذهان إلى بالغ قدرة الله وعظمته في مشاهد الكون وأرضه وسمائه ووسائله ونواميسه الماثلة لعيون الناس والمالئة أفكارهم حيرة وروعة ليكون من ذلك وسيلة إقناع وإفحام باستحقاق الله عز وجل وحده للعبادة وسخف اتخاذ شركاء له وضلال من كفر برسالة رسوله وكتابه الذي أنزله عليه. ولعل تكرار ورود هذه المواضيع في القرآن مرات عديدة بأساليب متنوعة مما يؤيد ذلك. والأولى والحالة هذه هو الوقوف من هذا الأمر عند هذا القصد الذي هو القصد القرآني فيما نعتقد وعدم التزيد فيما لا طائل من ورائه في هذا الباب من وجهة نظر التفسير(4/408)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
القرآني ومحاولة استنباط النظريات الفنية أو تطبيقها وإخراج القرآن من نطاق قدسيته وقصد هدايته وتعريضه للنقاش مع ملاحظة أن قدرة الله عز وجل لا تحد بأيام ووقت وكيفية وأنه إذا قضى أمرا فيكون كما قضاه بمجرد اقتران إرادته وقضائه وأن ما ورد من البيانات قد يكون بسبيل التقريب والتمثيل. والله أعلم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)
. (1) صاعقة: هنا هي على الأرجح صفة لعذاب الله الصاعق.
(2) صرصرا: شديد البرد أو شديد الهبوب والصوت.
(3) نحسات: مشؤومات.
(4) فهديناهم: بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم على طريق الهدى.
(5) الهون: الهوان والخزي.
في الآيات:
أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار إذا لم يرعووا ويعترفوا بحق الله وحده في العبادة ولم تقنعهم دلائل عظمة الله في كونه وفي أنفسهم بعذاب مثل العذاب الرباني الذي حلّ في قومي عاد وثمود. فقد جاءتهم رسل الله ودعوهم إلى عبادته وحده فأجابوا على سبيل التحدي والإنكار أن لو شاء الله لأرسل رسلا من الملائكة لا من البشر(4/409)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
وأعلنوا كفرهم بالرسل. وكان من أمر عاد أن اغتروا بما هم عليه من قوة واستكبروا في الأرض وتساءلوا متبجحين عمّن هو أشد منهم قوة دون أن يفكروا بأن الله الذي خلقهم هو بطبيعة الحال أشد منهم قوة. فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قاصمة في أيام متوالية كانت عليهم شؤما ونحسا إذ ذاقوا فيها الخزي والبلاء في الدنيا جزاء جحودهم، وسيكون عذابهم في الآخرة أشد وأقوى ولن يكون لهم عاصم ولا نصير من الله. وكان من أمر ثمود أن أعرضوا هم الآخرون عن طريق الهدى التي دلهم الله عليها وفضلوا الضلال على الهدى والعمى على النور والباطل على الحق فسلط الله عليهم عذابا صاعقا مهينا بما كسبوا، وقد نجى الله من عاد وثمود أولئك الذين آمنوا به واتقوه بصالح الأعمال.
والآيات كسابقاتها استمرار في التقريع والإنذار وبسبيل حكاية مواقف مكابرة المشركين الكفار، ويلحظ فيها تماثل بين ما كان يقوله عاد وثمود لرسلهم وبين ما قاله العرب للنبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وما تحدوه من تحد ومن جملة استنزال الملائكة وما أظهروه من كبر واعتداد بالمال والنفس والقوة وما كان من استحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة على ما حكته عنهم آيات عديدة في هذه السورة والسور السابقة.
وهذا التماثل يزيد في قوة الإنذار والتقريع والتنديد من جهة وينطوي فيه حكمة القصص القرآنية بالأسلوب الذي وردت به من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي بعض الآيات القرآنية ما يفيد أن المشركين كانوا يعرفون بلاد ثمود وعاد حيث كانوا يرحلون إليها أو يمرون بها في رحلاتهم التجارية الصيفية والشتوية وأنهم رأوا آثار تدمير الله فيها كما ترى في آية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) . فاستحكمت فيهم حجة الآيات وقوة إنذارها وتقريعها من هذه الناحية أيضا.
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 23]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)(4/410)
(1) يوزعون: يجمعون إلى بعضهم ويحبس أولهم إلى آخرهم حتى يوقفوا أمام الله جميعا.
(2) أرداكم: أوقعكم وأسقطكم.
وجاءت هذه الآيات معقبة على الآيات السابقة لبيان ما سوف يكون من أمر الكفار في الآخرة وقد أنذروا وذكروا ووعظوا بما حلّ فيمن قبلهم من أمثالهم فأعرضوا ولم يرعووا.
ففي يوم القيامة يحشر أعداء الله الكفار ويساقون إلى النار. وحينما يوقفون- قبل سوقهم إلى النار- أمام الله للحساب ينطق الله آذانهم وعيونهم وجلودهم فتشهد عليهم بما اقترفوه من آثام. ولسوف يعاتبون جوارحهم على شهادتها فترد عليهم بأن الله الذي أنطق كل شيء هو الذي أنطقها بالحق. وقد عقبت الآيات على جواب الجوارح بتوكيد قدرة الله على ذلك وقد خلق الناس أول مرة وإليه يرجعون.
ووجه الخطاب- بعد حكاية المشهد والتعقيب عليه- إلى الكفار وفيه تأنيب وتقريع وتقرير لحقيقة الأمر في جرأتهم على الكفر والإثم فهم لم يكونوا يبالون أن تشهد عليهم جوارحهم ولم يكونوا يرون ضرورة التستر في آثامهم لأنهم كانوا لا يخطر ببالهم في الحقيقة أن الله يراقبهم ويحصي عليهم أعمالهم وكانوا يظنون أن الله لا يعلم كثيرا مما كانوا يعملون، وهذا الظن الخاطئ هو الذي أسقطهم في شرّ أعمالهم وجعلهم خاسرين.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو واضح، وأسلوبها قوي نافذ من شأنه أن(4/411)
يثير الرعب والخوف والارعواء في النفوس وهو مما استهدفته كما هو المتبادر.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق الآية [22] عن عبد الله حديثا جاء فيه: «اجتمع عند البيت قرشيّان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشيّ كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه ليسمع إذا أخفينا فأنزل الله عزّ وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ الآية» «1» .
ومقتضى الرواية أن تكون الآية نزلت لحدتها مع أن التمعن في الآيات يظهر أنها وحدة تامة منسجمة وأن هذه الآية والتي بعدها تعقيب إفحامي لأعداء الله على ما حكي عنهم من معاتبتهم لجوارحهم وأن جميع الآيات متصلة بسابقاتها كما قلنا آنفا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن أنس بن مالك قال: «ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا تسألوني ممّ ضحكت؟ قالوا: ممّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني قال: فإنّ ذلك لك. قال: فإنّي لا أقبل عليّ شاهدا إلّا من نفسي، قال: أو ليس كفى بي شهيدا وبالملائكة الكرام الكاتبين فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول لهنّ بعدا لكنّ وسحقا عنكنّ كنت أجادل» . ولقد أوردنا هذا الحديث بصيغة مقاربة نقلا عن ابن كثير في سياق الآية [65] من سورة يس وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
تعليق على التباين في المشاهد الأخروية
ولقد يرد على الذهن سؤال أو حيرة بسبب التباين والتغاير في الصور الأخروية ومشاهدها ووسائلها. فليس هناك محل لذلك لأنه ليس هناك ما يمنع أن
__________
(1) التاج ج 4 ص 202 وروى هذه الرواية الطبري والبغوي بطرقهما أيضا.(4/412)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
يكون ذلك بقصد استكمال وصف صور الحياة الأخروية وبيان ما اقتضته حكمة الله من تنوعها. وهذا لا يقلل من اعتبار أن ذلك هادف في الوقت نفسه إلى إثارة الرعب والخوف والغبطة والطمأنينة فيمن يستمع للقرآن من الجاحدين والمؤمنين بأساليب تقريبية لما ألفوه من أسباب ووسائل، وأن تعدد وتنوع المواقف وأصحابها من مقتضيات ذلك. والله أعلم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 24 الى 25]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)
. (1) يستعتبوا: يطلبون العفو ويبدون الأعذار.
(2) فما هم من المعتبين: لا يقبل اعترافهم واعتذارهم.
(3) قيّضنا: بعثنا وهيأنا.
جاءت الآيتان نتيجة لسابقاتهما في صدد الإنذار واستمرارا فيه، فقررت أولاهما أن النار ستكون مثوى الكفار المشركين سواء تجلدوا وصبروا أم جزعوا وشكوا. ولن يكون لهم عنها مفرّ حتى لو ندموا واعترفوا بخطئهم واعتذروا عنه لأن الفرصة قد فاتتهم. واحتوت الثانية تعليلا لما صاروا إليه من المصير السيء.
فقد استمعوا إلى وسوسة الشياطين وقرناء السوء الذين امتحنهم الله بهم فزينوا لهم ما هم فيه وحسنوا لهم الإثم والكفر فحقّ عليهم هذا المصير كما حقّ على أمثالهم من قبلهم من الجن والإنس وكانوا خاسرين في النهاية.
تعليق على جملة وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ
وقد أولنا جملة وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ بما أولناها به لأن هذا هو(4/413)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
المتسق مع فحوى وروح الآيات التي وردت في معرض التنديد بالكفار وتقرير استحقاقهم للعذاب وخسرانهم نتيجة استماعهم لوسوسة أولئك القرناء. وقد أراد الله بامتحانهم إظهار المتقي من الآثم والطيب من الخبيث منهم ليحقّ على كل منهم ما يحقّ من عقاب وثواب حسب ذلك.
على أن في سورة الزخرف آيات بينها وبين هذه الآية تماثل مع زيادة تساعد على تأويل آخر يزول به كل وهم قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة من العبارة والعبارات المماثلة في آيات أخرى أيضا وهي: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) . حيث ينطوي فيها تقرير كون الشيطان ووسوسته إنما يؤثران بإذن الله على من يتعامى عن نور الهدى وينصرف عن ذكر الله ولا يرغب فيه وبمعنى آخر على من فسدت طويته وخبثت نيته وانحرف عن الحق متعمدا وهذا متسق مع المبدأ القرآني المحكم الذي تكرر في قصة إبليس المتكررة: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ سورة [ص/ 83] وإِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا سورة [الإسراء/ 65] .
وما قلناه في سياق آيات سابقة استدلالا من إسلام أكثر سامعي القرآن من المشركين العرب من أنها تسجيل لواقع أمرهم وأن فحواها يظل محكما بالنسبة لمن أصر على الكفر ومات عليه نقوله هنا في مناسبة هذه الآيات. وهذا ما جعلنا نقول إنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب في قلوب الكفار حتى يرتدعوا ويرعووا، وقد تحقق الهدف بمقياس واسع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
[سورة فصلت (41) : آية 26]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
. (1) الغوا فيه: شوشوا عليه بلغو الكلام.(4/414)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
في الآية حكاية لبعض أقوال ومواقف الكفار إزاء القرآن حيث كانوا يتواصلون فيما بينهم على التشويش على النبي صلى الله عليه وسلم حينما يتلو القرآن أو معارضته باللغو والتجريح والتهويش ذهابا منهم إلى أن هذا مما يضمن لهم الغلبة والفوز على النبي صلى الله عليه وسلم وإحباط دعوته وإزالة أثر القرآن في نفوس سامعية منهم.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآية، وهي معطوفة على ما قبلها بحيث يسوغ القول إنها نزلت لتحكي صورة أخرى من مواقف المشركين وعنادهم وأنها استمرار للسياق ومتصلة به.
ولقد نبهنا في المناسبات السابقة إلى ما كان من كثرة جدل المشركين في القرآن وطلبهم أحيانا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن آخر أو يبدله ويكفّ عن تسفيه أحلامهم وسبّ آلهتهم فيه على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور السابقة. وكان القرآن يردّ عليهم ثم يستمر في إنذارهم والتنديد بهم وبشركائهم.
ولقد كانت بلاغته وروحانيته وهداه تنفذ إلى أعماق بعضهم وتحمل ذوي القلوب الصافية وخاصة من الشباب على الدخول في الإسلام على ما حكته الروايات الكثيرة ونوهت به الآيات العديدة. فالظاهر أن كبار المناوئين من المشركين يئسوا من تراجع النبي صلى الله عليه وسلم من جهة واشتد خوفهم من استمرار نفوذ القرآن إلى الناس من جهة أخرى فكان منهم هذا التواصي الذي حكته الآية والذي ينطوي فيه صورة من صور السيرة النبوية، ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الكفار كانوا يوصون بعضهم بالتشويش على القرآن بالمكاء والصفير. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم كانوا يتواصون بالتشويش عليه ومعارضته بالرجز والشعر والتخليط واللغو والعبارة القرآنية تتحمل كل ذلك.
[سورة فصلت (41) : الآيات 27 الى 29]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)(4/415)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
جاءت هذه الآيات معقبة على الآية السابقة التي حكت موقف الكفار من القرآن متوعدة إياهم بأشد العذاب والخلود في النار جزاء كفرهم وجحودهم.
وفي الآية الأخيرة حكاية لطلبهم حينما يرون تحقيق وعيد الله فيهم بأن يمكنهم الله من الذين أضلوهم من الجن والإنس حتى يجعلوهم تحت أقدامهم في النار انتقاما منهم لأنهم كانوا سبب المصير الرهيب الذي صاروا إليه.
والمتبادر أن الآية الأخيرة بالإضافة إلى ما انطوى فيها من حقيقة العذاب الأخروي الإيمانية هي بسبيل وصف شعور الندم والحسرة الذي سينتاب الكفار وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب فيهم وحملهم على الارعواء بل وإثارة نقمة جمهورهم على زعمائهم الذين يمنعونهم من الإسلام لأن الكلام المحكي في الآية هو بلسان الجمهور أكثر منه بلسان الزعماء.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم أن المقصود من الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إبليس من الجن وقابيل قاتل أخيه هابيل ولدي آدم من الإنس لأنهما أصل الضلال والجريمة. ويتبادر لنا أن العبارة القرآنية أشمل من ذلك وأنها تتناول كل فعل موسوس وقرين شرّ وسوء من إنس وجنّ. والزعماء يأتون في الطليعة بالإضافة إلى كونها صورة عن حكاية الحسرة والندم اللذين يشعر بهما ويعبر عنهما الكفار تحقيقا للهدف الذي نوهنا به آنفا.
والله أعلم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)(4/416)
(1) توعدون: تطلبون أو تتمنون.
(2) نزلا: ما يكون من حقّ الضيف النزيل على الناس من ضيافة وقرى وإكرام.
تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وما بعدها
جاءت هذه الآيات لمقابلة ما جاء عن موقف الكافرين ومصيرهم الأخروي جريا على الأسلوب القرآني: وقد احتوت بشرى عظيمة للمؤمنين السابقين إلى الاستجابة للدعوة وتنويها بهم من جهة وانطوى فيها وصف محبب لما كان لهؤلاء من إخلاص وتمسك واستقامة والتفاف حول النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى في مجال المقايسة بينهم وبين الجاحدين كالذين قالوا ربنا الله وآمنوا به ثم استقاموا على طريق هداه ولم ينحرفوا حيث تتنزل عليهم الملائكة حينما ينتهي أجلهم فيهدئون من روعهم وينفون عنهم شعور الخوف والحزن ويبشرونهم بالجنة التي وعدوا بها قائلين لهم نحن أولياؤكم ونصراؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة التي لكم فيها كل ما تشتهي أنفسكم وتتمناه تكريما لكم من الله الغفور الرحيم الذي يعامل عباده الصالحين بالغفران الشامل والرحمة الواسعة. وقد جاءت الآية الأخيرة بمثابة تعليق بأسلوب التساؤل الذي يتضمن التقرير الإيجابي بأنه ليس من أحد أفضل وأحسن ممن دعا إلى الله وأسلم النفس إليه وعمل الأعمال الصالحة.
ومما يحسن لفت النظر إليه مقايسة أخرى تتضمنها الآيات بالإضافة إلى الآيات السابقة فالمؤمنون المستقيمون على الإيمان والعمل الصالح تتوفاهم الملائكة وتبشرهم وهم أولياؤهم في حين أن أولياء الكفار هم قرناء السوء من الجن والإنس يضلونهم ويورطونهم. والمقايسة مألوفة في النظم القرآني وقد مرّت(4/417)
أمثلة عديدة منها وتستهدف التنديد والتقريع للكفار والتنويه والتطمين للمؤمنين.
وما في أذهان العرب من صور عن الملائكة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته يجعلها أقوى تأثيرا كما هو المتبادر، فالملائكة الذين كان المشركون يشركونهم مع الله ويتخذونهم شفعاءهم لديه إنما هم أولياء المؤمنين المستقيمين وحسب.
والآيات وإن كانت كما قلنا تتضمن التنويه بالمؤمنين الأولين فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها مستمدا لإلهام مستمر قوي التلقين في كل ظرف ومكان سواء في الاستقامة على دين الحق والإخلاص له أم في التنويه بفضل من يدعو إلى الله ويسلم النفس إليه ويعمل الصالحات ويستشعر بأنه يكون بذلك قائما بأفضل الواجبات ومتمسكا بأفضل الأخلاق والصفات. وخلق الاستقامة على الحق والصدق والواجب والمعروف وعدم الروغان والحيدان عن ذلك من أعظم الأخلاق وأفضلها. ولذلك تكرر الأمر بها في القرآن بمتنوع الأساليب وقد مرت أمثلة من ذلك في السور السابقة.
ولقد روى بعض المفسرين «1» عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما أن الآية الأخيرة عنت المؤذنين أو نزلت فيهم، وأوردوا في سياق ذلك «2» بعض الأحاديث النبوية في فضل المؤذنين وأجرهم عند الله. وهذا غريب في هذا المقام لأن فحوى الآية أوسع وأشمل من ذلك بل هي من أوسع وأشمل ما يكون في بابها من حيث التنويه بالمؤمن الصالح في عمله المسلم نفسه لله الداعي غيره إلى مثل ذلك. ولأن الأذان إنما بدأ أو شرع في العهد المدني ولا خلاف على مكية هذه الآية.
ومن العجيب أن الطبري وهو من الذين رووا ذلك روى عن الحسن وقتادة من علماء التابعين أنها بصدد كل من صدق قوله عمله ومولجه مخرجه وسرّه علانيته وشاهده مغيبه وهو خيرة الله وولي الله وأحب الخلق إلى الله كما روي عن السدي أنها عنت النبي صلى الله عليه وسلم. وليس من ريب في أن النبي صلى الله عليه وسلم أول وأعظم من تنطبق
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والخازن.
(2) المصدر نفسه.(4/418)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
عليه الآية، ولكنها مع ذلك أوسع وأشمل كما قلنا وعلى ما هو المتبادر من نصها وروحها.
[سورة فصلت (41) : الآيات 34 الى 36]
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
. (1) ولي حميم: نصير صديق شديد الولاء والإشفاق.
(2) وما يلقّاها: بمعنى وما يتصف بها وما يكون عليها وما ينالها.
في الآية الأولى: تقرير بأفضلية الحسنة على السيئة وعدم إمكان التسوية بينهما، وأمر للسامع بمقابلة السيئة بالحسنة وإشارة إلى أن مثل هذه المقابلة من شأنها أن تقلب العداوة إلى صداقة وولاء شديدين.
وفي الآية الثانية تنويه بهذه المقابلة وفاعلها وإشارة إلى أن ذلك لا يكون إلّا من الذين تجملوا بالصبر وضبط النفس وكانوا على حظ عظيم من كرم الخلق.
وفي الآية الثالثة تنبيه موجه للسامع بأن الشيطان إذا حاول أن يوسوس له بسوء ليحول بينه وبين فعل الخير أو يدفعه إلى الشر ويثير فيه الغضب والنزق فليسارع إلى الاستعاذة منه بالله السميع العليم.
تعليق على آية وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وما بعدها
والآيات الثلاث منسجمة مع بعضها أولا، ومتصلة بسابقتها اتصال سياق وموضوع ثانيا، فليس من أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا في(4/419)
مجال المقايسة والمفاضلة كما أنه لا يمكن التسوية بين الحسنة والسيئة، ومن حسن خلق المسلم الذي قال ربي الله ثم استقام أن يتخلق بكل خلق كريم.
والمتبادر أن كلمتي الحسنة والسيئة تتناولان الأفعال والأقوال معا، وصيغة الأمر في الآيات يمكن أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم ويمكن أن تكون موجهة للسامع وبخاصة للسامع المسلم، ونحن نرجح هذا لأنه متسق مع روح الآيات. على أنها إذا كانت موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم فإن الخطاب يشمل أيضا كل مسلم كما هو المتبادر.
وفي الآيات تعليم قرآني جليل مستمر الإلهام والمدى، فمقابلة السيئة بالسيئة يورث العداء والأحقاد بعكس مقابلة السيئة بالحسنة التي تقلب العدو صديقا وتدل على نبل النفس وكرم الخلق. وقد يندفع المرء أحيانا إلى مقابلة السيئة بالسيئة ففي هذا الموقف يجب على المسلم أن ينتبه إلى أن هذا إنما يكون من نزعات الشيطان ووساوسه وألا يندفع فيه وأن يجنح إلى الأفضل الذي يليق بإسلامه وهو الصبر ودفع السيئة بالحسنة.
ولقد مرّ في سورة الأعراف آيتان مماثلتان لهذه الآيات بعض الشيء في العبارة والهدف وهما: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) حيث يبدو من ذلك اهتمام القرآن العظيم لبثّ روح الخير والتسامح وضبط النفس والبعد عن النزق والغضب ومقابلة السوء بمثله في نفس المسلم.
بل إن القرآن لم يكتف بهذا حيث احتوى آيات أوجبت على المسلم أن تكون صلاته ومعاملاته مع جميع الفئات من أقارب وأجانب وأغنياء وفقراء وعبيد على أساس الإحسان وحثته على ألا يكتفي بما يجب عليه من العدل وتقوى الله بل يتجاوزهما إلى ما هو خير منهما وهو الإحسان كما ترى في هذه الآيات:
1- وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ(4/420)
السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً
[النساء/ 36] .
2- لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة/ 93] .
3- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل/ 90] .
وقد توهم جملة وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) أنها بسبيل بيان صعوبة الأمر. وعلى احتمال ذلك فإنها قصدت إلى التنويه بالفعل وفاعله وتعظيم شأنهما أيضا بل نحن نظنّ أن هذا القصد هو الأكثر ورودا إن شاء الله.
وليس من محلّ لتوهم التناقض بين هذا التلقين المنطوي في الآيات وبين ما جاء في آيات مكية ومدنية عديدة على ما سوف يأتي بعد من تسويغ مقابلة العدوان بمثله وانتصار المسلم من بغي ينزل به وبإخوانه. فهذا التلقين كما يتبادر لنا هو في صدد السلوك الشخصي بين الناس وبين المسلمين. ويمكن أن يصرف إلى ما يكون فيه بغي وعدوان شديدا النكاية والأذى. كما أن التنوع في التلقين يمكن أن يصرف إلى ما هو طبيعي من تنوع ظروف البشر أفرادهم وجماعاتهم ليسير الناس فيما يواجههم من هذه الظروف سيرا منسجما مع روح القرآن عامة. وهي العفو عند المقدرة حينما لا يكون سببا في ازدياد الشر والبغي. ويؤدي إلى الهدوء والسكينة والرضا ومقابلة البغي بمثله حينما لا يكون بدّ من ذلك. والنظام العام هو عدم بدء المسلم غيره بالسوء والبغي وأن يكون هذا منه مقابلة ودفاعا. وفي سورة الشورى التي تلي هذه السورة فصل احتوى تلقينا في صدد هذه المواقف المتنوعة يصح أن يكون فيه قرينة على صواب ما نقرره إن شاء الله، على ما سوف يأتي شرحه بعد هذه السورة.(4/421)
ولقد رويت أحاديث عديدة صحيحة في موضوع معاملة الناس بالحلم والصبر وحسن الخلق، منها حديث رواه الثلاثة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «1» .
وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أيّ الحور العين شاء» «2» . وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علّمني شيئا ولا تكثر عليّ لعليّ أعيه. قال: لا تغضب فردّد ذلك مرارا كلّ ذلك يقول لا تغضب» «3» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء» «4» .
وحديث رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن عائشة قالت: «سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» «5» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟
فقال: الفم والفرج» «6» . وحديث رواه الترمذي عن أبي ذرّ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «7» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقا» «8» . حيث ينطوي في هذه الأحاديث تلقين نبوي جليل متساوق مع التلقين القرآني مثل كل شأن.
تعليق على رواية عجيبة في صدد نزول الآية [35]
ولقد روى البغوي عن مقاتل أن الآية [35] نزلت في أبي سفيان بن حرب
__________
(1) التاج ج 5 ص 43- 44.
(2) التاج ج 5 ص 43- 44.
(3) التاج ج 5 ص 43- 44.
(4) المصدر نفسه 57- 58.
(5) المصدر نفسه 57- 58.
(6) المصدر نفسه 57- 58.
(7) المصدر نفسه 57- 58.
(8) المصدر نفسه 57- 58.(4/422)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
لأنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم وصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة. وهذه الرواية من أعجب الأمثلة على الأخذ بالروايات دون تمعن في النص والملابسة. فزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنت أبي سفيان وقع بعد الهجرة بست سنوات ولم يكن لأبيها يد فيه حيث كانت في الحبشة مترملة عن عبد الله بن جحش الذي هاجرت معه في الهجرة الأولى. وقد خطبها النبي وعقد له عليها وهي في الحبشة وقدمت إليه رأسا منها. وإسلام أبيها كان في ظرف فتح مكة بعد سنتين ولم يرو أحد بعد أن الآية مدنية، وعبارة الآية المنسجمة مع ما قبلها وما بعدها لا يمكن أن تتسق مع الرواية قط.
هذا، ولقد احتوت سورة الأعراف آية مماثلة للآية [36] من الآيات التي نحن في صددها. وعلقنا على مداها بما يغني عن التكرار.
[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 38]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)
. المتبادر أن جملة فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ تعني الملائكة الذين ذكرت تسبيحهم الدائم والتفافهم حول الله وعرشه آيات كثيرة ومنها ما جاء في السورتين السابقتين لهذه السورة وهو ما قاله جمهور المفسرين مباشرة أو رواية.
وعبارة الآيتين واضحة، والخطاب فيهما موجه إلى المشركين، وفي الثانية تأنيب وتسفيه لهم بأسلوب حكيم، فإذا كانوا حقا يعترفون بالله ويعبدونه فلا يصح أن يسجدوا للشمس والقمر كما يفعلون بل عليهم أن يسجدوا له وحده. أما إذا استكبروا فلن يضيره استكبارهم فإن أعظم المخلوقات خطورة في أذهانهم وهم الملائكة دائبون على تقديسه، والحجة مفحمة لهم لأنهم يعترفون بالله ويعبدونه أيضا.
وليس هناك رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والأرجح أنها جاءت بمثابة(4/423)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
تعقيب واستطراد بعد الآية السابقة لها، فقد انتهت الآية بوصف الله سبحانه بالسميع العليم فاستطردت هذه إلى ذكر بعض آياته وتأنيب الذين لا يحصرون العبادة والسجود فيه ويشركون الشمس والقمر معه فيهما.
تعليق على عبادة الشمس والقمر عند العرب
وتأليه الشمس والقمر وعبادتهما مما كان سائدا في الأزمنة القديمة في بلاد اليمن من جزيرة العرب ثم في بلاد العراق والشام ومصر المجاورة لجزيرة العرب والتي جاء معظم سكانها القدماء من هذه الجزيرة. وقد عرف من الروايات المتعددة أن العرب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته كانوا يتسمون باسم عبد شمس ومن ذلك جدّ بني أمية.
ولا بد من أن يكون ذلك متصلا بعقيدة من عقائدهم، وقد ذكرت بعض الروايات أن قبيلة كنانة كانت تعبد القمر وأن قبيلة تميم كانت تعبد الشمس. وأن هذه القبيلة صنعت تمثالا للشمس ووضعته في بيت خاص «1» ، حيث يفيد هذا أن عبادة الشمس والقمر كانت ممارسة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض القبائل العربية.
وصيغة الآيات تفيد ذلك حتما لأنها تنهى عنه وإن كانت لا تسوغ الجزم بما إذا كان الخطاب موجها إلى فريق من عباد الشمس والقمر وجاها أم خطابا عاما لعبادهما من المشركين وإن كنا نرجح الاحتمال الأول مع التوجيه العام في الوقت نفسه جريا على الأسلوب القرآني.
[سورة فصلت (41) : آية 39]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
. (1) خاشعة: لعلها بمعنى جافة أو جامدة، وفسّر بعض المفسرين الكلمة
__________
(1) تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج 5 ص 112- 113. [.....](4/424)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
بأنها لا نبات ولا زرع فيها.
(2) اهتزت: لعلها هنا بمعنى تشققت أو تحركت.
(3) ربت: نمت وزادت.
الآية استمرار في السياق ومعطوفة على ما سبقها كما هو ظاهر. وقد تضمنت التنبيه إلى مشهد آخر من مشاهد قدرة الله في الأرض التي تكون يابسة خامدة لا نبات ولا حياة فيها فإذا هي إذا ما أنزل الله عليها الماء اهتزت وانتعشت وأخذت تتكشف عن أنواع النبات وتعج بمظاهر الحياة. ثم استطردت الآية إلى التنبيه إلى قدرة الله على إحياء الموتى استدلالا من ذلك. فالذي أحيا الأرض بعد موتها على هذا الوجه الذي يشاهده الناس جميعا قادر على إحياء الموتى بعد موتهم أيضا وهو قادر على كل شيء في كل حال.
وقد تكرر هذا المثل في القرآن على اعتبار أنه مثل مشاهد في كل آن ومكان لا ينكر ولا يدحض.
[سورة فصلت (41) : آية 40]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
. (1) يلحدون: أصل الإلحاد الانحراف عن الشيء أو عن الحق ولعلها هنا بمعنى الجحود والمكابرة.
من المحتمل أن تكون هذه الآية تعقيبية على الآيات السابقة، كما أن من المحتمل أن تكون مقدمة للآيات التالية. وعلى الاحتمال الأول يكون تأويلها إن آيات الله في كونه ماثلة للعيان كافية للإقناع والبرهنة على ربوبيته واستحقاقه وحده للعبادة ولا ينكرها إلّا المكابرون الذين يتعامون عن الحق عمدا. وهؤلاء لا يخفون على الله، ومصير الناس سيكون حسب مواقفهم وأعمالهم. ولا يمكن أن يكون الذي مصيره النار خيرا من الذي يأتي يوم القيامة آمنا مطمئنا، فليعمل الكافرون(4/425)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
المكابرون ما يشاءون فمصيرهم إلى الله وهو عليم بصير بما يعملون ومجزيهم عليه بما يستحقون.
وعلى الاحتمال الثاني يكون الإلحاد الوارد فيها أي المكابرة والانحراف والجحود بالنسبة للقرآن الذي ذكر في الآيات التالية، وما جاء في الآية من مقايسة وإنذار يبقى واردا بالنسبة للاحتمالين.
والفقرة الأخيرة بسبيل الإنذار. وهي أيضا من العبارات القرآنية الحاسمة في الدلالة على تقرير قابلية الإنسان واختياره وإرادته وكسبه.
والصلة بين الآية والسياق السابق لا تنقطع في حالة صحة الاحتمال الثاني، فالسياق السابق ذكر بعض آيات الله ومشاهد عظمته وربوبيته والقرآن هو الذي يقص ذلك، فالمناسبة تظل قائمة كما هو المتبادر.
[سورة فصلت (41) : الآيات 41 الى 45]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
. (1) الذكر: هنا كناية عن القرآن.
(2) عزيز: قد تكون الكلمة بمعنى كريم معزز وقد تكون بمعنى منيع لا يرام ولا يستطيع أحد أن ينفذ إليه بتحريف أو باطل أو زيادة أو نقص والمعنى الثاني أكثر توافقا مع الآية الثانية.(4/426)
(3) ينادون من مكان بعيد: كناية عن عدم استماعهم لأن المرء لا يسمع صوت من يدعوه إذا كان الداعي بعيدا جدا عنه.
(4) إنهم لفي شك منه مريب: بمعنى أن الذين يشكون فيه هم في ريب مما يشكون أي غير مستيقنين ومتثبتين في شكهم.
على احتمال أن تكون الآية السابقة مقدمة لهذه الآيات تكون هذه الآيات استمرارا للسياق. فالذين يتعامون عن الحق عمدا ويلحدون في آيات الله هم الذين كذبوا بالقرآن لما جاءهم. وعلى احتمال أن تكون الآية السابقة تعقيبا على ما قبلها تكون هذه الآيات فصلا جديدا متصلا في الوقت نفسه بالسياق السابق أيضا حيث حكي فيه صورة من صور إلحاد الملحدين في آيات الله التي منها القرآن.
وعلى كل حال ففي الآيات صورة من صور الجدل الذي كان يدور حول القرآن بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المكابرين:
1- فالذين كابروا في آيات الله الماثلة في الكون هم الذين كابروا أيضا في القرآن لما جاءهم وحاولوا التشويش عليه وهو الكتاب المنيع العلي المعتد الذي لا يرام والذي لا يأتيه الباطل والتحريف من أي جهة لأنه تنزيل من الله الحكيم الذي يفعل ما يفعل على غاية من الصواب والإحكام ويستوجب على كل ما يفعل الحمد والثناء. وما يقوله الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم قد قاله أمثالهم للرسل من قبله، وإن الله لرقيب عليهم وهو ذو العقاب الأليم كما هو ذو المغفرة الواسعة لمن يستحقها.
2- ولو أنزل الله القرآن بلسان غير عربي لاعترض الكفار أيضا وتساءلوا عن عدم تفصيل آياته بلسان يفهمونه فكيف يكون قرآنا عربيا وأعجميا في آن واحد.
3- وعلى النبي أن يعلن- ردا على ما يقولونه- أن القرآن هو هدى وشفاء للذين آمنوا وصدقوا وحسنت نياتهم وصفت طواياهم ورغبوا في الحق في حين أن الكافرين لن ينتفعوا به لأن في آذانهم صمما وفي عيونهم ظلمة أو كأنهم ينادون من مكان بعيد فلا إمكان لإسماعهم النداء.
4- ولقد كان هذا شأن الناس تجاه الكتاب الذي آتاه الله موسى عليه السلام،(4/427)
فقد اختلفوا فيه بين مصدق ومكذب.
5- والله قادر على أن يقضي بين الناس قضاء عاجلا فيمحق الكافرين المكذبين وينجي المصدقين المؤمنين، ولكن حكمته اقتضت تأجيل هذا القضاء إلى يوم القيامة الذي هو آت لا ريب فيه.
والفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة تحتمل أن تكون في صدد القرآن أو في صدد يوم القيامة أو في صدد كتاب موسى، وفيها تقرير بأنهم غير متثبتين فيما يشكون وهم في ريب منه.
والوصف الذي وصف به الذين لا يؤمنون بالقرآن في الآية [44] هو بقصد وصف شدة عنادهم ومكابرتهم، وقد تكرر في المناسبات المماثلة بهذا القصد ومرّ من ذلك أمثلة في السورة السابقة. ولقد قال بعض المفسرين: إن جملة وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ بمعنى أنه لو أنزل القرآن أعجمي اللغة لاعترضوا أيضا وقالوا كيف ينزل قرآن أعجمي على رسول عربي؟ ومع أن هذا لا يخلو من وجاهة فإن ما أوردناه في الشرح هو الذي تبادر لنا أنه الصواب. والله أعلم.
تعليق على جملة وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ
والآية [44] تلهم أن الكفار كانوا يتساءلون عن سبب عدم وحدة اللغة بين القرآن والكتب السماوية الأولى ما دامت كلها من عند الله. وكانوا يعرفون أن الكتب السابقة بلغة غير عربية ومن المحتمل أن يكون هذا التساؤل إذا صح استلهامنا إن شاء الله قد وقع منهم في معرض التحدي والطعن والتكذيب. فردت الآيات ردا فيه تسفيه قوي مفحم للمكابرة التي دفعتهم إلى هذا التساؤل. ومن المحتمل أن يكون هذا قد وقع في مواجهة جدلية فنزلت الآيات بسبيل حكاية ما وقع الرد عليه. كما أن من المحتمل أن يكون هذا مما كانوا يتقولونه في مختلف(4/428)
المواقف على سبيل التحدي والمكابرة وهو ما نرجحه بدليل آيات وردت في سورة الشعراء التي سبق تفسيرها، فيها شيء ما مما في هذه الآية وهي: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) وقبل هذه الآيات جاءت الآيات [193- 195] ، تقرر أن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين، كأنما احتوت تعليلا لإنزاله باللسان العربي دون اللسان الأعجمي.
وفي سورة إبراهيم التي نزلت بعد هذه السورة بمدة ما آية جاء فيها وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ حيث يمكن أن يكون قد بدأ اعتراض آخر مماثل منهم فاقتضت حكمة التنزيل أنزل هذه الآية محتوية على توكيد آخر لهذا التعليل، وحيث يمكن أن فيها تدعيم لما استلهمناه من الآية التي نحن في صددها.
ولقد قال بعض المفسرين إن الجملة بمعنى أنه لو نزل القرآن أعجمي اللغة لاعترضوا أيضا وقالوا كيف ينزل.
تعليق على جملة لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
والتقرير الذي احتوته جملة لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ هو في صدد كون القرآن في محكماته وأحكامه وأهدافه ومبادئه وتلقيناته متساوق كل التساوق كله حق ليس فيه أي تناقض ولا اختلاف فضلا عن أنه مبرأ من كل باطل أو شبهة باطل.
وكل من أنعم النظر في فصوله بأناة وتدبر ومقارنة ومقابلة وربط بعض فصوله ببعض وتفسير بعض فصوله ببعض وكان منصفا بعيدا عن الهوى والمكابرة يظهر على هذه المعجزة العظمى التي تقررها هذه الجملة. وفي سورة النساء هذه الآية: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) حيث ينطوي فيها توكيد تقريري آخر فيه معنى التحدي مع الوثوق بصحة التقرير.
وقد يكون في الفصول المتشابهة والوسائلية من قصص ومشاهد كونية وأخروية وغيبية شيء من التنوع والتباين أو ما لا يدركه عقل الإنسان ولكن ذلك لا يمكن أن ينطبق عليه وصف باطل قط. وإنما جاء بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل لتحقيق(4/429)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
غاية التدعيم والتأييد لرسالة الله من إنذار وتبشير واسترعاء بما هو ماثل في الأذهان أو على سبيل التقريب والتمثيل على ما نبهنا إليه في المناسبات العديدة السابقة.
وقوة العبارة التأكيدية جديرة بالتنويه من حيث انطواؤها على توكيد كون القرآن تنزيلا من الله وكون ما ينزل الله لا يمكن أن يتسرب إليه باطل أو شبهة من باطل، وينطوي في العبارة إلى هذا بثّ شعور قوي في النبي صلى الله عليه وسلم بالوثوق والاستعلاء على الكفار كما يتبادر لنا وقد يكون هذا من أهداف العبارة القرآنية والله أعلم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 46 الى 48]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
. (1) أكمامها: براعمها.
(2) آذناك: بمعنى اعترفنا لك وأعلناك.
(3) ما منا من شهيد: ما منا أحد يشهد أن لك شريكا.
(4) ضل عنهم: غاب عنهم.
(5) ظنوا: هنا بمعنى أيقنوا والكلمة من الأضداد.
(6) محيص: مفر أو ملجأ.
المتبادر أن هذه الآيات جاءت معقبة على الفصل السابق لتقرر:
أولا: مسؤولية كل امرئ عن عمله صالحا كان أو سيئا وجزاؤه عند الله عليه حسب ذلك دون ظلم ولا إجحاف لأن الله لا يمكن أن يظلم عبيده.
ثانيا: ولتعلن أن مرد علم الساعة أي موعد يوم القيامة إلى الله الذي عنده كل شيء كان أو سيكون حتى لا تخرج ثمرة من برعمها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلّا بعلمه.(4/430)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
ثالثا: ولتحكي ما سوف يكون من أمر المشركين يوم القيامة حيث يسألهم الله عن شركائه الذين أشركوهم معه فلا يجدون مناصا من الاعتراف بحقيقة الأمر والتراجع عما كانوا يقولون به وتنزيه الله عن الشركاء وقد غاب عنهم شركاؤهم الذين كانوا يدعونهم وتيقنوا أن لا محيد لهم ولا مخلص من عقاب الله وعذابه.
والآيات في مجموعها في معرض إنذار المشركين والتنديد بهم. وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الندم والارعواء فيهم إذ يسمعون ما سوف يكون من أمرهم وخذلان شركائهم لهم يوم القيامة.
والآية الأولى من الآيات الحاسمة في صراحتها وقطيعتها بأن المرء إنما يعمل ما يعمل من أعمال صالحة وسيئة- ومن ذلك الإيمان والكفر- باختياره وإرادته وأنه يتحمل من أجل ذلك تبعة عمله وأن الثواب والعقاب إنما يكونا وفق هذا الاختيار ونتيجة له.
وجملة وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) على لسان الله عز وجل تأتي هنا مرة أخرى وقد جاءت في الآية [29] من سورة (ق) التي سبق تفسيرها. وقد علقنا على مداها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 51]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)
. (1) دعاء: بمعنى طلب أو رغبة.
ذكر الكفار في الآيات وإنذارهم يجعلان الصلة قائمة بينها وبين السياق.(4/431)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
ويسوغان القول إنها جاءت استطرادية لتصف أخلاق الكفار الذين كانت تتألف منهم أكثرية الناس في البيئة التي تنزل فيها: فالإنسان من هذه الأكثرية لا يسأم من طلب الخير والاستمتاع به فإذا مسّه شرّ وقع في اليأس واستولى عليه القنوط، وإذا كشف الله ضرّه وبدله بنعمة ورحمة فإنه يجحد فضل الله ويعتبر ما أصابه من ذلك طبيعيا وحقا ولا يلبث أن يستغرق في الدنيا ويطمئن إليها وينسى الله والآخرة وما فيها من خير للصالحين، وعذاب للجاحدين، ويجحد أن يكون ما ينذر به بعد الموت من خير وحسنى، وهكذا يكون ديدنه، فإذا أنعم الله عليه انصرف عنه وجحده وإذا مسّه شرّ هلع وملأ الدنيا دعاء وشكوى، والله محص على الكافرين الجاحدين ما فعلوه ومخبرهم به ومذيقهم بسببه أشدّ العذاب.
والآيات قوية نافذة في تقريرها وتنديدها. وهي وإن كانت بسبيل وصف أخلاق أكثرية الناس الذين يسمعون القرآن الجاحدين لله ونعمه فإنها تمثل حالة من المجتمعات الإنسانية بصورة عامة في كل ظرف فيما يبدو من أفرادهم من تقصير في حق الله وجحود لفضله ونسيانه في أوقات الرخاء واستغراقهم في الدنيا وشهواتها ومطالبها دون تفكير في الواجبات والعواقب، وهذا يجعلها مستمد إلهام وفيض دائم للمسلم يذكره بواجبه نحو الله والناس دون ما بطر ولا جحود ولا إسراف ولا استغراق ولا قنوط.
[سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
. (1) شقاق بعيد: هنا بمعنى شدة الخلاف والمشاققة والمعارضة.
الأمر بمخاطبة الكفار يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة أيضا.(4/432)
وقد احتوت الآية الأولى أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال إنكاري وتقريعي للكفار عما تكون حالتهم إذا كان ما يسمعونه هو من عند الله حقا ثم كفروا به وعما إذا كان هناك من هو أشد ضلالا وأبعد في السخف والباطل ممن يقف موقف المعارضة والمشاققة بدون علم وبينة، وقد انطوى في صيغة الآية وروحها تقرير ضلالهم وسخفهم وموقفهم الباطل.
واحتوت الآية الثانية إنذارا لهم بأن الله سيريهم آياته في أنفسهم وفي الآفاق حتى يجعلهم يتيقنون بأن ما جاءهم هو الحق، وتدليلا على قدرة الله على ذلك بأنه شهيد على كل شيء.
واحتوت الآية الثالثة تقريعا بأسلوب التنبيه والتعجب للكفار على شدة شكهم في لقاء الله والوقوف بين يديه وتذكيرا بأسلوب التنبيه بأن الله يحيط بكل شيء مما فيه برهان على قدرته عليهم وأنهم لن يفلتوا منه ولن يعجزوه.
وقد جاءت الآيات خاتمة قوية لموقف الجدل والإنذار وخاتمة قوية للسورة معا مما جرى عليه الأسلوب القرآني ومرت أمثلة عديدة له. وقد استهدفت فيما استهدفته تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه من جهة وإثارة الندم والخوف والارعواء في نفوس المشركين من جهة أخرى.
وقد تعددت تأويلات المفسرين لجملة سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ حيث قالوا إنها عنت آيات الله ودلائل وحدانيته وربوبيته في مختلف مشاهد الكون ونواميسه وفي تركيب أجسامهم أنفسهم كما قالوا إنها عنت ما تحقق من وعد الله ووعيده بما كان من هلاك طواغيت الكفر منهم في بدر وغيرها وفتح مكة واعتراف جمهور العرب بأن الإسلام هو دين الحق ودخولهم فيه ثم انتصار الإسلام وانتشاره في آفاق الدنيا.
وكلا القولين وجيه ووارد، والقول الثاني متسق مع البشائر والتطمينات القرآنية العديدة التي مرّ بعض أمثلة منها.(4/433)
وبعض الباحثين الحديثين يسوقون هذه الجملة في ظروف ما يقع من اكتشافات كونية كدليل على إعجاز القرآن في إخباره بذلك قبل اكتشافها بعشرات القرون. ونحن نرى في هذا شيئا من التكلف الذي لا ضرورة له ولا طائل منه بسبيل إثبات وجود الله وقدرته وعظمته ببديع نواميس كونه الماثلة للعيان في كل زمان. والخطاب يعدّ للسامعين مباشرة الجاحدين للرسالة على سبيل التنديد والوعيد. ولذلك نرى الأولى أن تبقى الجملة في نطاق أحد الوجهين اللذين قال المفسرون إنها عنتهما.(4/434)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
سورة الشورى
في السورة حملة على المشركين وإفحام لهم في سياق مواقف ومشاهد حجاجية وجدلية. وتقرير لوحدة المنبع والمبادئ بين الدعوة المحمدية ودعوة الأنبياء السابقين وتعليل اختلاف أهل الكتاب وعزوه إلى البغي والهوى ونفي كونه من أصل طبيعة الدعوة الربانية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وموقفه. وتنويه بأخلاق المؤمنين وتوجيههم إلى خير سبل الحق والعدل والكرامة والقوة وتنويه بمصيرهم ومصير الكافرين ولفت نظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وعظمته وشمول حكمه ومشيئته، وبيان لطرق اتصال الله بأنبيائه.
وخاتمة السورة متصلة بمطلعها كما أن فصولها مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [23- 25] مدنيات، وسياقها وأسلوبها يسوغان الشك في ذلك.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
. (1) يتفطرن: يتشققن.(4/435)
(2) من فوقهن: قيل إن الضمير راجع إلى السموات، ومعنى الجملة على ذلك أن كل سماء تتفطر من فوق التي تليها. وقيل إنه راجع إلى الأرض. ومعنى الجملة على ذلك أن السموات تكاد تتشقق من فوق الأرض وأكثر المفسرين على أن الجملة على سبيل الاستفظاع من اتخاذ المشركين أولياء من دون الله الذي ذكر في الآية السادسة. وقد جاء في سورة مريم آيات من هذا القبيل فيها بيان أوضح:
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) .
3- حفيظ عليهم: مراقب لهم ومحيط بهم ومحص لأعمالهم.
ابتدأت السورة بخمسة حروف متقطعة، وقد رسمت في آيتين خلافا لمثيلاتها التي جاءت بأكثر من حرفين مثل (كهيعص) و (المص) و (المر) وقد روى البغوي أن سبب ذلك هو الاختلاف في تلاوة الحروف هنا دون السور الأخرى. وقد روى هذا المفسر أن (حم) مبتدأ و (عسق) خبر. وروى الطبري أن ابن عباس كان يقرأ هذه الحروف بدون (ع) أي (حم سق) ويقول إن السين عمر كل فرقة كائنة، والقاف كل جماعة كائنة. ومما روي في معاني الحروف أنها ترمز إلى صفات الله تعالى وقسمه بها حيث تضمنت قسما ربانيا بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته «1» . كذلك مما روي من معانيها أنها ترمز إلى كلمات (حرب) يعز فيها الذليل ويذل العزيز من قريش و (ملك) يتحول من قوم إلى قوم و (عدو) لقريش يقصدهم و (سبي) يكون فيهم و (قدرة) الله النافذة في خلقه «2» . ونحن نتحفظ إزاء هذه الأقوال التخمينية ونرجح أنها للتنبيه والاسترعاء، كما رجحنا ذلك بالنسبة للحروف المتقطعة الأخرى.
وقد أعقب الحروف توكيد وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله العزيز الحكيم الذي له ما في السموات وما في الأرض العلي العظيم هو الذي يوحي إليه
__________
(1) تفسير البغوي.
(2) المصدر نفسه.(4/436)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
كما كان يوحي إلى النبيين من قبله. وأنه مراقب حفيظ على الذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء وليس هو مسؤولا ولا وكيلا عنهم، وأن السموات تكاد تتشقق من فوق الأرض من فظاعة ذلك لولا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويطلبون المغفرة لأهل الأرض ولولا أن الله سبحانه وتعالى قد اتصف بالغفران والرحمة مع علوّ شأنه وبالغ عظمته وقوته.
وأسلوب الآيات قوي نافذ، وهي تمهيد لما يأتي بعدها.
رواية عجيبة عن سرّ (حم عسق)
ولقد روى الطبري حديثا في تفسير المقطعين وصفه المفسر ابن كثير وهو من أئمة المحدثين بأنه غريب عجيب منكر نورده كمثال لما كان يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة لما وقع من نزاع وخلاف سياسي بين الأمويين والهاشميين وبين العباسيين والعلويين. والحديث معزو إلى حذيفة بن اليمان وقد جاء فيه: أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن تفسير المقطعين فأعرض عنه مرة ثم مرة فقال حذيفة له: أنا أنبئك به إنهما نزلا في رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يقال له عبد الله أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلّا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فلذلك قوله حم (1) عسق (2) يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء، حم عين يعني عدلا منه، سين يعني سيكون، وقاف يعني واقع بهاتين المدينتين!.
[سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 8]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8)(4/437)
(1) أم القرى: كناية عن مكة.
(2) يوم الجمع: كناية عن يوم القيامة.
الآيتان معقبتان على الآيات السابقة، ومتممتان لما احتوته الآية السادسة بخاصة، التي وجه فيها الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم حيث احتوت أولاهما تنبيها له أيضا بأن الله إنما أوحى إليه بالقرآن بلسان عربي لينذر أهل مكة وما حولها ويدعوهم إليه وينذرهم بيوم القيامة الذي لا ريب في مجيئه والذي سوف يكون الناس فيه فريقين فريقا في الجنة وفريقا في النار.
وهذه هي مهمته وهو غير وكيل على أحد ولا مسؤول عن أحد كما ذكرت الآية التي قبلها. وقد احتوت الآية الثانية تنبيها آخر للنبي صلى الله عليه وسلم على أن الله قادر لو شاء على جعل الناس أمة واحدة ولكن حكمته اقتضت أن يكون منهم الصالحون المستجيبون الذين يهتدون بهديه ويدخلهم في رحمته وينالون برّه، والظالمون المنحرفون الفاسدون الذين لن يكون لهم ولي ولا نصير.
والآيتان مع الآية السادسة التي قبلها هي بسبيل بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الإنذارية والتبشيرية من جهة وتسليته عن موقف الجحود الذي يقفه الكفار المشركون من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي كلمة وَالظَّالِمُونَ في الآية الثانية من الآيتين دليل على أن المقصود من (الذين يشاء الله تعالى أن يدخلهم في رحمته) هم الفريق الذي تحلى بحسن النية ورغب في الحق والهدى وابتعد عن الظلم والهوى. بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآية بسبيل بيان حكمة الله تعالى في جعل الناس ذوي إرادة واختبار. فالراغبون في الحق والهدى وذوو النيات الحسنة يختارون الهدى فيدخلون في رحمة الله وينالون رضاءه. والمنحرفون عن الحق ذوو النيات الخبيثة يختارون الضلال فيستحقون غضب الله ومقته ولا يمكن أن يكون لهم ولي يحميهم ولا ناصر ينصرهم. وفي آية سورة الأعراف: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ(4/438)
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)
ضابط محكم في صدد من يدخلهم برحمته.
وفي الآية الأولى من الآيتين عود على بدء في صدد عروبة القرآن التي حكت بعض آيات السورة السابقة ما كان من المشركين من جدل فيها. فالله قد جعل القرآن عربيا حتى يفهمه أهل مكة ومن حولهم، واعتراضهم على هذا لا محل له.
فالله كما أوحى إلى الأنبياء من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بلسان أقوامهم أوحى الله إليه بلسان قومه.
وقد توهم الآية الأولى- لأول وهلة- اقتصار الدعوة على أهل مكة وما حولها وعلى العرب الذين أنزل القرآن بلسانهم. ولما كان شمول الدعوة قد تقرر في آيات كثيرة تقريرا حاسما مما مرت منه أمثلة عديدة فالعبارة هنا تحمل على ما كان من ظرف خاص بين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة وبين أهل مكة وما حولها من العرب من جهة أخرى على ما ذكرناه في مناسبات سابقة مماثلة.
تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
ولقد روى البغوي بطرقه في صدد جملة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) حديثا عن عبد الله بن عمرو قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضا على كفّيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله إلّا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقرّوا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقرّوا نطفا في الأرحام. إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. ثمّ قال للذي في يساره: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقرّوا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقرّوا نطفا في الأرحام. إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة.(4/439)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
قال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذا يا رسول الله؟ فقال: اعملوا وسدّدوا وقاربوا فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيّ عمل. وإنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيّ عمل ثم قال فريق في الجنة فضل من الله وفريق في السعير عدل من الله» »
. والحديث على الأرجح مدني والآية مكية وإذا صح فإن المتبادر منه أولا: أن عبارة (كتابان) في يمينه ويساره هي بسبيل التمثيل وليست بسبيل كتابين حقيقيين فيهما جميع أسماء بني البشر في جميع أدوار الدنيا.
وثانيا: إنه بسبيل التنبيه على سبق علم الله الأزلي بأهل الجنة وأهل النار وليس في نصه ولا روحه ما ينتقض ما تبادر لنا من الآية الثانية.
[سورة الشورى (42) : الآيات 9 الى 12]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
. (1) يذرؤكم: يكثركم وينميكم أو يخلقكم ويظهركم.
في الآية الأولى تساؤل استنكاري عن اتخاذ المشركين أولياء من دون الله، ورد تقريري بأن الله هو وحده الجدير بالولاء لأنه هو الذي يحيي الموتى وهو القدير على كل شيء.
وفي الآية الثانية بيان صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم موجه إلى الناس أو على الأرجح إلى الكفار بقصد إشهاد الله وتحكيمه فيما بينه وبينهم من خلاف، فإلى
__________
(1) والبغوي بالإضافة إلى روايته هذا الحديث بطرقه يعزو روايته إلى الإمام أحمد أيضا. وقد أورده ابن كثير عزوا إلى هذا الإمام.(4/440)
الله تعالى مرجع كل شيء وهو الحكم العدل بين الناس فيما اختلفوا فيه وهو ربّه الذي عليه يتوكل وإليه ينيب ويستند، وينطوي في البيان معنى الوثوق واليقين بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو على حق في الخلاف القائم بينه وبين المشركين كما هو المتبادر.
وجاءت الآيتان الأخريان للبرهنة على استحقاق الله وحده الولاء والاعتماد والإنابة والربوبية الشاملة جريا على الأسلوب القرآني: فهو الذي خلق السموات والأرض، وجعل للناس أزواجا من أنفسهم لينموا ويكثروا، وخلق لهم من الأنعام أزواجا كذلك. وهو الذي لا يماثله شيء في عظمته وقدرته وصفاته وكنهه السميع لكل شيء البصير بكل شيء الذي في يده تصريف السموات والأرض وبسط الرزق وقبضه وفقا لمقتضيات علمه وحكمته لأنه عليم بكل شيء.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة ومؤكدة لها. والآية الثانية كما قلنا موجهة مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المخاطبين وفي مثل هذه الحالة يفرض محذوف بعد كلمة (من شيء) وهو (قل) فيتسق حينئذ الفصل القرآني.
وهذا مما جرى عليه الأسلوب القرآني وقد مرّ منه أمثلة عديدة.
وجملة وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ موجهة إلى مخاطبين حاضرين. وتحتمل أن يكون التوجيه فيها مطلقا وتحتمل أن يكون خاصا لفريق في موقف من المواقف. وروح الفصل والآيات السابقة معا التي تستعمل ضمير الغائب بالنسبة للكفار تجعلنا نرجح الإطلاق في التوجيه.
تعليق على جملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وجملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ- وإن جاءت في مقامها لتنفي أي احتمال للتماثل بين الله تعالى في قدرته وعظمته وشمول تصرفه وحكمته وكمال صفاته وبين أي كان ممن يتخذهم المشركون شركاء له في الدعاء والعبادة وفي معرض(4/441)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
التنديد بالمشركين- فإنها من حيث هي حاسمة في صدد الذات الإلهية وسرها، ويصح أن تكون ضابطا عاما تجب ملاحظته في كل ما ذكر في القرآن من صفات الله الذاتية والفعلية ومن كل ما نسب إليه سبحانه من أعضاء وحركات وحواس كاليد والعين والوجه والمجيء والنزول والعروج والاستواء والرؤية والسمع والبصر والكلام والروح والغضب والفرح والكيد والمكر إلخ واعتبار كل مماثلة يمكن أن يتصورها الإنسان بين الله سبحانه في أي شيء وبين أي شيء آخر ممتنعة ومنتفية.
[سورة الشورى (42) : آية 13]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
. (1) شرع: بيّن أو فرض أو سن أو خط.
في الآية:
1- تقرير بأن ما شرعه الله من الدين للناس الذين يوجه إليهم القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هو ما شرعه ووصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وقد وصاهم أن يثبتوا عليه دون خلاف ولا فرقة.
2- وإشارة إلى ما كان من استعظام المشركين لما يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه من وحدة الله مع أن ذلك هو ما دعا إليه الأنبياء من قبله.
3- وتقرير بأن الله إنما يختار ويقرب إليه من يشاء ويهدي إليه أولئك الذين ينيبون إليه ويرغبون في هداه.
والآية متصلة بالسياق الذي يندد بالمشركين لاتخاذهم أولياء من دون الله. وجملة اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) من الجمل التي يصح أن تكون مفسرة ومقيدة للجمل التي تأتي مطلقة في آيات أخرى كما(4/442)
هو واضح. وكمناسبة قريبة فإن فيها تدعيما لما شرحناه في صدد الآية الثامنة من السورة.
تعليق على آية شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
والآية في حدّ ذاتها احتوت تنويها بوحدة المنبع والمبادئ في الأديان التي جاء بها رسل الله. وتوكيدا بوجوب الثبات على ذلك وعدم الانقسام والتفرق فيه. ثم تقريرا بأن الرسالة المحمدية تنبع من نفس المنبع، وتقوم على نفس المبادئ، وتتقيد بالواجب الذي أمر الله بالثبات عليه وعدم الانقسام والتفرق فيه.
وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك إقناع العرب بأن الرسالة المحمدية ليست بدعة جديدة وإنما هي نفس الدعوة التي دعا إليها الأنبياء السابقون وهذا يلهم أن العرب كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى أرسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم أنبياء. وهو ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ومنها آية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [48] ومنها آية سورة الأنعام هذه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [157] وهذا ما يجعل حجة الآية دامغة لهم. ويلحظ أن الآية اقتصرت على ذكر أربعة أنبياء. ومن المتبادر أن الذين ذكروا هم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن.
ولقد ذكر الطبري في سياق تفسير الآية [7] من سورة الأحزاب التي فيها ذكر الأنبياء الأربعة مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الآية وهي: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... عزوا إلى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم(4/443)
كان يقول: «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث» . وأورد هذا البغوي وابن كثير في سياق آية الأحزاب كذلك. وهذا يذكر أن الحديث من مرويات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث وأنه رواه مسلسلا إلى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة بهذا النص: «روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ الآية، أنه قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم» وعقب ابن كثير على الحديث بقوله: إن أحد رواته سعيد بن بشير فيه ضعف وإن آخرين رووه عن قتادة مرسلا أو موقوفا والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق آية الأحزاب حديثا آخر رواه أبو بكر البزار مسلسلا إلى أبي هريرة أنه قال: «خيار ولد آدم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وخيرهم محمد» وعقب ابن كثير على هذا الحديث بقوله إنه موقوف وإن في أحد رواته حمزة الزيات ضعفا.
والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وفيها من العلل ما يسوغ التوقف فيها كما هو ظاهر.
ونكرر ما قلناه إن اختصاص الأنبياء الأربعة بالذكر مع النبي صلى الله عليه وسلم هو بسبب كونهم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن. فقد كانوا ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام وينسبون إليه تقاليدهم الدينية ويزعمون أنهم على ملّته.
وموسى وعيسى هما أصل الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين كانت لهم بهما وبأتباعهما صلات وثيقة متنوعة. وكانوا متأثرين بهما إلى حد كبير. وكانتا في نظرهم هي الديانات السماوية الكتابية، ونوح هو أبو البشر بعد الطوفان حيث تفرعت الأجناس من أولاده سام وحام ويافث على ما ورد في سفر التكوين الذي كان اليهود والنصارى يتداولونه ويعتبرونه من أسفارهم الهامة والذي كان العرب يعرفون كثيرا مما جاء فيه من أخبار وقصص عن طريقهم.
ولقد روى المفسرون «1» أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين في المقصود
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.(4/444)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
من (الدين) الذي شرعه الله ووصى به الأنبياء السابقين ومحمدا صلى الله عليه وسلم. منها أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام. ومنها أنه تحريم الأمهات والبنات والأخوات، ومنها أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة. والمتبادر أن الجملة تشمل كل ذلك أو بكلمة ثانية تشمل المبادئ المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية في رسالات أنبياء الله تعالى. ولعلها مما هدفت تقرير كون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعا بل إنه متسق مع ما وصى الله تعالى به الأنبياء من قبله عامتهم وخاصتهم لا سيما الذين يعرفون أنهم أصل الشرائع الممارسة والله أعلم.
[سورة الشورى (42) : آية 14]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
. تضمنت الآية:
1- إشارة تنديدية إلى اختلاف الذين جاءهم أنبياء الله بالدين الذي شرعه الله للناس.
2- وتقريرا بأن ذلك إنما كان منهم بغيا وشذوذا عن الحق وعن أمر الله الذي أكّد بوجوب عدم التفرق في الدين.
3- وتقريرا بأن الله كان جديرا بالقضاء بينهم في الدنيا فيؤيد الحق وأهله ويزهق الباطل وأصحابه لولا أن حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معين عنده.
4- وتقريرا بأن الذين ورثوا كتب الله التي أنزلها على أنبيائه السابقين قد وقعوا منها في شكوك شديدة أدت إلى ما هم فيه من خلاف وفرقة وبلبلة.
والآية متصلة بسابقتها كما هو واضح، ومن المحتمل أن يكون ما فيها من تعليل للخلاف القائم بين الناس في دين الله الذي جاء به أنبياؤه الأولون(4/445)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
جوابا على احتجاج وجاهي احتج به المشركون، كما أن من المحتمل أن يكون ذلك توضيحا لأسباب واقع الأمر من الفرقة والخلاف بين الذين يتبعون الأديان التي أتى بها أنبياء الله السابقون، وقد تسوغ الآية التالية لهذه الآية ترجيح الاحتمال الثاني.
تعليق على جملة وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ
ولقد تضمنت الآية تقرير كون الخلاف والانقسام والنزاع بين أهل الأديان السماوية ليس ناشئا من طبيعة دين الله الذي شرعه للناس على لسان رسله وأنبيائه والذي أمر الله بالثبات عليه. وإنما هو نتيجة لما كان من بغي وأهواء ومآرب وسوء تأويل وشذوذ بين الذين ورثوا كتب الله عن أنبيائهم، لأن الدين الذي شرعه الله والذي هو- على ما هو المستمد من القرآن وجوهر الكتب السماوية- وحدة الله وربوبيته الشاملة وعدم إشراك أي شيء به والتزام الفضائل والمكارم الأخلاقية الشخصية والاجتماعية ونبذ الآثام والفواحش والمنكرات لا يتحمل انقساما ولا خلافا ولا نزاعا في أي ظرف ومكان. وقد تكرر تقرير ذلك والنعي على أهل الكتاب والتنديد بهم بسببه في مواضع كثيرة من السور المكية والمدنية. وفي هذا ما فيه من خطورة وتلقين جليل مستمر المدى.
[سورة الشورى (42) : آية 15]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
. (1) لا حجة بيننا وبينكم: ليس بيننا وبينكم مجال للمحاججة والخصومة.
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم:(4/446)
1- بأن يدعو إلى ما أمر به ويثبت عليه بعد أن بيّن الله له في الآية السابقة أن الخلاف والنزاع والشك الذي وقع فيه أهل الأديان والكتب المنزلة ليس من طبيعة دين الله الذي شرعه على لسان أنبيائه الأولين ولا يتبع أهواءهم وميولهم.
2- وبأن يعلن أنه مؤمن بما أنزل الله من كتب ومأمور بأن ينصف الناس ويعدل بينهم فيكتفي ببيان الحق وتبليغ وحي الله والقول لهم بعد ذلك أنتم وشأنكم وليس بيني وبينكم مجال للخصومة والتنازع، ولكم أعمالكم وأنتم مسؤولون عنها ولنا أعمالنا ونحن مسؤولون عنها ومرد الجميع إلى الله وهو يحكم بيننا بالعدل ويقضي بالحق.
تعليق على آية فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ
والآية استمرار في السياق كما هو واضح، ومن المحتمل أن ينصرف ضمير الجمع المخاطب فيها إلى الذين ورثوا الكتاب وتفرقوا في دين الله كما أن من المحتمل أن ينصرف إلى المشركين. ومع أن معظم المفسرين «1» صرفوه إلى المشركين فإن روح العبارة ومقامها يلهمان أن صرفه إلى الذين ورثوا الكتاب هو الأولى.
وعلى كل حال فإن فيها تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتوكيدا عليهم بالاستقامة على ما هم عليه من حق وهدى وعدم متابعة الأهواء والنزعات التي أدت إلى انحراف الأمم السابقة عن كتب الله ودينه الذي شرعه. وإعلانا للعقيدة الإسلامية في صدد ربوبية الله الشاملة للجميع، وفي صدد الكتب السماوية وأصحابها حيث تقرر وحدة الله وربوبيته الشاملة للجميع، وتؤمن بما أنزل الله من كتاب وتأمر
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.(4/447)
بالعدل والإنصاف مع الذين لا يدينون بالإسلام وبتركهم وشأنهم إذا ما التزموا نفس الموقف إزاء المسلمين وتفوض أمر الجميع إلى الله عز وجل ليؤيد من كان على الحق وثبت فيه، ويخزي ويعاقب من انحرف عنه. وفي هذا ما فيه من اتساق مع المبادئ القرآنية المحكمة والتلقين الجليل المستمر المدى.
وفي أمر الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالقول إنه أمر بإعلان إيمانه بكل ما أنزل من كتاب وبأن ربه وربهم واحد بعد أن قررت الآيات السابقة لهذه الآية وحدة المنبع والمنهج بينهم هدف عظيم المدى وهو فتح باب اللقاء والتفاهم على مصراعيه بين أهل القرآن وأهل الكتب السابقة ليتكون منهم جبهة واحدة متحدة في توحيد الله والدعوة إليه وإلى المبادئ السامية الأخلاقية والاجتماعية التي احتوتها كتب الله والتزامها تحت راية الإسلام التي هي راية أهل الكتاب وأنبيائهم معا تبعا لوصفهم بالإسلام والمسلمين في آيات كثيرة مكية ومدنية منها آيات سورة البقرة هذه:
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ، وكذا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ...
[128] ، وآية سورة آل عمران هذه: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وآية سورة المائدة هذه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) ، وآية سورة يونس هذه: وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) وآية سورة القصص هذه: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) وآية سورة الحج هذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ... «1» [78] .
ولقد ظلت أوامر القرآن بعد هذه الآية تترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان ما أمر
__________
(1) هناك آيات كثيرة أخرى من هذا الباب مكية ومدنية.(4/448)
بإعلانه في هذه الآية. ومنها آيات واسعة شاملة مثل آية سورة البقرة هذه:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) «1» تحصيلا لذلك الهدف العظيم.
ولقد تحقق هذا الهدف بمقياس واسع بما كان من إيمان معظم النصارى وفريق من أهل العلم من اليهود في الحجاز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبي والقرآن وانضووا إلى الراية الإسلامية على ما قررته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة «2» . كما آمن بها معظم الكتابيين من مسيحيين وموسويين في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال افريقية وجنوب أسبانية نتيجة لما ظهر لهم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن وحملة رايته وإذا كان بقي منهم من لم يؤمن بهما فمرد ذلك إلى أسباب أخرى قررتها آيات قرآنية عديدة أوردناها في مناسبات سابقة أيضا «3» . وما يزال هذا الهدف قائما إلى الآن وإلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله الحق في آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) .
هذا، والمتبادر أن الآية وهي تقرر العقيدة الإسلامية بالإيمان بما أنزل الله من كتاب إنما عنت كتب الله التي لا تحريف فيها. هذا في حين أن ما هو متداول اليوم من أسفار العهدين القديم والجديد لا يمكن أن يتصف بصفة كتاب الله وفيها دلالات حاسمة على أنها من تأليف كتّاب متعددين في ظروف مختلفة. وفيها ما
__________
(1) هناك آيات أخرى من بابها أيضا.
(2) اقرأ آيات سور: آل عمران [112- 113 و 199] والنساء [162] والمائدة [83- 84] والأنعام [114] والرعد [36] والإسراء [107- 108] والقصص [51- 53] والعنكبوت [46] والأحقاف [10] .
(3) اقرأ آيات سور: البقرة [40- 148] وآل عمران [69- 120] والنساء [44- 55] والمائدة [12- 19 و 59- 66] والتوبة [29- 34] .(4/449)
هو منسوب إلى الله ورسله مع تنافيه مع المبادئ القرآنية المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية مثل ربوبية الله الشاملة ووحدته المطلقة المنزهة عن كل شائبة ومبادئ الحق والعدل والرحمة والإنسانية والمساواة وحظر الربا والظلم والبغي والعدوان والمنكرات والآثام إلخ على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف. ولقد أكد القرآن وقوع تحريف وإخفاء ونسيان في كتب الله المنزلة كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) ، وهذه:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) ، وسورة آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ، وسورة المائدة هذه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ(4/450)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) .
والمتبادر من هذا أن العقيدة الإسلامية تظل مقيدة بالنص القرآني المطلق آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وعدم الاعتراف بنسبة أي شيء إلى الله ورسله إذا كان يتنافى مع المبادئ والمثل العليا المحكمة الإيمانية والأخلاقية. ولقد جاء في سورة المائدة هذه الآية: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ... [48] بحيث يسوغ القول إن الله عز وجل قد جعل القرآن- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد- للمسلم مقياسا يقيس عليه ما ينسب إلى الله مما في المتداول من الكتب الدينية فما اتسق فيه من المبادئ والمثل المحكمة مع مثلها في القرآن جاز أن يكون من عند الله وحسب والله تعالى أعلم.
وقد ركزنا الكلام على الكتب التي في أيدي النصارى واليهود لأنهم الذين يعنيهم القرآن بالدرجة الأولى بتعبير أهل الكتاب والذين كان بينهم وبين العرب قبل الإسلام ثم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصال مباشر على ما ذكرناه في التعليق على أهل الكتاب في سورة المدثر. وقد نبهنا في هذا التعليق على أن تعبير أهل الكتاب أوسع من أن يقتصر على اليهود والنصارى وأنه لا مانع من أن يشمل كل ملة تدعي أن في يدها كتابا منسوبا إلى الله وموحى به إلى أحد رجالها العظماء القدماء وعليه سمة من سمات كتب الله المعروفة ومن ذلك الكتب المنسوبة إلى عظماء رجال من الهند والصين وغيرهما وفيها شرائع ووصايا وتعاليم وعقائد ولو كان ما فيها أو بعض ما فيها مخالفا للقرآن لأن هذا شأن الكتب التي يتداولها اليهود والنصارى اليوم فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
[سورة الشورى (42) : آية 16]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)(4/451)
(1) داحضة: ساقطة أو باطلة.
تقرر الآية بأن حجة الذين يجادلون في وحدة الله وصفاته واستحقاقه للعبادة والولاء وحده وما في دعوة رسوله من حقّ وصدق قد سقطت وبطلت بعد أن ظهر الحق واستجاب إلى الدعوة أصحاب الرغبة الصادقة في الحق البريئون من العناد والمكابرة وعلى الذين يحاجون ويكابرون بعد ذلك غضب الله وعذابه الشديد.
تعليق على آية وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
والآية جاءت معقبة على الآية السابقة لها مباشرة في الدرجة الأولى وعلى الفصل القرآني جميعه بصورة عامة. وقد انطوى فيها ردّ على المشركين الذين رجحنا أنهم هم الذين كانوا يتحججون بما عليه أهل الكتاب من انقسام وخلاف، ومعنى الاستعلاء عليهم والإفحام لهم في الآية قوي.
والمتبادر أن الآية قد عنت استجابة من استجاب إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب بالإضافة إلى من استجاب إليها من العرب. وهذا مما يقوي في الآية ذلك المعنى، ومما يقويه بقوة وروعة وشمول أن الذين استجابوا إلى الدعوة في العهد المكي كانوا يمثلون البشرية جميعا تقريبا تمثيلا تاما على اختلاف الطبقات والألوان والأقطار والأجناس والأديان والنحل حيث كان فيهم الغني والفقير والشريف والمسكين والزعيم والصعلوك والشباب والشيوخ والنساء والرجال والصبيان والفتيات والأحرار والأرقاء والتاجر والصانع والزارع والراعي والحضري والبدوي والقرشي وغير القرشي والشامي والمصري والعراقي واليمني والفارسي والرومي والحبشي والسوداني والمشرك والصابئي والحنيفي والوثني والكوكبي والمجوسي واليهودي والنصراني. فكان في الجماعة الإسلامية الأولى التي تكونت تحت زعامة النبي صلى الله عليه وسلم نموذج رائع للمجتمع الإنساني الذي استهدفت الرسالة المحمدية إقامته(4/452)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
من جميع الأجناس والألوان والطبقات يدينون لربّ واحد شامل الربوبية، متصف بجميع صفات الكمال منزه عن الشوائب في نطاق الأخوة والمساواة والحرية والعدل والإحسان والبر والتعاون والتضامن والتوادّ والمحبة والسلام والتسامح. لا يطغى فيه ولا يتعالي قوي على ضعيف ولا غني على فقير ولا زعيم على صعلوك، يؤخذ من غنيهم لفقيرهم ويرحم قويهم ضعيفهم، ويعين قادرهم عاجزهم ويؤيد أعلاهم أدناهم. ويجيز أدناهم على أعلاهم ويتساوى نساؤهم مع رجالهم في الحقوق والواجبات والتكاليف والنتائج الدنيوية والأخروية يتفانون في الله ورضوانه ويجاهدون في سبيله ويحملون راية دعوته ويدعون إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلّا من ظلم وبغى. لا يستبد أحد منهم في رأي، وأمرهم شورى بينهم. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يجتنبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويتقون الله في السر والعلن ويقومون بواجبهم نحو الله والناس لا يبغون ولا يعتدون على أحد ولا يرضخون لظلم ولا بغي، لا يضيقون بمن يريد أن يحتفظ بدينه إذا هو وادّهم وسالمهم بل يبرونه ويعطونه حقه ويحكمون له إذا تقاضى عندهم بالحق وتكون له حريته الدينية والمدنية والقضائية يطيعون ولاة أمورهم الذين يجب أن يكونوا منهم فيما لا معصية فيه. ويأخذون حظهم من الدنيا كسبا وسعيا ومتاعا. ويستمتعون بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق من دون إسراف وينتفعون بكل ما في الكون من نواميس ومنافع مما احتواه القرآن في مختلف فصوله المكية والمدنية واحتوته السنة النبوية الثابتة القولية والفعلية.
وهذا التمثيل للبشرية في الإسلام ظل مستمرا بعد الهجرة مع اتساع نطاقه ثم ظل مستمرا بعد النبي صلى الله عليه وسلم مع اتساع نطاقه كذلك إلى الآن وسيظل إلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله ويظهر الإسلام على الدين كلّه مما يزيد معنى العبارة القرآنية قوة بعد قوة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 18]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)(4/453)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
(1) الميزان: هنا كناية عن العدل أو العقل الذي يزن المرء به الحق والباطل، أو القدرة على الموازنة بين الحق والباطل وكل هذا ما أورده المفسرون في تأويل الكلمة، وبعضهم روى أنه الميزان العادي ولكن هذا لا يتوافق مع روح العبارة القرآنية.
احتوت الآيتان توكيدا بأن الله هو الذي أوحى بالكتاب لرسوله وهو حقّ لا يتحمل مراء، ووهب الناس قوة الموازنة بين الحق والباطل ليستطيعوا تمييز الحق واتباعه، وعين لهم موعدا بعد الموت يبعثهم فيه ليحاسبوا فيه على أعمالهم.
وتنبيها على أن هذا الموعد أقرب مما يظنه السامع، وبيانا بأن الذين يستعجلون هذا الموعد هم الذين لا يؤمنون به في حين أن المؤمنين يعرفون أنه حق لا ريب فيه ويحسبون حسابه في تهيب وإشفاق، وتقريعا للكفار بتقرير كونهم في مماراتهم وشكّهم في الآخرة موغلين في الضلال والباطل.
والآيتان متصلتان بما سبقهما فقد جاء في الآية السابقة لهما أن الله يجمع بين الناس وأن المصير إليه فجاءت الآيتان لتوكيد ذلك.
والاستعجال الذي ذكر في الآية الثانية كان يقع من الكفار على سبيل التحدي وفي معرض الإنكار والجحود والاستخفاف مما تكررت حكايته عنهم ومرت أمثلة عديدة منه حيث يبدو أنهم لا يفتأون يكررونه تحديا واستخفافا.
[سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 20]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
. (1) الحرث: هنا بمعنى الثواب أو الحظ أو النفع.(4/454)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
في الآية الأولى تنبيه إلى لطف الله بعباده ورزقه لمن يشاء دون مانع ولا حائل، وتنويه بصفتي القوة والعزة اللتين يتصف بهما.
وفي الثانية تنبيه إلى أن الذين يبتغون الآخرة بإيمانهم وعملهم الصالح يزيد الله حظهم فيها وأن الذين يكتفون بحظ الدنيا ولا يحسبون حساب الآخرة قد ينالون منها ما يبتغون ثم لا يكون لهم في الآخرة حظ ولا نصيب.
والآيتان متصلتان بما سبقهما حيث ذكر في الآيات السابقة الساعة أو يوم القيامة أو الآخرة فجاءت الآيتان في صدد ذلك أيضا.
والظاهر أن الكفار كانوا يتبجحون بما أوتوا من رزق وقوة ويرون في هذا دليلا على حظوتهم عند الله. فأريد بالآيتين الردّ عليهم وتقرير حقيقة الأمر في أحوال الناس الدنيوية وكونها مظهرا من مظاهر ناموس الله في ملكوته. وبيان كون ما يتيسر للناس في الدنيا من حظ لا يغني عنهم شيئا إذا لم يبتغوا وجه الله ويحسبوا حساب الآخرة بالإيمان والعمل الصالح.
وتبجح الكفار بقوتهم وما أوتوه من سعة عيش وكثرة أموال وأولاد قد تكرر، وفي آية من سورة سبأ حكى عنهم اعتقادهم أن ذلك سوف يقيهم من العذاب على ما مرّ شرحه في تفسير السورة المذكورة. وقد ردت آيات من السورة عليهم برد قوي مماثل في روحه للرد الوارد في هذه الآيات أو المنطوي فيها الذي شرحناه في التعقيب الذي أوردناه آنفا.
[سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 22]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
. في الآية الأولى تساؤل استنكاري عما إذا كان للمشركين شركاء شرعوا لهم(4/455)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
دينا لم يشرعه الله ولم يأذن به. وإنذار للظالمين المنحرفين عن حدود الله المتمردين على عبادته وحده بالعذاب الأليم على ما بدا منهم من الجرأة والزعم، وتعليل لتأخر هذا العذاب بالحكمة الربانية التي اقتضت تأجيل الفصل بين الناس إلى يوم القيامة.
وفي الآية الثانية صورة لما سوف يكون من أمر الظالمين في ذلك اليوم حيث يستولي عليهم الخوف من نتائج تمردهم وسوء أعمالهم التي هي واقعة عليهم حتما في حين يكون الذين آمنوا بالله وحده وقدموا صالح الأعمال منعمين في روضات الجنات يتمتعون بما يشاءون واحتوت الفقرة الأخيرة تنويها بهذا المصير السعيد الذي هو فضل عظيم للمؤمنين على الظالمين.
والآيتان استمرار للسياق والموضوع كما هو المتبادر، ولقد كان المشركون يزعمون أن ما هم عليه متصل بما شرعه الله وأن الله راض عنهم مما حكته آيات عديدة عنهم مرت أمثلة منها في السور السابقة. والظاهر أنهم كرروا ذلك في ظروف نزول هذه السورة وما ورد فيها من الإشارة إلى ما شرعه الله للناس على لسان أنبيائه فاحتوت الآيات تنديدا وردّا وإنذارا واستطرادا إلى ذكر المؤمنين الصالحين ومصيرهم بالمقابلة، جريا على الأسلوب القرآني.
[سورة الشورى (42) : آية 23]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
. في الآية تنبيه على أن ما ذكر في الآية السابقة من المصير السعيد هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمخاطبين إني لا أسألكم أجرا إلّا المودة في القربى، وتقرير بأن الذي يفعل الحسنة يزاد له فيها ويضاعف أجره لأن الله غفور شكور يعامل عباده الصالحين بالمغفرة والتقدير.
وكلمة ذلِكَ تبدو بمثابة الرابطة بين هذه الآية وما سبقها كما هو المتبادر.(4/456)
وفي الآية أمر مؤكد للأوامر السابقة للنبي بإعلان قومه بأنه لا يطلب منهم على مهمته نفعا ولا أجرا إلا المودة في القربى. وفيها حث على الاستجابة إلى الله وترغيب في عمل الصالحات وتبشير بصفات الله الغفور الشكور وتقرير لقابلية الناس على الاختيار وجزاؤهم على اختيارهم أيضا.
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية احتوت توكيدا للمعنى الذي انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية [20] السابقة بأسلوب آخر حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت مواصلة تطمين الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي ترضي الله تعالى بمضاعفة ثوابهم في آيات متتالية. وفي هذا ما فيه من حثّ على العمل الصالح وقد تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة.
تعليق على جملة قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
ولقد تعددت الأقوال والروايات في معنى الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها مدنيات. وروى الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن تفسير أبي حمزة الثمالي عن ابن عباس أن الأنصار جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استحكم الإسلام في المدينة فقالوا له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها في غير حرج ولا محظور عليك فنزلت الآية فقرأها عليهم وقال: تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد أن يذلنا لقرابته من بعده فأنزل الله الآية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ... فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله الآية التي بعدها: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فأرسل في أثرهم فبشرهم، وقد أخرج الطبراني حديثا عن ابن عباس مقاربا لما جاء في هذه الرواية «1» .
__________
(1) انظر مجمع الزوائد ج 7 ص 102- 103.(4/457)
هذا من جهة رواية مدنية الآية والآيتين اللتين بعدها، وسبب نزولها، وهناك روايات وأقوال عديدة في تأويل الآية بصورة عامة استقصاها الطبري والطبرسي أكثر من غيرهما فمما رواه الطبري أن ابن عباس سئل عن الآية فقال ابن جبير:
القربى فيها هي قربى آل محمد. فقال ابن عباس: «عجلت إنّ النبيّ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فنزلت الآية تذكر ذلك وتقول لقريش (إلا أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم) وقد روى البخاري والترمذي هذه الرواية في كتابيهما أيضا «1» . ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة في جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم وذلك قول الآية: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ومما رواه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قوله: «قال محمد لقريش: لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكنّي أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم فإنّكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني» ومثل هذه الأقوال ومن بابها أقوال مروية في الآية عن عكرمة وحصين بن مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وعطاء بن دينار وابن وهب.
وإلى جانب هذه الأقوال التي يرويها الطبري يروي أيضا روايات مناقضة لها حيث يروي أن رجلا من أهل الشام قال لعلي بن الحسين لما جيء به إلى دمشق بعد مقتل أبيه: الحمد الله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة. فقال له:
أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟ قال: نعم وإنّكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وحيث يروى أيضا أنّ سعيد بن جبير قال: إن كلمة الْقُرْبى في الآية تعني قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عمرو بن شعيب أوّلها بمثل ذلك. وقد روى الطبري إلى جانب هذه الروايات وتلك عن الحسن أن القربى في الآية بمعنى القربى إلى الله. وعن قتادة أن الجملة في الآية بمعنى التودد والتقرب إلى الله بالطاعة.
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 203- 204.(4/458)
ومما رواه الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) عن الحسن والجبائي وأبي مسلم أن معنى الآية: «لا أسألكم أجرا إلا التواد والتحابب وما يقرب إلى الله من العمل الصالح» أو «التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة» . كما روى عن ابن عباس أنها تعني: «لا أسألكم إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم وتحفظوني لها» . وعن قتادة ومجاهد: «أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم» . وعن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وأبي جعفر وأبي عبد الله: «أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم» . وعن الحسن: «إنّا أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» . وعن ابن عباس: «لما نزلت الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم؟ فقال: هم عليّ وفاطمة وولدهما» «1» .
وتعليقا على ما تقدم نقول: أما من ناحية مدنية الآية فالملحوظ أنها متصلة أوثق اتصال بالآية السابقة لها نظما وموضوعا. وهذا ما يلحظ أيضا بالنسبة للآيتين التاليتين لها اللتين ذكرت الروايات أنهما مدنيتان مثلها، ويلحظ أن رواية نزولها في المدينة معزوة إلى ابن عباس الذي رويت روايات عديدة عنه في تأويل الآية تأويلا يصرفها عن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها حديث صحّ عند البخاري والترمذي وليس يخفى ما في رواية نزولها في المدينة من غرابة بل وتهافت وقصد تلفيق وتطبيق.
ولعل قصد صرف الآية إلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو صلة بها لأن ذلك يكون ممتنعا البتة في حالة مكية الآية حيث كان أكثر أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهد المكي ومنهم أعمامه أبو طالب وأبو لهب والعباس كفارا، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها قد تزوجت، ولم يكن الحسن والحسين قد ولدا بعد. ولذلك فنحن نشك في رواية مدنية الآية والآيتين التاليتين لها. وأما من ناحية صرف الآية إلى أقارب
__________
(1) علق ابن كثير على هذه الرواية بقوله: إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل والآية مكية ولم يكن لفاطمة إذ ذاك أولاد.(4/459)
النبي صلى الله عليه وسلم أو فاطمة وعلي وولدهما فمع أن البرّ بالصالحين المتقين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومودتهم واحترامهم واجب مسلّم به بقطع النظر عما إذا كان هناك نصّ قرآني أو حديث نبوي «1» فإن حمل العبارة على ذلك في معرض أجر للنبي صلى الله عليه وسلم على مهمته ودعوته لا يتسق قط مع علوّ شأن النبوة ومصدرها الرباني ولا مع الآيات العديدة التي تضمنت أوامر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس إنه لا يسألهم على مهمته أجرا ولا خرجا وليس له أي غاية شخصية دنيوية مما مرّ منه أمثلة عديدة.
ولذلك نرى التأويلات الأخرى التي وردت في صدد الزيادة الاستثنائية التي نشأ عنها ذلك المفهوم هي الأولى والأصوب من حيث إنها قصدت أن تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان قومه أنه لا يسألهم على رسالته أجرا ولا يقصد نفعا خاصا وكل ما يطلبه أو يرجوه هو هدايتهم أو مودته أو عدم أذيته أو عدم الصد عن دعوته وأن هذا هو ما توجبه القرابة التي بينه وبينهم، ولا سيما أن من هذه التأويلات ما صح عند
__________
(1) ومن الواجب أن نذكر أن هناك أحاديث عديدة في وجوب محبة واحترام أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعترته منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة. وهذا يجعل ذلك الواجب أمرا دينيا وإيمانيا ملزما. ومن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي» . فقال الحصين- راوي الحديث عن زيد- لزيد: «ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم يا زيد؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» .
التاج ج 3 ص 308- 309.
وهناك صيغ عديدة أخرى لهذا الحديث من طرق أخرى، وهذه الصيغة أوسعها إسهابا وأوثقها سندا، وروى الترمذي عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبّوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبّوني بحبّ الله وأحبّوا أهل بيتي بحبّي» . تفسير الآية لابن كثير.
وهناك أحاديث أخرى منها ما هو في صدد أفراد معينين من آل البيت. وفيها الجيد السند وفيها الضعيف فاكتفينا بما أوردناه الوارد في جميع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عامة والقوي الإسناد.(4/460)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
البخاري والترمذي عن ابن عباس وهو من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في التأويلات الأخرى ما في رتبة ذلك ولا قريب منه. وقد ذكر في سياق الحديث الذي أخرجه الطبراني أن بعض رواته ضعفاء، ولقد قال الطبري بعد أن أورد جميع الأقوال: «إن أولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال لا أسألكم إلا أن تودوني في قرابتي منكم وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم وإن دخول حرف (في) مما يؤيد ذلك إذ لو كان قصد الآية مودة قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل هذا الحرف ولكانت الجملة «إلا مودة القربى» لا «المودة في القربى» . ولقد قال ابن كثير بعد أن أورد كثيرا من الأقوال والروايات التي أوردناها والأحاديث التي وردت في وجوب مودة واحترام ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم: «والحق هو تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس» . يعني التفسير الذي رواه البخاري والترمذي ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم ذرية طاهرة من أشرف بيت وجدّ على الأرض فخرا وحسبا ونسبا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الواضحة الجليلة «1» ، وجمهور المفسرين في جانب هذا التفسير «2» أيضا.
[سورة الشورى (42) : آية 24]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)
. في الآية تساؤل استنكاري عما إذا كان الكفار يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يفتري على الله الكذب وردّ مفحم على ذلك بأن الله قادر لو كان قولهم صحيحا على أن يختم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ويطمس على بصيرته ويمحو الباطل المفترى عليه ويحق الحق. فهو العليم بما في الصدور المحيط بكل شيء القادر على كل شيء.
والآية غير منقطعة عن السياق وإن كانت تحكي زعما للكفار وترد عليه.
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير. [.....]
(2) انظر تفسير الزمخشري والخازن والبيضاوي والبغوي والقاسمي أيضا.(4/461)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
واتصالها ملموح بصورة خاصة بالآية [21] وما قبلها حيث حكت تلك الآيات أقوال المشركين ومواقفهم وحيث احتوت هذه حكاية قول آخر من أقوالهم.
ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآية السابقة أن هذه الآية مما روى مدنيتها معها، وشكنا في رواية الآية السابقة ينسحب على رواية هذه الآية بطبيعة الحال.
ويلحظ أن أسلوب هذه الآية ومضمونها مما تكرر في آيات مكية وأن الصورة التي انطوت فيها هي من صور العهد المكي على الأعم الأغلب.
وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه به في الآية يتجلى فيه بصورة رائعة إخلاص النبي صلى الله عليه وسلم وعمق شعوره بصدق صلته بالوحي الرباني واستشعاره هيبة الله عز وجل وانتفاء أي احتمال لنسبة شيء ما إليه لم يكن قد أوحى إليه به، ومن شأن ذلك أن يفحم كل مكابر متعنت.
[سورة الشورى (42) : الآيات 25 الى 26]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)
. في الآيات تقرير بأن الله تعالى يقبل توبة التائبين إليه ويعفو عن السيئات ويعلم جميع ما يفعله الناس فيستجيب للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ويمنحهم عطفه ويزيدهم من فضله أما الذين كفروا فليس لهم عنده إلا شديد العذاب.
وكلمة وَهُوَ التي تبدأ بها الآيتان تدل على اتصالهما بما قبلهما كما هو المتبادر. ولا سيما أن الآيات السابقة قد ذكر الله تعالى فيها وجاءت هذه الآيات بعدها فاكتفت بالعطف عليه والإشارة إلى الله عز وجل بلفظ (هو) . ومن المحتمل أن يكون استهدف في الآيتين إعلان كون باب الله مفتوحا للناس الذين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم ويبشرهم مما ذكر في الآيات السابقة وبذلك يبدو الاتصال واضحا.(4/462)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
والمتبادر أن جملة وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ مرتبطة بالجملة التي قبلها ونتيجة لها ومتضمنة تقرير عفو الله عن سيئات الذين يتوبون إليه ويرجعون عن تصرفاتهم وأعمالهم الآثمة. وفيها تشجيع رباني على التوبة مما تكرر في مواضع كثيرة في القرآن وعلقنا على ما فيه من مبدأ قرآني عظيم في سياق سورة البروج.
ولقد ساق المفسرون «1» في سياق هذه الجملة بعض أحاديث نبوية فيها تشجيع كبير على التوبة منها حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» .
ومنها حديث رواه الأغر بن بشار المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» .
ومنها حديث رواه عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتدّ الحرّ والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه» .
[سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 31]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
__________
(1) انظر تفسير الخازن وابن كثير.(4/463)
في الآيات:
1- تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه.
2- وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده.
3- وتنبيه على أن الله عز وجل هو الذي ينزل المطر بعد ما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليّهم الذي يبرّ بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد.
4- وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث، فهو الذي خلق السموات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء لأنه هو الذي خلقهم في البدء.
5- وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلّا بقليل مما يستحقون لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير.
6- وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه.
وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون(4/464)
بصفات الله تعالى وأفعاله المذكورة في الآيات، وهذا مما يزيد في قوة الآيات ومداها كما هو المتبادر.
تعليق على آية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ إلخ
ويلوح لنا أن الآية [30] وهي تنبه إلى أن ما يصيب الناس من مصائب هو من كسب أيديهم قد قصدت تقرير ما هو متسق مع الواقع والحق والعقل وهو أن ما يصيب الناس في أغلب الأحيان من مصائب وبلاء وشرور وأضرار وأخطار إنما هو نتيجة لتصرفاتهم وأعمالهم، فليس لهم أن يوجهوا لومهم على ذلك إلى غيرهم.
ومن واجبهم أن يترووا في أعمالهم وتصرفاتهم ليتقوا تلك الأضرار والأخطار.
ومع ما قلناه أنه المتبادر اللائح من الآية [30] فهناك أحاديث نبوية يرويها المفسرون في سياقها، منها حديث رواه البغوي بطرقه عن الحسن قال: «لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمّد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلّا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» . وحديث رواه البغوي بطرقه أيضا عن أبي سخيلة قال: «قال علي بن أبي طالب: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عزّ وجلّ حدّثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير» . قال وسأفسرها لك يا علي. «ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله عز وجل أكرم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة. وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه» .
ولسنا نرى في الحديثين نقضا لما تبادر لنا بل فيهما تدعيم له وإن كان فيهما بالإضافة إلى ذلك تبشير وتطمين للمسلمين يجعلانهم يتقبلون ما يقع عليهم بالرضاء والإذعان، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل. ولقد أورد ابن كثير في سياقه أحاديث فيها تدعيم لهذا التلقين الإضافي. منها حديث رواه الإمام أحمد عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفّرها» . وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن معاوية بن(4/465)
أبي سفيان قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفّر الله تعالى عنه من سيئاته» .
تعليق على آية وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [27] وهي أولى هذه الآيات مدنية. وروى المفسر الخازن رواية مؤيدة لذلك عن خباب بن الأرت رضي الله عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الآية نزلت فينا وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله الآية» . والذي نلحظه أن الآية منسجمة في الآيات الأخرى سبكا وموضوعا انسجاما تاما. وأن آيات لا خلاف في مكيتها قد احتوت شيئا مما احتوته مرت أمثلة منها في السور السابقة وبخاصة في سورة سبأ. ولا تظهر حكمة لوضعها في السياق المكي الذي وضعت فيه لو كانت مدنية وهذا فضلا عن أن مضمونها لا ينطبق تماما على فحوى الرواية وبناء على ذلك كله فنحن نتوقف في رواية مدنيتها.
وهذا لا يمنع من أن يكون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظهروا عجبهم مما في أيدي يهود المدينة من ثروات فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية مذكرا بحكمة الله ومشيئته ونواميسه في بسط الرزق وقبضه، فظن بعضهم أنها نزلت حديثا.
وقد يكون نزول الآية في مكة متصلا بسبب مثل ذلك حيث يكون الكفار قد تبجحوا بثروتهم وغناهم وقد حكت آيات عديدة عنهم ذلك، أو يكون بعض المسلمين قد تساءلوا عن حكمة ذلك فجاءت لترد على أولئك أو تطمئن هؤلاء وظلت تساق في هذا المعرض، وفي الآية [36] الآتية بعد قليل قرينة ما على ذلك على ما سوف نشرحه بعد.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية حينما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها، فقال قائل: هل يأتي الخير بالشرّ يا نبي الله؟ فردّد السؤال ثم نزل عليه الوحي فلما فصل عنه قال: إن الخير لا يأتي إلّا(4/466)
بالخير ثلاثا ولكنه والله ما كان ربيع قط إلّا أحبط أو ألمّ (هذا مثل عربي يراد به مخالطة المواد الضارة في نبات الربيع مع المواد النافعة) فإما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في سبيل الله التي افترض وارتضى فذلك عبد أريد به خير وعزم له على خير. وإما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في شهواته ولذاته وعدل عن حق الله عليه فذلك عبد أريد به شرّ وعزم له على شرّ.
ولقد ساق المفسر البغوي في سياق تفسير الآية حديثا قدسيا رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل جاء فيه: «يقول الله عز وجلّ: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة وإنّي لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد، وما تقرب إليّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» «1» .
وفي الحديث تطمين بأسلوب آخر لما قصدته الآية من تطمين على ما شرحناه قبل.
__________
(1) انظر تفسير البغوي للآية، والحديث رواه البغوي سماعا عن راو عن راو حتى يصل إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل. ونقله عنه الخازن وغيره من المفسرين.(4/467)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
تعليق على الآية وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)
ولقد قال واحد من الذين يحبون أن يستدلوا بالآيات على ما في الكون من أسرار وعوالم مغيبة إن في هذه الآية دليلا على أن الكواكب مأهولة بالأحياء. وأن القرآن بذلك يتطابق مع ما صار معلوما عند العلماء في هذه الأيام. والآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وهذا أمر ما يزال قيد الظن والتخمين وقد يثبت وقد لا يثبت.
والآية لم تنزل بسبيل ذلك، وإنما كانت تتلى على أناس يرون ما في الأرض والسماء من مختلف الأحياء الدابة على الأرض والطائرة في السماء لتنبههم إلى ما في ما يشاهدونه من مظاهر قدرة الله وعظمته وكونه هو الأحق بالعبادة والاتجاه وحده. ولقد نبهنا على هذا في مناسبات سابقة مماثلة وقلنا إن في محاولة استنباط المعارف والأسرار والمغيبات الكونية من الآيات تكلفا لا طائل من ورائه وإخراجا للقرآن عن قدسيته وهدفه وتعريضا له للجدل والتكذيب بدون وجه ومبرر. وأن الواجب على المسلمين أن يقفوا من هذه الآية وأمثالها عند ما يقف عنده القرآن دون تزيد ولا تكلف مع ملاحظة الهدف الذي ترمي إليه والذي تخاطب في صدده السامعين خطابا متصلا بما يشاهدونه ويحسونه ويمارسونه.
[سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 36]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
. (1) الجواري: جمع جارية وهي هنا كناية عن سفن البحر.
(2) الأعلام: كناية عن ارتفاعها فوق سطح البحر كأنها جبال.(4/468)
(3) رواكد: جمع راكدة أي واقفة عن السير.
(4) يوبقهن: يحطمهن.
في الآيات:
1- تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه.
فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة. وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفواتهم وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلّا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت.
2- وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أوتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلّا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه.
والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينحسب عليها بطبيعة الحال.
والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلّا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا(4/469)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
صور من صور ما كان بين المسلمين والكفار وقرينة على صحة ما أوردناه في سياق تفسير الآية [27] وشكنا في رواية مدنيتها.
ويلحظ هنا أيضا أن الآية [34] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [30] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم.
ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [36] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة مماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله.
وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن الشراعية، وهي التي قصد بها في جملة الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره.
[سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 43]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)(4/470)
(1) شورى: مصدر بمعنى التشاور والمشاورة وهي تبادل الرأي والتفاوض فيه.
(2) ينتصرون: من الانتصار بمعنى مقابلة العدوان بمثله ودفعه.
(3) الظالمين: هنا بمعنى المعتدين.
(4) ما عليهم من سبيل: ليس من محل للومهم ومؤاخذتهم.
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى:
1- فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
2- وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلّا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
3- وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البرّ ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث:
1- فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.(4/471)
2- والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون الناس بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.
3- وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
4- ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين «1» أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر «2» أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيّان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) ، وآية سورة الجاثية: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [14] وآية سورة النحل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أو عقب وفاته وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
(2) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.(4/472)
تعليق على آيات وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ... إلخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول إنها من جهة وصف لما كان عليه الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مرّ الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعدّ من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ قد ورد في الآية [34] من سورة النجم التي مرّ تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ووَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير(4/473)
أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو مظهر من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) عائدة للمعنى الثاني. وجملة: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وجملة: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ ... إلخ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ والغضب وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتّى يخيّره من أيّ الحور العين شاء» «2» . وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علّمني شيئا ولا تكثر عليّ لعلّي أعيه.
قال: لا تغضب. فردّد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب» «3» . وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم» «4» .
وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» «5» .
وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطي أحد عطاء خيرا
__________
(1) التاج ج 5 ص 43- 44.
(2) التاج ج 5 ص 43- 44.
(3) التاج ج 5 ص 43- 44.
(4) التاج ج 5 ص 44- 47.
(5) التاج ج 5 ص 44- 47.(4/474)
وأوسع من الصّبر» «1» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» «2» . وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا» «3» .
وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كفّ غضبه كفّ الله عنه عذابه» «4» . وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجرّع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله» «5» .
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيما بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
__________
(1) التاج ج 5 ص 44- 47.
(2) التاج ج 5 ص 44- 47.
(3) التاج ج 5 ص 44- 47.
(4) تفسير الآية [134] من سورة آل عمران. [.....]
(5) تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها.(4/475)
وجملة: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ... [109] وهذه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ...
[237] وآية سورة آل عمران هذه: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ، وآية سورة النساء هذه: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) ، وآية سورة النور هذه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) ، وآية سورة التغابن هذه:
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) . وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) ، وهذه: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) ، وآيات سورة النساء هذه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) ، وهذه:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ... [128] وهذه: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) ، وآيات سورة الأنعام هذه: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) ، وهذه: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) ، وآية سورة الأعراف هذه: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وآية سورة الأنفال هذه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ... [1] ، وآيات سورة الحجرات هذه: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(4/476)
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات والمهاترات والأحقاد بينهم.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك منها في صدد الإصلاح حديث يندد بالذين يلجون في الخصومة والمشاكسة رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصيم» «1» . وحديث يبرر استعمال أي أسلوب في سبيل الصلح رواه أبو داود والبخاري عن أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا» «2» .
وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة» «3» . وزاد الترمذي هذه الجملة في روايته: «لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدّين» «4» .
وهناك حديث مهم في بابه فيه تلقين أن الصلح يجب أن لا يحرّم حلالا ولا يحلّ حراما وقد رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما، والمسلمون على شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما» «5» .
أما في صدد العفو فمن ذلك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «إن رجلا قال: يا رسول الله إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ. فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على
__________
(1) التاج ج 3 ص 63- 64.
(2) التاج ج 3 ص 63- 64.
(3) التاج ج 3 ص 63- 64.
(4) التاج ج 2 ص 202- 203.
(5) التاج ج 2 ص 202- 203.(4/477)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
ذلك» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟ فصمت، فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: في كلّ يوم سبعين مرة» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» «3» .
هذا، ولقد زعم بعض الأغيار أن فكرة الجهاد في الإسلام إنما وجدت في العهد المدني وأن مبادئ العفو والتسامح مع غير المسلمين إنما نزلت في العهد المكي ثم أهملت في العهد المدني. وهذا تجنّ وخطأ معا، فالذي ينعم النظر في هذه الآيات يرى فيها نواة فكرة الجهاد على نفس الأسس التي قام عليها تشريع الجهاد في القرآن المدني على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) وهي قتال المعتدي ودفع البغي وتأمين حرية الدعوة الإسلامية وعدم الإسراف في المقابلة بالمثل. كما أن الذي ينعم النظر في كثير من الآيات المدنية يجد أن الباب ظل كما هو الحال في القرآن المكي مفتوحا دائما للتائبين والمنيبين والمنتهين عن مواقفهم الجحودية العنيدة المؤذية، وأن القرآن المدني حثّ في كثير من آياته على العفو والتسامح والغفران والوفاء بالوعود والعهود والعدل والبرّ مع غير المسلمين الموادين والمسالمين «4» .
[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
__________
(1) التاج ج 5 ص 9 و 11 و 46. (الملّ: الرماد الحار) .
(2) التاج ج 5 ص 9 و 11 و 46. (الملّ: الرماد الحار) .
(3) التاج ج 5 ص 9 و 11 و 46. (الملّ: الرماد الحار) .
(4) انظر مثلا آيات سورة البقرة [108] والنساء [26 و 90 و 94 و 145 و 146] والمائدة [2 و 8 و 23 و 32- 33 و 42] والأنفال [18 و 38- 39 و 61- 72] والتوبة [4 و 7] والممتحنة [8- 9] .(4/478)
(1) الظالمين: يمكن أن تكون الكلمة تعني الكفار المشركين كما يمكن أن تعني البغاة المعتدين. والمعنى الأول هو الأكثر ورودا في هذا المقام مع انطوائه على معنى العدوان والبغي في الكفر والشرك.
(2) مردّ: هنا بمعنى رجعة أو عودة إلى الدنيا.
في الآيات تنبيهات تضمنت إنذارات قوية للظالمين، فالذين يستحقون غضب الله وخذلانه بسبب ظلمهم وجحودهم لن يكون لهم نصير ولا ولي بعده، ولسوف يندمون على ما بدا منهم حينما يرون عذاب الله ويتساءلون تساؤل المضطرب المتحسر الفزع عما إذا لم يكن من سبيل للعودة إلى الدنيا لتلافي ما كان منهم. ولسوف يرون حينما يعرضون على النار وقد انهدت قواهم وتزلزلت أعصابهم من الفزع يرسلون نظرات الرعب والذل من تحت أحداقهم كما يفعل الذليل الجبان حينما يواجه الشدائد والأخطار وحينئذ يتيقن المؤمنون ويقولون إن الخاسرين الحقيقيين هم الذين يخسرون يوم القيامة أنفسهم وأهليهم حيث يكونون في عذاب دائم لا نهاية له ولا مخلص منه. ولن يكون لهم أولياء ينصرونهم وهذا هو مصير من يستحق غضب الله وخذلانه حيث لا يكون له منفذ ينفذ منه أو طريق يصل منه إلى الأمن والسلامة.
وواضح أن الآيات قد جاءت تعقيبا على الآيات السابقة لها وفي معرض المقابلة والمفاضلة بين حالتي المؤمنين والكفار ومصير كل منهم. والاتصال بينها وبين ما سبقها قائم والحالة هذه. والصورة قوية مفزعة حقا. وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار الآثمين وإثارة الطمأنينة في قلوب المؤمنين، ونعت الذين يضلهم الله بالظالمين والخاسرين وتقرير كونهم فقدوا النصير والولي قرائن مؤيدة لشرحنا العبارة(4/479)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
وتوجيهها، وللتعليقات التي علقناها على ما يماثلها من عبارات سابقة كما هو المتبادر.
[سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 48]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
. (1) مردّ: هنا بمعنى لا راد له ولا دافع.
(2) نكير: هنا بمعنى نصير، وأصل معناها الذي ينكر ما يحدث من الأمور ويعترض عليها.
في الآية الأولى وجه الخطاب للسامعين بصيغة الجمع المخاطب فهتفت بهم حاثة على الاستجابة إلى دعوة الله والارعواء عما هم فيه من انحراف عن طريق الحق قبل أن يأتي اليوم الذي لا راد له ولا مفلت من الله فيه والذي لن يكون لأحد فيه ملجأ ولا نصير من دون الله. وفي الثانية وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة الانتقال والالتفات فنبهته إلى أن الله تعالى لم يجعله رقيبا على الناس ومسؤولا عنهم وضامنا لاستجابتهم إذا هم ظلوا على ضلالهم وإعراضهم عن الدعوة وأنه ليس عليه إلا الإنذار والبلاغ. واحتوت الآية بعد ذلك تعقيبا تقريعيا للإنسان أو للجنس الإنساني بصورة عامة، فهو إذا منحه الله نعمة بطر وفرح واغترّ ونسي الله تعالى، وإذا أصابته سيئة بسبب آثامه وأخطائه يئس وكفر.
والآيتان جاءتا على ما هو المتبادر معقبتين على الآيات السابقة لها، والاتصال بين السياق قائم والحالة هذه.
والآية الأولى وإن كانت موجهة للسامعين إطلاقا فإن روح الآية الثانية(4/480)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
وفحواها يلهمان أن الخطاب فيها موجه للكفار وأنها بسبيل حثهم على الانتهاء من موقف الجحود والمكابرة قبل فوات الوقت والندم على ذلك. كذلك الأمر بالنسبة للتقريع الذي احتوته الآية الثانية والمقصود به في الدرجة الأولى كما هو المتبادر هم الجاحدون الظالمون. ويلحظ أن ما احتوته الآية الثانية قد احتوت مثله إحدى الآيات الأخيرة من السورة السابقة وقد وجه التقريع فيها للكافرين.
[سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
. (1) يزوجهم: هنا بمعنى ينوعهم ويجعلهم أصنافا خليطا من ذكور وإناث.
في الآيتين تنويه بشمول ملك الله وقدرته ومشيئته: فكل ما في السموات والأرض ملك له. وبيده خلق كل شيء وعلى الوجه الذي تتعلق به إرادته ومشيئته.
ويدخل في ذلك حمل الأمهات ونوعه. فهو الذي يهب لمن يشاء إناثا فقط ولمن يشاء ذكورا فقط. وهو الذي يهب لمن يشاء أصنافا متنوعة من ذكور وإناث معا، وهو الذي يجعل من يشاء عقيما وكل ذلك وفقا لمقتضيات علمه وحكمته فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء.
وقد يبدو أن الآيتين منقطعتان عن الموضوع والسياق السابقين، غير أنه تبادر لنا شيء من الصلة بينهما وبين ما جاء في آخر الآية الأخيرة التي احتوت تنديدا بما جبل عليه الإنسان من البطر عند النعمة والكفر واليأس عند المصيبة. ولقد كان العرب يحبون ويشتهون الذكور ويكرهون ولادة البنات ويسخطون على نسائهم حينما يلدن إناثا ويعتبرون ذلك مصيبة على ما تفيده آيات قرآنية عديدة منها سورة(4/481)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
النحل هذه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) . فلعل شيئا مما ذكرته الآية الأخيرة السابقة لهذه قد وقع في ظروف نزول السورة فاحتوت الآيتان ردا على ذلك وتنديدا بالفرحين البطرين، أو باليائسين الساخطين، وتقريرا بأن ذلك مشهد من مشاهد نواميس الله في خلقه ونتيجة لتقديره ومشيئته. فلا موجب للبطر ولا لليأس. وهكذا تكون الآيتان في هذه الحالة قد استهدفتا معالجة نفسية لحالة قائمة يتساوى فيها المسلمون وغير المسلمين. والمعالجة مستمرة التلقين والمدى لأنها تعالج حالة مستمرة تثير الفرح والسخط كما هو المتبادر. فكل شيء يجري وفق النواميس التي أودعها الله في خلقه وفي نطاق تقديره ومشيئته وعلى الناس والمسلمين منهم أن يذكروا ذلك فلا يبطروا ولا يسخطوا ويرضوا بتقدير الله ومشيئته اللذين هما خارجان عن نطاق قدرتهم ومشيئتهم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
. في الآية الأولى إشارة إلى مشاهد ثلاثة لاتصال الله في الكلام بالبشر أو اتصالهم به في ذلك. فالله لم يكن ليكلم أي إنسان مواجهة. والناس الذين يصطفيهم للاتصال به يتصل بهم إما بطريق الوحي أو من وراء حجاب أو بواسطة رسول من قبله فيوحي إليهم ما يشاء بأمره وإذنه، وهو العلي المتسامى في شأنه وكنهه، الحكيم الذي يفعل ما يفعل ويختار ما يختار وفقا لمقتضى حكمته.(4/482)
وفي الآيتين الثانية والثالثة إشارة إلى ما كان من اتصال الله سبحانه بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وقد وجّه الخطاب في أولاهما له. فبمقتضى حكمة الله وسننه أوحى إليه روحا من أمره وإذنه. ولم يكن يدري قبل ذلك حقيقة كتب الله ووحيه وكيفية الإيمان به دراية يقينية ولقد جعل الله ذلك نورا يهدي به من يشاء من عباده.
وكان من شأن النبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن اهتدى به أن صار يهدي به غيره إلى صراط مستقيم وهو صراط الله الذي له ما في السموات والأرض والذي ترجع جميع الأمور إليه.
تعليق على آية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ وما بعدها
وقد روى المفسر البغوي وتابعه الخازن أن هذه الآيات نزلت بناء على سؤال وقع من بعض يهود المدينة ويقتضي هذا أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تفيد ذلك ويلحظ كذلك أن الأسلوب القرآني على الإجابة على السؤال هو حكايته أو حكاية موضوعه أولا وهذا غير موجود هنا.
والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات التي جاءت خاتمة للسورة متصلة بمطلع السورة الذي احتوى إشارة إلى أن الله سبحانه يوحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم كما يوحي إلى الأنبياء من قبله. وأن حكمة التنزيل قد اقتضت ربط أول السورة بخاتمتها. وهذا مما كان في سور أخرى أيضا مرّ منه بعض الأمثلة. فإذا صح ما قلناه ففيه مشهد من مشاهد النظم القرآني كما فيه دلالة على أن السورة نزلت دفعة واحدة أو فصولا مترابطة متتابعة مهما بدا على هذه الآيات أنها جاءت كفصل مستقل عن الآيات السابقة لها مباشرة.
وهذا لا ينفي بطبيعة الحال احتمال كون الإيضاح الذي احتوته الآيات قد(4/483)
جاء جوابا على سؤال صدر من مسلمين أو كتابيين أو كفار في ظروف نزول السورة أو قبيلة أو إجابة على حيرة الناس بما كان يخبر به النبي صلّى الله عليه وسلم من صلة بالله. فهذه المسألة مما يحار فيها كل امرئ ويود أن يعرف كنهها أو ما يشفي غليله منها.
وفي الآيات الأولى من السورة ذكر أن الله شرع من الدين ما وصّى به الأنبياء من قبل محمد وما أوحاه الله إليه مثلهم، مما يمكن أن يكون المناسبة للتساؤل والاستيضاح، وهذه المناسبة قائمة في الآيات الأولى من السورة أيضا.
ونقول تعليقا على مدى الآيات: إن الآية الأولى احتوت الإشارة إلى مشاهد ثلاثة في صدد اتصال الله بمن يشاء من عباده بالكلام: الأول أن يكون وحيا، والثاني من وراء حجاب، والثالث برسول يرسله ويوحي بواسطته وبإذنه ما يشاء.
وأصل معنى (الوحي) هو السرعة أو اللمحة الخاطفة. أو الإلهام والقذف في القلب. وقد يعني هذا أن الوحي في الآية يعني شعورا ذاتيا وقلبيا بما ينقذف في نفس الموحى إليه من أفكار ومواضيع كإشعاع تضيء به نفسه فيشعر أنه يلهم إلهاما علويا ربانيا في قالب كلامي.
والرسول الوارد ذكره في الآية والذي هو المشهد الثالث من المشاهد هو على ما قاله جمهور المفسرين: «الملك الذي كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلم» . واستعمال تعبير «فيوحي إليهم» بالنسبة إليه يلهم أن اتصال الملك بالنبي صلّى الله عليه وسلم هو كذلك اتصال روحي أو قلبي. وقد ذكر هذا بصراحة في آيات سورة الشعراء هذه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) ، وفي آية سورة البقرة هذه مع صراحة باسم الملك: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) [97] .
ولعل الفرق بين المشهدين الأول والثالث هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم لا يشعر في الأول بملقن منفصل عن ذاتيته لما ينقذف في قلبه من وحي الله في حين أنه يشعر بذلك في المشهد الثالث.(4/484)
أما المشهد الثاني وهو: مِنْ وَراءِ حِجابٍ فالمستلهم من العبارة أن النبي صلّى الله عليه وسلم يسمع كلاما مفهوما يلقى عليه فيعيه دون أن يرى من يلقيه مع شعوره أنه الله عز وجل. وهو على كل حال اتصال خارجي وليس باطنيا وقلبيا، ومن ذلك على ما هو المتبادر ما أخبرت به آيات سورة الأعراف والنمل والقصص وطه، من الكلام الرباني الذي كلّم به موسى عليه السلام على ما مرّ تفسيره.
ونحن إذ نشرح هذا إنما نفعل بالنسبة للعبارات الواردة، أما فهم حقيقة هذا الاتصال وحقيقة الشعور به وإدراكهما فهما في الحقيقة خصيصان بالذين يصطفيهم الله تعالى لوحيه وصلته وكلامه. وهما بالنسبة لغيرهم حقيقة إيمانية يجب الإيمان بها لأنها مما أخبر به هؤلاء المصطفون، وهم صادقون فيما أخبروا به وقد عبروا عنه بأمر الله ووحيه بما يمكن أن تتسع له الألفاظ التي يتفاهم البشر بها، وأما كنه الأمر فهو سرّ متصل بسرّ واجب الوجود وأنبيائه الذي يعجز العقل الإنساني عن إدراكه مع ما يقوم عليه من الدلائل المتنوعة التي لا ينكرها إلّا المكابرون.
وما قلناه هو في صدد شرح المراتب أو المشاهد التي احتوت الآية الأولى الإشارة إليها. أما مشهد الاتصال الرباني بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد استعمل في بيانه كلمتا أَوْحَيْنا ورُوحاً. وجمهور المفسرين على أن الكلمة الثانية تعني الملك جبريل. ومع أن اسم هذا الملك قد ذكر في آية البقرة التي أوردناها آنفا والتي ذكر فيها أنه كان ينزل القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم ومع أن كلمة الروح استعملت في آيات سورة الشعراء التي مرت في مقام تنزيل الروح بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم أيضا فإن العبارة تلهم كون مشهد الاتصال النبوي بالله المشار إليه هنا خاصة هو مشهد إلهامي وإيحائي وروحاني، وأن مشهد تنزيل جبريل يمكن أن يكون هو المشهد الثالث الذي عبر عنه بجملة أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. على أنه ليس في الحقيقة تعارض بين ما تلهمه العبارة هنا وما تلهمه آيات سورتي الشعراء والبقرة، لأن الإنزال على القلب لا يعدو كما يستلهم من روح الآيات مشهدا إلهاميا وإيحائيا وروحانيا أيضا.(4/485)
ولقد أوردنا حديثا رواه البخاري عن عائشة في سياق سورة العلق عن أول نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلم، وفيه صورة من صور الوحي. ونورد هنا ثلاثة أحاديث روى أحدها البخاري ومسلم والترمذي وروى ثانيها وثالثها مسلم، فيها صور أخرى لتتم بذلك وبما جاء في الأحاديث الصحيحة، صورة الوحي الرباني بما أمكن استلهامه، ونرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روي الأول عن عائشة وجاء فيه: «إنّ الحارث بن هشام سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال.
وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا» .
وروي الثاني والثالث عن عبادة بن الصامت، وجاء في الثاني: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد وجهه» . وجاء في الثالث: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم فلما انجلى عنه رفع رأسه» «1» .
هذا، وفيما احتوته الآية الثانية من تقرير كون النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الاتصال الرباني به صراحة على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا إلّا بعد اتصال وحي الله به. وهذا نفي قاطع قرآني للروايات المتداولة في كتب الموالد والشمائل وهذا لا ينفي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفكر في آلاء الله وملكوته وتضطرب نفسه في سبيل تحري حقيقة الله وملّة إبراهيم الحنيفية وطريق الدين القويم الذي يجب أن يسلكه. وتنقبض نفسه مما كان يراه من سخف عقائد قومه وتقليدهم وشركهم كما لا ينفي أن يكون قد انتهى إلى الإيمان بالله وحده ربّا للعالمين يجب الاتجاه إليه وحده وعبادته وحده والاستعانة به وحده ونبذ ما عداه قبل نزول الوحي عليه.
ولقد كان هذا حقا، وهو ما كان يحمله على اعتكافاته الروحية في غار حراء
__________
(1) انظر الأحاديث الثلاثة في التاج ج 3 ص 225.(4/486)
على ما شرحناه في سورة الضحى فتصفو روحه، حتى تأهّل للاتصال العلوي وتلقي وحي الله وروحه وشعّت في نفسه حقيقة الإيمان اليقيني نورا إلهيا اهتدى به وحمل رسالته والدعوة إليه ليهدي به الناس إلى صراط الله المستقيم.
ولقد قال بعض المفسرين «1» إن قصد العبارة هو نفي معرفة النبي صلّى الله عليه وسلم لشرائع الإيمان والإسلام التفصيلية وأشكال الصلاة ومواقيتها معرفة مستندة إلى وحي رباني توقيفي، وأن العبارة لا تنفي أن يكون قد حصل عند النبي صلّى الله عليه وسلم إيمان عام عقلي، وهذا لا ينقض ما قررناه بل يتسق معه كما هو المتبادر.
__________
(1) انظر تفسير الآية في كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي.(4/487)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
سورة الزخرف
في السورة حملة على المشركين بسبب عقيدتهم بأن الملائكة بنات الله وتمسكهم الأعمى بتقاليد الآباء واستكبارهم عن الاستجابة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه لم يكن من العظماء. وحكاية لاعترافهم بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم أيضا.
وفصول من المناظرة بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلم حول عقائدهم. وتذكير بإبراهيم وموقفه من قومه وبموسى ورسالته لفرعون وبعيسى ورسالته وتقرير لمسؤولية قوم النبي صلّى الله عليه وسلم عن القرآن ورسالته، وتطمين للنبي وتسليته. وتنويه بعظمة الله وشمول ربوبيته، ووصف رائع لمصائر المتقين والمجرمين في الآخرة.
وفصول السورة مترابطة ومتساوقة، وبدايتها مرتبطة بنهايتها أيضا مما فيه الدلالة على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [54] مدنية، وهي منسجمة في السياق والموضوع انسجاما تاما وهذا ما يحمل على الشك في تلك الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)(4/488)
(1) أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين: بمعنى هل ننصرف عن تذكيركم بسبب أنكم قوم مسرفون في المكابرة والعناد.
وابتدأت السورة بحرفي الحاء والميم للاسترعاء إلى ما بعدهما ثم أعقبهما قسم رباني بالكتاب المبين الواضح في أهدافه ودعوته بأن الله إنما أنزل القرآن باللغة العربية ليستطيع العرب المخاطبون به أن يفهموه ويعقلوه. وأنه- في أم الكتاب عند الله- عليّ الشأن حكيم الأسلوب والمقاصد.
واحتوت الآيات بعد ذلك:
1- سؤالا استنكاريا موجها للكفار السامعين المخاطبين عما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى يترك تذكيرهم بسبب إسرافهم في المكابرة والعناد أو تجاوز حدوده.
2- وتذكيرا بأن الله أرسل قبلهم أنبياء عديدين فكان أقوامهم يستهزئون بهم فأهلكهم وكانوا أشد بطشا منهم، وعلى هذا جرت سنة الله في الأمم السابقة لهم.
تعليق على آية أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وحكمة متابعة الله في إرسال رسله
والمتبادر أن الآيات بسبيل تسجيل موقف وجاهي من مواقف المناظرة والجدل واللجاج بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكفار، وأن الآية [5] احتوت ردا على قول يمكن أن يكونوا قالوه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن طال إنذار القرآن وتقريعه وأصروا على موقفهم وعنادهم وهو لماذا تتعب نفسك بعد كل هذا ولا تيأس منا وتتركنا وشأننا؟.
فأوحى الله بالآيات للردّ عليهم وبيان حكمة الله في متابعة إرسال رسله رغم استهزاء أقوامهم بهم حيث اقتضت حكمته سبحانه تذكير الناس دورا بعد دور ولم تكن(4/489)
مكابرة الناس وإسرافهم ليجعلاه يحيد عن هذه الحكمة حتى يظل طريق الهدى والحق واضحا بينا، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال وتلقين مستمر المدى في وجوب متابعة الدعاة إلى الحق لدعوتهم والصبر عليها والثبات فيها برغم ما يمكن أن يلقوه من إعراض وصدّ واستخفاف لأن ذلك من مقتضى حكمة الله لما فيه من قوام المجتمع البشري وحياته.
تعليق على تعبير أُمِّ الْكِتابِ
وجمهور المفسرين على أن تعبير أُمِّ الْكِتابِ هو اللوح المحفوظ «1» .
غير أن الذي يتبادر لنا أنه بمعنى مصدر التنزيل على سبيل توكيد كون القرآن صادرا عن الله تعالى. ولعل هذا التوكيد متصل بما حكته آيات سورة فصلت ثم آيات سورة الشورى السابقتين لهذه السورة لما كان يحتج به الكفار في معرض الإنكار باختلاف لغة القرآن عن لغة الكتب السماوية الأولى. فالقرآن صادر عن الله تعالى الذي صدرت عنه هذه الكتب. وإذا كانت لغته عربية فإن ذلك بقصد أن يفهمه المخاطبون ولا يحتجوا بعجمته كما احتجوا بعجمة الكتب السماوية الأولى مما انطوى في آية سورة الأنعام هذه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) . على أن هذا التأويل لا يتعارض مع مفهوم اللوح المحفوظ الذي شرحناه في تفسير سورة البروج شرحا يغني عن التكرار.
تعليق على تكرار توكيد عروبة القرآن وصلته بالله
هذا، ويلحظ أن عروبة القرآن وصلته بالله تعالى كانتا موضوعا رئيسيا في السور الثلاث السابقة وبخاصة في سورتي فصلت والشورى ثم في هذه السورة
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري إلخ.(4/490)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
فضلا عمّا قبلها مما يدل على اشتداد لجاج الكفار في هذا الموضوع، وعلى صحة ترتيب هذه السور وتتابعها في النزول. وهو على ما هو المتبادر سبب ما روى عن سلسلة الحواميم وأوردناه في مقدمة سورة غافر من أحاديث.
وأسلوب الآيات والتوكيد يؤيد ما قلناه أكثر من مرة من أن المقصد من تعبير القرآن والكتاب كان في بدء الأمر القسم الذي احتوى الآيات المحكمات في مبادئ الدعوة وأسسها.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
. (1) مهدا: المستقر أو الممهد.
(2) سبلا: طرقا ومسالك.
(3) بقدر: بحساب.
(4) أنشرنا: أخرجنا وهنا بمعنى أحيينا.
(5) الأزواج: كناية عن أنواع المخلوقات وأصنافها.
(6) وما كنا له مقرنين: ما كنا قادرين على جعله قرينا مطيعا لنا.
وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: فلو سألهم عمن خلق السموات والأرض لما وسعهم إلّا أن يجيبوا بأنه هو الله العزيز القوي الغني عن الغير العليم بكل شيء.(4/491)
أما الآيات التالية فقد احتوت تقريرات عن مشاهدة قدرة الله ونعمه على السامعين. وعباراتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد انتهت بتقرير كون ذلك مما يوجب ذكر نعمة الله وحمده على ما يسرّه للسامعين من وسائل الاعتراف به وإنابتهم إليه.
وضمير الجمع المخاطب والجمع الغائب في الآيات عائد إلى الكفار على ما يفيده فحواها. وهي والحالة هذه متصلة بسابقاتها في صدد محاججة الكفار وإفحامهم كما أنها تمهيد لما في الآيات التالية لها، وهذا مما جرى عليه أسلوب النظم القرآني.
والجواب في الآية الأولى حكاية مفروضة على لسان الكفار، وأسلوبها يلهم أن جواب الكفار لن يكون إلّا إيجابا، فهم لا ينكرون الله تعالى وإنما يشركون معه غيره للاستشفاع والزلفى ويعترفون أنه الخالق الرازق المدبر المتصرف في الكون النافع الضار وحده. ويدعونه وحده في الشدائد والأخطار على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها، ومن هنا جاء الإفحام والإلزام.
ولقد روى البغوي بطرقه عن علي بن أبي ربيعة أنه: «شهد عليا رضي الله عنه حين ركب فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون، ثم حمد ثلاثا وكبّر ثلاثا ثم قال: لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له: ما يضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت وقال مثل ما قلت ثم ضحك فقلنا ما يضحكك يا نبيّ الله؟ قال: عجبت للعبد إذا قال لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلّا هو» «1» . وأورد ابن كثير حديثا عن
__________
(1) أورد ابن كثير هذا الحديث أيضا عن الإمام أحمد بفرق مهم وهو: «يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال ربّ اغفر لي ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» وقال الترمذي والنسائي رويا هذا الحديث أيضا. [.....](4/492)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
عبد الله بن عمر رواه الإمام أحمد قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركب راحلته كبّر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون. ثم يقول: اللهمّ إني أسألك في سفري هذا البرّ والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هوّن علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهمّ أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهمّ اصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا» . وكان إذا رجع إلى أهله قال:
«آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون» . حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور استلهام النبي صلى الله عليه وسلم للآيات القرآنية فرأى أن في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها تعليما له وللمسلمين أيضا بما ينبغي أن يفعلوا إذ يتمتعون بما سخّره الله لهم من وسائل الركوب فكان ما روته الأحاديث منه وصار ذلك سنة شريفة للمسلمين من بعده.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 19]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
. (1) جعلوا له من عباده جزءا: كناية عن نسبتهم الأولاد إلى الله تعالى على اعتبار أن الأولاد جزء من آبائهم.
(2) أصفاكم بالبنين: بمعنى خصكم بالبنين واصطفاهم لكم.
(3) بما ضرب للرحمن مثلا: بما جعله ندا ومماثلا للرحمن.
(4) كظيم: كتوم لغيظه على شدته.
(5) ينشأ في الحلية: الحلية هي ما تتزين به النساء ومعنى الجملة ينشأ في الزينة، وهو شأن النساء بوجه الإجمال والقصد من الجملة التنديد بهم لأنهم جعلوا(4/493)
النساء- اللاتي يقضين حياتهن في التزين واللهو- أندادا لله تعالى.
(6) في الخصام غير مبين: غير بليغ وغير قوي في الجدل والخصومة. وهذا كذلك من شأن النساء وفي هذه الجملة ما في الجملة الأولى من القصد.
(7) أشهدوا خلقهم: هل كانوا حاضرين حينما خلقهم الله.
في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى عقيدة المشركين الكفار في الملائكة وفي الآيات التالية لها مناقشة وردّ وتسفيه وإنذار لهم بسببها.
فقد سوّغوا أن يكون بعض عباد الله جزءا منه أي أولادا وفي هذا ما يدل على شدة جحود الإنسان وانحرافه عن الحق والمنطق. ثم سوّغوا أن يكون أولاد الله من البنات فقط في حين أنهم يتمنون أن يكون أولادهم ذكورا وفي حين أن أحدهم إذا بشّر بالبنات التي ينسبونهن إلى الله اسودّ وجهه وامتلأ صدره غيظا ولم يكد يقدر على كتمه وكظمه. وهذا يدل على شدة سخفهم لأن النساء في العادة والإجمال ضعيفات في قوة الخصومة والنضال يقضين حياتهن في التزين واللهو وهذا مما لا ينبغي أن يكون عليه أولاد الله إذا كان يصح أن يكون له أولاد سبحانه وتعالى.
والبنات اللاتي نسبوهن إلى الله هم الملائكة وهم عباده فهل كانوا حاضرين حينما خلقوا ليقولوا هذا القول الذي لا يجوز أن يقوله إلا شاهد عيان، ولسوف يحصي الله على الكفار المشركين هذه الأقوال ليسألهم عنها ويحاسبهم عليها حسابا عسيرا.
والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار لها كما هو المتبادر. وأسلوبها جدلي، والحجة في الجدل تكون أقوى بطبيعة الحال إذا كانت مستمدة مما يسلم به الفريق الثاني ولهذا جاءت الحجة هنا قوية ملزمة والسخرية لاذعة محكمة.
تعليق على ما احتوته الآيات [16- 18] من وصف الإناث وتوضيح لنظرة القرآن للمرأة ومركزها في الإسلام
وقد يبدو لأول وهلة من فحوى الآيات [16- 18] أنها بسبيل الانتقاص من(4/494)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
قدر البنات والإناث ومركزهن وتهوين شأنهن بالنسبة للبنين والذكور والذي يتبادر لنا أن ما ورد في الآيات هنا وفي آيات أخرى جاءت في مثل المناسبة التي جاءت فيها هذه الآيات هو تعبير عما كان سائدا في أذهان العرب الذين تندد الآيات بمشركيهم واعتباراتهم لتكون الحجة فيها أشد إلزاما وإفحاما. وليس هو رأي القرآن المباشر في المرأة وبخاصة المسلمة، أما هذا الرأي فإن ما ورد في القرآن المكي والمدني معا يسوّغ القول إنه قد رفع من شأنها ومركزها اللذين كانا منخفضين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته، بل جعلها مساوية للرجل في كل شيء تقريبا.
فقد اعتبرها والرجل متساويين في أصل الخلقة، ونشوء الجنس والرابطة الزوجية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة، واعتبرها أهلا لكل تكليف كلّف به الرجل، وكل واجب أوجب عليه وكل خطاب خوطب به، وأباح لها كل ما أباح له وحرّم عليها كل ما حرّم عليه ومنحها كل ما منحه، ورتب عليها كل نتيجة ر؟ ها عليه من كل ذلك في الحياة الدنيا والآخرة معا. واعتبرها صاحبة الحق في كل تصرف من التصرفات الشخصية والمدنية والملية المشروعة دون أن يتوقف ذلك على إذن الرجل مهما كانت نسبته إليها، وثبت حقها في الإرث ومنحها فيه ما فيه الكفاية بل وأكثر من الكفاية مما هو من مفاخر الشريعة الإسلامية ومفرداتها ومعجزاتها الباهرة التي رشحتها للخلود. وما قد يكون هناك من بعض التحفظات والاستدراكات القرآنية فإنه متصل بالحياة الزوجية أو بطبيعتها الجنسية وليس من شأنه أن ينتقص مما ذكرناه شيئا على ما سوف نشرحه في مناسباته إن شاء الله، وهو من الكثرة والتنوع بما لا يتسع له المقام هنا.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 22]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
. (1) ما عبدناهم: الضمير راجع إلى الملائكة.(4/495)
(2) يخرصون: يظنون أو يخمنون أو يتوهمون.
(3) من قبله: الضمير راجع إلى القرآن.
(4) أمة: هنا بمعنى ملة أو طريقة أو دين.
في الآيات:
1- حكاية لما كان يعتذر به المشركون عن عبادة الملائكة حيث كانوا يقولون إن الله لو لم يشأ أن نعبدهم لمنعنا من عبادتهم.
2- وردّ تسفيهي على هذه الحجة الواهية بتقرير كونهم لا يستندون فيها إلى علم وبيّنة وإنما هم متوهمون توهما.
3- وتساؤل على سبيل الاستنكار والتحدي عما إذا كان الله تعالى قد أنزل عليهم قبل القرآن كتابا يستندون إليه فيما هم عليه من عقائد ويدلون به من حجج ويستمسكون به دون القرآن.
4- وحكاية لما كانوا يقولون حينما تلزمهم الحجة حيث كانوا يقولون: إنا وجدنا آباءنا على طريقة ونحن سائرون على هداهم وسيرتهم فيها.
والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع وتعقيب. وتلهم أن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن ما هم عليه متصل بشريعة ربانية يتوارثونها جيلا عن جيل. وقد تكررت حكاية هذه الحجة عنهم مرارا مرت منها أمثلة في السور السابقة حيث يبدو أنهم كانوا يكررونها في كل مناسبة ومناظرة. والروايات تذكر وبعض الآيات تلهم أنهم كانوا يظنون أن ما هم عليه من عقائد وتقاليد هو من ملّة إبراهيم على ما شرحناه في سياق سورة (الأعلى) وغيرها من السور السابقة.
تعليق على آية وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ وما بعدها
والآيات تنطوي على معنى التنديد بالحجة التي كان المشركون يحتجون بها(4/496)
وتقرير كون صحة العقيدة والفكرة وبطلانهما لا يجوز أن يكون مستندا إلى قدمها وتوارثها عن الآباء وإنما يجب أن تكون قائمة على بينة وعلم ومصلحة، وفي هذا تلقين جليل قرآني مستمر المدى.
وفي الآية الأولى ردّ مستمر التلقين والمدى أيضا على كل حجة مماثلة لتبرير الآثام والاعوجاجات التي يرتكبها الناس ويقولون إن الله لو شاء لما ارتكبوها.
وفيها كذلك تسفيه مستمر التلقين والمدى لكل من يلقي الكلام على عواهنه من غير سند إلى علم وبينة أو يتمسك برأيه تمسكا أعمى بدون منطق ودليل.
ولقد اعتبر الزمخشري الآية الأولى دليلا على صحة مذهب المعتزلين الذين يقولون باكتساب الإنسان أعماله بمشيئته بما في ذلك الكفر والشرك والإيمان لأنها نددت بالمشركين الذين يقولون لو شاء الله ما أشركنا وقررت ضمنا أن شركهم إنما كان باختيارهم وكسبهم فاستحقوا التنديد والإنذار. وغمز المجبرة الذين يخالفون مذهب المعتزلة في ذلك. وقد ردّ عليه القاضي ابن المنير وقابل الغمز بمثله «1» .
والآية هي بسبيل حكاية قول المشركين والتنديد بهم لأنهم أرادوا تبرير شركهم.
والأولى أن تبقى في هذا النطاق لتظل الحجة فيها والتلقين المستمر قويين. وقد تكرر فحواها في مثل هذه الحجة والتلقين في آيات سورة الأنعام [149- 150] التي سبق تفسيرها والتي احتوت زيادة هامة في بابها من حيث تقريرها أن الله لو شاء لجعل جميع الناس مهتدين ولكنه ترك ذلك لاختيارهم حيث يدل هذا على أن المشركين كانوا يكررون إيراد هذه الحجة ويرون فيها تبريرا لعقائدهم وردا على النبي صلى الله عليه وسلم وما يتلوه عليهم من آيات فيها تسفيه وتنديد لهم.
ولقد حمل بعض المفسرين «2» ما حكته الآية الأولى من قول المشركين على محمل الاستهزاء والتعجيز وآيات الأنعام المشار إليها آنفا تؤيد كون ذلك صادرا عنهم في معرض التبرير. وقد وردت آيات تتضمن تقرير كون المشركين يعتقدون
__________
(1) انظر تفسير الكشاف والتعليق عليه لابن المنير طبعة مصطفى محمد ج 3 ص 414.
(2) انظر تفسير النسفي.(4/497)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
أنهم على حق في عقائدهم، منها ما حكته آية سورة الأعراف هذه: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) ونحن نرجح أن قولهم هنا من هذا الباب. وهذا ما يستفاد من شرح معظم المفسرين أيضا «1» . ولعل في الآية التالية لها قرينة قوية على ذلك حيث تساءلت تساؤل المنكر عما إذا كان لديهم كتاب من الله يستندون إليه ويستمسكون به.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 23 الى 25]
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
. (1) مترفوها: زعماؤها ووجهاؤها الذين استغرقوا في الترف وأبطرتهم النعمة والوصف هنا في مقام الذم والتنديد.
جاءت الآيات معطوفة على ما قبلها ومعقبة عليه:
1- فلم يكن الله يرسل نذيرا قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمة أو مدينة إلا قال له مترفوها إنا وجدنا آباءنا على طريقة ونحن مقتدون بهم.
2- ولقد كان أنبياؤهم يسألونهم منددين عما إذا كانوا يصرون على طريقة آبائهم حتى ولو أتوهم بما هو أهدى وأصلح منها فيجيبونهم بأنهم كافرون بما أتوا به على كل حال.
3- ومن أجل ذلك فقد انتقم الله منهم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري والكشاف وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.(4/498)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
وانتهت الآيات بأمر السامع بالنظر كيف كانت عاقبتهم وبالاتعاظ والاعتبار بها.
تعليق على آية وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وما بعدها
وفي الآيات تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يلقاه من قومه هو ما كان يلقاه الأنبياء من قبله. وإنذار للكفار بعاقبة مثل عاقبة أمثالهم الأولين، والأمر بالنظر إلى عاقبة السابقين يتضمن كون آثار انتقام الله مما يشاهد ويرى من قبل السامعين كما هو المتبادر مما فيه تدعيم للإنذار وإلزام للكفار. واستعمال كلمة مُتْرَفُوها قد يدل على أن المتصدين للصدّ والحجاج مع النبي صلى الله عليه وسلم هم الزعماء وأصحاب الوجاهة والقوة من المشركين، وهو ما أكدته آيات كثيرة أخرى مرّت أمثلة عديدة منها.
وفي الآيات توكيد للتلقين الذي نبهنا إليه قبل قليل بعدم جواز التمسك الأعمى بتقاليد الآباء دون ما سند وبيّنة ومصلحة وحقّ. وفي الآية الثانية بخاصة دعم قوي له بما احتوته من التنديد المفحم بالتعصب لتقاليد الآباء حتى في حال الدعوة إلى ما هو الأهدى والأصلح والأحق، وفي هذا تلقين مستمر المدى بوجوب الأخذ دائما بما هو الأهدى والأصلح والأحق بقطع النظر عن مصدره وبقطع النظر عن جدته وقدمه.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 28]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
. (1) عقبه: كناية عن ذريته.(4/499)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
وهذه الآيات تعقيب ثان على أقوال الكفار في صورة تذكير بإبراهيم عليه السلام، فقد قال لأبيه وقومه: إني نابذ ما تعبدون من أصنام وبريء منها ولائذ بالذي خلقني وحده فهو الذي يهديني إلى طريق الحق القويم. وقد جعل إبراهيم هذا الأمر وصية دائمة لأنساله من بعده حتى يسيروا عليه ويتذكر من يضلّ منهم فيعود عن ضلاله إليه.
والآيات قد تلهم أنه أريد بها تذكير العرب السامعين بطريقة ووصية من يعرفون ويعترفون بأنه أبوهم الأكبر على سبيل التنديد والإفحام. فإذا كانوا يريدون التمسك بتقاليد الآباء فهذا هو تقليد أبيهم الأكبر وعليهم أن يعودوا عن ضلالهم إليه. وقد شرحنا ما كان يتداوله العرب العدنانيون من تقليد بنوتهم لإبراهيم عليه السلام في سورة الأعلى فلا نرى حاجة إلى الإعادة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 29 الى 32]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
. (1) متعت: هنا بمعنى يسرت لهم الأسباب والوسائل.
(2) القريتين: كناية عن مدينتي مكة والطائف.
(3) سخريا: من التسخير والسخرة بمعنى الاستخدام لقضاء المصالح.
احتوت الآيات صورة أخرى من صور الجدل واللجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار:
1- فالله قد أنعم على السامعين وآبائهم من قبل ويسّر لهم وسائل الحياة(4/500)
ورغدها فاغتروا وانحرفوا عن جادة الحق فأرسل إليهم رسوله بالحق فظلوا في انحرافهم.
2- وقابلوا الدعوة بالجحود ووصفوها بالسحر وكفروا بها.
3- ثم قالوا إن القرآن لو كان حقا من عند الله لأنزل على عظيم من عظماء مكة أو الطائف.
4- وقد ردت الآية الأخيرة على هذا القول منددة منكرة في صيغة التساؤل عما إذا كانوا يتحكمون في قسمة رحمة الله وتوزيعها وتعيين من هو الأحق بعطف الله واصطفائه لقرآنه، ثم دعمت الردّ بتقرير كون الله هو الذي قسم بينهم معيشتهم، وكون ما هو قائم بينهم من الفروق وارتفاع بعضهم فوق بعض إنما هو مظهر من مظاهر الحياة الدنيا وطبيعتها ليتمكن الناس من استخدام بعضهم لبعض وانتفاع بعضهم من بعض في المصالح والحاجات، وكون رحمة الله وعطفه هما خير مما يجمعه الناس ويتمتعون به من مال وجاه وبسطة عيش، فلا يحظى بهما إلّا الذين يصطفيهم الله ويراهم أهلا لهما.
والآيات متصلة بالسياق من حيث احتواؤها صورة لمواقف زعماء الكفار وعقائدهم وأقوالهم التي ما فتئت فصول السورة تذكرها.
تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) والآية التالية لها
والمتبادر من الآيات أن زعماء الكفار كانوا يرون أنفسهم أحقّ بالنبوة ومهمة الدعوة لأنهم أصحاب الحول والمكانة في بيئتهم. أو أن بعضهم كان يرى نفسه أحقّ بذلك لأنهم كانوا على شيء من العلم بالأديان والمعارف السابقة بالإضافة إلى حوله ومكانته في بيئته. ولقد روى الطبري عن بعض التابعين بعض الأسماء التي كان المشركون يقصدونها من عظماء مكة والطائف مثل الوليد بن المغيرة أو(4/501)
عتبة بن ربيعة من مكة وحبيب بن عمرو بن عمير أو عروة بن مسعود أو ابن عبد ياليل من الطائف. ولقد روى أن النضر بن الحرث بن كلدة أحد زعماء الكفار كان يعرف كثيرا من تاريخ الفرس وغيرهم وكان واقفا على شؤون الأديان السابقة فكان يقول على سبيل الصدّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن حديثه ليس أطلى من حديثي، وإنه إنما يحدثكم بأساطير الأولين فتعالوا إليّ وأنا أحدثكم عن رستم وإسفنديار بحديث أطلى مما يحدثكم «1» . وقد احتوت الآيات ردا عليهم ثم تنويها بالنبي صلى الله عليه وسلم وتقريرا لأهليته لاصطفاء الله له لمهمة الرسالة العظمى.
ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية وموضوعية فإنها تحتوي تلقينا جليلا عاما بأفضلية الصلاح الروحي والخلقي، على البهرج المادي وكثرة الثروة واتساع الجاه في الدنيا. وإلى هذا فإن الآيات تدل على أن الوجاهة والزعامة كانتا تلعبان دورا كبيرا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره. وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن زعيما ذا شأن نافذ، وتنطوي على سبب من أسباب امتناع زعماء الكفار من الاستجابة إلى دعوته ومناوأتها، وهو الاعتداد والاستكبار والأنفة والغيظ من اختصاصه بالنبوة والقرآن دونهم. وهو ما انطوى في آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) ، وآية سورة ص هذه: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) .
تعليق على جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا
ولقد قلنا في شرح الآيات: إن جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا هي بسبيل التنبيه على أن ذلك مظهر من مظاهر الحياة
__________
(1) انظر تفسير آية الأنفال [21] في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.(4/502)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
وطبيعتها ونزيد على هذا أن العبارة لا تفيد أن في ذلك اختصاصا ربانيا وعناية ربانية للطبقة المرتفعة أو حطا ربانيا من شأن الطبقة المنخفضة ولا ثباتا مستمرا لارتفاع أفراد الطبقة المرتفعة وانخفاض أفراد الطبقة المنخفضة. وأن الذي تفيده كما هو المتبادر من روحها وفحواها ومقام ورودها أن حكمة الله اقتضت أن يتفاوت الناس من حين إلى حين ومن جيل إلى جيل ومن بيئة إلى بيئة في الفهم والقدرة والقابلية والنشاط والثروة والمركز الاجتماعي. فيضمن هذا التفاوت تبادل قضاء المصالح والحاجات بين الناس على اختلاف درجات فهمهم وقدرتهم وقابليتهم ونشاطهم وثروتهم ومركزهم الاجتماعي. وفي بقية الآية التي جاءت فيها الجملة دليل على أن الارتفاع ليس اختصاصا ولا عناية ربانية وأن الانخفاض ليس انتقاصا ولا خفضا ربانيا.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 35]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
. (1) معارج: سلالم ودرجات للصعود عليها.
(2) زخرفا: بعض المفسرين واللغويين يقولون إن هذه الكلمة كانت تعني (الذهب) .
(3) لمّا: هنا بمعنى إلّا.
في الآيات:
1- تنبيه على أن الله قادر على منح الكافرين به جميعا بيوتا مسقوفة بالفضة مجهزة بسلالم من الفضة وبسرر وأبواب من الفضة ومزخرفة بأنواع الزخارف الذهبية أو يغدق عليهم الذهب فيتمتعون بذلك لولا أن حكمته اقتضت أن لا يكون(4/503)
الناس أمة واحدة وصنفا واحدا أو على طريقة واحدة.
2- وتقرير بأن كل ما يمكن أن يتمتع به الكفار من بهارج الدنيا وزخارفها وذهبها وفضتها ليس إلّا متاعا قصير الأمد قاصرا على الدنيا وأن المتعة الحقيقية إنما هي متعة الآخرة للمتقين عند الله لأنها المتعة الخالدة.
وظاهر أن الآيات جاءت معقبة على سابقاتها وبخاصة الأخيرة منها ومتصلة بموضوعها، والفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة احتوت تطمينا للمؤمنين المتقين وتنويها بمقامهم عند الله بالمقابلة.
وقد قال بعض المفسرين «1» في صدد الفقرة الاستدراكية الواردة في أول الآية الأولى إنها في معنى (لولا أن يغري الناس بالكفر فيكونوا جميعهم كافرين لمنح الله للكافرين تلك البهارج الدنيوية) . ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان المعنى الذي أولناها به هو الذي يتبادر لنا أن الآية تلهمه أكثر والله أعلم.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن سهل بن سعد قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها قطرة ماء» . وحديثا عن المستورد بن شداد قال: «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها. قالوا: من هوانها ألقوها، قال: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» .
ولم يرو البغوي علاقة ظرفية بين الحديثين والآيات غير أن هذه العلاقة ملموحة بشكل ما، فالحديثان بسبيل بيان تفاهة وهوان شأن الدنيا ومتاعها وبهرجها مما يجعل الكفار والمشركين يظنون أنهم في إحرازهم لها يكونون أصحاب الحق في الحظوة عند الله أو أن ذلك مظهر من مظاهر عناية الله بهم. وبسبيل التنبيه على أن العواقب الحسنة الطيبة هي من نصيب المؤمنين المتقين وعلى ضوء هذا الشرح
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.(4/504)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
المتبادر من روح الآيات والأحاديث ونصها لا يكون في الحديثين ولا في الآيات دعوة للمسلمين إلى نفض يدهم من الدنيا إذا كانوا قائمين بواجباتهم نحو الله والناس.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 39]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
. (1) يعش: يعمى أو لا يرى، والعبارة كناية عن الانصراف عن ذكر الله ودعوته وتجاهلهما.
(2) نقيّض: نرتب ونهيىء ونجعل.
(3) قرين: ملازم.
(4) بعد المشرقين: جمهور المفسرين على أن الجملة بمعنى بعد ما بين المشرق والمغرب.
في الآيات:
1- تنبيه على أن الذي يتعامى عن ذكر الله وآياته وبيناته يسمح الله سبحانه بأن يلازمه شيطان ويتسلط عليه فيزين له ما هو فيه ويجعله يحسب أنه على هدى ويصده عن سبيل الله الحق.
2- وتقرير بأن الحقيقة سوف تنكشف لهذا وأمثاله حينما يقف أمام الله حيث يعرف أنه إنما كان يتبع وسوسة الشيطان وإغراءه فيشعر بالندم ويصرخ في وجه شيطانه قائلا له: يا ليت بيني وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب لأنك بئس القرين السوء الذي أضلّني وأعماني.(4/505)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
3- وحينئذ يخاطب الله الكافرين فيقول لهم: إنكم وقد ظلمتم أنفسكم بالشرك والإعراض عن دعوة الله والاستماع إلى وسوسة الشيطان لن ينفعكم ندمكم وعتابكم لشياطينكم الذين هم شركاؤكم في العذاب ولن يخفف عن أحد منكم عذابه كون قرينه مشتركا معه فيه.
والآيات معقبة أيضا على سابقاتها ومتصلة بالسياق والموضوع كما هو المتبادر، وأسلوبها قوي ولاذع، والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته التنديد بالكفار وإثارة خوفهم وحملهم على الارعواء.
تعليق على جملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً
وقد أوّلنا تعبير نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً بما أوّلناه لأنه المتسق مع روح الآيات وروح التقريرات القرآنية عامة. فالضلال والتعامي كان من المتعامي عن ذكر الله أصلا كنتيجة لسوء نيته وخبث طويته فكان للشيطان سبيل عليه.
ولقد كان هذا التعبير مما دار حوله جدل بين أصحاب المذاهب الكلامية في معرض كون الله هو الذي يضل أو لا يضل الكافرين «1» . ولسنا نرى المقام يتحمل ذلك. ولا سيما أن الآيات تنطوي على إنذار الكافرين والتنديد بهم وتقرير استحقاقهم للعذاب بسبب تعاميهم واستماعهم للشيطان الذي صدهم عن سبيل الله واستهدفت إثارة ندم الكفار والأولى أن تبقى في هذا النطاق، وفي الآيات التالية ما فيه دعم وتأييد لذلك.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
__________
(1) انظر تفسيرها في الكشاف المذيل بحواشي ابن المنير ج 3 ص 419- 420.(4/506)
(1) وإنه لذكر لك ولقومك: إن فيه لشرفا لك ولقومك، أو إن فيه لتذكيرا لك ولقومك والأكثر على القول الأول.
وجّه الخطاب في الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم لتقول له:
1- إنه ليس من شأنه ولا واجبه أن يسمع الأصم أو يجعل الأعمى يرى أو يقنع من كان مرتكسا في الضلال عن عمد ومكابرة وعناد.
2- وإن هؤلاء لن يعجزوا الله في أي حال، فهو قادر عليهم منتقم منهم سواء أعاش حتى يرى تحقيق وعيد الله فيهم بعينيه أم جاءه قضاء الله قبل ذلك وذهب به.
3- وإن المطلوب منه هو الاستمساك بما أوحى الله إليه به فهو على طريق الله المستقيم، وفيه ذكر وشرف خالدان له ولقومه وهم مسؤولون عن تبعته وحقه أمام الله.
4- وإن الله لا يمكن أن يكون قد أذن للناس أن يعبدوا إلها غيره، وهذا مؤيد بشهادة الرسل الذين أرسلهم الله قبله فليسألهم ليتأكد من ذلك.
والآيات متصلة بموضوع الآيات السابقة التي نددت بالكفار المشركين ووصفت شدة عنادهم ومكابرتهم. وفيها تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه ودعوته، وتسرية عنه لما يلقاه من عناد الكفار ومكابرتهم. وفيها تدعيم للتأويل الذي أولنا به الآيات السابقة وبخاصة تعبير وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) .
والآية الأخيرة هي على ما يتبادر للرد على المشركين في زعمهم أن ما هم عليه هو من هدى الله وأن لو شاء لما عبدوا الملائكة وأشركوهم معه. وأسلوبها(4/507)
أسلوب تحدّ ونفي معا. والمفسرون «1» يروون عن ابن عباس قولين في المقصود من جملة: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أحدهما أن الله عز وجل جمع المرسلين للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وأمره أن يسألهم ولكنه لم يشك ولم يسأل، وثانيهما أن الجملة عنت أهل الكتاب أو مؤمني أهل الكتاب، ومعظم المفسرين أخذوا بهذا القول وهو الأوجه. وفي القرآن آيات عديدة فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم باستشهاد أهل الكتاب مما يدعم هذا القول. ومن ذلك آية سورة يونس هذه:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وفي سورة الأنبياء آية في نفس الصدد الذي جاءت فيه الآية وهي: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وجملة وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بمعنى كتب الأنبياء من قبلي أو أخبارهم.
تعليق على آية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
وجملة وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) تحتمل أن يكون معناها:
إنه لشرف لك ولقومك، أو: إنه لتذكير لك ولقومك وسوف تسألون عن موقفكم منه وجهدكم في سبيله، وأكثر الأقوال والروايات في جانب القول الأول، وهو ما يؤيده إشراك النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب.
وهي على هذا تتضمن معنى جليلا في صدد ما ناله النبي صلى الله عليه وسلم وقومه من كرامة وشرف بسبب الرسالة المحمدية سواء أكان تعبير وَلِقَوْمِكَ كناية عن العرب كما قال بعض المفسرين أم عن قبيلة قريش كما قال بعض آخر، وتعبير وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
__________
(1) انظر تفسير الآية في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي والزمخشري.(4/508)
يتضمن تقرير كون قوم النبي صلى الله عليه وسلم قد حملوا من قبل الله تعالى واجبا عظيما مقابل ما نالوه من شرف وكرامة إزاء الدعوة ومبادئها وتعاليمها سواء في الاستجابة إليها والعمل بموجبها أم في القيام بعبء نشرها وبثّها والدفاع عنها. وفي هذا ما فيه كذلك من معنى جليل وواجب خطير، وتلقين مستمر المدى وتقرير لشأن العرب عامة أو قريش خاصة ومسؤوليتهم بين سائر الأمم الإسلامية، وحفز لهممهم وجهدهم وجهادهم، وسنزيد هذا الموضوع شرحا في تفسير الآية الأخيرة من سورة الحج إن شاء الله.
وفي سورتي البقرة والحج آيات تؤيد هذا التلقين والتقرير وهي هذه:
1- وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... [البقرة/ 143] .
2- وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... [الحج/ 78] .
وتأييد آية سورة الحج بنوع خاص أقوى وأوكد لأن قصد العرب أو قريش فيها أصرح من حيث إنها ذكرتهم بأبوة إبراهيم لهم التي يعرفونها ويعترفون بها على ما تقدم ذكره قبل قليل.
وكلمة وَسَطاً تعني الخيار بين الناس لأن خير الأمور أوسطها، وكلمة شُهَداءَ تعني مراقبين وعدولا نتيجة لكونهم وسطاء.
ولقد أوّل بعض المفسرين «1» كلمة وَلِقَوْمِكَ بأمتك وجعلوها شاملة لجميع المسلمين، ونحن ما زلنا نرجح المفهوم السابق لأن العرب وقريشا بخاصة
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير النسفي.(4/509)
كانوا هم موضوع الكلام والخطاب والدعوة حين نزول الآية، ولأن تأييد آية سورة الحج بخاصة قوي بل حاسم.
وتبعا لهذا أو نتيجة له يصح أن يقال إنه صار للعرب رسالة إنسانية وعالمية خالدة لما في القرآن والحكمة النبوية من معجزات باهرة وتشريعات ومبادئ خالدة تستجيب لكل حاجة من حاجات البشر وتحلّ كلّ مشكلة من مشاكلهم في كلّ ظرف من ظروفهم. وسواء في ذلك المسائل والمشاكل والشؤون الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والأسرية والإنسانية أم المسائل والمشاكل الروحية والإيمانية والعقيدية مع سعة غير محدودة في الأفق، ومرونة كبرى في التطبيق وسمو لا يدانى في الأسس والأهداف يكفل تقدم معتنقيها قدما إلى أسمى ذرى الكمال الإيماني والروحي والعلمي والتشريعي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي والأسري والإنساني بكل قوة وسرعة ودون ما أي عائق وجمود وتعقيد. وإمدادهم بأسباب الصيانة الروحية والأخلاقية، وإمدادهم بذخر من الفيض الروحي الذي يحول بين فراغ النفس واليأس والانهيار في الأزمات ويدفع عنهم نوازع الشر والأنانية والهدم إذا هم فهموها وساروا على نهجها بإيمان وصدق خلافا لما يتوهم الذين لم يدرسوها دراسة واعية «1» بحيث
__________
(1) ناقشنا هذا الموضوع بالذات في مقدمة كتابنا «الدستور القرآني في شؤون الحياة» مناقشة وافية، وفي هذا الكتاب فصول وشروح في مبادئ وتعاليم وأهداف وأحكام وتلقينات القرآن ما يلجم كل مكابر ممار. ومثل هذا بارز واضح فيما مرّ وفيما يأتي من أجزاء هذا التفسير وفي خلال آلاف الأحاديث النبوية التي أوردناها في سياق تفسير السور وما لم نوردها مما هو مبثوت في كتب الأحاديث الصحيحة يبدو نور النبوة الوهاج الذي يتساوق مع القرآن في مثل تلك المبادئ والتعاليم والأهداف والأحكام والتلقينات. وهناك شهادات لا تحصى لعلماء الغرب الاجتماعيين بما كان من أثر ذلك فيما قام من حضارة عربية إسلامية باذخة في القرون الإسلامية الأولى في مشارق الأرض ومغاربها. وهذه واحدة نوردها نشرت في ظرف كتابة هذا التعليق في العدد الثالث من السنة الخامسة من مجلة «حضارة الإسلام» التي تصدر في دمشق (جمادى الأولى 1384) ، مقتبسة من كتاب «قانون التاريخ لجوفيه كستلو» قال: «كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول عظيما، جرى على أسرع ما يكون وكان الزمان مستعدا لانتشار الإسلام فنشأت المدنية الإسلامية نشأة باهرة قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب ظهر أثره في الفنون والآداب والشعر والعلوم وقبض العرب بأيديهم خلال عدة قرون على مشعل النور العقلي وتمثلوا جميع المعارف البشرية التي لها مساس بالفلسفة والفلك والكيمياء والطب والعلوم الروحية فأصبحوا سادة الفكر مبدعين ومخترعين لا بالمعنى المعروف بل بما أحرزوا من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقّادة للغاية. وكانت المدنية العربية قصيرة العمر إلّا أنها باهرة الأثر وليس لنا إلّا إبداء الأسف على اضمحلالها» . ومصداق هذا وتفصيله مبثوث في الكتب العربية التي وصل إلينا بعضها وضاع كثير منها وخبوء نور المدنية العربية الإسلامية إنما كان بسبب ما قام بين العرب من فتن واندسّ من دسائس وتغلب عليهم نتيجة لذلك من متغلبين جهلاء.
وقد نوّهنا بشهادات علماء العرب لأن كثيرا من الذين يتسمون بالقومية العربية ويحاولون فصل الإسلام عن العروبة أو أكثرهم قد نشأوا نشأة غربية وكانوا وظلوا غرباء عن النشأة العربية الإسلامية.(4/510)
كان ذلك حكمة الله العظمى في ترشيحها لتكون دين البشرية عامة، ووعد الله تعالى بتمكينها في الأرض كما جاء في آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) وآيات سورة التوبة هذه: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) وآية سورة النور هذه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [55] .
وإنه صار كذلك من واجب العرب وحقهم الاعتزاز بها وبذل الجهد في إصلاح أنفسهم على أضوائها ليكونوا لائقين لها قادرين على القيام بواجبهم نحوها. بل إن هذا الاعتزاز بهذه الرسالة الإنسانية العالمية الخالدة هو من حق العرب غير المسلمين ونعني المسيحيين- لأنه ليس هناك عرب غير مسلمين غيرهم- وواجبهم إذا كانوا صادقين ومخلصين حقا في شعورهم القومي. لأن العروبة إذا ما(4/511)
تجردت عن هذه الرسالة فقدت ميزة عظمى تتميز بها بين الأمم. وليس من شأن هذا أن يتناقض مع المسيحية التي انتقلت إليهم من أسلافهم آليا لأسباب وظروف مختلفة، ولا سيما إن الرسالة الإسلامية شقيقة متممة للرسالة المسيحية وإن المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم يمتان إلى الجنس العربي. وكل ما في الأمر أن الأول يمتّ إلى جيل سابق لدور العروبة الصريح، وقد أوجب كتاب الله وسنة رسوله على المسلمين احترامه وتكريمه وتقديسه والاعتراف بنبوته وصلة الله به ومعجزة ولادته.
وكل هذا يجعل الذين يحاولون فصل الإسلام عن العروبة من العرب سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين مستحقين لنعت المجرم القومي أو الدعي القومي.
من حيث إن ميزة الإسلام هي ميزة العروبة الكبرى من شأنها أن تمد العرب والإنسانية بأرقى ما يمكن أن يتصور من مثل عليا وقيم أخلاقية وحوافز قوية نحو الخير والتقدم والرقي والتكامل في كل مجال من مجالات الحياة المادية والمدنية ويكون العرب بها وحسب أصحاب رسالة عالمية خالدة ومن حيث إن فقد العرب لهذه الميزة خسارة بل كارثة قومية وإنسانية. كما يجعل المسلمين الذين يحاولون فصل العروبة عن الإسلام سواء أكانوا عربا أم غير عرب منحرفين عن ما قرره القرآن من شأنية العرب العظمى في الرسالة الإسلامية المتمثلة في حكمة الله عز وجل بجعل نبيها عربيا وكتابها عربيا وبجعل العرب أمة وسطا شهداء على الناس وتقرير مسؤوليتهم عنها.
وإذا كنا نقول إن من حق العرب وواجبهم أن يعتزوا بالرسالة الإسلامية وأن يبذلوا جهدهم لإصلاح أنفسهم حتى يكونوا لائقين بها وقادرين على القيام بواجبهم نحوها فإن غير العرب من المسلمين لا يفقدون هذا الحق ولا يرتفع عنهم هذا الواجب. لأن كل ما اتصفت به الرسالة الإسلامية وهدفت إليه قد صار وصفا وهدفا للمسلمين جميعهم.(4/512)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
. (1) مهين: حقير.
(2) لا يكاد يبين: إشارة إلى ما كان من ثقل لسان موسى مما ذكر في آيات سورة الشعراء وطه والقصص بصراحة أكثر.
(3) فلما آسفونا: فلما أغضبونا.
عبارة الآيات واضحة، وقد احتوت تذكيرا برسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه وموقفهم منها، وكيف كان عذاب الله لهم بالآيات أولا وبالإغراق ثانيا مما جاء مفصلا أكثر في سور عديدة سبق تفسيرها. وقد انتهت بالتنبيه على أن الله تعالى قد جعل فرعون وقومه مثلا لمن يأتي بعدهم ليتعظوا به، وهذا من أهداف القصة بل هو هدفها كما هو المتبادر.
وقد جاءت الآيات عقب الآيات التي ذكر فيها عناد الكفار ولجاجهم جريا على الأسلوب القرآني، ويلفت النظر إلى ما بين هذه الآيات والآيات السابقة من تماثل في صدد مواقف الكفار وتحديهم واستخفافهم واعتدادهم. وواضح أنه أريد بهذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من جهة وإنذار الكفار من جهة أخرى.(4/513)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
وما ذكر هنا مقتضبا من رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وموقف فرعون منها جاء مسهبا بعض الشيء في سور سابقة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
والجديد هنا هو ما جاء في الآيات [51- 53] من خطاب فرعون لقومه. وهذا ليس واردا في الأسفار المتداولة، ولكن ليس ما يمنع أن يكون ورد في قراطيس كانت في يد اليهود وأن العرب السامعين كانوا يعرفون ذلك من طريقهم.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [54] مدنية. وظاهر أنها منسجمة انسجاما تاما نظما وموضوعا في الآيات مما يسوغ القول بعدم صحة الرواية.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 59]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59)
. (1) يصدون: قيل إنها بمعنى يضجون فرحا وجلبة وصخبا. من التصدية وهي في أصلها بمعنى التصفيق. وقيل إنها بمعنى الإعراض والتعطيل من الصدّ والمقام يتحمل كلا المعنيين وإن كان حمله على المعنى الأول أولى وأقوى.
(2) خصمون: عنيدون في الجدل والخصومة.
حكت الآيات موقف المشركين العرب حينما كان يذكر عيسى ابن مريم عليه السلام حيث كانوا كلما ذكر في معرض الرد والتمثيل والعظة يزدادون إعراضا وجدلا أو يشتدون في الصخب والضجة ويتساءلون عما إذا كان هو خيرا أم آلهتهم. وقد ردّت عليهم بأن تساؤلهم وموقفهم وصخبهم ليس إلّا من قبيل الجدل والمكابرة التي برعوا فيها ثم استطردت إلى ذكر حقيقة عيسى فقررت أنه ليس إلّا عبدا من عبيد الله أنعم الله عليه بالاصطفاء وجعله موضع عنايته وآية معجزة لبني إسرائيل لإثبات قدرته ومثلا من أمثاله وآياته لهم.(4/514)
تعليق على آية وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وما بعدها
والآيات ليست منقطعة الصلة بالآيات السابقة، وبخاصة بالآيات التي سبقت قصة موسى وفرعون. وقد احتوت صورة من صور اللجاج والخصومة القوية التي كان عليها نبهاء العرب وفصلا من فصول الجدل التي كانت تقع بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
والمتبادر أن المشركين قالوا ردا على استشهاد القرآن برسل الله وكتبه على كونه لم يأذن بعبادة آلهة غيره على ما جاء في الآية [45] إن هذا مناقض للواقع من حيث إن النصارى وهم مؤمنون برسل الله وعندهم كتاب سماوي قد اتخذوا عيسى إلها وعبدوه. ثم استمروا في ردهم الذي ظنوه مفحما وملزما فتساءلوا عن الأفضل والصواب آلملائكة الذين يعبدونهم أم عيسى؟ ويبدو أن تساؤلهم هذا قائم على ما كانوا يرونه من اتساق المنطق في صلة الله الأبوية بالملائكة التي كانوا يقولون بها- وهي كون الملائكة بنات الله- أكثر من صلة الله الأبوية بعيسى التي كان يقول النصارى بها- وهي وكون عيسى ابن الله- من حيث كون أوصاف الملائكة وحقيقتهم أكثر انسجاما أو تماثلا مع أوصاف الله من وصف عيسى وحقيقته لأن هذا ولد وعاش ومات كما يولد ويعيش ويموت سائر البشر كما يقرره النصارى أنفسهم. في حين أن الملائكة نورانيون غير ماديين وغير مرئيين لا يموتون ولا يتزاوجون ولا يتوالدون وكل هذا من صفات الله! وقد نسفت الآيات بردها هذا الأساس الذي أقاموا عليه حجتهم فأوضحت أن عيسى ليس إلّا عبدا من عباد الله وأن خلقه ليس إلّا آية ومعجزة ومثلا من آيات الله ومعجزاته وأمثاله.
ولقد روى الطبري وابن كثير والخازن والبغوي أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض الكفار حين نزلت آية سورة الأنبياء هذه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) بقولهم كيف يكون هذا(4/515)
ومن المعبودين عيسى وهو من أنبياء الله. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ونحن نشك فيها أو على الأقل في كونها سبب نزول هذه الآيات لأن المناسبة بينها وبين ما قبلها قائمة ولأن روح الآيات تلهم أن ما فرضناه هو الأكثر وجاهة. ولأن مقتضى الرواية أن تكون آية سورة الأنبياء هي السابقة في النزول مع أن الواقع هو عكس ذلك.
ومع أن الطبرسي الشيعي روى الرواية التي رواها المفسرون المذكورون فإنه يروي رواية أخرى قال: إن سادة أهل البيت يروونها عن علي بن أبي طالب قال:
«جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إليّ ثم قال: يا عليّ إنّما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا واقتصد فيه قوم فنجوا فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا يشبهه بالأنبياء والرسل فنزلت الآية.
والهوى الحزبي بارز على هذه الرواية كما هو ظاهر.
تعليق على جملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) وما ورد في سياقها من نهي النبي عن التجادل في القرآن وضرب بعضه ببعض
وجملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) تدل على ما كان من قوة وشدة حجاج ولجاج نبهاء المشركين في أثناء جدالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حجاجهم الذي شرحناه في صدد عيسى مثل على ذلك فضلا عن أمثلة عديدة من ذلك مرّت في السور السابقة.
ولقد روى المفسرون في سياق هذه الجملة حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيغ مختلفة، كلّها عن أبي أمامة رضي الله عنه، منها حديث رواه الترمذي ومسلم «1» في سياق تفسير الجملة جاء فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا
__________
(1) التاج ج 4 ص 205 كتاب التفسير.(4/516)
عليه إلّا أوتوا الجدل ثم تلا قول الله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) » ومنها حديث رواه الطبري «1» عن أبي كريب عن أحمد بن عبد الرحمن عن عباد بن عباد عن جعفر بن القاسم عن أبي أمامة جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم يتنازعون في القرآن فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صبّ على وجهه الخلّ ثم قال لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه ما ضلّ قوم قط إلّا أوتوا الجدل ثم تلا قول الله: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) » .
والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من الجدل الذي غضب منه ونهى عنه ما يكون مقصودا به اللجاج والحجاج والعناد والتعنت وأراد من تعبير: (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض) لا تتجادلوا في آيات قد يبدو ظاهرها مناقضا لظاهر آيات أخرى جدالا يؤدي إلى تكذيب آيات الله ببعضها. والحق أن على المسلم واجب الإيمان بأنه ليس في كتاب الله اختلاف ولا تناقض. وأن عليه في حالة قصور فهمه عن إدراك حكمة الله في عبارة قرآنية أو في حالة توهمه مناقضة بين آية وأخرى أن يبحث عن حل وتأويل وتفسير في الآيات الأخرى أو يفوض الأمر إلى علم الله وحكمته ويعترف بقصور الفهم واحتمال التوهم. والعقل الإنساني مهما اتسع يظل قاصرا عن إدراك كلّ كلام الله وآياته وحكمته ونواميسه والمغيبات عنه. ومع ذلك فإن المرء لواجد في القرآن إذا آتاه الله فهما وأناة لكل آية مطلقة أو مشكلة في الظاهر تأويلا وتفسيرا وتوضيحا وحلا في آيات أخرى بحيث يصح القول إن القرآن إذا اعتبر ككل وهو حق وواجب لا يوجد فيه أي تناقض ولا غموض ولا إشكال.
وقد حاولنا في السور السابقة أن نجد لكل ما يبدو في الظاهر مطلقا أو مشكلا أو غامضا أو متناقضا تأويلا وحلا وتوضيحا وتوفيقا. ونرجو أن يكون الله قد سددنا
__________
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري. في التاج حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة مقارب في صيغته لهذا الحديث وهذا نصه: «خرج علينا رسول الله ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرّ وجهه كأنما فقىء في وجنتيه الرّمان فقال: أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم عزمت عليكم ألّا تتنازعوا فيه» التاج ج 4 ص 223.(4/517)
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
في ذلك نحو الصواب وأن يديم توفيقه وتسديده فيما يأتي من كلامه وله الحمد في الأولى والآخرة وهو ولي التوفيق.
تعليق على تأويل الشيعة للآية فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ... إلخ
ومع ما هو صريح قطعي من أن هذه الجملة عائدة إلى فرعون وقومه فإن مفسري الشيعة يوردون لها تأويلا آخر متسقا مع هواهم حيث يروي الكارزاني عن أبي عبد الله أحد الأئمة الاثني عشر قوله في تأويلها: «إنّ الله تعالى لا يأسف كأسفنا ولكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضى نفسه وسخطهم سخط نفسه لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه ... » «1» وفي هذا من الشطط والتعسف ما هو ظاهر وما نحب أن ننزه أبا عبد الله عنه.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 60 الى 62]
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
. ضمائر الجمع المخاطب في الآيات عائدة إلى السامعين إطلاقا مؤمنيهم ومشركيهم على ما هو المتبادر، ولقد تعددت أقوال المفسرين في تأويل الآيتين الأولى والثانية «2» . فمنهم من قال في صدد الآية الأولى إنها تعني تقرير قدرة الله على جعل نسل المخاطبين ملائكة يخلفونهم في الأرض بعدهم. ومنهم من قال إنها تعني قدرة الله على إهلاكهم وجعل الملائكة يخلفونهم في الأرض بدلا منهم.
وقد يكون القول الأول أوجه للتدليل به على أن قدرة الله التي تستطيع جعل نسل
__________
(1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 68.
(2) جمع الطبري مختلف الأقوال والروايات، انظر فيه تفسير الآيات. وانظره في كتب تفسير الطبرسي والزمخشري والخازن وابن كثير أيضا.(4/518)
البشر ملائكة تستطيع خلق عيسى على النحو الذي خلقه دون أن يكون ذلك موجبا لتأليهه كما فعل النصارى، ومنهم من قال في صدد الآية الثانية إن ضمير (إنّه) عائد إلى نزول عيسى وكون ذلك من أشراط الساعة.
ومنهم من قال في صدد الآية الثانية إن ضمير (إنّه) عائد إلى القرآن وإن الآية تعني تقرير أن القرآن يعلم السامعين بقيام الساعة أو يذكرهم بها أو إن علمها فيه أي إنه يقرر حقيقتها وحقيقة وقوعها فليس من محل للمماراة فيها، وقد يكون هذا القول أوجه.
وعلى كل حال فإن الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتدعيم، وبسبيل تقرير قدرة الله تعالى على ما هو معجز ومستحيل في نظر الناس مثل خلقه عيسى بدون أب وقيام الساعة التي لا يجوز المماراة فيها لأن كتاب الله يخبر بها. وعلى الناس أن يتبعوا دعوة الله فهي الصراط المستقيم الذي فيه نجاتهم وأن يحذروا الشيطان الذي يصدهم عنه ولا يسمعوا لوساوسه فإنه شديد العداوة لهم ولا يفعل إلّا ما فيه ضررهم.
تعليق على خبر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان
وعلى احتمال أن تكون جملة وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ تعني نزول عيسى عليه السلام قبيل نهاية الدنيا كشرط من أشراط الساعة نقول إن هذا النزول قد ذكر في أحاديث نبوية عديدة، منها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» ثم قال أبو هريرة:
«واقرأوا إن شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ(4/519)
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
» «1» ، ومنها حديث عن أبي هريرة أيضا رواه الشيخان وأحمد جاء فيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» «2» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو رواه مسلم جاء فيه: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج الدجّال في أمتي فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة» «3» . ومنها حديث رواه أبو داود والحاكم والإمام أحمد عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ليس بيني وبين عيسى عليه السلام نبيّ وإنّه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه. رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصّرتين، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله في زمانه الملل كلّها إلا الإسلام ويهلك المسيح الدجّال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنّمار مع البقر والذئاب مع الغنم وتلعب الصبيان بالحيات فيمكث عيسى في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون» .
ومن المحتمل جدا أن يكون أمر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله المسيح الدجال مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في أوساط الكتابيين على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة غافر.
وعلى كل حال فنقول هنا ما قلناه هناك من أن واجب المسلم أن يؤمن ويصدق بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار غيبية ويؤمن بأنها في نطاق قدرة الله تعالى وإن لم تدركها عقول الناس العادية وأن يفوض الأمر فيها إلى الله وأن يقف عندها دون تزيد وأن يؤمن كذلك بأن فيما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم حكمة استهدفت عظة أو عبرة أو تنبيها أو إنذارا مما يتصل برسالته ومهمته، وهذه النقطة بخاصة مهمة جدا في الموضوع.
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 325- 326. [.....]
(2) انظر التاج ج 5 ص 325- 326.
(3) انظر التاج ج 5 ص 325- 326.(4/520)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 64]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
. في الآيات تقرير بما كان من أمر رسالة عيسى عليه السلام، فإنه قال لقومه حينما بعثه الله بالبينات: إني جئتكم بالحكمة ولأبين لكم الصواب في بعض ما أنتم فيه مختلفون، ودعاهم إلى تقوى الله واتباعه، وإلى طاعته فيما يأمرهم به وينهاهم عنه مما هو من حكمة الله وبيناته التي جاءهم بها، وقرّر لهم أن الله ربّه وربّهم، وحثّهم على عبادته وحده، وبيّن لهم أن هذا هو الصراط المستقيم الذي يجب عليهم السير فيه.
تعليق على رسالة عيسى عليه السلام لقومه وشخصيته وأقواله
والآيات كذلك متصلة بالسياق، وفيها تتمة للرد الذي تضمنته الآيات [57- 59] كما هو المتبادر من حيث تقرير حقيقة شخصية عيسى وعبوديته لله تعالى ومدى رسالته. فعيسى لم يدّع الألوهية ولم ينسب نفسه إلى الله تعالى ابنا حقيقيا منفردا كنسبة الابن إلى الأب الطبيعية حتى تصحّ حجة المشركين واعتراضهم، وإنما هو عبد الله ونبي من أنبيائه وقد دعا إلى عبادة الله وحده مقررا أنه ربّه وربّ الناس أجمعين.
وعلى هذا الشرح تكون الآيات الثلاث السابقة لهذه الآيات قد جاءت اعتراضية واستطرادية لتقرير قدرة الله تعالى ودعوة الناس إلى السير في الطريق القويم وعدم المماراة في الساعة وعدم اتباع الشيطان والتحذير من عداوته لهم.
ولقد احتوت الأناجيل الأربعة المتداولة والمعترف بها من النصارى أقوالا كثيرة لعيسى عليه السلام فيها صراحة حاسمة بأنه مرسل من قبل الله وبأنه ابن البشر(4/521)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
وبأن العبادة يجب أن تكون لله وحده وبأن الذي أرسله هو أبوه وأبو الناس جميعا مما فيه تقرير بربوبية الله الشاملة وامتناع الدلالة على قصد تقرير أبوة وبنوة طبيعيتين بينه وبين الله. وفيها انتقادات شديدة لما كان عليه بنو إسرائيل وبخاصة رجال دينهم من انحرافات دينية وخلقية واجتماعية مخالفة لشرائع موسى وجوهرها ودعوة إلى تصحيح سلوكهم بعبارات صريحة وبالأمثال الرائعة الحكيمة. وفيها تبشير بالمبادىء السامية الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية بعبارات صريحة وبالأمثال الرائعة الحكيمة لذلك مما هو متسق مع ما احتواه القرآن والآيات التي نحن في صددها بصورة خاصة. ولقد أوردنا طائفة من نصوص الأناجيل في سياق سورة مريم فيها حكاية لأقوال عيسى عليه السلام بكونه مرسلا من قبل الله وإنه ابن البشر وإن العبادة يجب أن تكون لله وحده وإن الذي أرسله هو أبوه وأبو الناس جميعا وإنه لا صالح إلّا الله وحده مما له صلة بمحتوى الآيات التي نحن في صددها في شخصيته. فلم نر ضرورة للإعادة والتكرار. أما الانتقادات والأمثال والحكم والمبادئ والتعليمات التي صدرت عن عيسى عليه السلام مما عبرت عنه الآية: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فهي كثيرة جدا ومبثوثة في جميع الأناجيل وسهلة التناول على من أراد لكثرتها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد نصوص منها.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 65 الى 67]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)
. (1) الذين ظلموا: بمعنى الذين انحرفوا عن طريق الحق والهدى.
(2) الساعة: المتبادر أنها هنا بمعنى الأجل.
(3) الأخلاء: جمع خليل، وهو الصديق الوفي.(4/522)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
جاءت الآيات معقبة على ما سبقها لتقرر أن ما كان من اختلاف الناس فيما بينهم إنما كان انحرافا وبغيا منهم، ولتنذر الذين انحرفوا عن طريق الحق والهدى بعذاب شديد في يوم من الأيام، ولتتساءل تساؤل المنكر المندد عما إذا كانوا ينتظرون حلول آجالهم حتى يتبعوا الحق الذي ظهر، مع أن آجالهم لا تحل إلّا بغتة فتكون الفرصة المواتية لهم قد فاتت وصاروا إلى اليوم الموعود الذي ينقلب الأصدقاء فيه إلى أعداء، وينشغل كل بنفسه ولا ينجو من المصير الرهيب إلّا الذين اتقوا الله واتبعوا طريقه.
والمتبادر أن اختلاف الأحزاب الذي أشارت إليه الآية الأولى هو اختلاف الناس في أمر عيسى، وأن ما احتوته الآيات بعد ذلك هو استطراد فيه حثّ على التعجيل بالاعتراف بالحق واتباعه، وإنذار للمهملين المنحرفين، وتنويه وتطمين للمتقين الذين ساروا في طريق الحق.
ولقد شرحنا في سياق تفسير سورة مريم الاختلافات الكثيرة العجيبة التي كان النصارى عليها في أمر عيسى عليه السلام فلا نرى حاجة إلى إعادة أو زيادة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 68 الى 73]
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
. (1) تحبرون: من الحبور وهو السرور بما يتنعمون به.
في الآيات وصف لما سوف يلقاه المتقون الذين استثنوا في آخر الآية السابقة: فسوف يخاطب الله تعالى الذين آمنوا بآياته وأسلموا نفوسهم إليه(4/523)
وأخلصوا دينهم له وحده فيطمئنهم بأنهم لن يروا ما يبعث فيهم خوفا ولا حزنا.
ويأمرهم بدخول الجنة مع أزواجهم وأمثالهم حيث يسرّون كل السرور ويطاف عليهم بأطباق الذهب وأكواب الذهب ويتمتعون بكل ما تشتهيه النفس وتلذ العين من المآكل والمشارب والفواكه والمشاهد ووسائل الراحة والسرور. ويقال لهم إنكم خالدون في هذا النعيم وقد استحققتموه بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو ظاهر، والوصف الذي احتوته أخّاذ قوي الإغراء، وقد استهدف فيما استهدفه حمل الناس على الاستجابة للدعوة لضمان هذا المصير السعيد لأنفسهم وتبشير المؤمنين المستجيبين وتبشيرهم.
ولقد روى مسلم والترمذي عن أبي سعيد حديثا جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم:
ينادي مناد إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) » «1» .
حيث ينطوي في الحديث توضيح تشويقي للآيات.
تعليق على صحاف الذهب وأكواب الذهب
ولقد قلنا قبل: إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف النعيم والعذاب الأخرويين مستمدة من مألوفات الناس في الدنيا للتقريب والتأثير مع ما ينطوي في ذلك من حقيقة إيمانية. ولقد ذكرت هنا صحاف الذهب وأكواب الذهب كآنية للطعام والشراب، وذكر في سورة فاطر أن المؤمنين يحلون من أساور من ذهب
__________
(1) التاج ج 4 ص 205.(4/524)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير. وفي سورة الواقعة وصف مطنب لمجالس الشراب والطعام وأوانيها وخدمها، ومثل ذلك في سورة الصافات ومثل هذا في سور أخرى لم يأت دور تفسيرها. فكلّ هذا مما يسوغ القول إن بعض سامعي القرآن من الأغنياء والمترفين من كان يعرف هذه الوسائل ويتمتع بها. وفي هذا صورة من صور بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 78]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
. (1) لا يفترّ عنهم: لا يخفف ولا ينقطع عنهم.
(2) مبلسون: يائسون من النجاة.
(3) وما ظلمناهم: هنا بمعنى ضد العدل أي ما جرنا عنهم.
(4) ولكن كانوا هم الظالمين: بمعنى كانوا هم الذين جنوا على أنفسهم.
(5) مالك: هو اسم كبير خزنة النار من الملائكة على ما عليه جميع المفسرين وهذا هو المفهوم من الآية أيضا.
احتوت الآيات وصف مصير الكافرين المنحرفين عن طريق الحق والهدى مقابلة لوصف مصير المتقين جريا على الأسلوب القرآني:
فالمجرمون بانحرافهم وآثامهم خالدون في عذاب جهنم، ولن يخفف عنهم قط وسيكونون يائسين من النجاة منه. ولسوف يستغيثون بمالك كبير خزنة النار ليتوسط لهم عند الله في الموت والخلاص به من العذاب فيجيبهم بأن لا سبيل إلى ذلك وبأنهم ماكثون حيث هم إلى الأبد. فقد جاءهم الحق من الله بلسان رسوله فاستكبروا وكرهوا الحقّ وانصرفوا عنه فاستحقوا هذا المصير، ولم يظلمهم الله به ولم يجر عليهم ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وجنوا عليها.(4/525)
والوصف قوي مخيف من شأنه أن يثير الرعب في السامعين ويحملهم على الارعواء وهو مما استهدفته الآيات فيما استهدفته على ما هو المتبادر.
ويلفت النظر إلى ما في هذه الآيات والتي قبلها من صراحة وحسم في تقرير استحقاق المتقين والمجرمين مصائرهم وفق أعمالهم حقا وعدلا، وهو ما والت الآيات القرآنية في مختلف المناسبات تقريره مما مرت الأمثلة الكثيرة منه.
تعليق على اسم مالك خازن النار واستطراد إلى ذكر المذكورين في القرآن من كبار الملائكة ومهامهم
والمفسرون متفقون على أن مالك هو من كبار الملائكة، وعلى أنه خازن النار استنادا إلى بعض الأحاديث. وفحوى العبارة تفيد ذلك واسمه يأتي للمرة الأولى والوحيدة في القرآن. ولما كانت إحدى آيات سورة غافر قد ذكرت أن لجهنم خزنة وهي: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) ثم لما كانت إحدى آيات سورة المدثر تذكر أن عليها تسعة عشر من الملائكة: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ... [31] وذكرت ذلك بدون عدد آية في سورة التحريم: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) فيكون مالك والحالة هذه رئيس خزنة النار.
وقد ذكر في القرآن أسماء ملكين آخرين من كبار الملائكة هما جبريل وميكائيل في آيتي سورة البقرة هاتين: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وذكر(4/526)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
جبريل في آية من سورة التحريم أيضا وهي: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) ويلحظ أن مالك وجبريل فقط ذكرت مهمتهما أو بعض مهامهما دون ميكال. وقد ورد اسم ميكائيل في حديث نبوي رواه الترمذي جاء فيه: «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السّماء ووزيران من أهل الأرض، فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» «1» .
ويلحظ أن اسم مالك صريح العروبة معنى واشتقاقا في حين أن اسمي جبريل وميكال معرّبان عن صيغ غير صريحة العروبة هي جبرائيل وميكائيل. وأمر الملائكة وما يقومون به من مهام لله عز وجل أمور غيبية، ومن الواجب الإيمان بما جاء عنهم في القرآن، والثابت من الحديث، والوقوف عند ذلك بدون تزيد، مع ملاحظة أن ذلك مما كان معروفا ومتداولا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته من طريق الكتابيين الذين ذكرت كتبهم التي وصلت إلينا ذلك، وأن ذكر ذلك في القرآن والحديث بالصورة التي ذكروا فيها لا بد من أن يكون من مقتضيات حكمة الله ورسوله ومما يتصل بالدعوة المحمدية وأهدافها وإن لم تدركها العقول العادية، مع احتمال أن يكون قصد التمثيل والتقريب والاتساق مع الصور المألوفة في حياة البشر وملوكهم من ذلك.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 79 الى 80]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
. (1) أبرموا: بيتوا وقرروا وأحكموا.
__________
(1) انظر التاج ج 3 ص 281.(4/527)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
(2) نجواهم: تآمرهم في السرّ والخفاء.
والآيتان معقبتان على ما سبقهما تعقيب تنديد بالكفار وإنذار لهم: فإذا كانوا بيتوا المناوأة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الحق وأحكموا تدبيرهم فإن الله قد بيت لهم أمرا وهو ذلك العذاب الشديد الذي وصفته الآيات السابقة. وإذا كانوا يظنون أن الله لا يسمع سرّهم ونجواهم فهم مخطئون لأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يفعلون ويسجلونه.
والرقباء هم ملائكة الله، وقد ذكرت مهمتهم المذكورة هنا في سورة (ق) في صورة أوضح: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وما قلناه قبل قليل من وجوب الإيمان بما ورد في القرآن والحديث الصحيح من شؤون الملائكة وما يقومون به من مهام وخدمات لله والوقوف عند ذلك نقوله هنا مع التنبيه إلى ملاحظة كون هدف الآيات- أو من أهدافها كما هو المتبادر منها- إنذار السامعين وحملهم على تقوى الله واتقاء غضبه وعذابه.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 85]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
. في الآيات:
1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للكفار إذا ظللتم على زعمكم بأن لله ولدا فإني لا أزال أنكر ذلك وأعلن أني أول العابدين له وحده المقرين بتنزهه عما تصفون فهو ربّ السموات والأرض وربّ العرش، وربوبيته المطلقة الشاملة تجعل زعمكم باطلا كل البطلان.(4/528)
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
2- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يتركهم وشأنهم بعد ذلك ليخوضوا في الحديث ويقضوا أوقاتهم في اللهو واللعب والعبث إلى أن يصيروا إلى المصير الرهيب في اليوم الموعود، وبألا يحمل نفسه همهم فالله هو المتكفل بهم، وبأن يظل يقرر ويعلن بأن الله عز وجل هو الإله في السماء وفي الأرض وهو المحيط علمه بكل شيء الحكيم الذي لا يقع شيء إلّا بمقتضى حكمته وحكمه وهو المتعالي الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما العالم وحده بموعد الساعة والذي إليه مصيرهم ومرجعهم.
والآيات متصلة بالسياق من حيث إن الكفار المشركين وعقيدتهم موضوع الكلام فيها، وقد احتوت تسلية وتثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب موقف الكفار العنيد منه.
ولقد قال بعض المفسرين إن الآية الأولى قد أريد بها المساجلة في الجدل بحيث أريد بها القول إنه إذا كان يصح أن يكون لله ولد فأنا أول المصدقين الخاضعين لكل ما يثبت ويصح عن الله. كما قال بعضهم إن كلمة الْعابِدِينَ في معنى الجاحدين أو الرافضين «1» .
والشرح الذي شرحناه للآيات هو ما عليه جمهور المفسرين «2» ونرجو أن يكون هو الصواب.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 86 الى 87]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
. روى المفسرون «3» تأويلين للآية الأولى، أحدهما: «إن الذين يدعوهم المشركون من دون الله مثل عيسى والعزير والملائكة لن يشفعوا إلّا لمن شهد
__________
(1) انظر تفسير الآيات لابن كثير والزمخشري مثلا.
(2) انظر أيضا تفسيرها في تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير والزمخشري والبغوي.
(3) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن.(4/529)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
بالحق وهم يعلمون ذلك» وثانيهما: «إن الذين يحقّ لهم الشفاعة ممن يدعوهم المشركون من دون الله هم الذين يشهدون بالحق ويعلمونه فقط مثل عيسى والعزيز والملائكة وهؤلاء لا يمكن أن يشفعوا للمشركين» ومعظم المفسرين أخذوا بالتأويل الأول وهو الصواب المتسق مع روح الآية مع القول إن المقصود هنا من الذين يدعوهم المشركون من دون الله هم الملائكة لأنهم هم موضوع الكلام من أول السورة، أما الآية الثانية فقد احتوت تنديدا بتناقض المشركين فهم إذا سئلوا عمن خلقهم لما وسعهم إلّا القول إنه الله، وتساؤل استنكاري وتنديدي عن انصرافهم عنه والحالة هذه إلى غيره وإشراك غيره معه.
والآيات متصلة بسابقاتها من حيث إن الكفار المشركين هم موضوع الكلام فيها كما هو المتبادر، والاتصال يبدو كذلك في الحديث عن الذين يدعوهم المشركون مع الله ويأملون شفاعتهم وهم الملائكة الذين زعموا أنهم بنات الله، وهو الزعم الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان رفضه في الآيات السابقة.
وفي الآية الأولى تخييب لآمال المشركين فهم يرجون شفاعة الملائكة.
والملائكة لا يمكنهم أن يشفعوا إلّا للمؤمنين بالحق العالمين به وقد استهدف فيما استهدف تسفيه المشركين وحملهم على الارعواء. وفي جملة إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) [86] تلقين قرآني مستمر المدى بوجوب التزام الحق والشهادة به عن علم ويقين وتنويه بمن يكونون كذلك. ولقد قال بعضهم إن الآية الثانية نسخت بآيات القتال وهذا ما يكررونه في المناسبات المماثلة، وقد ذكرنا وجه الحق في هذه الآية وأمثالها في مناسبات سابقة فنكتفي بهذه الإشارة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 88 الى 89]
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
. تعددت الأقوال في تخريج كلمة وَقِيلِهِ ومحل عطفها، والمتبادر أنها حكاية قول صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم يعبر به عن ألمه من عناد الكفار ويأسه من إيمانهم.(4/530)
وقد سرى عنه في الآية الثانية وأمر بالصفح والإغضاء عنهم وإعلان السلام للناس وتركهم وشأنهم فسيعلمون من هو على الحق ومن هو على الضلال.
والصلة قائمة بين الآيتين وما سبقهما من حيث إن الكفار المشركين هم موضوع الكلام فيهما وقد جاءتا خاتمة قوية لموقف اللجاج والحجاج وللسورة معا جريا على النظم القرآني.
وقد انطوى في الجملة الأخيرة من الآية الثانية تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وبثّ الوثوق والاستعلاء في نفسه. والأمر بالصفح عنهم وإعلان السلام للناس ينطويان على التوكيد بأسلوب رائع محبب بأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق ثم ترك الناس وشأنهم يختارون ما يريدون دون ما إجبار ولا إبرام ولا عداء ولا حقد مع تقرير هذا له ولمن آمن به، ومع الاطمئنان إلى أن ما يدعو إليه هو الحق والهدى، وأن ذلك سوف يظهر للناس مما قد تكرر تقريره في القرآن كثيرا وبأساليب متنوعة. ولقد ظهر ذلك حقا وتحققت المعجزة القرآنية بدخول الناس في دين الله أفواجا وفيهم غالبية أهل مكة الذين كانوا يقفون المواقف العنيدة المناوئة التي حكتها الآيات والتي كانت تثير في النبي صلى الله عليه وسلم الحزن والألم والحسرة.
ولقد روى المفسرون «1» عن بعض علماء التابعين مثل قتادة ومقاتل أن حكم الآية الثانية قد نسخ بآيات القتال، وهذا القول قد تكرر في مناسبات مماثلة كثيرة سبقت أمثلة منها. ونكرر هنا ما قلناه قبل من أن النسخ قد يصح بالنسبة إلى الأعداء المعتدين على المسلمين والصادين عن الدعوة والطاعنين بالدين الإسلامي. أما الموادّون والمسالمون للمسلمين فالتعامل معهم في نطاق الصفح والسلام وتركهم وشأنهم بعد الدعوة وبيان هدى الله فهو محكم على ما أوردنا دلائله في سياق سورة (الكافرون) والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.(4/531)
تعليق على جملة فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ
وبالإضافة إلى ما قلناه في مدى هذه الجملة في مقامها فهناك ما يمكن أن يضاف إليه أيضا.
فالأمر هنا موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ليصفح عن الجاحدين برسالته وليقول لهم سلام، وفي سورة الأنعام آية تأمره بأن يقول للمسلمين الفقراء الذين آمنوا به سلام عليكم [الآية/ 54] وهناك آيات كثيرة أخرى منها آيات تفيد أن السلام هو تحية أهل الجنة فيما بينهم [آية سورة يونس/ 10 وآية سورة إبراهيم/ 23] تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ومنها ما يفيد أن الملائكة يستقبلون المؤمنين في الآخرة بالسلام [النحل/ 32 والزمر/ 73 والرعد/ 24] ومنها ما أمر فيه بإلقاء السلام على أهل البيوت التي يدخلها المسلمون: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ... سورة النور: [61] ، ومنها ما وجّه للأنبياء من الله [آيات سورة الصافات/ 109- 130] ومنها ما حكي عن عباد الرحمن حينما يخاطبهم الجاهلون كما جاء في آية سورة الفرقان هذه: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) .
والسلام هو بمعنى الأمان وضد الخصام وفيه معنى التطمين والتحبب والتأنيس، ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في الحثّ على تعاطيه وآدابه، منها حديث رواه أبو داود والترمذي ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا أفلا أدلّكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» »
. وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام» «3» . وحديث رواه الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السلام قبل الكلام»
__________
(1) أي على أهلكم وذويكم.
(2) التاج ج 5 ص 223.
(3) المصدر نفسه.(4/532)
وقال: «لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلّم» «1» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يسلّم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك» «3» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أنس: «أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيمرّ بصبيان فيسلّم عليهم» «4» ، وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرّ علينا بالمسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم» «5» .
وحديث رواه الترمذي عن أبي جري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله» «6» . وحديث رواه البخاري عن أسامة بن زيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلّم عليهم» «7» . حيث يبدو من كل هذا تلقين جليل رباني ونبوي للمسلمين بأن يجعلوا السلام عنوانا لمقابلاتهم وصلاتهم بالناس على اختلاف فئاتهم مما فيه روعة وجلال ومما جعل السلام على الناس من العادات الحسنة التي تميز بها المسلمون منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا، ولقد بدأت السورة بعد مطلعها بالتنديد بالمشركين لعقيدتهم بكون الملائكة بنات الله وانتهت بمثل ذلك أيضا، وهكذا تمّ الارتباط بين بدايتها ونهايتها مما يدل على ترابط فصولها ووحدة نزولها.
__________
(1) انظر التاج ج 5 ص 224- 227.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه. [.....]
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.(4/533)
سورة الدخان
في السورة تنويه بليلة نزول الوحي بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وتوكيد بصدق ذلك وتنديد بالكفار على إصرارهم على الكفر والعناد وإنذار لهم، وتذكير بما كان من موقف فرعون وقومه المماثل من رسالة موسى وما كان من إغراقهم ونجاة بني إسرائيل ونعمة الله عليهم بسبب استجابتهم للدعوة. وحكاية لما كان يقوله الكفار في صدد إنكار البعث وتسفيه لقولهم وتوكيد حكمة الله وعدله في خلق الكون ومجيء يوم القيامة وبيان لمصير الكفار والمتقين فيه.
وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
ولقد روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» «1» . وروى الترمذي عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له» «2» ، وأخرج الطبراني حديثا جاء فيه: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم جمعة بنى الله له بيتا في الجنة» «3» .
وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بهذه السورة لا بدّ له من حكمة، ولعلّ منها ما انطوى فيها من مواعظ وتنويه بالقرآن وليلة نزوله وبالإضافة إلى ذلك فيها دلالة على أن السورة كانت تامة الشخصية معروفة الاسم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) التاج ج 4 ص 18- 19.
(2) التاج ج 4 ص 18- 19.
(3) التاج ج 4 ص 18- 19.(4/534)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
. (1) يفرق: بمعنى يقضي أو يقرر.
(2) حكيم: فيه الحكمة والإحكام.
ابتدأت السورة بحرفي «الحاء والميم» للاسترعاء والتنبيه على ما رجحناه في أمثالهما. وأعقبهما قسم بالكتاب المبين ثم تقريرات ربانية كجواب للقسم أو ما بمثابة ذلك:
1- بأن الله قد أنزل الكتاب في ليلة عظيمة الشأن جرت عادته على قضاء كل أمر خطير محكم من أوامره فيها.
2- وبأنه قد أراد بإنزال الكتاب إنذار الناس وتنبيههم.
3- وبأنه قد أرسل رسوله بمهمة الرسالة العظمى رحمة بهم، فهو السميع العليم ربّ السموات والأرض وما بينهما لا إله إلّا هو يحيي ويميت ربّ السامعين وربّ آبائهم الأولين.
4- وبأن هذه هي الحقيقة الناصعة إذا كان السامعون يريدون المعرفة واليقين.
والآيات في صدد توكيد نسبة القرآن إلى الله، ثم في صدد توكيد صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وكونها رحمة للناس، وهكذا جاء مطلع السورة متسقا في أسلوبه وهدفه مع مطالع شقيقاتها الحواميم.(4/535)
تعليق على آية إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وما بعدها وما روي عن ليلة نصف شعبان
ولقد اختلفت الأقوال في الليلة المذكورة فهناك من قال إنها ليلة القدر «1» واستند في ذلك إلى سورة القدر التي ذكرت أن القرآن أنزل في ليلة القدر، وإلى آية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [185] ثم إلى الأحاديث المروية في صدد كون ليلة القدر هي في العشر الأخيرة من رمضان والتي أوردناها في سياق تفسير سورة القدر، وهناك من قال إنها ليلة النصف من شعبان استئناسا من بعض أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه: «ينزل الله جلّ ثناؤه ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكلّ نفس إلّا إنسانا في قلبه شحناء أو مشركا بالله» ومنها حديث ثان جاء فيه: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى» «2» . ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه: «يقضي الله الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها الموكلين بها» ويعني بذلك الملائكة على ما هو المتبادر «3» . ومنها حديث عن الحسن البصري جاء فيه: أن أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى مثلها في السنة المقبلة تفصل في هذه الليلة. أي ليلة نصف شعبان» «4» . وبعض الذين قالوا إنها ليلة القدر من رمضان رووا أن هذه الليلة هي الليلة التي تفصل فيها الأمور الهامة من سنة إلى سنة من أرزاق وآجال ومصائب «5» وبذلك وفقوا بين القولين.
وأكثر الأقوال في جانب القول إنها ليلة القدر في رمضان وهو الأصوب
__________
(1) انظر تفسير سورة القدر وتفسير الآية التي في صددها في تفسير ابن كثير.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.
(3) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.
(4) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.
(5) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.(4/536)
والأولى الذي تلهمه الآية نفسها بمقارنتها بآيتي البقرة وسورة القدر. ويلحظ أن الأحاديث المساقة عن ليلة نصف شعبان ليس فيها إشارة صريحة إلى نزول القرآن فيها، وهذا ما جعلنا نقول إنهم استأنسوا بها استئناسا، هذا مع التنبيه على أنها لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد أنكر ابن كثير قول من قال إنها ليلة نصف شعبان وقال إن الذين يقولون ذلك قد أبعدوا النجعة وإن نص القرآن يؤيد أنها ليلة القدر في رمضان وأن الحديث النبوي عن ليلة شعبان مرسل ومثله لا يعارض به نص ثابت «1» .
ولقد أعاد بعض المفسرين «2» القول في مناسبة هذه الآية بأن الضمير في أَنْزَلْناهُ عائد إلى جميع القرآن حيث أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجما كما روي عن ابن عباس. وقد أورد الطبري في سياق هذه الآية رواية نزول صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة في السادس منه، والزبور في السادس عشر، والإنجيل في الثامن عشر، والفرقان في الرابع والعشرين. وقد علقنا على هذا بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة القدر فلا نرى حاجة إلى إعادة أو زيادة.
والوصف الذي وصفت به هذه الليلة التي هي على الأرجح ليلة القدر في أواخر شهر رمضان في الآيات [3- 4] من السورة قد يؤيد ما قلناه في سياق تفسير سورة القدر من أن تسمية (ليلة القدر) هي تسمية علمية وأنه كان لهذه الليلة خطورة دينية ما في أذهان السامعين.
هذا، ونقول- تعليقا على ما روي من تقدير الآجال والأرزاق وقضاء الأقضية من سنة إلى سنة في ليلة النصف من شعبان أو في ليلة القدر وما اعتاده المسلمون من الاحتفال بليلة النصف من شعبان وقراءة أدعية خاصة فيها- إن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة الإسناد ولا تظهر حكمة الله فيها، ويجب التحفظ إزاءها.
وإن الاحتفال بليلة النصف من شعبان ليس له أصل ثابت من سنة نبوية ولا صحابية.
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن. [.....](4/537)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
وقد يرد أن جملة فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) قد تقوي صحة الأحاديث الواردة. ولسنا نرى ذلك، فالأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكر ليلة النصف من شعبان. وهذه الجملة تشير إلى الليلة التي أنزل فيها القرآن وهي ليلة القدر بنص القرآن. وقد يكون أريد بالجملة الإخبار بأن حكمة الله شاءت أن يقضي فيها الأمور الهامة التي منها إنزال الوحي والقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله. ولعل عبارة مُنْذِرِينَ (3) في الآية السابقة لها وعبارة مُرْسِلِينَ (5) في الآية التالية لها مما يدعم هذا التوجيه ويبعد على ما هو المتبادر موضوع تقرير الآجال والأرزاق والأحداث السنوية، والله أعلم.
[سورة الدخان (44) : الآيات 9 الى 16]
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
. جاءت الآيات معقبة على مطلع السورة: ومع أنه لم يسبق كلام عن أحد فالمتبادر من نص الآيات أن الضمير الغائب عائد إلى الكفار. وقد نددت أولا بالكفار لأنهم يتلقون ما يسمعون من آيات كتاب الله بالشك واللعب والهزء.
وتوعدتهم ثانيا باليوم الذي ينتشر فيه من جانب السماء دخان عظيم يملأ الجو ويغشى الناس ويشعر الكفار يومئذ بما هو واقع عليهم من عذاب الله الأليم فيلجأون إليه لكشفه عنهم ويعلنون بأنهم مؤمنون. وتساءلت ثالثا تساءل المنكر المستنكر عما إذا كان هذا ينفعهم حينئذ وقد جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآيات الواضحة وهم في متسع من الوقت فأعرضوا عنه واستخفوا به ونسبوا إليه الجنون وتعلّم ما يقوله من الغير. ووجهت رابعا الكلام إليهم فالله سيستجيب إليهم هذه المرة ويكشف عنهم العذاب ردحا من الزمن ولكنهم سوف يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا فيه من كفر وعناد وحينئذ تنزل بطشة الله الكبرى فيهم وينتقم منهم.(4/538)
وتأويل إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) الذي أوردناه في الفقرة (رابعا) هو ما عليه جمهور المفسرين بناء على بعض الروايات. وقد تبادر لنا تأويل آخر لجملة إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) وهو (إنكم راجعون إلينا على كل حال يوم البطشة الكبرى أي يوم القيامة ولو كشفنا عنكم العذاب ردحا من الزمن استجابة لدعائكم) وهناك من أوّل البطشة الكبرى بيوم القيامة وهذا مما يؤيد تأويلنا والله أعلم.
تعليق على آية فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) وما بعدها وما روي في سياقها
ولقد رويت رواية عن ابن مسعود فيها بيان لمدى ومفهوم هذه الآيات، حيث قال ردا على من قال إن الآيات هي في صدد إنذار الكفار بالعذاب الأخروي ما مفاده: إن هذا ليس من العلم. وإن من العلم أن يقول الإنسان لما لا يعلم لا أعلم. إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان أو يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان من الجهد. فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى لهم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنذرهم الله بالبطشة الكبرى. وكانت يوم بدر.
وقد أورد هذه الرواية معظم المفسرين وإن كان بعضهم أوردها مختلفة بعض الشيء عما أوردها البعض الآخر، ومن ذلك أن أبا سفيان هو الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: جئت تأمر بصلة الرحم وقد هلك قومك فادع لهم «1» . ورواها
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي.(4/539)
البخاري ومسلم والترمذي بدون ذكر أبي سفيان «1» .
ويروي المفسرون «2» إلى هذه الرواية حديثا عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أول الآيات: الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر والدخان» . فسأله حذيفة: وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) ثم قال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة- يعني الدخان- أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة وأمّا الكافر فتكون منه بمنزلة السكران» . حيث يبدو أن هذا الحديث في صدد تفسير الآيات وينقض تفسير ابن مسعود لها وكونها في صدد حادث واقعي حدث في مكة في زمن النبي «3» . ومع أن الطبري ضعف هذا الحديث ورجح صحة تفسير ابن مسعود فإن الطبراني روى حديثا آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف بأن إسناده جيد جاء فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كلّ مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» «4» . حيث قد يؤيد هذا حديث حذيفة ويفيد أن الدخان هو علامة من علامات آخر الزمان.
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 206.
(2) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. وقد أورد المفسرون هذا الحديث بشيء من التغاير مع الاتفاق في الجوهر ومنهم من روى صيغة من صيغة عن حذيفة بن أسيد الغفاري والنص الذي أوردناه من الطبري. ومما ورد في النص الوارد في تفسير ابن كثير عن حذيفة بن أسيد: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» . وقال ابن كثير عقب هذا: تفرد مسلم بإخراجه في صحيحه. وهناك نصوص أخرى مقتضبة فيها الدخان كعلامة من علامات الساعة أيضا.
(3) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري أيضا.
(4) انظر تفسير ابن كثير.(4/540)
ولقد ورد في سورة (المؤمنون) هذه الآيات: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وفي سورة النحل هذه الآية: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) فروى المفسر البغوي في صدد آيات سورة المؤمنون أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الرحم، ألست تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين؟ فقال: بلى. فقال: قد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فادع الله أن يكشف عنّا هذا القحط. فدعا فكشف. وروى في صدد آية سورة النحل أنها نزلت في ظرف ابتلى الله قريشا فيه بالقحط والجوع وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى جهدوا وأكلوا العظام والجيف والكلاب وحتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه دخان من الجوع فكلّم رؤساء مكة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له:
هبك عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن للناس بحمل الطعام إليهم.
والرواية الأولى هي نفس الرواية المروية عن ابن مسعود في صدد آيات سورة الدخان التي نحن في صددها. والرواية الثانية تفيد أن الحادث وقع بعد الهجرة مع أنه لم يرو أحد مدنية آية النحل فضلا عن التشابه في جوهر الروايات المروية في صدد آيات السور الثلاث.
وإلى هذا فهناك أقوال مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم تفيد أن البطشة الكبرى تعني عذاب الله الأكبر يوم القيامة وليس نصر بدر كما ورد في رواية ابن مسعود «1» .
وننبه على أن جمهور المفسرين وفي مقدمتهم شيخهم الطبري في جانب
__________
(1) انظر تفسير البغوي وابن كثير.(4/541)
ترجيح ما روي عن ابن مسعود في صدد تفسير الآيات المروي في كتب البخاري ومسلم والترمذي. أما نحن فإننا في حيرة وتردد تجاه الرواية. لأننا نلاحظ أن نص الآية [10] لا يفيد حدوث الدخان وإنما يأمر بارتقاب حدوثه والآيات التي بعدها هي نتائج لما سوف يأتي. والآية [12] تحكي قول الكفار إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) حينما يحلّ عليهم عذاب الدخان مع أن رواية ابن مسعود لا تذكر أنهم أعلنوا للنبي صلى الله عليه وسلم إيمانهم حينما جاءوا إليه يطلبون منه الاستسقاء وكشف العذاب. وفحوى الآية [12] يفيد أن طلب كشف العذاب كان موجها منهم إلى الله والرواية تذكر أنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الدعاء بكشفه. والفرق جوهري ومهم، ونصر بدر على خطورته ليس أكبر بطشات الله في قريش لأنهم ظلوا بعده أقوياء وغزوا المسلمين في عقر دار هجرتهم مرتين ونالوا ثأرهم منهم عن بدر في إحداهما وهي واقعة أحد، وزلزلوهم وأوقعوا الرعب الشديد في قلوبهم في ثانيتهما. هذا عدا أن أسلوب الآية [25] يلهم أن التهديد والإنذار أبعد مدى وأجسم أثرا ويلهم بالتالي أنه إنذار بانتقام قاصم ولم يقع عليهم بطشة ربانية ساحقة في الدنيا فيكون احتمال القصد فيها لعذاب الآخرة أقوى.
ومهما يكن من أمر فالآيات كما قلنا جاءت معقبة على ما سبقها لبيان موقف الكفار من القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وللتنديد بهم وإنذارهم إنذارا قاصما.
على أن في الآيات كما شرحناها ما يفيد إنذارا بعذاب دنيوي بالدخان سوف يقع عليهم واستشعارهم حينئذ بالندم ومسارعتهم إلى إعلان إيمانهم وطلبهم من الله كشفه وبيانا بأن الله قد يكشفه عنهم ولكنهم سوف يعودون إلى غيهم فيستحقون بطشة الله الكبرى.
ولقد حكيت مواقف مماثلة في آيات أخرى منها آيات سورة يونس هذه:
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ(4/542)
بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) .
ولعل ما جاء في آيات سورتي (المؤمنون) و (النحل) التي أوردناها آنفا من ذكر لعذاب أو بلاء رباني قد وقع فعلا عليهم هو لتحقيق ما أنذرهم الله من عذاب دنيوي في آيات سورة الدخان. ويلحظ في رواية تفسير آية النحل أنهم كانوا يرون السماء شبه دخان من الجوع مما قد يكون فيه تصديق ذلك. وعلة هذه الرواية أنها تفيد أن عذاب الله وقع عليهم بعد الهجرة وقد يكون ذلك التباسا والله أعلم.
بقي ما ورد في الأحاديث النبوية عن كون الدخان من أشراط الساعة مع آيات أخرى. فإذا صحت فيكون هذا أمرا آخر غير الدخان الذي يوجه الإنذار به إلى الكفار السامعين بسبب مواقفهم الجحودية والذي تذكر الآيات وعد الله بكشفه اختبارا لهم على ما هو المتبادر. ويكون ذكره في سياق هذه الآيات من قبيل ذكر الشيء عند ذكر ما يماثله. ويكون مما شاءت حكمة الله ورسوله الإنذار بحدوثه عند قيام الساعة حينما يأتي الوقت المعين في علم الله تعالى ويوقف عنده مع الإيمان به كما هو الواجب تجاه كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن من الأمور الغيبية.
تعليق على توالي الإنذار بانتقام الله
ويلحظ أن الإنذار بانتقام الله من كفار العرب قد توالى في هذه السورة وما قبلها حيث يلهم هذا أن الكفار قد أخذوا يشتدون في مناوأتهم وأذاهم.
ونستطرد إلى ذكر مسألة من المسائل التي يثيرها بعض الباحثين من غير المسلمين حيث جعل توالي إنذار القرآن بالانتقام في هاتين السورتين وغيرهما ووصف الله بالغضب وبذي الانتقام وبالقوي وبالشديد العقاب وبالبطش وبالجبار والقهار المتكبر المهيمن إلخ، وبعض الباحثين من غير المسلمين ومن جملتهم(4/543)
فيليب حتي «1» يقولون: «إن صفات الحب في الله تتضاءل أمام صفات القوة والجلال في العقيدة الإسلامية» . وفي هذا افتئات مؤسف قائم على الهوى ولم يأت عن تحرّ وتدقيق. فالقرآن قد ذكر إلى هذه الصفات صفات الرحمن والرحيم والغفور والعفوّ والودود والكريم والرزاق والتواب والسلام والغفار والمجيب والقريب والشكور والحليم والحميد. بل إن عدد المرات التي وردت فيها هذه الصفات أكثر من المرات التي وردت فيها تلك، وبينما استعملت تلك في مقامات فيها حكاية مواقف المشركين والكفار من الدعوة النبوية وما كان من عنادهم ومناوأتهم بل وأذاهم للمسلمين استعملت هذه في مقامات تلهم أنها الصفات الشاملة مما ورد في آيات كثيرة كثرة تغني عن التمثيل. وهذا فضلا عن الآيات الكثيرة التي نفت الظلم عن الله وقررت أن الله لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولو يعجّل الله لهم بالشرّ استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم وأنه الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بالصفح والسلام والصبر والتسامح والإحسان والإعراض والهجر الجميل والصفح الجميل إلخ. ودعت بأساليب متنوعة إلى التوبة والإنابة إلى الله وعدم القنوط من رحمة الله وفتحت الباب واسعا لكل مذنب مهما عظمت ذنوبه ولكل كافر ولكل منافق مهما أجرموا واجترحوا السيئات لإصلاح أنفسهم وبدء حياة جديدة والاستمتاع بعفو الله ورحمته وغفرانه وتسامحه مما احتوته آيات كثيرة جدا كثرة تغني عن التمثيل كذلك.
تعليق على تعبير وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
وحكاية قول الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه معلّم يقصد بها الإشارة إلى ما كانوا يقولونه عنه أنه يعينه على نظم القرآن قوم آخرون على ما حكته آية سورة الفرقان
__________
(1) تاريخ العرب ج 1 ص 177 طبعة ثانية. انظر أيضا روح الإسلام لطبارة طبعة رابعة ص 82- 83.(4/544)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وإنه يعلّمه شخص غير عربي على ما حكته آية سورة النحل هذه:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) .
وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الفرقان. أما كلمة مجنون فقد تكررت حكاية صدورها من الكفار مرارا عن النبي صلى الله عليه وسلم ومرّ من ذلك أمثلة عديدة في سور القلم والأعراف وسبأ والقمر والصافات والتكوير. وعلقنا عليها بما فيه الكفاية وبخاصة في سورة القمر.
وعلى كل حال ففي التعبيرين دلالة على ما كان يظنه الكفار في النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بواعث جحودهم وتصاممهم عن دعوته، ولذلك جاءت الآيات بالأسلوب التنديدي والإنذاري الذي جاءت به.
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
. (1) فتنّا: ابتلينا وامتحنّا.(4/545)
(2) أدوا إليّ: تعالوا إليّ وأقبلوا على دعوتي.
(3) فاعتزلوني: ابتعدوا من طريقي أو دعوني وشأني.
(4) رهوا: ساكنا أو جافا أو على هيئته التي عبر عليها.
(5) نعمة: حياة منعمة أو ناعمة.
(6) اخترناهم على علم: اخترناهم عن بصيرة وعلم بأحوالهم، وقد قال الزمخشري: «واخترناهم على علم بأنهم قد ينحرفون لأجل امتحانهم واختبارهم» .
(7) ما فيه بلاء مبين: ما فيه بلاء واختبار شديدان.
في الآيات إشارة إلى ما كان من رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه وعاقبتهم وعبارتها واضحة. وقد جاءت على أثر حكاية موقف الكفار والتنديد بهم وإنذارهم جريا على الأسلوب القرآني. واحتوت ما احتوته بأسلوب الإشارة والإجمال المتسق مع ما ورد في القصة مسهبا في المناسبات السابقة. وهذا أيضا من أساليب القصص القرآني حسب ما اقتضته حكمة التنزيل واستهدفت- كما يستلهم من أسلوبها القوي النافذ ومن مضمونها- إنذار الكفار وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. فقد أهلك الله فرعون وقومه، وكانوا أشد منهم قوة ولم يمهلهم ولم تبك عليهم سماء ولا أرض وسلبهم ما كان لهم من زروع وجنات وعيون وما كانوا يتمتعون به من حياة ناعمة مترفة. وأورث ذلك لغيرهم ونجّى بني إسرائيل مما كانوا يقاسونه من عذاب فرعون الشديد المسرف المستكبر ثم جعلهم خير العالمين عن علم بأحوالهم اختبارا وامتحانا لهم. وما جاء في الآيات عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون متسق مع ما جاء متصلا في السور السابقة. وليس فيها جديد إلّا أمر الله لموسى أن يترك البحر رهوا ليدخله فرعون وقومه على أثرهم. وهذا ليس واردا في سفر الخروج ولكن نعتقد أنه مما كان يرويه اليهود نقلا عن قراطيس كانت في أيديهم مثل سائر النقاط التي وردت في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة من قصص موسى وفرعون. ويلحظ أن الآيات هنا لم تذكر بني إسرائيل كورثة لفرعون وقومه مع أن ذلك ذكر في سورتي الشعراء والأعراف. ومع ذلك فالعبارة كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) لا تنقض ذلك كما هو المتبادر. والعبرة في الآيات هي(4/546)
تقرير كون الله قادرا على أن يفعل بكفار العرب ما فعله بفرعون وقومه الذين كانوا أقوى وأعظم منهم وأن يلطف بالمؤمنين فيجعلهم ورثة لهم يرثون ما هم فيه من أسباب الغنى والحياة الناعمة ووسائلها ويختارهم على العالمين بدورهم مثل ما كان من لطفه ببني إسرائيل.
تعليق على آية وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32)
وجمهور المفسرين على أن الْعالَمِينَ (32) في جملة وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) تعني أهل زمانهم ولا تعني أهل الأرض في كل زمن «1» .
وهذا هو المعقول، لأن الله جعل العرب الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم أو كل من آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقا خير أمة أخرجت للناس كما جاء في الآية [110] من سورة آل عمران: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ وهذه الآية تعلل هذه الخيرية بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقياسا على ذلك فإن خيرية بني إسرائيل إنما كانت على أهل زمانهم بسبب استجابتهم لدعوة موسى عليه السلام وإيمانهم بالله وحده والتزامهم شرائعه. ولا يتسق مع روح التلقين القرآني ولا مع حكمة الله أن يدوم حكم الخيرية لهم حينما انحرفوا عن عبادة الله إلى عبادة العجل والبعل وانحرفوا عن شرائع الله واقترفوا الفواحش والموبقات وحرفوا كتب الله وكلامه عن مواضعه وافتروا على الله الكذب ونسبوا إليه ما ليس منه في حياة موسى وبعده على ما سجلته عليهم أسفار عديدة من أسفار العهد القديم «2» وآيات كثيرة
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والخازن والبغوي.
(2) النصوص كثيرة ومبثوثة في معظم أسفار العهد القديم بحيث يستطيع من يشاء أن يعثر عليها بسهولة وسعة. وسواء منها ما نسب إلى موسى عليه السلام وهي أسفار الخروج والعدد والتثنية واللاويين أو الأحبار أم الأسفار التي دونت بعد موسى عليه السلام كيوشع والقضاة والملوك وأخبار الأيام وأشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبيديا وميخا وحبقوق وصنفيا وملاخي.(4/547)
من القرآن الكريم «1» وعلى ما نبهنا عليه في سياق تفسير الآية [137] من سورة الأعراف.
تعليق على جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ
ومع أن المتبادر أن جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ هي من قبيل المجاز والتمثيل والمبالغة في التبكيت والتهكم عليهم وتهوين شأنهم عند الله رغم ما كانوا عليه من قوة وترف وهو ما قاله الزمخشري في الكشاف فإن المفسرين أوردوا أحاديث تبدو لنا غريبة لأنها في صدد بيان كون بكاء السماء والأرض حقيقة وكونهما تبكيان على المؤمنين حين موتهم. من ذلك «2» حديث رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله وكلامه فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا الآية: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم» . ومن ذلك حديث عن ابن عبيد الحصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غابت عنه بواكيه إلّا بكت عليه السماء والأرض، ثم
__________
(1) الآيات القرآنية كثيرة ومبثوثة في سور عديدة وبخاصة في السور الطويلة فنكتفي بالإشارة إلى سورها وأرقامها: سورة البقرة [51- 69 و 75- 96 و 100- 105] وسورة آل عمران: [69- 78 و 98- 100 و 110- 112] وسورة النساء: [43- 54 و 152- 161] وسورة المائدة: [11- 13 و 32- 33 و 41- 45 و 56- 64 و 78- 82] .
(2) هذه الأحاديث منقولة عن كتاب تفسير ابن كثير في سياق تفسير الآية، انظر أيضا تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.(4/548)
قرأ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ثمّ قال إنهما لا تبكيان على الكافر» . ومن ذلك حديث عن عباد بن عبد الله أن رجلا سأل عليّ بن أبي طالب: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: «إنه ليس من عبد إلا له مصلّى في الأرض ومصعد عمله من السماء وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد إلى السماء ثم قرأ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) » . ومن ذلك حديث روي عن سعيد بن جبير قال: سأل رجل ابن عباس: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: «نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلّا وله باب في السماء ينزل منه رزقه فإن فقده بكى عليه وإذا فقده مصلّاه من الأرض التي كان يصلّي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عزّ وجلّ منهم خير فلم تبك عليهم السماء والأرض» . وحديث آخر عن ابن عباس أيضا جوابا على سؤال جاء فيه: «أتعجب، وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دويّ كدويّ النحل» .
وحديث عن مجاهد جاء فيه: «ما مات مؤمن إلّا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا» . ومن ذلك حديث عن إبراهيم: «ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلّا على رجلين: يحيى بن زكريا والحسين بن علي حين قتلا» ، فسأله السائل: أليس السماء والأرض تبكيان على المؤمن؟ فقال: «ذاك مقامه حين يصعد عمله. ثم قال له:
أتدري ما بكاء السماء؟ قال: لا، قال: تحمرّ وتصير وردة كالدّهان» . ومن ذلك حديث عن يزيد بن أبي زياد قال: «لما قتل الحسين بن علي احمرّت آفاق السماء أربعة أشهر واحمرارها بكاؤها» . وذكروا أيضا- وهذه عبارة ابن كثير- في مقتل الحسين: «إنّه ما قلب حجر يومئذ إلّا وجد تحته دم عبيط وإن الشمس كسفت والأفق احمرّ وسقطت حجارة» .
ولم يرد من هذه الأحاديث في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة إلّا حديث واحد رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلّا وله بابان(4/549)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه فذلك قوله فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) «1» .
ويلوح أن هذا الحديث قد استهدف فيما استهدفه تبشير المؤمنين وتطمينهم، ولقد عقب ابن كثير على الروايات الثلاث الأخيرة التي ذكر فيها بكاء السماء واحمرارها وكسوف الشمس وانبثاق الدماء من تحت الحجارة في ظرف مقتل الحسين رضي الله عنه. فقال: «وفي كل ذلك نظر والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه.
وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين ولم يقع شيء مما ذكروه. فقد قتل أبوه وهو أفضل منه بالإجماع وعثمان بن عفان قتل محصورا مظلوما ولم يكن شيء من ذلك وعمر بن الخطاب قتل في المحراب ولم يكن شيء من ذلك. وهذا سيد البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم مات لم يكن مما ذكروه شيء. ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس: خسفت لإبراهيم فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبهم وبيّن لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. وهذا حقّ.
ونخشى أن يكون للشيعة يد في الأحاديث الأولى لإثبات أن ما اخترعوه في مقتل الحسين له أصل من سنة أقدم، والله أعلم.
[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 39]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
. (1) منشرين: من النشور وهو البعث بعد الموت.
__________
(1) التاج ج 4 ص 206.(4/550)
في الآيات حكاية لما كان يقوله الكفار في إنكار البعث حيث كانوا يقولون إننا سنموت موتة أبدية لن نقوم بعدها. ثم يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينذرهم بالبعث طالبين منه الإتيان بآبائهم أي إحياءهم إن كان صادقا في إنذاره، وردّ عليهم بصيغة التساؤل الإنكاري عما إذا كانوا هم خيرا وأقوى من قوم تبّع ومن قبلهم من الأمم التي أهلكها الله تعالى لأنها وقفت موقف الكفر والإنكار. وتنبيه على أن الله سبحانه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما عبثا ولعبا وإنما توخّى بذلك الحقّ والحكمة ولو لم يفهم هذه الحقيقة أكثر السامعين.
وواضح أن في الآيات عودة على بدء في حكاية أقوال ومواقف الكفار والتنديد بهم وإنذارهم، كما أن فيها صورة من صور الجدل واللجاج التي كانت تقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، فهي والحالة هذه استمرار للسياق.
وقد يلوح أن اختصاص قوم تبع بالذكر هنا متصل بما كان معلوما عند السامعين من ملك تبابعة اليمن وقوتهم وعظمة شأنهم. ولقد أورد المفسرون «1» في سياق هذه الآيات بيانات غير يسيرة من ذلك معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول فيها المعقول وغير المعقول وفيها الدلالة على كل حال على ما كان مستقرا في أذهان السامعين من ذلك. ولقد سبق تعريف بتبع وقومه في سياق سورة (ق) فلا نرى ضرورة للتكرار. ولقد أورد المفسرون في صدد هذه الآيات بعض الأحاديث عن إسلام تبع فلم نر بأسا في إيرادها إتماما للصورة مع التنبيه على أنها لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. منها حديث رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس وسهل بن سعد الساعدي بطرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبّوا تبّعا فإنّه قد أسلم» وحديث رواه أبو حاتم الرقاشي أن عائشة كانت تقول: «لا تسبّوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا» .
ولقد عقب الطبري والبغوي على جملة ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ بأنها تعني للاختبار في الدنيا للثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ومع أن معنى
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.(4/551)
التعقيب قد ورد نصا في بعض الآيات مثل آية سورة المؤمنون هذه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) وآية سورة الملك هذه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) . فإن الجملة وهي في صدد السماء والأرض وفيهما الإنسان وغير الإنسان من مخلوقات الله الحية وغير الحية وفيهما نواميس كونية عظمى تتضمن فيما يتبادر لنا تقريرا أشمل من كون ذلك لاختبار الإنسان وحسب. وفي سورة الجاثية آية جاء فيها: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) حيث ينطوي فيها تقرير كون ذلك من جملة الحقّ الذي توخاه الله تعالى من خلق السموات والأرض وليس كله والله أعلم.
تعليق على آية فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) [36]
وهذه أول مرة يأتي تحدي الكفار فيها بما حكي عنهم في هذه الآية، فقد حكت آيات عديدة في السور السابقة إنكارهم للبعث بعد موتهم هم وآباؤهم بعد أن يصبحوا رفاتا وعظاما ورميما ويمزقون كل ممزق، فكان القرآن يردّ عليهم مبرهنا بقدرة الله تعالى على إحيائهم ثانية بما هو ماثل أمام أعينهم من مشاهد قدرة الله وعظمته وملكوته، وينبههم إلى أن الذي خلقهم بدءا قادر على خلقهم إعادة، ويضرب لهم الأمثال بالأرض الميتة الخامدة التي يحييها بالمطر. فجاءوا الآن يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بطلب البرهنة على ذلك بإحياء آبائهم في الدنيا حتى يروهم ويكلموهم. وقد اقتضت حكمة التنزيل بالردّ عليهم بما كان من إهلاك المجرمين أمثالهم من قوم تبّع ومن قبلهم ممن يعرفون قصصهم وهم أقوى منهم. وأن الذي أنزل في المجرمين السابقين التدمير والعذاب قادر عليهم، وبأن الله سبحانه لا يعقل أن يكون قد خلق السموات والأرض عبثا ولعبا ولا بدّ من أن يكون لذلك حكمة منها بعث الناس ومحاسبتهم على أعمالهم وتوفيتهم الجزاء عليها.
ويتبادر لنا أن الرد الرباني جاء بالأسلوب الذي جاء به ليتسق مع مشيئة الله(4/552)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
بعدم إجابتهم إلى التحدي الذي كان الكفار يتحدون به النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات للبرهنة على صحة رسالته وصلتها وصلة القرآن بالله عز وجل على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر لأن طلبهم الإتيان بآبائهم هو معجزة يطلبونها بأسلوب التحدي فلم تقتض مشيئة الله إجابتهم عليها مع دخولها في نطاق قدرته كما كان الشأن في مواقف تحديهم المتكررة.
[سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
. (1) مولى: بمعنى ولي وحليف ونصير.
الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتدعيم، فيوم الفصل والقضاء الأخروي هو موعد الناس جميعا الأولين منهم والآخرين. ولن ينفع فيه ولي وليا وحليف حليفا. ولن ينجو من هوله وشره إلّا من رحمه الله القوي وحده، الناصر وحده، الرحيم وحده، في أي ظرف يستدعي القوة والنصر والرحمة.
وواضح أن الآيات ردّ على الذين تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بآبائهم، وقد استهدفت فيما استهدفته إنذارهم وإثارة اليأس فيهم من أي نصير وحليف يوم القيامة لحملهم على الارعواء وتطمين المؤمنين بأنهم سيكونون مظهر رحمة الله تعالى.
ومن المفسرين من قال في تخريج الاستثناء في جملة: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إنها تعني نفع وغناء الشفيع الذي يكون قد نال رحمة الله ورضاءه»
. ومنهم من قال إنها تعني أن النفع والغناء إنما هما رحمة الله وحسب «2» . وقد تبادر
__________
(1) انظر الطبري والبغوي. [.....]
(2) انظر ابن كثير.(4/553)