الجزء الأول
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
[مقدمة التحقيق]
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، إيّاه نعبد وإيّاه نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، المنزل عليه القرآن، فيه شفاء وهدى ورحمة وذكرى للعالمين.
وبعد، فإننا بعد أن كتبنا كتبنا الثلاثة وهي: «عصر النبي صلى الله عليه وسلم» ، و «سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم من القرآن» ، و «الدستور القرآني في شؤون الحياة» «1» انبثقت فينا فكرة كتابة تفسير شامل، بقصد عرض القرآن بكامله بعد أن عرضناه فصولا حسب موضوعاته في الكتب الثلاثة، نظهر فيه حكمة التنزيل ومبادئ القرآن ومتناولاته عامة بأسلوب وترتيب حديثين، متجاوبين مع الرغبة الشديدة الملموسة عند كثير من شبابنا الذين يتذمرون من الأسلوب التقليدي ويعرضون عنه، مما أدى إلى انبتات الصلة بينهم وبين كتاب دينهم المقدس، ويدعو إلى الأسف والقلق «2» .
__________
(1) طبع الأول في دمشق 1365 هـ 1946 م، والثاني في القاهرة 1367 هـ 1948 م، والثالث في القاهرة أيضا 1376 هـ 1956 م.
(2) ونزيد على ما قلناه في الطبعة الأولى فنقول: إن الحاجة إلى ذلك تشتد يوما بعد يوم بنسبة ازدياد ما يتعرض له شبابنا وناشئتنا من تيارات جارفة عاصفة من الإلحاد والتحلل من مختلف القيم والروابط الأخلاقية والاجتماعية، والتقليد الأعمى لكل تافه سخيف مخل بالدين والخلق والمروءة. والإقبال على قراءة المجلات والروايات الماجنة الخليعة التافهة والانصراف عن قراءة الآثار الجادة الإسلامية والعلمية والقومية التي بها وحدها يضمن المرء لنفسه الكرامة والمعرفة والنفع بحيث صار الواجب يقضي تنبيههم إلى ما هم معرضون له من هذه التيارات وإنقاذهم من نتائجها الرهيبة بشرح تراثهم الديني والقومي والخلقي والاجتماعي العظيم الرائع شرحا مؤثرا نافذا، والإهابة بهم إلى الاستمساك بحبل الله والتزود بما في كتابه وسنة رسوله من قواعد ومبادئ وتلقينات من شأنها أن تعصمهم من الزلل وتهديدهم إلى أقوم السبل في شؤون الدين والدنيا.(1/5)
ولقد تيسّر لنا فراغ جديد مثل الفراغ الذي تيسّر لنا من قبل، فيسّر لنا كتابة الكتب الثلاثة المذكورة ونعني به سجننا في سجن المزة ثم في سجن قلعة دمشق الذي سجننا فيه الإفرنسيون بتحريض الإنكليز بسبب الثورة العربية الفلسطينية في أعوام 1937- 1939 والذي امتد ستة عشر شهرا (حزيران 1939- مارس 1941) إذ لم نكد نخرج من هذا السجن بعد انكسار فرنسا في الحرب العالمية الثانية حتى دهمت سوريا قوات الإنكليز والإفرنسيين الديغوليين المنضمين إليهم. فنزحنا عن دمشق إلى تركية حيث قضينا فيها خمسين شهرا كانت لنا فرصة طيبة لتنفيذ تلك الفكرة وكتابة مسودة التفسير (1941- 1945) . وقد ساعدنا على ذلك ما وجدناه في مكتبات الآستانة من كتب وتفاسير عديدة. ولما عدنا إلى دمشق صرنا نغتنم الفرص لمراجعة ما كتبناه والرجوع إلى مصادر كثيرة أخرى. فلما اتسق التفسير وتكامل بيّضناه، وظللنا نراجع ما كتبناه وندخل عليه ما نراه مفيدا من تعديلات حتى إذا يسر الله أن تطبع أجزاؤه أخذنا نبيضه تبييضا جديدا، ونقدم الأجزاء للطبع واحدا بعد آخر، حامدين الله عز وجل على تيسيره وتوفيقه.
ولقد كنّا بعد فراغنا من كتابة مسودات التفسير كتبنا في هجرتنا أيضا كتابا في تنزيل القرآن وأسلوبه وأثره وتدوينه وجمعه وترتيبه وقراءاته ورسمه ومحكمه ومتشابهه وقصصه وغيبياته ومناهج تفسيره، والطريقة المثلى إلى تفسيره وفهمه، وهو الكتاب الذي طبع بعنوان (القرآن المجيد) وكان بمثابة مقدمة للتفسير. ولقد اجتهدنا في السير في التفسير وفق المنهج الذي رأيناه خير سبيل إلى تفسير القرآن الكريم وفهمه، على ما شرحناه في القرآن المجيد وهذا هو:
1- تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة، يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق. وقد تكون الجملة آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة من الآيات.
2- شرح الكلمات والتعابير الغريبة وغير الدارجة كثيرا، بإيجاز ودون تعمّق لغوي ونحوي وبلاغي، إذا لم تكن هناك ضرورة ماسة.(1/6)
3- شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا، حسب المقتضى المتبادر بأداء بياني واضح، ودون تعمق كذلك في الشروح اللغوية والنظمية. مع الاستغناء عن هذا الشرح والاكتفاء بعرض الهدف والمدلول، إذا كانت عبارة الجملة واضحة نظما ولغة.
4- إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات أو في صددها، وما قيل في مدلولها وأحكامها، وإيراد ما يقتضي إيراده من الروايات والأقوال، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز.
5- تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام ومبادئ وأهداف وتلقينات وتوجيهات وحكم تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية، وملاحظة مقتضيات تطور الحياة والمفاهيم البشرية. وهذه نقطة أساسية وجوهرية في تفسيرنا وهي كذلك في تفسير القرآن والدعوة القرآنية كما هو المتبادر وقد اهتممنا لها اهتماما عظيما.
6- تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية، لأن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة وسيرها وأطوارها، وجلاء جوّ نزول القرآن الذي ينجلى به كثير من المقاصد القرآنية.
7- التنبيه على الجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية «1» ، وما يكون فيها من
__________
(1) نقصد بالجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية ما أريد به تدعيم المبادئ القرآنية المحكمة مثل القصص ومشاهد الحياة الأخروية والجن والملائكة وبدء الخلق والتكوين ومشاهد الكون ونواميسه والمواقف الجدلية والحجاجية والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والأمثال والتذكير حيث جاء جميع ذلك لتدعيم تلك المبادئ التي وصفت بوصف هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [آل عمران/ 7] ووصف ما عداها بالمتشابهات في آية سورة آل عمران السابعة هذه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ... ومع أن الواجب يقضي بالاهتمام للمحكمات فإن جلّ المفسرين المطولين قديما وحديثا بل كلهم اهتموا لما عداها من الفصول الوسائلية والتدعيمية أكثر من اهتمامهم للفصول المحكمة حتى انعكست الآية أو كادت، وصارت هذه الفصول جوهرية فأدى ذلك إلى الإشكالات والمناقضات وتشويش الأذهان وتعريض القرآن للنقاش والتضارب وإخراجه عن قدسيته وغايته وهي الهداية والدعوة والموعظة والتشريع وقلبه إلى كتاب تاريخ وفن ونظريات تتحمل الأخذ والرد والنقض والمعارضة على غير طائل ولا ضرورة. بل لم يقف الأمر عند هذا، فهناك من صرف كثيرا من الآيات عن مفهومها الواضح ودلالتها البينة إلى ما يشبه الألغاز والمعميات بل الهذيان ويتجاوز غاية القرآن بالهدى والموعظة وصلاح البشرية تأثرا بالنزعة الصوفية. وهناك من فعل مثل ذلك وحمل الآيات غير ما تحتمله واستخرج ما زعم أنه باطنها تأثرا بالأهواء وتأييدا لها. مما سوف نوضحه بالأمثلة في مناسباته ثم في شرح مدى آية سورة آل عمران المذكورة إن شاء الله.(1/7)
مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والتثبيت والتدعيم والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل والتنديد والتذكير والتنويه، مع إبقاء ذلك ضمن النطاق الذي جاء من أجله وعدم التطويل فيه. والتنبيه بإيجاز إلى ما ورد في صدده إذا اقتضى السياق بما لا يخرج به عن ذلك النطاق.
8- الاهتمام لبيان ما بين آيات وفصول السور من ترابط. وعطف الجمل القرآنية على بعضها سياقا أو موضوعا، كلما كان ذلك مفهوم الدلالة، لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي فيه. لأن هناك من يتوهم أن آيات السور وفصولها مجموعة إلى بعضها بدون ارتباط وانسجام، في حين أن إمعاننا فيها جعلنا على يقين تام بأن أكثرها مترابط ومنسجم.
9- الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية في صدد التفسير والشرح والسياق والتأويل والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد، كلما كان ذلك ممكنا. وهذا ممكن في الأعمّ الأغلب حيث يوجد كثير من الآيات مطلقة في مكان، مقيّدة في مكان آخر، وعامة في مكان مخصصة في مكان آخر، كما يوجد كثير من الجمل المختلفة في الألفاظ المتفقة في المعاني والمقاصد. ثم بعد ذلك بالروايات إذا ما كانت متسقة مع المفهوم والسياق ثم بأقوال المفسرين إذا كانت كذلك.
10- العطف على ما جاء في كتاب «القرآن المجيد» من بحوث حين تفسير الجملة ومقاصدها تفاديا من التكرار والتطويل.
11- عرض المعاني بأسلوب قريب المأخذ سهل التناول والاستساغة، واجتناب الألفاظ الحوشية والخشنة والغريبة والعويصة.
12- شرح الكلمات والمدلولات والموضوعات المهمة المتكررة شرحا(1/8)
وافيا وخاليا من الحشو عند أول مرة ترد فيها، والعطف على الشرح الأول في المرات التالية دون تكرار شرحها في مواطن تكررها.
وقد رأينا بالإضافة إلى هذا من المفيد وضع مقدمة أو تعريف موجز للسور قبل البدء بتفسيرها، يتضمن وصفها ومحتوياتها وأهمّ ما امتازت به، وما يتبادر من فحواها من صحة ترتيبها في النزول وفي المصحف، وما في السور المكية من آيات مدنية، وفي السور المدنية من آيات مكية حسب الروايات، والتعليق على ذلك حسب المقتضى. وكذلك وضع عناوين للموضوعات والتعليقات الهامة التي تناولناها بالبحث والشرح والبيان، ليسهل على من ينظر في التفسير مراجعة ما يريد منها.
ولقد رأينا أن نجعل ترتيب التفسير وفق ترتيب نزول السورة، بحيث تكون أولى السور المفسرة الفاتحة ثم العلق ثم القلم ثم المزّمل إلى أن تنتهي السور المكّية ثم سورة البقرة فسورة الأنفال إلى أن تنتهي السور المدنية لأننا رأينا هذا يتّسق مع المنهج الذي اعتقدنا أنه الأفضل لفهم القرآن وخدمته. إذ بذلك يمكن متابعة السيرة النبوية زمنا بعد زمن، كما يمكن متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدقّ، وبهذا وذاك يندمج القارئ في جوّ نزول القرآن وجوّ ظروفه ومناسباته ومداه، ومفهوماته وتتجلى له حكمة التنزيل.
وقد قلّبنا وجوه الرأي حول هذه الطريقة، وتساءلنا عما إذا كان فيها مساس بقدسية المصحف المتداول، فانتهى بنا الرأي إلى القرار عليها لأن التفسير ليس مصحفا للتلاوة من جهة، وهو عمل فني أو علمي من جهة ثانية، ولأن تفسير كل سورة يصح أن يكون عملا مستقلا بذاته، لا صلة له بترتيب المصحف، وليس من شأنه أن يمسّ قدسية ترتيبه من جهة ثالثة.
ولقد أثر عن علماء أعلام، قدماء ومحدثين تفسيرات لوحدات وسور قرآنية، دون وحدات وسور «1» . كما أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كتب
__________
(1) من القدماء هشام الكلبي الذي روى ابن النديم في كتاب «الفهرست» (ص 51) طبعة المطبعة الرحمانية، أن له كتاب تفسير الآيات التي نزلت في أقوام بأعيانهم. ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كتب تفسيرا خاصا لسورة الإخلاص طبع في المطبعة الحسينية بالقاهرة سنة 1323 هـ، وكتب تفسيرا لسور الأعلى والشمس والليل والعلق والتين والبيّنة والكافرون.
وقد طبعت مجموعتها في بمباي الهند سنة 1374 هـ 1954 م من قبل عبد الصمد شرف الدين، ومن المحدثين الشيخ محمد فوزي مفتي أدرنه، وقاضي بيت المقدس الذي كتب رسالتين: واحدة بتفسير سورة ألم نشرح، وأخرى بتفسير سورة النجم، وقد طبعتا في دار الطباعة العامرة. ومنهم الإمام الشيخ محمد عبده الذي نشر له تفسير سورة العصر وتفسير جزء عمّ، والإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي الذي نشر له تفسير ميسّر لآي خاصة من القرآن الكريم.(1/9)
مصحفا وفق نزول القرآن «1» ، ولم نر نقدا أو إنكارا لهذا وذاك، مما جعلنا نرى السير على هذه الطريقة سائغا. لا سيما والقصد منه هو خدمة القرآن بطريقة تكون أكثر نفعا. وليس هو الانحراف والشذوذ. والله أعلم بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. ومع ذلك فقد رأينا أن نستوثق من صحة ما ذهبنا إليه فاستفتينا سماحة الشيخ أبي اليسر عابدين مفتي سورية والشيخ عبد الفتاح أبا غدة، الذي كان من المرشحين لإفتاء مدينة حلب، فتلقينا منهما جوابا مؤيدا حيث قال الأول في جوابه: «إن التأليف والتصنيف تابع لأغراض المؤلفين حسبما يعرض لهم من أشكال، لإظهار الفوائد التي يطلعون عليها، وليس التفسير بقرآن يتلى حتى يراعى فيه ترتيب الآيات والسور، فقد يعنّ للمفسر أن يفسر آية ثم يترك ما بجانبها لظهور معناها وقد يفسر سورة ثم يترك ما بعدها اعتمادا على فهم التالي. ولا مانع من تأليف تفسير على الشكل المذكور، والله أعلم» .
وحيث قال الثاني: «إن شبهة المنع لهذه الطريقة آتية من جهة أنها طريقة تخالف ما عليه المصحف الشريف اليوم من الترتيب المجمع عليه والمتواتر إلى الأمة نقله جيلا بعد جيل. ودفع هذه الشبهة أن المنع يثبت فيما لو كان هذا الصنيع مسلوكا من أجل أن يكون هذا الترتيب مصحفا للتلاوة، أي ليتلو الناس القرآن على النحو الذي سلكتموه. أما وإن الغرض للمفسر والقارئ معا غير هذا فلا مانع من
__________
(1) «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي ج 1، ص 65 مطبعة عثمان عبد الرزاق، طبعة عام 1306 هجرية.(1/10)
سلوكه إطلاقا. ويستأنس لسواغية هذه الطريقة بما سلكه أجلّة من علماء الأمة المشهود لهم بالإمامة والقدوة من المتقدمين في تأليفهم ولم يعلم أن أحدا أنكر عليهم ما صنعوا. ويحضرني منهم الآن الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276 للهجرة، فقد مشى في تفسير ما فسّره في كتابه المطبوع «تأويل مشكل القرآن» على غير ترتيب النزول وعلى غير الترتيب المتلوّ الآن. ويبدو هذا جليا في الصحف (240- 339) .
على أن القول بالمنع تبعا لهذه النظرة الضيقة ينبغي أن يشمل ما سلكه الشيخ جلال الدين المحلّي، ثم جلال الدين السيوطي في تفسير هما المعروف بتفسير الجلالين إذ قد بدأ الأول بالتفسير من آخر القرآن الكريم وهو صاعد إلى سورة الكهف، ثم مات فأتمّ الجلال السيوطي من حيث وقف سلفه إلى أول القرآن الكريم. فهما لم يراعيا في مسلكهما هذا البدء على ترتيب القرآن من أوله إلى آخره. وكذلك ينبغي أن يشمل ما صنعه الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» ، والشيخ محمد أحمد العدوي في كتابه «دعوة الرسل إلى الله» .
فهما أيضا لم يراعيا في موضوعات كتابيهما ترتيب المصحف المتلو اليوم بل راعيا اعتبارا آخر، وكذلك ينبغي أن يتناول المنع كتابكم «الدستور القرآني في شؤون الحياة» ، فقد سلكتم فيه نحو طريقتكم في التفسير من جمع طائفة من الآيات الكريمة في صعيد واحد، ثم تفسيرها وبيان ما تلهمه من المعاني الكريمة. فإن قيل إن هناك فارقا بين صنيعكم في الدستور وصنيعكم في التفسير لأن الأول يمكن أن يجعل من باب التأليف على اعتبار وحدة الموضوع التي ينظر فيها إلى مدلول الآيات فحسب، في حين أن النظر في الثاني متجه إلى مراعاة النزول فحسب، فالجواب: فليجعل هذا أيضا من باب وحدة الموضوع بين السورة والسورة من حيث زمن نزولها سابقة أو لا حقة. وللعلماء أقوال في صدد ترتيب السور وما إذا كان توقيفيّا أو اجتهاديّا. فقد ذكر السيوطي في كتابه «الإتقان» : أن جمهور العلماء على الثاني، منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه. ومما استدل به على ذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور- والكلام للسيوطي- فمنهم من رتّبها على النزول وهو مصحف عليّ. كان أوله اقرأ ثم المدّثر ثم نون ثم المزّمل ثم تبّت(1/11)
ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني. وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة ثم النساء ثم آل عمران. وكذا مصحف أبيّ وغيره. ثم ساق السيوطي رحمه الله بعد نحو صفحتين صورة عن الترتيب الذي في مصحف أبيّ بن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما «1» . وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: إن ترتيب السور بالاجتهاد لا بالنصّ في قول جمهور العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية، فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة.
ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها، نعني لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان صار هذا مما سنّه الخلفاء الراشدون. وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها. وواضح كل الوضوح أن محل اتباع هذه السنة التي يجب اتباعها إنما هو في كتابة المصحف الذي يكون للتلاوة لا في كتابة تفسير وشرح لمعاني الآيات والسور الكريمة. فإن ذلك غير داخل في موضوع اختلاف العلماء أو اتفاقهم إطلاقا. بل هم فيما روي متفقون على سواغيته وجوازه. والله تعالى أعلم» .
وقد استخرنا الله بعد أن تلقينا هذين الجوابين من الأستاذين الجليلين وعزمنا على السير في الطريقة المذكورة لما لها من فوائد عظيمة دون أن يكون لها مساس بقدسية ترتيب المصحف.
ولقد أورد السيوطي في كتاب «الإتقان» «2» ترتيبات نزول للسور المكية والسور المدنية منسوبة إلى جابر بن زيد والحسين وعكرمة وابن عباس، وترتيبا رابعا لم يذكر صاحبه. ولقد اطلعنا في مقدمة «تفسير الخازن» على ترتيب وفي مقدمة تفسير «مجمع البيان» على ترتيب آخر، وفي المصحف الذي كتبه الخطاط الشهير بقدر وغلي- والذي طبع بتصريح من وزارة الداخلية المصرية وإذن مشيخة المقاريء المصرية من قبل عبد الحميد أحمد حنفي- ترتيب آخر أشير إليه في رؤوس السور. وبين هذه الترتيبات السبعة بعض التخالف من ناحية التقديم
__________
(1) الكلام الذي ساقه الأستاذ أبو غده للسيوطي هو من كتابه «الإتقان» ج 1، ص 65 وما بعدها أيضا من الطبعة المذكورة قبل.
(2) انظر الجزء الأول من طبعة مطبعة عبد الرزاق ص 10 وما بعدها.(1/12)
والتأخير والمدني والمكي، على أن من الحق أن نقول: إنه ليس في الإمكان تعيين ترتيب صحيح لنزول السور القرآنية جميعها، كما أنه ليس هناك ترتيب يثبت بكماله على النقد أو يستند إلى أسانيد قوية ووثيقة. وزيادة على هذا فإن في القول بترتيب السور حسب نزولها شيئا من التجوّز. فهناك سور عديدة مكية ومدنية يبدو من مضامينها أن فصولها لم تنزل مرة واحدة أو متلاحقة، بل نزلت بعض فصولها أولا ثم نزلت بعض فصول سور أخرى، ثم نزلت بقية فصولها في فترات، وأن بعض فصول سور متقدمة في الترتيب قد نزلت بعد فصول سور متأخرة فيه أو بالعكس، وأن فصول هذه السور قد ألّفت بعد تمام نزول فصولها، وأن ترتيبها في النزول قد تأثر بفصلها أو فصولها الأولى، وأن بعض السور المتقدمة في الترتيب أولى أن تكون متأخرة أو بالعكس، أو بعض ما روي مدنيه من السور أولى أن يكون مكّيا أو بالعكس، مما سوف ننبه إليه في سياق تفسير كل سورة إن شاء الله.
ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن الترتيبات المستندة إلى روايات قديمة أو المنسوبة إلى أعلام الصحابة والتابعين غير صحيحة كلها، أو أنها لا يصحّ التعويل عليها. فالقسم الأعظم من السور المكية نزل دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة على ما يلهم سياقها ونظمها ومضامينها. ولم تبدأ سورة جديدة حتى تكون السورة التي قبلها قد تمت. ومضامين سور عديدة مكية ومدنية تلهم أن كثيرا مما روي في ترتيب النزول صحيح أو قريب من الصحة، وكل ما يعنيه أن فيها ما يدعو إلى التوقف وأن الأمر بالنسبة لبعض السور يظل في حدود المقاربة والترجيح. ولهذا لم يكن ما يمكن أن يوجه من مآخذ إلى ترتيب نزول السور ليغير ما قرّ رأينا عليه. لأننا رأيناه على كل حال يظل مفيدا في تحقيق ما استهدفناه والمنهج الذي ترسّمناه، وخاصة بالنسبة إلى فائدة تتبع صور التنزيل القرآني مرحلة فمرحلة والاستشعار بجوّ هذه الصور، حيث يكون ذلك أدعى إلى تفهم القرآن وحكمة التنزيل.
وقد اعتمدنا الترتيب الذي جاء في مصحف الخطاط قدر وغلي المذكور قبل.
لأنه ذكر فيه أنه طبع تحت إشراف لجنة خاصة من ذوي العلم والوقوف، حيث يتبادر إلى الذهن أن يكون قد أشير إلى ترتيب النزول فيه (السورة كذا نزلت بعد(1/13)
السورة كذا) بعد اطلاع اللجنة على مختلف الروايات والترجيح بينها. ولقد جاء في تعريف المصحف «إنه كتب وضبط على ما يوافق رواية حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي التابعي عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وأخذ هجاؤه مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها عثمان بن عفان إلى البصرة والكوفة والشام ومكة، والمصحف الذي جعله لأهل المدينة والمصحف الذي اختص به نفسه، وعن المصاحف المنتسخة عنها. أما الأحرف اليسيرة التي اختلفت فيها أهجية تلك المصاحف فاتبع فيها الهجاء الغالب مع مراعاة قراءة القارئ الذي يكتب المصحف لبيان قراءته ومراعاة القواعد التي استنبطها علماء الرسم من الأهجية المختلفة على حسب ما رواه الشيخان أبو عمرو الداني وأبو سليمان بن نجاح، مع ترجيح الثاني عند الاختلاف. والعمدة في ذلك على ما حققه الأستاذ محمد بن محمد الأموي الشريشي المشهور بالخراز في منظومته (مورد الظمآن) وما قرره شارحها المحقق الشيخ عبد الواحد بن عاشر الأنصاري الأندلسي. وأخذت طريقة ضبطه مما قرره علماء الضبط على حسب ما ورد في كتاب «الطراز على ضبط الخراز» للإمام التنيسي، مع إبدال علامات الأندلسيين والمغاربة بعلامات الخليل بن أحمد وأتباعه من المشارقة. واتبعت في عدّ آياته طريقة الكوفيين عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن علي بن أبي طالب على حسب ما ورد في كتاب «ناظمة الزهر» للإمام الشاطبي وشرحها لأبي عبيد رضوان المخللاتي، وكتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي، وكتاب «تحقيق البيان» للأستاذ الشيخ محمد المتولي شيخ القراء بالديار المصرية سابقا. وأخذ بيان مكّية ومدنيّة من الكتب المذكورة وكتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي، وكتب القراءات والتفسير على خلاف في بعضها.
وهذا هو ترتيب نزول السور على حسب ما ورد في مطالع سور هذا المصحف:(1/14)
السور المكية
رقم/ رقم اسم/ ترتيب/ ترتيبها في السورة/ نزولها/ المصحف العلق/ 1/ 96/ القلم/ 2/ 68/ المزمل/ 3/ 73/ المدثر/ 4/ 74/ الفاتحة/ 5/ 1/ المسد/ 6/ 101/ التكوير/ 7/ 81/ الأعلى/ 8/ 87/ الليل/ 9/ 92/ الفجر/ 10/ 89/ الضحى/ 11/ 93/ الشرح/ 12/ 94/ العصر/ 13/ 103/ العاديات/ 14/ 100/ الكوثر/ 15/ 108/ التكاثر/ 16/ 102/ الماعون/ 17/ 107/ الكافرون/ 18/ 109/ الفيل/ 19/ 105/ الفلق/ 20/ 113/ الناس/ 21/ 114/ الإخلاص/ 22/ 2112 رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف النجم/ 23/ 53/ عبس/ 24/ 80/ القدر/ 25/ 97/ الشمس/ 26/ 91/ البروج/ 27/ 85/ التين/ 28/ 95/ قريش/ 29/ 106/ القارعة/ 30/ 101/ القيامة/ 31/ 75/ الهمزة/ 32/ 104/ المرسلات/ 33/ 77/ ق/ 34/ 50/ البلد/ 35/ 90/ الطارق/ 36/ 86/ القمر/ 37/ 54/ ص/ 38/ 38/ الأعراف/ 39/ 7/ الجن/ 40/ 72/ يس/ 41/ 36/ الفرقان/ 42/ 25/ فاطر/ 43/ 35/ مريم/ 44/ 319 رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف طه/ 45/ 20/ الواقعة/ 46/ 56/ الشعراء/ 47/ 26/ النمل/ 48/ 27/ القصص/ 49/ 28/ الإسراء/ 50/ 17/ يونس/ 51/ 10/ هود/ 52/ 11/ يوسف/ 53/ 12/ الحجر/ 54/ 15/ الأنعام/ 55/ 6 الصافات/ 56/ 37/ لقمان/ 57/ 31/ سبأ/ 58/ 34/ الزمر/ 59/ 39/ غافر/ 60/ 40/ فصلت/ 61/ 41/ الشورى/ 62/ 42/ الزخرف/ 63/ 43/ الدخان/ 64/ 44/ الجاثية/ 65/ 45/ الأحقاف/ 66/ 46(1/15)
رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف الذاريات/ 67/ 51/ الغاشية/ 68/ 88/ الكهف/ 69/ 18/ النحل/ 70/ 16/ نوح/ 71/ 71/ إبراهيم/ 72/ 14/ الأنبياء/ 73/ 221 رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف المؤمنون/ 74/ 23/ السجدة/ 75/ 32/ الطور/ 76/ 52/ الملك/ 77/ 67/ الحاقة/ 78/ 69/ المعارج/ 79/ 70/ النبأ/ 80/ 378 رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف النازعات/ 81/ 79/ الانفطار/ 82/ 82/ الانشقاق/ 83/ 84/ الروم/ 84/ 30/ العنكبوت/ 85/ 29/ المطففون/ 86/ 83/
السور المدنية
البقرة/ 87/ 2/ الأنفال/ 88/ 8/ آل عمران/ 89/ 3/ الأحزاب/ 90/ 33/ الممتحنة/ 91/ 60/ النساء/ 92/ 4/ الزلزلة/ 93/ 99/ الحديد/ 94/ 57/ محمد/ 95/ 47/ الرعد/ 96/ 213 الرحمن/ 97/ 55/ الإنسان/ 98/ 76/ الطلاق/ 99/ 65/ البينة/ 100/ 98/ الحشر/ 101/ 59/ النور/ 102/ 24/ الحج/ 103/ 22/ المنافقون/ 104/ 63/ المجادلة/ 105/ 58/ الحجرات/ 106/ 349 التحريم/ 107/ 66/ التغابن/ 108/ 64/ الصف/ 109/ 61/ الجمعة/ 110/ 62/ الفتح/ 111/ 48/ المائدة/ 112/ 5/ التوبة/ 113/ 9/ النصر/ 114/ 110(1/16)
ولقد رأينا مع ذلك أن نخالف ترتيب هذا المصحف بعض الشيء. فسور العلق والقلم والمزمل والمدثر التي وردت فيه كالسور الأولى والثانية والثالثة والرابعة بالتوالي ليست كذلك إلا بالنسبة لمطالعها فقط على أحسن تقدير، حيث إن ما يأتي بعد هذه المطالع لا يمكن أن يكون نزل إلّا بعد نزول سور وفصول غيرها، على ما سوف نشرحه في سياق تفسيرها، في حين أن هناك رواية معزوّة إلى ابن عباس ومجاهد «1» تذكر أن سورة الفاتحة التي تأتي الخامسة في ترتيب النزول هي أول ما نزل من القرآن. وهناك حديث أخرجه البيهقي والواحدي ووصف رجاله بالثقات عن شرحبيل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن الفاتحة أول ما نزل من القرآن «2» . ولما كان هناك أحاديث صحيحة منها حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها سنورده في سياق سورة العلق تذكر أن آيات سورة العلق الخمس الأولى هي أولى آيات القرآن نزولا «3» فيمكن أن تحمل رواية أولية سورة الفاتحة على أنها أولى السور التامة نزولا بعد مطلع سورة العلق ومطالع السور الثلاث التالية لها في الترتيب والفاتحة بالإضافة إلى ذلك هي فاتحة المصحف، والواجب تلاوتها في كل ركعة صلاة، ولذلك رأينا أن تكون فاتحة التفسير أيضا.
وهناك أربع سور ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنية وهي الزلزلة والإنسان والرحمن والرعد، في حين أن مضمونها وأسلوبها مشابهان كل المشابهة للسور المكية دون السور المدنية، وأن هناك روايات تذكر أنها مكية. ولذلك فسرناها في عداد السور المكية.
وهناك سور يمكن أن يلهم مضمونها أنها نزلت قبل سور متقدمة عليها في
__________
(1) «الإتقان في علوم القرآن» ج 1 ص 24- 25.
(2) انظر المصدر نفسه ...
(3) انظر المصدر نفسه. وانظر أيضا تفسير الفاتحة في «تفسير المنار» للسيد رشيد رضا. ومما ذكره السيوطي في «الإتقان» أنه لم يرو أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة، وهذا من المرجحات.
الجزء الأول من التفسير الحديث 2(1/17)
الترتيب أو بعد سور متأخرة عنها فلم نشأ الإخلال بترتيبها واكتفينا بالتنبيه إلى ذلك في مقدمة كل سورة منها.
وإننا لنرجو من الله تعالى أن نكون قد وفقنا فيما عملناه إلى السداد والصواب. وأن يشملنا بعفوه ورحمته، وأن يتجاوز عما وقعنا فيه من خطأ ونسيان. وأن يتقبل منا هذه الخدمة لكتابه المجيد خالصة لوجهه الكريم وهو ولي التوفيق ولا حول ولا قوة إلّا به.
المؤلف دمشق الشام في: 3 من المحرم الحرام 1380 الموافق 27 حزيران 1960(1/18)
مقدمة الطبعة الثانية
وهذه كلمة بين يدي الطبعة الجديدة نذكر فيها بعض ما فاتنا التنبيه عليه في مقدمة الطبعة الأولى وننبه على ما أدخلناه على هذه الطبعة من تنقيحات وتعديلات وإضافات.
أولا: مع ترجيحنا السير في التفسير حسب الروايات الراجحة في ترتيب نزول السور، فإننا حافظنا على وحدة السور لأنه ليس هناك ما يمكن الاستناد إليه ولا الاستئناس به بقوة وثقة في أمر وقت نزول فصول وآيات السور وبخاصة الطويلة المدنية التي تلهم مضامينها أن منها ما هو متقدم النزول ومنها ما هو متأخر، وأنها ألّفت بعد تمام ما اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتوي عليه من فصول وآيات بالنسبة لسائر فصول وآيات السورة أو فصول وآيات السور الأخرى التي يمكن أن تكون نزلت قبلها أو بعدها. وقد اختصصنا بالذكر السور المدنية والطويلة منها بخاصة لأنه لم يكن في معظم السور المكية مواضيع متعددة تتحمل مناسبات متباعدة بل الغالب عليها وحدة الموضوع فكانت تنزل متلاحقة الفصول على ما هو المتبادر من نظمها وروحها، ولم تكن تبدو سورة جديدة منها حتى تتم السورة التي قبلها باستثناء بضع سور منها. ولأن فحوى السور المدنية القصيرة يلهم أنها نزلت دفعة واحدة، مما سوف ننبه عليه في مقدمات السور.
ثانيا: بالإضافة إلى السور الأربع التي يروي المصحف الذي اعتمدنا عليه أنها مدنية وتروى روايات عديدة أنها مكية وتلهم محتوياتها بقوة رجحان مكيتها ونعني بها سور الزلزلة والإنسان والرحمن والرعد، فهناك سورة خامسة أيضا يروي(1/19)
ذلك المصحف أنها مدنية وتروى روايات أخرى أنها مكية ومعظم فصولها تلهم بقوة رجحان مكيتها مع احتمال أن يكون بعضها مدنيا وهي سورة الحج. وقد بدا لنا أن نفسرها هي الأخرى في عداد السور المكية.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن سورة الرعد نزلت بعد سورة محمد وسورة الحج نزلت بعد سورة النور وسورة الرحمن نزلت بعد سورة الرعد وسورة الإنسان نزلت بعد سورة الرحمن وسورة الزلزلة نزلت بعد سورة النساء. ولما لم يكن في كتب التفسير التي تروي مكيتها ما يمكن أن يفيد ترتيب نزولها سورة بعد أخرى فقد رأينا أن نفسرها بعد الانتهاء من السور المكية وفق ترتيب نزولها المرجح. وسنفسرها حسب ترتيبها في المصحف بعد سورة (المطففون) هكذا:
1- الرعد 2- الحج 3- الرحمن 4- الإنسان 5- الزلزلة.
ثالثا: لقد تبادرت لنا مرجحات قوية جعلتنا أن لا نلتزم ترتيب النزول الذي رواه المصحف الذي اعتمدنا عليه بالنسبة لبعض السور المدنية بحيث صار ترتيب السور المدنية على الوجه التالي:
1- البقرة 2- الأنفال 3- آل عمران 4- الحشر 5- الجمعة 6- الأحزاب 7- النساء 8- محمد 9- الطلاق 10- البينة 11- النور 12- المنافقون 13- المجادلة 14- الحجرات 15- التحريم 16- التغابن 17- الصف 18- الفتح 19- المائدة 20- الممتحنة 21- الحديد 22- التوبة 23- النصر.
وسوف نذكر تلك المرجحات في مقدمة كل سورة.
رابعا: لقد كان يفوتنا بعض التنبيهات في مناسباتها الأولى فنستدركها في المناسبات التالية، ولقد وقعت أغلاط مطبعية متنوعة، منها أغلاط في الحروف والكلمات وأرقام الهوامش. ومنها وضع نبذ في غير مكانها الصحيح تقديما أو(1/20)
تأخيرا. ومنها سقوط بعض نبذ من سياق حتى بدا الكلام مختلا ولقد تنبهنا ونحن نهيء الأجزاء ونقدمها إلى المطبعة واحدا بعد آخر إلى نقاط عديدة تحتاج إلى تمحيص أو توضيح أو تعديل أو تصحيح أو توسيع فبذلنا جهدنا لتلافي كل ذلك في هذه الطبعة.
خامسا: لقد أوردنا في الطبعة السابقة أحاديث كثيرة في سياق السور المدنية مما فيه توضيح وتعديل وإكمال لما احتوته هذه السور من تشريعات متنوعة ولم نورد منها في سياق السور المكية إلا قليلا لأن هذه السور ليس فيها تشريعات تنفيذية نظرا لطبيعة العهد المكي ولأن معظم الأحاديث النبوية مدنية الصدور إن صح التعبير. وقد اقترح بعض الأفاضل أن نورد في سياق هذه السور ما روي فيها أو ما يتساوق معها من أحاديث ليكون أمام القارئ وبخاصة الناشئ صورة تامة من مصدري الرسالة الإسلامية الرئيسية وهما كتاب الله تعالى وحكمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وسنّته، فاستجبنا للاقتراح.
سادسا: هناك بعض مواضيع دار عليها في كتب التفسير كلام كثير، وتتحمل هي وما أورد في سياقها من أحاديث وروايات وتأويلات تمحيصا وشرحا لم نكن نرى ضرورة لهما. ثم بدا لنا من أسئلة وردت علينا في شأنها أن نورد ونمحص ما فاتنا إيراده وتمحيصه وأن نتوسع في الشرح في هذه الطبعة إلى الحد الذي يزول به الإشكال وتطمئن به النفس.
وإننا لنسأل الله عزّ وجلّ أن نكون ما فعلنا وقصدنا به خدمة كتابه المجيد الصواب والفائدة وأن يغفر لنا ما يمكن أن يكون وقع في سياق ذلك منا من خطأ ونسيان. والكمال والعصمة له وحده ولا حول ولا قوة إلا به.
وكان إتمام تنقيح الأجزاء وكتابة هذه الكلمة يوم الخميس الموافق للخامس عشر من شهر محرم الحرام 1386 والسادس من أيار 1966.
والله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين. المؤلف(1/21)
القرآن المجيد تنزيله وأسلوبه وأثره وجمعه وتدوينه وترتيبه وقراءاته ورسمه ومحكمه ومتشابهه وقصصه وغيبياته وتعليقات على مناهج مفسريه والطريقة المثلى لفهمه تأليف محمد عزة دروزة(1/23)
[مقدمة المؤلف]
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) كتبت هذا الكتاب في مدنية بورسه أثناء هجرتي في الحرب إلى تركيا وبعد أن أتم الله عليّ نعمته فانتهيت من كتابة تفسير القرآن بكامله فيها. وقد وجدت في مكتبات المدينة العديدة ما استعنت به من مراجع قيمة في التفسير والحديث والكلام والقراءات وعلوم القرآن. وقد جاء الكتاب ككتاب مستقل لما احتواه من بحوث عديدة كما جاء كمقدمة للتفسير لما احتواه من شرح المنهج الذي سرت عليه فيه وبيان الطريقة المثلى لفهم القرآن وخدمته وتفسيره.
ولقد عدت فقرأت كتبا عديدة أخرى لاستيفاء الكلام في مواضيع الكتاب وتوثيقه، وأدخلت تنقيحات كثيرة على مسودة بورسه فجاء الكتاب على أسلوب ونهج جديدين بحثت في نطاقهما مختلف مسائل القرآن ووصلت بذلك إلى نتائج وحلول هامة وجديدة أرجو أن يكون الله قد هداني فيها إلى الحق والصواب، وأن أكون بذلك قد خدمت كتاب الله المجيد فيما أخذت على نفسي من خدمة له منذ أربع عشرة سنة استغرقت أكثر أوقاتي. كما أرجوه أن يتمّ نعمته وتوفيقه بتنقيح وطبع أجزاء التفسير وهو ولي التوفيق ومنه نطلب العون والسداد.
المؤلف(1/25)
[محتويات القرآن المجيد]
الفصل الأول القرآن وأسلوبه ووحيه وأثره
- 1- القرآن والمسلمون:
ليس غريبا أن يكون القرآن شغل الناس في كل زمان ومكان طيلة القرون الثلاثة عشر السالفة وطيلة ما شاء أن يكون من أمد هذه الدنيا وأن يتنافس في الكتابة فيه الكتّاب والعلماء والمصلحون والباحثون من مسلمين وغيرهم، وأن يصدر فيه كل يوم كتاب.
فهو الكتاب المقدس للمسلمين المنتشرين في كل صقع من أصقاع الأرض والذين تتمثل فيهم شتى أممها، فيه أصول دينهم وشرائع حياتهم ونبع إلهامهم ونبراس أخلاقهم ونور هدايتهم في مختلف شؤونهم الدينية والدنيوية، الروحية والمادية، العامة والخاصة، السياسية والقضائية والاجتماعية والشخصية والإنسانية، وفيه أقوى الحوافز إلى أسمى الآفاق وأبعد الأشواط الموصلة إلى أعلى ما يمكن أن يكون من رفعة الذكر وعلوّ القدر وقوة التمكين والنصر، وجعل متبعيه خير أمة أخرجت للناس إذا هم قاموا بأعباء ما حمّلهم إياه من تبعات، وأدوا ما اؤتمنوا عليه فيه للإنسانية من أمانات: من دعوة إلى الخير والحق والهدى، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومن تواص بالصبر والحق والمرحمة، ومن تناصر ضد البغي والإثم والعدوان، ومن اتصاف بكل صفات الخير والعدل والبرّ والرحمة والإحسان والكرامة والعزة والصدق والوفاء وكل خلق كريم، ومن تحظير(1/27)
للفواحش والآثام والمنكرات ما ظهر منها وما بطن، وما صغر منها وما عظم.
وصفه الله فيه بأنه يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بعظيم الأجر وأن فيه لهم الشفاء والرحمة والهدى، ووصفه نبيهم بهذا الوصف الشامل الرائع المأثور عن طريق علي بن أبي طالب والمثبت في كثير من كتب الأئمة والثقات: «فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره تأصله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» . فهم من أجل هذا مكلفون بالاشتغال به دينيا فهما وتدبرا وتفسيرا واستنباطا واستلهاما واستيحاء.
- 2- القرآن وشخصية النبي:
وشخصية السيد الرسول عليه السلام الذي أنزل عليه القرآن هي الشخصية الوحيدة التي ليست محل شكّ وريب من الوجهة التاريخية وعند مختلف الملل والنحل والأقوام من بين شخصيات الأنبياء، وفي صدد حادث «نبوة النبي» المتصل بسرّ وحي الله وسرّ الوجود وواجب الوجود والذي تواترت الأخبار عن تكرره في مختلف عصور التاريخ السالفة.
والقرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي ليس محل شك وريب من بين الكتب السماوية المتداولة في كونه متصلا بالنبي، وفي صدوره عنه بحروفه وألفاظه وسوره بوحي من الله، وقد تكرر فيه تقرير بشرية النبي صلّى الله عليه وسلّم وكونه في طبيعته البشرية كسائر البشر وكون قصارى مهمته دعوة الناس إلى الله وحده، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، والحثّ على مكارم الأخلاق، والتحذير من الشر والأذى والفواحش، وتبشير المستجيبين بالخير والنجاة وإنذار المعرضين(1/28)
بالويل والخسران كما ترى في الآيات التالية التي هي فيض من غيض في هذا الباب:
1- قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الأنعام: [19] .
2- وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ الأنعام: [48- 49] .
3- قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ الأنعام: [50] .
4- الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إبراهيم: [1] .
5- قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً الكهف: [110] .
وقد تكرر فيه تقرير كونه أعظم مظهر لنبوة النبي وأقوى آياتها ودلائلها كما ترى في نصّ الآيات التالية:
1- وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ الأنعام: [155- 157] .(1/29)
2- وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأعراف:
[52] .
3- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الحجر: [87] .
4- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ العنكبوت: [50- 51] .
وقد تكرر فيه توكيد اتصاله بوحي الله وصدوره عنه وعجز الناس عن الإتيان بمثله معلنا ذلك على ملأ من خصومه الألداء وجاحديه الأشداء كما ترى في الأمثلة التالية بالإضافة إلى الآيات السابقة:
1- وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ البقرة: [23- 24] .
2- أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً النساء: [82] .
3- لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً النساء: [166] .
4- قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً الإسراء: [88] .
5- وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: [192- 195] .
وبالإضافة إلى هذا فقد احتوى آيات كثيرة فيها إعلان بإشهاد الله على صحة(1/30)
هذه التوكيدات والتقريرات وتعظيم لجرم الافتراء على الله كما ترى في الآيات التالية:
1- وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الأنعام:
[92- 93] .
2- وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) النحل: [101- 105] .
3- أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ الشورى: [24] .
4- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الأحقاف: [8] .
5- تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) الحاقة:
[43- 48] .
ففي أسلوب هذه الآيات وأمثالها الكثيرة ما يبعث في نفس كل منصف حسن(1/31)
النية مهما كانت نحلته وملته أقوى معاني اليقين بصدقها، ويزيل منها أي معنى من معاني الشك والارتياب في عمق إيمان الرسول عليه السلام بصحتها، وفي استغراقه فيها استغراقا تاما لا يمكن أن ينبعث إلا من أقوى الإيمان واليقين والصدق الصميم.
- 3- الدعوة القرآنية:
واحتوى دعوة الناس كافة إلى عبادة الله وحده، وعدم الخضوع لأي قوة من قوى الكون غيره وتنزيهه عن كل نقص وشائبة، وإلى جماع مكارم الأخلاق والفضائل، وأسباب سعادة الدارين والتصديق بنبوة أنبياء الله والكتب المنزلة عليهم وتقرير اتحاد المتبع والوجهة بين ما دعا إليه ودعوا إليه من غير تفريق بينهم، وتقرير كون هذه الدعوة التي احتواها هي الدين الحق الذي ارتضاه الله للناس جميعا منذ بعث الله رسوله محمدا عليه السلام بالهدى ودين الحق الذي فيه إظهاره على الدين كله، يقيم البشر في ظله دعائم مجتمعهم، ويسيرون في مختلف شؤونهم وفق تعاليمه ومبادئه وتلقيناته القائمة على أسس الحق والعدل والمساواة والإحسان والتعاون، ورفع الإصر والأغلال، وحل الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والمنكرات، وتوطيد السلم العام بين الناس كافة إخوانا متحابين، لا يظلم بعضهم بعضا، ولا يبغي بعضهم على بعض، ولا تنبذ فيه طائفة، ولا تحرم فيه فئة ولا تتعالى فيه طبقة على طبقة، مع إيجاب التناصر على الباغي حتى يفيء إلى حكم الله والحق، ومع الدعوة إلى التمرد على كل ضارّ والإقبال على كل صالح بقطع النظر عن قدمه وجدته، ومع تقرير كون الله إنما يريد للناس اليسر ولا يريد بهم العسر ولم يجعل عليهم في الدين حرجا، وبأسلوب قضي له بالخلود من حيث البرهنة على صدق الدعوة وأهدافها بتوجيه الخطاب للعقول والقلوب، وإدارته حسب أفهام الناس ومداركهم في هذا النطاق ودون أن تجعل المعجزة الخارقة دعامة أساسية في ذلك لأن مثل هذه الدعوة في غنى عن المعجزة(1/32)
لإثبات حقها وصدقها، ثم من حيث سعة الأفق والشمول والمميزات التي لم تسبق ولم يلحق بها في شتى مناحي التشريع والتلقين، والتوجيه إلى أفضل المثل وأقوم الطرق مع الاتساق التام وحقائق الأمور وطبائع الأشياء والتمشي مع كل ظرف ومكان والاستجابة إلى كل شأن من شؤون الناس وحاجاتهم الروحية والمادية والعامة والخاصة، وحسب اختلافهم وتفاوتهم في العقل والسعة والثقافة والأفق.
واحتوى كذلك حلولا للمشاكل المعقدة التي كانت تجعل الناس شيعا وأحزابا، وفرقا وأضدادا، وإهابة بالغلاة والمفرطين للارعواء عن غلوهم وإفراطهم، وإرشادا للحائرين والمترددين للانتهاء من حيرتهم وترددهم بأسلوب وجّه فيه الخطاب إلى العقول والقلوب معا فيه كل القوة وكل النفوذ وكل الإقناع لمن لم تخبث طويته، ويجعل إلهه هواه، ويتعمد العناد والمكابرة والاستكبار عن قصد وتصميم، ثم احتوى تنظيما للمناسبات بين مختلف فئات الناس وخاصة بين المستجيبين للدعوة- المسلمين- وغيرهم على أساس المسالمة والحرية والحق والعدل والتزام حدود ذلك بالتقابل، وكفّ الأذى وعدم الصد والتعطيل والدّس، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلا الظالمين الذين يصدون عن سبل الله ويبغونها عوجا، ومقابلة العدوان بمثله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله «1» .
__________
(1) . 1- اقرأ مثلا الآيات التالية في صدد تقرير كون الدعوة في غنى عن الخوارق: الأنعام [4- 20 و 109- 117] ، ويونس [15- 36] ، والرعد [7- 32] ، والإسراء [89- 100] ، والأنبياء [2- 10] ، والفرقان [1- 10] ، والعنكبوت [45- 52] .
2- اقرأ مثلا الآيات التالية في صدد أهداف الدعوة ومبادئها ووحدتها من دعوة النبيّين وحل المشاكل وتنظيم المناسبات: البقرة [83- 90 و 101 و 136- 139 و 177 و 213 و 261- 286] ، وآل عمران [34- 64 و 104 و 110 و 189- 199 و 150- 166، والنساء [1- 38 و 90- 135 و 163- 179] ، والمائدة [1- 5 و 44- 50 و 59- 86] ، والأنعام [147- 153] ، والأعراف [29- 133 و 156- 158] ، والنحل [90- 97 و 125- 128] ، والإسراء [22- 39] ، ومريم [16- 37] ، والمؤمنون [1- 10] ، والفرقان [63- 76] ، والعنكبوت [45- 49] ، والشورى [13- 15 و 36- 43] ، والممتحنة [1- 12] ، والحشر [7- 10] ، والحجرات [1- 18] ، فإن الكتاب يضيق عن استيعابها لكثرتها.
الجزء الأول من التفسير الحديث 3(1/33)
- 4- أسلوب القرآن:
وقد جاء في نظمه وسوره وآياته وقصصه وعظاته وتلقيناته وأمثاله وخطابه وحججه وجداله أسلوبا رائعا متميزا في ذلك كله بخصوصيات جعلته فذا بالنسبة لأسلوب الكتب السماوية السابقة، وبالنسبة لما هو مألوف من أساليب النظم والسبك والخطاب، ذا طابع خاص خالد مما لا يصح أن يقاس عليه أنواع الكلام وأساليب الكتب والتأليف ومما يصح أن يعد أسلوبا خاصا فيقال إن اللغة العربية نظم ونثر وقرآن كما قاله كبير من أدباء العربية الحديثين بقطع النظر عن الباعث عنده على هذا القول، ومما يصح أن يكون معينا لا ينضب في فنون النظم والسبك وسمو الطبقة.
5- القرآن والبيئة والسيرة النبوية:
وعلى اعتباره أصدق مدونة دونت في عهد النبي، بل وأوحد مدونة من عهد النبي احتفظت بصورتها الأصلية دون تحوير وتعديل فقد جاء بما احتواه من معان وأساليب واصطلاحات ومفردات وتشبيهات واستعارات وفنون خطاب ولغة دليلا قويا رائعا على ما وصل إليه العرب الذين نزل بلسانهم في عهد نزوله من الدرجة الرفيعة في سلّم الفصاحة خاصة وما كانوا عليه من حضارة مادية وعقلية وثقافية بصورة عامة خلافا لما حلا لبعضهم أن يرويه ويقوله على ما ذكرناه في كتابنا «عصر النبي» «1» وعلى ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة من التفسير.
واحتوى بالإضافة إلى ذلك أولا أصدق الصور وأوثقها لبيئة النبي وعصره من النواحي الاقتصادية والمعاشية والجغرافية، وعمّا كان عليه أهلها من تقاليد وظروف وعادات دينية واجتماعية وأخلاقية وعقلية وثقافية واقتصادية اتصلت
__________
(1) صدر عام 1366 هـ/ 1947 م.(1/34)
بظروف البعثة والسيرة النبوية وتطوراتهما أوثق اتصال، وثانيا أصدق الصور وأوثقها للسيرة النبوية الشريفة في عهديهما المكي والمدني، وسواء في ذلك ما كان روحاني المظهر من حيث الصلة بالله ووحيه وتلقينه وتوجيهه ومدده وتأييده وتعليمه وتأديبه وتثبيته، أو ما كان متصلا بالناس من حيث مواقفهم من النبي عليه السلام ودعوته مسلمين وكتابين ومشركين، ومن حيث تأثرهم بهذه السيرة وهم شهود العيان لحادث «نبوة النبي» في شخص محمد عليه السلام، ثم من حيث موقف النبي من الناس ومن حيث تطور موقفهم منه وموقفه منهم بتطور الدعوة واتساع نطاقها.
فالقرآن من أجل ذلك كله كان وسيظل موضوع نظر وتدبر واستلهام واستنباط لدى الناس على مختلف الملل والنحل والأجناس بطبيعة الحال.
ونريد أن نستدرك بأننا لا نعني أن القرآن قد احتوى جميع صور السيرة النبوية والبيئة النبوية وأحداثها، أو أن ما احتواه منها قد جاء قصدا لها بالذات. فهناك من دون ريب أحداث وصور كثيرة من البيئة والسيرة النبوية لم ترد في القرآن، كما أن ما جاء منها فيه إنما جاء في الحقيقة عرضا وبسبيل الدعوة والموعظة والتذكير والتشريع والأمر والنهي مما اقتضته الحكمة ليكون مصدر إلهام وإيحاء وتوجيه، ومرجع تشريع وتلقين للمسلمين في جميع العصور، ولكن الذي نعنيه أن في القرآن من هذه الصور شيئا كثيرا منه ما جاء بصراحة ووضوح ومنه ما جاء إشارة وتلميحا.
- 6- الوحي الرباني والوحي القرآني:
وصلة النبي عليه السلام بالوحي الرباني التي كان القرآن مظهرها الرئيسي وإن كانت وظلت في حقيقة كنهها سرا على غيره، لأنها متصلة بسرّ النبوة فإن القرآن احتوى آيات عديدة قد تساعد بعض الشيء على فهم مظاهرها ومداها بقدر ما تسمح به اللغة البشرية وتتسع له أفهام البشر الذين يتخاطبون بها.(1/35)
منها ما جاء في سورة التكوير:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) .
حيث ترد الآيات كما هو واضح على نسبة الجنون وصلة الشيطان بالنبي التي نسبها الكفار إليه حينما أخذ يخبر بحادث رؤياه ملك الله وخطابه له، وسماعه منه أولى آيات القرآن. ولعل هذه الآيات أقدم آيات واردة في الموضوع بهذه الصراحة والصميمية النافذة.
ومنها ما جاء في سورة النجم:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) .
وهي كسابقتها مضمونا وتوكيدا بصدق تقرير النبي صلى الله عليه وسلّم عن صلته بالله أو ملك الله، ونزول وحي الله عليه. والآيتان الأخيرتان تشيران إلى أن رؤية النبي لملك الله كانت بعين بصيرته وفؤاده، وتتضمنان حجة قوية على انسداد مجال المماراة في هذه الرؤية الخاصة التي ليست قدرا مشتركا بين الناس. ولعل ما يصح التمثيل به- ولله ووحيه ونبيه المثل الأعلى- على سبيل التقريب لمفهوم الآيات ما يخطر ببال الإنسان من خواطر أو ما يراه الرائي في المنام، فهذه وتلك إحساسات أو رؤى خاصة ليست قدرا مشتركا بين الرائي أو الهاجس وغيره حتى تصح فيها المماراة والتكذيب كما تصح في تقرير رواية مشهد من مشاهد الكون كالشمس والقمر والشجر وغيرها. فإذا قال أحد إنه يرى القمر ولم يكن بازغا أو يرى شجرا ولم يكن هناك شجر فالمماراة واردة وصحيحة.(1/36)
ومنها ما جاء في سورة الشعراء:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) .
والسياق الذي جاء بعدها يلهم أنها هي الأخرى بسبيل الرد على نسبة الكفار صلة النبي إلى الشيطان دون الملائكة والتوكيد بأن القرآن وحي رباني حيث جاء بعد قليل:
1- وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) .
2- هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) .
وفي الآيات الأولى 192- 195 إشارة إلى كيفية صلة وحي الله القرآني بالنبي وهي نزوله به على قلبه مما يتسق مع تقرير آيات النجم الأخيرة.
ومنها ما جاء في سورة النحل:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) .
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) .
وهي مثل سابقاتها تؤكد صلة النبي بالله ووحيه القرآني وتنفي صلة الشيطان المزعومة من الكفار من جهة وتنطوي على كيفية مقاربة لما جاء في الآيات السابقة من جهة أخرى.
ومنها ما جاء في سورة البقرة:
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ(1/37)
يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) .
وقد جاءت الآية في سياق التنديد باليهود ومواقفهم وإعلانهم العداء لجبريل عليه السلام، وانطوت على كيفية مماثلة للكيفية التي احتوتها آيات الشعراء مع صراحة اسم ملك الله الذي كان اسمه معروفا في معرض الوحي الرباني عند اليهود والنصارى والذي ذكر اسمه في أحد الأناجيل في معرض بشارة مريم وحملها بالسيد المسيح عليه السلام.
وفي سورة الشورى آيات فيها بيان كيفيات اتصال الوحي الرباني بالبشر وبالنبي عليه السلام:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) .
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) .
ومع أن الوحي الرباني اصطلاحا هو ملك الله الذي يتصل بالنبي فإن الآية الثانية تلهم أنه أريد به المعنى اللغوي وهو القذف بالقلب والروع على ما فسّره العلماء مما هو متسق مع مضمون الآية الأولى التي احتوت إشارة إلى طريقتين أخريين كما هو ظاهر.
ومنها آيات في سورة القيامة:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) .
وآية في سورة طه مقاربة لهذا المعنى:
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) .(1/38)
وآيات القيامة خاصة احتوت نهيا صريحا للنبي عن حركة آنية كانت تبدو منه حينما كان ينزل عليه الوحي القرآني وفيها صورة عظيمة المدى لصلة الشعور النبوي بالوحي الرباني، حيث كان النبي يردد ما كان يوحى إليه بلسانه مماشاة لإلقاء الوحي القرآني في آن نزوله عليه حرصا منه على أن لا يفلت منه آية أو كلمة أو حرف أو معنى مما كان يوحى إليه به.
وفي سورتي النحل وغافر آيتان وإن كانتا ليستا في صدد صلة النبي محمد عليه السلام بالوحي خاصة وشخصية فإنهما في صدد معنى ومدى صلة الله ووحيه بمن يختاره لرسالته من عباده:
1- يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ النحل [2] .
2- يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ غافر [15] .
والآية الثانية قد تلهم أن الروح فيها لا تعني جبريل الذي فسرت به الكلمة في أكثر ما ورد في صدد الوحي الربّاني وإنما قد تعني تجليا ربانيا يتصل بالشخص المختار. أما الآية الأولى فإنها تلهم أن هذا التجلي يحدث بمرافقة الملائكة وإطلاقا. وفي سورة فاطر آية تؤيد هذا الإطلاق والشمول:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) .
ولقد وردت في صدد صلة النبي بوحي الله أحاديث عديدة توضح أحيانا بعض ما احتوته الآيات من صور وتتسق أحيانا معها. منها حديث البخاري المشهور عن عائشة رضي الله عنها في كيفية بدء الوحي:
«أول ما بدأ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزح إلى أهله ويتزود إلى(1/39)
ذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال اقرأ. قال ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك الأكرم. فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده فدخل على خديجة وأخبرها الخبر. لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك أبدا. إنك لتصل الرّحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة. وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع ابن أخيك. فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى. فأخبره رسول الله خبر ما رآه. فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على سيدنا موسى ويا ليتني فيها جذع. ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو مخرجيّ هم قال نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا» .
ومنها حديث رواه الطبري عن ابن الزبير:
«قال رسول الله فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ. فغطّني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ.
وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إليّ بمثل ما صنع بي. قال اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله علّم الإنسان ما لم يعلم. قال فقرأته ثم انتهى ثم انصرف عني وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتابا. قال ولم يكن من خلق الله أبغض عليّ من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما. قال قلت إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون. لا تحدّث بها عني قريش أبدا. لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحنّ. قال فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت(1/40)
في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فرفعت رأسي إلى السماء فإذا جبريل في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه وشغلني ذلك عما أردت فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي» .
ومنها أحاديث أخرى وردت في البخاري أيضا:
1- عن عائشة رضي الله عنها أن الحرث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته يتنزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
2- أخبر صفوان بن يعلى أن يعلى كان يقول ليتني أرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين ينزل عليه. قال فبينا النبي كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أظلّ معه فيه أناسا من الصحابة إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمّخ بالطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل بعمرة في جبته بعد ما تضمخ بالطيب فأشار عمر إلى يعلى بيده أن تعال فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سرّي عنه فقال أين الذي يسألني عن العمرة آنفا. فالتمس الرجل فأتي به فقال أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك.
3- أخبر زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أملى عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها قال يا رسول الله والله لو استطعت الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترضّ فخذي ثم(1/41)
سري عنه فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
4- عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام قالت وعليه السلام ورحمة الله قالت وهو يرى ما لا نرى.
ففي بعض النصوص القرآنية صراحة بنزول وحي الله بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي بعضها ما يمكن أن يلهم أن الوحي تجلّ روحاني رباني ينزل على من يختاره الله من عباده لرسالته تارة مترافقا مع الملائكة وبتخصيص مع جبريل وتارة بدون ذلك، وفي بعضها إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرى الملك الرباني بعين بصيرته وكان يسمع كلامه ويتلقى عنه أيضا. والأحاديث الواردة تفيد تارة نزول الوحي على قلب النبي، وتارة رؤية النبي لملك الله وسماعه كلامه وتلقيه عنه كذلك.
وهذه وتلك وآثار عديدة أخرى تفيد أن الوحي كان ينزل على النبي وهو بين الناس أو هو في بيته فلا يشعر به غيره، وكل ما يكون من مظهره أن يأخذه الجهد ويطرأ عليه شيء من الانفعال الروحاني ويتصبب عرقا ثم ينفصم عنه وقد وعى ما نزل عليه فيبادر إلى إبلاغه وإملائه في مجلسه الذي يكون فيه، ويستأنف ما كان فيه من عمل أو حديث، وتفيد كذلك أن النبي كان يشعر بأن الوحي الرباني الذي نزل عليه بمختلف الطرق هو شيء منفصل عن ذاتيته، ولا تصح المماراة في ذلك لأنه المخبر الصادق بأمر لا يستطيع غيره أن يشعر به.
هذا ولقد أثر عن النبي النهي عن تدوين شيء غير القرآن عنه كما تواترت الأخبار بأنه كان يأمر أحد كتابه بتدوين ما كان ينزل عليه من الوحي القرآني فورا.
فهذا وذاك متصلان بشعوره الخاص بالفرق بين ما كان ينزل عليه من وحي قرآني وبين كلامه العادي أو ما يجول في نفسه من أفكار وخواطر أو ما يلهمه من الله إلهاما أو يوحى إليه إيحاء من غير القرآن وبالحرص على عدم الخلط بينهما.
ومما يتصل بهذا الإلهامات أو الإيحاءات الربانية للنبي في صدد أعمال وتشريعات عديدة. فغزوة بدر مثلا أقدم عليها النبي نتيجة لهذه الإلهامات، وسورة الأنفال إنما نزلت بعد وقوعها.(1/42)
وفي هذه السورة آيات تحتوي، إشارات إلى وقوع تلك الإلهامات قبل الخروج إحداها في صدد القافلة وهي وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الأنفال: 7] واثنتان منها في صدد المعركة وهما إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ... [الأنفال: 9- 10] ومع ذلك فإن النبي لم يبلغ هذه الإلهامات على أنها وحي قرآني قبل الخروج أو قبل المعركة، ولكنه سار سير المسلمين إلى الهدف بها، ولم يبلغ الآيات نصا على أنها كذلك. إلا بعد الواقعة وحينما أوحيت إليه مع فصول أخرى من سورة الأنفال على أنها كذلك. ومن هذا رحلة الحديبية وما كان من النبي فيها ورحلة خيبر وتشريع الفيء والخمس والزكاة وصلاة الجمعة وكيفيات وأوقات الصلوات الخمس والوضوء والتنكيل ببني النضير وبني قريظة وغيره وغيره مما يصعب حصره لكثرته حيث كان ذلك بالإيحاء والإلهام الرباني فلم يبلغ النبي ذلك كوحي قرآني وإنما سار وسيّر المسلمين عليه بقوته ولعلّه بكفه للمسلمين على أنه إلهام أو إيحاء مطلق ولم يبلغ ما جاء في القرآن في هذا الشأن بعد السير والتسيير والعمل إلا حينما أوحي إليه على أنه وحي قرآني.
ومما يزيد هذا وضوحا ما يروى عن النبي من الأحاديث المعروفة بالأحاديث القدسية والتي تحتوي كلاما ربانيا.
فليس من أحد يمكن أن يفهم منطقيا بين هذه الأحاديث وبين ما يوحى إلى النبي قرآنا.
ومحتوياتها مما يتصل بمحتويات القرآن وعظا أو إنذارا أو تبشيرا أو إخبارا أو قصصا.
ومع ذلك فقد فرق بينها وبين القرآن ولم يأمر النبي بتدوينها قرآنا. ومما لا ريب فيه أن هذا التفريق يتصل بالصفة القرآنية التي كان يدركها النبي لما يوحى إليه به قرآنا.(1/43)
ولعلّ في آيات سورة يونس هذه:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) .
دليلا قويا على ما نقرره من ذلك الشعور. كما أن فيها برهانا على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يفكر في أي شيء من دعوة الناس والاستعداد لها وكل ما كان من أمره أنه كان مستغرقا في الله وآلائه وعظمته حتى صار مظهر رسالة الله والله أعلم حيث يجعل رسالته فأمر بها فصدع بما أمر.
ومما يجدر التنبيه عليه:
أولا- إن في القرآن آيات عديدة تبدو أنها جاءت على لسان النبي أو على لسان الملائكة مباشرة أي غير مسبوقة بأمر القول ولا معطوفة على آيات فيها ذلك.
مثل:
1- الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هود: [1- 4] .
2- وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا مريم: [64] .
3- وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ الصافات: [164- 166] .
4- فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ(1/44)
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
الذاريات: [50- 51] .
وثانيا- إن فيه آيات أخرى احتوت تنبيها على حركة شخصيّة وفورية من النبي عليه السلام وليست متصلة بما سبقها أو بما لحقها من الآيات سياقا وموضوعا وهي آيات سورة طه [111] والقيامة [16- 19] التي نقلناها قبل قليل.
ومع أن المفسرين قالوا في صدد الآيات المذكورة في الفقرة الأولى وأمثالها إن هناك تقديرا وهو أن الله أمر النبي بأن يقول ما قال، وأن الله بلغ النبي ما قاله الملائكة، وأن الآيات على هذا التقدير هي من الوحي الربّاني القرآني فإن في هذه الآيات وتلك ما يسبغ على المعنى الذي نقرّره وضوحا على ما هو المتبادر حيث بلغت قرآنا مع ما جاءت عليه من صيغة وأسلوب.
وعلى كل حال فالنصوص والآثار تسوغ القول إن صلة الوحي الرباني بالنبي هي صلة روحية خاصة به، كان يشعر بها بالقوة التي اختصه الله بها دون أن يكون بإمكان غيره إدراكها، غير أن أثرها قائم قياما حاسما لا سبيل إلى المماراة فيه، وإن من الممكن أن يدرك بعض كيفياتها وصورها من الآيات والأحاديث والإيضاحات التي أوردناها آنفا.
وروحانية صلة النبي عليه السلام بالوحي الرباني وخصوصية ذلك بإدراك النبي عليه السلام قد تبدوان واضحتين أيضا بما كان من تحدي الكفار للنبي باستنزال الملائكة مما حكته آيات مكية عديدة مثل هذه:
1- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ الأنعام: [8] .
2- فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ هود: [12] .
3- وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ الحجر:
[6- 8] .(1/45)
4- وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً الفرقان: [7] .
وجلّ هذه الآيات نزل في سياق الحجاج في صحة اتصال النبي بالوحي الرباني. فلو شاءت حكمة الله أن تكون صلة النبي هذه مادية يمكن أن يدركها غير النبي لكان الملك تراءى للكفار أو غيرهم في معرض الإفحام والإلزام أو التأييد.
هذا، وننبّه على أن لعلماء القرآن ومفسريه من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم ومن بعدهم أقوالا كثيرة في كيفية نزول القرآن ووحيه من الناحية الشكلية والعملية مثل كيفية تلقي الملك القرآن عن الله، ومثل نقله القرآن عن اللوح المحفوظ، ومثل إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا وإنزاله منها منجما، ومثل كيفية تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن عن الملك وتحوله روحيا ليكون متناسبا مع الروح الملكية وقادرا على التلقي من الملك إلخ لم نر ضرورة إلى التطرق إليها في هذا المقام، لأنها يبدو عليها آثار التكلف والتجوز التي تؤدي إلى عدم الاطمئنان، ولا سيما إن فيها تطرقا لا يشفي غليلا ولا طائل من ورائه إلى السرّ الذي ظل على الرغم من ذلك كله محجوبا عن سائر الناس. على أننا سنعود إلى طرق هذا الموضوع وما يتصل به في مقام أكثر مناسبة من هذا المقام.
شهود العيان لأعلام النبوة:
وإذا كانت صلة الوحي الرباني بالنبي على الوجه المشروح حقيقة لا يصح إيمان المسلم إلا بالإيمان بها فإن أي شخص منصف حسن النية مهما كانت عقيدته لا يسعه إذا ما تمعن بالآيات والأحاديث، إلا التصديق بصدق الشعور النبوي بها وبكون النبي إنما يصدر عن أمر راهن مهما ظل سرا ربانيا ونبويا فإنه لا يمكن المماراة فيه. على أن في شهود العيان دعامة حقيقة حاسمة في ما نعتقد أيضا.
فقد شهد حادث نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم آلاف الناس منهم العرب ومنهم غير العرب، ومنهم المشركون ومنهم الوثنيون ومنهم الكتابيون، ومنهم المستقرون من هؤلاء(1/46)
في مكة والمدينة ومنهم الوافدون خصيصا على هاتين المدينتين للاستعلام والاطلاع على النبأ العظيم الذي بلغهم. ولقد آمن بنبوة النبي في بدء الأمر مئات منهم في مكة طوعا وشوقا ممن طابت أنفسهم وحسنت نياتهم وأنار الحق قلوبهم في وسط المعارضة الشديدة التي تولى كبرها زعماء أشداء ألداء لأسباب عديدة ذكرها القرآن، وكان بين المؤمنين تلك الطبقة النيرة القوية في عقولها وشخصياتها وأروماتها والتي لمع أفرادها لمعانا باهرا فيه الدلالة على هذه المزايا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وطلحة والزبير وأبي عبيدة وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم، ثم كان بينهم كثير من أهل الكتاب بل وعلمائهم مستقرين ووافدين ممن طابت طوياتهم وحسنت نياتهم وتجردوا من الهوى والغرض وأنفوا من المكابرة والعناد ولم يبالوا بما كان من قوة الزعماء الأعداء وتحرشهم وأذاهم على ما احتوته الآيات القرآنية المكية كما ترى في هذه الأمثلة:
1- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الأعراف: [157] .
2- أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يونس: [62- 63] .
3- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الرعد: [36] .
4- لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الرعد: [18- 19] .(1/47)
5- وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ النحل: [41- 42] .
6- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً الإسراء: [107- 109] .
107- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «1» القصص: [52- 55] .
ثم آمن بها الرعيل الأول من أهل يثرب وكان من شأنهم ما كان من نصر وتأييد وتفان في دين الله ونبيه وآمن منهم فريق من علماء اليهود وسط معارضة شديدة قادها بعض زعماء العرب مع زعماء اليهود لأسباب عديدة وصفها القرآن وصفا مسهبا وهي متصلة أيضا بنفس أسباب معارضة زعماء مكة وآمن معهم وفود من علماء النصارى وفدوا على النبي في المدينة مستطلعين مستعلمين أيضا على ما احتوته الآيات القرآنية المدنية كما ترى في الأمثلة التالية:
1- لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ... آل عمران: [113- 114] .
__________
(1) هناك آيات كثيرة أخرى فيها وصف رائع لتقوى وورع وعبادة وخشية المؤمنين السابقين تدل على عمق الإيمان والاستغراق فيه في العهد المكي مثل الآيات التالية: الرعد: [20- 22] ، والفرقان [63- 76] ، والمؤمنون: [1- 8] ، والذاريات: [15- 19] ، والمعارج:
[22- 35] ، والإنسان [5- 22] .(1/48)
2- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ آل عمران: [199] .
3- لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً النساء: [162] .
4- لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المائدة: [82- 83] .
5- وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «1» ... التوبة: [100] .
فالرعيل الأول من المؤمنين العرب المشركين سابقا في مكة والمدينة الذين آمنوا رغبة وطوعا واستهانوا بكل شيء في سبيل إيمانهم، والكتابيون في مكة الذين آمنوا رغبة وطوعا مع أنهم كانوا أكثر تعرضا للأذى- وهذا وذاك في ظروف ضعف النبي المادي- وعلماء اليهود الذين آمنوا رغبة وطوعا واستهانوا بكل شيء في سبيل إيمانهم ولم يبالوا بعداء قومهم، وعلماء النصارى الذين جاؤوا مستطلعين فآمنوا
__________
(1) هناك آيات كثيرة أخرى تصف شدة إيمان المؤمنين الصادقين في العهد المدني واستغراقهم في نصرة الله ودينه ونبيه مثل البقرة: [1- 5 و 155- 207] ، وآل عمران: [15- 17 و 133- 136، و 190- 195] ، والمائدة: [45- 56] ، والتوبة: [71] ، والأحزاب: [23 و 35] ، والفتح: [29] ، والحديد: [18- 19] ، والمزمل: [20] وهي مكية، والحشر [8- 10] . [.....]
الجزء الأول من التفسير الحديث 4(1/49)
كذلك بالصفة الرائعة التي ذكرتها آيات المائدة [81- 86] ما كانوا ليؤمنوا لو لم يشهدوا من أعلام النبوة وصدق الدعوة النبوية وصلة النبي بالله ووحيه ما لا يسع الطيب النفس المتجرد عن الغرض إلا ذلك.
- 7- أثر القرآن الروحي وبلاغته النظمية:
وهنا محل لاستطراد وتنبيه، فقد ذهب بعض الباحثين «1» استنتاجا مما ذكره علماء المسلمين عن بلاغة اللغة القرآنية إلى أن هذه البلاغة كانت هي المؤثر الأول في إيمان الذين آمنوا في نجاح الدعوة النبوية. ومع كون اللغة القرآنية في الذروة العليا من البلاغة ليس محل شك فإن في هذا الحصر شيئا من الخطأ في ما نعتقد، إذ يجب أن يضاف إلى ذلك روحانية القرآن وقوة نفوذه، بل إن هذه وتلك يجب أن تكونا مقدمتين.
والحق إنهما كانتا المؤثرتين في الدرجة الأولى بالإضافة إل روحانية الدعوة النبوية وصدق لهجتها وشواهد أعلامها. ويبدو هذا واضحا في كون فريق الرعيل الأول من المؤمنين في مكة قد آمن في وقت مبكر جدا، وقبل أن يكون نزل من القرآن جملة كبيرة، فلا يصح أن يشك في أن إيمانهم إنما كان بما نفذ إلى أعماقهم من روحانية الدعوة النبوية وصدق لهجتها وبما شاهدوه من أعلام النبوة في الدرجة الأولى.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الوصف الذي به وصف أثر القرآن في الذين أوتوا العلم في آيات سورتي الإسراء [107- 109] والقصص [52- 53] المكيتين لا يصح أن يكون وصف أثر فصاحة القرآن وبلاغته اللغوية فقط بل ولا يصح أن يشك في أنه وصف أثر روحانية القرآن وقوة نفوذه بالإضافة إلى روحانية الدعوة النبوية وشواهد أعلامها الصادقة في الدرجة الأولى ولا سيما إن
__________
(1) فيليب حتي وآخرون من المستشرقين.(1/50)
المذكورين في الآيات كتابيون ويحتمل أن لا يكونوا عربا أو ممن يجيدون العربية ويتذوقون بلاغتها بقوة وإلى أمثالهم على الأرجح نسب الكفار تعليم النبي كما جاء في آية النحل وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) . حيث تقرر صراحة عجمة لسان بعض أهل العلم والكتابيين الذين كانوا في مكة. وهذا الذي نقوله في صدد المؤمنين السابقين من العرب والكتابيين في مكة ينسحب على من آمن بعدهم في مكة ثم في المدينة من الفريقين أيضا. والآيات التي نقلناها قبل قليل وخاصة آيات المائدة بالنسبة لعلماء النصارى تحتوي برهانا حاسما في هذا الشأن.
وهناك ملاحظات مهمة في هذا الصدد تدعم ما نحن بسبيل تقريره، وهي أن الذين آمنوا في العهد المكي كانوا بضع مئات في حين بقيت الأكثرية العظمى من أهل مكة ثم سائر أهل المدن والبوادي العربية متصامّة عن الدعوة النبوية بل ومناوئة لها طيلة هذا العهد، والنبي يتلو القرآن على كل من يلقاه من هؤلاء وأولئك في المواسم وغيرها، وظل الأمر كذلك مع أن ثلثي القرآن قد نزلا في هذا العهد وأن الأسلوب القرآني المكي هو أقوى وأنفذ من حيث النظم والإنذار والتبشير والترغيب والترهيب والحجاج والإفحام والإلزام، وليس ما يصح قوله في حال إن الذين آمنوا هم فقط الذين تذوقوا بلاغة القرآن وتأثروا بها فغالب الزعماء والنبهاء والشعراء وذوي الشأن كانوا في صفوف الكفار ولقد ذكرت روايات السيرة «1» ما كان للقرآن من تأثير في بعض زعماء الكفار ونبهائهم في مكة، وما كان منهم من اعتراف بسمو طبقته وبلاغته وحلاوته وقوة نفوذه، ومع ذلك فقد ظلوا مناوئين للدعوة إلى النهاية استكبارا وعنادا وأنفة وعصبية وخوفا على مراكزهم وزعامتهم إلى الفتح المكي أو بعبارة أخرى إلى أن هلك بعضهم وضعف شأن من بقي منهم وأمكن الله منهم.
__________
(1) ابن هشام ج 1 ص 247- 248 و 266 و 271- 272 و 285- 286.(1/51)
- 8- أثر الدعوة القرآنية في نجاح الفتوحات الإسلامية:
والمناسبة تجرنا إلى استطراد وتنبيه آخر مهما كان موضوعه أمس بالتاريخ فإن له مساسا أيضا بالبحث الذي استطردنا إليه. فقد حلا لبعض المستشرقين والباحثين «1»
أن يقولوا إن ما تم من انتصار الجيوش الإسلامية في بلاد الشام ومصر والعراق إنما كان انتصارا للعروبة لا «للمحمدية» - الدعوة الإسلامية- أو إن العامل الاقتصادي في بلاد العرب والعامل السياسي في امبراطوريتي الفرس والرومان هما أبرز عوامله وإن الذين أسلموا من أهل هذه البلاد إنما أسلم أكثرهم للتخلص من الجزية أو نتيجة للاضطهاد. فهذه الدعوة تدعونا هنا إلى التنبيه فقط- لأن المقام لا يتسع للإسهاب- على أن القائلين قد أغفلوا أو تجاهلوا عن قصد أو غير قصد أثر الدعوة المحمدية القرآنية العظيم في يقظة العرب الجديدة وتجمعهم وموجتهم الكبرى في عهد الخلفاء الراشدين، وكون قواد الحملات الإسلامية الأولى بنوع خاص وزعماءها ومشاهيرها كانوا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين رسخت فيهم مبادئ تلك الدعوة، وكون هذه الحملات امتدادا لحركات التنكيل والتأديب الدفاعية التي بدأت في عهد النبي في نطاق تلك المبادئ، وكون الشعار الذي حمله هؤلاء هو الدعوة إلى الإسلام بالموعظة والحكمة والجزية على من أبى من الأعداء وخضع للسلطان الإسلامي حتى لا يصدّ عن الدعوة ولا يفتن المستجيبون إليها ويكون الدين كله لله، والقتال لمن ظلّ على عدائه وصدّه إلى أن يتحقق ذلك القصد، وما احتواه التاريخ الإسلامي من الصحف النورانية الوهاجة عن التصرف الذي تصرفه هؤلاء القواد والزعماء الذين زوّدهم الخلفاء الراشدون بالإضافة إلى ما رسخ فيهم من مبادئ القرآن من الوصايا بالرحمة والبرّ والرأفة والوفاء ورعاية الذمة وترك المسالمين والحياديين وغير المحاربين والعجّز والنساء والرهبان وشأنهم مما هو مستمد كذلك من تلك المبادئ ومن السيرة النبوية الشريفة، وكون
__________
(1) فيليب حتي وكايتاني.(1/52)
الدين الإسلامي لم يكن غريبا أو منحرفا في الأصل والجوهر عن الأديان السماوية التي كانت سائدة في هذه البلاد. فلكل من هذه الأمور أثر قوي في ما تم للعرب المسلمين من نصر وفتح، وما تم للدين الإسلامي من انتشار وإقبال في أثناء الحملات الأولى وما تبعها من ظروف، وإذا كان التاريخ يذكر بعض ثورات قامت في بعض الجهات، وبعض نكسات حدثت أو بعض أحداث نوقضت فيها تلك المبادئ فإن ذلك لا يبرر القول الذي قيل، وما أريد توجيهه من غمز أو استهانة بآثار الدعوة النبوية القرآنية. وإذا كان قصد التخلص من جزية خفيفة هي في الوقت ذاته بدل ضريبة الدم التي كان يؤدّيها المسلمون وبدل ما كان يبذله هؤلاء من حماية وذمة للدافعين سببا في اعتناق الإسلام فإنه يحمل نفسه معنى كبيرا، وهو كون الدين الذي كان المرتدون عنه يدينون به لم يكن من الرسوخ والقوة في النفوس بحيث يكون أغلى من أن يباع بدينار أو دينارين أو أربعة دنانير في السنة يؤديها الرجل البالغ القادر حسب مقدرته لأن الجزية لم تكن تؤخذ من النساء والأطفال والعجز على أن من الحقائق التي لا تتحمل مماراة أن أكثر الذين اعتنقوا الإسلام من هؤلاء قد اعتنقوه عن قناعة ورغبة لأنهم رأوه متطابقا مع ما هو عليه دينهم من أسس، ومع كثير من تقريرات كتبهم المقدسة، ووجدوا فيه حلولا لعقد عقائدية كانت تثير بينهم الحيرة والفتن الهوجاء وتجرّ عليهم الاضطهادات. ولعل انحدار أكثرهم من الأرومات العربية الجنس التي سماها المستشرقون الحديثون بالساميين، وانتساب كثير منهم للعروبة التي تمركزت فيها هذه الأرومات قد ساعد على الانطباق والاندماج. على أن بقاء شراذم من النصارى واليهود والسامريين والصابئة بعد الحملات الإسلامية الأولى ثم خلال ثلاثة عشر قرنا كان السلطان فيها والكثرة للمسلمين، بل كان هذا السلطان في بعضها قويا ليس في الميدان من يدانيه قوة وشمولا أو يتحداه لدليل خالد رائع على أن الطوائف غير المسلمة لم ترغم على الإسلام إجمالا، وخاصة في عهد الحملات الأولى والظروف القريبة منها، وأن الذين اعتنقوه إنما اعتنقوه بطوعهم وقناعتهم، وإن من بقي على دينه منهم قد تمتع بحريته وأمنه في ظل هذا السلطان وفي ظل مبادئ القرآن الذي قام عليه مما لم(1/53)
يكن مثله في أي حركة دينية قبله وبعده عاضدتها القوة والغلب، بل ومما جاءت الوقائع والنصوص مؤيدة لعكسه على خط مستقيم. ومن الغريب أن يتجاهل المستشرقون المغرضون والمبشرون ذلك ويحاولوا أن يجعلوا الشذوذ في المسلمين وتاريخهم. وإنه لمن الحق والإنصاف أن يلاحظ استنادا إلى ذلك الدليل الخالد الرائع أنه قد يكون لما يمكن أن يكون وقع من نكسات أو تصرفات قاسية أسباب سياسية أو إدارية أو محلية كتمرد أو دس أو استفزاز أو استجابة لدعاة سوء وشر أو لتحريكات خارجية مما سجل التاريخ بعض شواهده في سياق النكسات والتصرفات ومما كان سببا لإيقاع مثلها في بعض طوائف المسلمين أنفسهم أيضا «1» .
ومن الغريب الباعث على الدهشة أيضا ما يحلو لمبشّري النصارى بل ولكتّاب عرب «2» منهم يودون أن يظهروا غير متعصبين تعصبا أعمى وغير مغرضين من تكرار القول بقوة تأثير النصارى في المسلمين وأثر النصرانية كدين في مدنية وحضارة بلاد الشام والعراق ومصر حتى بعد اعتناقهم الإسلام وتسلسله فيهم أجيالا عديدة، وضنّهم مع ذلك أن يجعلوا للإسلام والمسلمين والمبادئ القرآنية أثرا ما في الحضارة التي صارت عليها هذه البلاد، حتى بعد أن مضى على السلطان الإسلامي منها أجيال عديدة، ثم من الإصرار على وصف رجل أو امرأة بأنه نصراني قديم أو أنه يستمد مظهره ودوره وروحه وسلوكه ومدنيته من نصرانيته ولو أنه صار مسلما راسخا وقضى في إسلامه أضعاف السنين التي قضاها نصرانيا وعدا كيانه قائما بالإسلام، حتى ولو كان عربيا أعرابيا من بني كلب أو تغلب ولا ندري لماذا لا يعقل أن ينطبع هؤلاء بالطابع الإسلامي ويتأثروا به وأنهم لا بد من أن يكونوا منطبعين دوما بالطابع النصراني وطابعين به الإسلام ثم لا ندري لماذا
__________
(1) في كتاب «تاريخ التبشير والدعوة الإسلامية» لأرنولد تقريرات وشواهد كثيرة على ما جاء في هذا البحث، ومثل هذه الشواهد مبثوثة في كتب التاريخ الإسلامي أيضا.
(2) فيليب حتي والآباء اليسوعيون في كتبهم العربية والإفرنسية مثلا.(1/54)
يحاول أولئك الكتّاب العرب خاصة تهوين هذا التراث العظيم والبناء الباذخ، وهم يعرفون أنهم إنما يحاولون عبثا لا جدوى فيه.
- 9- تطور سيرة النبي والتنزيل القرآني:
والمناسبة تسمح كذلك بتنبيه واستطراد آخر. فقد حلا للمستشرقين والمبشرين أن يستعملوا تعبيرا عجيبا في معرض الإشارة إلى تطور السيرة النبوية في العهد المدني فيقولون إن النبي في هذا العهد انقلب من نبي إلى حاكم أو صار سلطانا أكثر منه نبيا أو ما في معناه، وقد اتخذ بعضهم بعض ما روته الروايات أو ما تبادر لهم أنهم فهموه من عباراتها أو من عبارات القرآن في صدد بعض أحداث السيرة النبوية الشخصية والعامة في العهد المذكور وسيلة للطعن والغمز، والقول إن النبي قد نقض المبادئ التي بشر بها ودعا إليها في مكة وخالفها.
أما أن السيرة النبوية في العهد المدني قد تطورت فهذا مما لا شك فيه وفي القرآن شواهد حاسمة عليه غير أن هذا لا يقتضي أن يكون النبي قد انقلب إلى حاكم أو صار سلطانا أكثر منه نبيا. لأن في القول تحكما في تعيين مدى «النبي» ومهمته لا يستند إلى دليل راهن، كما أن القول إن النبي قد نقض المبادئ التي بشر بها في مكة وخالفها خطأ فاحش لا يستند إلى حق أو شبهة من حق. والقرآن هو الحكم الحاسم والقول الفاصل في هذا وذاك، لأنه من جهة احتوى مبادئ وقواعد من شأنها تعيين مدى مهمة «النبي» ، ومن جهة احتوى صورا للسيرة النبوية في مختلف أدوارها وعهديها. فعدم النفوذ إلى مدى الآيات والفصول القرآنية أو عدم الإحاطة بها لا يمكن أن يغير حقيقة ما احتواه من هذا وذاك بطبيعة الحال، كما أنه إذا كان هناك روايات متعارضة مع هذه المحتويات فإنها تكون مدسوسة أو محرفة من دون ريب. والمماراة في ذلك مكابرة تنشأ عن الغرض وسوء النية والقصد حتما.(1/55)
ولقد عين القرآن المكي مهمة النبي الرسول وهي الدعوة إلى دين الله الحق وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث، ورفع التكاليف الشديدة السابقة التي تقيد البشر وتغل أيديهم ونشاطهم، وتبشير الذين يتبعونه ويطيعونه ويستجيبون إلى دعوته بسعادة الدنيا والآخرة، وإنذار الضالين المنحرفين بشقاء الدنيا والآخرة، وبيان الهدى من الضلال والحق من الباطل والحلال من الحرام، ومحاربة الشرك بكل معانيه، والأمر بمختلف المكارم الأخلاقية الشخصية والاجتماعية والإنسانية، والنهي عن مختلف الآثام والمنكرات الشخصية والاجتماعية والإنسانية، على أساس الحرية والمساواة والتسامح والتعاون والتواد والأخوة والحق والعدل والإحسان ودفع البغي والعدوان ومقابلتهما بالمثل دفاعا وضمانة لاحترام الناس حقوق بعضهم، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة إلا مع الظالمين، وعلى أساس صلة النبي والقرآن بالوحي، ثم على أساس طبيعة النبي البشرية، والاتساق مع العقل والمنطق والمصلحة وطبائع الأمور وحقائق الأشياء.
وقد وعده الله هو والمسلمين معه بالنصر وأمرهم بالصبر إلى أن يأتي أمر الله فينصر رسوله والذين آمنوا وكان حقا عليه نصر المؤمنين مما هو مثبوت في مختلف الفصول والسور المكية.
فإذا أنعم المرء النظر في القرآن المدني وأخذه كمجموعة يتمّ بعضها بعضا فإنه لا يجد مندوحة عن التسليم بأنه قد ظل في حدود ما رسمه القرآن المكي لمهمة النبي والدعوة النبوية ومبادئها وأسسها وتوجيهاتها، ويرى دلائل ذلك في صريح الآيات ومراميها وتلقيناتها وروحها، فنواة كل ما ورد فيه من تشريع وأوامر ونواه وتلقين وتوجيه أو جلّه موجودة في القرآن المكي، وليس مما يصح في عقل عاقل وإنصاف منصف أن يكون النبي الذي بلّغ القرآن والذي قام الإيمان بنبوته وتنزيله وطاعته والفناء فيه من قبل المؤمنين على ما شاهدوه من أعلام نبوته وقوة روحانيته وصدقه واستغراقه في مهمته العظمى وتخلقه بأخلاق القرآن قد خالف في مختلف أدوار سيرته بأقواله أو أفعاله أو أوامره أو نواهيه أو(1/56)
توجيهاته النصوص والتلقينات والمبادئ القرآنية.
نقول هذا ونحن نعرف أن القائلين يذكرون فيما يذكرون على سبيل التدليل ما كان من تبدل موقف القرآن والنبي من اليهود قولا وفعلا، ومن الدعوة إلى قتال المشركين كافة ومطلقا وعدم قبول غير الإسلام منهم، ومن الأمر بقتال الكتابيين عامة حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وما وهموه من مناقضة بين هذا وبين الحرية الدينية التي قررها القرآن المكي، ومن اقتران الدعوة إلى الجهاد بالإغراء بالغنائم، ومن ظهور النبي في مظهر ذي السلطان السياسي والحربي والقضائي والمالي والتشريعي، وما وهموه من مناقضة بين هذا وبين مهمة «النبي» وما قرره القرآن المكي من أنه لا يطلب أجرا وليس هو مسيطرا على الناس ولا جبارا ولا وكيلا ولا مسؤولا، وليس هو إلا نذيرا وبشيرا وداعيا إلى الحق فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها، ومن القائلين من ضاق أفقه ونظره وخلط مع هذا زوجات النبي وحياته الخاصة أيضا.
غير أن إنعام النظر مع الإنصاف والإحاطة يظهر الحقيقة ساطعة وهي أن ما كان من تطور في السيرة النبوية المدنية وفي المرامي القرآنية المدنية ليس هو تطورا في معنى الانحراف عن الأصل المكي سيرة وقرآنا وإنما هو في حدود هذا الأصل ونطاقه. فالقرآن المكي وإن كان دعا إلى ما دعا إليه ونهى عن ما نهى عنه بأسلوب الحثّ والتحريض والترغيب والترهيب والتحسين والتقبيح والتقرير والتبليغ فإنه انطوى على نواة الأمر والنهي والتشريع أيضا كما نرى في الآيات التالية مثلا:
1- قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ(1/57)
كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
الأنعام:
[151- 152] .
2- قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «1» . الأعراف: [33] .
فإذا تطور تطور هذا إلى أسلوب التشريع الحاسم في العهد المدني فإنه إنما كان تطورا تطبيقيا ليس فيه شيء من الانحراف والغرابة، كما أن تمثل قوة التشريع والحكم والقضاء والقيادة والزعامة في شخص النبي عليه السلام هو نتيجة طبيعية لهذا التطور التطبيقي، وليس من مسوغ للقول إن طبيعة مهمة النبوة لا تتحمله.
وكل ما كان من تبدل في القرآن وموقف النبي إزاء اليهود والدعوة إلى قتال المشركين والأمر بقتال الكتابيين لم يخرج في أصله عن المبادئ القرآنية المكية، ويجد الذي ينعم النظر في الفصول القرآنية المكية والمدنية دلائل حاسمة على ذلك. فالقرآن المكي قرر الحرية الدينية والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنه قرر كذلك حق المسلمين في الدفاع والانتصار من البغي، وأوجب الوقوف من الظالم موقف الشدة بالمقابلة كما ترى في هذه الآيات:
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) الشورى: [36- 42] .
__________
(1) ومن هذا القبيل آيات الإسراء: [32- 39] .(1/58)
والقرآن المدني، إنما ثبت هذه التقريرات في صيغة الأمر والتشريع وحسب وأمر بالتزام العدل التام مع الأعداء والوفاء بعهد المعاهدين وبترك المسالمين والحياديين وشأنهم، وبل وبتشجيع البرّ بهم والتوادّ معهم، وبإنكار كون الغنائم غاية من غايات الحرب الإسلامية، وبالجنوح للسلم إذا جنح العدو لها كما ترى في الآيات التالية التي هي قليل من كثير في هذا الباب:
1- وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ البقرة: [190- 194] .
2- إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا النساء: [90] .
3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً النساء: [94] .
4- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ المائدة: [2] .
5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ(1/59)
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ..
المائدة: [8] .
6- وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ..
الأنفال: [61] .
7- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ التوبة: [4] .
8- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.. التوبة: [7] .
9- لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الممتحنة: [8- 9] .
ولا يمكن في حال أن يكون النبي عليه السلام قد ناقض المبادئ القرآنية التي بلّغها، وروايات السيرة الوثيقة تؤيد أن ما كان من قتال بين المسلمين والمشركين العرب وغيرهم في حياة النبي إنما كان دفاعا وانتصارا من الظلم والعدوان وتوطيدا لحرية الدعوة إلى الإسلام. وإنه لم يكن بسبيل إكراه الناس على الإسلام أو بدء أحد بالعدوان والإكراه ولا يقدح في هذا أن يكون كثير من العرب قد أسلموا بعد أن قوي المسلمون وانتصروا على أعدائهم وفتح الله عليهم مما يمكن أن يكون طبيعيا لا شذوذ فيه طالما لم يكن فيه إجبار وإكراه. ولعل ما كان بين النبي عليه السلام وبين فئات المشركين من معاهدات في مختلف أدوار العهد المدني أكبر دليل على ما نحن بسبيل تقريره. ولعل التمعّن في نصّ سورة النصر يجلّي هذه الحقيقة كل التجلية. فإن في تعبير وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ(1/60)
اللَّهِ أَفْواجاً (2)
لو صفا رائعا للإقبال التطوعي على الإسلام مهما كان ذلك نتيجة من نتائج الفتح والنصر والتغلب على الأعداء البغاة الصادين عن دين الله وخضد شوكتهم، بل إن هذا يحمل على القول إن عدم إقبال الناس على الإسلام قد كان أثرا لنشاط هؤلاء الأعداء ومكرهم ومؤامراتهم وحسب. وهو ما تؤيده نصوص قرآنية عديدة أيضا كما ترى في الآيات التالية مثلا:
1- إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ البقرة: [166] .
2- وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إبراهيم: [21] .
3- وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً سبأ: [33] .
كذلك يجد الذي ينعم النظر في النصوص القرآنية أن قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية محدود بحد الذين لا يدينون بدين الحق ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، وأن هؤلاء ليسوا جميع أهل الكتاب وإنما فريق منهم. ومعلل كذلك بأن زعماءهم الدينيين كانوا يصدون عن سبيل الله لضمان منافعهم المادية كما ترى في الآيات التالية:
1- قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ التوبة: [29] .
2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ التوبة: [34] .(1/61)
ثم نجد أن اليهود وغيرهم تمتعوا بكل حرية الجدل والحجاج والإنكار والجحود بل بثّ الشكوك والريب في صدور المسلمين وغيرهم بل والوقوف موقف السخرية والتحدي مع احتفاظهم بدينهم وطقوسهم وعهودهم وأن موقف العداء الحربي ضد العرب منهم إنما كان مقابلة على ما بدا منهم من صدّ وأذى وطعن وإخراج وفتنة وظلم ومؤامرة وبغي.
وإنّ هذا الموقف من اليهود لم يكن إلا بعد أن بدا منهم الصدّ والطعن والأذى والغدر والنكث والتآمر مع الأعداء المحاربين ومظاهرتهم في الحرب مما جاء في القرآن قويا صريحا واضحا «1» . وبالتالي إن ما كان من أحداث بين النبي واليهود لم يخرج عن نطاق المبادئ القرآنية المكية والمدنية. أما ما كان من غزوات مشارف الشام التي يقطنها نصارى العرب في زمن النبي كدومة الجندل وبني كلب ومؤتة وتبوك فالروايات كثيرة على أنها لم تقع إلا مقابلة على عدوان هؤلاء على قوافل المسلمين، والحملات التي جهّزها أبو بكر ليست إلا امتدادا لها ولحركات حروب الردة.
والقول إن الجهاد اقترن بالإغراء بالغنائم مهما كان فيه شيء من الحقيقة إلا أنه طبيعي لا شذوذ فيه ما دام الجهاد دفاعيا وفي نطاق الانتصار من الظلم. على أن في إطلاق القول توسعا لا ينطبق على نصوص القرآن فأكثر آيات الجهاد اقترنت ببيان واجب الجهاد وضرورته وثوابه عند الله والقليل الذي اقترن بوعد الفتح والغنائم اقترن أيضا ببيان الواجب والضرورة وحسن الثواب عند الله، وإن من الحق
__________
(1) في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة آيات وفصول عديدة وطويلة فيما كان لليهود من مواقف حجاجية وتشكيكية وتآمرية كما أن في سور الأنفال والحشر والأحزاب آيات صريحة بمواقف النكث والعداء والخيانة التي وقفوها فاستحقوا عليها التنكيل مما يستغرق نقله حيّزا واسعا اقرأ مثلا آيات البقرة: [40- 42 و 75- 76 و 106 و 139 و 147] ، وآل عمران: [65- 120] ، والنساء: [44- 56 و 153- 165] ، والمائدة: [41- 42 و 57- 76 و 72] ، والأنفال: [55- 63] ، والأحزاب: [26- 27] ، والحشر: [1- 4] .(1/62)
أن يقرر أن ذلك على كل حال قد جاء في القرآن وظل ثانويا ولم يكن رئيسيا أصلا «1» .
وعلاوة على هذا فإن الحثّ على الإنفاق في سبيل الله قد شغل حيزا غير يسير من القرآن وجاء بأساليب قوية نافذة.
وهذا مما يكون قرينة قوية على الهدف الذي استهدف بالجهاد وهو توطيد الأمن وحرية الدعوة ودفع البغي والعدوان وإيجاب الإنفاق عليه على المسلمين أكثر من إغرائهم بالمغانم من ورائه «2» .
أما حياة النبي الشخصية وزواجاته فإنها من جهة متسقة مع طبيعة النبي البشرية التي قررها القرآن، ومن جهة فإن في الفصول القرآنية ما يزيل ما وقع من الوهم في مشكلاتها وما يدل على الخطأ في فهمها وروايتها. وفي آيات تخيير نساء النبي في سورة الأحزاب [28- 34] ما فيه كل الاتساق مع عظمة خلق النبي واستغراقه في الله ومهمته العظمى وما كان يختاره من شظف العيش وضنكه في حياته البيتية الخاصة. هذا مع القول إن الأخذ والردّ في هذه الناحية ليس إلا ظاهرة من ظواهر التمحّل والهوى وضيق الأفق والنظر والتعامي عن الجوهر واللباب «3» .
__________
(1) اقرأ مثلا الآيات التالية البقرة: [154 إلى 157 و 190 إلى 194 و 216 إلى 218] ، وآل عمران: [139 إلى 148 و 169 إلى 179 و 195] ، والنساء: [72 إلى 76 و 94 إلى 100] ، والمائدة: [33 إلى 34 و 51 إلى 66] ، والأنفال: [1 إلى 8 و 38 إلى 47 و 55 إلى 71] ، والتوبة: [1 إلى 16 و 20 إلى 22 و 29 إلى 35 و 89 إلى 100 و 111 و 118 إلى 132] ، والحج: [39 إلى 41] ، والأحزاب: [10 إلى 14 و 22 إلى 27] ، والصف: [10 إلى 13] .
(2) اقرأ الفصل الرائع في سورة البقرة: [260 إلى 264] وكذلك آيات البقرة: [195 و 245 و 254] ، والحديد: [10 إلى 11 و 18] مثلا.
(3) في مختلف فصول كتابنا «سيرة الرسول» الذي صدر عام 1368/ 1948 شروح وبيانات وافية مؤيدة بالأسانيد القرآنية في صدد جميع ما تناوله هذا البحث وخاصة في فصول اليهود والنصارى والجهاد والتشريع في الجزء الثاني.(1/63)
- 10- القرآن والعرب في عهد النبي:
والناظر في القرآن يجد أن موضوع (القرآن) وصلته بالوحي الرباني كان موضوعا رئيسيا بل من أهمّ المواضيع الجدلية بين النبي وبين زعماء الكفار ونبهائهم. وقد نسبوا إلى النبي في سياق ذلك أنواع النسب فقالوا إنه شاعر وإنه كاهن وإنه ساحر وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه يقتبس ما يتلوه من أساطير الأولين وكتبهم وقصصهم، وإن هناك من يعلّمه ويساعده في ما ينظمه ويتلوه، وإنه مسحور وإنه مجنون وإن الذين يوحون إليه به هم الشياطين والجن على ما كانوا يعتقدون ذلك في شأن السحرة والكهان والشعراء. وتآمروا سرا وعلنا على التشويش عليه واللغو عند تلاوته، والإعراض والصدّ عن سماعه، واستغلّوا بعض الظروف «1» في صدده فحملوا بعض ضعفاء الإيمان على الارتداد إلخ، ويجد أن هذا الموضوع قد شغل حيزا غير يسير من سور القرآن وخاصة المكي منه «2» ، وإن القرآن قد حكى عنهم ما قالوه وفعلوه بكل ما في ذلك من جرأة وصراحة وبذاءة وسوء أدب واتهام ومكابرة، وردّ عليهم ردودا قاطعة قوية عنيفة كانت تتلى عليهم على ملأ الناس وتقذف في وجوه الجاحدين والمعاندين والمكذبين والصادقين والمحاجين مسفهة تارة ومنددة تارة ومتحدية تارة ومبينة للأسباب الحقيقة التي
__________
(1) اقرأ آيات النحل [98- 110] وكتابنا «سيرة الرسول» ج 1 ص 241- 244.
(2) الآيات كثيرة جدا ومبثوثة في سور القرآن عامة المكي منها خاصة ومع ذلك فإننا نشير إلى بعضها للرجوع إليه والتمعن فيه: البقرة: [21- 25 و 40- 46 و 89- 91] ، والنساء:
[163- 170] ، والأنعام: [68- 69 و 124] ، والأنفال: [31- 32] ، ويونس: [15- 17 و 36- 40] ، وهود: [13- 14] ، والحجر: [6- 15] ، والإسراء: [45- 48 و 89- 93] ، والكهف: [1- 6] ، والأنبياء: [2- 10] ، والمؤمنون: [66- 67] ، والفرقان:
[1- 6 و 30- 34] ، والشعراء: [192- 227] ، والنمل: [1- 6] ، والعنكبوت: [45- 52] ، والسجدة: [1- 3] ، وسبأ: [1- 9 و 31- 35 و 43- 48] ، والحج: [72- 78] ، وفاطر: [29- 43] ، ويس: [1- 11 و 69- 70] ، وفصلت: [26 و 44 إلى 46] .(1/64)
تمنعهم من الإيمان والتصديق تارة كالاستكبار والتعاظم والاعتداد بالمال والجاه والعصبية، وخشية فقدان المنافع والمصالح وعدوان الخارج وقطيعة الناس وانفضاض الجمهور عنهم إلخ. ثم ظل النبي بتأييد الله ووحيه وقوته وتثبيته لا يزداد إلا استغراقا في مهمته وفناء في ربّه واستمرارا في الدعوة إليه وإشفاقا على قومه لينقذهم ثم لينقذ البشر جميعا من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور، إلى أن يسّر الله أمر الهجرة إلى المدينة المنورة وأيد نبيه بنصره وحقق له وعده فنصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب، وأهلك أكثر الزعماء الأقوياء المستكبرين الصادين الذين قادوا حملة المعارضة وتولوا كبرها، ودخل الناس في دين الله أفواجا وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. فالقرآن يمثل فيما يمثل هذه القوة الروحانية العظمى التي كانت وما زالت الحاسمة في الموقف والمثيرة للإعجاب والإعظام والإجلال.
ومن الجدير بالذكر أن كل ما يمكن أن يقوله كافر جاحد عنيد شديد العداء عن القرآن والنبي قد قاله كفار العرب في حضرته مباشرة، وبكل عناد وقوة ولجاجة، وإن النبي قد ردّ عليه بلسان القرآن بكل قوة وعنف وقطعية وإفحام وصمد له صمودا رائعا عظيما. وكان ذلك على مرأى ومسمع من مختلف الفئات ثم استمر في تبليغ الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق وأسباب سعادة الدارين، وفي كل هذا دليل قوي أخاذ على ما كان من عمق شعوره عليه السلام بصدق رسالته وصدق صلته بالوحي الرباني وإدراكه التام لمدى مهمته العظمى واستغراقه فيها.
وإن المرء ليشعر بها شعورا يملك عليه نفسه إذا كان حسن النية متجردا عن الهوى إذ يقرأ في القرآن آيات النساء [167] والأنعام [93] والشورى [24] والأحقاف [8] والحاقة [38- 52] التي نقلناها قبل ويقرأ منها آيات يونس هذه:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا الجزء الأول من التفسير الحديث 5(1/65)
أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) .
ومن العجيب أن يظل المغرضون من المبشرين والمستشرقين يأخذون ويردون ويعيدون ويبدئون فيما لم يقصر به زعماء كفار العرب مع النبي صلى الله عليه وسلّم مباشرة، وبعد أن احتوى القرآن ما احتواه في صدد ذلك من آيات رائعة وردود قوية وتحدّ مفحم وصميمية نافذة مستولية، وأن يتمسكوا كما تمسك أولئك بالقشور دون اللباب وبالعرض دون الجوهر وأن لا يتورعوا عن البذاءة والغثاثة والصغار والمراء بالباطل وأن لا يكون تقدم الأدب الإنساني والحضارة الإنسانية والتفكير الإنساني ذا أثر رادع في مكابرة المكابرين ومماراة الممترين وخروجهم فيهما عن نطاق الأدب والحق والمنطق.(1/66)
الفصل الثاني جمع القرآن وتدوينه وقراءاته ورسم المصحف وتنظيماته
- 1- مجموعات من الروايات والأقوال في تدوين القرآن:
أما تدوين القرآن وجمعه وترتيبه فإن الناظر في كتب علماء القرآن ورواة الحديث عنهما يجد أقوالا وروايات كثيرة حول هذا الموضوع مختلفة اختلافا غير يسير، ومتعارضة أحيانا.
فأولا: إن هناك أقوالا وروايات تفيد أن النبي عليه السلام توفي ولم يكن القرآن قد جمع في شيء، وإن جمعه وترتيبه إنما تمّا بعد وفاته وإن ما كان يدوّن منه في حياته كان يدون على الأكثر على الوسائل البدائية مثل أضلاع النخيل، ورقائق الحجارة وأكتاف العظام وقطع الأديم والنسيج، وأن المدونات منه على هذه المواد لم تكن مضبوطة ولا مجموعة، وكانت على الأكثر متفرقة عند المسلمين، وأن المعول في القرآن، إنما كان على القراء وصدور الرجال:
1- فقد ورد حديث منسوب إلى زيد بن ثابت برواية الزهري جاء فيه أن النبي قبض ولم يكن القرآن قد جمع بشيء. ولقد علّق الخطابي على ما جاء في «إتقان» السيوطي على هذا الحديث بقوله إنما لم يجمع النبي القرآن لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه وآياته. فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك بوفاء وعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر. ثم قال وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي مسلم(1/67)
«لا تكتبوا عني غير القرآن» فلا ينافي ذلك لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة. وقد كان القرآن كلّه كتب في عهد رسول الله لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور.
2- وقد روى البخاري حديثا عن زيد بن ثابت عن جمع القرآن بعد وفاة النبي هذا نصه: قال زيد أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بقرّاء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن نأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله قال عمر هو والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري بذلك ورأيت الذي رأى عمر. قال أبو بكر إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني في نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمراني به من جمع القرآن. قلت فكيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله.
قال هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للّذي شرح صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب والقحاف وصدور الرجال.
ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره. فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة.
3- وقد روى ابن شهاب حديثا جاء فيه إن أبا بكر قال بعد أن تمّ جمع القرآن التمسوا له اسما فقال بعضهم السفر وقال بعضهم المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف. فسماه أبو بكر المصحف. وقد أورد المظفري رواية أخرى جاء فيها أن أبا بكر لما قال سمّوه قال بعضهم سمّوه إنجيلا فكرهوه وقال بعضهم سمّوه السفر فكرهوه فقال ابن مسعود رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف «1» فسمّوه به.
__________
(1) القول بأنه اقترح أن تسمّى المجموعة إنجيلا محل نظر في ذاته لأن أصحاب رسول الله يعرفون أن هذه التسمية خاصة بكتاب عيسى والنصارى. ولقد قيل إن كلمة «المصحف» دخيلة ونحن نرى ذلك غريبا لأن معنى هذا أنها لم تكن معروفة الأصل والاشتقاق والمعنى عند العرب في حين أن الكلمة على ما هو الأرجح إن لم نقل على الجزم متصلة بكلمة صحف وصحيفة. وكلمة صحف وردت أكثر من مرة في القرآن حيث وردت في سور الأعلى والنجم وعبس والمدثر.(1/68)
هذا في حين أن هناك حديثا بخاريا آخر في نفس السياق يذكر أن المجموعة كانت تسمى «الصحف» . وعلى كل حال فحديث تسمية المجموعة بالمصحف يفيد أن هذه التسمية التي استفاضت حتى صارت العلم على مجموعة القرآن استعملت لأول مرة في جمع عهد أبي بكر.
3- وأخرج أبو داود حديثا آخر جاء فيه أن عمر أعلن الناس من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. وكان لا يقبل من أحد شيء حتى يشهد شاهدان.
4- وروى ابن شهاب حديثا آخر جاء فيه: إنه لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يذهب من القرآن طائفة فأقبل الناس بما معهم حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق. فكان أبو بكر أول من جمع القرآن.
5- وروى الليث بن سعد حديثا جاء فيه أن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد لأنه كان وحده.
6- وروى عمارة بن غزية حديثا جاء فيه أن زيد بن ثابت قال أمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأديم والعسب. فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتبت ذلك في صحيفة واحدة.
7- وروى عكرمة أن عليّ بن أبي طالب قعد في بيته بعد بيعة أبي بكر فقيل لأبي بكر كره بيعتك. فأرسل إليه فقال أكرهت بيعتي. قال لا والله. قال ما أقعدك عني. قال رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر نعم ما رأيت.
8- وأخرج ابن سيرين حديثا جاء فيه أن عليا لما مات النبي قال آليت أن(1/69)
لا آخذ علي ردائي حتى أجمع القرآن فجمعه وأنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ.
9- وأخرج أبو داود حديثا عن علي جاء فيه أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.
10- وأورد ابن أشته في كتاب المصاحف حديثا جاء فيه أن أول من جمع مصحفا بعد وفاة النبي هو سالم مولى حذيفة.
11- وأورد السيوطي في «الإتقان» أن ابن فارس وهو من علماء القرآن قال إن تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين قد تولته الصحابة.
12- وقال الحاكم إن جمع القرآن الثالث هو ترتيب السور وقد تمّ ذلك في زمن عثمان.
- 2-[روايات وأقوال في تدوين القرآن وجمعه]
وثانيا: إن هناك روايات كثيرة عن وجود اختلاف في ترتيب مصاحف بعض الصحابة وعن كلمات زائدة كتبت في بعض المصاحف ولم تكتب في المصحف المتداول وعن آيات كانت تقرأ ولم تكتب كذلك هي هذا المصحف مما يفيد أن النبي توفي ولم يكن القرآن قد جمع ورتب أيضا:
1- فمن الروايات التي أوردها السيوطي نقلا عن كتب علماء القرآن والمصاحف أنه كان لكل من أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وهما صحابيان وعالمان في القرآن «1» مصحف وأن ترتيب سور كل منهما مغاير لترتيب الآخر من جهة ومغاير لترتيب سور المصحف العثماني المتداول من
__________
(1) في حديث عن عبد الله بن جابر أورده السيوطي أنه سمع النبي يقول خذوا القرآن عن أربعة عبد الله بن مسعود ومعاذ وسالم وأبي. وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى فيها بعض الخلاف ولكن اسمي عبد الله وأبي موجودان فيها. [.....](1/70)
جهة أخرى، وأن في أحدهما زيادة وفي أحدهما نقصا وأن المصحفين ظلا موجودين يقرآن إلى ما بعد عثمان بمدة طويلة. وقد نقل السيوطي كلا من الترتيبين عن كتاب المصاحف لابن أشته، وفي مصحف أبيّ سورتان صغيرتان زائدتان عن سور المصحف واحدة اسمها سورة الحفد وهذا نصها:
«اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك.
ونرجو رحمتك. إن عذابك بالكفار ملحق» . والثانية اسمها سورة الخلع وهذا نصها: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك.
ونخلع ونترك من يفجرك» . وقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي إسحاق على ما ذكره السيوطي أن أمية بن خالد أمّ الناس في خراسان فقرأ بسورتي الحفد والخلع. وهذا كان بعد عثمان بمدة طويلة. ومما أورده السيوطي أن سورتي الفيل وقريش في مصحف أبيّ سورة واحدة. وأن سورتي الضحى والانشراح في مصاحف بعض الصحابة سورة واحدة كذلك. أما مصحف ابن مسعود فليس فيه على ما رواه أولئك الرواة سور الفاتحة والمعوذتين، ومن المروي كذلك أنه كان يحكّ المعوذتين ويقول إنهما ليستا من كتاب الله.
2- وروى عبد الله بن زبير الغافقي أن عبد الملك بن مروان قال له لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب «1» إلا أنك أعرابي جاف. فقال له والله لقد جمعت القرآن «2» من قبل أن يجتمع أبواك. ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علّمه إياهما رسول الله ما علّمتهما أنت ولا أبوك وهما سورتا الخلع والحفد.
3- وروى البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال بسم الله
__________
(1) كان النبي قال لعلي مرة أبا تراب من قبيل المداعبة على ما روي فصار خصومه ينعتونه بهذا اللقب على سبيل التنقّص.
(2) كانوا يعنون بجمع القرآن حفظه غيبا أحيانا.(1/71)
الرحمن الرحيم ثم سرد سورتي الحفد والخلع. واستدل على أنهما سورتان من تقديم البسملة عليهما.
4- وأورد السيوطي حديثا عن عائشة برواية عروة بن الزبير جاء فيه أن سورة الأحزاب كانت تقرأ في زمن النبي مئتي آية. فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن.
5- وأورد كذلك حديثا عن أبيّ بن كعب أنه سأل زر بن حبيش كم تعد سورة الأحزاب قال اثنين وسبعين أو ثلاثا وسبعين. قال إن كانت لتعدل سورة البقرة وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم. قال: وما آية الرجم قال: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.
6- وأورد عن أمامة بن سهل قالت لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة.
7- وأورد حديثا رواه مسلم عن ابن عباس جاء فيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس قائلا لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وو عيناها وعقلناها ورجم رسول الله فرجمنا معه ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف.
8- وروي عن الليث بن سعد أن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد لأنه كان وحده.
9- وروي عن حميدة بنت أبي أويس قالت قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين في مصحف عائشة (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى) .(1/72)
وذلك قبل أن يغير عثمان المصاحف.
10- وروي عن أبيّ بن كعب بإخراج الحاكم أن رسول الله قال لي إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ «لم يكن الذين كفروا إلى آخر السورة ومن جملة ما قرأ «لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأله ثانيا وإن سأل ثانيا فأعطيه سأله ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية. ومن يعمل خيرا فلن يكفره» .
11- وروي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله كان إذا أوحي إليه بشيء أتيناه فعلمنا ما أوحي إليه قال فجئت ذات يوم فقال إن الله يقول «إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولو أن لابن آدم واديا لأحبّ أن يكون إليه الثاني ولو كان إليه الثاني لأحب أن يكون الثالث. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب» .
12- وروي عن عدي بن عدي عن عمر قال: كنا نقرأ «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» ثم قال لزيد بن ثابت أكذلك قال نعم.
13- وروي عن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك فقال ابن مسلمة هما «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون» .
14- وروى المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن بن عوف قال ألم نجد(1/73)
في ما أنزل علينا «جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» فإنّا لا نجدها. قال أسقطت فيما أسقط من القرآن.
15- وروي عن ابن عمر: لا يقولن أحدكم أخذت القرآن كله وما يدريه ما كلّه قد ذهب منه قرآن كثير. ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر.
16- وروي عن أبي موسى الأشعري: كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات مما نسبناها غير أني حفظت منها، يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون. فتكتب لكم شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة.
17- وأورد محمد صبيح في «كتاب القرآن» (ص 164) رواية لم يورد مصدرها عن سورة اسمها سورة النورين يزعم بعض المستشرقين أن عثمان أسقطها من مصحفه وإنها مثبتة في مصحف علي بن أبي طالب وهذا نصها:
«يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين. أنزلهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم» إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات النعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدوا الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا وليّ الرسول أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السماوات والأرض مما شاء واصطفى من الملائكة والرسل وجعل من المؤمنين أولئك من خلقه يفعل الله ما يشاء. لا إله إلا هو الرحمن الرحيم قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذتهم بمكري إن أخذي شديد أليم. يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون.
مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم. وإن عليا لمن المتقين. ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل فاصبر فسوف يبلون.
ولقد آتيناك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون. إن عليا قانتا بالليل ساجدا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون» .
18- وقد ورد في «موطأ» الإمام مالك عن أبي يونس مولى عائشة قال(1/74)
أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذني حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] . فلما بلغتها آذنتها فأملت علي «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» ثم قالت سمعتها من رسول الله. وفي «الموطأ» حديث عن عمر بن رافع أن حفصة أمرته أن يكتب لها مصحفا ثم يتم الحديث بنفس الصيغة السابقة حرفيا.
19- وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ آية الكهف هكذا «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا» وآية البقرة هكذا «لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم في المواسم» . وروي عن ابن الزبير أنه كان يقرأ آية آل عمران هكذا «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم» . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ آية آل عمران هكذا «وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله من أجل ما جئتكم به» ، ويقرأ آية النساء هكذا «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن» ويقرأ آية الأحزاب هكذا «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم» ويقرأ آية المجادلة هكذا «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا بالتناجي» .
20- إن هناك روايات عديدة تفيد أن بعض الصحابة كانوا يقرأون كلمات بدل كلمات مثل «أيمانهما» بدلا من «أيديهما» في آية السرقة في سورة المائدة، و «لا تجزى نسمة عن نسمة» بدلا من «لا تجزى نفس عن نفس» في آية سورة البقرة، و «صفراء لذة للشاربين» بدلا من «بيضاء لذة للشاربين» في آية سورة الصافات، و «إدراس وإدراسين» بدلا من «الياس والياسين» ، في آية سورة الصافات، و «جاءت سكرة الحق بالموت» بدلا من «جاءت سكرة الموت بالحق» في آية سورة ق، و «صراط من أنعمت عليهم» بدلا من «صراط الذين أنعمت عليهم» في سورة الفاتحة، و «الحي القيام» بدلا من «الحي القيوم» في آية سورة آل عمران، و «للذين يقسمون» بدلا من «للذين يؤلون» في سورة البقرة، و «مثقال(1/75)
نملة» بدلا من «مثقال ذرة» في سورة النساء، و «اركعي واسجدي في الساجدين» بدلا من «واسجدي واركعي مع الراكعين» في سورة آل عمران، و «تزودوا وخير الزاد التقوى» بدلا من و «تزودوا فإن خير الزاد التقوى» في سورة البقرة، و «أتموا الحج والعمرة إلى البيت» بدلا من «وأتموا الحج والعمرة لله» في سورة البقرة، و «شاورهم في بعض الأمر» بدلا من «وشاورهم في الأمر» في سورة آل عمران إلخ.
21- ويصح أن نورد أحاديث نسخ المصاحف في عهد عثمان في هذا الباب. لأن فيها ما يفيد أن المسلمين كانوا يختلفون في قراءة القرآن حتى أفزع اختلافهم عثمان وغيره من كبار الصحابة وبالتالي يفيد أن القرآن لم يكن في كتابته ومصاحفه وصحفه المتداولة وفي قراءته محررا بحيث يؤمن معه ذلك الخلاف:
1- فقد أورد البخاري حديثا عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك.
فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة وبعث إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن هشام وأخبرني خارجة بن زيد سمع زيد بن ثابت قال ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ... [الأحزاب:
23] فألحقناها في سورتها في المصحف.
2- وقد روي حديث آخر عن أنس بن مالك أيضا جاء فيه أن الناس اختلفوا(1/76)
في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تكذبون وتلحنون به فمن نأى عني كان أشد تكذيبا ولحنا. يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما فاجتمعوا فكتبوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارأوا في آية قالوا هذه أقرأها رسول الله فلانا فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له كيف أقرأ لرسول الله آية كذا فيقول كذا وقد تركوا لها مكانا.
3- وقد أخرج أبو داود حديثا وصف بأنه بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قال لي علي لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا على ملأ منا. قال ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا. قلنا ما ترى. قال أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا فنعم ما رأيت.
4- وأخرج أبو داود حديثا جاء فيه لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها.
- 3-[تابع إلى روايات وأقوال في تدوين القرآن]
وثالثا: إلى جانب تلك الأحاديث والأقوال والروايات يوجد أحاديث وروايات وأقوال يستفاد منها أن القرآن كان يدون وترتب آياته وسوره في حياة النبي عليه السلام وبأمره، وأن ترتيب المصحف العثماني متصل بعهد النبي وتوقيفه:
1- فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت حديثا وصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين جاء فيه «كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع» ، وقد علق البيهقي على ذلك كما جاء في «الإتقان» بقوله يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي. ويصح أن يستفاد من الحديث أنه كان يكتب ما ينزل به الوحي في رقاع منفردة ثم تنقل هذه الرقاع إلى صحف معدة كالسجل فتلحق فصولها ببعضها وفق ما كان يشير به النبي.(1/77)
2- وقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم حديثا عن ابن عباس جاء فيه قلت لعثمان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين «1» فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان كان رسول الله تنزل عليه السور ذات العدد «2» فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب له فيقول ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا «3» ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قضيتها شبيهة بقضيتها فظننت أنها منها وقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله ووضعتهما في السبع الطوال.
وهذا يفيد أن الأنفال في زمن النبي كانت تدون قبل براءة مباشرة ولم يكن بينهما فاصل أو بسملة فتركنا على ذلك وهو الترتيب المتداول.
3- وأخرج الإمام مسلم حديثا عن عمر قال ما سألت النبي عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن في صدري بأصبعه وقال تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء. وهذا يفيد أن سورة النساء كانت مرتبة على ما هو عليه في المصحف المتداول في حياة النبي ولو لم يكن ترتيبها بتوقيف النبي وإشارته لوضعت الآية المذكورة في مكان أكثر مناسبة من السورة.
4- وأخرج الإمام البخاري حديثا عن عبد الله بن الزبير جاء فيه قلت لعثمان وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [البقرة: 234] قد نسختها الآية الأخرى فلم نكتبها أو ندعها. قال يا ابن أخي لا أغير شيئا من مكانه. الآية الناسخة في سورة البقرة وهي الآية (234) متقدمة في الترتيب على الآية المنسوخة في نفس السورة
__________
(1) المثاني هي السور المتوسطة التي تكون آياتها أقل من مئة والمئين هي السور التي كانت آياتها مئة آية أو أكثر قليلا.
(2) السور الطويلة أو المتوسطة التي كانت تنزل فصولا متفرقة.
(3) هذا تعبير كان يستعمل في عهد النبي للدلالة على شخصية السورة أو اسمها.(1/78)
وهي [240] . وجواب عثمان يفيد أن الترتيب إنما كان بإشارة النبي فلم ير تغيير شيء من مكانه.
5- وأخرج الإمام أحمد حديثا بإسناد وصف أنه حسن عن عثمان بن أبي العاص قال كنت جالسا عند رسول الله إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع من هذه السورة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النحل: 90] إلى آخرها وهذا يفيد أن النبي كان يأمر بوحي الله بترتيب آيات السور وأن الترتيب المتداول هو مستند إلى ذلك.
6- وروى البخاري حديثا عن زيد بن ثابت أن رسول الله أملى عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] . فجاء ابن أم كلثوم وهو يمليها عليه فقال يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذه فثقلت عليه حتى خاف أن ترضّ فخذه ثم سرّي عنه فأملى عليه غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وهذا يفيد أن النبي كان يستدعي أحد كتاب الوحي حين نزول القرآن عليه فيملي عليه ما ينزل عليه فورا.
7- وروى البخاري أيضا حديثا قريبا من هذا عن البراء لما نزلت آية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ قال النبي ادعوا زيدا فجاء ومعه الدواة واللوح أو الكتف فقال اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وخلف النبي ابن أم كلثوم الأعمى فقال يا رسول الله أنا ضرير فنزلت غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
8- وحديث زيد بن ثابت الذي رواه عن جمع القرآن في عهد أبي بكر والذي نقلناه في المجموعة الأولى يفيد أن آيات السور كانت معروفة الترتيب في حياة النبي حيث ذكر افتقاد آخر آيتين في سورة براءة ووضعهما في مكانهما حين وجودهما. وترتيبهما هو وفاق ترتيب المصحف المتداول. وحديث البخاري عن نسخ المصاحف في عهد عثمان والذي نقلناه في المجموعة الثانية يفيد نفس الشيء(1/79)
حيث يذكر افتقاد آية الأحزاب ووضعها في مكانها المعروف في حياة النبي والذي هو وفاق المصحف المتداول أيضا.
9- وروى البخاري عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا وروى النسائي عن ابن عباس أيضا أن آخر آية نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:
381] ، وأخرج ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين. وقد لا يكون تناقض بين الروايات لأن هذه الآيات في سلسلة واحدة.
وجميعها موضوعة في سورة البقرة بأمر النبي وترتيبه وجاء في «مجمع التبيان» للطوسي أن أبي بن كعب وسعيد بن جبير والحسن بن قتادة رووا أن الآيتين الأخريين من سورة التوبة هما آخر ما نزل من القرآن. وهذا يفيد أن آيات السور كانت معروفة الترتيب في حياة النبي وبأمره كذلك.
10- وروى علي بن إبراهيم عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد «الإمام جعفر الصادق» أن رسول الله قال لعلي يا علي إن القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فاجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة، فانطلق علي فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه. وهذا يفيد أن القرآن كان يدون على وسائل الكتابة المعروفة وكان مدونا كذلك في حياة النبي وكان النبي يعنى بحفظه في بيته.
11- وقد روى علماء الحديث حديثا ورد في أكثر من كتاب من كتب الحديث المشهورة جاء فيه «لا تكتبوا عني غير القرآن» حيث يفيد أن الصحابة كانوا يدونون في حياة النبي ما يسمعونه من النبي من القرآن.
12- وقد أخرج أبو داود حديثا جاء فيه أن عمر أعلن الناس من كان تلقى عن رسول الله شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. وهذا يفيد ما أفاده الحديث السابق.
13- وروى واثلة عن النبي قال أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ومكان(1/80)
الزبور المئين ومكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل «1» وهذا يفيد أن ترتيب سور القرآن حسب المصحف المتداول الطوال أولا فالمئون ثانيا فالمثاني ثالثا فالمفصل رابعا من ترتيب النبي وعهده.
14- وروى البخاري حديثا عن ابن مسعود أن النبي قال إن بني إسرائيل «2» والكهف ومريم وطه والأنبياء هنّ من العتاق الأول وهنّ من تلادي. وهذه السور متسلسلة الترتيب في المصحف المتداول وفاق الترتيب الوارد في الحديث.
15- وأخرج الإمام أحمد وأبو داود حديثا عن أبي أوس وكان قدم على النبي في وفد جاء فيه: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّ حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه. فسألنا أصحاب رسول الله كيف تحزبون القرآن؟ قالوا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة. وحزب المفصل من سورة ق حتى نختم. وعدد السور من البقرة إلى الحجرات تسع وأربعون ومجموع عدد السور المحزبة هو تسعة وأربعون.
والحديث يفيد أن سور القرآن كانت مرتبة وفاق ترتيب سور المصحف المتداول منذ حياة النبي.
16- وروى حذيفة عن النبي حديثا جاء فيه أنه قرأ سور البقرة وآل عمران والنساء واحدة بعد أخرى. وهذا يفيد أن السور الثلاث كانت مرتبة في حياة النبي وفاق ترتيبها في المصحف المتداول.
__________
(1) المفصل هي السور القصيرة وسميت كذلك لكثرتها وكثرة الفصل بينها. وهناك أحاديث فيها بعض الخلاف في تعيين سور كل مجموعة من مجموعات السور الأربع. فهناك حديث عن ابن عباس أن السبع الطوال هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف. قال الراوي وذكر السابقة فنسيتها. وعن مجاهد وسعيد أنها يوسف. وعن الحاكم أنها الكهف.
والمفصل يبدأ في رواية للبخاري بالجاثية. وهناك قول إنه يبدأ بالصافات وقول إنه يبدأ بسورة ق وقول إنه يبدأ بالحجرات وقول إنه يبدأ بتبارك وقول إنه يبدأ بالفتح وقول إنه يبدأ بالضحى ...
(2) اسم آخر لسورة الإسراء.
الجزء الأول من التفسير الحديث 6(1/81)
17- وروى البخاري حديثا عن فاطمة أن النبي أسرّ إليها بأن جبريل يعارضه بالقرآن كل سنة وأنه عارضه في العام الذي توفي فيه مرتين وقال لها ولا أراه إلا حضر أجلي. وروى البخاري حديثا آخر عن أبي هريرة جاء فيه: كان القرآن يعرض على النبي كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه. وقال البغوي في «شرح السنة» «1» إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي وكتبها لرسول الله وقرأها عليه وكان يقرىء الناس بها حتى مات. ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه وولاه عثمان كتب المصاحف. وهذا يفيد أنّ النبي كان يستعرض القرآن جميعه في رمضان وإنه استعرضه مرتين في رمضان الأخير وإن المصحف الذي كتبه زيد في عهد أبي بكر إنما كان وفاقا لذلك نصّا وترتيبا.
18- وروى النسائي عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي فقال اقرأه في شهر. وقد روي عن ابن عمر أنه قال:
قال لي رسول الله اقرأ القرآن في شهر قلت إني أجد قوة. قال اقرأه في عشر. قلت إني أجد قوة. قال اقرأه في سبع ولا تزد. وقد روي عن ابن مسعود حديث جاء فيه «لا تقرءوا القرآن في أقل من ثلاث» وروي عن سعيد بن المنذر حديث جاء فيه قلت يا رسول الله أأقرأ القرآن في ثلاث قال نعم إن استطعت. وروي عن قيس بن صعصعة حديث جاء فيه: قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن قال في خمسة عشر قلت إني أجدني أقوى من ذلك قال اقرأه في جمعة. وهناك روايات تذكر أسماء صحابة عديدين كانوا يحفظون القرآن جميعه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ وسالم وأبيّ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وطلحة وسعد وحذيفة وأبي هريرة وعائشة وحفصة وأم سلمة وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وسعيد بن المنذر وقيس بن صعصعة.
ولا شك في أن هذه الأسماء ليست كل الأسماء وإنما هي التي نقلتها الروايات.
وقد جاء في البخاري في حديث شهداء بئر معونة أن بعض العرب جاؤوا يطلبون
__________
(1) رسالة الكلمات الحسان للشيخ بخيت.(1/82)
مددا من النبي فأرسل معهم سبعين من الأنصار ممن كانوا يسمون القراء في زمنهم. وفي حديث جمع القرآن في عهد أبي بكر إشارة إلى القتل الذي استحر بالقراء والخشية من موتهم في المواطن الأخرى. فهذه الأحاديث والروايات تفيد أولا أن القرآن كان محفوظا في الصدور ومدونا في الصحف في ترتيب ثابت آيات في سور وسور في تسلسل لأن حفظ القرآن لا يمكن أن يتيسر إلا بذلك، وتفيد ثانيا أنه كان من الصحابة من يواظب عل تلاوته تعبدا وتفقها، وتفيد ثالثا أن طبقة القراء والحفاظ كانت كثيرة العدد في حياة النبي.
19- وأخرج الحاكم عن عبد الله بن قسطنطين أنه قرأ ختمة على عبد الله بن كثير وهذا إمام من أئمة القراء وهو تابعي فلما بلغ الضحى قال كبّر حتى تختم وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأن مجاهدا أخبره أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك وأن ابن عباس أخبره أنه قرأ على أبيّ فأمره بذلك، وأن أبيا أخبر ابن عباس أنه قرأ على النبي فأمره بذلك. وقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال إذا تركت التكبير فقد تركت سنّة من سنن نبيك. وهذا وذاك يفيد أن القرآن كان مرتب السور في حياة النبي وفاق ترتيب المصحف المتداول.
20- وروى أبو منصور الأرجاني في كتاب «فضائل القرآن» أن النبي كان يقول عند ختم القرآن اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماما ونورا وهدى ورحمة.
اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل والنهار واجعله حجة لي يا ربّ العالمين. وهذا يفيد ما تفيده الأحاديث السابقة آنفا.
21- وفي «مسند الإمام أحمد» حديث عن عبد الله بن مسعود جاء فيه أنه سمع من فم رسول الله بضعا وسبعين سورة. وهذا يفيد أن ما يقرب من ثلثي سور القرآن كان معروف الشخصية تام الترتيب في آياته منذ حياة النبي عليه السلام.
22- وفي حديث البخاري أن ابن عباس قال إنه جمع المحكم في عهد رسول الله فسأله الراوي عن المحكم فقال المفصل وكان ابن عباس صبيا في حياة النبي كما هو معروف. وهذا يفيد أن السور كانت مرتبة وفاق ترتيبها المتداول(1/83)
الطوال فالمئون فالمثاني فالمفصّل. وأن القرآن كان يحفظ على ما اعتيد حفظه إلى اليوم الأقصر أولا ...
23- وأخرج الحاكم حديثا عن ابن عباس وصف بأنه صحيح أنه قال كان النبي إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة وورد حديث آخر عن ابن عباس جاء فيه كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج البيهقي عن ابن مسعود أنه قال كنا لا نعلم فصلا بين سورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا يفيد أن شخصيات السور أو بالأحرى ترتيب الآيات سورا تامة كان معروفا في حياة النبي.
24- وقد ذكر السيوطي أقوالا لبعض علماء القرآن تفيد أنهم كانوا يعتقدون بصحة ما احتوته الأحاديث والروايات في هذه المجموعة من تقريرات بوجه الإجمال. فقد أثر عن الحارث المحاسبي في كتاب «فهم السنن» قوله إن كتابة القرآن ليست محدثة فإن النبي كان يأمر بكتابته. وقال أبو بكر الأنباري إن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كلّه عن النبي فمن قدّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن. وقال الإمام مالك برواية ابن وهب إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي. وقال البيهقي كان القرآن على عهد رسول الله مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب وقال البغوي في «شرح السنّة» إن الصحابة قد جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا ونقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفاظه فكتبوه كما سمعوه من رسول الله من غير أن قدموا شيئا أو أخروه أو وضعوا ترتيبا لم يأخذوه عن رسول الله وكان رسول الله يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إيّاه على ذلك. وقال ابن الحصّار إن ترتيب السور في وضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي فكان رسول الله يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا. وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف.(1/84)
25- وقال أبو بكر الباقلاني «1» والذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزل الله وأمر بإثباته ورسمه ولم ينسخه ولم يرفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان، وأن ترتيبه ونظمه كلاهما ثابت على ما نظمه الله سبحانه ورتبه عليه رسوله من آي وسور لم يقدّم من ذلك مؤخّر ولا أخّر منه مقدّم وإن الأمة ضبطت عن النبي ترتيب آي كل سورة ومواضعها كما ضبطت عنه نفس القراءة وذات التلاوة.
26- وقال العالم المذكور في كتابه «الانتصار» : لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين وإنما قصد جمعه على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي وإلغاء ما ليس كذلك وأخذهم بمصحف واحد مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعده.
27- وقال ابن الجوزي وإنما لم يجمع رسول الله لأنه كان بمعرض أن ينسخ منه أو يزاد عليه فلو جمعه كان الذي عنده نقص ينكر على من عنده زيادة. فلما أمن هذا الأمر بموته جمعه أبو بكر. ولم يصنع عثمان في القرآن شيئا. وإنما أخذ الصحف التي وضعت عند حفصة وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن الحارث بن هشام وسعيد بن العاص وأبيّ بن كعب في اثني عشر رجلا من قريش والأنصار فكتب منها مصاحف وسيرها للأمصار.
- 4- تعليقات على الروايات والأقوال وترجيح تدوين وترتيب القرآن في عهد النبي ومرجحات ذلك
ومن الحق أن نقول إن في المجموعات الثلاث التي أوردناها ما ليس موثقا بالأسناد القوية، وما يتحمل النظر والتوقف، ومنها ما يتعارض بعض ما جاء في
__________
(1) الكلمات الحسان.(1/85)
مجموعة منه مع بعض ما جاء في نفس المجموعة، ومنها ما يصطبغ بصبغة الأهواء الحزبية الأولى أو فيه رائحتها، ومنها ما يبدو عليه قرائن قصد التوفيق أو التلفيق غير أن من الحق أن يقال إن المجموعة الثالثة أكثر توثقا في الإجمال من جهة وأكثر اتساقا مع طبائع الأمور والظروف من جهة أخرى.
فالقرآن أعظم مظاهر النبوة ومعجزتها الخالدة، وكان مدار الاحتجاج والدعوة مع العرب والكتابيين الذين كانت لهم كتبهم المتداولة في أيديهم وقد تكرر في القرآن كثيرا الإشارة إلى كتب الكتابيين من جهة وذكر الكتاب بمعنى القرآن كثيرا من جهة أخرى فلا يعقل في حال أن يهمل النبي عليه السلام تدوين ما كان ينزل عليه من الوحي القرآني، والعناية بهذا التدوين عناية فائقة، والحرص على حفظ المدونات حرصا شديدا بل والمعقول أن يكون ذلك من أمهات مشاغل النبي المستمرة أيضا وهذا يجعلنا نعتقد أن ما روي من أن القرآن كان يدون على قطع عظيمة الحجم ثقيلة الوزن صعبة الحمل والحفظ والترتيب كأضلاع النخيل وأكتاف العظام ورقاق الحجارة والخشب لا يمكن أن يكون هو الواقع على إطلاقه، كما أن هذا القول يطرد في ما يمكن أن يستتبع ذلك من فقدان أو نقص وسائل الكتابة اللينة المعروفة في ذلك العصر في البلاد المجاورة كالقرطاس والورق والحرير والقماش والرقوق الناعمة المسواة. ولقد قيل فيما قيل إن نطاق القراءة والكتابة كان ضيقا جدا في مكة والمدينة مما يمكن أن يظن أن هذا متصل بالنقطة الأولى أو من أسبابها. وهذا أيضا لا يمكن التسليم بصحته على إطلاقه كذلك.
ونحن لا نرسل هذا النفي جزافا. فالثابت علميا وبصورة لا تقبل المراء أن الخط العربي الذي كان مستعملا في بيئة النبي وعصره يمتد وجوده إلى عشرات السنين قبل بعثته كما أنه متطور عن أشكال لخطوط أخرى كان يستعملها عرب الشام واليمن، وكذلك فإن من الثابت علميا أن ذلك الخط كان منتشرا بمقياس غير ضيق في بلاد الشام واليمن والحجاز والعراق حتى كان يشمل بدو هذه البلاد ولو بمقياس ضيق. وما جاء في بعض الكتب العربية عن نشأة الخط العربي ووصوله(1/86)
إلى الحجاز وضيق انتشاره فيه ضيقا شديدا هو تخليط لا يتحمل نقدا «1» .
والبيئة الحجازية إلى هذا وخاصة مكة والمدينة كانت بيئة تجارية متصلة بالبلاد المجاورة التي كانت تتمتع بحظ غير يسير من الحضارة والثقافة وكان فيها جاليات كتابية نصرانية ويهودية نازحة من تلك البلاد وكانت تتداول الكتب الدينية وغير الدينية قراءة وكتابة. فلا يعقل أن يظل العرب أهل هذه البيئة غافلين عن اقتباس وسيلة من أشد الوسائل ضرورة إلى الأشغال التجارية ومن أعظم مظاهر الحضارة التي اقتبسوا منها من البلاد المجاورة الشيء الكثير «2» .
وهناك رواية مشهورة وهي أن أسرى قريش الفقراء في وقعة بدر الذين لم يستطيعوا أن يدفعوا فدية نقدية كلفوا بتعليم بعض أطفال المسلمين في المدينة القراءة والكتابة، فإذا كان فقراء أهل مكة يقرأون ويكتبون فأولى أن يكون كذلك أغنياؤها وتجارها ونبهاؤها وأن تكون القراءة والكتابة مما هو مألوف ومنتشر بنطاق غير ضيق.
ويضاف إلى هذا ما هو أقوى دلالة وهو محتويات القرآن. ففيه آيات كثيرة جدا احتوت تنويها بالعلم والقراءة والكتابة وحضّت عليهما وحضّت خاصة على تدوين المعاملات التجارية نقدا ودينا وصغيرة وكبيرة كما أن فيه آيات عديدة حكت أقوال المشركين المكيين تدل على اتساع نطاق القراءة والكتابة والمعرفة بوجه عام عندهم «3» .
وبيئة هذه صلاتها بالبيئات المجاورة المتمدنة التي تتيسر فيها وسائل الكتابة والقراءة المألوفة على تنوعها، وفيها كثيرون من أهل هذه البيئات يقرأون ويكتبون
__________
(1) اقرأ مثلا «العقد الفريد» ج 3 ص 202. وننبه على أن للمستشرق الطلياني كايتاني في كتابه «تاريخ الإسلام» فصلا قيّما في نشأة الخط العربي وانتشاره مستندا إلى دراسات ومكتشفات وآثار حاسمة.
(2) اقرأ فصل الحياة العقلية في كتابنا «عصر النبي وبيئته قبل البعثة» ففيه بحث مسهب موثق في هذا الأمر.
(3) المصدر نفسه.(1/87)
ويتداولون الكتب، وحركتها التجارية قوية واسعة، وقد احتوى القرآن من أوصاف حياتها ومعايشها وحضارتها ووسائلها ما فيه الدلالة الوافية على أنها هي أيضا كانت على درجة غير يسيرة من الحضارة ووسائلها، والكتابة والقراءة فيها منتشرتان بمقياس غير ضيق لا يعقل في حال أن لا يكون فيها وسائل مدنية للكتابة وأن لا يوجد ما يدون عليه القرآن إلا ألواح العظام ورقائق الحجارة وأضلاع النخيل وقطع الخشب. هذا بالإضافة إلى أن القرآن قد احتوى كلمة القرطاس أكثر من مرة مما يصح أن يكون دليلا على أنه كان معروفا ومألوفا كوسيلة للتدوين والكتابة بل إن هذه الكلمة مفردة وجمعا قد جاءت في سورة الأنعام في سياق الكلام عن كتب الله كما ترى:
1- وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ الأنعام: [7] .
2- قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً.. الأنعام: [91] .
فهذا النص القرآني يلهم أن الكتابة على القرطاس وكون الكتب مؤلفة من قراطيس هو الشيء المألوف الذي لم يكن ليتصور غيره.
كذلك فإن القرآن احتوى كلمة «الصحف» أكثر من مرة في معرض الإشارة إلى القرآن والكتب السماوية كما ترى:
1- فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ عبس: [13- 14] .
2- إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى.. الأعلى: [18- 19] .
3- بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً المدثر: [52] .
ولم يذكر أحد أن كلمة الصحيفة كانت تطلق على تلك الوسائل البدائية وإنما كانت تطلق على ما كان معروفا من وسائل الكتابة التي تحمل بسهولة وتطوى بسهولة ويجمع بعضها إلى بعض بسهولة ولعل في آية القيامة قرينة على أن الصحف(1/88)
كانت تنشر وتطوى، وهو ما لا يمكن أن يتصف به إلا وسائل الكتابة اللينة كالقماش وورق القماش وورق الحرير والرقوق الناعمة المسواة إلخ. ولعل في آية سورة الأنبياء هذه يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [104] قرينة أو بالأحرى دليلا على أن طي الورق أو ما كان يقوم مقامه من وسائل الكتابة اللينة ليكون سجلا للكتابة والتدوين كان مألوفا شائعا. وهذا لن يكون إلا حيث تكون الكتب والقراطيس والوسائل الكتابية اللينة الأخرى. ومما يمكن إيراده لتقوية هذه الملهمات والقرائن هذه الآيات:
1- هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية:
[29] .
2- أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ..
الإسراء: [93] .
حيث تخاطب الأولى الناس- ومشركو مكة من أول من خوطبوا- بما لا يعقل إلا أن يكون من مألوفاتهم من الكتابة واستنساخ الكتب وحيث تحكي الثانية قول مشركي مكة مما يعبر عن مفهوم الكتاب المكتوب المقروء المألوف والمنتشر بينهم.
ولقد كثرت كما قلنا الإشارات القرآنية إلى كتب الكتابيين وكتابتها وتعليمها ودراستها، وجل الكتابيين الذين كانوا في الحجاز جاليات نازحة من البلاد المجاورة التي كانت وسائل الكتابة اللينة فيها معروفة ميسورة فلا يعقل أن تكون كتبهم هذه مكتوبة على تلك الوسائل البدائية الثقيلة الضخمة، ولا يعقل إلا أن يكون النبي قد اهتم لتدوين القرآن معجزته الكبرى على نسق ما دونت عليه كتب الكتابيين. ولقد احتوت المجموعات الثلاث روايات عديدة تفيد أن الورق والقرطاس مما استعمل في كتابة القرآن في عهد النبي وفي عهد أبي بكر مما هو متسق مع الظروف ولا يكاد يتحمل شكا في صحته بقطع النظر عن وثوق الروايات من الوجهة التعديلية والتجريحية. ونشير بنوع خاص إلى ما كان في أيدي(1/89)
المسلمين من صحف ومصاحف ورقاع خاصة أمر عثمان بإحراقها بعد ما فرغ من نسخ المصاحف الموحدة ليزول أهم سبب من أسباب الخلاف في القراءة مما ذكره حديث البخاري والإحراق خاصة لا يتوارد معه إلا الورق والقرطاس والرقوق مما يدل على أن التدوين على هذه الوسائل كان هو المألوف السائغ.
على أننا لا نريد أن ننفي بالمرة ما ورد في الأحاديث العديدة عن كتابة القرآن على الألواح والأكتاف والرقائق والأديم فإن من الممكن أن يكون لها أصل صحيح أيضا، ولكن على غير الصورة أو المقصد الذي عبرت عنه الروايات أو تركته غامضا.
فمن المحتمل أن يكون النبي إذ يستدعي أحد كتابه لإملاء ما يكون نزل عليه من وحي فورا أن لا يكون متيسرا إلا شيء من هذه الوسائل البدائية فيكتب الكاتب عليها ما يمليه النبي مؤقتا ريثما ينقله إلى مكانه من سجلات القرآن، مما عبر عنه زيد بن ثابت في الحديث الذي نقلناه في المجموعة الثالثة في قوله كنا نؤلف القرآن من الرقاع في عهد رسول الله. ومن المحتمل كذلك أن أصحاب رسول الله من أهل المدن أو البادية قد كانوا يكتبون بعض الفصول القرآنية التي يتلقونها عن النبي على قطعة من تلك القطع للتبرك والحفظ والنقل على اعتبار أنها أبقى على الزمن وأقل تعرضا للفناء والتمزيق على نحو ما اعتاد المسلمون أن يفعلوه من قديم الأجيال في كتابة الألواح مع بعض التعديل. فلما دعي المسلمون إلى الإتيان بما عندهم من قرآن بقصد زيادة الاستيثاق والضبط والتحرير والمعارضة أتوا فيما أتوا به بهذه القطع فحفظت الروايات هذه الصورة ونقلتها.
هذا من جهة التدوين، وما نقلناه يصح إيراده بتمامه على ترتيب القرآن آيات في سور وسورا في تسلسل أيضا. فالنبي الذي لا شك في أن القرآن كان من أهم مشاغله لا يمكن أن يكون قد أهمل ترتيبه وترك مدوناته مشوشة فوضى لا يعرف لها أول من آخر سواء في التدوين أو في القراءة والتعليم، ولا بد من أن يكون قد عني بترتيبه نفس العناية الفائقة التي كانت منه بتدوينه وحفظ مدوناته.(1/90)
ولقد قال بعض علماء القرآن كما جاء في كلام الخطابي الذي أوردناه في المجموعة الأولى أن استمرار الوحي في حياة النبي كان سببا في عدم ترتيبه.
والذي يتبادر لنا أن هذا لا يوجب عدم ترتيب القرآن آيات في سور وسورا في تسلسل، فإن من السائغ جدا أن يكون الترتيب النهائي قد تمّ في أخريات حياة النبي، وبعد نزول سورة النصر التي أذنت بفتح الله ونصره ودخول الناس في دينه أفواجا، وبالتالي أذنت بانتهاء مهمة النبي. وقد احتوت أحاديث معارضة النبي للقرآن في رمضان الأخير مرتين وكتابته من قبل زيد ما يستأنس به على ذلك، كما أن من السائغ جدا أن يصح احتمال إضافة ما يمكن أن يكون نزل بعد هذا الترتيب من آيات إلى مواضع مناسبة لها في السور.
وفي الأحاديث التي نقلناها في المجموعة الثالثة ما يستأنس به على وقوع شيء من هذا فعلا، فلما التحق النبي عليه السلام بالرفيق الأعلى صار ما كان ثابتا من القرآن هو القرآن التام، وصار من واجب خليفة النبي الأول وكبار أصحابه الاهتمام لضبطه وجمعه كاملا، وتحرير نسخة تكون إماما كاملا محفوظا عند إمام المسلمين وخليفة نبيهم وتكون مرجعا عند الخلاف وضمانا من الطوارئ والضياع، وانتقال النسخة التي كتبت في عهد أبي بكر إلى عهدة عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وحفظها عند حفصة حينما اغتيل والدها عمر من القرائن القوية على ذلك.
ولسنا نرى أن ما نقرره يمكن أن ينقض أيضا بما جاء في حديث زيد بن ثابت من أنه تتبع القرآن فجمعه من العسب والقحاف وصدور الرجال ولا يفنده افتقاد آخر آيتي سورة التوبة وعدم وجودهما إلا عند أبي حذيفة ولا بما جاء في حديث مصاحف عثمان من افتقاد زيد آية الأحزاب وعدم وجودها إلا عند حذيفة أو بما جاء في حديث آخر أن الناس دعوا إلى الإتيان بما عندهم ولم يكن يقبل من أحد شيء إلا بشهادتين، فهذا كله لا يقتضي أن لا يكون للقرآن مدونات مرتبة محفوظة في بيت النبي مما ألفي من الرقاع ومدونات مرتبة محفوظة كذلك عند كبار(1/91)
أصحاب رسول الله وقرائهم، بل يصح- ونحن نجزم بذلك- أن يكون هذا كله من قبيل الاحتياط والحرص الشديد على الضبط والتحرير. ولقد كان من المحتمل أن يختلط الأمر على بعض الصحابة في بعض الآيات، وأن يكون بعضهم ما يزال يحفظ آيات قد نسخت أو يحتفظ برقاعها مما هو طبيعي كما أن من المحتمل أن يكون مما استهدف معارضة مدونات القرآن المختلفة عند مختلف الفئات مع بعضها لإتقان الضبط والتحرير، فكان هذا التشدد والحرص العظيمان المتناسبان مع موضوع تفوق خطورته أي موضوع آخر، واللذان يصحان أن يكونا مثلا رائعا للتدقيق والفحص والتحري العلمي.
ومن النقاط المهمة الجديرة بالتنبيه في هذا المقام أنه لم يرد أي حديث منسوب إلى النبي عليه السلام أو أصحابه المعروفين يمكن أن يفيد أن القرآن لم يكن مرتب الآيات والسور ومعروف الترتيب في حياة النبي، وكل ما جاء في هذا الباب تعليقات وتخمينات متأخرة. وحديثا البخاري في كتابة المصحف في عهد أبي بكر ونسخه في عهد عثمان وهما المعول الأقوى والأشهر قد خلوا من أي إشارة إلى ذلك، بل فيهما على ما أوردناه في المجموعة الثالثة ما يؤيد كون آيات القرآن معروفة الترتيب منذ حياة النبي، وننبه بنوع خاص على أن حديث نسخ المصحف في عهد عثمان صريح جدا بأن ما كان ليس جمعا أو تدوينا جديدا كما توهمه الحاكم على ما أوردناه في المجموعة الأولى وإنما هو نسخ طبق الأصل عن مصحف أبي بكر، وبأن القصد منه ضبط كتابة ألفاظ القرآن من حيث الإملاء وتوحيدها حتى لا يكون محل للاختلاف في قراءتها، حيث كانت المصاحف والصحف التي في أيدي الناس مكتوبة بخطوط متنوعة من المعقول جدا أن تكون متخالفة الإملاء والهجاء، وهو ما أدى إلى الخلاف والفزع منه فعلا.
وما دام القرآن قد جمع وضبط وحرر في عهد أبي بكر على ملأ من الصحابة وخاصة كبارهم، وفي وقت يكاد يكون فوريا بعد وفاة النبي، وعلى هذا الوجه من الحرص والتحري الشديدين دون أن يكون أي إشارة إلى قصد ترتيب الآيات أو السور فإنه يصح أن يقال بجزم إن دفتي المصحف الذي حرر قد احتوتا كل ما ثبت(1/92)
عند كبار الصحابة وقرائهم وحفاظهم بل وكل من شهد العمل منهم أنه القرآن الذي مات النبي عنه وهو ثابت لم ينسخ بترتيبه المعروف في حياته. وما دام النسخ الذي جرى في عهد عثمان إنما كان عن هذا المصحف وكان هذا أيضا على ملأ من الصحابة والقراء والحفاظ وبمعرفة علماء القرآن منهم، ولم يكن الباعث عليه إلا إيجاد إمام يضبط فيه الإملاء والقراءة ويجمع به الناس على رسم واحد، وما دامت المصاحف المتداولة في أيدي المسلمين هي طبق هذا المصحف الإمام كما هو ثابت بالتواتر الفعلي الذي لم ينقطع والذي هو يقيني- باستثناء بعض التنظيمات الشكلية على ما سوف نذكر بعد- فهي بطبيعة الحال طبق مصحف أبي بكر من حيث الألفاظ والآيات والسور وترتيبها، وبالتالي طبق ما مات النبي عنه من قرآن ثابت بترتيبه وتسلسله.
وإذا كان من المحتمل أن لا تكون إحدى نسخ مصاحف عثمان الأصلية موجودة اليوم- مع ما يقال عن وجود بعضها قولا غير مؤيد بشاهد ووصف عياني موثوقين- فإن هذا لا ينقض ما نقوله من التواتر الفعلي. ولقد ذكر علماء قديمون أنهم شاهدوا بعض هذه النسخ، وقرروا أن المصاحف المتداولة هي صورة تامة عنها رسما وترتيبا. ومن أقدم من ذكر ذلك أبو القاسم عبيد الله بن سلام من علماء القرن الهجري الثاني الموثوقين ومحدثيهم. وتقرير هذا العالم يهدم كل قول حول التشكيك في مصحف عثمان وكون المصحف المتداول هو صورة تامة صحيحة عنه، وحول رواية أن المصحف المتداول إنما هو مصحف الحجاج وجمعه وترتيبه إذا كان يراد بذلك جمعا وترتيبا جديدين، وأن الحجاج قد جمع المصاحف المتداولة ومصاحف عثمان وأبادها. ولعل الرواية محرفة عن حادثة عناية الحجاج بإعجام القرآن أو نقطه، مما صار نساخ المصاحف بعدها يأخذون به. فقد انتشر المسلمون في عهد الحجاج أكثر من ذي قبل في أنحاء الأرض، وانتشرت نسخ القرآن العثمانية كذلك، فلم يكن في إمكان الحجاج جمع المصاحف المتداولة وإبادتها البتة، ولم يقل أحد إنه رأى مصحفا للحجاج فيه تغاير ما مع المصحف العثماني في نصه وترتيبه، ولو كان وقع شيء من هذا لاهتمّ له أعداء الأمويين(1/93)
والحجاج الذين بذلوا كل جهد في تشويه سيرتهم وتسويئ سمعتهم بالحق وبالباطل وتعقب كل عمل أو بادرة منهم، ولرأيناه في رأس المطاعن التي يطعنونهم بها. وقد قال أحد أعلام علماء الشيعة ومشهوريهم وكبار مفسريهم الإمام الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، صاحب تفسير «التبيان» ، ومن رجال القرنين الرابع والخامس الهجريين، في مقدمة تفسيره، بصدد الكلام في زيادة القرآن المتداول ونقصه (وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضا لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانه والنقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى رحمة الله عليه، والظاهر في الروايات.
والروايات التي رويت من جهة الخاصة والعامة بنقصان آيات منه أو نقلها من موضع إلى موضع فطريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا. والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها.
ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين إذ كان ذلك معلوما صحته لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه) .
ومع كل هذا فمما روي أن الحجاج إنما صحح اثنتي عشرة كلمة في مصحف عثمان هي هذه: «لم يتسن» حيث جعلها «لم يتسنه» «1» و «شريعة» حيث جعلها «شرعة» «2» و «ينشركم» حيث جعلها «يسيركم» «3» «وآتيكم» حيث جعلها «أنبئكم» «4» و «معايشهم» حيث جعلها «معيشتهم» «5» و «غير ياسن» حيث جعلها «غير آسن» «6»
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 259.
(2) سورة المائدة، الآية: 48. [.....]
(3) سورة يونس، الآية: 22.
(4) سورة يوسف، الآية: 45.
(5) سورة الزخرف، الآية: 32.
(6) سورة محمد، الآية: 15.(1/94)
و «اتقوا» حيث جعلها «وأنفقوا» «1» و «سيقولون لله» حيث جعلها «سيقولون الله» «2» و «بظنين» حيث جعلها «بضنين» «3» ونقل كلمتي «المرجومين» و «المخرجين» في آيتي الشعراء [116 و 167] كلا منهما مكان الأخرى فصارت المرجومين في قصة نوح والمخرجين في قصة لوط وأنه لم يصنع ما صنعه إلا بعد اجتهاد وبحث مع القراء والفقهاء المعاصرين له وبعد إجماعهم على أن جميع ذلك من تحريف الكتاب والناسخين الذين لم يريدوا تغييرا أو تبديلا وإنما حدث بعض ما حدث لجهلهم بأصول الكتابة وقواعد الإملاء والبعض الآخر لخطأ الكاتب في سماع ما يملى عليه أو التباسه في ما يتلى عليه «4» .
هذا في حين أن هناك رواية «5» تفيد أن بعض ما صححه الحجاج إنما صححه عثمان نفسه مثل لم يتسن حيث جعلها لم يتسنه.
وبكلمة أخرى إن الحجاج لم يكتب مصحفا جديدا ولم يضع ترتيبا جديدا، وإن تسمية «مصحف الحجاج» ليست في محلها حتى لو صحت رواية تصحيحه لبعض كلمات وحروف رأى فيها مع القراء والعلماء تحريفا من النساخ، هذا بقطع النظر عن ضعف رواية مصحف الحجاج وعدم تناقلها وعدم تعليق الشيعيين عليها تعليقا جالبا للنظر على طريقتهم في التعليقات وخاصة إذا ما كان الأمر متصلا بالأمويين ورجالهم وفيه مجال لقول أو غمز أو تعليق.
- 6-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال]
وعلى هذا كله فكل ما يتعارض مع النتائج الي قررناها من الروايات هو موضع نظر وتوقف أو محمل تخريج. وفي الحق إننا إذا نظرنا في الروايات
__________
(1) سورة الحديد، الآية: 7.
(2) سورة المؤمنون، الآية: 87 و 89.
(3) سورة التكوير، الآية: 24.
(4) «الفرقان» لابن الخطيب 50- 52.
(5) «الفرقان» أيضا، الآية: 40(1/95)
المناقضة لهذه النتائج نجدها كلها أو جلّها غير واردة في كتب الحديث الصحيحة.
وكثير منها لم يذكر له أسناد متسلسلة معدلة، وفيها من التناقض والتغاير ما يحمل على الشك في صحة روايتها أو متونها.
فحديث زيد عن تأليف القرآن من الرقاع أقوى سندا وأكثر اتساقا مع المنطق من حديثه الذي جاء فيه أن النبي قبض ولم يكن القرآن قد جمع في شيء، حتى إذا صح فيجب حمله على جمع القرآن في مصحف واحد كما علق على ذلك الخطابي على ما ذكرناه سابقا. وهذا المعنى هو ما يجب تخريج ما جاء في حديث جمع القرآن في عهد أبي بكر به من المراجعة بين أبي بكر وعمر ثم بين أبي بكر وزيد.
وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود من كبار الصحابة وعلماء القرآن الأعلام، فلا يعقل أن يكون جمع القرآن وتحريره وضبطه في عهد أبي بكر ثم نسخه في عهد عثمان قد تمّ دون اشتراكهم أو علمهم، ولا يعقل أن يرمى بأقوالهم عرض الحائط في زيادة أو نقص في الآيات والكلمات والسور لو كان لهم في ذلك رأي وقول حقا، ولا يعقل أن يكونا قد انفردا دون سائر الصحابة في العلم بزيادة أو نقص في القرآن أو أن تكون شهادتهما قد ردّت أو أن يكونا قد عجزا عن إثبات قولهم. وإذا سلمنا بهذا جدلا مع ذلك فالمعقول أن ما يكونان قد ذكراه لم يثبت عند ملأ الصحابة فلم يؤخذ به. وما دام الأمر قد تمّ على ما ثبت عند ملأ الصحابة وأجمعوا عليه فلا يعقل أن يكونا قد أصرا على مخالفة إجماع الصحابة وكبارهم وخلفاء رسول الله فاحتفظا بمصحفيهما وزوائدهما ونواقصهما وتغايرهما للترتيب الثابت وأن لا يكونا قد أطاعا خليفة رسول الله فأحرقا ما عندهما كما أحرق الناس ما عندهم. وهذا ما يجعلنا نشك في بقاء مصحفين لهما مخالفين لمصحف عثمان رسما وترتيبا وعدد سور وكلمات حتى وصل علم ذلك أو عيانه إلى وقت متأخر.
ونرجح إن لم نقل نعتقد أن كل هذا مخترع فيما بعد بقصد التشويش والتشكيك من أعداء الإسلام وأن في بعضه أثرا للحزبية السياسية. وقد قال بعض علماء أعلام أقوالا وجيهة في هذا الباب، فقال النووي إن المسلمين أجمعوا على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد منها شيئا كفر وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس(1/96)
بصحيح. وقال الرازي الأغلب أن نقل هذا عن ابن مسعود باطل لأن النقل المتواتر حاصل في عصر الصحابة أنها من القرآن فإنكار ذلك يوجب الكفر. وإن قلنا ليس التواتر حاصلا في ذلك الزمن فلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل وهذا خلاف الإجماع. وقال ابن حزم هذا كذب على ابن مسعود وموضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عنه وفيها المعوذتان والفاتحة.
والسورتان المسماتان بالحفد والخلع هما دعاءا قنوت ورواية عمر لهما صريحة بأنه إنما قنت بهما بعد قيامه من الركوع. فمن المحتمل حتى في حالة صحة القول بهما من أبيّ- وهو ما نشك فيه- أن يكون أبيّ قد وهم ثم رجع عن ذلك حينما ثبت عند الملأ أنهما ليستا قرآنا فظلّ أثر القول قائما متداولا.
وعمر القوي الشديد في إيمانه ومركزه بين الصحابة والذي دعا إلى ضبط القرآن وتحريره وحفظه أجلّ من أن تردّ له شهادة بشأن آية الرجم وأقوى من أن يسكت على عدم إثبات آية يعتقد أن النبي مات وهي قرآن لم تنسخ. ولذلك فإن رواية ردّ آية الرجم منه لأنه أتى بها وحده مما يتحمل كل الشك ولا سيما أن هناك رواية تقول إنه قبل من أبي خزيمة آيتي سورة التوبة الأخيرتين بشهادته وحده.
ومثل هذا غرابة وموضع شك شديد رواية أنه ظل يعتقد أنها قرآن بعد أن صارت الخلافة إليه، يضاف إلى هذا أن تعدد روايات آية الرجم وتباين صيغتها مما يثير الشك فيها، وأنه ليس من المعقول أن ينفرد عمر أو صحابي أو صحابيان في علم قرآنية هذه الآية التي تحتوي تشريعا خطيرا دون ملأ الناس أو أن يتواطأ هذا الملأ على عدم إثباتها. وكل ما يمكن فرضه أنها كانت آية فنسخت في حياة النبي.
ومثل هذا القول يصح في ما ورد عن عائشة سواء في صدد كلمة «صلاة العصر» أو في صدد آيات سورة الأحزاب. فإنها أجلّ من أن ترفض شهادتها أو تسكت عن عدم إثبات آية أو كلمة أو آيات تعتقد أنها قرآن باق بعد النبي. وإذا كان ورود حديثها عن صلاة العصر في «الموطأ» مما يقويه فينبغي أن يلاحظ أن في «الموطأ» حديثا مثله حرفيا عن حفصة. وأن هذا التشابه مما يبعث على الحيرة الجزء الأول من التفسير الحديث 7(1/97)
والتوقف. وهذا بالإضافة إلى احتمال أن تكون الجملة تفسيرية أو أن تكون نسخت ولم يثبت بقاؤها عند ملأ الصحابة. ومن غير المعقول أن تخالف عائشة الإجماع فتبقي أو تكتب في مصحفها ما لم يثبت في المصحف الإمام.
وهذا القول يصح بتمامه كذلك بالنسبة للروايات المروية عن الكلمات الزائدة في بعض الآيات أو الكلمات المبدلة المعزوة إلى بعض الصحابة بقطع النظر عن احتمال الغلط والدسّ وقصد التشويه والتشويش وعن عدم استناد الروايات إلى أسناد موثقة.
ورواية مصحف علي ومخالفته لترتيب المصحف المتداول موضع شك كبير أيضا. فإنه لم يرد أي رواية صحيحة تفيد أن أحدا اطلع على هذا المصحف أو رآه متداولا. وقد روي عن ابن سيرين وهو تابعي أنه تحرى هذا المصحف في كل طرف في المدينة فلم يقع عليه، ولو كان صحيحا لعض عليه الشيعة بالنواجذ كما عضوا على أوهى مما ورد في صدد مخالفة أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يرو عنهم شيء من هذا. وفي المجموعتين الأولى والثانية روايات عن ثناء علي على أبي بكر وعثمان على ما قاما به من عمل عظيم في صدد جمع القرآن وتحريره ونسخ مصاحفه.
فليس والحالة هذه أي مسوغ للشك في كون المصحف المتداول قد احتوى جميع القرآن الذي مات النبي عنه وهو قرآن ثابت نصا وترتيبا بسبب أي رواية من الروايات المماثلة مما قد لا نكون اطلعنا عليها، ونعتقد أن أي رواية من مثل ذلك لن تكون إلا مخترعة أو مدسوسة بقصد سيء أو ناتجة عن لبس وخطأ على أقل تقدير. فإن مما لا يصح أن يشك فيه أن أصحاب رسول الله قد حرصوا كل الحرص واهتموا أشدّ الاهتمام للقيام على أمر تحريره وضبطه على أحسن وجه وأقومه، وأنهم تضامنوا في ذلك كل التضامن حتى كان مصحف أبي بكر الإمام المتطابق لما مات النبي عنه نصا وترتيبا، وأنهم كانوا مسوقين في حرصهم واهتمامهم بسائق ديني ملك عليهم مشاعرهم رهبة وهيبة وتقديسا وتعظيما يبدو واضحا لكل من دقق(1/98)
في ما ورد عن أصحاب رسول الله وأولي الشأن فيهم من ثناء وتنويه في القرآن ومن ثناء وتنويه من النبي ومن وصف شدة فنائهم واستغراقهم في النبي، وعمق إيمانهم بنبوته وبصلة القرآن بالوحي القرآني، فالعمل لم يكن عملا شخصيا أو سياسيا بل عمل متصل بأقوى عمد الدين وأعظم مظاهر النبوة وأكبر تراث خلّفه النبي فيهم، فمن المعقول الحق أن يكون حرصهم على استقصائه وتحريره وضبطه أشد حرص وأقومه وأتمه.
وننبه على أننا استعملنا تعبير «جميع ما مات النبي عنه وهو قرآن» ولم نستعمل تعبير «جميع القرآن الذي نزل على النبي» قصدا لأن في القرآن نصوصا صريحة مكية ومدنية مثل:
1- ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها البقرة: [106] .
2- وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ النحل:
[101] .
تفيد أنه وقع بعض التبديل والنسخ في بعض آيات القرآن في عهدي النبي المكي والمدني بوحي الله مما هو مؤيد بأحاديث عديدة مثل حديث مروي عن أبي موسى الأشعري جاء فيه «نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت» ومثل حديث أخرجه الطبراني عن ابن عمر جاء فيه أن النبي أقرأ رجلين سورة فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله فذكرا له ذلك فقال إنها مما نسخ فالهوا عنها، ومثل حديث رواه البخاري عن أنس أنه نزل في قصة أصحاب بئر معونة قرآن قرأناه ثم رفع إلخ.
- 7-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال]
ولقد أدرنا الكلام في الفقر السابقة في نطاق الروايات المروية المتعارضة والتعليقات الواردة عليها، وما يتسق مع طبائع الأمور والظروف وما لا يتسق.
ونقول الآن إن في القرآن ملهمات تؤيد النتائج التي قررناها، وتوثق الروايات التي(1/99)
تستند إليها، وتدلّ أو تقوم قرينة على أن القرآن كان يدوّن بانتظام ويحفظ بانتظام وإن آياته قد رتبت في السور وسوره قد رتبت في تسلسل في حياة النبي عليه السلام، مما يعدّ جديدا في هذا الباب لم نطلع على مثله.
فأولا إن في بعض السور آيات احتوت قرائن قوية على أن ما كان ينزل من القرآن كان يدوّن حال نزوله وأن مدوناته كانت تحفظ وتتلى على ملأ الناس:
1- ففي سورة القيامة الآيات التالية:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
. فهذه الآيات جاءت معترضة بين آيات متصل قبلها بما بعدها اتصال موضوع وخطاب ونظم، في حين أنها غير متصلة بهذه الآيات موضوعا ولا خطابا ولا نظما كما يبدو حين قراءة السياق بطوله «1» .
وقد روي بمناسبتها حديث يستفاد منه أنها نزلت على النبي لأنه كان حينما يتلقى وحي القرآن يحرك شفتيه بما ينزل على قلبه خشية نسيانه. ووجود هذه الآيات في موضعها يلهم بقوة أنها أوحيت إلى النبي في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها. ولا يصح فرض غير هذا فيما نعتقد لفهم حكمة وجودها في السياق، ولا مناص من فرض ثان مع الفرض الأول وهو أن النبي أمر بتدوين آيات السورة فور وحيها، وأملى على الكاتب هذه الآيات في سياق آيات السورة لأنها أوحيت إليه مع آيات السورة، مع أنها كانت خطابا خاصا له وبقصد تعليمه كيفية تلقي الوحي فدونت كما جاءت. وفي هذه الآيات في موضعها ملهمات أخرى
__________
(1) لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ. فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ. يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ. بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ. لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ إلخ ...(1/100)
عظيمة الخطورة أيضا في صدد القرآن، فهي تقف أمام أي شك حتى من أشد الناس تشككا بأن ما كان يبلغه النبي من آيات القرآن إنما كان وحيا يشعر به في أعماق نفسه ويدركه ويستمع إليه بإذن بصيرته ويعيه بقلبه، وهي تبين مقدار عظيم حرصه على أن لا يفلت منه أي كلمة أو حرف أو معنى مما كان يوحى إليه به قرآنا فكان يسارع إلى ترديده وإملائه حتى يبلغه تاما كاملا لا تبديل فيه ولا زيادة ولا نقصا ولا تقديما ولا تأخيرا. وهي تقرر معنى من معاني العصمة النبوية في صدد ما يبلغه النبي من وحي القرآن الرباني في توكيدها بأن الله سيثبت في قلبه ما يلقى عليه ويجعله يحيط به ويلهمه فهمه وبيانه. فالنبي بهذا قد عصم من الغلط والنسيان والخطأ والتقديم والتأخير والزيادة والنقص في القرآن، فكل ما بلغه من آيات القرآن هو وحي رباني، وقد بلغ كل ما أوحي إليه به بتمامه وحرفيته. ولعلها تقوم قرينة على أن لا محل ولا معنى للقول إن القرآن نزل على النبي بالمعنى لا باللفظ أيضا. وإذا لاحظنا أن ضمير الآيات هو ضمير المتكلم وأن القرآن كلام الله وأوامره أمكننا أن نقول إن في الآيات دلالة على أن القرآن كان وحيا ربانيا مباشرا ينقذف في قلب النبي فيعيه ويبلغه، أو على الأقل إن هذه الطريقة من الطرق التي كان يوحي الله إلى النبي بما يشاء أن يوحي إليه به وهذا القول يتسق مع طرائق اتصال الله بأنبيائه على ما جاء في آيات سورة الشورى [51- 52] التي شرحناها في بحث سابق. كذلك فإن هذه الآيات تفيد أن ما كان يوحى به إلى النبي عليه السلام كان النبي يبادر إلى الأمر بتدوينه وتسجيله حتى ولو كان موضوعه خاصا به وبصدد تعليمه تلقي الوحي واستيعابه، وأن النبي قد جرى على هذا منذ أوائل نبوته لأن هذه السورة من أوائل القرآن نزولا. وهذا المعنى عظيم من وجهة عصمة النبي في تبليغ كل ما كان ينزل على قلبه من وحي الله بما في ذلك من خطرات النفس وأسلوب تلقي القرآن والتصرف الشخصي أو الحركة الشخصية اللاشعورية، وهو مؤيد بآيات عديدة علّقنا عليها في مناسباتها من التفسير الكامل الذي كتبناه.
2- في سورة طه آية فيها مشهد مماثل لهذا المشهد في معناه وظروفه وهي هذه:(1/101)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) .
وكل ما قلناه بشأن الآيات السابقة يصحّ بشأن هذه الآية.
3- في سورة الشعراء سلسلة طويلة من قصص الأنبياء، وكل من هود وصالح ولوط وصفوا بصفة أخيهم إلا شعيبا فإن هذه الصفة لم تلحق به في حين أنها ألحقت به في فصول سور أخرى «1» . فهذا يلهم بقوة أن الفصول القرآنية دونت كما أنزلت على قلب النبي ولم يكن فيها وصف الأخ لحكمة يعلمها منزل الوحي.
ومع أن بعض العلماء قالوا إن مدين التي وصف شعيب في سياق قصتها بأخيهم في سور الأعراف وهود والعنكبوت هي غير أصحاب الأيكة الذين ذكرت قصتهم سورة الشعراء فإن بعضهم قال إنهم واحد. ويلاحظ أولا بأن الكلام عن أصحاب الأيكة مماثل للكلام عن أصحاب مدين. وثانيا أنه لم يجمع في آية واحدة بين الفريقين «2» . وهاتان الملاحظتان تسوغان الترجيح إن لم نقل الجزم بأنهما واحد وتجعلان ما استدللنا عليه في هذه النبذة في محله.
4- ومن هذا الباب الآية التي ذكر فيها إسماعيل واليسع وذو الكفل في سورة ص [48] فكل الأنبياء الذين ذكروا في الآيات المتقدمة أي داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وصفوا بعبد الله وبعباد الله إلا الأنبياء الثلاثة الذين ذكروا في الآية [48] فهذا يلهم بقوة أيضا أن الفصول دونت فورا كما أنزلت على قلب النبي ولم يكن فيها وصف عبادنا للأنبياء الثلاثة لحكمة يعلمها منزل الوحي كذلك.
5- ويسلك في هذا الباب أيضا آيات متشابهة الألفاظ فيها تقديم أو تأخير كلمة فحسب
مثل آية المؤمنون [83] لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ في
__________
(1) اقرأ آيات الأعراف: [85- 93] ، وهود: [84- 95] ، والعنكبوت: [36- 37] ، مثلا.
(2) اقرأ مثلا آيات سورة ق: [13- 14] ، وص: [12- 13] ، والتوبة: [70] ، والحج: [43- 44] .(1/102)
حين أن آية مماثلة في سورة النمل [68] قد تقدمت فيها كلمة «هذا» كما ترى فيها لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ حيث يصح ما قيل في الفقرتين السابقتين فيها ويستدل منها على الإملاء والتدوين الفوريين.
6- وفي سورة النحل موضوع طريف في صدد ما نحن بسبيل تقريره. فقد اقتضت الحكمة الربانية تبديل آية مكان آية فاستغل المشركون الحادث استغلالا عظيما حتى كان من نتيجة ذلك أن ارتدّ بعض ضعفاء الإيمان في مكة كما يستلهم من آيات السورة هذه:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) .
فهذا الحادث يلهم أن آيات القرآن كانت مدوّنة فأمر النبي بوضع آية مكان آية وفقا لما أوحي إليه فكان ما كان من موقف الكفار، ويسوغ القول أن القرآن لا بدّ من أنه كان مدونا يتلى حتى يكون مجال لهذا الموقف.
فهذه عدة أمثلة متصلة بعدة سور مكية متفاوتة في فترات نزولها حتى ليصحّ أن يقال إن منها ما نزل أوائل عهد مكة ومنها ما نزل بعدها بقليل ومنها ما نزل في(1/103)
أواسطه، تحتوي دلائل على أن القرآن كان يدوّن حال نزوله ويتلى وينشر بين الناس ويسمعه المشركون كما يتداوله المسلمون أيضا.
7- إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة تصف القرآن بالكتاب- وهذه الكلمة تأتي بمعنى المكتوب أيضا- ومنها ما يجمع بين الكلمتين معا «الكتاب والقرآن» «1» أي الكتاب المقروء المكتوب «2» ، وتنوه بخطورته وتشير إليه كأعظم مظهر وآية للنبي والنبوة وتذكر أنه أنزل ليتلى على الناس، وأن فيه متنوع الأمثال ليتدبروا آياته ويعقلوها، وأنه أنزل على النبي ليبيّن لهم ما أنزل إليهم من ربهم ويوضح لهم ما اختلفوا فيه كما يستفاد منها أن القرآن نفسه كان موضوع جدل رئيسي بل أهم موضوع جدل بين النبي والمشركين في مكة «3» . فكل هذا يلهم أنه كان يدون وتتلى مدوناته على الناس مسلمين ومشركين كما يلهم أن المسلمين أيضا كانوا يدونونه ليتدبروا ويتذكروا ويتعلموا ويتفقهوا فيه.
8- في سورة الفرقان آية تلفت النظر وهي: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها «4» فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) فهذه الآية تلهم أن القول ليس مما يرمى جزافا وإنما هو مستند إلى مشاهدة بأن آيات القرآن وسوره كانت تدون وتتلى على الناس في صحف فكان المشركون يصفونها بهذه الصفة، ويريدون بذلك أن النبي كان يستكتبها عن كتب الأولين وأساطيرهم.
__________
(1) مثل الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الحجر: [2] . وطس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ النمل: [1] .
(2) يرجح بعض علماء اللغة أن كلمة القرآن مصدر من مصادر «قرأ» ونحن نعتقد أنها متصلة بجذر «قرأ» على كل حال وقد قال بعض المستشرقين إنها دخيلة عبرانية. ولا نرى لهذا مبررا لأن جذر قرأ أصلي في اللغة العربية، على أن ما لا شك فيه أن الكلمة بصيغتها كانت مستعملة قبل نزول القرآن وليس من الضروري أن تكون دخيلة عبرانية معربة إذا لاحظنا خاصة أن العربية والعبرانية تمتّان إلى أصل واحد وأن كثيرا من الجذور فيها متّحد. [.....]
(3) هذه الآيات كثيرة جدا ومنبثة في مختلف السور المكية مما يجعلنا في غنى عن التمثيل لها.
(4) تأتي بمعنى استكتبها كما ذكر الزمخشري في «الكشاف» .(1/104)
9- في سورة الواقعة الآيات التالية: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) . وفي سورة عبس الآيات التالية: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) . فهذه الآيات وتلك وإن كانت تشير إلى صلة القرآن بالملائكة وطهارة أصله ومصدره وكرامته فإن روح عباراتها تلهم أيضا وبقوة أن القرآن صار مكتوبا في صحف وصار لهذه الصحف واجب التكريم فلا يمسها إلا المطهرون. وهذا ما كان يجري فعلا كما جاء في الروايات الوثيقة وخاصة في رواية إسلام عمر وصحيفة القرآن التي كانت في يد أخته ورفضها تسليمها إليه إلا بعد أن يتطهر «1» وأصل التقليد الإسلامي الفقهي بعدم جواز مسّ المصحف إلا على طهارة هو من هذا الباب.
10- في سورة الحجر هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ «2» وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) . فهذه الآية إن احتوت وعد الله بحفظ القرآن فإنها احتوت تلقينا توجيهيا للنبي بتدوينه وحفظه أيضا.
11- لقد كثر في القرآن المكي ترديد ذكر أهل الكتاب وكتبهم، وتقرير معنى التطابق بين القرآن وبين هذه الكتب والاستشهاد بأهل الكتاب على صحته ووصف مواقفهم حينما كانت تتلى عليهم آيات القرآن. وطبيعي أن النبيّ كان يعرف أن الكتب السماوية متداولة في أيدي اليهود والنصارى ومكتوبة في صحف وقراطيس، ومجموعة في أسفار أو سجلات، فمما لا ريب فيه أن الآيات التي احتوت ذلك قد احتوت تلقينا توجيهيا للنبي والمسلمين بأن يدونوا الفصول القرآنية ويجمعوها في أسفار وسجلات أسوة بتلك الكتب التي نزل القرآن مصدقا لها ومتطابقا في أسسه وروحه ومصدره معها، ولا يعقل إلا أن يكون النبي والمسلمون قد اعتنوا كل العناية بهذه النقطة.
__________
(1) ابن هشام ج 2 ص 2.
(2) يعني القرآن.(1/105)
- 8-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال]
وثانيا: إن في القرآن المكي ملهمات عديدة لترتيب الآيات في السور وتأليف السور في حياة النبي عليه السلام:
1- فقد تكرر فيه كلمة «سورة» وخاصة في معرض تحدي المشركين وجاءت مرة بتحديهم بالإتيان بسورة ومرة بعشر سور كما ترى في يونس وهود هاتين:
1- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ (38) .
2- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (13) .
وعبارة الآيات لا تدع مجالا للشك في أن مدلول السورة هو مجموعة مستقلة من الآيات أو الفصول القرآنية، ولا تدع مجالا للشك كذلك في أن مجموعات القرآن حينما نزلت هذه الآيات- وترتيب السورتين يلهم أنهما مما نزل في أواسط العهد المكي- كانت سورا مستقلة تامة حتى يصح التحدي والتمثيل.
وطبيعي أن هذا الأسلوب قد ظل العمل به مستمرا.
2- إن السور المكية المسجعة أو الموزونة أو المقفاة «1» خمس وستون سورة بما فيها الرحمن والإنسان والزلزلة التي نرجح مكيتها والتي ذكرت مكيتها روايات عديدة في حين أن بعض الروايات قال إنها مدنية منها أربع وخمسون قصيرة هي الفاتحة والناس والفلق والإخلاص وأبي لهب والكافرون والكوثر والماعون وقريش والفيل والهمزة والعصر والتكاثر والقارعة والزلزلة والعاديات والقدر والعلق والتين والانشراح والضحى والليل والشمس والبلد والفجر والغاشية والأعلى والطارق
__________
(1) الفرق فيما نعتقد هو أن الأصل في المسجوع وحدة القافية دون التزام التوازن وأن الأصل في الموزون هو التوازن دون التزام وحدة القافية. ومن الممكن أن يكون المسجوع موزونا أيضا. وفي القرآن نماذج لكل ذلك. وهناك سور احتوت فصولا متنوعة في الوزن والقافية أيضا. وفي كتابنا عصر النبي وبيئته قبل البعثة عرض وبحث في هذا الباب في فصل اللغة القرآنية.(1/106)
والبروج والانشقاق والمطففون والانفطار والتكوير وعبس والنازعات والنبأ والمرسلات والإنسان والقيامة والمدثر والمزمل والجن ونوح والمعارج والحاقة والقلم والملك والواقعة والرحمن والقمر والنجم والطور والذاريات وق، ووحدة الموضوع في هذه السور بارزة بروزا تاما. فالغرض الصحيح الذي نعتقد أنه لا يصحّ غيره هو أنه نزل كل منها دفعة واحدة وكسبت شخصيتها كسور مستقلة.
وإذا كان من الممكن أن يكون استثناء فهو قليل بالنسبة إلى هذا العدد الكبير من جهة، وهو في الوقت نفسه ليس استثناء ينقض هذا الغرض في جوهره من جهة أخرى. وقد احتطنا بهذا الاستدراك من أجل ما روي من أن آيات العلق الأولى هي أول ما نزل وأنها نزلت منفردة مما يبرره مضمون آيات السورة، ومن أجل ما روي من مثل ذلك بالنسبة إلى آيات سور المزمل والمدثر والقلم الأولى مما يبرره كذلك مضمون آيات السور «1» ثم من أجل ما روي من أن الآية الأخيرة من سورة المزمل مدنية وليست مكية مما يبرره مضمونها أيضا.
3- إن التدقيق في فصول بقية السور المسجعة أو الموزونة المتوسطة إلى سور ص والصافات ويس وفاطر والشعراء والفرقان وطه ومريم والكهف والإسراء والحجر يظهر تلاحق فصولها وانسجامها بالإضافة إلى تسجيعها وتوازنها. وهذا وذاك يلهمان أو يحملان على الترجيح بأنها هي الأخرى نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة بدون اعتراض بفصول من سور أخرى إلى أن تمّ كل منها واكتسب شخصيته كسور مستقلة.
4- إن السور المكية غير المسجعة وغير الموزونة ست وعشرون، وهي الأحقاف والجاثية والدخان والزخرف والشورى وفصلت وغافر والزمر وسبأ والسجدة ولقمان والروم والعنكبوت والقصص والنمل والمؤمنون والحج «2» والأنبياء والنحل وإبراهيم والرعد «3» ويوسف وهود ويونس والأعراف والأنعام.
__________
(1) في مبحث أوليات الوحي في الجزء الأول من كتابنا «سيرة الرسول» بيان واف لذلك.
(2) أدخلنا الحج لترجيحنا أن جلّ آياتها مكي وبعض الروايات تذكرها في عداد السور المدنية.
(3) بعض الروايات تذكر سورة الرعد في عداد المدنيات وبعضها تذكرها في عداد المكيات وأسلوبها ومضمونها يحملان على ترجيح مكيتها.(1/107)
ووصفنا إياها بغير المسجوعة وغير الموزونة هو من وجه عام، وقد احتوى بعضها فصولا مسجوعة أو موزونة أيضا. ومن هذه السور تسع ضاربة إلى القصر أكثر منها إلى التوسط وهي الأحقاف والجاثية والدخان والزخرف والشورى وفصلت وسبأ والسجدة ولقمان وباقيها متوسط وقريب من الطويل وطويل. ومع أنها غير مسجعة وغير موزونة الآيات كما قلنا فإن خواتم آياتها مركزة. والذي يمعن فيها يجد تلاحقا في السياق وترابطا في الفصول، ويجد أكثرها ذا وحدة موضوعية أيضا.
وكل هذا يلهم أن الضاربات إلى القصر منها قد نزلت دفعة واحدة وأن ما يحتمل أن لا يكون نزل دفعة واحدة من باقي السور قد نزل فصولا متتابعة من دون اعتراض بفصول من سور أخرى. إلى أن تمّ كل منها واكتسب شخصيته المستقلة.
وما جاء في الرقمين 3 و 4 يمكن توثيقه بمميزات القرآن المكي والعهد المكي. فإن هذا العهد كان عهد دعوة، وأحداثه متشابهة من حيث كونها مواقف دعوة وحض وإنذار وتبشير وتنديد وتذكير ووعظ من جانب النبي، ومواقف إنكار وعناد ومكابرة وجدل وتحدّ وأذى من جانب الكفار. والقرآن المكي قد دار جميعه على هذه المواقف المتشابهة فطبيعة هذا العهد لا تقتضي كما يبدو مستقيما نزول فصل من سورة ثم تعقيبه بفصل من سورة أخرى وقبل أن تتم فصول السورة السابقة. وتلاحق فصول السور المكية المتوسطة والطويلة وانسجامها بل ووحدة الموضوع فيها بوجه الإجمال مما يقوم دليلا قويا على ذلك.
5- إن سبعا وعشرين سورة من السور المكية المتنوعة تبتدئ بحروف متقطعة وهي القلم وق والأحقاف والجاثية والدخان والزخرف والشورى وفصلت وغافر وص ويس والسجدة ولقمان والروم والعنكبوت والقصص والنمل والشعراء وطه ومريم والحجر وإبراهيم والرعد ويوسف وهود ويونس والأعراف. وسبع عشرة منها وجلّها من القصار تبتدئ بالإقسام وهي العصر والعاديات والتين والضحى والليل والشمس والفجر والبلد والطارق والبروج والنازعات والمرسلات والقيامة(1/108)
والنجم والطور والذاريات والصافات. وتسعا وهي متنوعة أيضا تبتدئ بالثناء والحمد والتسبيح وهي الفاتحة والأعلى والملك وفاطر وسبأ والفرقان والكهف والإسراء والأنعام. وتسعا أخرى كلها من القصار تبتدئ بالاستفهام وهي الماعون والفيل والانشراح والقارعة والغاشية والنبأ والإنسان والمعارج والحاقة. وتسعا أخرى من القصار كذلك تبتدئ بخطاب النبي نداء أو أمرا وهي الناس والفلق والإخلاص والكافرون والكوثر والعلق والمدثر والمزمل والجن. وأربعا منها تبتدئ بالدعاء والإنذار وهي المسد والهمزة والتكاثر والمطففون. وخمسا منها تبتدئ بحرف إذا التنبيهي أو التذكير وهي الزلزلة والانشقاق والانفطار والتكوير والواقعة، أي إن ثمانين سورة مكية من مجموع إحدى وتسعين ذوات مطلع خاص فيه دلالة ما على شخصية السورة واستقلالها. أما بقية السور المكية فمنها سبع قصار مسجوعة هي قريش والقدر وعبس ونوح والرحمن والقمر والزمر يجري عليها ما قلناه من طابعها البارز الذي يدل على نزولها دفعة واحدة واكتسابها شخصيتها. والأربع الأخرى وهي المؤمنون والحج والأنبياء والنحل فإن مطالعها تلهم بدء سورة خاصة مستقلة إذا ما أنعم النظر فيها.
- 9-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال]
وثالثا: إذا صحّ ما قلناه واستلهمناه من آيات القرآن المكي وأساليب نظمه من أن القرآن المكي كان يدوّن فورا ويحفظ بانتظام وهو ما نعتقد بصحته فإن هذا ما ينبغي أن يكون صحيحا من باب أولى بالنسبة للقرآن المدني بطبيعة الحال. لأن الحالة بعد الهجرة أصبحت أعظم خطورة من ناحية الدعوة وتطورها إلى تشريع وتركيز، وأصبح المسلمون أكثر طمأنينة واستقرارا، وهذا يتسع للتدوين والحفظ ويقتضيهما من باب أولى. ثم إنه كان في المدينة جالية كبيرة من اليهود، وكان لها أحبارها وربانيوها وقضاتها ومدارسها وكتبها، وقد نشب بينها وبين النبي عليه السلام منذ حلوله في المدينة تشادّ وخلاف وجدل حول الدعوة والقرآن والتوراة والأنبياء، وهذا كله سائق لتدوين القرآن وحفظه بانتظام كذلك. فليس من مبرر(1/109)
للشك قط في أن ما جرى عليه النبي والمسلمون في مكة من تدوين القرآن فورا وفي الصحف والقراطيس لم يظل مستمرا في العهد المدني.
بالإضافة إلى هذا فإن في القرآن المدني أمثلة مشابهة لما ذكرناه في صدد تدوين القرآن المكي. ففي سورة البقرة آيتان متشابهتان مع فرق قليل في النظم وهما هاتان:
1- وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) .
2- وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) .
وفي سورتي البقرة وآل عمران الآيتان التاليتان:
1- قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ البقرة: [136] .
2- قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ آل عمران: [84] .
وفي سورة التوبة آيتان متشابهتان مع فرق قليل في النظم كذلك وهما هاتان:
1- فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) .
2- وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) .
والسياق قد يلهم أن كلا من آيتي البقرة قد نزل في سياق طويل في مجلس(1/110)
واحد، والفرق في النصّ يلهم أن كلا منهما قد دون فورا بعد نزولهما كما أملاهما النبي عليه السلام، وكذلك الأمر في آيتي التوبة أيضا والبقرة من أوائل ما نزل والتوبة من أواخر ما نزل من القرآن. وهذا يعني أن التدوين بدأ منذ أول العهد المدني واستمرّ إلى آخره. والفرق في آيتي البقرة وآل عمران المتشابهتين يلهم ما تلهمه الآيات الأخرى من فورية التدوين بطبيعة الحال.
أما من حيث ترتيب آيات القرآن المدني في السور ومن حيث شخصيات سوره فالناظر يجد:
1- أن سورتين منها تبتدئان بحروف متقطعة وهما البقرة وآل عمران.
وثماني منها تبتدئ بنداء النبي وتوجيه الخطاب إليه وهي النصر والتحريم والطلاق والمنافقون والمجادلة والفتح والأحزاب والأنفال. وخمسا منها تبتدئ بالتسبيح وهي التغابن والجمعة والصف والحشر والحديد. وثلاثا تبتدئ بخطاب المؤمنين وهي الممتحنة والحجرات والمائدة، أي أن ثماني عشرة سورة من مجموع ثلاث وعشرين ذوات مطالع تلهم أنها مبادئ سور وتلهم أن سورها ذوات استقلال وشخصية. أما باقي السور المدنية وهي البينة ومحمد والنور والتوبة والنساء فمطالعها هي الأخرى تلهم استقلالها وشخصية سورها إذا ما أمعن فيها ولو لم تكن ذات طابع مطلعي خاص.
2- أن من السور المدنية اثنتين قصيرتين جدا وهما النصر والبينة وثلاث عشرة قصارا وهي التحريم والطلاق والتغابن والمنافقون والجمعة والصف والممتحنة والحشر والمجادلة والحديد والحجرات والفتح ومحمد وباستثناء اثنتين منهما وهما الجمعة والمجادلة فإن جميعها أي ثلاث عشرة من خمس عشرة ذوات موضوع واحد. وهذا يلهم أنها نزلت وكسبت شخصيتها دفعة واحدة. كذلك فإن إحدى السور المتوسطة وهي الأنفال ذات موضوع واحد وفصولها تلهم أنها نزلت دفعة واحدة هي الأخرى.
3- أن السور التي احتوت مواضيع عديدة وفصولا متنوعة وغير مترابطة(1/111)
أحيانا تسع منها اثنتان قصيرتان هما الجمعة والمجادلة، واثنتان متوسطتان هما الأحزاب والنور، وخمس طوال هي التوبة والمائدة والنساء وآل عمران والبقرة وفي الحق أن مواضيع هذه السور وفصولها تلهم أنها لم تنزل دفعة واحدة ولا فصولا متتابعة بدون اعتراض، وتلهم أنها ألّفت تأليفا على ما هي عليه في المصحف بعد تكامل فصولها من دون سائر السور القرآنية المكية والمدنية.
ونرجح أن الكلام والتخمين في أمر ترتيب آيات القرآن في سورها قد كان بسبب هذه السور وحولها في الدرجة الأولى لأن وحدة موضوع سائر السور ونظمها وتلاحق سياقها وتناسب فصولها المتتابعة يلهم وحدة النزول أو التتابع فيه. والذي نعتقده أن ترتيب آيات وفصول هذه السور على الوجه الذي هو عليه في المصحف المتداول قد كان في حياة النبي وبأمره وأن ما ورد عن زيد بن ثابت- وهو أنصاري- في حديث تأليف القرآن من الرقاع على عهد النبي «1» وما جاء من أحاديث تتضمن أن النبي كان يوحى إليه بفصل قرآني من السور ذوات العدد كما جاء في حديث عثمان «2» أو بكلمة ثانية ذوات الفصول المتعددة ويمليه على كتّاب وحيه يأمرهم بوضعه في مكان من سورة يعيّنها لهم هو الصورة الصحيحة الصادقة لما كان يقع خاصة في صدد هذه السور المدنية السبع.
ولعل من ملهمات القرآن على صحة ذلك التناسب البارز بين كثير من الفصول في هذه السور وخاصة في السور الطويلة موضوعا أو مدى أو مفهوما أو مناسبة حينما ينعم النظر فيها مما نبهنا عليه في التفسير من مثل تسلسل الأسئلة وأجوبتها التشريعية في سورة البقرة، وتسلسل فصول أحكام الأسرة في سورة النساء وتسلسل فصول أهل الكتاب في سورة المائدة، وتسلسل فصول الجهاد ومواقف المشركين والمنافقين في سورتي آل عمران والتوبة، وتسلسل الفصول التأديبية والتعليمية والإرشادية وما يتصل بمشاكل الأسر في سورة النور، وتناسب فصول سورة الأحزاب في الحملة على المنافقين والكفار والتنديد بمواقفهم
__________
(1) المجموعة الثالثة.
(2) المصدر نفسه.(1/112)
المختلفة من جهة وتناسب فصولها الأخرى في صدد التأديب والأنكحة في حين أن من هذه الفصول والآيات ما نزل متأخرا أو ما نزل متقدما أو ما نزل بعد فصول سور أخرى إلخ مما نبهنا عليه في التفسير وما يمكن أن نمثل عليه بفقرة من آية النساء [25] التي تذكر أن على الإماء المحصنات نصف ما على الحرائر من الحد، حيث وضعت هذه الفقرة في الآية لمناسبة السياق في حين أنها نزلت حتما بعد آية سورة النور [2] التي تذكر الحدّ على الزناة.
ولعل من ملهمات القرآن كذلك على ترتيب آيات وفصول هذه السور المتنوعة الفصول في حياة النبي الآية الأخيرة من سورة النساء في وارث الكلالة، حيث يلهم وضعها أنها نزلت متأخرة وبعد أن تم تأليف السورة فألحقت بأمر النبي بالسورة ولو بآخرها لأن الموضوع الذي تتصل به قد جاء في سورة النساء. ولو كانت فصول سورة النساء وآياتها لم ترتب على عهد النبي وبأمره أو لو كانت هذه السورة غير مرتبة الآيات والفصول حينما نزلت الآية لكانت وضعت، على ما يبدو مستقيما في سياق فصل التوارث مثل عقوبة الإماء المحصنات التي وضعت في مناسبتها، وهذه ظاهرة خطيرة أو بالأحرى دليل قرآني حاسم على أن ترتيب السور إنما تم في حياة النبي وأمره.
ومن هذه الملهمات آية الأحزاب [49] بشأن عدة المطلقة بدون مسّ ودخول. وقد احتوت البقرة سلسلة آيات بهذا الشأن [235- 241] وقد انصبت كلها على مهورهن. أما آية الأحزاب فذكرت عدم وجوب العدة عليهن. فلو كانت سورة البقرة لم يتم ترتيبها في عهد النبي عند ما نزلت آية الأحزاب لكان المتبادر أن تلحق بسلسلة البقرة للتناسب الوثيق ولما وضعت في سورة الأحزاب كفصل خاص لا صلة له بسابق ولا لاحق. ومن باب أولى أن يكون ذلك لو كان الترتيب تمّ في عهد أبي بكر.
ولقد يرد أن هناك آيات مدنية في سور مكية وآيات مكية في سور مدنية، وأن هذا قد يقوم قرينة على أن السور المكية لم تكن تامة الترتيب في العهد المكي الجزء الأول من التفسير الحديث 8(1/113)
ونقول من حيث الأساس إن الآيات المدنية المروية في السور المكية ليست كثيرة العدد حتى مع التسليم بصحة رواية مدنيتها جميعها. ففي مصحف مصطفى نظيف قدور أو غلي المطبوع من قبل عبد الحميد أحمد حنفي والمصدق عليه من قبل اللجنة المعينة بأمر الملك فؤاد (147) آية قيل إنها مدنية في (34) سورة من مجموع الآيات البالغ عددها أربعة آلاف ونيفا، فليس مما ينقض ما قررناه وجود هذه الآيات في هذه السور بحيث يمكن أن يفرض أن النبي أمر بإضافة هذه الآيات إلى المكان المناسب لها في السور المكية لتناسب السياق أو الموضوع أو لتدعيمه، ولا يترتب على هذا أن لا تكون السور المكية مرتبة قبل ذلك. هذا مع أن دمج هذه الآيات في سياق مناسب لها في سور مكية يدل دلالة قوية على العكس، أي على أن الآيات المكية كانت مرتبة في سورها من جهة وعلى أن ترتيب الآيات في السور قد كان في حياة النبي وأمره بل وعلى أن عملية التأليف والترتيب والتركيز كانت مستمرة بأمر النبي وتناسب الموضوع وتلازمه بين الآيات المدنية التي لا تحتمل مدنيتها شكا في السور المكية وهي آخر آية في سورة المزمل وآخر آية في سورة الشعراء والآيات [164- 171] في سورة الأعراف يعد دليلا قرآنيا على أن وضعها كان بأمر النبي، ومؤيدا لما نحن في صدد تقريره، فآية المزمل الأخيرة تخفف التكليف الذي كلف به النبي في أولها من قيام الليل وتعذر المسلمين بسبب كثرة مشاغلهم وواجباتهم التي منها القتال الذي لم يكن إلا في العهد المدني، وآية الشعراء تستثني الشعراء المسلمين الذين كانوا يقابلون شعراء المشركين على هجوهم النبي والمسلمين من النعت الذميم الذي نعت به الشعراء وآيات الأعراف في صدد حادثة عدوان اليهود في يوم السبت وما كان من غضب الله عليهم بسببه وقد وضعت في سلسلة قصة بني إسرائيل وبدئت بأمر النبي بتذكير يهود المدينة بأمرهم. فالتناسب قائم بين الآيات المدنية والفصول المكية كما هو ظاهر.
أما الروايات عن الآيات المكية في السور المدنية فإنها قليلة جدا فهي في المصحف الذي ذكرناه سبع آيات في الأنفال [30- 36] وآخر آيتي التوبة والآية(1/114)
[13] من سورة محمد وقد شككنا في الروايات لأن مضامين الآيات وسياقها يحمل على التوقف بالإضافة إلى روايات أخرى تخالفها. ومع ذلك فعلى فرض صحتها فإنها ليس من شأنها أن تخلّ بما نقرره وأن تمنع أن يكون النبي قد أمر بإخراج بعض الآيات من سور مكية وإضافتها إلى سياق مناسب لها أكثر في سور مدنية بل إن في هذا نفس الدلالات التي ذكرناها آنفا.
وعلى كل حال فليس من المعقول أن يتصرف الصحابة بعد النبي فينقلوا آيات من سور مكية إلى سور مدنية وآيات من سور مدنية إلى سور مكية البتة، وأنه لا يكاد يتحمل شكا في أن نقل آيات نزلت في عهد إلى سور أو مجموعة آيات نزلت في عهد آخر إنما يكون وقع في حياة النبي وبأمره.
وقد يرد ما ذكرته الروايات عن آخر الآيات نزولا مثل آيات الدين أو الربا في سورة البقرة، فعلى صحة هذه الروايات فإنه ليس فيها ما ينقض ما قررناه من ترتيب آيات القرآن في السور في حياة النبي عليه السلام وبأمره، إذ من الممكن والمعقول أن يفرض أن النبي هو الذي أمر بوضعها في مكانها التي هي فيه الآن كما كان شأن آخر آيات سورة النساء، بل وإن وجود هذه الآيات في مواضعها ليقوم دليلا على صحة هذا الفرض بل وعلى أن لا يكون إمكان لغرض غيره. ففي سورتي البقرة وآل عمران مثلا آيات مقاربة لموضوع الآيات المذكورة، في سورة البقرة، فلو لم تكن الآيات موضوعة في مكانها بأمر النبي لكانت وضعت هذه الآيات المتقاربة في سلسلة واحدة. ويقاس على هذا غيره.
- 10-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال]
ورابعا: أما ترتيب السور في تسلسلها على ما هو في المصحف المتداول فليس في القرآن ما يمكن أن يستلهم منه على أن ذلك قد تم في حياة النبي وبأمره، إلا قرائن قليلة قد لا تكون شافية. منها عدم فصل سورة التوبة عن سورة الأنفال في البسملة وتقديم الأنفال عليها مع أنها ليست من الطوال ولا من المئين.
والسورتان إذا اجتمعتا تكونان سورة طويلة وتنسجمان مع السور الطوال الست(1/115)
السابقة. والثابت المؤيد بمضامين السورتين أن الأنفال من أوائل ما نزل في المدينة في حين أن التوبة من أواخر ما نزل فيها فورودهما واحدة وراء الأخرى وفي سلك الطوال ودون فاصل ببسملة يلهم أنه بأمر النبي إذ لو كان هذا الترتيب بعده لو ضعت الأنفال في سلسة المثاني كما هو شأن سورتي النور والأحزاب المدنيتين اللتين جاءت كل منهما منفردة بين سور مكية ومنها ما يلاحظ من الشذوذ في ترتيب السور الأطول وما يليها. فسورة المائدة أقصر وأقل عدد آيات وحيزا من سورتي الأنعام والأعراف بل ومن سورة التوبة بمفردها ولكنها جاءت قبلها. وسورة الشعراء من حيث عدد آياتها تأتي بعد سورة البقرة فهي أكثر عدد آيات من سائر السور الطويلة وسور المئين وقد جاءت مع ذلك بعد ثلاث وعشرين سورة كلها أقل عدد آيات منها ومنها ما هو أقل حيزا أيضا وآيات سورة الصافات التي جاء ترتيبها متأخرا جدا أكثر عددا من آيات سور النساء والمائدة والأنعام وهي أكثر آيات من جميع السور باستثناء البقرة والشعراء والأعراف والنساء وسور إبراهيم والرعد، والحجر أقل حيزا وعدد آيات من سور النحل والإسراء والكهف ومريم وطه ومع ذلك فقد جاءت قبلها. وسورة الأحزاب أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الروم ولقمان والسجدة التي سبقتها. وسورة الأعراف أكثر عدد آيات وأكبر حيزا من سورتي الأنعام والمائدة اللتين تقدمتاها. وسورة القصص أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الفرقان والنور والحج وأكبر حيزا من سورة النمل التي تقدمتها.
وسورة غافر أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الزمر ويس وفاطر وسبأ وأكبر حيزا من سورة ص التي تقدمتها ومثل هذا يقال في سورة الزمر وما تقدمها من بعض السور وما ذكرناه هو الشذوذ البارز. وهناك غيره غير قليل مما يدخل في هذا النطاق من حيث الحيز وعدد الآيات أو الأمرين معا بين السور المتوسطة والقصيرة ففي هذا على ما يتبادر لنا ملهمات بأن الترتيب قد كان بأمر النبي للحكمة التي رآها اجتهادا أو بناء على وحي رباني، فلم يكن من شأن أصحابه من بعده أن يبدلوا أو يغيروا فيه ولو لم يكن الأمر كذلك لاجتهدوا في إتمام النسق وفقا للترتيب الذي رأوه وجيها من تقديم الأطول ثم الذي يليه دون ما شذوذ بارز على الأقل. وليست(1/116)
السور مرتبة بحسب مكيتها ومدنيتها أو بحسب نزولها حتى يعلل هذا الشذوذ بذلك وليس هذا بعسير التعيين والعمل كما يبدو للمدقق في السور.
وننبه على أننا هنا بسبيل الاستلهام من القرآن. ونعتقد أن ما قررناه تعليقا على الروايات والأحاديث والأقوال بأن ترتيب الآيات في السور وترتيب السور في تسلسلها المتداول في حياة النبي وبأمره هو قوي بذاته فضلا عن ما تلهمه القرائن القرآنية، وقوته مستمدة بنوع خاص من اتساقه مع طبائع الأمور والظروف، ومن سكوت جميع الروايات والأحاديث المتصلة بأصحاب رسول الله عن القول بأن تحرير المصحف في زمن أبي بكر ونسخ المصاحف في زمن عثمان قد استهدفا ترتيب آيات في سور أو سور في تسلسل أو تناولاه ولهذا دلالته الخطيرة، ومن أن مصحف عثمان هو نسخة طبق الأصل لمصحف أبي بكر وهو أصل المصحف المتداول في ترتيب آياته وسوره.
هذا وأخيرا نريد أن ننبه على أمر مهم في صدد هذه المباحث ومداها فإن ما تناولته إنما هو بسبيل البحث العلمي والتاريخي، وليس من شأنه أن يمسّ لبّ الموضوع، وهو كون القرآن المتداول بين المسلمين والذي هو في متناول الجميع سوره وفصوله ومجموعاته وآياته وكلماته ونظمه متصلا بالنبي وصادرا عنه مباشرة بوحي رباني نزل على قلبه، وكون هذا لم يكن في وقت من الأوقات موضع أخذ وردّ ومحل شك وتوقف من قبل المسلمين على اختلاف نحلهم وفرقهم وأهوائهم ومن لدن مشاهدي العيان في حياة النبي إلى الآن، كما أن صدوره مباشرة عنه لم يكن محل ريب من قبل غير المسلمين أيضا، وكون ما جاء ذكره في الروايات جميعها وعلى ما فيها من علل كثيرة من الآيات والكلمات والحروف لا يزيد على أكبر تقدير عن واحد في المائة من آيات القرآن التي تزيد عن ستة آلاف ومئتين، وكلماته التي تزيد عن سبعة وسبعين ألفا وحروفه التي تزيد عن ثلاثمئة ألف، وكون هذه النسبة التافهة جدا مع العلل الكثيرة التي تجعلها غير صحيحة ليس من شأنها أن تخل بتلك الحقيقة المسلم بها، وأن القرآن كان وظلّ ولن يزال معجزة النبي العظمى الخالدة أصفى منبع للأحكام والعقائد والتشريع والإلهام والفيض والتوجيه(1/117)
والتلقين، فيه الحق والهدى والصدق والرشد، وفيه المبادئ السامية والشفاء للصدور والعلاج للنفوس والحلول لمتنوع المشاكل الإيمانية والروحية والسلوكية للناس كافة، أنزله الله على قلب نبيه الكريم وخلفه النبي عليه السلام في المسلمين فلا يضلّون أبدا إذا ما اتبعوه وتمسكوا به، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وإنه ليصحّ أن يقرر جزما أنه قد ظل سليما في حفظ الله محفوظا كل الحفظ من كل تبديل وتغيير وتحريف وزيادة ونقص مجمعا عليه في رسم واحد ونصّ واحد ومصحف واحد وترتيب واحد في مشارق الأرض ومغاربها، وظل يحتفظ بإشراقه وسنائه وروحانيته، ونفس ألفاظه وحروفه وأسلوب ترتيله وتلاوته التي تلاها رسول الله وبترتيبه الذي وضعه، وبكل ما فيه من معاتبات ومؤاخذات وبهت وتكذيب وهزء وزراية ونسبة افتراء وسحر وشعر وكهانة وتعلم واقتباس وجدل مع مختلف طبقات الناس، ومن تقريرات لحقيقة شخصية الرسول البشرية، وتطور في التشريع والمواقف المتنوعة مما لم يتيسر لأي كتاب سماوي ولا لأي نبي، وظل بعد هذا مرجع كل خلاف، والحكم في كل نزاع بين المسلمين على اختلاف فرقهم وأهوائهم والقول الفصل في كل مذهب وعند كل نحلة من مذاهبهم ونحلهم على كثرتها، فتحققت بذلك معجزة الآية الكريمة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وإنها لمعجزة كبرى تستحق التنويه في هذا المقام، ويكفي لتبيين خطورتها أن نذكر ما كان من فتن وخلاف وشقاق وحروب منذ صدر الإسلام الأول وما كان من اجتراء الناس في ذلك العهد وبعده على رسول الله والكذب عليه في وضع الأحاديث المتضمنة تأييد فئة على فئة ورأي على رأي ودعوة على دعوة ولإضعاف ذلك بالمقابلة، وما كان من وضع الروايات والأحاديث لصرف آيات من القرآن إلى غير وجهها بسبيل ذلك، وما كان من استعلاء قوم على قوم وشيعة على شيعة استعلاء القوة والسلطان مع اشتداد العداء والتجريح واشتداد تيار الأحاديث المفتراة، وأن نذكر أن هذا كان في حين لم يكن القرآن مطبوعا أو مصورا، وفي حين لم يكن من المستحيل أن يجرأ الذين اجترءوا على رسول الله وعلى كتاب الله(1/118)
فيغيروا ويبدلوا ويزيدوا وينقصوا شيئا جوهريا سائغا على المسلمين وينشروا به مصاحف جديدة وخاصة في الآيات التي حاولوا صرفها لتأييد الآراء والأهواء أو إضعافها لتكون أكثر مطابقة مع الوجوه التي أريد صرفها إليها سلبا وإيجابا ونفيا وإثباتا، وفي حين كانت الكتابة العربية سقيمة محرجة ولم يكن قد اخترع الشكل والإعجام، وكان التشابه بين الحروف كثيرا واحتمال اللبس قويا، وحفظت ببركته اللغة العربية القرشية التي نزل بها قوية مشرقة بكل ما وصلت إليه من سعة وبلاغة ودقة وقوة ونفوذ وعمق لتظل لغة الأمة العربية الفصحى في كل صقع وواد، وفي كل دور وزمان وهو ما لم يتيسر لأمة من أمم الأرض ولتكون إلى ذلك لغة عبادة الله لجميع الملل الإسلامية المنتشرة في أنحاء الأرض خلال ثلاثة عشر قرنا ثم خلال القرون الآتية إلى آخر الدهر بل ولتترشح لتكون لغة العالم الإسلامي، وحفظت ببركته الأمة العربية قوية الحيوية دون أن يبيدها ما نزل بها من صروف الدهر الجسام التي أباد أخف منها من هو أقوى منها تكمن فيها مواهبها العظيمة وخصائصها القومية التي جعلتها خير أمة أخرجت للناس إن هي قامت بما حملها إياه القرآن من عبء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- 11-[خاتمة لموضوع تدوين القرآن]
وإتماما لموضوع تدوين القرآن نرى أن نورد بعض البحوث الموجزة في أمور تتصل به.
فأولا أسماء السور:
1- إن الضابط أو الأصل العام في تسمية السور القرآنية على ما يبدو من أسمائها هو تسمية السورة بكلمة أو باشتقاق كلمة واردة فيها. وإذا كانت الأسماء المشهورة لبعض السور لا تستمد من هذا الأصل مثل سور الفاتحة والأنبياء والإخلاص فإن هناك روايات بأسماء أخرى لهذه السور تستمد منه مثل الحمد للأولى واقتربت للثانية والصمد للثالثة.(1/119)
2- على أن بعض المصاحف يختلف عن بعض في الأسماء مع المحافظة على ذلك الأصل فسورة التوبة مثلا تذكر في بعض المصاحف باسم «براءة» والإسراء باسم «إسرائيل» وغافر باسم «المؤمن» وفصلت باسم «السجدة» والملك باسم «تبارك» والنبأ باسم «عم» والبينة باسم «لم يكن» والتبت باسم «أبو لهب» والإخلاص باسم «الصمد» .
3- وهذا الاختلاف ناشىء عن روايات مختلفة معزوة إلى بعض الصحابة كما أن هناك روايات مثلها بتسمية سور أخرى بأسماء أخرى وإن لم نطلع على مصاحف تذكر ذلك مثل سورة التوبة التي يروى أن من أسمائها: «العذاب والمشردة والمنكلة والمدمدمة والمتشقشقة» والفاتحة التي يروى من أسمائها «السبع المثاني والوافية والشافية والصلاة والدعاء وأم القرآن والقرآن العظيم» والأنفال والشعراء والنمل والسجدة والزمر وفصلت والجاثية وق والمجادلة والحشر والطلاق والصف والنصر التي لها أسماء أخرى هي بالتوالي بدر والجامعة وسليمان والمضاجع والغرف والمصابيح والشريعة والباسقات والظهار والنضير والنساء الصغرى والحواريين والتوديع. وهناك كذلك روايات سميت فيها بعض السور بأكثر من كلمة واحدة مثل سورة المؤمنون التي ذكرت بتعبير «قد أفلح المؤمنون» والإنسان بتعبير «هل أتى على الإنسان» والأعلى بتعبير «سبح اسم ربك الأعلى» والليل بتعبير «والليل إذا يغشى» .
4- هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن هناك أحاديث وروايات مختلفة في طريقة تسمية السور. فقد روي عن أنس بن مالك حديث جاء فيه «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي فيها آل عمران. وقد ذكرت جلّ السور في تفسير ابن عباس رواية أبي صالح بالطريقة الثانية، في حين أن البخاري روى عن ابن مسعود في معرض تجويز القول سورة كذا أنه قال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، وأن هناك أحاديث نبوية وصحابية نقلناها في المجموعة الثالثة في مبحث تدوين وترتيب القرآن احتوت(1/120)
أسماء بعض السور بالطريقة المختصرة المتداولة أي سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء وسورة الكهف إلخ، بل هناك حديث طويل منسوب للنبي ورد فيه جميع أسماء السور وفضائلها ذكره الزمخشري والخازن والبيضاوي في تفسير هم بالطريقة المتداولة المختصرة وأوردوا وراء تفسير كل سورة فضيلة السورة المذكورة في الحديث.
5- ومن جهة ثالثة فإن أسماء السور لم تكتب في جميع المصاحف المخطوطة التي هي الأصل في المصاحف المطبوعة والتي كانت هي المتداولة قبل الطباعة على رؤوس الصحف حيث منها ما كتب فيه الأسماء على رؤوس الصحف وفي فواصل السور ومنها ما كتبت فيه الأسماء في فواصل السور فقط.
فكل ما تقدم يمكن أن يسوغ القول إن كتابة أسماء السور في فواصلها وعلى رؤوس صحف المصاحف حسب المتداول ليست واردة في مصحف عثمان لأنها لو كانت كذلك لما كان محل لهذا الخلاف في التسمية والكتابة، وإنما هو عمل تنظيمي متأخر عن نسخ هذا المصحف. وقد يكون- بل هذا هو الأرجح- مستندا إلى روايات تنوقلت فكتبت في المصاحف وكتب القراءات والتفاسير على الوجه الشهير المتداول أو المختلف أحيانا، ونرجح بناء على ذلك أيضا أن للأحاديث والروايات أصلا صحيحا ما، وأنه كان للسور كلها أو كثير منها منذ عهد النبي أسماء تذكر وتعرف بها.
- 12- فصل السور بالبسملة: وثانيا- فصل السور بالتسمية:
إن المصحف العثماني ومصحف أبي بكر الذي نسخ ذلك عنه قد فصل بين السور فيه بالبسملة كما يستفاد من أحاديث ابن عباس وابن مسعود التي أوردناها في المجموعة الثالثة من بحث التدوين. وليس من خلاف في ذلك بين المصاحف المتداولة. ولذلك يصح أن يقال بشيء من الجزم إن هذا متصل بأول ترتيب(1/121)
للمصحف من عهد أبي بكر وبالتالي بترتيب السور في حياة النبي. وهناك اختلاف في ما إذا كانت البسملة آية أصيلة في كل سورة أم لا. ومنشأ هذا الخلاف على الأرجح أحاديث ابن عباس وابن مسعود من أن الوحي كان ينزل بالبسملة في أول كل سورة، وإنهم كانوا يعرفون أنها سورة جديدة بذلك. فمن أخذ بهذه الأحاديث اعتبر البسملة آية أصلية ومن لم يأخذ بها لم يعتبرها كذلك، هذا مع التنبيه على أن الجمهور على أن البسملة في الفاتحة آية أصلية. ومهما يكن من أمر فإن هذا الخلاف لا ينقض ما جزمنا به من اتصال فصل السور بالبسملة منذ ترتيب المصحف الأول.
السجدات: وثالثا- السجدات ومواضعها:
إن هناك أحاديث عديدة متصلة بأصحاب رسول الله ومستندة إلى مشاهدة النبي على اختلاف وتفاوت في أسنادها ومتونها تعين أربع عشرة سجدة في القرآن.
وللفقهاء بحوث مستندة إلى هذه الأحاديث في وجوب السجود عند تلاوتها أو استحسانه أو عدم وجوبه في بعضها دون بعض حيث أوجبه بعضهم في بعضها واستحبه في بعضها ولم يوجبه في بعضها على اختلاف في ذلك مرجعه اختلاف متون الأحاديث وأسنادها ورتبها مما لا نرى ضرورة للتوسع فيه هنا. ونكتفي بالقول إن هذا الاختلاف يدل على أن مواضع السجدات لم تكن معينة كتابة أو إشارة في مصحفي أبي بكر وعثمان، وإن رواياتها ظلت تتناقل فأخذ بعض نساخ المصاحف يشير إلى مواضعها فيها متأخرا عن ذينك المصحفين كعمل تنظيمي وفي وقت ليس من السهل تعيينه، وإن كان اختلاف أئمة المذاهب يمكن أن يساعد على القول، إن ذلك كان في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
ورابعا- مبادئ الأجزاء والأحزاب:
إن هناك كذلك بعض الخلاف في مبادئ الأجزاء والأحزاب وأواخرها، وليس هناك فيما اطلعنا عليه أحاديث متصلة بالنبي أو أصحابه عن هذه التقسيمات(1/122)
الموجودة في المصاحف المتداولة عدا الحديث المطلق الذي أوردناه في المجموعة الثالثة عن تحزيب القرآن والذي لا يفيد شيئا في ما نحن بصدده، وإن كان يستأنس به أن قراء القرآن منذ حياة النبي عليه السلام كانوا يقرأونه أقساما أقساما، ويقفون عند مواقف خاصة حينما يتوقفون عن القراءة. وهذا يسوغ القول إن هذه التقسيمات في المصاحف عمل تنظيمي متأخر عن المصحف العثماني، مع التنبيه على أن ذلك الحديث يمكن أن يكون الباعث عليه. ولعله مستند إلى قراءة القراء التي كان القراء يتلقونها شفهيا خلفا عن سلف إلى أن تتصل بأصحاب رسول الله.
- 13- كتابة ترتيب نزول السور القرآنية وعدد آياتها:
خامسا- كتابة ترتيب نزول السور وصفاتها وعدد آياتها وأرقامها وفواصلها:
إن بعض المصاحف تذكر في فواصل السور: (1) ترتيب نزول كل سورة أي أن السورة قد نزلت بعد السورة الفلانية. (2) وصفة كل سورة أي مكية أو مدنية.
(3) وعدد آيات كل سورة. (4) ورقم الآيات المدنية في السورة المكية ورقم الآيات المكية في السورة المدنية إذا كانت السورة احتوت آيات مكية ومدنية معا.
(5) ورقم كل آية بعد كتابتها في السورة. في حين أن بعض المصاحف لا تذكر شيئا من هذا وتكتفي بذكر اسم السورة، وأن بعضها تذكر بعض هذه الأمور دون بعض وأن بين المصاحف التي تذكر هذه الأمور جميعها أو بعضها اختلافا في ما تذكره حيث يذكر بعضها سورة ما مكية بينما يذكرها بعضها مدنية. وحيث يكون عدد آيات السورة في مصحف أقل أو أكثر منه في مصحف آخر، وحيث يكون عدد الآيات المكية والآيات المدنية في السور المدنية والمكية وأرقامها في مصحف مغايرة لعددها وأرقامها في مصحف آخر، وحيث توضع فاصلة وراء آية ما في بعضها بينما لا تكون مفصولة في بعضها، وحيث تكون الفواصل بين الآيات في بعضها صماء بينما تكون في بعضها تحمل رقم الآية المتسلسل.(1/123)
فالواضح من كل ذلك أن هذه الأمور- عدا فصل الآيات بفاصلة ما- هو عمل تنظيمي متأخر وليس له أصل في المصحف العثماني.
وقد استثنينا فصل الآيات بفاصلة ما لأننا نعتقد أن المصحف العثماني لم يسرد الآيات سردا دون فصل بينها، ولأن الآية هي الوحدة القرآنية الصغرى المستقلة، وقد أشير إليها في القرآن نصا كذلك كما جاء مثلا في آية النحل [101] هذه وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ. فلا يعقل إلا أن توضع فواصل بين الآيات. ولعل الفاصلة التي كانت تفصل بين الآيات في المصحف العثماني هي نقطة صماء.
وهناك اختلاف في عدد آيات كثير من السور. وقد ذكر السيوطي في «الإتقان» أن المتفق على عدد آياته أربعون سورة فقط. ومع أن هناك حديثا أورده ابن العربي عن النبي عليه السلام ونقله السيوطي يفيد أن الفاتحة سبع آيات والملك ثلاثون آية فإن هذا لم يمنع الخلاف على عدد آيات هاتين السورتين أيضا. وقد قال بعض العلماء إن سبب اختلاف السلف في عدد الآيات أن النبي عليه السلام كان يقف على بعض كلمات من الآيات فيحسب السامع أنه يقف على آخر الآية. على أن مما يرد أن يكون ليس في تمييز بعض الفواصل في المصحف العثماني فكان هذا الخلاف في المصاحف التي نسخت عنه وتدوولت. وننبه على أن الخلاف في عدد الآيات ليس كبيرا، وكل ما تناوله دار في نطاق ضيق من نقص آية أو آيتين في بعض السور أو زيادة آية أو آيتين في بعض آخر مثل وصل بعضهم كلمات «طسم وطس» في سور الشعراء والنمل والقصص و «الم» في سورة العنكبوت وغيرها و «الر» في سورة يونس وغيرها و «حم» في سورة فصلت وغيرها وعدها موصولة مع ما بعدها أو مفصولة عنه فتكون آية عند من عدها مفصولة ولا تكون كذلك عند من عدها موصولة، ومثل عدّ البسملة آية في سورة الفاتحة وعدم عدها، وعدّ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ في سورة الفاتحة آية عند بعضهم أو آيتين عند بعض آخر.(1/124)
ونقول في صدد ترتيب نزول السور إننا اطلعنا على عدة ترتيبات. منها ترتيب المصحف الذي اعتمدناه ونعني مصحف قدور أو غلي، ومنها ترتيب للسيوطي استند فيه إلى ما اعتمده من الروايات، ومنها ترتيب في تفسير الخازن وآخر في تفسير الطبرسي، وثلاثة أخرى أوردها السيوطي في «الإتقان» منسوبة إلى الحسن وعكرمة وابن عباس وجابر. وبين هذه الترتيبات تخالف يسير أو كبير، مع التنبيه على أن مضامين بعض السور المكية والمدنية تسوغ التوقف في ترتيبها الوارد في هذه الترتيبات، وتحمل على القول إنها لا تمثل الحقيقة تمثيلا صادقا، وإنه ليس هناك ترتيب يثبت على النقد والتمحيص بكامله أو يستند إلى أسناد وثيقة متصلة بالعهد النبوي. فهناك روايات عديدة مختلفة في صفات بعض السور وبينما يسلك بعضهم سورا في سلك السور المكية أو بالعكس مثل سور الرعد والحج والرحمن والإنسان والزلزلة والفلق والناس والإخلاص والكوثر وقريش والعصر والعاديات والقدر والمطففون والفاتحة التي تسلكها بعض الروايات في السلك المدني بينما تسلكها روايات أخرى في السلك المكي، ومثل سور الحديد والصف والتغابن والبينة التي تسلكها بعض الروايات في السلك المكي، بينما تسلكها روايات أخرى في السلك المدني. وفضلا عن ذلك فإن في القول بترتيب نزول سور القرآن تجوزا خاصة بالنسبة لبعض السور المدنية حيث تلهم مضامينها أن بعض فصول سور متقدمة في روايات الترتيب قد نزلت بعد بعض فصول سور متأخرة فيه، وإن فصول هذه السور قد ألفت تأليفا متأخرا عن نزولها وقتا ما مما ذكرنا بعض نماذجه ونبهنا عليه في بحث سابق. وكل ما يمكن أن يقال في مثل هذه السور إن وضعها في ترتيب النزول كسور تامة بعد سور تامة حقيقة أو رواية إنما جاء من أن فصلها الأول أو فصولها الأولى قد نزلت بعد الفصل الأول أو الفصول الأولى من السورة التي قبلها.
ولقد أجمعت الروايات مثلا على أن سور العلق والقلم والمزمل والمدثر هي أوائل السور نزولا على اختلاف في الأولية بينها، وعند التدقيق تراءى لنا أن هذه(1/125)
الروايات محل نظر، فالآيات الأولى من سورة القلم احتوت آية إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) والآيات الأولى من سورة المزمل احتوت آية وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) والآيات الأولى من سورة المدثر احتوت آية إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) والآيات التي أعقبت الآيات الخمس الأولى من سورة العلق احتوت آيات فيها وصفا لموقف بعض الطغاة من دعوة النبي وصلاته، بالإضافة إلى حكاية السور الثلاث الأولى مواقف بعض الكافرين والمكذبين وجدلهم ومكابرتهم وإلى حملات عليهم فيها بسبب ذلك. فهذا كله يلهم بقوة أنه ينبغي أن يكون قد نزل قبل هذه السور وبعد آيات سورة العلق الخمس الأولى على الأقل قرآن يصح أن يرتل، وأن يقال عنه أساطير الأولين، وقول البشر، وفيه دعوة وإنذار عامان وقد تلي على الناس ودعوا إلى الله به فوقف الكفار منه موقف الجاحد المعاند فنزلت بقية سورة العلق والسور الثلاث الأخرى تحكي مواقفهم وترد عليهم. ومن أجل هذا خمّنّا أن تكون سور الفاتحة والأعلى والشمس والعصر والليل وأمثالها مما لا يحتوي إلا الدعوة والإنذار والأهداف بصورة عامة هي السابقة بالنزول بعد آيات العلق الخمس الأولى إن لم يكن هناك قرآن نزل ثم رفع يحتوي ذلك، ويمكن إيراد أمثلة متعددة أخرى كثيرة أيضا.
تميز الأسلوب المكي والأسلوب المدني:
ونستطرد فنقول إن أسلوب القرآن يساعد بنطاق غير ضيق على التمييز بين السور المكية والسور المدنية بل الآيات المكية والآيات المدنية أيضا فالسور المكية أولا تنحو في الأغلب نحو التسجيع والتوازن، وثانيا تتكثف فيها الدعوة إلى الله وإثبات استحقاقه وحده للخضوع والعبادة ومحاربة الشرك وكل ما يتصل به وتعنيف الكفار وتقريعهم بسببه، وثالثا إن أسلوبها المتصل بالدعوة إلى المكارم الاجتماعية والروحية والإنسانية وبالتحذير من الآثام والفواحش أسلوب دعوة وحض وتشويق وتنديد وتنويه. ورابعا إن القصص ومشاهد الآخرة والحديث عن الملائكة والجن وحكاية أقوال الكفار وجدلهم وافتراءاتهم ونسبهم المختلفة للنبي قد كثرت(1/126)
وتكررت، وخامسا إن وحدة الموضوع في السور الطويلة والمتوسطة فضلا عن القصيرة ملموحة في كل سورة منها تقريبا، وسادسا إن تلاحق الفصول والسياق جدلا وحكاية وإنذارا وتبشيرا ووعدا ووعيدا وتدعيما وتمثيلا وتذكيرا وقصصا وتطمينا وتوجيها وتلقينا وبرهنة ملموح كذلك في كل سورة منها تقريبا وفي السور المكية تبرز مبادئ الدعوة القرآنية قوية واضحة، وتبرز خصوصيات القرآن ومميزاته الأسلوبية والموضوعية بالنسبة إلى الكتب السماوية الأخرى قوية واضحة كذلك ومن مميزات الأسلوب المكي اللهجة الخطابية القوية النافذة إلى الأعماق والقارعة للأسماع والقلوب واللهجة التي يذكر بها اليهود خاصة حيث خلت من التقريع والتعنيف والجدل والأخذ والرد، وتلك الصور الجحودية والإزعاجية والتشكيكية والدسية الواردة عنهم في القرآن المدني واللهجة المحببة الاستشهادية التي يذكر بها الكتابيون وأولو العلم كأنما هم حزب المسلمين والدعوة النبوية والأسلوب المكي يغلب فيه وصايا الصبر والتطمين والتسكين وعدم المبالاة بمواقف الكفار كما أنه خلا من الحض على الجهاد ووقائع الجهاد وخلا كذلك من ذكر المنافقين ومواقفهم ودسائسهم والحملات القاصمة عليهم. وواضح أن هذا كله متصل بظروف العهد المكي من السيرة النبوية مما نبهنا عليه في سياق التفسير.
أما القرآن المدني فالسجع فيه قليل بل نادر، وطول نفس الآيات غالب، ونقل فيه فصول القصص ووصف مشاهد الآخرة والجن والملائكة والجدل ووصف مشاهد الكون أو تقصر ويكتفى من ذلك بالتذكير والإشارات الخاطفة، وتصطبغ فيه المبادئ والتكاليف التعبدية والأخلاقية والاجتماعية والقضائية والسلوكية بصبغة التقنين والتقعيد، وفيه تشريع الجهاد ووقائعه وظروفها، وفيه إبطال عادات وتقاليد قديمة، وإقرار عادات وتقاليد قديمة أخرى مع الإصلاح والتهذيب، وإنشاء عادات وتقاليد جديدة في سبيل الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي، وفيه صور النفاق والمنافقين ومواقفهم، ولهجته عن اليهود لهجة شديدة في الدعوة والتعنيف والتنديد وفيه صورة عن مواقفهم وأحوالهم، وفيه الاستفتاءات والأسئلة القضائية والاجتماعية والأخلاقية والأسروية وأجوبتها التشريعية، وواضح أن هذا كله متسق(1/127)
أيضا مع ظروف العهد المدني من السيرة النبوية مما نبهنا عليه في سياق التفسير كذلك.
وعلى ضوء هذه المميزات ومع استلهام المضمون والسياق أمكننا ترجيح مكية سور الرعد والحج والرحمن والإنسان والزلزلة التي يذكر مصحف قدور أو غلي وغيره مدنيتها، وأمكننا كذلك ترجيح مكية ومدنية السور القصيرة الأخرى التي اختلفت الروايات فيها، وترجيح احتمال تقدم بعض السور المتأخرة وتأخر بعض السور المتقدمة، وترجيح مكية آيات ذكرت الروايات أنها مدنية في سور مكية ومدنية آيات ذكرت الروايات أنها مكية في سور مدنية مما نبهنا عليه في سياق التفسير الكامل.
- 14- الشكل والنقط: سادسا: شكل المصاحف ونقطها:
من الثابت المسلم به أن النقط والشكل على الوجه المستعمل في المصاحف المتداولة قد اخترعا بعد النبي وفي أخريات دور الخلفاء الراشدين أو أواسط دور الأمويين على اختلاف في البدء والتطور. ولذلك فإنهما محدثان وليس لهما أصل في المصحف العثماني وما قبله جزما وقد مست الحاجة إلى إدخالهما على المصحف لضبط القرآن وتيسير قراءته صحيحة وعدم ترك المجال للالتباس.
ولا سيما أن المسلمين قد انتشروا في بقاع الأرض أكثر من ذي قبل ودخل الإسلام أمم وطوائف غير عربية، وصارت اللغة العربية تعلّم تعليما ولم تبق سليقية، وقد كان من شأن بقاء القرآن بدون إعجام (تنقيط) خاصة أن يلتبس على قارئه في المصحف قراءة الحروف المتشابهة الشكل التي لا يميزها عن بعضها إلا النقط مثل ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ كما كان من شأن بقائه بدون شكل أن يلتبس على القارئ غير العربي سليقة تمييز الكلمات المتشابهة الشكل التي لا يميزها عن بعضها الآن إلا الشكل أو كثرة الممارسة وحسب فهم المعنى(1/128)
وتمييز أواخر الكلمات ولا سيما حينما يتأخر الفاعل ويتقدم المفعول مثلا، ومما لا ريب فيه أن إدخالهما على الخط العربي عامة وعلى المصحف خاصة خطوة خطيرة جدا في سبيل الإتقان والإحسان والفهم والتمييز. والمرجح أنهما لم يخترعا كاملين، وإنهما سارا سيرا تطوريا حتى بلغا مبلغهما التام في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
علامات الوقف والوصل:
سابعا: علامات الوقف والوصل والأداء:
إن ما قررناه في الفقرة السابقة يصح على علامات الوقف والوصل والمدّ والقصر والسكون فوق الكلمات والحروف القرآنية في المصحف العثماني، من حيث كونها محدثة وليست أصيلة في المصحف العثماني ومن حيث قصد ضبط قراءة القرآن وإتقان أداء كلماته وحروفه مع التنبيه على أنه دون خطوة الشكل والنقط خطورة أولا وأنها قد أحدثت بعد هما على الأرجح ثانيا. وننبه كذلك على أن ما نقصده هو وضع العلامات، وهذا لا يقتضي طبعا أن لا يكون النبي عليه السلام وأصحابه قد عنوا بالوقوف على ما ينبغي الوقوف عليه ووصل ما ينبغي وصله والسكوت عند ما يجب السكوت ومدّ ما يقتضي مدّه وقصر ما يحسن قصره إلخ. فلا يصح أن يشك في أن كل هذا قد كان، وأنه متصل بطبيعة النطق الخطابي والتقريري التي هي من طبيعة التلاوة القرآنية ومقتضيات أداء معاني القرآن مما لا يمكن إلا أن يكون، سواء في تلاوته من النبي على الناس أم تلاوته من قبل الصحابة، وسواء أكان ذلك في الصلاة أم في مجال التلاوة والوعظ والبيان، فضلا عن أن طبيعة الخطاب والتلاوة بوجه عام تقتضي ذلك. والراجح أن الأمر القرآني وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل 4] . وهو من أوليات القرآن نزولا هو في صدد ذلك أو مما استهدفه. وتلاوة القرآن على الأداء المعروف متصلة فيما يعتقد بالسماع خلفا عن سلف حتى تتصل بالعهد النبوي. وقد جرى الأمر على هذا بالتواتر الفعلي السماعي الذي لم ينقطع من لدن النبي عليه السلام. ومما لا ريب فيه أن العلامات الجزء الأول من التفسير الحديث 9(1/129)
وحدها لو لم يكن هذا النقل السماعي المتواتر لا تجزي وحدها ولا تجعل قارئ القرآن يؤدي دلالاتها على وجهها دون تعليم وسماع. والمعقول أن وضع العلامات كان من قبل أعلام القراء والرواة حينما رأوا أن الحاجة صارت ماسة إلى ذلك، وأن بقاء القرآن بدونها قد يؤدي إلى إساءة التلاوة والأداء والانحراف عن الأسلوب الصحيح القويم المتناسب مع طبيعة المفاهيم القرآنية والذي كان يرويه القراء والرواة راو عن راو وقارئ عن قارئ، على أن المعقول أيضا أن وضعها هو من قبيل التذكير بدلالاتها التي كانت تتلقى سماعا. والراجح أن هذا قد كان كذلك في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
- 15- رسم المصحف العثماني:
ثامنا: رسم المصحف العثماني-:
إن أكثر العلماء وأئمة القراء قرروا وجوب الاحتفاظ في كتابة القرآن بالرسم العثماني. ومنهم من كره كتابته برسم آخر ومنهم من حرّمها. ولم نطلع على أقوال وأحاديث موثوقة متصلة بأصحاب رسول الله في هذا الشأن. ولذلك يصح أن نقول إنها أقوال اجتهادية.
ويبدو أن هذا التشديد متصل بروايات القراءات السبع أو العشر، وخاصة بما يتصل بالصرف والنحو وأجسام الكلمات مثل «ملك ومالك» و «مسجد ومساجد» و «يفعلون وتفعلون» و «فتحت وفتّحت» و «أرجلكم وأرجلكم» و «تبينوا وتثبتوا» إلخ مما يقع في وحدة الرسم، ومتصل كذلك بالقول إن هذه القراءات صحيحة كلها لأنها تقع في نطاق وحدة الرسم من ناحية ومتصلة بالسماع المتسلسل الواصل إلى قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي من ناحية أخرى بحيث يورد أن شأن كتابة القرآن بغير الرسم العثماني وبالخطوط الدارجة في الأدوار التالية أن تحول دون قراءة الكلمات القرآنية بقراءات مختلفة يحتملها الرسم العثماني ومتصلة بقراء الصحابة، فيكون في ذلك تحكم في تصويب قراءة دون قراءة وإبطال قراءة دون(1/130)
قراءة أو وسيلة مؤدية إليهما، وأن هذا هو ما تحرز منه العلماء والقراء في مختلف العصور تورعا وتدينا وزيادة في التحري في تلاوة القرآن تلاوة قويمة صحيحة متصلة بالنبي والذين سمعوا منه وتلقوا عنه.
ومهما يبدو من وجاهة هذا القول ونتائجه، وخاصة فوائده التي من أهمها أن احتفظت المصاحف خلال ثلاثة عشر قرنا برسم واحد قد كتب وفاقا لما كان يكتب في عهد النبي وبإملائه، وحفظ القرآن بذلك من التحريف والتشويه، ومن الخلافات التي لا بد من أن تنشأ بسبب تطور الخطوط من وقت لآخر وتبدلها في أدوار لم يكن فيها مطابع ولا تصوير شمسي، ومنعت تكرر المأساة التي أفزعت عثمان وحملته على توحيد هجاء القرآن وجعل المصاحف بهجاء واحد تنسخ عن الأصل الذي أمر بنسخه وتنتشر في مشارق الأرض ومغاربها موحدة، فإننا نعتقد أنه ليس من شأنه أن يمنع جواز كتابة المصحف اليوم بالخط الدارج على شرط مراعاة قراءة من القراءات المشهورة المتصلة بأحد أئمة قراء الصحابة والنص على ذلك في مقدمة المصحف. لأنه لا يوجد نصّ ثابت متصل بالنبي وأصحابه يمنع ذلك فيما اطلعنا عليه، ولأننا نعتقد أن في هذا تيسيرا واجبا لتعليم القرآن وتعلّمه وحسن ضبطه وإتقانه. فبين الرسم العثماني والرسم الدارج فروق غير يسيرة فضلا عن ما بين رسوم القرآن نفسها من تناقض مما سوف نشير إليه بعد قليل مؤد في نفس الوقت إلى زيادة التعقيد والتعسير. ومن العسير أن يتعلّم القارئ هذا الرسم بالإضافة إلى الرسم الدارج الذي ألفه في كتابته وكتبه وقراءاته الأخرى. وبالإضافة إلى هذا فإن هناك مسلمين وغير مسلمين لا يتيسر لهم تلقي القرآن من قراء مجازين أو قراء تلقوا أو قرأوا أو سمعوا من قراء مجازين مما يصعب إتقان تلاوة القرآن برسمه العثماني بدونه، والمصاحف في متناول جميع الناس على اختلاف الملل والأجناس، ففي كتابته بالرسم الدارج منع لمغبة الغلط في القراءة والتشويه وسوء الفهم والتفسير، وتيسير واجب لنشر القرآن الذي هو من أهم واجبات المسلمين أيضا، ولا سيما أن الرسم العثماني محفوظ لن يبيد بما يوجد منه من ملايين النسخ المطبوعة وغير المطبوعة والرسوم الشمسية ما فيه الضمانة على بقائه المرجع(1/131)
والإمام أبد الدهر، وقد رأينا للإمام المفسر الكبير ابن كثير في كتابه «فضائل القرآن» وهو من علماء القرن السادس قولا يبيح به كتابة المصحف على غير الرسم العثماني وفي هذا توكيد وتوثيق لوجهة النظر التي نقررها.
هذا أولا. وثانيا إن الذي نعتقده أن رسم المصحف العثماني لم يكن ليكون محتملا للقراءات السبع أو العشر، وليس هو توقيفيا عن النبي عليه السلام كما يظن أو يقول البعض، فليس هناك حديث وثيق بل وغير وثيق متصل بالنبي أو أصحابه المعروفين يؤيد ذلك، وإنما هو الطريقة الدارجة للكتابة في ذلك العصر، ولم يكن النبي يقرأ ويكتب، وإنما كان يملي ما يوحى إليه به على كتابه فيكتبونه وفق ما يعرفونه من طريقة الكتابة. وليس من سبيل إلى غير ذلك. وما دامت طريقة الكتابة قد تطورت فإن تسويغ كتابة المصحف وفق الطريقة الدارجة طبيعي أيضا وخاصة بعد أن صار الاحتفاظ بالرسم العثماني ليكون المرجع والإمام مطبوعا ومحفوظا ومصورا كما قلنا ممكنا إلى ما شاء الله.
أما التناقض أو التباين في رسم المصحف العثماني نفسه فإنه في الحقيقة يبعث على العجب والحيرة، حيث وردت كلمات واحدة أو متقاربة في سور مختلفة بل وأحيانا في سورة واحدة مختلفة الرسم في حين أن كثيرا منها متماثل في مواقع الصرف والنحو وإعراب الأواخر والمعنى كما ترى في الثبت التالي مثلا: لا أذبحنه لأعذبنه «1» بنبإ بنبأى «2» سموات سماوات «3» بنت بنات «4» لشيء لشاىء «5» ابن أم ابنؤم «6» إحسانا أحسنا «7» إصلاح
__________
(1) سورة النمل، الآية: [21] .
(2) سورة القصص الآية: [3] ، وسورة الأنعام، الآية: [34] .
(3) سورة فصلت، الآية: [12] ، وسورة الملك، الآية: [3] .
(4) سورة الصافات، الآية: [153] ، وسورة الأنعام، الآية: [100] . [.....]
(5) سورة النحل، الآية: [40] ، وسورة الكهف، الآية: [23] .
(6) سورة الأعراف، الآية: [150] ، وسورة طه، الآية: [94] .
(7) سورة البقرة، الآية: [89] ، وسورة النساء، الآية: [36] .(1/132)
اصلح «1» جزاء جزوأ «2» نعمت نعمة «3» رحمة رحمت «4» قرة قرت «5» امرأة امرأت «6» سنة سنت «7» جنة جنت «8» لعنة لعنت «9» بقية بقيت «10» بسطة بسطت «11»
الأيكة لايكة «12» .
فهذه المباينات «13» تسوغ القول إن أول ما نسخ وكتب برسم واحد من المصاحف العثمانية مصحف واحد كتبه كاتب أملاه عليه قارئ وتعاقب عليه أكثر من كاتب وأكثر من قارئ فكتب بعضهم الكلمات في مواضع برسم وكتب بعضهم نفس الكلمات في مواضع برسم آخر ثم نسخت المصاحف الأخرى العثمانية التي أرسلت إلى الأقطار عن هذا المصحف حرفيا وأن العلم بالكتابة بين الصحابة لم يكن موحدا وأن الكتابة والإملاء لم يكن متقنا، وحتى لو فرضنا أن المصاحف العثمانية كتبت جميعها معا من ممل واحد فلا بد من أن نفرض أنه تعاقب على كتابتها آخرون، ولعله كان في المصحف والمصاحف المتداولة في أيدي المسلمين إذ ذاك أخطاء ومباينات أكثر وأفدح في الكتابة والإملاء مما أفزع عثمان وكبار الصحابة وحملهم على توحيد الرسم واجتهدوا اجتهادهم فلم يستطيعوا أن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: [22] ، وسورة النساء، الآية: [114] .
(2) سورة البقرة، الآية: [85] ، وسورة المائدة، الآية: [29] .
(3) سورة البقرة، الآية: [11 و 131] .
(4) سورة الزخرف، الآية: [31] ، وسورة آل عمران، الآية: [74] .
(5) سورة القصص، الآية: [9] ، وسورة الفرقان، الآية: [74] .
(6) سورة آل عمران، الآية: [35] ، وسورة النساء، الآية: [12] .
(7) سورة الأحزاب، الآية: [63] ، وسورة فاطر، الآية: [43] .
(8) سورة البقرة، الآية: [264] ، وسورة الواقعة، الآية: [89] .
(9) سورة آل عمران، الآية: [61 و 87] .
(10) سورة هود، الآية: [86] ، وسورة البقرة، الآية: [268] .
(11) سورة البقرة، الآية: [247] ، وسورة الأعراف، الآية: [69] . [.....]
(12) سورة الحجر الآية: [78] ، وسورة الشعراء، الآية: [116] .
(13) اكتفينا بمثال لكل مباينة مع أن هناك أكثر من آية في أكثر من سورة فيها بعض التباين أيضا.(1/133)
يتخلصوا من بعض الأخطاء والمباينات أن جاءت غير ذات بال من حيث الجوهر والمعنى، وإذا كان مثل هذه الأخطاء يقع اليوم والمدارس منتشرة والناشئة تتعلم فيها بطريقة موحدة بسبب تفاوت الإتقان والعناية والمران فوقوعها في ذلك العصر الذي لم تكن الكتابة فيه قد وصلت إلى تمامها من النضج من باب أولى. وقد فرضنا أن يكون المنسوخ في أول الأمر من المصاحف العثمانية مصحفا واحدا تعاقب عليه أكثر من كاتب ثم نسخت عنه المصاحف الأخرى لأن هذا الفرض هو الذي يستقيم ويتسق مع وجود تلك المباينات إذ لو نسخت المصاحف جميعها مرة واحدة من قبل عدد من الكتاب لكان تعذر فرض اتحادهم في هذه المباينات التي لا ترجع إلى سبب إملائي فني كما أن ما فرضناه هو المعقول الذي تطمئن به النفس ويتفق مع طبيعة الأمر على ما هو المتبادر.
ولقد علق ابن خلدون على هذه الظاهرة فقال: كان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة. وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم لمصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير محكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها.
ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله وخير الخلق بعده كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا ويتبع رسمه خطأ أو صوابا ...
ونحن نعرف أن لعلماء القراءات تخريجات لهذا التباين. ولكن المدقق يجد فيها تكلفا وتجاوزا كبيرين لا يبعثان اطمئنانا ولا يوجبان اقتناعا ولا سيما أن في هذا التباين كما قلنا أمثلة لا تختلف عن بعضها نحوا وصرفا ونظما وموقع جملة ومعنى.
وهناك مسألة أخرى في صدد رسم المصحف العثماني يثيرها حديثان أحدهما مروي عن عائشة ووصف بأنه بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد(1/134)
روي عن عروة قال سألت عائشة عن لحن «1» القرآن في قوله تعالى إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «2» وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ «3» وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ «4» فقالت يا ابن أختي هذا من عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب «5» . وثانيهما عن عكرمة وغيره جاء فيه أنه لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال ستعربها بألسنتها. وقد أنكر بعض العلماء الحديث المنسوب إلى عثمان وقالوا إن إسناده ضعيف مضطرب منقطع، وإن عثمان جعل للناس إماما يقتدون به فلا يصح أن يكون قد رأى فيه لحنا وتركه لتقيمه العرب بألسنتها وكان أولى الناس بتصحيحه، كما خرّج علماء آخرون ما ظن أنه لحن تخريجا نحويا سليما، ومما قاله الزمخشري في صدد وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] لا تلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم «6» .
ومع ما في كلام الزمخشري من قوة خطابية فإننا لا نرى من المستحيل ولا مما لا يتسق مع طبائع الأمور ولا مما ينتقص من قيمة وصحة بل وقدسية المصحف أن يخطىء ناسخ المصحف الأول من المصاحف العثمانية في كتابة
__________
(1) يقصد بالكلمة الغلط الصرفي أو النحوي.
(2) سورة طه، الآية: [63] .
(3) سورة النساء، الآية [162] .
(4) سورة المائدة، الآية [69] .
(5) أي في الكتابة والرواية من كتاب «الفرقان» لابن الخطيب ص 41 و «الإتقان» للسيوطي.
(6) «الكشاف» الجزء 1 ص 397.(1/135)
بعض الكلمات حيث جاءت مخالفة للقواعد اللغوية القرآنية. وقد رأينا فيما اطلعنا عليه من المصاحف المخطوطة أخطاء عديدة وقع فيها النساخ ومنهم خطاطون بارعون لا يتهمون بقصور في الإملاء منها ما ترك على حاله، ومنها ما شطب عليه وكتب صحيحه فوقه أو بعده أو على الهامش ومن هذه الأخطاء ما هو أكثر من كلمة أو جزء من كلمة. وكثيرا ما وقع هذا معنا مع أننا كنّا نحرص أن نكتب عن المصحف دون حافظتنا. ولم نطلع على إنكار لحديث عائشة سواء في سنده أو في متنه مثل ما كان بالنسبة لحديث عثمان، بل رأينا في «الإتقان» تعليقا يؤيد صحته ويحاول تعليل ما جاء فيه محاولة غير شافية. ونحن لا نرى في الحديث شيئا شاذا وغير متسق مع طبيعة الأمور على ما نبهنا عليه آنفا.
- 16- القراءات:
تاسعا: القراءات المشهورة:
إن القراءات المشهورة سبع تنسب إلى سبعة أئمة من القراء هم نافع بن أبي رويم في المدينة وعبد الله بن كثير في مكة وأبو عمرو بن العلاء في البصرة وعبد الله بن عامر في الشام وعاصم بن أبي النجود وحمزة بن حبيب الزيات وعلي الكسائي في الكوفة ويضم إليهم أحيانا أبو جعفر بن يزيد في المدينة ويعقوب الحضرمي في البصرة وخلف البزاز في الكوفة فيبلغون عشرة وتبلغ القراءات عشرا.
وأربعة منهم تابعون يروى أنهم تلقوا قراءاتهم عن قراء من الصحابة والباقون تابعو تابعين تلقوا قراءاتهم على ما يروى عن تابعين تلقوا عن قراء من الصحابة. وكل منهم يروي قراءته عن قارئ صحابي معروف كما أن لكل منهم رواة ولكل من رواتهم رواة إلى أن وصل الدور إلى عهد التدوين فدونت القراءات وخلافياتها في تعاريف عامة من جهة وفي كل سورة لحدتها من جهة أخرى.
وتدور هذه الخلافيات على الأغلب في النطاق التالي: (1) مخارج الحروف(1/136)
كالترقيق والتفخيم والميل إلى المخارج المجاورة كنطق الصراط بإمالة الصاد إلى الزاي (2) والأداء كالمد والقصر والوقف والوصل والتسكين والإمالة والإشمام (3) والرسم كالتشديد والتخفيف مثل «يغشى يغشّى» و «فتحت وفتّحت» والإدغام والإظهار مثل «تذكرون وتتذكرون» والهمز ومدّ الألف مثل «ملك ومالك» و «مسجد ومساجد» لتحمل الرسم النطقين (4) والتنقيط والحركات النحوية مثل «يفعلون وتفعلون» و «أرجلكم وأرجلكم» مثلا.
وقد وضع علماء القراء شروطا أربعة لصحة القراءة الخلافية وهي (1) التواتر بحيث لا تصح قراءة غير القراءة المتواترة والمشهورة (2) وموافقة العربية بوجه ما بحيث لا تصح قراءة خلافية لا تتفق مع قواعد اللغة (3) ورسم المصحف العثماني بحيث لا تصح قراءة خلافية مغايرة للرسم المذكور (4) وصحة سند القراءة بحيث لا تصح قراءة خلافية لا تستند إلى سند وثيق يتصل بأحد قراء الصحابة. واجتماع الشروط الأربعة شرط لازم بحيث لا تصح قراءة خلافية لا تجتمع فيها.
على أن هناك ما يمكن ملاحظته في صدد خلافيات القراءات المذكورة فالمقول والمشروط أن أئمة القراءة قد أخذوا قراءاتهم سماعا عن قراء من الصحابة، وأن قراء الصحابة قد أخذوا قراءاتهم سماعا عن النبي. ومعقول أن يكون قراء الصحابة مختلفين في القراءة الناشئة عن النطق بالحروف وأدائها من ترقيق وتفخيم ومدّ وقصر وإمالة وإشمام ووقف ووصل وتسكين وتنوين حتى ولو قرأوا قراءاتهم على النبي عليه السلام وأجازها لهم على اختلافها في ذلك، وأن يكون سمعها منهم غيرهم من الصحابة والتابعين. ولكن مما يدعو إلى التوقف والنظر أن يكونوا مختلفين في القراءة الناشئة عن الرسم والتنقيط من تشديد وتخفيف وإظهار وإدغام وقراءة المضارع بالغائب أو المخاطب وقراءة بعض الكلمات منصوبة حينا ومجرورة حينا مثل «أرجلكم وأرجلكم» ومفردة حينا وجمعا حينا مثل «مسجد ومساجد» واسم فاعل حينا واسم عادي حينا مثل «ملك ومالك»(1/137)
ونحو ذلك إلا مع فرض أنهم كانوا يقرأون من المصاحف ولم يسمعوها من النبي، وإن هذا كان شأن أئمة القراءة التابعين وتابعي التابعين فالنبي لم يكن يتلو من مصحف وكان ما يبلغه وحيا، وإذا كان يجنح إلى التيسير كما يدل عليه أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف مما سوف نبحث فيه في مناسبة أخرى «1» فإن هذا منه إنما كان على ما نعتقد بقصد التسهيل على الناس في مخارج الحروف والأداء لأن هذا متصل بتكوين آلة النطق البشرية ومتصل كذلك بعادة إخراج الحروف وأدائها تبعا لاختلاف اللهجات أو المنازل العالية والواطئة والحارة والباردة والتي لا معدى من التسهيل فيها وحكمتها واضحة قائمة وليس في هذا التسهيل تبديل وتغيير في كلمات القرآن وحروفه ونحوه وصرفه. إذ أنه ليس مما يحتمل أن يكون النبي قرأ مرة «يفعلون» وأخرى «تفعلون» ومرة «تغفر» وأخرى «يغفر» ومرة «فتبينوا» وأخرى «فتثبتوا» «2» ومرة «ييأس» وأخرى «يتبين» «3» فضلا عن عدم احتمال تبديله الكلمات بغيرها ولو في معناها مما يروى في غير نطاق رسم المصحف العثماني ولا سيما أن الخلافيات في هذه هي أكثر الخلافيات حتى لقد رأينا الزمخشري في كشافه يروي أمثلة كثيرة جدا منها. ولعله يستقيم أن يفرض أيضا أن القراء التابعين كانوا يقرأون على قراء الصحابة من المصحف قراءات مختلفة ناشئة عن تلك الأسباب والعلل الطبيعية وإن قراء الصحابة كانوا يحبذونها استئناسا بما كان من تساهل النبي وأمره بالتيسير في قراءة القرآن.
أما والحالة على ما ذكرنا فإن مما يخطر للبال سؤال عما إذا كان هناك ضرورة دينية لهذه القراءات المتعددة المختلفة بل والمتباينة حينا في قطر واحد.
والذي نراه أنه ليس هناك من ضرورة دينية لذلك، وخاصة بالنسبة لجمهور المسلمين، وأنه يكفيهم أن يقرأوا القرآن بقراءة واحدة من القراءات المأثورة من
__________
(1) أوردنا هذه الأحاديث وعلقنا عليها في الفصل الرابع من الكتاب «البحث السادس» .
(2) سورة الرعد، الآية: [31] .
(3) سورة النساء، الآية [94] .(1/138)
مصحف كتب بالرسم الدارج بينهم، فيه بعض العلامات الضرورية للوقف والوصل والمد والسكوت ونحو ذلك مما تقتضيه هذه القراءة المأثورة بحيث يكون من الميسور للمسلمين وغيرهم- والمصاحف في متناول الجميع- أن يقرأوا القرآن صحيحا بسهولة ويسر، فلا تكون قراءتهم متوقفة دائما على التلقي، لأن ذلك غير ميسور دائما، ونعتقد أنه إذا لم ييسر هذا على هذا الوجه وقع الحرج من سوء التلاوة وسوء الأداء وتحريف الألفاظ والمعاني.
وليس من بأس إلى هذا بل لعله مستحب أن يكون هناك فئة من الهواة بل فئة تنفق عليها الحكومات الإسلامية أو المؤسسات الدينية لتظل تتدارس القراءات ويتداولها القراء جيلا بعد جيل فإن فائدة ذلك بمثابة الفائدة المستحبة للتي نوهنا بها في الاحتفاظ برسم المصحف العثماني مطبوعا ومخطوطا ومصورا فيستمر ذاك كما يستمر هذا قائما أبدا بين جماعة المسلمين في كل قطر من أقطارهم، مع ملاحظة نراها هامة وهي وجوب عدم الغلو في أداء هذه القراءات وخاصة الغنّ والمط والترديد مما يخرج القرآن عن قدسيته ويضعف نفوذه الروحي ومما يكاد يبدو من القراء أنه بسبيل التعالم والانتفاخ أكثر منه بسبيل الرواية قراءات غير القراءة الدارجة العامة في قطرهم.
ولقد قال الإمام الطحاوي والقاضي الباقلاني وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم من أئمة الكلام «1» إن القراءات جميعها كانت رخصة في أول الأمر لتعسر القراءة بلغة قريش على كثير من الناس ثم نسخت بزوال العذر وتيسر الحفظ وكثرة الضبط وتعلم الكتابة. وفي هذا من الوجاهة ما فيه. ولابن قتيبة كلام يمتّ إلى هذا المعنى وفيه من الوجاهة ما فيه حيث قال كان من تيسير الله أن أمر نبيه أن يقرىء كل قوم بلغتهم- يعني بأدائهم الطبيعي في النطق- فالهذيلي يقرأ الحاء عينا والأسدي يقرأ تعلمون بكسر أوله، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز. وللطبري كلام وجيه آخر في تقريره معنى كتابة المصاحف العثمانية حيث قال إن أمير المؤمنين عثمان بن
__________
(1) «الفرقان» لابن الخطيب ص 167.(1/139)
عفان لما رأى اختلاف الناس في القراءة وخاف من تفرق كلمتهم جمعهم على حرف واحد وهو هذا المصحف الإمام، واستوثقت له الأمة على ذلك بل أطاعت ورأت فيما فعله الرشد والهداية.
ومع أن المدى الذي انطوت عليه هذه المقتبسات يختلف عن المدى الذي قررناه في هذا المبحث فإن فيها فيما نرى ما يمكن الاستئناس به على صواب ما قررناه.(1/140)
الفصل الثالث الخطة المثلى لفهم القرآن وتفسيره
تمهيد
لقد شغفت منذ شبابي بالقرآن، وتذوقت أسلوبه الرائع الحكيم في شتى مواضيعه ودعوته وتوجيهاته وتقريراته، واطلعت على جملة من كتب التفسير وغيرها من الكتب العربية قديمها وحديثها مما يتصل بموضوع القرآن ومبادئه وأهدافه والجدل حوله، واستظهرت كثيرا من روائعه الجهادية والأخلاقية والاجتماعية والروحية، وكانت لي منهاجا في ظروف حياتي التعليمية والجهادية ثم تيسرت فرصة السجن في دمشق قبل الحرب العالمية الثانية من قبل السلطات الإفرنسية بسبب الثورة الفلسطينية فرغت فيها لنفسي، ورأيتها سانحة مباركة للاشتغال بالقرآن وخدمته أكثر من ذي قبل، فحفظته غيبا من جهة وعدت إلى قراءة ما تيسّر لي من كتب التفسير والكتب القرآنية الأخرى من جهة أخرى، وألفت كتبي الثلاثة فيها «1» ، فكان لي من ذلك مجال لإدامة النظر وإمعان الفكر والتدبر وانتهى بي الأمر إلى اليقين بأن أفضل الطرق لفهم القرآن وتفسيره أن يلاحظ الناظر فيه الأمور التالية مجتمعة:
__________
(1) «عصر النبي وبيئته قبل البعثة» - «صور مقتبسة من القرآن» . صدر عام 1366/ 1947، و «سيرة الرسول» جزءان- «صور مقتبسة من القرآن» صدر عام 1367/ 1948، و «نظم القرآن ودستوره في شؤون الحياة» .(1/141)
القرآن والسيرة النبوية:
أولا: إن القرآن سلسلة تامة للسيرة النبوية وتطورها منذ البدء إلى النهاية متصل بعضها ببعض، ومفسر بعضها لبعض، مع ملاحظة الاستدراك الذي أوردناه في آخر الفقرة (5) من الفصل الأول.
ففي كل سورة من سوره ومجموعة من مجموعاته، أو فصل من فصوله صورة لموقف من مواقف النبي من سكان بيئته من العرب وغير العرب ومن المشركين والكتابيين، أو صورة لموقف من مواقفهم منه ومن دعوته، أو صورة من صور مواقف النبي من الذين استجابوا للدعوة أو من مواقفهم منه، أو من مواقف الكفار منهم أو مواقفهم من الكفار أو صورة لتطورات جميع هذه المواقف، دعوة وتبيانا وبرهنة وتدليلا وعظة وتنبيها وتبشيرا وإنذارا، ووضعا وتشبيها وقصصا وأمثالا وترغيبا وترهيبا ووعدا ووعيدا، وجدالا وتحديا وعنادا ومكابرة واستكبارا وأذى، وتنديدا وتنويها وتسلية وتثبيتا وتطمينا وتعبيرا، وسؤالا وجوابا وجهادا وتشريعا إلخ وكل صورة معطوفة على صورة سابقة أو مرتبطة بصور لاحقة، في اتساق وانسجام تامين وضمن نطاق واحد مما يتضح لكل من ينعم النظر في القرآن ويقرأ سورة خاصة وفق تتابع النزول بقدر الإمكان.
وملاحظة ذلك مهمة جدا في فهم مواضيع القرآن وتقريراته ومداها وروحه وفي جعل الناظر فيه لا يبتعد عن حقيقة الواقع والباعث ويعصمه من التورط، ولا يتورط في التخمينات والتزيدات والجدليات وتحميل العبارات القرآنية ما لا تتحمله. وتوضيحا لذلك نقول إن في القرآن مثلا ما يفيد أنه جرى تبديل بعض الآيات ببعض وإنه نسخت بعض آيات أو أمور مأمورة بغيرها كما يدل على ذلك آيات النحل: [98- 105] والبقرة: [98- 105] ، وفيه ما يفيد أن أحكاما وأوامر وتشريعات عدلت أو نسخت أو تطورت كما تدل على ذلك آيات الأنفال: [65- 66] والمجادلة: [12- 13] والنساء: [15- 16] والنور: [2] ، وفيه تنوع في الخطاب للناس عامة مسلمين وغير مسلمين، سواء أكان ذلك في صدد الدعوة أم(1/142)
في صدد المواقف أم في صدد التبشير والإنذار والتمثيل والتشريع والهداية والضلال والكفر والإيمان والإحسان والإساءة حيث يكون الخطاب شديدا موئسا حينا ولينا مؤملا حينا، وجانحا حينا إلى تقرير كون الهداية والضلال والكفر والإيمان والإحسان والإساءة من مكتسبات المرء بما أودعه الله فيه من المواهب والقوى الاكتسابية والتمييزية وتقرير عودة التبعة فيها عليه حسنة أو سيئة من أجل ذلك، وجانحا حينا إلى تقرير كون ذلك من تقديرات الله الحتمية التي لا ينفع فيها إنذار ولا تبشير مما هو منبث في مختلف السور والفصول القرآنية، وفيه تقريرات شديدة ومؤئسة بالنسبة للكفار والمنافقين كما جاء في آيات يس: [8- 10] والبقرة: [6- 7] بالنسبة للأولين، والبقرة: [8- 18] والنساء: [137- 143] والمنافقون: [2- 6] بالنسبة للآخرين فيها جزم بمصيرهم الرهيب المحتوم من عدم الإيمان واستحقاق الخلود في النار مع أن كثيرا منهم بل أكثرهم قد آمنوا وحسن إيمانهم وتبدل مصيرهم إلى الثواب والنعيم واستحقوا التنويه والثناء، ونزل في صدد ذلك آيات قرآنية أخرى كما جاء في آيات الأنفال: [25] والنحل: [110] والفرقان:
[70- 71] إلخ وقد كانت هذه الأمور وما تزال مثار جدل وحيرة حول ما إذا كان يصح على الله المحيط بما كان ويكون والأزلي العلم والإرادة البداء أي الرجوع عن ما أنزله وقرره وأمر به وأراده ونسخه وتعديله وتبديله وتنويع مفهوم الاحتمالات والنصوص فيه، في حين أن ملاحظة صلة الوحي القرآني الوثيقة بالسيرة النبوية وأحداثها على تنوع صفحاتها وظروفها تجعل الناظر في القرآن يندمج في الوقائع والمقتضيات. وتجعله يعتقد أن الفصول القرآنية، إنما كانت تنزل حسب حوادث السيرة وظروف الدعوة، وأنه لما كانت هذه الحوادث والظروف عرضة للتطور والتبدل والتنوع فإنها تجعله يرى الحكمة واضحة في التبديل والتعديل والنسخ والتنويع والشدة واللين في الخطاب، وتجعله يرى أن الجدل في ذلك النطاق لا محل له ولا طائل من ورائه، لأن التطور والتنوع في الأحداث والظروف والأذهان متسقان مع طبائع الأمور ونواميسها التي فطر الله الكون عليها فلا بدع أن تقتضي حكمته أن يكون ذلك في التنزيل القرآني اتساقا مع هذه الطبائع والنواميس.(1/143)
والمدقق في آيات القرآن التي تفيد ذلك يجد القرآن يورد التقريرات المقتضية حسب الأحداث والظروف وتنوعها وتطورها على أسلوب الحكيم، فلا يدخل في نقاش جدلي إلا بمقدار الضرورة المتناسبة مع الموقف الواقعي، فيعلمنا بذلك الطريقة المثلى لفهم القرآن وروحه ومداه وظروف تنزيله وتنوعه وأسلوبه، وكون المهم فيه هو الإصلاح والتوجيه إلى خير الوجهات لظروف قائمة وأذهان وفئات ومواقف متفاوتة ومتنوعة ومتطورة، وينطوي ذلك في الوقت نفسه على التلقين والتوجيه المستمرين إلى الآماد التالية مما يرشح القرآن للخلود والشريعة القرآنية الإسلامية للعمومية والأبدية.
- 2- القرآن والبيئة النبوية:
وثانيا: إن الصلة قائمة ووثيقة بين ما كانت عليه بيئة النبي وعصره من تقاليد وعادات وعقائد وأفكار ومعارف وبين البعثة النبوية والسيرة النبوية، وبالتالي بين الوحي القرآني وبين ما كانت عليه هذه البيئة.
وهذه الصلة واضحة أولا من جهة أن الدعوة النبوية والوحي القرآني بوجه عام إنما اقتضتهما حكمة الله بسبب ما كان عليه الناس- وأهل بيئة النبي في مقدمتهم وهم المخاطبون الأولون- قبل البعثة من ضلال في فهم وإدراك وجوب وجود الله وكمال صفاته ونزاهته عن الشريك والولد واستغنائه عن الولي والمساعد ومطلق تصرفه في كونه، واستحقاقه وحده للعبودية والخضوع والاتجاه ووجوب نبذ ما سواه، ومن انحراف عن طريق الخير والحق والعدل والفضيلة ومن اختلاف عظيم في المذاهب والعقائد والطقوس، سواء في ذلك كله العرب وغيرهم، والكتابيون والمشركون، ثم بسبب أن ذلك ناشىء عن ما كان من تقاليد وعادات وأفكار ومعارف وأهواء وتأويلات ومفاهيم من ما احتواه القرآن من فصول الجدل والتنديد والتقريع في صدد هذه التقاليد والعادات والأفكار والمعارف والأهواء والتأويلات والمفاهيم التي احتوى القرآن إشارات كثيرة إلى كثير من صورها المتنوعة، وربط بينها وبين مواقف العرب والدعوة النبوية.(1/144)
يضاف إلى هذا المظهر القرآني العام نصوص قرآنية خاصة «1» في هذا المعنى وردت في مواضع عديدة وبأساليب متنوعة إذا تمعن القارئ فيها ظهرت له هذه الصلة ظهورا جليا. وتزيد في إيضاح ذلك بالأمثلة التالية:
1- في القرآن توكيدات بعدم جدوى الشفاعة والشفعاء عند الله إلا بإذنه ورضائه، وتنديدات باعتذارات المشركين عن عبادتهم لشركائهم واتجاههم إليهم في الدعاء والتضرع بأنهم إنما يتخذونهم شفعاء ووسائل قربى إلى الله، وقد كثرت في هذا الباب مما يدل على رسوخ هذا المفهوم في أذهان المشركين في بيئة النبي وعصره قبل البعثة.
2- إن آيات القرآن الواردة في طقوس الحج تفيد صراحة حينا وضمنا حينا آخر أنها كلها أو جلّها قد كانت ممارسة قبل البعثة النبوية فأقرت في الإسلام بعد تنقيتها من شوائب الشرك والوثنية، مع أن فيها ما لا يمكن فهم حكمة إقراره الآن مثل الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار واستلام الحجر الأسود وتقبيله إلخ فهذه الآيات متصلة بتقاليد الحج العربية قبل الإسلام ورسوخها وأهدافها، وفيها مظهر ما لوحدة العرب على اختلاف منازلهم ونحلهم حيث كانوا جميعهم يشتركون في الحج ومواسمه وتقاليده. وحرماته وأشهره الحرم، وحكمة إقرارها في الإسلام منطوية في ذلك الرسوخ من جهة وما كان له من فائدة وأثر في الوحدة المذكورة التي كان القرآن يدعو إليها من جهة ثانية ولعل قصد تأنيس العرب بالدعوة الإسلامية مما ينطوي في تلك الحكمة أيضا.
3- ليس في القرآن المكي حملات عنيفة على اليهود الذين كان يسكن منهم
__________
(1) اقرأ مثلا الآيات التالية: البقرة: [81- 85 و 107- 116 و 125- 129 و 158- 189 و 197- 203 و 219- 247 و 275- 283] ، وآل عمران: [59- 60 و 77- 78 و 93- 97] ، والنساء: [2- 12 و 19- 34 و 152- 161] ، والمائدة: [1- 5 و 12- 19 و 72- 80 و 90- 97 و 101- 104] ، والأنفال: [31] ، والنحل: [64] ، ولقمان: [21] ، والقصص: [51- 53] ، والشعراء: [192- 197 و 210- 212، 221- 223] ، ويوسف:
[111] ، وفصلت: [3] . [.....]
الجزء الأول من التفسير الحديث 10(1/145)
في الحجاز جاليات كبيرة، واكتفى فيه بذكر قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل الأولى مستهدفا بذلك ما استهدف بذكر قصص الأنبياء الأخرى، وقد جاءت تلك القصص بإسهاب أوفى مما جاءت هذه مما يمكن أن يكون الحكمة فيه وجود تلك الجاليات الكبيرة وصلتها الوثقى بالبيئة الحجازية العربية وسكانها. ولقد احتوى القرآن المكي آيات كثيرة فيها استشهاد بأهل الكتاب على صحة رسالة النبي بأسلوب يفيد أنهم شهدوا ويشهدون بذلك «1» ، وتحمل في ثناياها تنويها بهم، وتقرير الاتساق بينهم وبين الدعوة القرآنية والمستجيبين إليها، هذا في حين أن القرآن المدني احتوى حملات شديدة لاذعة على اليهود ووصف سوء أخلاقهم ودسائسهم ومكائدهم، ووصل حاضر هذه الأخلاق بأخلاق الآباء. فهذا متصل بدون ريب بحالة قائمة في البيئة النبوية وظروفها. فإنه لم يكن لليهود في مكة كتلة ذات مركز قوي راسخ في حين كان لهم ذلك في المدينة، ولم يقع بينهم وبين النبي في مكة بسبب ذلك احتكاك وتشاد في حين أن ذلك قد وقع في المدينة بسبب ما كان لهم في المدينة من كتلة قوية وقدم راسخة ومصالح حيوية ومركز ممتاز مما احتوت الآيات القرآنية وصفا لذلك.
ومن الممكن إيراد أمثلة كثيرة من هذا النوع الذي يبين صلة مما كانت عليه بيئة النبي بالبعثة النبوية والسيرة النبوية والتنزيل القرآني. وقد اكتفينا بهذه الأمثلة ونبهنا على أمثالها الكثيرة في سياق التفسير.
فملاحظة هذه الصلة مهمة جدا كسابقتها في فهم مواضيع القرآن وتقريراته وروحه ومداه، وفي جعل الناظر فيه يندمج في الوقائع ومقتضياتها، ولا يبتعد عن حقيقة الواقع والباعث ويعصمه عن أن يتورط في الجدل والتزيد وتحميل العبارات القرآنية ما لا تتحمله وما لا طائل من ورائه.
__________
(1) الأحقاف: [10] ، والأنعام: [114] ، والرعد: [36] ، والشعراء: [197] ، والقصص:
[51- 53] ، والعنكبوت: [47] .(1/146)
- 3- اللغة القرآنية:
ثالثا: إن لغة القرآن في مفرداتها وتراكيبها واصطلاحاتها وأساليبها وأمثالها وتشبيهاتها واستعاراتها ومجازاتها هي لغة البيئة النبوية وإنها مألوفة ومفهومة ألفة وفهما تامين من أهلها.
وليس الذي نعنيه بهذا تقرير قضية قد تكون بديهية في بعض الأذهان ولكن الذي نعنيه وجوب ملاحظة ذلك حين النظر في القرآن لأنه يساعد على فهم اصطلاحات لغة القرآن وأساليبها وأمثالها وتعبيراتها واستعاراتها ومجازاتها من جهة، وكون القرآن من جهة ثانية قد وجّه أول ما وجّه إلى أناس ألفوا لغته كل الألفة وفهموها كل الفهم، ووصلوا في عقولهم ومعارفهم وبيانهم ودقة تعابيرهم وبلاغة أساليبهم وفصاحة ألسنتهم، والاستمتاع بمتنوع أشكال الحياة المادية والمعاشية، والنفوذ إلى المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية والعلمية والأدبية إلى درجة غير يسيرة من الرقي متناسبة مع ما عبرت عنه وأشارت إليه وتضمنته لغة القرآن، مما هو نتيجة لازمة لكون القرآن إنما نزل بلسانهم، وكون لغة القوم هي أصدق مظهر لحياتهم المادية والعقلية والاجتماعية والدينية «1» . ثم نعني بالإضافة إلى هذا أن ينتفي من ذهن الناظر في القرآن المعنى الذي حلا لبعضهم أن ينوه به وهو انطواء بعض حروف القرآن وكلماته بل وبعض جمله وتعابيره وصور سبكه ونظمه على أسرار وألغاز ومعميات وكذلك المعنى الذي قرره بعضهم من علو طبقة اللغة القرآنية عن أفهام سامعيها إطلاقا دون استثناء، والمعنى الذي قرره بعضهم من أن لغة القرآن قد احتوت أو قصد أن تحتوي جميع لهجات ولغات العرب القديمة والحديثة مع لغات الأمم الأخرى.
ففي «الإتقان» للسيوطي فصول عديدة تشير إلى هذه المعاني ونذكر خاصة منها الفصل السابع والثلاثين كما أن كثيرا من الكتب الموضوعة عن القرآن وتفسيره
__________
(1) في عصر النبي وبيئته قبل البعثة بحوث مستفيضة في كل ذلك مقتبسة من الآيات القرآنية.(1/147)
قد احتوت تقرير هذه المعاني أيضا وفي الأقوال الواردة في تلك الفصول وهذه الكتب المروية أو الصادرة عن علماء قديمين كثير من التكلف والتزيد والتجوز والتخمين والتورط إن لم نقل التحريف.
ولقد جاء فيما جاء في فصول «الإتقان» نقلا عن كتاب «الإرشاد» للواسطي في صدد تعدد اللغات التي احتواها القرآن أن في القرآن خمسين لغة وهي لغات قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس وعيلان وجرهم واليمن وأزد شنؤة وكندة وتميم وحمير ومدين ولخم وسعد العشيرة وحضر موت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبني حنيفة وتغلب وطي وعامر بن صعصعة والأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلي وعذره وهوازن والنمر واليمامة ومن غير العربية الفارسية والرومية والنبطية والحبشية والبربرية والسريانية والعبرانية والقبطية.. ولو عرف القائل قبائل عربية وأمما غير عربية أخرى غير الذي ذكره لأوردها أيضا.. وزاد غيره تفريعا فقال إن فيه من لغة بلي لغات الطائف وثقيف وهمدان ونصر بن معاوية وعك وليس هذا كل ما قيل وإنما هو أوسع ما قيل فإن في فصول «الإتقان» أقوالا كثيرة في هذا الباب. وكلام القائلين ليس هو من قبيل تقرير ما قد يكون معقولا وصحيحا من أن لغة القرآن التي هي لغة قريش متطورة مع الزمن عن لغات العرب قبل نزوله، ومن أن في القرآن ألفاظا معربة عن اللغات الأجنبية أعلاما وغير أعلام دخلت على اللغة العربية القرشية وجرت مجراها وصارت جزءا منها قبل نزوله كذلك، بل بقصد تقرير أن ذلك التعدد واقعي وأنه إنما كان أولا بسبب أن القرآن حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بدّ من أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا وثانيا بسبب أنه امتاز عن غيره من سائر الكتب المنزلة فنزلت هذه بلغة القوم الذين أنزلت عليهم ولم تدخل فيه لغة من لغات غيرهم في حين أن القرآن احتوى جميع لغات العرب والعجم. وثالثا بسبب أن النبي محمدا عليه السلام مرسل إلى كل أمة وقوم وقد قال الله وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] فلزم أن يكون(1/148)
في الكتاب المنزل عليه شيء من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو.
وجميع هذه المعاني لا تصح في حال. فمن ناحية علو طبقة القرآن عن أسماع الناس وأفهامهم أو انطواء حروفه وكلماته على أسرار وألغاز ومعميات فإن في القرآن نصوصا حاسمة تنفي ذلك حيث تنص على أنه أنزل بلسان مبين أي واضح مفهوم وإن آياته قد فصلت تفصيلا، وإنه أنزل ليتدبره السامعون ويعقلوه ويفهموه ويحلون به ما يختلفون فيه كما أنه كان موجها إلى كل طبقة من أهل بيئة النبي عليه السلام يحكي كلامهم وأسئلتهم ويرد عليها مجيبا أو منددا أو مكذبا أو ملزما أو واعظا أو مشرعا أو في هذا ما يتنافى كذلك مع تلك المعاني. وهذا فضلا عن أنها غير متسقة مع مهمة النبي المكلف بمخاطبة مختلف الطبقات والمأمور بتبليغ ما أنزل إليه من ربه لهم والذي كان يتلوه على الناس كافة من مختلف الفئات في جميع ظروف سيرته الشريفة في عهديها المكي والمدني وأنها غير متسقة مع كون القرآن هدى للناس كافة يؤمرون باتباع ما أنزل فيه وتدبر آياته والتروي في أحكامه ومحتوياته، ويقال لهم فيه إنه مرجعهم في مختلف شؤونهم، ومنه يستمدون تشريعهم وأخلاقهم ونذرهم وبشائرهم وحلول مشكلاتهم إلخ. ومن ناحية احتواء القرآن مختلف لهجات ولغات الأمم عربها وعجمها وقديمها وحديثها على المقصد الذي شرحه القائلون فإنه لا يتسق في حال مع نصوص القرآن المطلقة والمتعددة بأنه أنزل بلسان عربي وجعل لسانا عربيا وإنه أنزل بلسان النبي العربي القرشي ولا مع نصّ حديث البخاري في صدد نسخ المصاحف في عهد عثمان الذي احتوى تقريرا صريحا بأنه إنما أنزل بلغة قريش.
ومن هذا الباب ما قيل حتى أصبح مستفيضا وحجة خطابية حاضرة من أن الله كما أرسل موسى في ظرف ارتقى فيه السحر وشاع بمعجزة تشبه السحر وليست سحرا فغلب الساحرين، وأرسل عيسى في ظرف ارتقى فيه الطب وشاع بمعجزة تشبه الطب فأتى بما يعجز الطب والأطباء فإنه أرسل محمدا بالقرآن فائقا على بلاغة البلغاء في ظرف كانت سوق الفصاحة فيه رائجة، وبلاغة الكلام فيه قد وصلت إلى أعلى الذرى نظما ونثرا فقصر عنه البلغاء والفصحاء وكان فيه معجزته، فهذا القول(1/149)
مع ما في ارتقاء السحر وشيوعه والطب إلى أعلى الذرى في عهدي موسى وعيسى من محل نظر وتوقف- يعني أن القرآن قد قصد به أن يكون معجزا في فصاحته وبلاغته اللغوية والنظمية والفنية كأنما هو معلقة من معلقات الشعر الخالدة، أو قد قصد به أن يكون أعلى من مستوى أفهام الناس وبلاغة بلغائهم. وهذا لا يصح في اعتقادنا على ما ذكرناه آنفا والقرآن يقرر أنه إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ «1» وهذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ «2» إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «3» ووَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» وفَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «5» ووَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «6» ووَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «7» وإِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «8» إلخ.
يضاف إلى هذا أن القرآن في لغته وسبكه وأساليبه واصطلاحاته ومفهوماته وإشاراته ليس مغلقا أو غامضا أو معقدا أو صعبا على متوسط الأفهام والأذهان، وأنه كان يفهمه مختلف أوساط العرب حضرهم وبدوهم بل والمستعربون المقيمون
__________
(1) سورة يس، الآية: [69- 70] .
(2) سورة إبراهيم، الآية: [52] .
(3) سورة الإسراء، الآية: [9- 10] .
(4) سورة الإسراء، الآية: [82] .
(5) سورة مريم، الآية: [97] .
(6) سورة النحل، الآية: [64] .
(7) سورة النحل، الآية: [44] .
(8) سورة الزمر، الآية: [42] .(1/150)
في الحجاز أو الوافدون على النبي عليه السلام من البلاد المجاورة من عرب ومستعربين أيضا. ففي القرآن آيات كثيرة تشير إلى أنّ النبي كان يتلو آيات القرآن على مختلف طبقات الناس كما جاء في آيات الكهف [27] والنمل [92] والعنكبوت [45] والأحقاف [28- 30] والجن [1] مما هو متسق مع مهمته، وإن منهم من كان يقول إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 25] وإِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25] وقَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31] ولقد تكرر في القرآن المكي والمدني الإشارة إلى أهل الكتاب وأهل العلم وفي بعض الآيات ما يفهم أن من هؤلاء من جاء خصيصا ليجتمع بالنبي ويستمع للقرآن وقد كان منهم من تفيض عيونهم من الدمع ويخرون خشعا سجدا من تأثير ما يسمعون منه ويعلنون إيمانهم وتصديقهم به «1» مما يلهم أنهم كانوا يسمعون كلاما يفهمونه مع أنهم جاؤوا من نجران اليمن أو بلاد الشام أو الحبشة حسب ما أوضحته الروايات، كما أن اليهود الإسرائيليين والنصارى غير الحجازيين والذين يمتون أو يمتّ أكثرهم إلى أصول غير عربية والذين كانوا متوطنين في مكة والمدينة كانوا ممن وجهت إليهم الدعوة وكان القرآن يتلى عليهم ويفهمونه وقد اندمجوا في ظروف السيرة النبوية إيجابيا وسلبيا. وإذا كان يبدو اليوم فيه شيء من ذلك أو إذا كان بدا فيه شيء من ذلك منذ قرون عديدة سابقة أو إذا كان يبدو فيه اليوم وقبل اليوم كذلك مفردات غريبة على الأسماع والمألوف فإن هذا كله إنما نجم عن بعد الناس عن جوّ نزول القرآن وزمنه وجو لغته وجو البيئة التي نزل فيها من جهة، وعن ما طرأ على اللسان العربي من الفساد من جهة، وعن ما كان من اندماج كثير من غير العرب في العروبة ولغتها وتعلّمها تعلّما لا يمكن أن يقوم مقام السليقة الأصلية في بنيها الأصليين من جهة.
ولقد احتوى نصوصا كثيرة تقرر المرة بعد المرة ما هو عليه من وضوح وإبانة وإحكام وتفصيل ويسر فهم وسهولة إدراك في معرض التنديد بالمكابرين
__________
(1) اقرأ آيات المائدة: [81- 84] ، والإسراء: [107- 109] ، والقصص: [52- 55] مثلا.(1/151)
والجاحدين والمجادلين «1» وهذا إنما هو ملزم مفحم لأن اللغة التي يسمعونها واضحة بينة مما ألفوه كل الألفة وليس فيها غموض ولا تعقيد وإشكال، ولا علوّ عن الأفهام لا من ناحية النظم والسبك واللغة ولا من ناحية المعنى والمفهوم والدلالة.
ونريد أن نستدرك شيئا. فإننا لسنا نعني بما نقرره أننا نشك في إعجاز القرآن وعلوّ طبقته اللغوية والنظمية كما أن كلامنا لا يقتضي ذلك فإعجاز القرآن لا يحتمل شكا، فهو مقرر في القرآن وثابت فعلا بعجز أي كان عن الإتيان بمثله أو بشيء من مثله رغم تكرر التحدي، والإيمان بذلك واجب، وعلوّ طبقته بارز بروزا في غنى عن التدليل، ولم يبق العلماء الثقات في تقرير ذلك محل زيادة لمستزيد غير أن الذي نعنيه أن إعجاز القرآن وعلوّ طبقته وروعة أسلوبه لا تقتضي أن يكون أعلى من مستوى أفهام العرب الذين خوطبوا به ووجّه إليهم، ولا أن يكون أبعد من متناول إدراكهم ولا أن تكون مفرداته ومضامينه وتراكيبه غير مألوفة لديهم، ولا أن يكون قد قصد به أن يكون معجزا في بلاغته اللغوية والنظمية والفنية، والفرق كبير بين المعنيين كما هو واضح فيما يتبادر لنا. ولعلّه مما يصح أن يذكر في هذا المقام على سبيل التمثيل والتقريب- ولله ولكتابه ونبيه المثل الأعلى- كاتب ذو أسلوب راق شائق قوي النفوذ يجعله في الطبقة الأولى أو ذروتها في حين يكون سهل التناول غير غامض ولا معقد، يستطيع أن يسيغه مختلف القراء وأواسطهم، بل وإن هذا الأسلوب ليكون دائما أحسن الأساليب وأفصحها وهو الذي يسميه البيانيون بالسهل الممتنع. هذا عدا عن أن إعجاز القرآن فيما نعتقد ليس من ناحية نظمه وأسلوبه اللغويين فحسب بل هو أيضا من ناحية روحانيته النافذة الباهرة التي تنفذ إلى أعماق عقل الإنسان وقلبه وروحه، ونعتقد أن لهذا الاعتبار الأول في إعجازه، وأن التحدي وتقرير عدم إمكان الإتيان بمثله أو بشيء من مثله إنما هو «للقرآن»
__________
(1) النساء: [82] ، والأنعام: [155- 157] ، وهود: [1- 2] ، ويونس: [1- 2] ، والحجر:
[6] ، والنور: [1] ، والشعراء: [1- 2] ، والفرقان: [1] ، والنمل: [1- 2] ، والعنكبوت:
[51- 52] مثلا.(1/152)
وهذا هو التعبير الذي استعمل في القرآن. الذي كما هو لغة وأسلوب هو كذلك معان ودعوة قوية نافذة باهرة في مداها ومضمونها وشمولها وسعة أفقها وروحانيتها التي وصف أثرها القرآن نفسه بهذا الوصف:
1- لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ..
الحشر: [21] .
2- اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.. الزمر: [23] .
3- وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الإسراء: [82] .
ثم التي وصف أثرها القرآن في أهل العلم والنية الحسنة من الكتابيين بهذا الوصف القوي النافذ:
1- وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ المائدة: [83- 84] .
2- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.. الرعد: 36.
3- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً.. الإسراء: [107- 109] .
4- وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا.. القصص: [53] .
ولعل من الدلائل على أن لغة القرآن ولغة بيئة النبي شيء واحد- ونعني المفردات والمصطلحات والتراكيب- حكاية القرآن لكلام الكفار وغير الكفارة وردّه عليهم، والأحاديث الكثيرة جدا الواردة عن النبي وأصحابه التي لا فرق بين لغتها ولغة القرآن بل ولقد رويت أحاديث تذكر أن بعض الصحابة والكفار قالوا كلاما(1/153)
بعينه فنزل القرآن بنفس النظم الذي صدر عنهم منها:
1- حديث روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لنساء النبي حينما تآمرن على النبي بسائق الغيرة: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن.
2- حديث بخاري مروي عن زيد بن أرقم أنه سمع عبد الله بن أبيّ يقول «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله» ويقول «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ... » .
وآيات سورة المنافقون: [7- 8] وسورة التحريم: [5] قد احتوت هذه النصوص كما هو معلوم.
ونحن نرى هذا بديهيا ومن تحصيل الحاصل، ولكنا أثبتناه لأن فكرة أن هناك فرقا عظيما بين لغة القرآن ولغة أهل بيئة النبي وأن تلك اللغة أعلى من مستوى أفهام هؤلاء قوية الرسوخ.
ومما يقوم شاهدا قرآنيا على هذا الذي نقرره في هذه النقطة خاصة ما جاء في بعض الآيات من حكاية لأقوال الكفار في القرآن مثل إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ «1» ووَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.. «2»
وقالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.. «3» .
فهذه النصوص تتضمن قرائن حاسمة على أن سامعي القرآن وخاصة الطبقة المتزعمة والنبيهة التي كانت تتولى كبر المعارضة وقيادتها كانوا يسمعون كلاما يفهمونه كل الفهم بجميع دقائقه، لا يعلو عن أفهامهم ولا يبعد عن مألوفاتهم ويرونه شبيها بأقوال الناس بل ويصفونه بأنه كذلك..
ونريد كذلك أن ننبه على نقطتين أخريين:
__________
(1) سورة المدثر، الآية: [25] .
(2) سورة الفرقان، الآية: [5] . [.....]
(3) سورة الأنفال، الآية: [31] .(1/154)
فأولا: إن ما قلناه من فهم المخاطبين العرب على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم للقرآن لا يقتضي أن يكون متناقضا مع ما هو مقرر بصورة حاسمة من أن لغة القرآن هي لغة قريش فالقرآن وجّه أول ما وجّه إليهم وإلى القبائل والمدن الحجازية كما جاء في آيتين متماثلتين في سورتي الأنعام والشورى وهما:
1- وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها.. الأنعام: [92] .
2- وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها الشورى: [7] .
على أن لغة قريش من جهة أخرى كانت إجمالا في عهد البعثة النبوية لغة العرب جميعهم على اختلاف منازلهم أو على الأقل مفهومة من العرب جميعهم بسبب ما كان من اشتداد التحاك بين قريش وسائر العرب في مواسم الحج التي كان يشترك فيها العرب جميعهم والتي كانت تقام قبل البعثة النبوية بمدة طويلة وبسبب وحدة الأصل من حيث المبدأ. ولعلّ في آية الشورى الآنفة الذكر خاصة دلالة أو قرينة على ذلك حيث وصفت القرآن بالعروبة مع إشارتها إلى مهمة الرسول في إنذاره مكة ومن حولها وقد وصف القرآن بهذا الوصف في آيات مكية عديدة أخرى كما ترى فيما يلي.
1- إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.. يوسف: [2] .
2- وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا الرعد: [37] .
3- نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: [192- 195] .
4- وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.. الزمر: [27- 28] .
5- كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فصلت: [3] .(1/155)
6- إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف: [3] .
مما يدعم النقطة التي قررناها. وكذلك مما يدعمها أن القرآن وصف غير العربية بالأعجمية كما ترى فيما يلي:
1- وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ النحل: [103] .
2- وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فصلت:
[44] .
بحيث يستفاد من ذلك أن العربية كانت حينما تطلق تشمل لغة العرب جميعهم، وأنه لم يكن للعرب جميعهم لغة غير اللغة التي نزل بها القرآن وأن لغة قريش التي هي لسان النبي الذي ذكر القرآن أن الله قد يسّر القرآن به أي لغته كانت هي لغة العرب جميعهم.
وثانيا: - إن ما قلناه من أن كل كلمة في القرآن كانت مفهومة من العرب على حقيقة مداها ومعناها لا يقتضي أن يكون مناقضا لما هو طبيعي فرضا وواقعا وبديهة من وجود كلمات فيه لا يفهم مداها ومعناها إلا الفئات الخبيرة النيرة منهم بل ومن وجود كلمات قد لا يكون سمعها أو قد يجهلها بعض أفراد من هذه الفئات نفسها، ومن وجود أفراد قليلين أو كثيرين أو قبائل برمتها تجهل المعنى الحرفي لقليل أو كثير من مفردات القرآن بل ومن بعض تعابيره كذلك. وهذه الظاهرة مشاهدة ملموسة في كل ظرف وقطر ومن كل فئة بما فيها الفئات المتعلمة ومع ذلك فمن المشاهد الملموس أن الناس على اختلاف فئاتهم وثقافاتهم وخاصة أواسطهم لا يعيبهم أن يفهموا ما يقرأونه من رسائل وكتب وصحف ويسمعونه من خطب وإذاعات. وطبيعي أن العرب في عصر النبي وعهد بعثته لم يكونوا ليخرجوا عن نطاق هذه الظاهرة، وإذا روي عن بعض الصحابة جهلهم لمعنى كلمة من الكلمات القرآنية فلا يكون في ذلك غرابة ما بقطع النظر عن صحة الرواية متنا وسندا.(1/156)
ومن هذه البيانات تتجلى فائدة الملاحظة التي هي موضوع البحث الأصلي مهما بدت للبعض بديهية، حيث تجعل الناظر في القرآن يندمج في جو لغته وأساليبه واصطلاحاته التي هي لغة عهد نزوله وأساليبه واصطلاحاته ولغة ظروف هذا العهد فينجلي له كثير من الأمور والمعاني على وجهها وحقيقتها، ولا ينجرّ إلى معان ومدى ومفهومات وتزيدات وتكلّفات وتخمينات ومعميات لا تتحملها نصوص القرآن وأساليبه ودلالاته وظروف نزوله ومهمة من أنزل عليه.
- 4- القرآن أسس ووسائل:
رابعا: إن محتويات القرآن نوعان متميزان وهما الأسس والوسائل، وإن الجوهري فيه هو الأسس لأنها هي التي انطوت فيها أهداف التنزيل القرآني والرسالة النبوية من مبادئ وقواعد وشرائع وأحكام وتلقينات مثل وجوب وجود الله تعالى ووحدته وتنزهه عن كل شائبة وشريك وولد واتصافه بجميع صفات الكمال ومطلق التصرف في الكون واستحقاقه وحده العبادة والخضوع ونبذ كل ما سواه والقيام بالواجبات التعبدية له، ومثل المبادئ والأمر والنواهي والتشريعات والأحكام والتلقينات الكفيلة بصلاح الإنسانية وطمأنينتها والتعاون الأخوي التام بينها أفرادا وجماعات وسلبية وإيجابية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وحقوقية وسلوكية واقتصادية والنهي عن كل ما يناقض ذلك.
أما عدا ذلك مما احتواه القرآن من مواضيع مثل القصص والأمثال والوعد والوعيد والترهيب والترغيب والتنديد والجدل والحجاج والأخذ والرد والتذكير والبرهنة والإلزام ولفت النظر إلى نواميس الكون ومشاهد عظمة الله وقدرته ومخلوقاته الخفية والعلنية مثل الجن والإنس وإبليس والشيطان ومشاهد الرؤية فهي وسائل تدعيمية وتأييدية إلى تلك الأسس والأهداف وبسبيلها.
ومع أن جل هذه الوسائل ممّا له صلة ببيئة النبي وعصره من جهة والسيرة النبوية من جهة وبفهمها، وأن منها ما يتصل بالأسس والمبادئ من بعض(1/157)
النواحي كنتائج لها مثل الحياة الأخروية ومشاهدها وأهوالها ونعيمها وعذابها والملائكة والجن ومعجزات الأنبياء مما يدخل في الغيبيات الإيمانية من جهة، ومع أنها قد شغلت حيزا كبيرا أو بالأحرى الحيز الأكبر من القرآن فإن من فائدة هذه الملاحظة أن تجعل الناظر في القرآن يقف عند الأهداف والمبادئ ويعتني العناية الكبرى بتجليتها وإبرازها، ولا يحمل الوسائل والتدعيمات ما لا ضرورة لتحميلها إياه ولا يترك لها المجال لتغطي على تلك، وتكون له شغلا شاغلا مستقلا بحيث يستغرق فيها مثل استغراقه في الأسس فضلا عن استغراقه فيها أكثر من استغراقه في هذه مما هو واقع ومشاهد كالانشغال مثلا في ماهية القصص القرآنية والنواميس الكونية، أو ماهية الملائكة والجن أو ماهية مشاهد الحياة الأخروية، وبحيث يغفل عن هدفها الرامي إلى تدعيم الأسس والأهداف مما يؤدي به إلى إهمال التدبر بالجوهري والتورط فيما لا طائل من ورائه والوقوع في الحيرة والبلبلة دون ما ضرورة.
وننبه على أن هذا التقسيم بالمعنى الذي نقرره مستلهم بوجه عام من روح القرآن وأسلوبه وآياته، مما يستطيع أن يلمسه كل من أنعم النظر فيها، حيث يجد أنه لم ترد قصة أو مثل أو موعظة أو حملة تنديد وإنذار أو إشارة تنويه بملكوت الله وعظمته والدعوة إلى التفكير في آلائه أو ذكره للملائكة والجنّ أو تذكير بما كان من دعوة سابقة ومعجزات نبوية خارقة، أو تنبيه إلى الحياة الأخروية ومشاهدها ونتائجها المبهجة أو المزعجة إلا بعد تقرير تلك الأسس والأهداف أو شيء منها والدعوة إليها، أو بيان الحق والخير والصلاح والسعادة فيها، أو حكاية مواقف الكفار منها أو تثبيت النبي والمسلمين فيها وتصبيرهم عليها، وهذا من مميزات الأسلوب القرآني وخصوصياته بالنسبة لسائر الكتب المنزلة، وحيث يجد أن هذه الأسس والأهداف تظل محكمة ثابتة مع ما هو طبيعي من اختلاف مواقف النبي وتنوعها بالنسبة لفئات الناس والعقول والظروف في حين أن ما هو من باب الوسائل والتدعيمات يتنوع ويختلف أسلوبا ومدى وتعبيرا مع اختلاف تلك المواقف وتنوعها وهذا خاصة من شأنه أن يكون مقياسا وضابطا للتفريق بين(1/158)
القسمين القرآنيين، بل ومن شأنه أن يحل ما يتوهمه الناظر في القرآن من إشكالات قرآنية في الأسلوب والمدى والتعبير أيضا.
وهو مستلهم بوجه خاص من بعض نصوص صريحة في القرآن- مع ملاحظة ما قد يكون لها من خصوصيات زمنية يأتي في مقدمتها وقد يكون أقواها مدى وأوضحها دلالة آية آل عمران السابعة هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ...
وهذه الآية نزلت في سياق الردّ على وفد نصراني تناظر مع النبي عليه السلام في أمر المسيح فسأله الوفد ألا يقول القرآن إن المسيح كلمة الله وروح منه قال بلى قال فهذا حسبنا. فنزلت الآية تندد بالوفد الذي ترك الأصل القرآني المحكم وهو أن الله واحد لا يصح أن يكون له ولد ولا شريك وجنح إلى التأويل الفاسد لبعض النصوص التي أنزلت بقصد التقريب والتمثيل.
وعلى خصوصية الآية من حيث المناسبة فإنها جاءت بأسلوب تقريري عام لتكون شاملة الحكم والمدى، بحيث يصح أن يستلهم منها بقوة أن القرآن قسمان متميزان أحدهما محكم أساسي ثابت لا يحتمل تأويلا ولا تنوعا ولا وجوها افتراضية وتقريبية، وثانيهما متشابهة بسبيل التقريب والتمثيل والإلزام والبرهنة ويحتمل التأويل والتنوع والوجوه الافتراضية.
ولسنا منفردين في هذا التخريج فقد سبق إليه كثير من أعلام العلماء والمفسرين على تنوع أقوالهم واختلاف مدى السعة والضيق فيها «1» وقد روي عن ابن عباس «2» في صدد الآية أن المحكم هو ناسخ القرآن وحلاله وحرامه وحدوده
__________
(1) «تفسير المنار» ج 3.
(2) «الإتقان» للسيوطي.(1/159)
وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به وأن المتشابه هو منسوخ القرآن ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وقد نوّه للأول بآيات الأنعام: 151- 153 والإسراء: 23- 38 التي هي مجموعات رائعة من المبادئ والأهداف التوحيدية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية.
وفي سورة محمد آية يصح أن تكون دليلا قرآنيا وهي هذه:
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) .
حيث يلهم نصّها أن معنى «محكمة» هو الفرض الأساسي الحاسم من فروض القرآن وتكاليفه.
وفي القرآن آيات كثيرة جدا يبرز فيها تأييد هذا المعنى كآيات البقرة: [12- 26] والأعراف: [57- 58] والكهف: [54- 59] وطه: [113] والعنكبوت:
[40- 49] والروم: [20- 28] والزمر: [9- 29] والحاقة: [4- 52] والمعارج: [11- 44] والمدثر: [30- 47] إلخ.
وهو متسق مع حكمة بعثة الرسل وهي هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور والدعوة التي دعوا إليها وهي الدعوة إلى الله وحده وإلى مكارم الأخلاق والمبادئ التي يقوم عليها صلاح الإنسانية وسعادة الناس في الدارين. أما ما ظهر على أيدي الرسل من معجزات وما صدر عنهم الوحي الرباني من نذر وبشائر ووعد ووعيد وتذكير وتمثيل وقصص ومواعظ فإنه بسبيل تلك الحكمة وإعلائها وتجليتها والإقناع بها والتوجيه إليها كما يبدو واضحا وبديهيا عند ذوي الألباب والرؤية.
ومما يزيد ما نقرره قوة ووضوحا ما يلاحظ من تطور التنزيل القرآني وتطور إطلاق تعبير «القرآن» على أجزاء القرآن وسوره وفصوله. فالقرآن يطلق كما هو معروف على مجموعة السور التي بين دفتي المصحف، غير أن هذا التعبير قد بدىء(1/160)
باستعماله منذ مبادئ نزول القرآن، وبدىء بإطلاقه على ما كان ينزل من مجموعاته قبل تمامه، بل قبل أن ينزل منه إلا القليل ثم ظلّ يطلق على ما كان ينزل منه وما يجتمع من مجموعاته إلى أن تمّ تمامه بوفاة النبي عليه السلام كما يفهم من آيات المزمل: [4] وق: [1] والبروج: [21] وص: [3] والجن: [1] والفرقان:
[32] وطه: [114] والواقعة: [77] والنمل: [1] والإسراء: [9] ويونس: [82] والحجر: [1] إلى كثير غيرها من السور المكية «1» ثم ظل يطلق في السور المدنية على ما نزل وكان ينزل كما يفهم من آيات البقرة: [2] وآل عمران: [3- 4] والنساء: [82] والحشر: [21] ومحمد: [24] وغيرها..
والمعقول والواقع أن الآيات والسور القرآنية التي نزلت قبل غيرها قد احتوت في الأكثر أسس الدعوة ومبادئها وأهدافها واقتصرت أو كادت تقتصر على التبشير بها وإنذار الذين لا يستجيبون إليها ولم تتوسع في الوسائل كما ترى في سور الفاتحة والأعلى والشمس والليل والعصر والإخلاص والتكاثر والتين والقارعة، مما يؤيد أن الأهداف والأسس هي المقصودة الجوهرية في القرآن أولا.
وقد خلت هذه السور وأمثالها أو كادت تخلو من العنف مما هو طبيعي لأن الدعوة وأهدافها ومبادئها هي التي يجب أن تعرض أولا وتنشر دون ما عنف ولا جدال، ثم أخذت الفصول التالية لها تحتوي إلى جانب تقرير المبادئ والأهداف والتوسع فيها حملات عنيفة على الجاحدين والكافرين والصادين وحكاية مواقفهم وإنكارهم لصحة الوحي القرآني كما أخذت تتوسع في الوسائل التدعيمية من قصص وأمثال ووصف نواميس ومشاهد وذكر غيبيات إيمانية إلخ مما هو طبيعي كذلك، لأن الجحود والجدل والإنكار والشك والاستغراب والأذى والصدّ والتحدي والتحريض إنما وقع بعد عرض الدعوة وتقرير الأهداف، ولأن مواقف الجاحدين والمفكرين والشاكين والمستغربين والمترددين والصادين والمكابرين والمتحدين استتبعت التوسع في الوسائل التدعيمية والتأييدية. ولقد احتوت الفصول التالية
__________
(1) هذه السور من السور المكية المبكرة بالنزول قليلا أو كثيرا.
الجزء الأول من التفسير الحديث 11(1/161)
المذكورة جدلا وحجاجا بين النبي والكفار حول «القرآن» وصحة الوحي الرباني مثل آيات القلم: [9- 15] والتكوير: [19- 29] والفرقان: [1- 6 و 32] والشعراء: [192- 226] والإسراء: [45- 47 و 105- 111] ويونس: [15- 17 و 37- 40] وهود: [13- 14] والسجدة: [1- 3] وسبأ: [31] وفصلت:
[40- 45] إلخ، والمعقول أن يكون الكفار قد جادلوا في أول الأمر في ما احتوته الأجزاء الأولى من القرآن وكادت تقتصر عليه من الأسس والمبادئ وكفروا بنبوة النبي وصحة الوحي الرباني فأخذت هذه الآيات وأمثالها تحكي أقوالهم وترد عليها ردودا مفحمة، وتضرب لهم الأمثال وتذكرهم بمن سبقهم من الأمم والأنبياء وتتوعدهم وتنذرهم بالآخرة وهولها وعذابها. وتتحداهم وتندد بما هم عليه من ضلال وسخف، وتبشر المستجيبين بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة وتثبتهم وتصبرهم وتسلي النبي وتطمئنه إلخ ثم استمر الأمر على ذلك كله مع تنوع في الأساليب حسب تنوع المواقف وتجددها فالإنذار والتبشير والتنديد والتنويه والوعد والوعيد والقصص والأمثال والإلزام والإفحام والجدال إنما هو كما هو واضح جاء تبعا للأسس والمبادئ والأهداف ودار حولها، بسبيل التدعيم والتأييد اللذين اقتضتهما ظروف السيرة والدعوة ومواقف الناس مسلميهم وكفارهم من تلك الأسس والمبادئ والأهداف التي هي الأصل والجوهر في التنزيل القرآني.
- 5- القصص القرآنية:
خامسا: إن ما ورد من قصص وأخبار متصلة بالأمم السابقة وأحداثها أولا لم يكن غريبا عن السامعين إجمالا، سماعا أو مشاهدة آثارا أو اقتباسا أو تناقلا، وسواء منه ما هو موجود في أسفار كتب الكتابيين وغيرهم المتداولة مماثلا أو زائدا أو ناقصا أو مباينا لما جاء في القرآن. أم ليس موجودا فيها مما يتصل بالأمم والأنبياء الذين وردت أسماؤهم فيها مثل قصص إبراهيم المتعددة مع قومه وتسخير الجن والريح لسليمان وقارون والعبد الصالح مع موسى ومائدة المسيح، أو(1/162)
مما يتصل بغيرهم من الأمم والبلاد العربية وأنبيائهم مما لم يرد أسماؤهم فيها مثل قصص عاد وثمود وسبأ وتبع وشعيب ولقمان وذي القرنين. وثانيا لم يورد للقصة بذاتها وإنما ورد للعظة والتمثيل والتذكير والإلزام والإفحام والتنديد والوعيد.
وفي القرآن شواهد وقرائن ونصوص عديدة مؤيدة للنقطة الأولى مثل ما جاء في آيات سورة الروم: [9] وسورة غافر: [21] وسورة الحج: [45- 46] وسورة الصافات: [133- 138] وسورة القصص: [58] وسورة الفرقان: [40] وسورة العنكبوت: [38] وسورة هود: [100] وسورة إبراهيم: [45] .
وفي أسلوب القصص القرآنية الذي لم يكن سردا تاريخيا كما هو الحال في قصص التوراة والذي تخلله الوعظ والإرشاد والتبشير والإنذار بل والذي جاء سبكه وعظا وإرشادا وتبشيرا وإنذارا، ثم في سياق إيراد القصص عقب التذكير والتنديد والتسلية والتطمين والموعظة وحكاية مواقف الكفار وعنادهم وحجاجهم أو بين يدي ذلك، وتكرارها لتنوع المواقف النبوية دعوة وحجاجا وتنديدا وبيانا وعظة سنين طويلة وتجاه فئات مختلفة تأييد للنقطة الثانية، يضاف إلى هذا ما في القرآن من شواهد ونصوص خاصة وكثيرة أيضا مما يؤيدها كما يبدو واضحا لمن يتمعن في آيات الأعراف: [101 و 163- 166 و 175- 177] والمائدة: [28- 33] والأنفال: [53- 54] والتوبة: [69- 70] ويونس: [12- 13 و 71- 98] وهود: [100- 103] ويوسف: [111] والرعد: [38- 42] وإبراهيم: [9- 14] ومريم: [54- 63] وطه: [99- 101] والفرقان: [35- 40] والنمل: [45- 58] والقصص: [1- 6 و 58- 59] والعنكبوت: [37- 41] ويس: [13- 31] وص: [12- 17] . واللازمة التي اتبعت بكل قصة في سورة الشعراء وهي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) . وهناك آيتان في سورتي الأنبياء والقصص جديرتان بالتنويه بصورة خاصة لما فيهما من دلالة قوية على أن العرب كانوا يعرفون أخبار الأنبياء ومعجزاتهم وهما هاتان:
1- بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما(1/163)
أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ...
الأنبياء: [5] .
2- فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا «1» أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى.. القصص: [47] .
وحكمة النقطة الأولى ظاهرة جلية فيما يتبادر لنا. فالمخاطبون إنما يتأثرون بما احتوته الحادثة أو القصة التي تورد عليهم من موعظة أو مثل أو تذكير وزجر وتنبيه ودعوة إلى الاعتبار والارعواء والتأسي والتدبر في العاقبة إذا كانت مما يعرفونه أو مما يعرفه بعضهم جزئيا أو كليا مفصلا أو مقتضبا. أما إذا لم يكونوا يعرفونه فإنه لا يأتي مستحكم الإلزام والإفحام والتأثير والعبرة، ولا سيما على مخاطبين كافرين بأصل الدعوة التي يراد التذكير بمواقف الغير والسابقين من مثلها وبمصائرهم بسبب هذه المواقف أو جاهلين للحادثة التي يراد استخراج العبرة من سيرها وظروفها وعواقبها.
وهذه الملاحظة مهمة وجوهرية جدا، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في ماهيات ووقائع ما احتوته القصص التي لم تقصد لذاتها، وأن تغنيه عن التكلف والتجوز في التخريج والتأويل والتوفيق أو الحيرة والتساؤل في صدد تلك الماهيات والوقائع، وأن تجعله يبقي القرآن في نطاق قدسيته من التذكير بالمعروف والإرشاد والموعظة والعبرة ولا يخرج به إلى ساحة البحث العلمي وما يكون من طبيعته من الأخذ والرد والنقاش والجدل والتخطئة والتشكيك على غير طائل ولا ضرورة.
ونريد أن نبحث في ما يمكن أن يرد على موضوع الملاحظة وخاصة نقطتها الأولى.
فلقد ورد في سورة هود بعد قصة نوح خاصة وورد في سورة يوسف بعد إتمام القصة وورد في سورة آل عمران في سياق نشأة مريم آيات جاء فيها تنبيه على
__________
(1) بمعنى هلا.(1/164)
أن ذلك من أنباء الغيب كما ترى فيها:
1- تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ هود: [49] .
2- ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ يوسف: [102] .
3- ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ آل عمران: [44] .
وظاهر الآيات ينقض تلك النقطة كما هو المتبادر. غير أننا نلاحظ أن قصتي نوح ويوسف خاصة قد وردتا في التوراة قريبتين جدا مما وردتا في القرآن، وإن التوراة كانت متداولة بين أيدي الكتابيين الذين كان كثير منهم يعيشون في بيئة النبي قبل بعثته وبعدها، كما أن أهل هذه البيئة كانوا على صلة وثيقة بهم وبالبلاد المجاورة الكتابية الدين أي الشام ومصر والحبشة والعراق العربي، وأن القرآن قد أكثر من ذكر التوراة مصدقا حينا ومنوها بما احتوته من نور وهدى وحق حينا ومتحديا بها اليهود حينا، وأن فيه آيات تفيد صراحة أو ضمنا أن أهل بيئة النبي كانوا يسمعون من الكتابيين أشياء كثيرة عن كتبهم كما ترى في الأمثلة التالية:
1- أَتَأْمُرُونَ «1» النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ.. البقرة: [44] .
2- وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا «2» فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.. البقرة:
[89] .
3- وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ
__________
(1) يعني اليهود.
(2) يعني العرب.(1/165)
بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ البقرة: [76] .
4- أَمْ تُرِيدُونَ «1» أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ البقرة:
[108] .
5- وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ «2» مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.. آل عمران: [78] .
6- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ آل عمران: [93] .
7- وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ المائدة: [43- 44] .
وإن أهل هذه البيئة كانوا يثقون بما عند الكتابيين من علوم ومعارف، مما ينطوي في ذلك حكمة ما تكرّر في القرآن من الاستشهاد بهم على صحة الرسالة النبوية مما أوردنا آياته في مناسبة سابقة.
والروايات متضافرة على أن اليهود كانوا يتبجحون بالتوراة في سياق الدعوة النبوية وأحداثها. وأنهم نشروها مرة أو أكثر في مجالس النبي، وعلى أنه كان من أهل بيئة النبي العرب من كان يدين بالنصرانية واليهودية ومطلعا على التوراة والإنجيل فضلا عن من يدين بالنصرانية خاصة من العرب الذين يقطنون في أنحاء أخرى من الجزيرة العربية وأطرافها والتوراة كتاب النصارى كما هي كتاب اليهود فضلا عن اختصاص الأولين بالإنجيل كما هو معروف. وفي حديث البخاري عن
__________
(1) يعني المسلمين.
(2) يعني المسلمين.(1/166)
بدء الوحي وقد أوردناه في الفصل الأول صراحة بمعرفة ورقة بن نوفل اللغة العبرانية واطلاعه على التوراة والإنجيل.
فليس مما يصح فرضه أن لا يكون من العرب السامعين للقرآن من يعرف هاتين القصتين. ومثل هذا يقال بالنسبة لقصة مريم التي ورد في بعض الأناجيل شيء قريب مما ورد عنها في القرآن وفي بدء قصة يوسف آية هذا نصها:
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [7] والسؤال عن أمرهم لا بدّ من أن يكون آتيا من معرفة شيء ما أو سماع شيء ما عنهم من دون ريب.
لذلك فإن في الآيات الثلاث المذكورة إشكالا يدعو إلى الحيرة، ولا يستطاع النفوذ إلى الحكمة الربانية فيه نفوذا تاما. وليس من مناص إزاء الواقع ومداه من أن قصص نوح ويوسف ومريم من القصص المشهورة إلا بتأويل هذه الآيات وتخريجها بما يزيل الإشكال ويتسق مع الواقع. وقد رأينا المفسر الخازن يعلق على آية هود فيقول إن قصة نوح مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة، وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها. وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف الغيب إلى معنى البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر في صدد القصص التي وردت عقبها خاصة هذه الآيات. وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران، وكذلك الفصول القصصية المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ومريم ويوسف لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد، وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل ص والأعراف والقمر والشعراء، وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى ولم يرد كذلك في سياقها مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغا وصوابا.
ولعل مما يحسن إيراده في صدد قصة نوح مسألة أصنام قوم نوح المذكورة(1/167)
في سورة نوح وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر فقد كانت الأصنام من الأصنام المعبودة عند بعض قبائل العرب في عصر النبي وقد تسمّى كثير من الأشخاص المعاصرين للنبي بعبودية بعضها مثل عبد ودّ وعبد يغوث وفي بعض الروايات أن العرب اقتبسوا هذه الأصنام وعبادتها من قوم نوح ولعل هذا ما كان متداولا بينهم قبل البعثة. وعلى كل فإن هذا قرينة على أن العرب لم يكونوا جاهلين قصة نوح ومواقفه من قومه بالكلية.
ومما يصحّ إضافته إلى الآيات القرآنية الكثيرة التي احتوت دلائل وقرائن تفيد أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم من القرآن على سبيل العظة والتذكير أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص القرآنية مسهبة حينا ومقتضبة حينا آخر، ومعزوة إلى علماء السير والأخبار إطلاقا حينا وإلى علماء بأسمائهم مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن إسحاق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم حينا، واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذا القصص أو قصصا بسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي عليه السلام، ونميل إلى القول بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي قبل البعثة وبعدها حولها، وأنها مما يمكن الاستئناس به في تأييد النقطة الأولى من الملاحظة مما هو متسق مع المنطق وهدف التذكير والوعظ القرآني.
ومما يصح إضافته أيضا صيغة أعلام القصص مثل طالوت وجالوت ويونس وأيوب وفرعون وهامان وقارون وهارون وإبراهيم وآزر وسليمان وداود وإدريس ونوح والمسيح عيسى وموسى وهاروت وماروت إلخ فإن هذه الأعلام قد جاءت في القرآن معربة وعلى أوزان عربية ومن المستبعد أن تكون قد عربت لأول مرة في القرآن، ومن المرجح أن تكون قد عربت وتداولت بأوزانها العربية قبل نزولها وبهذا وحده يصح أن يشملها تعبير إنزال القرآن بلسان عربي مبين لأنها جزء منه وتداولها معربة قبل نزول القرآن يعني كما هو بديهي معرفة العرب شيئا من أخبار أصحابها على الأقل.(1/168)
وفي ما تكررت حكايته في القرآن عن الكفار من قولهم إنه أساطير الأولين وأن النبي كان يستكتبها وتملى عليه، وإنه كان أناس آخرون يعينونه عليها، وأنهم لو شاؤوا لقالوا مثلها كما جاء في آيات الأنعام: [25] والأنفال: [30] والفرقان:
[5] والقلم: [8 و 15] مثلا قرينة قوية كذلك إن لم نقل قرينة حاسمة على أن العرب كانوا يسمعون من قصص القرآن ونذره وبشائره وتذكيراته ما اتصل بهم علمه وكان من المتداول بينهم. ولقد يرد أن الكفار حينما كانوا يرددون على النبي تعبير أساطير الأولين خاصة كانوا في موقف المكابر المستخف ومع التسليم بهذا فإن كلمة أساطير لا تقتضي دائما أن تعتبر مرادفة لكلمة قصص خرافية كما هو من مفهوماتها فإنها قد تفيد أيضا معنى المدونات لأنها مشتقة من «سطر» بمعنى «كتب» كما هو وارد في القرآن ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم: 1] وآية الفرقان الخامسة وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تلهم أن هذا من المعاني المقصودة للكلمة. ومهما يكن من أمرها فإنها تعني على كل حال أنهم يسمعون أخبارا وقصصا وصلت إلى علمهم عن الأمم السابقة حقيقة كانت أو خرافية.
ومما يرد على ما نخمّن سؤال عن مدى ما بين القصص القرآنية وأسفار التوراة والإنجيل المتداولة من مباينات. فقد قلنا قبل قليل إن في القرآن قصصا مقاربة لما في هذه الأسفار كما أن فيه قصصا مباينة في الأسماء والأحداث أو بزيادة ونقص، وأن فيه قصصا متصلة بأسماء رجال هذه الأسفار من أنبياء وغيرهم دون ورودها فيها. والذي نعتقده أن ما قلناه ينطبق على هذا أيضا، وأن ما ورد في القرآن هو الأكثر اتساقا مع ما كان معروفا ومتداولا عند السامعين إجمالا وهذا هو المتمشي مع الحكمة التي نبهنا عليها في القصص القرآنية ونراه طبيعيا ومتسقا مع الواقع والمألوف وهو تداول الناس أخبارا وأسماء على غير الوجه المدون في الكتب والصحف بل وكون المتداول أحيانا كثيرة هو الأكثر صحة من المدون أيضا. فليس والحالة هذه ما يمنع أن يكون لدى النصارى واليهود في عصر النبي(1/169)
وقبله متداولات مدونة وغير مدونة تساق وتورد على هامش ما ورد في أسفار التوراة والإنجيل وبقصد التوضيح والتفسير والتعليق، هذا بقطع النظر عن احتمالات الاختلاف والمباينة بين الأسفار المتداولة اليوم والأسفار المتداولة قديما. وفي كتب تفسير القرآن روايات كثيرة معزوة إلى الصحابة والتابعين احتوت بيانات عن أحداث تاريخية واجتماعية عربية وغير عربية، وعن أحداث متصلة ببيئة النبي وسيرته ولم ترد في القرآن، وإنما وردت إشارة إليها قريبة أو بعيدة، فأوردت على هامش تفسير الآيات القرآنية وبقصد تفسير بعض الوقائع والأحداث والإشارات والمفهومات التي احتوتها والتعليق عليها ولا يمتنع أن تكون صحيحة كليا أو جزئيا.
ولقد تكون قصص إبراهيم خاصة لافتة للنظر أكثر من غيرها في هذا الباب لأن جلّ ما ورد منها في القرآن لم يرد في التوراة. والمدقق في القصص التي لم ترد في التوراة يجد أنها متصلة بالحياة والظروف والتقاليد التي كانت عليها البيئة النبوية، وبمواقف الكفار العرب وعقائدهم أيضا اتصالا وثيقا سواء في أمر إسكان ذرية من إبراهيم في مكة أو في إنشاء الكعبة، أو في أصول الحج وتقاليده، أو موقفه من أبيه وبراءته منه، أو حملته على عبادة الأصنام وموقفه من قومه من أجلها وتكسيره إياها وإلقائه في النار بسبب ذلك، أو محاجّته مع الملك أو نظرته في النجوم وانصرافه عنها، ويجد أنها داعية إلى التأسي لأنه أبو العرب. والذي نعتقده أن هذه القصص كانت متداولة بين العرب ومتناقلة فيهم جيلا عن جيل دون ما حاجة إلى أن تكون مستقاة من اليهود مع احتمال أن يكون اسما إبراهيم وإسماعيل قد اقتبسا من اليهود لأن التوراة هي أول ما جاء يحمل هذين الاسمين مدونين، وأن من تلك الناحية خاصة تجيء قصص إبراهيم ملزمة للعرب، وتورد في القرآن بقوتها التلقينية والتذكيرية المستحكمة النافذة التي وردت بها كما يمكن أن يبدو لمن يتمعن في آيات البقرة: [124- 141 و 258 و 260] وآل عمران:
[65- 68 و 94- 97] والأنعام: [74- 90] والتوبة: [113- 114] وإبراهيم:
[35- 41] ومريم: [42- 50] والأنبياء: [51- 70] والحج: [26- 37 و 78](1/170)
والزخرف: [26- 28] والممتحنة: [4- 6] ، وهذا هو هدف القصة القرآنية بالذات.
ونظن أنه ليس من شيء يرد من مثل هذا على موضوع القصص الأخرى التي لم يرد أسماء رجالها ومواضيعها في أسفار التوراة والإنجيل ولا سيما أن جل هذه القصص عربي الأمم والأنبياء والبلاد، وأن كونها مما كان متداولا عند العرب لا يصحّ أن يكون موضع شك وجدل، وفي الآيات القرآنية دلالات قوية على هذا خاصة مثل آيات العنكبوت: [36- 38] والأحقاف: [37] والصافات: [137- 138] والقصص: [58] والحج: [45- 46] .
هذا، ومعلوم أنه يوجد في القرآن قصص أنزلت جوابا على سؤال صريح مثل قصص ذي القرنين ويوسف وأصحاب الكهف والرقيم، كما أن هناك قصصا أوردت مباشرة مثل قصة نشأة موسى وسيرته في مطلع سورة القصص. ولقد يرد أن في هذا نقضا لما قلناه من أن القصص القرآنية لم تورد لذاتها كما أنه قد يكون بالنسبة لبعض هذه القصص نقضا لما قلناه من أن القصص الموحاة مما كان متداولا وليس غريبا على الأسماع بالمرة.
ولقد قلنا قبل في صدد قصة يوسف إن السؤال عنها لا يمكن أن يكون ورد إلا من أناس سمعوها وعرفوها أو سمعوا وعرفوا شيئا عنها. وهذا ينطبق على قصة ذي القرنين كما هو بديهي، ومضامين آيات أصحاب الكهف والرقيم تلهم أنه كان جدل حول قصتهم وعددهم وسني لبثهم، وهذا يعني أن السؤال وجّه على سبيل الاستفسار- وهذا ما روته الروايات- وبالتالي أن السائلين قد سمعوا وعرفوا شيئا عن القصة. ومعرفة السائلين بعض الشيء لا تقتضي بالبداهة أن لا يكون هناك أناس آخرون يعرفون أشياء كثيرة عنها كما لا تقتضي أن يكون أناس يعرفون ثم أرادوا التحقيق أو الاستفسار أو التحدي إلخ.
وفي كتب التفسير بيانات وتفصيلات جزئية كثيرة عن هاتين القصتين أيضا مما يمكن أن يكون فيه- بسبب كونه مستندا إلى روايات متصلة بعهد النبي- دلالة على تداوله في هذا العهد أيضا. أما قصة موسى فلا نظن أنه يرد أنها كانت غريبة(1/171)
عن الأسماع وفي القرآن دلالات حاسمة على عكس ذلك أوردنا بعض الآيات عنها.
هذا بالنسبة للنقطة الأولى. أما بالنسبة للنقطة الثانية فإن قصة موسى في سورة القصص قد أعقبها آيات تنديدية وتذكيرية ووعظية معطوفة عليها وكنتيجة لها كما يبدو من الآيات [37- 50] .
وهذا ما يدخلها في نطاق القصص الأخرى الواردة في معرض التذكير والتمثيل والإنذار والدعوة والاعتبار. وكذلك قصة يوسف فقد أعقبها آيات مثل تلك وهي الآيات [103- 111] وانتهت بآية فيها قصد العبرة صراحة حيث جاء هذا التعبير لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] آخرها.
وقصة أصحاب الكهف والرقيم قد جاءت بعد آيات فيها حملة على الكفار لنسبتهم الولد إلى الله وهي الآيات [4- 8] ، كما أعقبها آيات فيها استمرار في الحملة وهي الآيات [23- 31] ، وأسلوبها متسق مع أسلوب سائر القصص أي أنه تضمن المواعظ والتلقينات الأخلاقية والاجتماعية والدينية واستهدف التدعيم والتأييد للدعوة النبوية وأهدافها حتى ليبدو أن هذا هو المقصود بها عند إنعام النظر في سلسلة آياتها [1- 31] وخاصة في أمر النبي بعدم المماراة كثيرا في شأنهم وإيكال علم ذلك إلى الله. ومع أن قصة ذي القرنين جاءت جوابا على سؤال صريح فإنّ أسلوبها مثل ذلك الأسلوب وقد أعقبتها آيات تضمنت حملة على الكافرين الجاحدين ومتصلة بآيات القصة اتصالا وثيقا نظما وانسجاما. وهذا وذاك يبدوان بارزين عند إنعام النظر في سلسلة الآيات.
وعلى هذا فإن من الصواب أن يقال إن هذه القصص لا تشذ عن الطابع العام للقصص القرآنية الذي نوهنا به في مطلع البحث.
ومما هو جدير بالتنويه ومتصل بالمعنى الذي نقرره وخاصة بالنسبة للنقطة الأولى من الملاحظة أنّ محتويات القصص القرآنية على تنوعها لم تكن موضع جدل ومماراة لا من مشركي العرب ولا من الكتابيين بدليل أنه لم يرد في القرآن أي(1/172)
إشارة تفيد ذلك صراحة أو ضمنا مع أنهم كانوا يحصون على النبي كل شيء ويترصدون لكل ما يتوهمون فيه تناقضا أو شذوذا عما يعرفونه ويعتقدونه ويتداولونه ويتوارثونه ويسارعون إلى إعلان استنكارهم وتكذيبهم، ويستغلونه فرصة للصد والدعاية والتأليب مما حكى القرآن شيئا كثيرا منه.
وقد يؤيد هذا أن العرب جادلوا في الحياة الأخروية أشد جدال وكذبوا وأنكروا أعنف تكذيب وإنكار فحكت ذلك آيات قرآنية كثيرة حتى لقد شغل هذا الجدل والتكذيب والإنكار وما اقتضاه من ردود وتوكيدات متنوعة الأسلوب حيزا كبيرا من القرآن المكي ولقد كان من أسباب هذا الإنكار والتكذيب والجدل أن العرب كانوا يسمعون ما لا علم لهم به سابقا وما لم يسمعوا عنه شيئا مهما من الكتابيين الذين كانوا مصدرا رئيسيا من مصادر معارفهم لأن أسفار هؤلاء لم تكد تحتوي عن الحياة الأخروية شيئا.
وليس ما نقل عن العرب من قولهم عن القرآن إنه أساطير الأولين مما يفيد تكذيبهم للقصص التي يسمعونها ومماراتهم فيها لأن هذا التعبير كما قلنا عنى كما تدل عليه مضامين الآيات القرآنية مدونات الأولين وقصصهم إطلاقا، ولأنهم كانوا يردّدون هذا القول بقصد تكذيب صلة الله ووحيه بالنبي وصحة التنزيل القرآني والدعوة النبوية والحياة الأخروية لا بقصد المماراة في هذه القصص وتكذيبها وإنكارها كما يظهر من التمعن في هذه الآيات التي ورد فيها التعبير:
1- وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام: [25] .
2- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ الأنفال: [31- 32] .(1/173)
3- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ النحل: [24] .
4- وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً الفرقان: [5- 6] .
5- فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ القلم: [5- 15] .
ولقد أنكر اليهود أمورا واردة في التوراة فتحداهم القرآن بالإتيان بالتوراة وتلاوتها إن كانوا صادقين في إنكارهم كما جاء في آية آل عمران: [93] صراحة وآيات المائدة: [43- 45] ضمنا. ولقد حاجّوا في ما قرره القرآن عن إبراهيم وملته، وقدم الكعبة وصلته بها كما يفهم من آيات البقرة: [132- 141] وآل عمران: [66- 99] صراحة وضمنا.
فلو رأى العرب فيما يسمعونه من القصص تناقضا أو تباينا أو شذوذا عما يعرفونه منها إجمالا أو تفصيلا، أو لو سمعوا أشياء لا عهد لهم بها بالمرة ولو رأى الكتابيون وخاصة اليهود في ما يسمعونه مباينة لما كان متداولا في أيديهم من الكتب وتفسيرها وشروحها أو لما هو متداول ومتناقل بينهم على هامشها مما يتصل بأسماء أنبيائهم لجادلوا وطعنوا وغمزوا، ولذكر ذلك عنهم القرآن في معرض التكذيب والردّ كما ذكر عنهم جدالهم وحجاجهم وإنكارهم وطعنهم في هذا المعرض في الأمور الأخرى التي توهموا فيها تناقضا أو تغايرا أو جديدا لا عهد لهم به، ولا غتنموه فرصة للغمز والطعن والدعاية والتهويش.
ولقد يرد سؤال عما إذا كان النبي يعرف أيضا القصص القرآنية قبل بعثته أو(1/174)
عن غير طريق الوحي، وعما إذا لم يكن فيما نقرره تعارض معا مع نزول الوحي بها. والذي نعتقده أن النبي خلافا لما قاله بعضهم كان يعرف كثيرا مما يدور في بيئته من قصص الأمم والأنبياء السابقين وأخبارهم ومساكنهم وآثارهم سواء منها المذكور في أسفار التوراة والإنجيل أو غيره كما أنه كان يعرف كثيرا من أحوال الأمم والبلاد المجاورة للجزيرة العربية بالإضافة إلى ما كان يعرفه من أحوال سكان الجزيرة أيضا وتقاليدهم وأفكارهم وعاداتهم وأخبار أسلافهم، وأن هذا هو المتسق مع طبيعة الأشياء، وأن النبي قد اتصل قبل بعثته بالكتابيين الموجودين في مكة وتحدث معهم حول كثير من الشؤون الدينية وحول ما ورد في الكتب المنزلة واستمع إلى كثير مما احتوته، ونرجح أن هذه الصلة قد استمرت إلى ما بعد بعثته، وأنها انتهت بإيمان الذين اتصل بهم بنبوته لما رأوا من أعلامها الباهرة فيه. ولعل فيما ورد في بعض آيات القرآن قرينة على ذلك، فقد جاء في سورة الفرقان هذه الآية وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وفي سورة النحل هذه الآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) فهذه الأقوال الصادرة عن الكفار التي حكاها القرآن لا بد من أن تكون مستندة إلى مشاهدة اتصال النبي ببعض أشخاص كانوا يعرفون أنهم ذوو علم أو مظنة علم وتعليم ومعاونة، ومنهم غرباء، والمرجح أن الغرباء خاصة منهم كتابيون، فوهموا أنه يستعين بهم أو يعينونه على نظم القرآن وتأليفه فقالوا ما قالوه. والآيات تنفي التعليم والإعانة ولكنها لا تنفي الاتصال. وقد وردت في كتب التفسير روايات تذكر وقوع شيء من هذا الاتصال، وقد جاء في «كشاف» الزمخشري مثلا أنه كان لحويطب بن عبد العزى غلام اسمه عايش أو يعيش وكان صاحب كتب وقيل هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي وقيل عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف في مكة ويقرآن من التوراة والإنجيل، فكان رسول الله إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن. وحديث بدء الوحي للبخاري صريح بأن النبي اجتمع بورقة بن نوفل الذي تنصر وقرأ العبرانية وكان يقرأ الإنجيل ويكتبه، وفي روايات السيرة أن(1/175)
ورقة هذا تولى تزويج النبي وكان عمره خمسا وعشرين سنة بخديجة ابنة عمه، ففي كل هذا ما يستأنس به على صحة ما ذكرناه.
ومن الواضح أن هذا ليس بمخلّ بقدر النبي عليه السلام وعظمته التي إنما كانت تقوم في الحقيقة على ما امتاز به من عظمة الخلق وقوة العقل وصفاء النفس وكبر القلب وعمق الإيمان والاستغراق بالله، ولقد قرر القرآن طبيعة النبي البشرية، وهذا متصل بهذه الطبيعة التي من البديهي جدا أن لا تتناقض مع وقوف النبي على ما كان متداولا في بيئته أو في أي بيئة ونحلة تيسّر له الاتصال بأهلها من أقوال وأفكار وأخبار وعقائد وتقاليد وظروف وأحداث حاضرة وغابرة، بل إن من البديهي جدا أن يكون واقفا على كل ذلك غير غافل عنه، وإن هذا هو المعقول الذي لا يمكن أن يصح في العقل غيره. وإننا لنشعر بالدهشة مما أبداه ويبديه بعض العلماء من حرص على توكيد كون النبي لم يكن له معارف مكتسبة مما لا يتسق مع المنطق والمعقول والبديهي توهما بأن في هذا مأخذا ما على كون ما بلّغه النبي من القرآن إنما أتى من هذه المعارف، ونرى في هذا التوهم خطأ أصليا في تلقي معنى الرسالة النبوية التي هي هداية وإرشاد ودعوة والتي لا يعهد بمهمتها العظمى إلا لمن يكون أهلا لها في عقله وخلقه وقلبه وروحه كما ذكرت آية الأنعام [24] اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ كما أنه آت فيما يتبادر لنا من عدم ملاحظة كون القرآن قسمين متميزين أسسا ووسائل.
ومما يورده هؤلاء حجة آيات العنكبوت هذه:
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ [48- 49] .
حيث يظنون على ما يبدو أن اكتساب المعارف والاطلاع على ما عند الناس من أخبار وأفكار إنما هو حصر على القارئ الكاتب، وليس هذا صحيحا دائما كما أنه ناشىء عن قياس الغائب بالحاضر وهو قياس مع الفارق. والآيات بسبيل تقرير(1/176)
كون الدعوة التي يدعو إليها النبي وما يبلغه في صددها إنما هو وحي رباني ولم يقتبسه من كتاب، ولا ينبغي أن يكون عندهم محلّ للشك في ذلك لأنهم يعرفون أنه لم يكن يقرأ ولا يكتب، ولا يجحد بآيات الله التي تصدر عن الذين يختصهم الله بمهمته وبيناته إلا المكابرون الظالمون على ما يتبادر. وليس في هذا نقض لما قررناه.
والذي نعتقده أنه ليس في ما قررناه أو في كون القصص القرآنية متسقة إجمالا مع ما كان معروفا متداولا تعارض من ناحية ما مع نزول الوحي الرباني بها على قلب النبي عليه السلام- وهو سبب القول أن النبي لم يكتسب معارفه اكتسابا- لأنها لم تنزل لذاتها بقصد القصص والإخبار وإنما أنزلت بالأسلوب والمدى والنحو الذي اقتضت الحكمة نزولها به، في معرض التنديد والموعظة والتذكير والجدل، وكوسيلة من وسائل تدعيم أهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية إزاء مواقف المكابرين والمجادلين والجاحدين مما هو موضوع هذا البحث وفوائد الملاحظة التي عقد عليها.
ولقد ورد في القرآن فصول كثيرة جدا مما له صلة ببيئة النبي وحاضر تقاليد أهلها وحياتهم وأمثالهم ومعايشهم وما في أذهانهم من صور متنوعة مما هو معروف مشهود بأسلوب الموعظة والتذكير والتنديد وكوسيلة من وسائل التدعيم والتأييد، وليس من فرق من حيث الجوهر بين هذا وذاك وليس مما يصح في حال أو يمكن أن يرد على بال ولا مما ادعاه أحد أن النبي لم يكن يعرفه عن غير طريق الوحي.
وقد بقيت مسألتان قد تبدوان مشكلتين، أولاهما ما إذا كان ما احتواه القرآن من قصص صحيحا في جزئيات وقائعه وحقائق حدوثه، وثانيتهما ما بين بعض القصص القرآنية المتصلة بنبي أو أمة من بعض الخلاف مثل وصف عصا موسى بالحية في سورة والثعبان في سورة أخرى، ومثل ذكر وقت ما كان يقع على بني إسرائيل من فرعون من قتل الأبناء واستحياء النساء حيث ذكر هذا الوقت في سورة أنه قبل بعثة موسى وفي سورة أنه بعد بعثته. فنحن كمسلمين نقول إن كل ما احتواه القرآن وحي رباني واجب الإيمان وإنا آمنا به كل من عند ربنا، كما أننا نقول بوجوب ملاحظة كون القرآن في قصصه إنما استهدف العظة والتذكير فحسب، الجزء الأول من التفسير الحديث 12(1/177)
وهما لا يتحققان إلا فيما هو معروف ومسلم به إجمالا من السامع وأن هذا أيضا من الحق الذي انطوى فيه حكمة التنزيل، وبوجوب الوقوف من هذه القصص عند الحدّ الذي استهدفه القرآن وعدم الاستغراق في ماهياتها على غير طائل ولا ضرورة، لأنها ليست مما يتصل بالأهداف والأسس على ما ذكرناه في مطلع البحث وهذا هو الجوهري فيه. وهذا القول يصح على المسألة الثانية مع التنبيه على أن الخلاف ظاهري ويمكن التوفيق فيه وتأويله، وعلى أنه متصل بالماهيات والحقائق التي لم تقصد لذاتها كما كررنا قوله.
ونريد أن ننبه على ظاهرة قرآنية مهمة فيها توكيد لما نقرره واتساق معه، وبالتالي فيها دليل انسجام في الأساليب القرآنية ومراميها مكية كانت أو مدنية.
وذلك أن أسلوب القرآن القصصي وهدفه قد اتسقا مع ما ورد فيه من ذكر الوقائع الجهادية والمواقف القضائية والحجاجية وغيرها من أحداث السيرة النبوية، بحيث إن الناظر في القرآن يجد أن ما ورد فيه من ذلك إنما ورد بقصد العظة والتذكير والتنبيه والحثّ والتحذير والإرشاد والتعليم والتأديب والتشريع، ولم يرد بأسلوب السرد التاريخي وقصده. وهذا ظاهر من كون تلك الوقائع والمواقف لم تحتو كل الصور والمشاهد والتفصيلات والأحداث، وإنما احتوت ما يحقق ذلك القصد منها. ولعل هذا هو الذي يفسر حكمة عدم ورود ذكر أو تفصيل لأمور كثيرة من أحداث السيرة وفيها ما هو مهم من وقائع جهادية كفتح مكة والطائف وغزوات مشارف الشام ومؤتة واليمن إلخ. فالظاهر أنه لم يكن فيها أمور تستوجب ذلك وتتصل بالقصد المذكور فاقتضت الحكمة عدم إنزال شيء في بعضها والاكتفاء بالإشارات العابرة بالنسبة لبعضها الآخر.
- 6- الملائكة والجن في القرآن:
سادسا: إن ما ورد من أخبار الملائكة والجنّ لم يكن هو الآخر غريبا عن السامعين جزئيا أو كليا، وإنه من وسائل التدعيم للدعوة وأهدافها وليس مقصودا بذاته.(1/178)
ففي القرآن آيات عديدة تدل على عقيدة العرب في الملائكة ووجودهم وأنهم موضع أمل ورجاء ومصدر برّ ورحمة. وقد ذكر القرآن أن العرب يعتقدون أنهم بنات الله وذوو حظوة لديه وأنهم اتخذوهم آلهة وشفعاء ليقربوهم إليه زلفى وقد قرر كذلك أنهم كرام بررة متصلون بالله ومختصون بخدماته لا يعصونه في ما يأمر ويقدسونه ويسبحون بحمده على الدوام. وهكذا يبدو أن ما قرره القرآن عن عقائد العرب فيهم متصل بما قرره عن صفاتهم وأعمالهم وصلتهم بالله مع سوء فهم العرب وباطل تأويلهم لهذه الصلة مما كان سبب الحملة عليهم والتنديد بهم في القرآن ولقد حكى القرآن تحدي العرب النبي باستنزال الملائكة ليؤيدوه في دعوته ما دام يقول إنها بوحي الله وهذا التحدي متصل بعقيدتهم فيهم وبتقرير القرآن عنهم كما هو واضح.
كذلك في القرآن آيات عديدة تدل على عقيدة العرب في الجن ووجودهم وأنهم مبعث خوف ومصدر أذى وشر، وأنهم كانوا يعوذون بهم ويشركونهم مع الله في العبادة خوفا منهم وتزلفا إليهم وأنهم يختلطون في عقول الناس، وقد قرر القرآن في صددهم أنهم ذوو أعمال خارقة ومصدر غواية وخبث، وأن إبليس وجنوده والشياطين الذين ذكروا مرادفين لإبليس وجنوده أحيانا كثيرة هم منهم، وأنهم يوسوسون في صدور الناس، ويسترقون السمع من السماء ويلقون بأكاذيبهم إلى الأفاكين الكاذبين. وهكذا يبدو أن ما قرره القرآن عن عقائد العرب فيهم متصل بما قرره عن صفاتهم وأحوالهم كذلك «1» .
وفي كتب التفسير بيانات كثيرة في صدد الملائكة والجنّ وإبليس وماهياتهم وأعمالهم جاءت في سياق ما ورد عنهم في القرآن سواء فيما له صلة بعقائد العرب أم بأعمالهم وأخبارهم وأقوالهم مسهبة حينا ومقتضبة حينا آخر ومعزوة إلى علماء ورواة معينين حينا وبدون تعيين حينا آخر. ومهما يكن من أمر هذه البيانات فإن من
__________
(1) في كتاب «عصر النبي وبيئته قبل البعثة» . بحثان مستفيضان عن عقائد العرب وتقريرات القرآن عن الملائكة والجن.(1/179)
المستبعد أن تكون موضوعة كلّها بعد الإسلام، ونرجح أنها احتوت أشياء مما كان يدور في بيئة النبي عليه السلام حولهم، وأنها مما يمكن أن يستأنس به بأن العرب كانوا يتداولون عنهم أمورا كثيرة بقطع النظر عن صوابها وخطأها وزيادتها ونقصها، ومن الممكن أن يكون منها ما أتاهم عن الكتابيين لأن أسفار التوراة والإنجيل تحتوي أشياء كثيرة عنهم، كما أن من الممكن أن تكون أو يكون منها ما هو قديم لأن عقيدة وجود مخلوقات خفية طيبة وخبيثة من العقائد البشرية القديمة العامة التي تكاد توجد في جميع الأمم على اختلاف درجتها في الحضارة.
ومن المتبادر أن ما ورد عن الجن والشياطين وإبليس من صور قرآنية بغيضة ومن حملات على الكفار في سياقها متصل بما في أذهان العرب عنهم، وبسبيل تقرير كون الانحراف عن الحق والمكابرة فيه والاستغراق في الإثم والخبائث والانصراف عن دعوة الله هو من تلقيناتهم ودسائسهم ومظهرا من مظاهر الانحراف نحوهم وبسبيل التحذير من الاندماغ بهم لما في ذلك من مهانة ومسبّة. ومن هنا يأتي الكلام قويا ملزما ولا ذعا على ما هو ملموس في مختلف الآيات القرآنية، ويقوم البرهان على أن ذلك هو من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية.
ولعلّ الحكمة الربانية في ما أوحى الله به من استماع نفر من الجنّ مرتين للنبي مرة في سورة الجن تلهم أن المستمعين يقولون بولد وصاحبة لله سبحانه- وهذا متصل من ناحية بعقائد العرب المشركين ومن ناحية بعقائد النصارى- ومرة في سورة الأحقاف تلهم أن المستمعين يؤمنون بكتاب موسى ومهتدون بكتاب هداه تنطوي من جهة ما على قصد التدعيم للرسالة النبوية بالإخبار بإيمان بعض طوائف الجنّ ممن يدين بديانات مختلفة منزلة وغير نازلة بالرسالة المحمدية ولهم ما لهم في أذهان العرب من صور هائلة.
ومن المتبادر كذلك أن ما ورد عن الملائكة من خضوعهم لله وعدم استكبارهم واستنكارهم واستنكافهم عن عبادته، واستغراقهم في تنفيذ أوامره(1/180)
ومعرفتهم حدودهم منه، وعدم عصيان أمر له، وعدم إمكان شفاعتهم إلا بإذنه ورضائه، وما يكون من أمرهم في تلقي الكفار بالعنف والشدة وتلقي المؤمنين بالتطمين والبشرى في الآخرة، وما كان من أمرهم من المسارعة إلى السجود لآدم تنفيذا لأوامر الله بينما تمرد إبليس عن ذلك متصل هو الآخر بذلك القصد في بيان واقع الملائكة الذين لهم في أذهان العرب تلك الصور العظيمة الفخمة، وإن الكلام من هذه الناحية يأتي هو الآخر ملزما ومرهبا للكفار، ومطمئنا ومثبتا للمسلمين، ويقوم البرهان على أن ذلك هو من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية.
ولعل المتمعن في الآيات التي جاء فيها ذكر الملائكة والجن وإبليس والشياطين وأعمالهم وتنوعها من جهة وما هنالك من آيات وجمل قرآنية عديدة فيها تقريرات حاسمة عن إحاطة الله بكل شيء في كل آن، وشمول قدرته لكل شيء، واستغنائه عن كل عون في تصريف ملكوت السماوات والأرض يلهم الناظر في القرآن أيضا أن تلك الآيات مع اتصالها بما في أذهان السامعين من صور قد جاءت بسبيل التقريب والتمثيل للناس الذين اعتادوا أن يروا الوسائل والوسائط في متنوع الأعمال ووجوه الحياة، ويعتبروها مظهرا من مظاهر العظمة والإحاطة ولا يدركوا المجردات إدراكا صحيحا.
فمن هذه الشروح يبدو واضحا كما هو المتبادر أن ما ورد عن الملائكة والجن ليس غريبا عن السامعين وإنه إنما استهدف كما قلنا التدعيم للدعوة النبوية وأهداف التنزيل القرآني أولا وليس هو مقصودا بذاته ثانيا، وإنه قائم على حكمة التدعيم بما هو معروف متداول ثالثا، وإن في ذلك تدليلا على أهمية ملاحظة ذلك في سياق النظر في القرآن تدبرا وفهما وتفسيرا، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر فيه في الماهيات والكيفيات لذاتها من مثل خلقة الملائكة والجن وكيفية اتصالهم بالله والناس وقيامتهم بأدوارهم على اعتبار أن هذه الماهيات والكيفيات غير مقصودة لذاتها أولا ولا طائل من وراء التنقيب والاستغراق فيها لأنها ليس مما يدخل في نطاق الأسس والأهداف ثانيا كما أنها ليس مما يدخل(1/181)
في نطاق المشهودات والملموسات المادية ثالثا ولا سبيل إلى فهمها بالإدراك البشري العادي رابعا، وليست هي إلا حقائق إيمانية غيبية خامسا، ولأن من شأنها كذلك أن تغني الناظر في القرآن عن التكلف والتجوز والتخمين والتوفيق في صدد ما يقوم في سبيل الماهيات والحقائق والكيفيات لذاتها، وأن تجعله يقف منها عند حدّ ما وقفه القرآن، ويبقى القرآن في نطاق قدسيته من الإرشاد والموعظة والهدى ولا يخرج به إلى ساحة البحث التي من طبيعتها الأخذ والرد والنقاش والجدال والجرح والتعديل إلخ.
- 7- مشاهدات الكون ونواميسه:
سابعا: إن ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه قد استهدف لفت نظر السامعين إلى عظمة الله وسعة ملكوته وبديع صنعه وإتقانه بقصد تأييد هدف رئيسي من أهداف الدعوة وهو وجوب وجود الله واتصافه بأكمل الصفات وتنزهه عن الشوائب، واستغنائه عن الولد والشريك والنصير والمساعد ووحدته وانفراده في الربوبية واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه والدعاء، ومطلق تصرفه وشمول علمه وإحاطته بكل شيء دق أو عظم، وحكمته السامية في خلق الكون على أسس النواميس التي شاءت قدرته أن تقوم عليها ثم بقصد بثّ هيبة الله في قلوب السامعين وحفزهم على الاستجابة إلى دعوة نبيه والانصياع لأوامره ونواهيه، والتزام حدوده، وبتعبير إجمالي آخر قد استهدف العظة والإرشاد والتنبيه والتلقين والتدعيم والتأييد دون أن ينطوي على قصد تقرير ماهيات الكون وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنية.
وحكمة هذا واضحة، فالقرآن خاطب الناس جميعا على تفاوت مداركهم وأذهانهم، وقصد الموعظة والإرشاد والتنبيه والهدى هو القدر المشترك بينهم من جهة وهو الأصل في القرآن والمتسق مع طبيعته ومداه من جهة أخرى، بحيث يمتد لكل دور ومكان وتجاه أعلم العلماء وأبسط البسطاء، كما أن شواهده قائمة(1/182)
في آيات القرآن وفصوله وأسلوبه أيضا سواء أكان ذلك في كيفية التعبير والسياق أم في تنوعهما مما هو منبثّ في مختلف السور وخاصة المكية منها لأن هذه هي التي أنزلت في ظروف الدعوة التي تقتضيها.
ولعل في تعبير الأوتاد عن الجبال، والسقف المبني عن السماء، والمصابيح المضيئة التي زينت بها السماء عن النجوم وجريان الشمس ومنازل القمر، والسراج الوهاج للأولى، والمصباح المنير للثاني، وفي ذكر إنزال الماء من السماء، وتسيير السحاب وتصريف الرياح، وإرسال الرعد والبرق والصواعق، وإنبات مختلف الزروع والأشجار، وتسخير الدواب والأنعام، وتيسير البحار والأنهار والفلك، وجعل الأرض بساطا، وتصويرها مركزا للكون والإنسان، قطبا للأرض، حيث سخر له كل ما في السماوات والأرض، وأسبغت عليه نعم الله ظاهرة وباطنة، وسوّاه الله بيده ونفخ فيه من روحه اتساقا واضحا مفهوما مع مشاهد ومدركات مختلف فئات الناس الذين يوجه إليهم الكلام، وبالتالي لعل في ذلك دلالات على ما استهدف من هذه التعابير القرآنية مما ذكرناه آنفا وعلى أنها تنص في نطاق وصف المتشابهات التي يراد بها التقريب والتمثيل.
وفي القرآن تشبيهات وأمثلة وتذكيرات متنوعة المضامين والسياق فيها ذلك الاتساق وهذه الدلالات واضحة جلية إذا ما أنعم النظر فيها.
وإنه ليصح أن يقال بالإضافة إلى ما تقدم وبناء عليه إن المضامين القرآنية في هذه المواضيع متسقة مع ما في أذهان سامعي القرآن عن مظاهر الكون ومشاهده ونواميسه، وتجلي عظمة الله وقدرته فيها. وهذه النقطة متصلة بالمبدأ العام الذي ما فتئنا نقرره من أن القرآن خاطب الناس بما يتسق مع ما في أذهانهم إجمالا من صور ومعارف لما يكون من قوة أثر الخطاب فيهم بمثل هذا الأسلوب.
وملاحظة ذلك جوهرية جدا لأنها تجعل الناظر في القرآن يقف من الفصول الواردة في هذا الباب فيه عند الحدّ الذي استهدفته والذي أشرنا إليه، وتحول بينه وبين التكلف والتجوز والتخمين والتزيد ومحاولة استخراج النظريات العلمية(1/183)
والفنية في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منها والتمحل والتوفيق والتطبيق مما يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته من الوعظ والإرشاد ولفت النظر وبث الهيبة والاستشعار بعظمة الله والتزام حدوده إلى مجال البحث وتعريضه لطبيعة هذا المجال من الجدل والنقاش والتعارض والأخذ والرد على غير طائل ولا ضرورة ولا اتساق مع هدف القرآن وطبيعته.
وبالإضافة إلى هذا الذي يتسق مع الهدف والمضمون والمدى القرآني فيما هو المتبادر فإن لملاحظة ذلك فائدة عظيمة لذاتها، حيث تجعل المسلم غير مقيد بنظريات كونية معينة يوهم أنها مستندة إلى القرآن ومستخرجة منه- مع ما في هذا دائما من تمحل- وتبقيه حرا طليقا في ساحات العلوم والفنون ونظرياتها وتطوراتها وتطبيقاتها فلا يختلط عليه الأمر ولا يصطدم في السير، ويكون كل ما يجب عليه أن يظل من ذلك أن يظل في حدود الأسس والأهداف والمبادئ والمثل العليا وفي نطاق أركان الإيمان العامة التي قررها القرآن، وحيث يظل قصد القرآن ومداه ومفهومه سليما في جميع الأدوار، يخاطب بآياته وفصوله مختلف الفئات في مختلف الأزمنة فيثير فيهم الإجلال والهيبة والإذعان سواء كانوا علماء أو بسطاء.
وهو قصد القرآن الجوهري من دون ريب.
8- الحياة الأخروية في القرآن:
ثامنا: إن ما ورد في القرآن عن الحياة الأخروية وأعلامها ومشاهدها وصورها وأهوالها وعذابها ونعيمها وهو ما ينطبق عليه وصف المتشابهات التي يراد بها التقريب والتمثيل قد ورد بأسلوب منسجم مع مفهومات السامعين ومألوفاتهم، ومتناول إدراكهم وحسهم، وخاصة العرب الذين كانوا أول المخاطبين به، وإنه ورد بالأسلوب الذي ورد به على سبيل التقريب، واستهدف فيما استهدفه إثارة الخوف والرهبة في نفوس الضالين حتى يرعووا ويستقيموا، وبث الاغتباط والطمأنينة في نفوس المؤمنين الصالحين حتى يثبتوا في الطريق القويم الذي اهتدوا إليه.(1/184)
وحكمة هذا واضحة هي الأخرى، فالقصد القرآني في أصله هو دعوة الناس إلى الله وطريق الحق والخير والهدى، وتحذيرهم من الضلال والانحراف والإثم، وإنذارهم وتبشيرهم بالحياة الأخرى التي يوفى فيها كل منهم بما فعل من خير أو شرّ بما يستحقه. وهذا الأسلوب وسيلة من وسائل تأييد القصد وتدعيمه، لأن ما يراد إثارته في نفوس الناس لا يتم إلا إذا جاء بالأوصاف التي يستطيعون أن يحسوها ويدركوا مداها إحساسا وإدراكا متصلين بتجاربه ومشاهداته ومألوفاته بطبيعة الحال.
فإذا ذكر في سياق مشاهد يوم الحساب ما فيه من صور مجالس القضاء والخصوم والشهود والاتهام والمحاورات الدفاعية والكتب والوثائق المدونة ففي ذلك صور دنيوية مألوفة للسامع يستطيع إدراك مداها والتأثر بها. وإذا ذكر أن الجبال تتفتت وتصبح كالهباء والعهن المنفوش، والأرض تحمل وتدك، والسماء تنفطر وتتشقق، والكواكب تنثر وتتكدر وتنطفىء، والبحار تتفجر، والعشار تتعطل، والوحوش تحشر والولدان يصيرون شيبا، ففي ذلك صور هول لا يمكن للسامع إلا أن يتأثر بها ويدرك مداها، ولا سيما تبدل مشاهد الكون الماثلة عظمتها في الذهن وإذا ذكر في أوصاف النعيم ما ذكر من جنات فيها أنهار جارية وسرر موضوعة، وفرش مرفوعة، ومجالس شراب أنيقة، وظلال وارفة وقطوف دانية، وولدان مخلدون كاللؤلؤ المكنون يطوفون بالأباريق الفضية البراقة الشفافة، والكؤوس الممزوجة بالكافور والزنجبيل، وفواكه كثيرة مما تختاره النفوس، ولحوم طير متنوعة مما تشتهيه، وصحاف الذهب والفضة يتناول فيها أصحاب النعيم طعامهم، وثياب الحرير والإستبرق والسندس يلبسونها، وحلى اللؤلؤ والأساور الذهبية والفضية يتزينون بها وحور عين كالبيض المكنون يستمتعون بها إلخ، فلا يمكن إلا أن يتأثر بها السامعون ويفهموا مداها وتتوق إليها نفوسهم لأنها منتهى ما تصبو إليه النفوس والعرب خاصة من نعيم وهناء وحبور يعرفون صورها في الدنيا معرفة مشاهدة أو استمتاع أو سماع. وإذا ذكر في أوصاف العذاب ما ذكر من نار حامية شديدة شررها كقطع الحطب الضخمة ولهبها كالجبال، لا ماء فيها(1/185)
إلا الحار الشديد الحرارة (الحميم) ولا ظل فيها إلا ظل المساكن التي لا تحجب حرارة ويكون الظل فيها كوهج النار، ولا هواء فيها إلا الريح السموم، ولا شراب فيها إلا الغسلين والغساق، ولا طعام فيها إلا الزقوم والضريع، فإن السامعين والعرب خاصة لا يمكن إلا أن يتأثروا بها ويفهموا مداها لأنها منتهى ما تهلع له قلوبهم وتتكره منه نفوسهم من عذاب وبلاء متصل وصفها بالمشاهد والمعاني الدنيوية المألوفة أو المتصورة لديهم.
وإذا كان هناك شيء من الاستثناء مثل أنهار الخمر والعسل واللبن ووصف عرض الجنات بعرض السماوات والأرض فالأسلوب قوي الدلالة على أنه قد جاء في معرض التفخيم والتشبيه مما هو مألوف في كلام السامعين والعرب خاصة وأساليب لغاتهم وخطابهم.
وقد اختصصنا السامع العربي بالذكر لأن كثيرا من الأوصاف والألفاظ مما يحمل الدلالة على الحياة العربية والبيئة العربية بنوع خاص، بل وربما على الحياة والبيئة في الحجاز بنوع أخص. وهذا في ذاته قرينة قوية قائمة على ما نقرره.
ولعل في تنوع الأوصاف والصور والمشاهد القرآنية عن الآخرة وأهوالها ونعيمها وعذابها قرينة أو دليلا على صواب ما نقرره، فالجبال مثلا في جملة قرآنية تسير سير السحاب، وفي أخرى تنسف نسفا، وفي أخرى كثيب مهيل، وفي أخرى كالعهن المنفوش، وفي أخرى كالهباء المنثور، والسماء في جملة قرآنية تفتّح أبوابا وفي أخرى تتشقق، وفي أخرى تكسف، والنجوم في جملة تنتثر وفي أخرى تنطمس، والشمس في جملة تتكور، وفي أخرى تجمع مع القمر، وبينما السماء تتبدل نواميسها ومشاهدها مستقلة عن الأرض في جملة، والأرض تدك في جملة وتحمل الأرض والسماء فتدك دكة واحدة في جملة أخرى، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات في جملة أخرى كذلك، إلخ، والكافرون في جملة يدافعون عن أنفسهم في جملة، ويوردون متنوع الأعذار في جملة، ويجري أنواع الحوار بين بعضهم أو بينهم وبين الملائكة أو بينهم وبين الله في جمل بينما لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ولا يتساءلون في جمل أخرى، وفي(1/186)
جملة ينفخ في الصور وفي أخرى ينقر في الناقور، وفي جملة ليس للكافرين طعام إلا من ضريع وفي أخرى إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، وفي أخرى ليس لهم طعام إلا من غسلين، وفي جملة يحشرون وقد كشف عنهم غطاؤهم وأصبح بصرهم حديدا وفي أخرى يحشرون عميا ويسألون الله عن ذلك مع أنهم كانوا في الدنيا مبصرين إلخ. هذا بالإضافة إلى تنوع أوصاف النعيم حيث تأتي في بعض الفصول بسيطة متسقة مع الحياة العادية الدنيوية كما في سورة الغاشية بينما تأتي في أخرى في غاية الأناقة والفخامة مع اتصالها بمعاني ومشاهد الدنيا كما في سورتي الإنسان والواقعة مثلا، وهذا عدا التنوع في الجزئيات حيث تكون الصحاف والأساور في جمل من فضة بينما تكون في أخرى من ذهب، وحيث يذكر في جملة الحلي الذهبية، وفي أخرى الحلي الفضية، وفي أخرى الحلي اللؤلوية، وحيث تشبه الحور العين في جملة بالياقوت والمرجان بينما تشبه في أخرى بالبيض المكنون أي اللؤلؤ إلخ.
ومع تقريره (أن الإيمان باليوم الآخر وحسابه ونعيمه وعذابه واجب وأنه ركن من أركان العقيدة الإسلامية، وأن حكمة الله في ذلك قائمة في قصد توفية الناس أعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، وفي تقرير أن الله لم يخلق الكون عبثا) .
فإن ملاحظة ما قدمناه جوهرية مثل سابقاتها لأن من شأنها أن تجعل الناظر في القرآن يتجنب الاستغراق في الجدل حول مشاهد الحياة الأخروية وصورها، والتورط والتكلف والتزيد في صدد ما يقوم في سبيل الماهيات والحقائق لذاتها، ويذكر أن هدف القرآن في ما جاء من التعابير والأوصاف هو العظة والتنبيه وإيقاظ الضمائر ليرعوي الضّالّ عن ضلاله ويثبت المهتدي في طريقه بأسلوب يتسق مع متناول إحساس المخاطبين وتجاربهم ومشاهداتهم ومداركهم ومألوفاتهم ويثير فيهم الرهبة من العاقبة، ويتذكر أن ماهية هذه الحياة وحقيقتها مغيبتان لا يستطاع فهم شيء عنهما إلا بالأوصاف الدنيوية، وأن حكمة الله اقتضت وصفهما بهذه الأوصاف على سبيل التقريب والتشبيه.
وإذا كانت الحياة الأخروية ومشاهدها وأوصافها وصورها المتنوعة قد شغلت حيزا كبيرا في القرآن حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من ذكرها أو(1/187)
الإشارة إليها بشكل ما فإن مرد ذلك- على كونه من خصوصيات القرآن- إلى أن هذه الحياة من أقوى الدعائم الإنذارية والتبشيرية القرآنية لأهداف القرآن وأسس دعوته وأشدها تأثيرا وإثارة لأنها تمثل عالم ما بعد الموت الذي لا يكاد يخلو إنسان في أي دور من استشعار الرهبة منه من جهة، ومن العقائد الإيمانية الإسلامية من جهة، ولأنها كانت من المواضيع الرئيسية أو بالأحرى أهم موضوع دار حوله الجدل بشدة واستمرار بين النبي ومشركي العرب مما له صلة بظروف الدعوة النبوية من جهة.
- 9- ذات الله في القرآن:
تاسعا: إن ما ورد في القرآن مما يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجيء وفوق وتحت وأمام وطي وقبض ونفخ، إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءت به من قبيل التقريب لأذهان السامعين الذين اعتادوا أن يفهموا منها معاني القوة والإحاطة والشمول والحضور والحركة الدائمة والصفات التي لا تتم هذه المعاني إلا بها.
ولقد ورد في القرآن عبارات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ووَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] يصح أن تكون ضوابط حاسمة في صدد الذات الإلهية، وتنطوي على قرينة على صحة ما ذكرناه آنفا في مدى تلك التعابير. ولعل هذه الضوابط تشمل كل ما ورد في صدد الذات السامية من أسماء وأفعال وصفات أخرى قد توهم مماثلة لأسماء وصفات وأفعال البشر أيضا، حيث يصح أن يقال إن ورودها في القرآن إنما جاء كذلك على سبيل التقريب والتشبيه. فالله سميع ولكن ليس كمثل سمعه شيء، وبصير وليس كمثل بصره شيء، ومتكلم وليس كمثل تكلمه شيء، وهو حي وعليم ومريد وقوي وحكيم وصبور وقابض وباسط وليس كمثل حياته وعلمه وإرادته وقوته وحكمته وصبره وقبضه وبسطه شيء.(1/188)
والمتمعن في الآيات القرآنية التي وردت فيها تلك التعابير وهذه الأسماء والصفات مضمونا أو أسلوبا وسياقا يجدها قد استهدفت من جهة تقرير معاني القوة والإحاطة والشمول والقدرة والوجود الدائم الشامل، ومن جهة أخرى تقرير أحسن الأسماء والصفات الدالة على أكمل الحالات وأتمّ المعاني اللائقة بالذات الإلهية بما تتسع له لغة البشر التي نزل القرآن بها. ولعل التنوع الموجود في التعابير القرآنية مما يقوم قرينة قوية على صحة ما نقرره.
وملاحظة هذا مهمة جدا من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في التكلف والتجوز والتخمين والماهيات من جهة، ودون تورطه في الجدل الكلامي على غير طائل ولا ضرورة من جهة أخرى، وتجعله يقف من هذه التعابير والأسماء والصفات عند الحد الذي وقف عنده القرآن، ويفهم منها الأهداف التي استهدف تقريرها بها دون تزيد ولا تكلّف ولا تمحّل.
على أن الناظر في أساليب القرآن المتنوعة يجدها في هذا الصدد كما هو الشأن في ما يتصل بمشاهد الكون والآخرة وأخبار الأمم السابقة وأنبيائهم والجن والملائكة أسلوب الحكيم الذي لا يدخل في نقاش وجدل وتقريرات كلامية، ويتسق مع طبائع الأشياء من حيث إنه يخاطب أناسا متفاوتين متنوعين في أذهانهم وظروفهم، المهم والجوهري من أمرهم دعوتهم إلى الخير وإصلاحهم وتوجيههم إلى أحسن الوجهات، وتقريب الأمور والمعاني إلى عقولهم بأساليب سائغة منسجمة مع مداركهم، وإعطاء كل موضوع في كل موضع ما يتحمله لتدعيم هذه الدعوة وتأييدها وجعلها مؤثرة نافذة، وفي ذلك من دون ريب تعليم للطريقة الفضلى التي يجب الأخذ بها إزاء التعابير والأساليب القرآنية.
- 10- تسلسل الفصول القرآنية وسياقها:
عاشرا: إن أكثر الفصول والمجموعات في السور القرآنية متصلة السياق ترتيبا أو موضوعا أو سبكا أو نزولا، وإن فهم مداها ومعانيها وظروفها الزمنية(1/189)
والموضوعية وخصوصياتها وعمومياتها وتلقينها وتوجيهها وأحكامها فهما صحيحا لا يتيسر إلا بملاحظة تسلسل السياق والتناسب، وإن في أخذ القرآن آية آية أو عبارة عبارة أو كلمة كلمة بترا لوحدة السياق في كثير من المواقف والمواضيع، وهو مؤدّ إلى التشويش على صحة التفهم والتدبر والإحاطة أو على حقيقة ومدى الهدف القرآني.
ولتمثيل ذلك وإيضاحه نذكر آية الصافات (96) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ فهذه الآية كثيرا ما تورد في معرض الحجاج والبرهنة في بعض المذاهب الكلامية على أن القرآن ينصّ على أن الله قد خلق أعمال الناس، وبطلان القول الذي يقوله بعض المذاهب الكلامية الأخرى أن الإنسان خالق أفعال نفسه ومسؤول عن تبعتها.
فبقطع النظر عن هذا الموضوع الكلامي الخلاقي فإن الذين يوردون الآية في معرض الحجاج والبرهان قلّما يلحظون أنها ليست تقريرا ربانيا مباشرا في صدد خلق الناس وخلق أعمالهم، وبالتالي في صدد الموضوع الكلامي، وإنما هي جزء من سلسلة تتضمن حكاية قول إبراهيم لقومه في سياق التنديد بهم، لأنهم يعبدون ما ينحتون من الأصنام مع أن الله كما خلقهم خلق المادة التي يعملونها أي ينحتونها أصناما ليعبدوها، وهي السلسلة [83- 113] من السورة. فالآية هي جزء من حكاية أقوال إبراهيم، ولو لوحظ السياق جميعه لما كان هناك محل لاقتطاع هذه الآية وحدها من السلسلة وتلقيها كتقرير رباني مباشر بخلق أعمال الناس، كما أن من الواضح مع ملاحظة جزئية الآية من السلسلة أنها لا تصح أن تورد في معرض البرهان الذي تورد فيه، هذا بقطع النظر عما ورد في السلسلة نفسها من نسبة العبادة والنحت والإلقاء وإرادة الكيد إلخ إلى قوم إبراهيم وتقرير صدور هذه الأعمال عنهم..
ونذكر جملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً في آية التوبة [36] فكثير من المفسرين يفسرونها منفردة ويصفونها بأنها آية السيف ويقولون إنها نسخت كل ما جاء في القرآن من عدم قتال غير المعتدين والمقاتلين من المشركين، وبذلك ينسفون آيات محكمة في هذا الصدد، مع أن في الآية فقرة أخرى مرتبطة أشد(1/190)
الارتباط بها ومحتوية للتعليل الرائع المعقول المتسق مع طبيعة الأمور للأمر الذي تضمنته بقتال المشركين كافة وهي كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] فلو لوحظ ذلك ولم تجزأ الآية لما كان محل لذلك التفسير والوصف والقول حيث يبدو واضحا أنها في معرض حثّ المسلمين على قتال المشركين المحاربين مجتمعين وإلبا واحدا كما يقاتلونهم كذلك ولزال الإشكال الذي ينشأ عن هذا التفسير ويؤدي إلى نسخ أحكام وآيات محكمة متسقة مع مبادئ القرآن ومثله السامية، ومع طبائع الأمور ووقائع السيرة النبوية المؤيدة بالآيات من جهة والأحاديث من جهة أخرى وتعني حصر القتال في الأعداء المقاتلين أو المعتدين ودون المشركين والكفار المعاهدين الموفين بعهدهم والمحايدين والمسالمين والعاجزين والنساء والأطفال مما يقتضي قتالهم جميعا وفاق ذلك التفسير.
ونذكر آية المجادلة الثالثة كمثل ثالث، وهي التي جاء فيها وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فكثير من المفسرين ينظرون إلى هذه الآية مستقلة عن سابقتها ويحارون في تأويل جملة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا حتى قال غير واحد منهم إن الجملة من مشكلات القرآن، واضطروا إلى اعتبار «لما» بمعنى «عن ما» وقالوا إن الجملة تعني «ثم يرجعون عن ما قالوا عنه ويرغبون في معاشرة أزواجهم» أو إلى تأويلات أخرى، هذا مع أن هذه الآية متصلة كل الاتصال بسابقتها التي جاء فيها الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة: 2] . فلو لوحظ ذلك لما كان هناك محل لهذه الحيرة والإشكال والتأويل. فالآية الأولى نددت بالمظاهرين والظهار وعدته عملا منكرا ثم انتهت بمقطع وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فكأنما تقدمت باستنكار الظهار من حيث المبدأ وتقرر أن الله يعفو ويغفر للمظاهرين قبل نزول هذا الاستنكار وبالتالي قبل نزول الآيتين على اعتبار أنه لم يكن مستنكرا ومنهيا عنه ثم أعقبتها الثانية لتقرر الحكم الإسلامي فالذين يعودون إلى ما نهوا عنه واستنكر أي الظهار بعد ذلك(1/191)
الاستنكار والوصف تجب عليهم الكفارة قبل معاشرة أزواجهم لأنهم يكونون قد أتوا بعمل عده القرآن منكرا وزورا. وطبيعي أن الحكم الإسلامي صار حكما ملزما لكل مظاهر وأن العفو عن المظاهر ظل خاصا بمن ظاهر قبل نزول الآية الأولى وهي حالة خصوصية الزمن لا تتكرر. ولقد احتوت السورة نفسها نفس الحروف في الآية [8] التي جاء فيها أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة: 8] حيث يأتي المعنى فيها واضحا بأن العودة هي لما نهي عنه وأن الوعيد هو للعائدين إلى التناجي بعد النهي عنه، ولا فرق بين الجملتين كما هو ظاهر.
وهناك أمثلة كثيرة أخرى بالنسبة لآيات واردة في السور الطويلة والمتوسطة مما نبهنا عليه في سياق التفسير. فبينما تكون المجموعة أو الفصل القرآني مفهوما سائغا يبدو عليه الانسجام والترابط التامان سبكا وموضوعا إذا قرىء ونظر فيه ككل اضطرب على الناظر في القرآن فهمه وقامت في ذهنه بلبلة أو مشكلة أو حيرة في مداه ومدلوله إذا أخذه آية آية أو عبارة عبارة.
ومما يجدر التنبيه عليه في هذا المقام أن هناك روايات كثيرة تورد كأسباب لنزول آيات منفردة أو جزء من آية في حين أن سياق الآية ومفهومها لا يتفقان مع الرواية كسبب للنزول، ويلهمان أن الآية منسجمة الأجزاء، وأنها متصلة اتصالا وثيقا بما قبلها أو بعدها في السياق، وكل ما يمكن فرضه في أمر الرواية في حالة صحتها أن تكون الآية أوردت على سبيل الاستشهاد على حادث ما وقع بعد نزولها، أو يكون الحادث قد وقع قبل نزولها بمدة ما فجاءت الإشارة إليه في السياق العام الذي أتت فيه الآية على سبيل التشريع أو التذكير أو التنديد أو التنبيه أو العظة إلخ، فالتبس الأمر على الراوي وظنّ أن الحادث هو سبب النزول.
فقد روي مثلا عن ابن مسعود قوله: لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون إن الله لغني عن صدقة ذلك(1/192)
وإن ما فعله الآخر ليس إلا رياء فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ التوبة: [79] .
فهذه الرواية توهم أن الآية نزلت منفردة بسب هذا الحادث مع أنها متصلة بسياق عام سابق ولا حق بها أشد الاتصال، وأن في السياق قرائن تدلّ على أن الفصل الطويل الذي تقع فيه هذه الآية [38- 99] قد نزل كلّه أو جلّه في أثناء غزوة تبوك وظروفها وسببها.
وهناك رواية أخرى في البخاري عن ابن مسعود أن رجلين من قريش وختنا لهما من ثقيف كانوا في بيت فقال بعضهم لبعض أترون أن الله يسمع حديثنا قال بعضهم يسمع بعضه وقال بعضهم لئن كان يسمع بعضه لقد يسمعه كلّه فنزلت الآية وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ.. فصلت: [22] .
مع أن الآية متصلة بسياق يحكي فيه محاورة في الآخرة بين الكفار وبين أعضاء أبدانهم التي تشهد عليهم أشد الاتصال وليس هناك تطابق ما بين مفهوم الرواية وعبارة الآية.
والفصول الأولى من سورة النساء من مواريث وأنكحة مترابطة ومنسجمة، والآية الأولى في السورة بمثابة براعة استهلال لما تضمنته من هذه الفصول، وروح آيات الفصول يلهم أنها وحدة تشريعية، في حين أن هناك روايات تكاد تجعل لكل آية مناسبة نزول مستقلة وتوهم أنها نزلت منفردة بسببها. ويقال هذا في فصول سورة الحجرات أيضا. وأمثال ذلك كثير جدا نبهنا عليها في سياق التفسير.
فملاحظة السياق والتناسب والترابط بين الفصول والمجموعات القرآنية ضرورية ومفيدة جدا في فهم مدى القرآن ومواضيعه وأهدافه من جهة وفي لمس ناحية من نواحي الروعة والإعجاز والإتقان فيه، لأنهما يظهران الناظر في القرآن الجزء الأول من التفسير الحديث 13(1/193)
على ما هو عليه من ترتيب وانسجام وترابط نظما وموضوعا من جهة ثانية، وعلى نقاط الضعف في روايات كثيرة وردت في سياق الآيات القرآنية وخاصة في مكية بعض الآيات في السور المدنية ومدنية بعض الآيات في السور المكية من جهة ثالثة، وتزيلان ما هو عالق في الذهن خطأ من أن الفصول القرآنية فوضى لا ترتيب ولا انسجام بينها من جهة رابعة.
ومن فوائد هذه الملاحظة المهمة إزالة وهم التعارض والتناقض في نصوص القرآن وتقريراته المتكررة بأساليب متنوعة حسب المواقف والمناسبات وخاصة في القصص والمواعظ والإنذار والتبشير والمشاهد الكونية والأخروية، وبنوع أخص في عبارات وجمل الهداية والضلال والكفر والإيمان وتزيين الأعمال والطبع على القلب وتسليط الشياطين والإغواء ومسؤولية الإنسان عن عمله وحكمة الله في عدم خلق الناس أمة واحدة إلخ، ففي تدبر سياق كل مناسبة وكل جملة قرآنية من هذا القبيل يمكن أن يلمح الناظر في القرآن حكمة ورود كل منها بالأسلوب الذي وردت به والمناسبة التي جاء فيها والمعنى الذي أريد منها والهدف الذي استهدفه، وكل هذا قد يكون متنوعا بتنوع المواقف والأساليب والمضامين والسياق، فيطمئن بسلامة المعنى وحكمة النصّ الوارد في السياق الذي ورد فيه، ويزول وهم التعارض والتناقض وما يؤدي إليه من الحيرة أحيانا، ويحمل عليه من التكلف والتجوز والتخريج والجدل على غير ضرورة ولا طائل وعلى غير اتساق مع الهدف القرآني ونطاقه.
فأنت مثلا إذا أخذت جملة يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ في آية فاطر [8] وجملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ في آية المدثر [31] وقعت في حيرة لأن هناك آيات كثيرة جاء في بعضها وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ الكهف: [29] وفي بعضها قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها.. يونس: [108] .
ولكنك إذا قرأت سياق آيتي فاطر والمدثر كوحدة [3- 10 فاطر] و [1- 31(1/194)
المدثر] ظهر لك المعنى سائغا مفهوما، وبدا لك أنهما استهدفتا فيما استهدفتاه التنديد بالكافرين والضالين والحملة عليهم من جهة والتنويه بالمؤمنين الصالحين وتطمينهم وتبشيرهم من جهة وتسلية النبي فيما ألم به من حزن وحسرة على مكابرة الكافرين وعنادهم من جهة، بل ظهر لك أن تلك المعاني التي تقررها آيات الكهف ويونس منطوية في نفس سياق جملتي سورتي فاطر والمدثر حيث احتوى سياق آية فاطر يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [5- 8] وحيث احتوى سياق آية المدثر إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) . ويطرد هذا في أمثال كثيرة مثل آية البقرة [16] مع سياقها وآية النحل [93] مع سياقها وآية القصص [56] مع سياقها وآيتي يونس [99- 100] مع سياقها إلخ مما عليه في التفسير عند مناسباته.
وأنت إذا أخذت مثلا جملة إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً في سورة الكهف الآية [58] لحدتها وجدت نفسك أمام مشكلة محيرة لأنها توهم أن الله قد صرف الكفار عن فهم القرآن والتأثر به وحتم عليهم عدم الإجابة والاهتداء، ولكنك إذا تدبرت سياق الآية جميعه [الآيات 45- 59] بل أول الآية التي وردت فيها ظهر لك قصد وصف مكابرة الكفار وعنادهم والتسرية عن النبي إزاء هذه المكابرة والعناد. ويطرد هذا كذلك في أمثال كثيرة كآيات هود: [118] والرعد: [31] والبقرة: [7] ويس:
[9] وسياقها.
ونقول استطرادا إن هذه الأمثلة قد كانت موضوع أخذ ورد وجدل في كتب التفسير بسبب صلتها بالموضوع الخلافي الكلامي في صدد فعل الإنسان وكسبه(1/195)
وإرادته، حيث ذهب فريق إلى ما يفيد أن الإنسان مجبور على أفعاله وأنها محتمة عليه في الأزل لا معدى له عنها ولا اختيار له فيها من كفر وإيمان وفساد وصلاح وشرّ وخير، وأن العقاب والثواب ينالان الناس بمحض مشيئة الله وفضله، ولا صلة ولا أثر لأعمالهم فيها في حقيقة الأمر، وحيث ذهب فريق آخر إلى ما يفيد أن الإنسان خالق أفعال نفسه فيؤمن ويكفر ويفسق ويصلح بإرادته واختياره، وأن الله لا يصح عليه إرادة الكفر والفسق من العبد ولا تقديرها عليه، بل ولا يصح أن يكون مريدا للقبيح وأنه يجب عليه الأصلح لعباده، وأن الإنسان يعاقب ويثاب على أفعاله حقا وعدلا، وحيث توسط فريق فذهب إلى ما يفيد أن الله هو خالق أفعال عباده من كفر وإيمان وعصيان وطاعة ومنكرات وصالحات، وكل بإرادته ومشيئته وقضائه وتقديره في حدود عموم تأثير صفاته الأزلية، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء بمعنى خلقه الضلال والهدى، وأنه لا يجب عليه الأصلح، وقرروا مع ذلك للإنسان فعلا اختياريا يثاب عليه إذا كان طاعة وصلاحا ويعاقب عليه إذا كان معصية وفسادا، وقالوا إن معنى أن الله أراد من الكافر كفره ومن الفاسق فسقه ومن المؤمن إيمانه ومن الطائع طاعته إنه أرادها باختيار الناس وكسبهم، وتشاد الجميع حول هذه المواضيع كل يؤيد رأيه ويرد على رأي الآخرين بأساليب جدلية من جهة وعبارات قرآنية من جهة أخرى مقتطعة من آيات أو سياق دون تدبر في بقية الآية أو السياق، ويؤول ما هناك من نصوص تناقض رأيه في ظاهرها ولا تتسق معه على ما هو مبسوط في كتب المتكلمين المسلمين على اختلاف مذاهبهم.
والموضوع في أصله أي كون الإنسان مخيرا أو مسيرا عويص وموضوع جدلي عام لا ينحصر التشاد حوله في المذاهب الإسلامية الكلامية وله جبهات متنوعة ولا يدخل التبسط فيه في موضوع هذا الكتاب، غير أن المقام يتحمل بعض القول بسبب ما احتواه القرآن من آيات كثيرة جدا اتخذها علماء المذاهب الكلامية الإسلامية مستندا لمذاهبهم المختلفة في هذا الموضوع. ومع أن من المسلم به أن النصوص القرآنية هي سند رئيسي في العقائد والشرائع والأحكام الإسلامية فالذي نعتقده أن الناظر في الآيات القرآنية إذا أخذ المجموعة القرآنية وحدة ولم يغفل(1/196)
سياقها وظروف نزولها وهدفها، ولم يقتطع منها الجمل وينظر فيها على حدة كما يفعل أصحاب المذاهب الكلامية في تشادهم ومجادلاتهم فيما بينهم- وهذا هو موضوع هذا المبحث في الأصل- يستطيع أن يتبين أهداف القرآن في العبارات الواردة تبينا يزول معه من نفسه ما قد يقوم من وهم التعارض والتناقض في آياته، والقرآن بريء من التعارض والتناقض بنص صريح فيه جاء في آية النساء: [82] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ويجد حلا لما يبدو من إشكال وتعليلا سائغا لما يوهم ظاهره من معان متعارضة فيه، ويظهر له أن كثيرا مما دار ويدور من جدل ونقاش وحجاج وخلاف لا تتحمله عبارات القرآن ولا تقتضيه، وليس من ورائه طائل ولا ضرورة. وإن هذه العبارات ليست في صدد هذه التقريرات الكلامية، وفي الأمثلة التي أوردناها دلائل كافية، وهي مطردة في سائر فصول القرآن ومجموعاته التي وردت أمثالها فيها، ثم يجد- وهذا مهم جدا- أن النصوص والأهداف القرآنية تجري في مدى هداية الناس ودعوتهم إلى الخير وإصلاحهم وتوجيههم إلى أفضل الوجهات وأنفعها، والتنويه بالمستجيبين المهتدين الصالحين المتقين المحسنين وتبشيرهم وتطمينهم والتحذير من الفساد والإثم والفاحشة وإنكار الله ووحدته وكمال صفاته والتنديد بالضالين الآثمين المكابرين المنافقين الظالمين وإنذارهم، ولا تجري في أي حال في مجرى التقريرات الكلامية التي يدور حولها الخلاف والجدل المذهبي، وهذا هو أسلوب الحكيم الذي يعلمنا إياه القرآن في جميع الأمور، المتسق مع طبائع الأشياء وحقائقها ونعني كون القرآن يخاطب بشرا تعورف على أنهم ذوو قابليات وكسب واختيار، وأن لهم أثرا فيما يصدر عنهم من أعمال وأقوال ومواقف وفقا لما تمليه عليهم عقولهم وميولهم ومداركهم وتقديراتهم ومنافعهم وظروفهم الخاصة والعامة، وأنهم متفاوتون في كل هذا وأنهم ذوو تمييز للخير والشر والحسن والقبيح في نطاق تلك العقول والميول والمدارك والتقديرات والمنافع والظروف والقابليات المتفاوتة، وأن المهم في الأمر هو دعوتهم إلى الهدى والخير وإخراجهم من الظلمات إلى النور وإنقاذهم من الضلال وإثارة نفوسهم وإيقاظ(1/197)
ضمائرهم، وتبشير المستجيبين وإنذار المكابرين وإرشاد الضالين الجاهلين منهم، وإن من الممكن أن تؤثر فيهم الدعوة فيستجيبوا تسليما وإذعانا وإدراكا أو خوفا وطمعا ورغبة ورهبة وإن الانحراف عن هذا النطاق والمدى إلى الجدل في ما وراء ذلك تكلف وتجوز وبعد عن مقاصد القرآن وأهدافه، ومؤدّ إلى البلبلة والحيرة والتشويش على هذه المقاصد والأهداف وعلى الراغبين في تفهم القرآن والناظرين فيه.
- 11- فهم القرآن من القرآن:
حادي عشر: إن الأوثق والأوكد والوسيلة الفضلى لفهم مدى القرآن ودلالاته وتلقيناته بل وظروف نزوله ومناسباته تفسير بعض القرآن ببعض، وعطف بعضه على بعض، وربط بعضه ببعض كلما كان ذلك ممكنا لغة أو مدلولا أو حادثا أو مناسبة أو سبكا أو حكما أو موقفا أو تقريرا، وسواء ذلك ما يدخل في نطاق الأسس والأهداف أو الوسائل والتدعيمات. وإمكانيات ذلك قائمة على نطاق واسع في مختلف فصول القرآن المكية والمدنية. فإن القرآن يكاد يكون سلسلة تامة يتصل بعضها ببعض أوثق اتصال في ما يمثل من أدوار السيرة النبوية في عهديها كما أن من شأن عباراته وجمله وأحكامه ومشاهده وقصصه ومواعظه وحججه أن يفسر بعضها بعضا وأن يدعم بعضها بعضا.
وفائدة هذه الملاحظة عظيمة كما يتضح عند التدبر، حيث يمكن أن تغني الناظر في القرآن عن الفروض والتكلف والتخمين، وتحول بينه وبين التورط في موهمات التعارض والإشكالات اللغوية وغير اللغوية، وكثيرا ما تساق على تمييز القوي من الضعيف والصحيح من الباطل من الأقوال والروايات الواردة في تفسير كثير من الآيات أو في مناسبات نزولها وأسبابها. وهذا باب واسع الشمول والمدى. ولنضرب مثلا لذلك آية وردت في سورة الأنعام جاء فيها إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) .(1/198)
فقد قال غير واحد من المفسرين وعلماء المذاهب أقوالا يستفاد منها أن الآية قد احتوت إخبارا غيبيا بما نجم بعد النبي من خلافات ومنازعات وفرق وشيع وبدع إلخ، في حين أنه جاء في سورة الروم جملة مثلها مسبوقة بجملة فيها صراحة بأنها تعني المشركين كما ترى مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) .
فلو لو حظت هاتان الآيتان وربط بينهما وبين آية الأنعام لما كان محلّ لتلك الأقوال التي تبدو فيها رائحة ما نجم من تلك الخلافات والمنازعات والفرق والشيع والبدع بعد وفاة النبي بسنين قليلة، بل لوحظ سياق آية الأنعام على ما نبهنا عليه في المبحث السابق وخاصة الآيتين: 155- 156 لظهر أنه احتوى تنديدا بالمشركين ومواقفهم من الدعوة والقرآن ولبدا الاتساق واضحا بين آيات السورتين القرآنيتين ولما كان محل لتلك الأقوال أيضا، ومن الأمثلة التي تساق في صدد المبحث الحالي ما روي عن ابن عباس في الآية وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الكهف: [50] .
وهو قوله إن الجن طائفة من الملائكة وإن التسمية من الاختفاء الذي يشمل الملائكة كما يشمل الجن، هذا في حين أن الآية جمعت بين الملائكة والجنّ على اعتبارهما خلقين مستقلين، وإن هناك آيات قرآنية عديدة حكت قول إبليس إنه مخلوق من النار وأخرى قررت أن الجن قد خلقوا من النار، فملاحظة هذا الاشتراك تظهر عدم صحة الرواية لأن هذا ليس مما يمكن أن يخفى عن ابن عباس الذي يوصف بما يوصف به من سعة العلم وقوة الذكاء والإحاطة بالقرآن، وتساعد على القول الحاسم في جنّية إبليس في النصوص القرآنية.
ويمكن أن تساق الآيات التي نصّت على أن الله يهدي من يشاء ويضلّ من(1/199)
يشاء، ولا نريد أن نكرر ما قلناه قبل قليل في هذا الأمر. ولكنا نريد أن ننبه على أن في القرآن آيات من هذا الباب فيها إيضاح من شأنه أن يضع الأمر في نصاب الحق بالنسبة لإطلاق العبارة في آيات أخرى. ففي سورة البقرة: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) . وفي سورة الرعد: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) . وفي سورة إبراهيم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) . فهذه الآيات حينما تلاحظ أثناء تلاوة وتفسير الآيات التي جاءت عبارتها مطلقة وتفسر بها يزول كل ما يدور حول هذا الموضوع الكلامي من أسباب الحجاج والنقاش ويبدو قصد تقرير كون هدى الله إنما يكون لمن استنار قلبه وحسنت نيته ورغب في الإنابة إلى الله، وكون الضلال إنما يكون للظالمين والفاسقين وأردياء النية والخلق، وكون الهدى والضلال منوطين بحسن نوايا الناس وسوئها والرغبة في الإنابة إلى الله والمكابرة فيها، ويسوق الناظر إلى التماس سبب مجيء العبارة مطلقة في الآيات التي جاءت فيها مطلقة في أسلوبها وسياقها على ما ذكرناه قبل.
ويمكن أن تساق آية الشورى هذه كمثل آخر:
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) .
فإن بعض المفسرين وخاصة مفسري الشيعة فسروا الآية على أنها تفيد إيجاب محبة أقارب النبي الأدنين والبرّ بهم وطاعتهم، في حين أن هناك آيات قرآنية عديدة «1» أمرت النبي بالقول إنه لا يسألهم أجرا دون أي استثناء. فملاحظة ذلك تجعل الناظر في القرآن يحمل ما جاء في آية الشورى من استثناء على محمل آخر يبعد عن القرآن وهم التعارض، وينزه الله ونبيه عن تقاضي الأجر على هداية
__________
(1) آيات يوسف: [104] ، والمؤمنون: [77] ، والفرقان: [57] ، وسبأ: [47] ، وص:
[86] ، والقلم: [46] .(1/200)
الناس وإيجابه بالنسبة لذريته أو أقاربه الأدنين، ولا يتورط في تأويل يؤيد الاستثناء والأجر اللذين يثيران حيرة وإشكالا. هذا بقطع النظر عن ما في ذلك التفسير من تمحل وتجوز لا يتحملهما مضمون الآية، وعن ما هنالك من رواية مأثورة عن ابن عباس في صددها تجعلها متسقة كل الاتساق مع النصوص القرآنية الأخرى وتفيد أن قصد الآية تقرير كون حرص النبي على هداية قومه لا يمكن أن يتهم لأنه لا يطلب عليها أجرا وكون مردّ هذا الحرص هو ما بين النبي وقريش من أوشاج القربى حيث لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبينه وبين النبي قرابة. وهناك تأويل آخر جاء في تفسير ابن كثير المشهور وهو أن الآية بمعنى أني لا أريد منكم شيئا إلا أن تحترموا قرابتي لكم وتوادوني من أجلها وتكفوا عن الأذى والصدّ والتعطيل وهو تأويل وجيه ومتسق مع روح القرآن واللغة. وننبه على أننا هنا في صدد فهم نصوص القرآن ولسنا في صدد نفي واجب المسلمين في برّ ومودة الصالحين الأتقياء الذين ليست نسبتهم إلى بضعة الرسول محلّ شكّ وريب من أجل هذه النسبة الشريفة الكريمة.
ومن فوائده ملاحظة ما هو موضوع هذا البحث أنها تساعد على معرفة الناسخ والمنسوخ وصور التطورات المتنوعة في سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية والتشريع القرآني. فآيات النساء: [15- 16] مثلّا تشير إلى جريمة الزنا وتعين نصاب شهود ثبوتها ولكنها لا تعين حدا وتكتفي بالأمر بإمساك النساء في البيوت وأذية الزناة بعبارة مطلقة في حين أن آية سورة النور الثانية تعين حدا للزانين والزانيات مئة جلدة. فملاحظة آيات النساء والنور معا في النظر والتفسير تساعد على معرفة كون آيات النساء قد نزلت قبل آيات النور وأن آيات النور هي المحكمة في جريمة الزنا دون آيات النساء، وأن في نزول آيات النور بعد آيات النساء تطورا في التشريع القرآني. وفي آية النساء [25] جملة تنصّ على أن حد الإماء المحصنات (المتزوجات) إذا زنين هو نصف حدّ الحرائر المحصنات وهي هذه فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فملاحظة آية النور في تفسير هذه الجملة تساعد على معرفة أن هذه الجملة نزلت(1/201)
بعد آيات النور، بعكس الآيات السابقة حيث نزلت آيات النساء قبل آيات النور، وإنها وضعت في محلّها للتناسب الموجود في سلسلة أحكام الأنكحة والأسرة والمواريث الواردة في سورة النساء وتساعد كذلك على معرفة صورة من صور التأليف القرآني، كذلك إذا قرأنا آيتي سورة المنافقون هاتين هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) . ثم قرأنا آيتي التوبة هاتين وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) . استطعنا أن نتبين من ملاحظة آيات السورتين أن المنافقين في المدينة كانوا في أوائل العهد المدني معتدّين بقوتهم ومالهم ومركزهم بينما صاروا في أواخر هذا العهد إلى حالة الخوف والضعف وأن نلمس صورة تطورية من صور السيرة النبوية، وأن نحكم على تهافت الرواية التي ذكرت أن معسكر المنافقين عند الاستعداد لغزوة تبوك كان يعادل في سعته وعدده معسكر المؤمنين المخلصين.
والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدا ومنبثّة في السور والفصول القرآنية مكيها ومدنيها نبهنا عليها في التفسير. وهذه الكثرة تظهر فائدة هذه الملاحظة في حسن فهم القرآن وتفسيره كما هو واضح.
- 12-
ولا أدعي بأن هذه الملاحظات جديدة وغير مسبوقة، ففي «الإتقان» للسيوطي لنفسه ولغيره من العلماء والمؤلفين نبذ عديدة في شروط التفسير وأصوله احتوت غير واحدة من هذه الملاحظات، كما أن كثيرا من العلماء والباحثين والمفسرين نبهوا عليها بأساليب متنوعة، ومنهم من فعل ذلك في مقدمات كتبهم التفسيرية أو في ما كتبوه عن القرآن من كتب خاصة بل ومنهم من سار عليها قليلا(1/202)
أو كثيرا غير أني لم أر في ما تيسّر لي من الاطلاع عليه من كتب التفسير «1» العديدة القديمة والحديثة أن هذه الملاحظات قد لوحظت جميعها معا في تفسير واحد، وإن صحّ القول إنها لو حظت متفرقة وبسعة أو إيجاز حيث يمكن أن يكون مفسّر لاحظ بعضا وسار عليه وآخر لاحظ بعضا وسار عليه مع أن ملاحظتها جميعا والسير وفقها جوهري جدا فيما أعتقد لفهم القرآن فهما صحيحا وخدمته خدمة فضلى، هذا مع اعترافي بالتقصير إزاء ما أحرزه الذين بحثوا في القرآن وعلومه وألفوا فيه وفسروه قديما وحديثا من علم واطلاع وتمكن وممارسة طويلة وتفرغ أطول وخاصة في علوم الصرف والنحو والبلاغة واللغة وأصول الفقه والحديث والرواية والخلافات المذهبية والكلامية ومع اعترافي بالمجهود الذي بذله كل منهم في خدمة القرآن وتفسيره وما لكثير من كتب التفسير من خصوصيات مفيدة إما من حيث الإسهاب والإيجاز أو من حيث اللغة والبلاغة، والقواعد النحوية والصرفية، أو من حيث التنويه بالمعاني والقضايا وتفريعاتها، أو من حيث الأحكام واستنباطها، أو من حيث إبراز ما في القرآن من إشراق وبعد مدى وقوة تلقين وتوجيه، أو من حيث روايات المناسبات وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، أو من حيث التعليق على ما فيه من قصص وإيضاحها، أو من حيث شرح المذاهب الكلامية والفقهية وجدلياتها.
__________
(1) من كتب التفسير التي اطلعت قراءة أو تصفحا على جميع أو بعض أجزائها التفسير المعزو إلى ابن عباس رواية أبي صالح وباب التفسير في البخاري وتفاسير الطبري والنسفي وأبي السعود والطوسي والخازن والرازي والزمخشري والطبرسي والبيضاوي والجوهري وفريد وجدي ورشيد رضا والألوسي وأبي حيان وابن كثير والبغوي والقرطبي والمراغي والعادلي.(1/203)
الفصل الرابع نظريات وتعليقات على كتب المفسرين ومناهجهم
تمهيد
ومع ما ذكرناه في صدد كتب المفسرين فإن الناظر في كثير منها يلحظ ثغرات عديدة تنقص من قيمة تلك الفوائد التي احتوتها والجهود التي بذلت فيها قليلا أو كثيرا، وتجعلها غير شافية للنفس شفاء تاما.
- 1- روايات أسباب النزول:
فأولا: إن هناك روايات كثيرة في أسباب النزول ومناسباته وقد حشرت في كثير من كتب التفسير التي كتبت في مختلف الأدوار لا تثبت على النقد والتمحيص طويلا، سواء بسبب ما فيها من تعدد وتناقض ومغايرة أو من عدم الاتساق مع روح الآيات التي وردت فيها وسياقها بل ونصوصها أحيانا، ومع آيات أخرى متصلة بموضوعها أو موضحة لها أو عاطفة عليها، حتى أن الناقد البصير ليرى في كثير من هذه الروايات أثر ما كان من القرون الإسلامية الثلاثة الأولى من خلافات سياسية ومذهبية وعنصرية وفقهية وكلامية قوي البروز، وحتى ليقع في نفسه أن كثيرا منها منحول أو مدسوس أو محرف عن سوء نية وقصد تشويش وتشويه ودعاية ونكاية وحجاج وتشهير، أو قصد تأييد رأي على رأي، وشيعة على شيعة.
والمتبادر أنه لما كان عهد التدوين الذي راجت فيه الرواية تلقف المدونون من الأفواه الغثّ والسمين والصحيح والفاسد والمعقول وغير المعقول والملفق(1/205)
والمنحول والمحرف فدونوه وتناقلوه، وجعله المفسرون القديمون من عمد تفسيرهم، بل كان وظلّ الركن الأقوى والأوسع في التفسير، فكان هذا التساهل من جانب المدونين أولا والمفسرين المتقدمين ثانيا باعثا على تسلسل الدور وانتقال الروايات من عهد إلى عهد من دون تحفظ أو تمحيص إلا قليلا حتى صارت كأنها قضايا مسلّمة أو نصوص نقلية يجب الوقوف عندها والتقيد بها أو التوفيق بينها إلخ، وأدى هذا إلى الوقوع في أخطاء وتشويشات ومفارقات كثيرة، سواء كان في صدد السيرة النبوية وأحداثها أو ظروف ما قبل البعثة، أو المفهومات والدلالات والأحكام القرآنية. ولقد كان هذا في أحيان كثيرة مستندا من مستندات أعداء العرب والإسلام المتعقبين للثغرات فيهم، فتمسكوا بكثير من الروايات الواردة في التفسير مع ما هي عليه من وهن وتهافت فأساؤوا فهم القرآن وخلطوا فيه عن عمد أو غير عمد، شأنهم في ذلك شأنهم في التمسك بكثير من الروايات الواردة عن السيرة النبوية والبيئة النبوية وظروفها وما بعدها من أحداث الحركة الإسلامية وظروفها وتاريخها. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، وقد نبهنا عليها في سياق التفسير، وإليك بعضها على سبيل التمثيل والإيضاح:
(1) فقد نقل الخازن «1» في تفسير أوائل سورة التوبة عن محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما أن النبي عليه السلام أمّر أبا بكر على الحج في أول حجّ بعد فتح مكة وبعث معه أربعين آية من سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليا ليقرأ على الناس صدر براءة ويؤذن بمكة ومنى أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله من كل مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وأن أبا بكر رجع فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا ينبغي أن يبلغ هذا
__________
(1) إن إشارتنا إلى كتب تفسير بعينها في هذا الفصل وغيره لا تعني أن عدا هذه الكتب خال من الثغرات التي ننبه عليها ونمثل لها. فإن أكثر ما اطلعنا عليه من هذه الكتب ينطوي على واحدة أو أكثر من هذه الثغرات، وبعضها ينقل عن بعض حرفيا وبعضها يعزو إلى بعض والقليل منها تعليق على ما يورده أو ينقله أو يعزوه وكثير منها يورد فيها بدون تعليق كأنما يتبناه أو ليس له اعتراض وتعليق عليه.(1/206)
إلا رجل من أهلي. هذا بينما ورد في البخاري حديث عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمّره رسول الله عليها في رهط يؤذن في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ويطوف بالبيت عريان. وفي الحديث الثاني تعارض مع الأول كما هو ظاهر، ولقد كان الحديث الأول موضع تأويل متقابل من الشيعة والسنة، فالأولون احتجوا به لصواب مذهبهم لأنه مؤيد لحق علي في القيام مقام النبي بعده، وكون ما تمّ هو مخالف لتلقين النبي، والآخرون قالوا مقابل ذلك إنما بعث النبي عليا في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويراه الناس أنه تحت إمرته ويكون في ذلك تنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول الله، وأن الأمير على الناس كان أبا بكر ولم يكن عليا وأن في هذا تقديما له عليه، ولم يكلف من هؤلاء وأولئك نفسه عناء البحث في متن الرواية، فإنّ ما احتواه حديث بعث النبي مع أبي بكر أربعين آية من صدر سورة براءة يجعل الحديث موضع نظر وتوقف لأن هذا العدد من صدر السورة احتوى مواضيع متنوعة ومنها ما نزل في شؤون أخرى، ومنها ما هو متصل بسلسلة طويلة من بعده، بل ومنها ما نزل قبل الفتح المكي على ما ذكرته من روايات أخرى يؤيدها أو يقوم قرينة عليها نصوص بعض هذه الآيات، هذا فضلا عن رائحة التشاد الحزبي بين الشيعة والسنة القوية في الحديثين وما يمكن أن تعنيه من وضعهما لتأييد كل رأيه وتجريح رأي خصمه هجوما ودفاعا! (2) وقد روى السدّي عن الزبير على ما جاء في «كشاف» الزمخشري أنه قال إن آية وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] ، نزلت فينا، وأنه كان يساير النبي يوما فأقبل عليه فضحك له الزبير فقال رسول الله كيف حبك لعلي فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني أحبّه كحبي لولدي أو أشدّ قال فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله. هذا في حين أن الآية شديدة الانسجام مع سابقاتها ولا حقاتها، وأن السياق في صدد تثبيت المسلمين وتذكيرهم وتحذيرهم وعظتهم على أثر التشاد الذي كان بينهم حول غنائم بدر وفي سبيل توطيد طاعة للنبي في نفوسهم، وفي حين أنه لا يبدو قط أي اتساق وصلة بين الرواية والآية(1/207)
معنى أو موضوعا أو مدى، فضلا عما يلفت النظر فيها من أثر الفتنة التي نجمت مذ مقتل عثمان ومن عدم احتمال صدورها عن الزبير لأن فيها إدانة له.
ومن هذا الباب روايات كثيرة في أسباب نزول آيات كثيرة تضمنت صرف الآيات إلى بعض الصحابة وتشم فيها رائحة الخلاف السني الشيعي ولا تتسق في حال مع الآيات وظروف نزولها وسياقها، فقد روى بعض الشيعة رواية بأن آية وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزمر: 33] قد نزلت بحق علي، وروى بعض السنيين رواية بأنها نزلت في حق أبي بكر، والسياق يدل على أنها مع ما سبقها ولحق بها عامة متصلة بظروف الدعوة في العهد المكي الذي لم يكن علي في أوائله إلا صبيا، ومن ذلك ما رواه بعض السنيين من أن آية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] ، قد نزلت عند إسلام عمر، ومن أن جملة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] ، نزلت في إيجاب مشاورة أبي بكر وعمر، مع أن آية الأنفال مدنية ومتصلة بظروف الجهاد في العهد المدني وجزء من سياق منسجم، وأن جملة آية آل عمران من آية يدل مضمونها نفسه على أنها متصلة بموقف بعض المسلمين والمنافقين في ظروف وقعة أحد فضلا عن أنها جزء من سياق منسجم في ظروف هذه الوقعة، ومن ذلك ما رواه الشيعيون من أن آية وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] ، قد نزلت في الذين ينكرون حقّ علي في الولاية مع أن السياق عام متصل بظروف الدعوة في العهد المكي، وفيه حكاية عن ما يراه الكافرون والمؤمنون من المشاهد الأخروية ترهيبا وترغيبا.
(3) وجاء في البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب، بينما جاء في البخاري عن أنس أيضا أنه لما تزوج رسول الله زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس ثم(1/208)
إنهم قاموا فانطلقت فأخبرت النبي أنهم انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى آخر آية الأحزاب: [53] ، وهي الآية التي ذكر فيها الحجاب والتي توصف بأنها آية الحجاب والتي نزلت بناء على مراجعة عمر كما جاء في الرواية الأولى، وجاء كذلك في البخاري عن عائشة أن عمر بن الخطاب كان يقول لرسول الله احجب نساءك فلم يفعل وكان أزواج النبي يخرجن ليلا قبل المناصع «1» فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال عرفتك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب قالت فأنزل الله آية الحجاب. وجاء في البخاري أيضا عن عائشة قالت خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة إلى رسول الله في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله خرجت لبعض حاجتي فقال عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وأن العرق في يده ما وضعه فقال إنه أذن لكن أن تخرجن. فهذه أربعة أحاديث بخارية حول الحجاب، وثلاثة منها في مناسبة نزول آية الحجاب في سورة الأحزاب، وفيها ما فيها من التغاير في هذه المناسبة وكل هذا في حين أن الحجاب المذكور في الآية يعني الستر على باب البيت كما رواه أنس في أحد أحاديثه السابقة وأمر الناس بأن يطلبوا ما يكون لهم من حاجات من زوجات النبي من ورائه ولا يدخلوا عليهن بسبب ذلك كما أن الآية لم تنزل خاصة في الحجاب حتى تسمى آيته كما يظهر ذلك لمن ينعم النظر فيها.
(4) وروى الضحاك عن ابن عباس على ما جاء في الخازن أن آية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً.. إلخ. [المائدة:
33] ، نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله عهد وميثاق فنقضوا عهد الله وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله إن يشأ يقتل وإن يشأ يصلب وإن يشأ
__________
(1) محلات الغائط. [.....]
الجزء الأول من التفسير الحديث 14(1/209)
يقطع الأيدي والأرجل من خلاف بينما روى الكلبي عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن النبي وادع هلالا على أن لا يعينه ولا يعين عليه وأن من مرّ بهلال إلى النبي فهو آمن، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم هلال فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل بالقضاء فيهم بهذه الآية، وهذا وذاك في حين أن رواية عن سعيد بن جبير تقول إن الآية نزلت في قوم من عرينه وعكل أتوا رسول الله وبايعوه على الإسلام وهم كذبة، فاستوخموا المدينة فبعثهم رسول الله إلى إبل الصدقة فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل. فهذه ثلاث روايات في سبب نزول آية كل منها مخالف للأخرى من حيث القصة وكل منها يفيد أن الآية نزلت مستقلة بسبب حادث معين، واثنتان منها على تخالفها مرويتان عن ابن عباس، مع أن الذي ينعم النظر في سياق الآية يجدها غير منفصلة عن السياق السابق الذي يدور الحديث فيه عن اليهود والتنديد بهم ويربط حاضرهم بماضيهم، ثم يجد في الآية التالية لها ما يدل على أن الذين هم موضوع الكلام ليسوا في متناول يد النبي وأن ما نسب إليهم إنما صدر عنهم في ظرف كفرهم، وأنها أمرت بقبول توبتهم أي إسلامهم إذا تابوا قبل أن يقعوا في متناول يد النبي ويجد السياق التالي لها متصلا بالسياق السابق أيضا [الآيات 32- 37 المائدة] .
ولقد روى البخاري حديثا عن أنس بن مالك في قصة عرب عكل وعرينه التي ذكرت في الرواية المعزوة إلى سعيد بن جبير جاء فيه أن النبي سمّر أعينهم كواها بأسياخ النار وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا، ولم يرد في هذا الحديث أن الآية نزلت فيهم كما أنها لا تحتوي تسمير العينين ومحال أن يخالف النبي نصّ الآية لو أنها نزلت فيهم.
- 2- روايات التفسير:
ثانيا: إن هناك أولا تفسيرا كاملا معزوا إلى ابن عباس رواية أبي صالح عن الكلبي احتوى تفسيرات لغوية وكثيرا من أسباب النزول وتأويلات للقصص(1/210)
والتعابير والمشاهد والأوصاف القرآنية وتعليقات عليها، وثانيا أقوالا كثيرة جدا في كتب التفسير معزوة إلى ابن عباس منها ما ورد في ذلك التفسير ومنها ما لم يرد، واحتوت هي الأخرى تفسيرات لغوية وأسباب نزول وتأويلات للقصص والتعابير والمشاهد والأوصاف القرآنية وتعليقات عليها. وثالثا أقوالا كثيرة جدا كذلك في كتب التفسير معزوة إلى علماء من التابعين وتابعي التابعين أمثال مجاهد والضحاك وقتادة والحسن البصري وعكرمة وسعيد ومسروق ومحمد القرظي وسفيان بن عيينة وعطاء إلخ فيها كذلك تفسيرات لغوية وأسباب نزول وتعليقات وتأويلات بل وهناك روايات عن كتب تفسير معزوّة إلى بعض هؤلاء مثل مجاهد والضحاك وقتادة وسفيان، وقد وصف السيوطي ما ورد عن ابن عباس من روايات تفسيرية بكلمة «لا تحصى» دلالة على كثرته، وذكر أن عدد مثل هذه الروايات المروية عن الصدر الأول قد بلغ بضعة عشر ألفا، والأرجح أن هذا العدد لا يشمل ما يرويه الشيعة بطرقهم وشروطهم الخاصة التي لا يستقيم كثير منها عند السنيين ولا يحتجون بها والتي ربما بلغ عددها نفس العدد أو زاد، وكثير من الأقوال المنسوبة إلى هذا الصدر ومن يليه يصح عليها ما قلناه في الفقرة السابقة من أنه لا يثبت على النقد والتمحيص للأسباب التي ذكرناها هناك، ومن حيث ما يقع في النفس من تلقفها من الأفواه وتدوينها في عهد رواج الرواية فاختلط حابلها بنابلها وغثّها بسمينها وصحيحها بباطلها، وظهر على كثير منها أثر تلك الخلافات السياسية والحزبية والكلامية والمذهبية والعنصرية، ومن حيث ما يقع في النفس من قصد التشويش والتشويه في بعضها وتعمد النحل والتلفيق في بعض آخر منها، وفي بعضها ما هو أدخل في باب الخرافة منه في باب الحقيقة أو الاحتمال كما أن كثيرا منها لا يصح تصديق صدوره عن صحابة وتابعين وتابعي تابعين وخاصة من علمائهم الأجلاء المشهورين في سلامة المنطق والفهم والذكاء والدراية والورع.
ويؤيد هذا قول الإمام الشافعي بأنه لم يثبت عن ابن عباس مما عزي إليه من روايات التفسير إلا نحو مئة، بينما المنسوب إليه يبلغ بضعة آلاف، ويؤيده كذلك موقف الإمام الحنبلي من هذه الروايات حيث يسلك روايات التفسير المعزوة إلى(1/211)
الصحابة والتابعين- وكل ذلك مما يدخل في شمول كتب الحديث- في سلك روايات الملاحم والمغازي من حيث غلبة احتمال تسرب الأخطاء والمبالغات وعدم صحة السند فيقول إنها لا أصل لها.
ومع ذلك فقد صارت هي الأخرى من عمد المفسرين القديمين وكتبهم وانتقلت من دور إلى دور حتى استفاضت في كتب التفسير جميعها تقريبا وغدت نصوصا نقلية يوقف عندها ويتقيد بها بل ويحتج بها بسبب مكانة المصدر الذي نسبت إليه بدءا، ولم تحظ إلا بقليل من النقد والتمحيص، بل وإن ما جرح منها ظل ينتقل من دور إلى دور ويستفيض في كتب التفسير، ويورد في سياق الآيات من جملة الأقوال والتأويلات، ومنها ما لا يذكر جرحه، ولقد جرح بعض علماء القرآن والرواية رواية ابن الكلبي بل سمّاه بعضهم بالكذاب، ولكن كثيرا مما رواه أخذه المفسرون القدماء وتنوقل عنهم دورا بعد دور، منهم ما ذكر راويه ومنهم ما لم يذكر، ودخل كذلك في عداد النصوص المروية التي يوقف عندها ويتقيد ويحتج بها، وهذا شأن كثير من الروايات المجروحة أيضا، فأدى ذلك كله إلى أخطاء وتشويشات وتشويهات ومفارقات ومجادلات كثيرة، وكان وسيلة من وسائل غمز الأغيار والباحثين المستشرقين وطعنهم أيضا كما كان ذلك في روايات الأسباب والمناسبات على ما ذكرناه قبل والأمثلة على ذلك كثيرة جدا نورد بعضها فيما يلي للتمثيل والإيضاح:
(1) ففي تفسير سورة القلم من تفسير ابن عباس المذكور أن النون هو السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها، وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور صخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله- كأن هذا من العلم الذي عرفه البشر- وأن اسم السمكة ليواش ويقال ليوتي واسم الثور يلهموت ويقال يلهوى ويقال ليوتا، وهي في بحر يقال له عصواص وهو كالصور الصغير في البحر العظيم، وهذا البحر في صخرة جوفاء، وفي هذه الصخرة أربعة آلاف خرق يخرج منها الماء. وقد وردت هذه الأقوال بعينها أو مزيدا عليها أو مبدلة بعض الشيء في كتب عديدة من كتب التفسير منها ما عزي إلى ابن عباس عن أبي صالح(1/212)
عن الكلبي ومنها ما لم يذكر راويه ومصدره.
(2) وقد صرفت كلمة (ربك) في هذا التفسير في جملة فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] إلى هارون.
(3) ولقد علّق فيه على جملة وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بأن الله قد صور آدم بين مكة والطائف.
(4) وقد صرف فيه المقصود من آيتي الأعراف هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) إلى آدم وحواء. وروى فيه أنهما جعلا لله شركاء في ما أتاهما حيث سمى أحد أولادهما عبد الله والآخر عبد الحارث. وقد ورد هذا القول في الخازن عن ابن عباس بغير ذكر الكلبي بهذا النص: كانت حواء تلد لآدم أولادا فيسميهم عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال إن سرّكما أن يعيش لكما ولد فسمّياه عبد الحرث- يعني نفسه- فولدت ولدا فسمّياه كذلك فعاش! (5) وذكر فيه نسب نمرود هكذا: نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن كوش.
(6) وعلّق فيه على جملة فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر: 19] كل شيء يوزن مثل الذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس.
(7) وفسّرت فيه كلمتا تَمَنَّى وأُمْنِيَّتِهِ الواردتان في آية الحج وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [52] بمعنى قرأ وقراءته فكان هذا التفسير من أركان الأقوال والروايات التي قيلت ورويت في قصة الغرانيق وكون الشيطان هو الذي أجرى على لسان النبي الجملتين (تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لترتجى) في أثناء تلاوة سورة النجم في صلاة أقامها بالمؤمنين في فناء الكعبة، وكون آيات الحج. هي بسبيل نسخ تلك العبارات(1/213)
والتنبيه على أنها من إلقاء الشيطان، مما كان مثار أخذ ورد ومغامز ومطاعن في حين أن عبارات آيات الحج [52- 54] وروحها وسياقها لا يتسق مع ذلك التفسير ولا مع تلك الأقوال قط على ما فصلناه في سياق تفسيرها «1» ، فضلا عما هناك من رواية تفيد أن هذه الآيات نزلت على النبي بطريق هجرته إلى المدينة.
(8) وقد أولت فيه آيات زواج النبي بمطلقة متبنيه الواردة في سورة الأحزاب تأويلا تنزه رسول الله عنه من عشقه لزينب ومخادعته لزيد كان مثار أخذ وردّ ومغامز ومطاعن أيضا في حين أن عبارة الآيات وظروفها تناقض هذا التأويل. كما فصلناه كذلك في سياق تفسيرها «2» .
(9) ومما نقل عن ابن عباس من غير طريق ابن الكلبي وأشرك معه غيره من الصحابة والتابعين ما نقله الخازن عن قصة هاروت وماروت العجيبة والشائقة معا حيث جاء فيها أنهما كانا أعبد الملائكة وأنهما عيرا الله في خلقه البشر على عصيانهم وأن الله قد تحداهما أن يثبتا إذا ركب فيهما طبائع البشر، وأنهما لما انقلبا بشرا زنيا وشربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للأصنام وأساءا استعمال اسم الله الأعظم إلخ بتفصيل طويل، مما لا يتسق مع منطق من جهة وفيه ما فيه من موقف نحو الله من جهة أخرى. ولقد صارت هذه القصة وسيلة لجدل كلامي في عصمة الملائكة، واحتج القائلون بعدمها بالقصة كحجة نقلية مروية بألفاظ متقاربة عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي والربيع ومجاهد! (10) ومن ذلك أن لحملة العرش قرونا وأن ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ومن كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام ومن ترقوته إلى موضع القرط منه مسيرة خمسمائة عام.
(11) وروى «الكشاف» عن عكرمة في تأويل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الفتح: 29] أن هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام
__________
(1) اقرأ أيضا كتاب «سيرة الرسول» الجزء الأول ففيه بحث وتمحيص.
(2) المصدر نفسه.(1/214)
وترقيه فأخرج شطأه بأبي بكر وآزره بعمر واستغلظ بعثمان واستوى على سوقه بعلي. وأثر المقالات الخلافية في ترتيب الخلفاء الراشدين ظاهر القول.
(12) وروى «الكشاف» معزوا إلى الحسن في صدد خلق الأرض والسماء أن الله خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منها السماوات وأمسك النهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما الأنبياء: [30] .
(13) وروى الخازن معزوا إلى عبد الله بن عمر أن الذين يحملون العرش ما بين سوق أحدهم إلى مؤخر عينيه خمسمائة عام.
(14) وروى الخازن أيضا معزوا إلى عروة بن الزبير أن من حملة العرش من صورته على صورة الإنسان ومنهم من صورته على صورة النسر ومنهم من صورته على صورة الثور ومنهم من صورته على صورة الأسد.
(15) وروى أيضا معزوا إلى نوفل البكالي في وصف السلسلة التي ذكرت في سورة الحاقة ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) ، أن كل ذراع سبعون باعا وكل باع أبعد ما بينك وبين مكة وكان هو في رحبة الكوفة.
(16) وروت روايات شيعية عن مقاتل عن أبي عبد الله أنه وجد في كتاب علي بن أبي طالب أن آدم لما هبط إلى الأرض كانت رجلاه بثنية الصفا ورأسه دون أفق السماء وأنه شكا لله حرارة الشمس فأوحى إلى جبريل أن أغمزه فغمزه فصير طوله سبعين ذراعا بذراعه ثم غمز حواء غمزة فصير طولها خمسة وثلاثين ذراعا بذراعها. وقد رأينا تعليقا على رواية تقصير آدم وحواء لمؤلف شيعي آخر حاول فيه أن يعلل أذى الشمس بأن حرارتها تكون من غير جهة الانعكاس وتكون قامة آدم طويلة بحيث تتجاوز طبقة الزمهرير! ثم أيد صحة طول آدم واحتمال تأذيه من حرارة الشمس بقصة عوج بن عناق فذكر كيف كان يأخذ السمكة من قاع البحر ويشويها في عين الشمس، ولم يكتف المؤلف بهذا فقد أخذ يورد احتمالات ووجوها من طرائفها أن جبريل غمز آدم فجعله سبعين لا سبعين وغمز حواء(1/215)
فجعلها خمسين وثلثي الخمس لا خمسة وثلاثين وأن من المحتمل أن يكون الناقل وهم في القراءة.
(17) وجاء في تفسير القرطبي معزوا إلى ابن عباس أنه كان يوضع لسليمان ستمائة كرسي ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس ثم يدعو الطير فتظللهم ثم يدعو الريح فتقلهم وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر.
(18) وجاء فيه معزوا إلى جابر بن عبد الله إلى النبي عليه السلام أنه كان نقش خاتم سليمان بن داود «لا إله إلّا الله محمد رسول الله» .
(19) وجاء فيه أيضا معزوا إلى الحسن أن الجياد المذكورة في قصة سليمان في سورة ص إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) ، خرجت من البحر لها أجنحة، ومعزوا إلى الضحاك أنها كانت منقوشة ذات أجنحة، ومعزوا إلى علي أن الشيطان أخرجها مجنحة من مروج البحر وكانت عشرين فرسا.
(20) وفي الخازن عن البغوي عن الثعلبي عن كعب الأحبار أن موسى نظر في التوراة فقال إني أجد أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال، ربّ اجعلهم أمتي قال هي أمة محمد يا موسى. قال ربّ إنّي أجد أمة هم الحمادون المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد. قال ربّ إني أجد في التوراة أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم- وكان الأولون يحرقون كفاراتهم بالنار- وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي. قال هي أمة محمد. ويستمر الكلام فيتناول بضع صور أخرى من هذا القبيل. ونقول بهذه المناسبة إن المفسرين كثيرا ما نقلوا عبارات وجملا على أنها واردة في التوراة والإنجيل ومنها ما يشبه بعض آيات وعبارات القرآن، ويعزون ذلك إلى كعب الأحبار أو عبد الله بن سلام أو ابن عباس أو بعض التابعين ومن جملة ذلك ما رواه البيهقي عن ابن عباس أن سورة(1/216)
الكهف تسمى في التوراة الحائلة وسورة يس المعمة كأنما كل سورة في القرآن لها ما يقابلها أو لها ذكر في التوراة.
(21) وجاء في الخازن أن سعيد بن جبير قال عن ألواح موسى إنها من ياقوتة حمراء، وإن الكلبي قال إنها من زبرجدة خضراء، وإن ابن جريج قال إنها من زمرد وإن الله أمر جبريل فجاء بها من جنة عدن وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد- أي أخذ الحبر- من نهر النور، وإن الربيع بن أنس قال إن الألواح كانت من زبرجد، وإن وهبا قال: إن الله أمر جبريل فقطعها من صخرة صماء عينها له ثم شقها الله بأصبعه وسمع موسى صريف الأقلام بالكلمات العشر وكان ذلك أول يوم من ذي الحجة، وكان طول الألواح عشرة أذرع على طول موسى واختلفوا في عدد الألواح فروي عن ابن عباس أنها كانت سبعة، وروى عنه رواية أخرى أنها لوحان ورجحه الفراء وقال إنما جمعت على عادة العرب في إطلاق الجمع على الاثنين، وإن وهبا قال إنها عشرة وإن مقاتلا قال إنها تسعة، وإن الربيع بن أنس قال إنها كانت وفر سبعين بعيرا يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى.
(22) وجاء في الخازن عن الربيع عن أنس أن درجات الجنة سبعون ما بين الدرجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة.
(23) وجاء فيه عن ابن مسعود أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفضاء كل سماء وأرض خمسمائة عام وما بين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش على الماء والله على العرش. وهناك خبر عن ابن عباس أن المسافة ...
فحاول أحد المفسرين التوفيق بين القولين فقال إن الخلاف في قدر المسافة على اختلاف سير الدواب.
(24) وجاء فيه معزوا إلى ابن عمر أن السور الذي ذكر في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد: 13] ، هو سور(1/217)
بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم.
وهذا قليل جدا من كثير جدا مما ورد من هذا الباب معزوا مثل ما تقدم إلى صحابة وتابعين عن الخلق والتكوين والقصص وتأويل الآيات والأحداث المتصلة بالسيرة النبوية وظروف الدعوة.
وهذا غير ما روي من روايات تأويلية وتفسيرية كثيرة جدا في كتب السنة والشيعة معزوة إلى صحابة أو تابعين ممن عرفوا بالعلم والدراية والورع وسلامة المنطق متناقضة من جهة ويبرز فيها أثر الخلافات الحزبية والمذهبية والسياسية بروزا واضحا من جهة أخرى. وفي كل هذا ما هو ظاهر من الإغراب والتخمين بل والتخريف وعدم الاتساق مع مرامي الآيات ومضمونها وظروفها، ودلائل الجهل بحقائق الكتب المنزلة ومحتوياتها وبما هو معروف إذ ذاك من الحقائق العلمية والتاريخية والجغرافية مما يشوش على الراغب في تفهم القرآن ويجعل القرآن عرضة للحجاج والجدل والأخذ والرد، ويشوه أسماء كثير من أصحاب رسول الله وتابعيهم، ويجعل المسلم يقف موقف الحيرة والبلبلة مما نقل عنهم.
- 3- تعليقات المفسرين على القصص:
ثالثا: إن كثيرا من المفسرين قد ولعوا بالتعليق على ما ورد في القرآن من قصص ولعا كبيرا تجاوزوا فيه حدود الروايات المنسوبة إلى الصحابة والتابعين على علّات كثير من هذه الروايات، وجالوا في ساحات التخمين والتخرص والتكلف والتزيد والمبالغة جولات مسهبة حينا وموجزة حينا آخر، ومنسوبة إلى رواة من غير تلك الطبقة بالأسماء حينا وبدون أسماء حينا وصادرة عنهم أو موهمة أنها كذلك حينا آخر، حتى ليقع في نفس القارئ من فحوى عباراتهم وأساليب إيرادهم أحيانا أنهم يعنون أن القصص القرآنية أو بعضها على الأقل قد وردت في القرآن لذاتها، وبقصد الإخبار والماهيات والحقائق أكثر من قصد العظة والتذكير، وكثير مما أورده لا يتفق مع دلالات الآيات ولا تتحمله أهدافها ولا تقتضيه عباراتها كما فيه(1/218)
مفارقات كثيرة وما هو أدخل في باب الخرافة منها في باب الحقائق. وإليك بعض الأمثلة من ذلك للتمثيل والإيضاح:
(1) فهذه سلسلة مما ورد عن ذي القرنين ويأجوج ومأجوج منقولة عن الخازن وأبي السعود والبيضاوي والكشاف، وأكثرها بتعبير روي وقيل وأحيانا بدون ذلك وقليل منها معزو لقائل معين:
1- إن الله إنما ذكر ذا القرنين لأن حكمته شاءت تخليد اسمه في القرآن على مرّ الدهور لما بلغه من عظمة السلطان وسعة الملك.
2- إن ذا القرنين دخل الظلمة في طلب عين الحياة، وإن الخضر كان من رجال جيشه فوقع على العين فاغتسل وشرب منها.
3- إن عمر ذي القرنين ألف وثلاثون سنة.
4- وقال ابن جريج كان عند العين الحمئة مدينة يقال لها الجاسوس لها اثنا عشر ألف باب وسكانها من نسل ثمود الذين آمنوا بصالح ولولا ضجيج أهلها لسمع الناس وجيب الشمس حين تغيب.
5- إن يأجوج أمة ومأجوج أمة، وكل أمة أربعة آلاف أمة، ولا يموت الرجل منهم حتى يرى من صلبه ألف رجل قد حمل السلاح، وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومئة ذراع، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومئة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه، ومنهم من طوله شبر. وقال كعب إن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم.
6- كان لذي القرنين قرنان فأمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله ثم بعثه فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله.(1/219)
7- سخر الله لذي القرنين السحاب فحمل عليه، ومدّ له الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء. وخاطبه قائلا إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل، ومنهم أمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج! فقال بأي قوة أكابدهم وبأي جمع أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم، فقال الله إني سأقويك وأبسط لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء، وألبسك الهيبة فلا يرو عنك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك. فالنور يهديك من أمامك والظلمة تحوطك من ورائك.
8- إنه الإسكندر الذي ملك الدنيا. وقيل ملكها مؤمنان وهما ذو القرنين وسليمان وكافران وهما نمرود وبختنصر.
9- قيل إنه كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وقيل كان نبيا وقيل كان ملكا من الملائكة. وعن علي أنه ليس بملك ولا نبي ولكنه عبد صالح ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين، وإن فيكم لمثله. وعلق المفسر قائلا إن عليا أراد نفسه.
10- إن معاوية قرأ جملة عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف: 86] «عين حامية» فقرأها ابن عباس «عين حمئة» فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأها فقال كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم إن معاوية وجّه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب في التوراة قال في ماء وطين فوافق قول ابن عباس.
(2) وهذه سلسلة أخرى في سياق قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل وسليمان منقولة عن «الكشاف» . وقد وردت في كتب تفسير أخرى مقاربة أو نصا(1/220)
كما جاءت في «الكشاف» :
1- قيل إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل هل تعرفون من تكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به ثم قالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرئه مني السلام فردّ محمد على موسى السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت.
2- روي أن معسكر سليمان كان مئة فرسخ في مئة. خمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للإنس. وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرية، وقد نسج له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان له منبر يوضع في وسطه، وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الإنس وحول الإنس الجنّ والشياطين، وتظللهم الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليهم الشمس، وترفع الريح البساط فتسير به مسيرة شهر في يوم وأن الله أوحى إليه مرة وهو يسير بين الأرض والسماء أني قد زدت في ملكك فلا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه. وكان من أمره أن سمع كلام النملة من ثلاثة أميال. وقد ذكر بعض المفسرين في سياق هدهد سليمان أنه كان مكلفا بالتنقيب عن مواضع المياه للجيوش اللجبة التي تسير مع سليمان لأن الأرض في عيني الهدهد ككرة من زجاج شفاف يرى ظاهرها وباطنها.(1/221)
3- كانت عند شعيب عصي الأنبياء، فأمر موسى أن يدخل ويأخذ له عصا، فوقعت يده على عصاه وكان آدم هبط بها من الجنة ولم يزل الأنبياء يتوارثونها، فضنّ بها على موسى وألقاها بين العصي أولا وثانيا وثالثا إلى السابعة وكانت في كل مرة تقع في يده فوقع في نفس شعيب أن له شأنا فأعطاها له.
4- أرسل فرعون خلف بني إسرائيل ألف ألف وخمسمائة ألف ملك، ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس أن فرعون خرج في ألف ألف حصان سوى الإناث، وهذا سبب استقلاله قوم موسى وقوله عنهم إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.. [الشعراء: 54] ، مع أن عددهم ستمائة ألف وسبعون ألفا.
5- إن بلقيس كانت من الجن، وإن الجن خشوا أن يتزوجها سليمان فيجتمع في ابنه منها فطنة الإنس والجن فدسوا له عنها وشنعوا له سيقانها فامتحنها بالصرح الممرد، ولما ظهر له كذبهم استنكحها وكان يزورها في الشهر مرة.
6- حينما كانت العصا تنقلب ثعبانا في يد موسى كان يبدو أنه ثعبان ذكر أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وقد وضع حينما ألقاه بين يدي فرعون لأول مرة لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب من سريره وهرب وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك، وهرب الناس وصاحوا، وحمل على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا.
7- كان عدد السحرة سبعين ألفا وقيل ثمانين ألفا وقيل بضعة وثلاثين ألفا.
8- في الجزء الخامس عشر من تفسير القرطبي المعروف ب «جامع أحكام القرآن» اثنتان وثلاثون صحيفة في تفسير الآيات الواردة في سورة ص عن داود محشوة حشوا عجيبا بالقصص عن داود وسليمان والأقوال التي تدور حول هذه القصص، وفيها من الإغراب ما يثير الدهشة. منها ما جاء في صدد توبة داود معزوا(1/222)
إلى عطاء الخراساني أن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه فنودي أجائع فتطعم وعار فتكسى فنحب نحبة هاج المرعى من حرّ جوفه فغفر له وستر بها ذنبه فقال يا ربّ هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته فكيف بفلان وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل تركت أولادهم أيتاما ونساءهم أرامل، قال يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة.. ثم قيل يا داود ارفع رأسك فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها.
رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء.. قال الوليد وأخبرني منير بن الزبير قال فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله.. وقال وهب إن داود نودي إني قد غفرت لك فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك. قال يا ربّ كيف وأنت لا تظلم أحدا فقال الله لجبريل اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه فسأسمعه نداءه. فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ونادى يا أوريا فقال لبيك من هذا الذي قطع عليّ لذتي وأيقظني فقال أنا أخوك داود أسألك أن تجعلني في حلّ، فإني عرضتك للقتل قال عرضتني للجنة فأنت في حلّ. وفي الخبر وكان داود يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها، وكان إذا جاء يوم نواحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رؤوس الجبال وأفواه الغيران ألا إن هذا يوم نواح داود فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده فيهبط الناس من الغيران والأودية وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عكّف وبنو إسرائيل حوله فإذا أخذ في العويل والنواح وأثارت الحرقات منابع دموعه صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم.. وفي هذا الجزء من تفسير القرطبي أربع عشرة صحيفة أخرى محشوة بمثل هذه الأقوال في سياق الآيات الواردة في سورة ص. كذلك عن سليمان تثير الدهشة في إغرابها وتفصيلاتها وخاصة في وصف كرسي سليمان وانتقال موكبه بواسطة الريح(1/223)
وشياطينه المسخرة والمصفدة والبنائين والغواصين وخاتم سليمان والجسد الذي ألقي على كرسيه ونسائه، منها ما هو معزوّ إلى رواة ومصادر معينة ومنها ما هو مروي بصيغة المجهول مما يطول الأمر بنقله.
وهذا الذي نقلناه غيض من فيض وقطرة من بحر مما أورده المفسرون في سياق القصص القرآنية. ولقد كان أمرهم أن استغرقوا فيها حتى صاروا يحاولون التوفيق بين مختلف الروايات الواردة فيها والجدل في ذلك بالإضافة إلى محاولات التوفيق والتلفيق والتأليف بين ما جاء فيها وبين ما يبدو من مناقضة العبارات القرآنية لبعض ما فيها، أو لما يجب من حق الله والأنبياء والملائكة ويضاف إلى هذا محاولتهم أخذ بعض الأحداث القصصية كحجة لأحكام فقهية في الإسلام مثل ما فعلوا في قصة أيوب واستنباط جواز الحيلة في التحلل من اليمين لأن القصة احتوت أمرا لأيوب يضرب زوجته بضغث من حشيش بدلا من جلدها بالسوط مئة مرة كما أقسم، ومثل تجويز أن تكون أجرة الراعي صداقا وعدم تعيين البنت التي آجر موسى نفسه مقابل نكاحها في قصة موسى وشعيب.. وهكذا كاد القرآن يخرج من نطاق قدسيته من الموعظة والدعوة والتذكير إلى نطاق بحوث في التاريخ والوقائع المروية وفي نطاق هذه الروايات العجيبة التي أوردت على هامش القصص القرآنية والتي لا يتفق كثير منها مع ما ورد في القرآن منها، ويتعرض بذلك إلى الأخذ والرد والنفي والإثبات والجدل والتصويب والتخطئة، بل ويدخل محتويات بعض قصصه مثل قصص آدم وإبليس ويوسف مع امرأة العزيز ويونس في مغاضبته وإبراهيم في طلبه من الله إراءته كيف يحيي الموتى وموسى في طلبه رؤية الله وفي قتله القبطي، والملائكة في مراجعتهم الله في شأن خلقه آدم في نطاق الجدل بين أصحاب المذاهب الكلامية من نواح متعددة تخطئة وتصويبا وتخريجا وتأويلا، كما يدخل محتويات بعض قصصه مثل حقيقة واسم مؤمن آل فرعون وإيمان امرأة فرعون، وحقيقة الذبيح، والدراهم التي بيع بها يوسف والأذى الذي أوذي به موسى وأسماء أهل الكهف وكلبهم، وأسماء امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون والذي أماته الله هو وحماره ثم بعثه وعفريت سليمان والذي عنده علم الكتاب والذي(1/224)
اشترى يوسف وامرأته وفرعون والغلام الذي قتله العبد الصالح وأبويه والغلامين اليتيمين ورهط قوم صالح وعاقر الناقة وابن لقمان والشيطان الذي ألقي على كرسي سليمان وشيطان أيوب ونفر الجن الذين استمعوا القرآن إلخ إلخ في نطاق البحث والنقاش واستنباط حقائق التاريخ لذاتها، وإيراد الأقوال والروايات في هذه الشؤون التي فيها كثير من التكلف والمفارقات والتخمين والإغراب والتخريف، مما هو منبث بكثرة في كثير من كتب التفسير، ومما يجعل المرء يندهش ويحار من روايتها وإيرادها من قبل علماء أعلام وجوازها عليهم، ومما ظل أثره مستمرا متمكنا إلى عصرنا هذا، حيث كان كثير من هذه القصص بالإضافة إلى القصص القرآنية مواضيع كتب خاصة عليها طابع الكتب التاريخية وتحمل اسم «قصص الأنبياء» وحيث يتجادل الباحثون على صفحات المجلات في ذي القرنين وماهيته وما هو معروف عن تاريخ الإسكندر، وفي ما إذا كان بنو إسرائيل قد ورثوا ملك فرعون في مصر وملكوها بعد أن غرق هو وجنوده أجمعون إلخ ويتكلفون بما لا طائل من ورائه.
وكل هذا مؤدّ كما هو ظاهر إلى التشويش على الناظر في القرآن ومراميه في القصص وعلى أهدافه السامية وإلى غدو كتب تفسيره معرضا للكثير من المفارقات والمبالغات والتمحلات والمجادلات والمنحولات والمدسوسات وغدو القرآن بذلك عرضة للغمز والجرح من قبل الأغيار أيضا. كما أن ذلك قد أدى إلى استحواذ القصة القرآنية لذاتها على أفكار السواد الأعظم من المسلمين بل وخاصتهم، وصارت عندهم كذلك موضوعا ذاتيا ومجالا واسعا للأخذ والرد والسؤال والاستفتاء والاستقصاء والحجاج والاحتجاج والتصويب والمناظرة إلخ، مما كاد يضيع معه مواضع العبرة في القصة وقصد القرآن الجوهري منها.
- 4- تعليقات المفسرين على مشاهد الكون والجن والملائكة:
رابعا: إن كثيرا من المفسرين قد ولعوا أيضا بالتعليق على ما ورد في القرآن من تعابير وإشارات وتذكيرات وتنبيهات وتقريرات حول مشاهد الكون ونواميسه، الجزء الأول من التفسير الحديث 15(1/225)
وحول ما ورد كذلك في صدد الملائكة والجن وإبليس وخلقه آدم ولعا تجاوزوا فيه حدود الروايات المنسوبة إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، وجالوا في ساحات التخمين والتكلّف والتزيد والإغراب، وأوردوا أقوالا منسوبة إلى رواة ومصادر من غير تلك الطبقة بأسماء وبدون أسماء وصادرة أحيانا عنهم أو موهمة أنها كذلك، حتى ليقع في نفس القارئ أنهم يعنون أن ما ورد في القرآن في هذه الشؤون كله أو بعضه قد ورد لذاته وبقصد تقرير الماهيات والحقائق أكثر من قصد الدعوة والتذكير والتدعيم به وفي كثير مما نقلوه وقالوه ما لا يتفق مع دلالات الآيات ولا تتحمله أهدافها ولا تقتضيه عباراتها كما أن فيه مفارقات كثيرة هي أدخل في باب الخرافة منها في باب الحقيقة. وإليك بعض الأمثلة على سبيل الإيضاح، منقولة عن كتب تفسيرية متعددة:
(1) إن سماء الدنيا سوح مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفر وقيل نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء وما بين السابعة إلى الحجب صحار من نور.
(2) إن وجهي الشمس والقمر متجهان إلى السماوات وضوءهما فيهن جميعا وأقفيتهما نحو الأرض.
(3) إن اللوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه من نور وأصله في حجر ملك.
(4) إن الأنهار التي أنزلها الله من عين من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها على الأرض وهي سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل هي التي عنيت في الآية وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] .
(5) لما خلق الله الأرض وفتقها سبع أرضين بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع وضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل(1/226)
قرار قدم الملك على سنامته فاستقرت، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخاره في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفسا فإذا تنفس كان مدّ البحر وإذا ردّ نفسه كان جزره، ولم يكن لقوائم الثور قرار فخلق الله صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ [لقمان: 16] ، ولم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم فوضعت الصخرة على ظهره والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة، ولقد تغلغل إبليس إلى الحوت فوسوس إليه فقال أتدري ما على ظهرك يا ليوتا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم لألقيتهم عن ظهرك، فهمّ ليوتا أن يفعل فبعث الله له دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فضجّ الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت، وإنها لتنظر إليه وينظر إليها إن همّ بشيء من ذلك عادت كما كانت.
(6) إن القلم من نور وإن طوله ما بين السماء والأرض. وقد نظر الله إليه أول ما خلقه فانشقّ نصفين ثم قال له أخبر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ. والناس إنما يجرون على أمر قد فرغ منه.
(7) إن بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام وغلظ كل سماء كذلك، والأرضون مثل ذلك، وإن الصخرة التي تحت الأرض السابعة والتي منتهى علم الخلائق على أرجائها يحملها أربعة من الملائكة لكل منهم أربعة وجوه وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر. فهم قيام عليها قد أحاطوا بالسماوات والأرض ورؤوسهم تحت العرش.
(8) إن الناس ينادون يوم القيامة من صخرة القدس لأنها أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا وإنها في وسط الأرض.
(9) إن المطر ينزل من السماء كل عام بقدر واحد لا يزيد ولا ينقص.
(10) إن في العرش تمثال ما خلق الله في البرّ والبحر وذلك تأويل قوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21] .(1/227)
(11) إن سدرة المنتهى شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر وورقها كآذان الفيل. ينبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في القرآن ويسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها.
(12) إن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال مر قومك يزنوا به.
(13) إن آدم نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وهي السندان والكلبتان والمطرقة والإبرة والميقعة وقيل إن معه كذلك المرو والمسحاة.
(14) اختلف في عدد عوالم الله فقيل إنها ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البرّ، وقيل ثمانون ألف عالم أربعون ألفا في البرّ ومثلها في البحر، وقيل ثمانية عشر ألفا منها عالم الدنيا عالم واحد، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء.
(15) لما أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خليقة منهم من يطيعني ومنهم من يعصاني فمن أطاعني أدخلته الجنة ومن عصاني أدخلته النار. قالت الأرض أتخلق مني خلقا يكون للنار. قال نعم. فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة. وبعث الله جبريل ليأتيه بقبضة منها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها، فلما أتاها ليقبض منها قالت أعوذ بعزة الله الذي أرسلك أن لا تأخذ مني شيئا. فرجع جبريل إلى مكان وقال يا ربّ استعاذت بك مني فكرهت أن أقدم عليها فقال الله لميكائيل انطلق فأتني بقبضة منها فلما أتاها قالت له مثل ما قالت لجبريل فرجع إلى ربّه فقال ما قالت له. فقال الله لعزرائيل انطلق فأتني بقبضة منها فلما أتاها قالت له ما قالت لجبريل وميكائيل فقال وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمرا فقبض منها قبضة من جميع بقاعها من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها وصعد بها إلى السماء، فسأله ربّه وهو أعلم بما صنع فأخبره بما قالت له الأرض وبما ردّ عليها فقال الله وعزتي وجلالي لأخلقن مما جئت به خلقا ولأسلطنك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك، ثم جعل الله تلك القبضة نصفها في الجنة ونصفها في النار ثم تركها ما شاء الله ثم أخرجها فعجنها طينا لازبا(1/228)
مدة ثم حمأ مسنونا مدة ثم صلصالا «1» ثم جعلها جسدا وألقاه على باب الجنة.
فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته لأنهم لم يكونوا رأوا مثله. وكان إبليس يمرّ به ويقول لأمر ما خلق هذا. فنظر إليه فإذا هو أجوف فقال هذا خلق لا يتمالك، وقال يوما للملائكة إن فضل عليكم ماذا تصنعون. قالوا نطيع ربنا ولا نعصاه. فقال إبليس في نفسه لئن فضّل علي لأعصينه، ولئن فضلت عليه لأهلكنه. فلما أراد الله أن ينفخ فيه الروح أمرها أن تدخل في جسد آدم فنظرت فرأت مدخلا ضيقا فقالت يا ربّ كيف أدخل هذا الجسد قال الله ادخليه كرها وستخرجين منه كرها، فدخلت يافوخه فوصلت إلى عينيه فجعل ينظر إلى سائر جسده طينا، فسارت إلى أن وصلت إلى منخريه فعطس فلما بلغت لسانه قال الحمد لله ربّ العالمين، وهي أول كلمة قالها فناداه الله رحمك ربك يا أبا محمد، ولهذا خلقتك. ولما بلغت الروح إلى ركبتيه همّ ليقوم فلم يقدر فقال الله خلق الإنسان من عجل. فلما بلغت الساقين والقدمين استوى قائما بشرا سويا لحما ودما وعظاما وعروقا وعصبا وأحشاء وكسي لباسا من ظفر يزداد جسده جمالا وحسنا كل يوم.
(16) إن الملائكة الذين ذكروا في آية البقرة [30] هم الذين كانوا في الأرض. وذلك أن الله خلق الأرض والسماء وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فعبدوا دهرا طويلا، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا واقتتلوا فبعث الله عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجان ورأسهم إبليس وهم خزان الجنان فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن إلى جزائر البحار وشعاب الجبال، وسكنوا الأرض، وخفف الله عنهم العبادة، وأعطى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان رئيسهم وأكثرهم علما. فكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة. فدخله العجب وقال في نفسه ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال له ولجنده إني
__________
(1) يظهر أن القائل أراد أن يوفق بين التعابير القرآنية حيث جاء في أحدها أن الله خلق البشر من طين لازب وفي أحدها من حمأ مسنون وفي أحدها من صلصال.(1/229)
جاعل في الأرض خليفة بدلا منكم ورافعكم إلي فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة.
(17) كان إبليس من حي من الملائكة وقيل من الجن ممن يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هو بمنزلة الريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون. وقيل إن إبليس يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين، وإن من أولاده لا قيس ولهاب والهفاف ومرة وزنبور وبتر والأعور ومطوس وداسم، ومنهم من يتولى إفساد الصلاة وآخر يتولى التنجيس وآخر يزين اللغو والأيمان الكاذبة وآخر يغري بالزنا فينفخ في إحليل الرجل وعجيزة المرأة.
وهذا قليل من كثير من هذا الباب مما يكاد يكون من عمد أكثر كتب التفسير القديمة، وفيه ما هو ظاهر من الإغراق والمفارقات ودلائل الجهل بما كان معروفا من الحقائق الكونية حتى ليدهش المرء من جوازه على علماء أعلام ونقلهم إياه بأساليب وسياقات تدل على أنهم مندمجون فيه ومنزلوه منزلة الحقائق أو على الأقل غير شاكين فيه ولا مكذبيه، وأنهم يرمون أو يرمي بعضهم إلى التوفيق بين مختلف الآيات والتعابير القرآنية وإلى شرحها وتعليل مداها، وفي ذلك ما هو واضح من أسباب التشويش على أهداف القرآن وصرف الذهن عن مراميه، وجعل كتب التفسير معرضا لكثير من المفارقات والمبالغات والمنتحلات والمدسوسات.
ومما هو جدير بلفت النظر أن بعض الباحثين والناظرين في القرآن بل ومفسريه من المتأخرين والمعاصرين قد ولعوا بمثل ذلك الولع مع تعديل اقتضته تطورات العلوم والمفاهيم، حيث نراهم يحاولون استنباط النواميس العلمية والفنية واستخراج نظريات الدورات الشمسية والقمرية والأرضية وكروية الأرض ونظام الأفلاك والمطر وأطوار النشوء ونمو الأحياء وانفتاق الأرض والسماء والذرة والكهرباء إلخ إلخ من بعض الآيات القرآنية، أو يحاولون تطبيق النظريات العليمة والفنية المتصلة بنواميس الكون والتكوين والشمس والقمر والسماء والأرض والحياة والكهرباء والبرق والرعد إلخ إلخ على بعض الآيات القرآنية ليدللوا على(1/230)
احتواء القرآن أسس هذه النظريات أو نواتها مما أخذ يستفيض في الكتب والمجلات بل والصحف منذ أواخر القرن السابق. و «تفسير الجواهر» للشيخ طنطاوي جوهري الذي صدر في أوائل القرن الحاضر مثال عجيب لهذه المحاولات والتطبيقات.
والثغرة في هذا هو ما يفيده ويوهمه هذا الولع كما ذكرنا هذا في ما تقدم من أن ما ورد في القرآن من الإشارات والتنبيهات والتعابير مقصود لذاته وماهياته، وما يؤدي هذا إليه من صرف هذه الإشارات والتنبيهات والتعابير عن هدفها الوعظي والتدعيمي للدعوة أولا، ومن إخراج محتويات القرآن في نطاق هذا الهدف وقدسيته إلى نطاق الجدل والبحث والنفي والإثبات في حقائق النظريات العلمية والفنية الكونية، وما تتعرض له هذه النظريات من تبدل وتطور وجدل ثانيا، في حين أن تلك المحاورات أو بالأحرى التمحلات قائمة على الظن والتخمين ومنها ما هو متهافت جدا من جهة، وإن أسلوب الآيات القرآنية من جهة أخرى واضح الدلالة على اقتصار ما احتوته على الهدف المذكور، وعدم استهدافه التقريرات العلمية والفنية في ماهية الخلق والتكوين ونواميسهما، حيث هو أسلوب خطابي موجّه إلى مختلف طبقات الناس بقصد إيقاظ ضمائرهم ولفت أنظارهم إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من مشاهد الكون العظيمة، وما يرونه من مظاهر نواميسه، وما يتمتعون به من مختلف تلك المشاهد وهذه النواميس في مختلف حياتهم على الوجه الذي يفهمونه منها، وتمتلىء أذهانهم بها، وبقطع النظر عن ماهياتها لذاتها، والتدليل بهذا الأسلوب العام الموجه إلى مختلف الطبقات على وجود الله وعظمته وقدرته وشمول حكمه وتصرفه ووحدته واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة وصحة الدعوة إليه وواجب طاعته في ما يأمر وينهى بواسطة أنبيائه وتنزيله مما يستطيع أن يلمسه كل من أنعم النظر في الآيات والفصول القرآنية.
وما أحسن ما قاله الإمام الغزالي في «تهافت الفلاسفة» من كلام قوي حكيم يتصل بهذا الموضوع حيث قال في صدد تقسيم مذاهب الفلاسفة «والقسم الثاني ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين وليس من ضرورة تصديق الأنبياء(1/231)
والرسل منازعتهم فيه كقولهم إن خسوف القمر عبارة عن إمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث إنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة، والسماء محيطة بها من الجوانب فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس، وكقولهم إن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضا لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض. ومن ظنّ أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره، فإن هذه الأمور تقوم على براهين هندسية وحسابية لا تبقى معها ريبة في من يطلع عليها ويتحقق أدلتها حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء قبل وقوعهما، وإذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع. وضرر الشرع بمن ينصره بغير طريقه أكثر ممن يطعن عليه بطريقه وكما قيل عدوّ عاقل خير من صديق جاهل» .
ونضيف إلى هذا أن عظمة شأن القرآن هي في روحانيته القوية النافذة وفي قوة هدايته الخالدة وفي ما احتواه من أسس ومبادئ ومثل عليا تستجيب لحاجات الإنسانية المتنوعة على كرّ الدهور ومتنوع الظروف، وإن الواجب الأعظم هو التزام حدود هذه الأسس والمبادئ والمثل وتجليتها وإزالة كل ما يشوش عليها ويعرقل بروزها أو إهماله والانصراف عنه.
- 5- التشاد المذهبي في سياق التفسير:
خامسا: إن بعض المفسرين قد اتخذوا التفسير وسيلة من وسائل الجدل المذهبي وخاصة في علم الكلام. فقد تجاذبوا وتشادوا حول العبارات القرآنية التي جاءت عن ذات الله وصفاته وأفعاله وأعضائه ونزوله وعروجه واستوائه نفيا وتأويلا وإثباتا وتسليما. وقد تجاذبوا كذلك وتشادوا حول ما جاء عن أعمال الإنسان وسلوكه وإيمانه وكفره وذنوبه وحسناته وثوابه وعقابه واختلاف الناس الطبيعي أو(1/232)
الخلقي، فقرر بعضهم قدرة الإنسان على العمل وكسبه إياه وقابليته الذاتية على التمييز بين الحقّ والباطل والحسن والقبيح واختياره ما يختار منهما واستحقاقه الثواب والعقاب عدلا وحقا نتيجة لذلك وبقصد تنزيه الله عن الظلم والتناقض، في حين أن آخرين رأوا في ذلك تغايرا مع قدرة الله ومطلق تصرفه ونقضا لعلمه الأولي ولكونه المؤثر الحقيقي في كل شيء فقرروا أن أفعال الإنسان مكتوبة عليه في الأزل لا معدى له عنها، وإن الله لا يسأل عما يفعل، وإنه لا يصح أن يقاس ما يجريه بمقياس البشر في الحسن والقبيح والعدل والظلم إلخ، وقد تجاذبوا وتشادوا حول ما ورد من عبارات في توبة التائب وغفران الذنوب بدون قيد فقرر بعضهم أنه لا غفران بدون توبة وأن أصحاب الكبائر مخلدون في النار وأن الله كتب على نفسه قبول التوبة فصار واجبا عليه قبولها، في حين أن آخرين قرروا أن الله لا يجب عليه نحو خلقه شيء وأنه يغفر لمن يشاء ما يشاء دون قيد وشرط، وأن المؤمن لا يخلّد في النار ولو كان صاحب كبيرة. وتجاذبوا وتشادوا في ما يجوز على الله وما لا يجوز وما يجب وما لا يجب في عصمة الأنبياء المطلقة وإمكان صدور الأخطاء منهم ووقوع السحر عليهم، وفي المفاضلة بينهم وبين الملائكة، وفي عصمة الملائكة المطلقة وإمكان صدور الهفوات والأخطاء عنهم، وفي خلق القرآن، وفي صفات الله وكونها ذات الله أو غير ذاته، وفي إمكان رؤية الله أو رؤية الجن والملائكة إلخ من المسائل الكلامية الخلافية الكثيرة.
واستند كل فريق إلى آيات قرآنية تؤيد رأيه في كل مسألة من تلك المسائل، وأول ما استند إليه الفريق الآخر من الآيات التي يتعارض ظاهرها مع رأيه، واستغرق الفريقان في الجدل والتشاد والتجاذب كل يؤيد مذهبه ويندد بالمذهب المخالف حتى خرجا في أحيان كثيرة عن وقار العلم بما وجّهوه إلى بعضهم من الشتيمة والتسفية والغمز والانتقاص بل والتكفير، وحتى يبدو للذي ينعم النظر أن كلا الفريقين يصرف أحيانا الكلام عن وجهه الحق ويتجوز ويتكلف فيه عصبية للحزبية المذهبية إن صحّ التعبير مع أن كلا منهم في الأصل صادق الإيمان والإخلاص مستهدف تنزيه الله وتوقيره.(1/233)
وفي تفسير «الكشاف» للزمخشري وهو من أعلام علماء القرن السادس الهجري ويمثل مذهب الاعتزال أو ما يسميه مذهب أهل العدل والتوحيد وفي تعليقات القاضي ابن المنير عليه وهو من علماء القرن السابع ويمثل مذهب الأشاعرة من أهل السنة أمثلة كثيرة على ذلك حتى ليصح أن يقال إن التفسير والتعليق قد استهدفا هذه الوجهة في الدرجة الأولى.
يقول الزمخشري في سياق تفسير جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275] ، وتخبط الشيطان من زعمات العرب، حيث يزعمون أن الشيطان يتخبط الإنسان فيصرعه، ثم يستطرد فيقول ورأيت لهم- ويقصد أهل السنة- قصصا وأخبارا وعجائب في الجنّ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات، فيعلّق ابن المنير على هذا القول فيقول إنه على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية- يعني المعتزلة- في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع فاحذرهم قاتلهم الله.
ويقول الزمخشري في سياق تفسير جملة كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ [الأنعام: 71] ، إن هذا جاء على ما كانت تزعمه العرب فيعلق ابن المنير قائلا ومن أنكر استيلاء الجنّ على بعض الإناس واستهوائهم حتى يحدث من ذلك الخبط والصرع فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال الفلسفي.
ويقول الزمخشري في سياق تفسير جملة إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء: 17] ، بوجوب قبول التوبة على الله فيعلق ابن المنير قائلا إنه إطلاق يتقيد عنه لسان العاقل ويقشعرّ منه جلده استبشاعا لسماعه ويتعثر القلم عند تسطيره. على أن من لطف الله أنه لم يجعل حاكي الكفر كافرا وحاكي البدعة لضرورة ردّها مبتدعا.
ويقول الزمخشري في سياق تفسير جملة يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [المائدة: 171] ، إن غلوهم كغلوّ الأشاعرة في جعلهم لله صفات أفعال فهم كالنصارى، فيردّ عليه قائلا إن التشبيه بهم أولى، فالنصارى غلوا فجعلوا الإله ثلاثة ولكن المعتزلة غلوا فجعلوا كل آدمي خالقا وشريكا لله.(1/234)
وفي سياق تفسير معنى استواء الله ووجهه ويده ونزوله وعروجه يورد الزمخشري الأبيات المشهورة:
وجماعة سموا هواهم سنة ... لجماعة حمر لعمري مؤكفة
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفة «1»
فيورد ابن المنير ردا عليه الأبيات التالية:
وجماعة كفروا برؤية ربّهم ... حقا ووعد الله ما إن يخلفه
وتلقبوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
ويذكر الزمخشري رواية عن طاووس التابعي جاء فيها أنه طرد رجلا من مجلسه يقول بالقدر فقيل له هذا فقيه فقال إبليس أفقه منه لأنه قال فيما أغويتني وهذا يقول إني أغوي نفسي، ثم يقول إن الرواية من تكاذيب المحيرة الذين بلغ بهم من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين، فيرد ابن المنير فيقول إن كلامه حيدان عن العقيدة الصحيحة، وإن ذنب أهل السنة أنهم يؤمنون بخالق واحد في حين أن القدرية يتهالكون حتى ليشركوا كل شخص مع الله في الخلق.
ويحمل الزمخشري على الأشاعرة في سياق تفسير جملة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3] ، فيقول وما أرى رؤساء أهل الأهواء والبدع والحشوية المتلقبين بالإمامة في دين الله إلا داخلين تحت هذا دخولا أوليا، بل هم أشد الشياطين ضلالا وأقطعهم لطريق الحق حيث دونوا الضلال تدوينا ولقنوه أشياعهم تلقينا وكأنهم ساطوه بلحومهم ودمائهم.
ويندد بخصومه في صدد تفسير جملة فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 284] فيقول إن أهل الأهواء والبدع يتصامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء ويطيبون لأنفسهم بما يفترون على ابن عباس في قولهم هذا، وإن انتظار
__________
(1) منحوتة عن جملة «بلا كيف» يعني أن الأشاعرة يقولون إن الله استوى إلى العرش ولكن دون أن يعرف أحد كيفية هذا الاستواء.(1/235)
الغفران بدون توبة وانتظار الشفاعة بدون سبب غرور وحمق وجهالة.
وفي إحدى المناسبات يشبه ابن المنير المعتزلة بالمشركين ويقول إنهم يقولون هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا حيث يثبتون خالقا غير الله ولا يأنفون عن إثبات رازق غيره فأنّى يؤفكون.
وفي سبيل الهوى المذهبي يصرف الزمخشري جملة وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 64] ، إلى معنى جرحه الله بمخالب قدرته.. ثم ينسى هذا فيقول في سياق آية وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] ، أسمعه الله كلاما وحروفا وأصواتا خلقها في ما حوله.
وبينما يؤول الزمخشري (عرش الله) في سياق آيات عديدة بعظيم قدرته وملكه يقول في سياق آية وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 7] ، إن فيها لدليلا على أن العرش والماء قد خلقا قبل السماوات والأرض، فيعترف بذلك بوجود مادي للعرش يناقض تأويله الأول.
وهذا قليل متنوع المدى من كثير جدا في «الكشاف» وتعليقات ابن المنير عليه يكفي لإيضاح ما قصدنا إليه. وليس معنى اكتفائنا بنقل ما جاء في «الكشاف» والتعليقات أنهما الوحيدان في هذا الباب، فإن المدقق في مختلف كتب التفسير كالخازن والبيضاوي وأبي السعود والرازي وغيرها يجد غمزات شديدة وخفيفة في مناسبة كثير من العبارات القرآنية، وتنبيهات على ما فيها من دلائل ضد مذهب مخالفيهم، أو على ما في استناد هؤلاء المخالفين إليها من وهن كما يجد توجيهات وتأويلات تتسق مع مذهبهم وتؤيده سلبا أو إيجابا وممن ذكرهم صاحب «الإتقان» على نمط الزمخشري في اتخاذ تفاسيرهم وسيلة إلى شرح مذاهبهم وتأييدها والطعن على غيرهم عبد الرحمن بن كيسان الأصمّ والجبائي وعبد الجبار الرماني.
وهذا عدا ما احتوته الكتب الكلامية والخلافية والنحلية والمذهبية الأخرى من التشاد والتجاذب حول العبارات القرآنية وصرفها من جانب كل فريق إلى مذهبه(1/236)
تقريرا أو تأويلا مما هو خارج عن مدى الموضوع الذي نحن بسبيل التنبيه عليه وإن يكن فرعا من أصل.
وليس يعنينا هنا بيان المصيب أو تأييد مذهب على مذهب، وإنما يعنينا الثغرة في الأسلوب، وبيان ما صارت إليه كتب التفسير بسببه من معارض تشاد وتسفيه ومهاترة وتكلف في صدد الجدل الكلامي.
ومع أن من المسلّم به أن النصوص القرآنية في حد ذاتها مستند للعقائد والأحكام والتشريع الإسلامي، إلا أننا نعتقد أن أصحاب المذاهب الكلامية والخلافية قد تكلفوا وتمحلوا في كثير مما تجاذبوا وتشادوا فيه على غير طائل ولا ضرورة، وإنهم حملوا العبارات القرآنية ما لا محل لتحميلها إياه ولا يقتضيه السياق الذي جاءت فيه، وإن هذا قد نشأ بنوع خاص من أخذهم إياها مستقلة لذاتها في حين تكون قد جاءت متصلة بسياق لا تفهم على وجهها إلا معه، وبمناسبة لا تلمح حكمة صيغتها إلا بملاحظتها، أو على سبيل التقريب والتمثيل، أو على سبيل التسلية والتطمين أو التنديد والتسفية أو الحجاج والإلزام أو الحكاية إلخ تبعا لتنوع الأساليب والمناسبات القرآنية ومواقف وأحداث السيرة النبوية مما يمكن أن يتبينه كل من أمعن النظر في المجموعات القرآنية التي وردت فيها العبارات التي تكون موضوع التشاد والتجاذب، وإن العبارات القرآنية إذا ما نظر فيها مع سياقها السابق أو اللاحق أو كليهما زال الموهم فيها واتسقت التقريرات والمعاني القرآنية، وإن محاولات أهل المذاهب الكلامية والخلافية هذه تجعل القرآن يناقض بعضه بعضا مما يجب تنزيهه عنه ومما هو منزه عنه فعلا بنصّ القرآن.
ومما يحسن إيراده هنا ما جاء في تفسير الرازي حيث قال في إحدى المناسبات إن الرافضة يعني الشيعة- قالت إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غيّر وبدّل، والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب المناظرات الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر. وإطلاق الرازي كلمته(1/237)
يوهم أن الشيعيين جميعا يقولون هذا، وهو غير صحيح لأن الشيعة والإمامية خاصة تعترف بالقرآن الموجود بين دفتي المصحف اعترافا تاما، وقد نقلنا في مناسبة سابقة كلمة أحد أعلام مفسريهم القدماء الشيخ الطوسي في هذا الصدد، ولا يمنع هذا أن تكون إحدى فرقهم الغالية قد قالت هذا لأن من هذه الفرق من تعمّد هدم الإسلام والتشكيك في القرآن تعمدا. وعلى كل حال فإن كلمة الرازي صدى لما كان من تجاذب وتشادّ حول العبارات القرآنية في سبيل الخلاف المذهبي وتأييد لما نحن في صدده من ضرر ذلك وخطله، واعتباره ثغرة خطيرة في تفسير القرآن.
وما ذكرناه هو ما يتصل بالخلاف المذهبي الكلامي. وهناك تفاسير عديدة احتوت أشياء كثيرة مما يتصل بالخلاف الشيعي السني ومنها ما اتخذ وسيلة إلى تقريرات وتأويلات متصلة بهذا الخلاف، مما يمتّ إلى الثغرة التي نحن بصدد التنبيه عليها، ومما ينسحب عليه الكلام الذي قلناه آنفا بطبيعة الحال. ولقد أشرنا إلى بعض هذه التقريرات والتأويلات في مناسبات متنوعة، ونكتفي هنا بإيراد شيء منها منقول عن «تفسير التبيان» للشيخ الطوسي.
ففي سياق تفسير آية آل عمران المعروفة بآية المباهلة فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) ، قال الشيخ دون استناد إلى حديث أو رواية ولما نزلت الآية أخذ النبي بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم دعا النصارى إلى المباهلة. ثم قال واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن أمير المؤمنين- يعني عليا- كان أفضل الصحابة من وجهين أحدهما أن موضوع المباهلة هو تمييز الحق من الباطل وذلك لا يصح أن يكون إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعا على صحة عقيدته وأفضل الناس عند الله، والثاني أنه جعله مثل نفسه بقوله وأنفسنا وأنفسكم والآية تدل على أن الحسن والحسين ابنا النبي بلا خلاف لأنها تقول أبناءنا وتدل على أن تعبير نساء النبي بقوله نساءنا قد صرف إلى فاطمة فقط،(1/238)
وإذ جعل النبي أمير المؤمنين مثل نفسه وجب ألا يدانيه أحد في الفضل والإيثار به، ومتى قيل إنه أدخل في المباهلة الحسن والحسين مع كونهما غير بالغين وغير مستحقين للثواب، وإن كانا مستحقين للثواب لم يكونا أفضل الصحابة قال لهم أصحابنا إن الحسن والحسين كانا بالغين مكلفين لأن البلوغ وكمال العقل لا يفتقران إلى شرط مخصوص، وقد تكلم عيسى في المهد بما دلّ على كونه مكلفا عاقلا، وقد ذكر الشيخ في سياق آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:
3] ، أنه روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله أن الآية نزلت بعد أن نصب النبي عليا علما للأمة يوم غدير خم منصرفه من حجة الوداع، كما ذكر في سياق آية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة:
67] ، أنه روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله أن الله لما أوحى إلى النبي أن يستخلف عليا كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله هذه الآية تشجيعا له ... والهوى الحزبي ظاهر البروز في ذلك كله.
- 6- الولع بأسرار القرآن ورموزه ومنطوياته:
سادسا: إن بعض المفسرين والمشتغلين بالقرآن قد ولعوا بتخمين انطواء القرآن على أسرار ورموز، واستغرقوا في استقراء الحروف والكلمات والتراكيب القرآنية بقصد الكشف عن تلك الأسرار والرموز واتسع مجال التفريع والتكلف والإغراب في هذا المجال كثيرا.
ولعل أصل هذا الولع يرجع إلى بعض روايات في الحروف المتقطعة المنفردة التي جاءت في مطالع نحو ربع السور القرآنية مكية ومدنية. فمع أن القسم الأكبر من هذه المطالع قد أعقبه ذكر القرآن والكتاب وتنزيله وإحكامه وحكمته قسما أو بيانا أو تنويها أو تنبيها «1» ، ومع أن روحها تلهم أنها جاءت بسبيل التوكيد
__________
(1) هي سورة القلم وق وص والأعراف ويس وطه والشعراء والنمل والقصص ويونس وهود ويوسف والحجر ولقمان وغافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وإبراهيم والسجدة والبقرة وآل عمران والرعد. أما السور التي مطلعها حروف متقطعة منفردة ولم تعقب بالإشارة إلى القرآن فهي سورة مريم والروم والعنكبوت.(1/239)
والتنبيه واسترعاء الأسماع إلى القرآن وآياته وعبره وحكمته وإحكامه مما قرره غير واحد من أعلام علماء القرآن من ابن عباس فما بعد ومما تطمئن إليه النفوس ويتسق مع مهمة الذي أنزل عليه القرآن وخطاب القرآن لجميع الفئات وتوكيده أنه واضح مبين لا عوج فيه ولا أمت ولا تعقيد ولا اختلاف فقد روى في سياق البحث في الحروف المذكورة رواية مفادها أن اليهود جاؤوا إلى النبي فسألوه عما أوتيه من عمر الدنيا فقال لهم «ال م» فحسبوها فجاءت (71) في الحساب المعروف بالحساب الجمل والذي هو حساب يهودي يقوم على ترتيب الأحرف الهجائية العبرانية (اب ج د هـ وز إلى آخره) فقالوا ثم ماذا فقال لهم (ال م) ثانية ثم (ال م ص) إلى آخر السور فحسبوا حساب الحروف جميعها فبلغ سبعمئة وكسورا من السنين «1» فأقروا بالأمر تسليما بأن النبي قد بعث بين يدي الساعة. ومع أن هذه الرواية ليست موثقة ولا يثبت مضمونها ومداها على نقد وتمحيص من وجوه عديدة فقد تنوقلت واستفاضت في جملة ما تنوقل واستفاض في مختلف كتب التفسير والقرآن.
ومثل هذه الرواية أقوال مروية أخرى معزوة إلى بعض الصحابة والتابعين ومستفيضة في كتب التفسير وليست هي الأخرى موثقة أو من شأنها أن تثبت على نقد وتمحيص ذكر فيها أن هذه الحروف ترمز إلى بعض أسماء الله وأسماء النبي، وأنها تحتوي أسرار القرآن وسرّ اسم الله الأعظم. ومن هذه الروايات روايتان أوردهما الرازي في سياق تفسير أول البقرة إحداهما معزوة إلى أبي بكر جاء فيها أن لكل كتاب سرا وسرّ القرآن في أوائل سوره، وثانيتهما معزوة إلى علي بن أبي طالب جاء فيها أن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
وهناك روايات وأقوال شيعية المصدر جاء في بعضها أن الحروف تحتوي رموزا للنبي وعلي والحسن والحسين، وفي بعضها أن كل مطلع من المطالع المتقطعة
__________
(1) حساب الحروف جميعها يتجاوز الثلاثة آلاف والمائتين!.(1/240)
يشير إلى دور من أدوار التاريخ المتصلة بالأئمة العلويين، ومن ذلك أن مطلع سورة آل عمران يشير إلى حادث الحسين ومطلع سورة الأعراف يشير إلى دور العباسيين. وقد نقل عن تفسير الطبري أن مطلع سورة الشورى يشير إلى أحداث تاريخية عظيمة في مدينتين من مدن المشرق وملكين من ملوكها، وقد ذكر السيوطي في «الإتقان» أن لمحمد بن حمزة الكرماني كتابا في مجلدين سماه «العجائب والغرائب» وضمنه أقوالا ذكرت في الحروف المتقطعة مثل (ح م ع س ق) مطلع سورة الشورى حيث ترمز الحاء إلى حرب علي ومعاوية والميم إلى الدولة المروانية والعين إلى الدولة العباسية والسين إلى الدولة السفيانية والقاف إلى الدولة المهدوية اللتين تظهران في آخر الزمان.
ثم اتسع القول في مدى هذه الحروف ودلالاتها الفنية والنظمية فتراءى للزمخشري مثلا بعض أسرارها، فهي نصف حروف المعجم، وعدد السور التي تبتدئ بها على قدر حروف المعجم، وهي تحتوي نصف الحروف المهموسة ونصف الحروف المجهورة، وتحتوي كذلك نصف الحروف المستعلية ونصف الحروف المنخفضة ونصف الحروف القلقة. وتراءى لصاحب كتاب البرهان على ما ذكره السيوطي في الإتقان أن كل سورة بدأت بحرف منها فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، وحق لكل سورة منها أن لا يناسبها إلا الحروف الواردة فيها، وذكر على سبيل المثال سورة ق حيث كان ذلك لأن حرف القاف قد تكرر كثيرا في كلمات السورة، وسورة ص حيث كان ذلك لأنها احتوت خصومات عديدة خصومة النبي مع الكفار وخصومة الخصمين أمام داود وخصومة أهل النار وخصومة إبليس، وسورة يونس حيث بدأت بحروف الألف واللام والراء بسبب تكرر هذه الحروف وخاصة الراء فيها إلى آخره، والتكلف شديد البروز وفي هذه الأقوال عند إمعان النظر كما أنها غير مطردة عند التطبيق حيث فيها النقص والزيادة والخلاف «1» .
__________
(1) نقول من قبيل الاستطراد إننا اطلعنا على بحث وجيز للأستاذ نصوح الطاهر تضمن تقرير كون الحروف المتقطعة تشير إلى عدد آيات السور. ولم نجد فيما جاء في مقاله الموجز شفاء يساعد على القطع برأي حاسم في صحة النظرية وبطلانها، ثم في صواب شمول الأمثلة لجميع السور ذات الحروف المتقطعة على ما يقول به صاحب النظرية. وقد تراءى لنا من الأمثلة الواردة أن هناك تجوزا وتحكما في حساب الآيات ودمج بعض السور في بعض وترجيحا بغير مرجح لروايات الآيات المدنية في السور المكية والآيات المكية في السور المدنية، ولروايات أخرى في صدد عدد وحجم بعض السور وإسقاط بعض سور مشابهة في مطلعها لسور أخرى كإسقاط سورة الحجر مع أنها تبدأ بجملة «الر» وإسقاط سورة الأحقاف مع أنها تبدأ بجملة «حم» وكل ذلك رغبة في التوفيق والتطبيق بسبب صدفة في حساب آيات أو وحدات وانطباق على حساب الروايات. وقد وعد الأستاذ بنشر البحث تاما شاملا لجميع السور «المبدوءة بالحروف المتقطعة والتي يقول إن نظريته وحسابه قد صح فيها جميعها فلننتظر وفاءه بما وعد حتى نتمكن من القطع في النظرية. وقد كتبنا هذا من قبيل الاستطراد وليس من شأنه أن يؤثر في البحث الذي بحثناه حول ما دار في صدد أسرار القرآن أو ألغازه أو رموزه وآثارها كما هو واضح.
الجزء الأول من التفسير الحديث 16(1/241)
ثم اتسع القول فقال قائل إنه ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن، وإنه لو ضاع عقال بعير لوجدته في كتاب الله، واستنبط بعضهم عمر النبي ثلاثا وستين سنة من سورة المنافقون لأنها الثالثة والستون من السور وفق ترتيب المصحف وقد جاء فيها آية وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [11] وقال قائل إن نصوص القرآن ليست على ظاهرها، وإن لها معاني باطنة محجوبة عن غير الواصلين والمعلمين، وقال قائل إن علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم أو سبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحدّ ومطلع وقال قائل إنه ما من كائن ويكون من أحداث الدنيا منذ بدئها إلى منتهاها إلا احتوت حروف القرآن وكلماته علمها وغيبها، وأنه احتوى جميع علوم الأولين والآخرين، وقال قائل إن لكل آية ستين ألف فهم وروى راو عن علي بن أبي طالب أنه لو أراد أن يوفر حمل سبعين بعيرا من تفسير أم القرآن- يعني الفاتحة- لفعل، وفصل بعضهم وفود العلوم المستنبطة من القرآن استنادا إلى ما ورد من بعض كلمات لها صلة ما لغة أو معنى بعلم أو فن أو صناعة ما من العلوم والفنون والصناعات المعروفة فقال إن في القرآن أصل علم الهندسة(1/242)
مستنبطا من جملة ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: 30] ، وأصل علم الجبر والمقابلة مستنبطا من أوائل السور التي فيها ذكر مدد أمم سالفة وأعوامها وأيامها وتواريخها وتاريخ ومدة أيام الدنيا وما مضى وما بقي بعضها ببعض، وأصل علم الطب مستنبطا من ثلاث آيات وهي آية الفرقان وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وآية الإسراء وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82] وآية النحل يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69] . وأصل علم الهيئة مستنبطا مما ورد من ذكر ملكوت السماوات والأرضين وما بثّ في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات، وأصل علم المواقيت مستنبطا من آيات الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج والمنازل، وأصل علم التنجيم مستنبطا من جملة أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الأحقاف:
4] ، وأصل علم تعبير الرؤيا مستنبطا من قصة يوسف، وأصل علم الحساب مستنبط مما فيه من ضروب الجمع والقسمة والضرب والأعداد والموافقة والتأليف والمناسبة والتنصيف والمضافة، وأصل كل من علوم النحو والصرف والبيان والبديع والجدل والمنطق والتاريخ والقصص والقضاء والتشريع والفقه والفرائض مستنبطا مما فيه من قواعد صرفية ونحوية ونظم بياني وبديعي وجدلي ومنطقي وقصصي وتاريخ وأحكام وحدود وأنكحة ومواريث إلخ، وأصل صناعات التجارة والحدادة والزجاجة والقصارة والبناء والخياطة والصباغة والفلاحة والنحت والفخارة والكيالة والرمي والصيد والصياغة والملاحة مستنبطا من كلمات وآيات وردت فيها إشارات إلى هذه الصناعات أو ما يتصل بها «1» .
ورأى مفسرو الشيعة وباحثوهم في كثير من آيات القرآن وعباراته إشارات ورموزا إلى علي وفاطمة والحسن والحسين مثل جملة مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرحمن: 19] ، حيث ترمز إلى علي وفاطمة وجملة يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) نفس السورة، حيث ترمز إلى الحسن والحسين. وجملة
__________
(1) جميع هذه الأقوال واردة في «الإتقان» للسيوطي.(1/243)
أَلْفِ شَهْرٍ (3) في سورة القدر، حيث ترمز إلى مدة الدولة الأموية. وجملة هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] ، حيث ترمز إلى علي وخصومته لدى ربّه مما وقع عليه من حيف في الخلافة، وجملة يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] ، حيث ترمز إلى المهدي المنتظر، وجملة وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 107] ، حيث ترمز إلى الحسين، وجملة أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل: 82] ، حيث ترمز إلى علي يوم رجعته، وجملة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: 43] ، حيث ترمز إلى علي، وجملة أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ [الشعراء: 205] ، حيث ترمز إلى الأمويين. وجملة سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] ، حيث ترمز إلى الأئمة السبعة. وجملة حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً [الأحقاف: 15] ، حيث ترمز إلى الحسين وفاطمة. وجملة وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف: 61] ، حيث ترمز إلى المهدي. وجمل رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء: 6] ، وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا [النمل:
83] ، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر:
51] ، رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر: 2] . ووَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص:
5] ، حيث ترمز إلى الرجعة والدور الذي يكون فيه الأئمة الفاطميون أصحاب السلطان ويتمكنون فيه من الانتقام من خصومهم وسالبي حقوقهم. حتى إن الناظر في ما كتبه بعضهم ليجد أن كثيرا من محتويات القرآن مصروف إلى الأئمة وذرية فاطمة، ومحمول على تأييد أقوالهم ومذاهبهم وأئمتهم ورجعتهم وخصومهم وفيه من الغرائب والمفارقات العجيبة ما لا يتسع له أي حوصلة.
ولعل مما يتصل بهذا الباب ما أدير من الأقوال حول أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف فقد ورد عدة أحاديث في ذلك منها أن عثمان بن عفان وقف على المنبر فقال أذكر الله رجلا سمع النبي قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف وكاف إلّا قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا فقال وأنا أشهد معهم، ومنها(1/244)
عن ابن عباس أن النبي قال أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف. ومنها حديث نبوي رواه النسائي أن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف، وفي حديث مروي عن أبي بكرة زيادة مفادها أنه لما بلغ سبعة أحرف نظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة. ومنها عن أبيّ عن النبي قال أرسل إليّ ربي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هوّن على أمتي فأرسل إليّ أن أقرأه على حرفين فرددت عليه أن هوّن على أمتي فأرسل إليّ أن أقرأه على سبعة أحرف. ومنها حديث آخر عن أبيّ قال لقي رسول الله جبريل فقال يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ومنها حديث ابن مسعود أن النبي قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا كل من عند ربنا.
ومنها حديث جاء في «الموطأ» قال عمر سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها وكان رسول الله أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف يعني أتم صلاته ثم لبسته بردائه فجئت به رسول الله فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله أرسله ثم قال اقرأ فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله هكذا أنزلت، ثم قال لي اقرأ فقرأت فقال هكذا أنزلت ثم قال إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا منه ما تيسّر.
فمع أن هذه الأحاديث المروية ومداها وظروفها بوجه الإجمال باستثناء حديث ابن مسعود الذي يتحمل نصّه التوقف والنظر أكثر من غيره لأنه لا يتسق مع سائر الأحاديث الواردة وفيه تقسيم وتصنيف علميين يشبهان تقسيم العلماء(1/245)
المتأخرين عن عهد النبي كثيرا تلهم أنها في صدد التيسير والتسهيل في قراءة القرآن نطقا وأداء وعدم الإحراج والإعنات في ذلك وهذا مما قرره غير واحد من العلماء.
فإن البحث حولها اتسع حتى خرج عن هذا النطاق ودخل في نطاق آخر يتصل بما ذكرناه من التخمينات حول أسرار القرآن ومكنوناته وشموله. ولقد عدّ صاحب «الإتقان» خمسة وثلاثين قولا في هذه الأحاديث أقلها متصل بتسهيل القراءة وأكثرها من قبل تلك التخمينات كما ترى في هذه السلسلة:
1- سبعة أوجه للقراءة.
2- سبعة أوجه يقع فيها تغاير في فتح ورفع وكسر وتقديم وتأخير وتخفيف وتشديد وإدغام.
3- سبعة أنواع من الآيات: آية في صفات الله وآية تفسيرها في آية أخرى وآية بيانها في السنة الصحيحة وآية في قصة الأنبياء والرسل وآية في خلق الأشياء وآية في وصف الجنة وآية في وصف النار.
4- سبع جهات من صفات الله.
5- سبعة أنواع أخرى من الآيات آية في وصف الصانع وآية في إثبات الوحدانية له وآية في إثبات صفاته وآية في إثبات رسله وآية في إثبات كتبه وآية في إثبات الإسلام وآية في إثبات الكفر.
6- سبع قراءات لسبعة من الصحابة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب.
7- ظهر وبطن وفرض وندب وخصوص وعموم وأمثال.
8- تصريف ومصادر وعروض وغريب وسجع ولغات مختلفة كلها في واحد.
9- سبعة ألفاظ عام أريد به الخاص وخاص أريد به العام، وعام أريد به العام وخاص أريد به الخاص ولفظ يستغني تنزيله عن تأويله ولفظ لا يعلم تأويله إلا الراسخون ولفظ لا يعلم تأويله إلا الله.(1/246)
10- المطلق والمقيد والعام والخاص والنصّ والمؤول والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر والاستثناء وهذا قول الفقهاء.
11- الحذف والصلة، والتقديم والتأخير، والاستعارة والتكرار، والكناية والحقيقة والمجاز، والمجمل والمفسر، والظاهر والغريب وهذا قول علماء اللغة.
12- التذكير والتأنيث، والشرط والجزاء، والتصريف والإعراب والإقسام وجوابها، والجمع والإفراد والتصغير والتعظيم، واختلاف الأدوات وهو قول علماء النحو.
13- الزهد والقناعة مع اليقين والجزم والخدمة مع الحياء، والكرم والفتوة مع الفقر، والمجاهدة والمراقبة مع الخوف، والرجاء والتضرع والاستغفار مع الرضى، والشكر والصبر مع المحاسبة والمحبة والشوق مع المشاهدة وهذا قول الصوفية.
14- أمر ونهي وبشارة وإنذار وأخبار وأمثال.
15- علم الإنشاء، وعلم الإيجاد، وعلم التوحيد والتنزيه، وعلم صفات الذات، وعلم صفات الفعل، وعلم صفات العفو والعذاب، وعلم الحشر والحساب، وعلم النبوات.
16- المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والخصوص والعموم والقصص.
17- سبع لغات لغة قريش ولغة اليمن ولغة جرهم ولغة هوازن ولغة قضاعة ولغة تميم ولغة طي.
18- سبعة أوجه إعراب للكلمة الواحدة حتى يكون المعنى واحدا وإن اختلف لفظا.
19- سبعة أحرف هي أمهات الهجاء وهي الألف والباء والجيم والدال والزاي والسين والعين.
20- إن جبريل كان يكرر كل كلمة سبع مرات على سبعة أوجه.
21- تقرير كون القرآن نزل بمعان متسق مفهومها مختلف مسموعها حيث يجوز التغاير إذا لم تبدل كلمة عذاب بكلمة رحمة. وروى القائلون في معرض(1/247)
تدليلهم على قولهم إن ابن مسعود كان يقرأ (امهلونا) مكان انْظُرُونا في سورة الحديد [13] ، وأن أبيّا كان يقرأ (سعوا) بدل مَشَوْا في سورة البقرة [20] ، وأن ابن مسعود أجاز للقارىء أن يقرأ (طعام الفاجر) بدل طَعامُ الْأَثِيمِ (44) في سورة الدخان لأنه لم يكن يحسن النطق بكلمة الأثيم.
23- التسهيل في التقديم والتأخير مثل جاءت سكرة الحق بالموت بدلا من وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ في سورة ق [19] .
وواضح أن في كل ما ذكرناه في هذا المبحث ثغرات عديدة من شأنها التشويش على القرآن ومداه وعلى الناظر فيه والراغب في تفهمه، وصرف القلب عن روحانيته وأهدافه الوعظية والإرشادية والتذكيرية والتوجيهية، والاستغراق في هذه الناحية حتى تنقلب جمل القرآن وكلماته وحروفه إلى معادلات جبرية ورياضية وكيمياوية وتنجيمية ومنطقية وكلامية وجدلية إلى آخره مما يخرجه عن قدسيته ولا يتسق مع طبيعة توجيهه إلى مختلف طبقات الناس، وما تقتضيه هذه الطبيعة من عدم انطوائه على أسرار ورموز وغوامض غيبت عن فئة دون فئة، واختصت بها فئة دون فئة، كما لا يتسق مع نصوص القرآن الصريحة بأنه أنزل ليكون موعظة وهدى ورحمة للناس كافة، وبأن الناس جميعهم مدعوون إلى تفهمه وتدبره والتزام حدوده الإيجابية والسلبية، وهذا فضلا عن ما في الأقوال أو كثير منها من التكلف والتزيد والتجوز والتحكم، وعن ما يبدو في بعضها من آثار الخلافات الحزبية والسياسية والنحلية والمذهبية من جهة وعما يبدو في بعضها من جهة ثانية من مقاصد الدسّ على القرآن والإسلام من بعض النحل والفرق التي حرصت أن تبثّ في الأذهان أن التكليفات الشرعية معاني وأهدافا مكنونة تخالف ظاهرها، وأن تثير في النفوس نحو القرآن الشكوك والريب، وفضلا عن ما يبدو من جهة ثالثة من مقاصد التجزئة على التبديل والتغيير في نظم القرآن وكلماته من ناحية ما هناك من روايات الخلافات اللفظية والنظمية، ونكاد نجزم أن كثيرا من هذه الروايات الكثيرة جدا والواردة في مختلف كتب التفسير والقراءات والمعزوة إلى الصحابة، والتي(1/248)
تدور في نطاق الألفاظ والنظم تبديلا وتقديما وتأخيرا وزيادة ونقصا ونحوا وصرفا مدسوس أو محرّف، وأنه يمتّ إلى هذه المقاصد الخبيثة على اعتبار أن صحة صدور القرآن عن النبي منوطة بوحدة اللفظ والنظم، وأن تشويه هذه الوحدة كفيل بالتشكيك في صحة صدور القرآن المتداول عن النبي، مع التنبيه على أننا لا نرى ما يمنع أن يكون بين المندمجين في هذه الروايات والتخمينات أناس ذوو نيات حسنة وطويات سليمة ومقاصد بريئة.
- 7- الولع بالتفريع والاستطراد:
سابعا: إن بعض المفسرين قد ولع ولعا غريبا في التفريع والتقسيم والاستطراد إلى البحوث المتنوعة الآلية والعقلية والكونية والكلامية والطبيعية والفقهية والفلسفية.
والعلم البارز في هذا الباب من قدماء المفسرين الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» وهذا الولع ليس من نوع الولع بالرموز والأسرار والمغيبات، وهذا ما جعلنا نفرد له نبذة خاصة.
وقبل كل شيء نريد أن ننبه على أن تفسير هذا الإمام من ناحية متناوله العلمي الأسلوبي القديم كنز غني ومعلمة كبرى يصح أن تكون مفخرة من مفاخر المؤلفين الإسلاميين وبما بلغوا إليه من رفيع المستوي في البحث والعلم وسعة الاطلاع وشموله وطول النفس، ولو أنه ألّف كتابه الذي يقع في أكثر من ستة آلاف صحيفة من القطع الكبير ذي الحرف الدقيق كمعلمة مرتبة على حروف الهجاء أو الكلمات أو المواضيع لكان عملا عظيما لا غبار عليه، ولكن الثغرة فيه أنه كتبه في صدد تفسير القرآن في حين أن الناظر فيه يكاد ينسى أنه يقرأ تفسيرا لكثرة التفريع وتعداد المسائل والوجوه وتوالي الاستطرادات التي كثيرا ما لا تكون متصلة بالموضوع القرآني إلا اتصالا لفظيا.(1/249)
وفي الصفحات الأولى لهذا التفسير يبدو أن الدافع إليه هو الرغبة في تعداد كثرة المسائل التي تتفرع من كل فصل أو آية أو عبارة في القرآن فيقول المؤلف مثلا إنه قال إن سورة الفاتحة يمكن أن يستنبط منها عشرة آلاف مسألة فاستبعد هذا بعض ذوي الهمم القاصرة، ثم يأخذ يجمل في التعداد وفي أنواع المسائل وما تحتويه من وجوه وأمثلة حتى ينتهي به القول إلى أن الاستعاذة وحدها تحتوي عشرة آلاف مسألة، وأن البسملة وحدها تحتوي مثل ذلك، وأن الحمد لله رب العالمين تحتوي مثل ذلك، ثم يجمل فيقول إن سورة الفاتحة تحتوي ألف ألف (ميليون) مسألة أو أكثر وليس عشرة آلاف كما قرر أولا من باب التساهل، فربّ العالمين مثلا على أسلوبه تعني جميع المخلوقات السماوية والأرضية من ملائكة وسماوات وكواكب وأرضين وجنّ وإنس ودواب وطيور وهوام ومعادن ومياه وبحار ونباتات وأشجار وما يتصل بكل ذلك من عادات ونواميس ومعايش إلى آخره، حيث يبدو في هذا من الإغراق العجيب في التجوز والتوسع في سياق تفسير القرآن ما يثير العجب. ولقد بلغ عدد الصفحات الكبيرة التي فسر فيها سورة الفاتحة مئتين وستا وعشرين احتوت أكثر من مئة ألف كلمة أو بمقدار المصحف جميعه مرة ونصفا. فيذكر الكلمة من ناحية تركيبها الهجائي عكسا وطردا وتبديل مواقع حروف وثنائيا وثلاثيا ورباعيا وخماسيا وسداسيا، ثم من ناحية اشتقاقها ومعانيها في كل هذه التركيبات الهجائية والأوزان الصرفية، ثم من ناحية صرفها ونحوها ومداها الفلسفي والمنطقي والكلامي والجدلي والذهني والاستعمالي والحسي والنفسي والتصوري والفقهي، مع استعراض أقوال وافتراض أسئلة وإيراد ردود وأجوبة إلى آخره، فلا يلبث القارئ كما قلنا أن ينسى أنه يقرأ تفسيرا للقرآن وإنما معلمه فيها كل شيء مما حمل بعض العلماء على القول إن فيه كل شيء عدا التفسير.
وبنفس هذا الأسلوب الاستطرادي ذي النفس الطويل يتناول البحث في ماهية كل موضوع، سواء أكان ذلك من مشاهد الكون والخلق والتكوين، أم من مشاهد الآخرة أم من مواضيع الملائكة والجن والشياطين فيستعرض أقوال مختلف الفئات من طبيعيين والهيين وفلاسفة وملاحدة وفرق إسلامية في تلك المشاهد وهذه(1/250)
المواضيع وأدلتهم واعتراضات خصوم كل فئة وفرقة وأدلتهم ويناقش ويجادل ويقرر ويصوّب ويخطىء.
وبنفس الأسلوب يدخل في بحوث جدلية كلامية فيورد أقوال مختلف الفئات والفرق وأدلتهم واعتراضاتهم على خصومهم ويناقش ويجادل ويقرر ويصوب ويخطىء أيضا.
ومع ما على كلام المؤلف من طابع الاستقلال بوجه عام وما تدل عليه استطراداته وتعليقاته واستدراكاته ومنقولاته من قوة العقل وسعة الأفق والنظر والمشاركة الواسعة في مختلف العلوم والمواضيع من نحو وصرف وبلاغة ومنطق وجدل وفقه ورواية وفلسفة وطبيعيات وإلهيات إلى آخره فإن المدقق فيها يجد كثيرا من التكلف والتحكم والاضطراب والتخمين والمفارقة والمبالغة والإغراب في مواضع ومواضيع كثيرة يرى القارئ شيئا منها في بعض الأمثلة التي سننقلها عنه بعد قليل.
وهذا بالإضافة إلى نظره في القرآن جملة جملة وعبارة عبارة وسوقه التعليقات والاستطرادات على هذا الاعتبار في الأعمّ الأغلب، وإلى ما في كتابه في صدد القصص القرآنية من تعليقات فيها ما في كتب غيره من المبالغات والتهافت والمفارقات والإغراب، وإلى ما في كتابه مع طابع الرأي والشخصية من الأحاديث الكثيرة المعزوة إلى الصحابة والتابعين ومن الأحاديث النبوية التي أوردت في سياق التعليقات والاستطرادات ومناسبات النزول فيها شيء كثير لا يستند إلى أسناد موثقة ولا يثبت على النقد والتمحيص.
والكتاب جميعه أمثلة على ما قلناه آخذ بعضها برقاب بعض حتى إن الناظر فيه لا يجد أي صعوبة في تلقف الأمثلة في سياق أي جملة أو عبارة قرآنية. ومع أن نقل نماذج في هذا المقام مؤدّ إلى التطويل بسبب كثرة التداخل والتفريع والاستطراد وطول النفس فإننا رأينا أن نورد بعض المقتطفات الموضوعية مع مثال أسلوبي واحد:(1/251)
(1) تساءل المؤلف في سياق جملة أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة:
19] ، عن فائدة ذكر السماء مع أن الصيّب لا يكون إلا من السماء وأجاب بقوله إن ذلك لئلا يظن احتمال نزول الصيّب من بعض جوانب السماء دون بعض، فلما ذكرت السماء دلّ على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء جميعها. ثم استطرد فقال إن من الناس من قال إن المطر يحصل من ارتفاع أبخرة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ثم تنزل مرة أخرى فذاك هو المطر فأبطل الله ذلك المذهب حيث بيّن أن الصيّب نزل من السماء، وأكّده في آيات أخرى مثل وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً [الفرقان: 48] ، ووَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور: 43] ، والتكلّف في التساؤل واضح كما أنه ربط في استطراداته نظرية ماهية المطر بنصوص قرآنية وفي هذا تعريض للقرآن للنقاش الجدلي.
(2) قال في سياق تعبير يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] ، إنه روى عن علقمة والحسن أنهما قالا إن كل شيء في القرآن يبدأ بهذا النداء فإنه مكي وما ابتدأ بنداء المؤمنين فهو مدني. ثم قال إن القاضي قال إن هذا الذي ذكروه إن كان مرجعه النقل فمسلّم به وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين في المدينة على الكثرة دون مكة فهو ضعيف لأنه لا يجوز أن يخاطب المؤمنون مرة بصفتهم ومرة بجنسهم، وقد يؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة كما يؤمر المؤمن بالاستمرار عليها فالخطاب في الجميع ممكن. وغفل هو والقاضي ومن نقل عن علقمة والحسن أو هذان إذا كانا قالا القول الذي نقل عنهما عن واقعية وقطعية مدنية آيات فيها الخطاب بنداء المسلمين مثل آية النساء الأولى والآية [170] منها ومثل آية الحجرات [13] مثلا فأراد القائلون أن يحلوا المسألة بالمنطق أو التسليم بالنقل مهما كان بادي الوهن دون الواقع الراهن.
(3) قال في سياق جملة الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] ، إنها دليل على أن الأرض ساكنة غير متحركة لا بالاستقامة ولا بالاستدارة فلو كانت(1/252)
متحركة بالاستقامة لما كانت فراشا على الإطلاق لأن من ظفر من موضع عال يجب أن لا يصل إلى الأرض لأنها هاوية وذلك الإنسان هاو والأرض أثقل من الإنسان والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والإبطاء لا يلحق الإسراع فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشا.. أما لو كانت حركتها بالاستدارة فلا يمكن انتفاعنا بها لأن حركة الأرض إذا كانت إلى المشرق مثلا والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب الغرب فيجب أن يبقى في مكانه ولا يستطيع أن يصل إلى حيث يريد لأن حركة الأرض أسرع ولما أمكنه الوصول علمنا أن الأرض غير متحركة بالاستدارة أيضا.
(4) تساءل عن أيّهما أفضل الأرض أم السماء في سياق آية البقرة [22] فأورد أربعة أقوال لمفضلي السماء على الأرض هي: (1) إن السماء متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصى الله فيها أحد (2) إن آدم لما ارتكب المعصية قيل له اهبط من الجنة وقال الله لا يسكن في جواري من عصاني (3) إن ذكر السماء على الأغلب قد ورد مقدما والتقديم دليل التفضيل (4) إن الله قال وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء: 32] ، وتَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان:
61] ، ولم يذكر الأرض في ذلك، ثم أورد أقوال مفضلي الأرض وهي: (1) إن الله وصف بقاعا من الأرض بالبركة (2) الله وصف جملة الأرض بالبركة (3) إن الله خلق الأنبياء من الأرض (4) إن الله كرّم الأرض بالخلق منها في حين أنه لم يخلق من السماء شيئا (5) إن الله كرم نبيه فجعل له الأرض كلها مسجدا وجعل له ترابها طهورا.
(5) ومما قاله في تعليل طلوع القمر وغيابه إن الله جعل في كلا الحالتين مصلحة، ففي غروبه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الظلام ويخفيه فلا يلحقه طالب فينجو، وفي طلوعه نفع لمن ضلّ عنه شيء وأخفاه الظلام قبل الطلوع.
(6) وقال فيما قاله في سياق جملة وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ.. [البقرة:
30] ، روي أن بني آدم عشر الجن وإن الجن عشر حيوانات البرّ وهؤلاء كلهم عشر(1/253)
الطيور وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية وعلى هذا الترتيب إلى السماء السابعة، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق، وعدد سرادقات العرش ستمائة ألف وطول كل واحد وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السماوات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة من البحر ولا يعلم عددهم إلا الله، ثم هؤلاء في مقابلة ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل والملائكة الذين هم جنود جبرائيل مثل ذلك. ثم استطرد فقال إنه قرأ في بعض الكتب أن النبي حين عرج به رأى الملائكة بمنزلة سوق بعضهم يمشي تجاه بعض فسأل جبريل أين يذهبون فقال لا أدري إلا أني أراهم مذ خلقت ولا أرى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك، ثم سألوا واحدا منهم. مذ كم خلقت فقال لا أدري غير أن الله تعالى يخلق كوكبا كل أربعمائة ألف سنة فخلق الله مثل ذلك الكوكب منذ خلقني أربعمائة ألف. وروى في سياق الجملة القرآنية المذكورة عن ابن عباس أن النبي بينما كان في ناحية ومعه جبريل إذ انشقّ أفق السماء فأقبل جبريل يتضاءل ويدخل بعضه في بعض ويدنو من الأرض فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويخيرك بين أن تكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا قال عليه السلام فأشار إليّ جبريل بيده أن تواضع فعرفت أنه لي ناصح فقلت عبدا نبيا فعرج ذلك الملك إلى السماء، فقلت يا جبريل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل، قال هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه وبينه وبين الرب سبعون نورا ما منها نور يدنو منه إلا احترق، وبين يديه اللوح المحفوظ فإذا أذن الله في شيء من السماء أو من الأرض ارتفع ذلك اللوح بقرب جبينه فنظر إليه فإن كان من عملي أمرني به، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به وإن كان من عمل ملك الموت أمره به، قلت على أي شيء أنت يا جبريل قال على الرياح والجنود، قلت على أي شيء ميكائيل(1/254)
قال على النبات، قلت على أي شيء ملك الموت، قال على قبض الأنفس، وما ظننت أنه هبط إلا لقيام الساعة، وما ذاك الذي رأيت مني إلا خوفا من قيامها..
وهذا مثال أسلوبي منه قال: إن جملة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:
21] ، تحتوي مسائل (المسألة الأولى) طرز الخطاب وفيها فوائد: (الفائدة الأولى) تحريك السمع (الثانية) توجيه الخطاب (الثالثة) الانتقال من الغيبة إلى الحضور (الرابعة) الأمر بالتكليف. (المسألة الثانية) احتوت شرح كلمة الناس ومداها واشتقاقاتها. (المسألة الثالثة) في النداء فذكر وجوه النداء وموانعه أولا وثانيا وثالثا. (المسألة الرابعة) في حروف النداء. (المسألة الخامسة) في صلة النداء.
(المسألة السادسة) في الأمر الذي احتوته الجملة وفيها أبحاث: (الأول) حرف التعريف ومداه (الثاني) موضع الخطاب (الثالث) شموله وعدم شموله للسامعين (الرابع) مدى الأمر بالعبادة (الخامس) ما إذا كان يتناول الكفار (السادس) إنكار التكليف وأقوال المفكرين فأورد منها خمسة وردّ على كل منها (السابع) استثناءات شمول التكليف. (المسألة السابعة) سبب الدعوة للعبادة ومنها يستطرد إلى الجملة الثانية من الآية الَّذِي خَلَقَكُمْ وهذا الذي ذكرناه رؤوس أقوال فإن المؤلف قد شرح كل مسألة وكل بحث وكل فائدة احتوتها المسألة شرحا وافيا بإيراد الوجوه ووجوه الاعتراض والأقوال والأدلة والردّ عليها إلخ واستغرق الكلام على هذه الجملة وحدها وهي نصف آية خمس صحف كبيرة وهناك جمل كثيرة جدا استغرق الكلام عليها أكثر مما استغرقه الكلام على هذه الجملة، واستفاض الكلام فيها استفاضة أبعد عن الشروح اللغوية والنظمية، وجاء فيها استطرادات ضعيفة الصلة جدا بالجملة ومداها.
ونظن أننا في غنى عن القول إن هذا الأسلوب مشوش على الناظر في القرآن والراغب في تفهم مراميه ومبادئه واستيحاء توجيهاته وأحكامه وتلقيناته الكافلة لسعادة الدارين والتي هي الأصل والجوهر فيه وفي الدعوة التي قامت عليه!(1/255)
وهذا فضلا عما فيه من مآخذ التكلف والتخمين والتزيد والإغراب وإيراد الأقوال والروايات المتهافتة والاستغراق في الجدل والماهيات الكونية والغيبية والعقائدية.
وإذا كنا اختصصنا تفسير الرازي بالكلام في هذه الفقرة فإننا لا نعني أنه هو وحده الذي سارع على هذا الأسلوب فهناك تفاسير عديدة وكثيرة التفريع والاستطراد إلى ما لا صلة له بتفسير القرآن إلا ما يمكن أن يكون من صلة بعيدة لغوية أو موضوعية ذكر «الإتقان» منها تفسير الثعلبي. وقد اطلعنا في إحدى مكتبات بورسة على تفسير مخطوط ضخم وعديد المجلدات اسمه العادلي ينحو مؤلفه هذا النحو.
ولعل «تفسير المنار» من التفاسير الحديثة مما يصح أن يسلك في هذا السلك. فقد صدر منه اثنا عشر مجلدا تبلغ صفحاتها نحو ستة آلاف من القطع الكبير والحرف الدقيق لتفسير اثني عشر جزءا من القرآن أي أن الله لو فسح في حياة مؤلفه العظيم وأتمه لبلغت صفحاته خمسة عشر ألفا أي أكثر من ضعف تفسير الرازي، ولعله يكون بذلك أضخم تفسير في القديم والحديث. وقد توسع مؤلفه في البحوث وأكثر من الاستطرادات والتفريعات والتعليقات والتزم في كثير منها أسلوب المناظرة وخاصة بين الإسلام والنصرانية ومبشري النصارى وكتابهم بحيث يكاد القارئ ينسى أنه يقرأ تفسيرا وبحيث يصعب التفرغ لقراءته، فأبعده ذلك فيما نعتقد عن أن يكون التفسير المثالي، مع أن التمحيص والتدقيق في بحوثه غالبان، والتكلّف والتهافت فيها قليلان: وقد نمّ عن فهم عميق لأهداف القرآن ومراميه، بحيث يعدّ بحق أحسن المؤلفات الإسلامية القرآنية الكبيرة وأقومها وأقواها وأشدها حرارة وحيوية. وهو من هذه الناحية معلمة إسلامية قرآنية عظيمة القدر من الخسارة أن يموت مؤلفها قبل إتمامها، وفرق كبير من ناحية التمحيص والتدقيق وقلة التكلّف والتهافت والإغراب بينه وبين تفسير الرازي وغيره من التفاسير الكبيرة القديمة والحديثة.(1/256)
ولقد اطلعنا على تفسير حديث نشر معظمه للأستاذ المراغي «1» ومع أن قصد التحرز والتحاشي وعدم الإغراب والسير بأسلوب قريب المتناول على أوساط الأفهام ملموس فيه فإنه يأخذ كثيرا من الروايات والأقوال الضعيفة وغير المتسقة مع الآيات سندا أو كقضايا مسلمة ولا يندمج في جو القرآن ونزوله وبيئته، وليس فيه تلك الحرارة والحيوية اللتين تثيران الاهتمام والشوق فضلا عن تفصيلات كثيرة لا طائل من ورائها أدخلته في عداد كتب التفسير الضخمة التي لا تسمح لكثير من الراغبين بالإحاطة به واستيعابه حيث تبلغ صفحاته نحو سبعة آلاف ونيفا، وكل ذلك لا يجعله تفسيرا مثاليا فيما نعتقد.
- 8-[بحوث وآراء حول القرآن]
بالإضافة إلى ما شرحناه من الثغرات وأوردناه من التعليقات والمآخذ حول كل مبحث من مباحث هذا الفصل فإن هناك بحوثا وآراء دارت حول القرآن، وكانت فيما يتبادر لنا مظاهر عامة مشتركة بين هذه الثغرات يصح أن تشرح وأن يعلق عليها في هذا المقام.
روايات نزول القرآن جملة واحدة وأثرها:
فأولا: من ذلك الآثار المروية بأن القرآن قد نزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل على النبي خلال مدة حياته بعد بعثته. فالذي يبدو لنا أنه كان لهذه الآثار أثر قليل أو كثير في بعض الثغرات التي ذكرناها أو بالأحرى في أكثرها، بحيث صارت عاملا بين حين وآخر وبقصد وغير قصد في إغفال صلة الفصول القرآنية بالسيرة والبيئة النبوية، ومفهوم الأساليب الخطابية العربية ومدارك سامعي القرآن ومألوفاتهم ومتداولاتهم وعاملا كذلك في إسباغ معان خاصة أو مستقلة على
__________
(1) هو غير المرحوم شيخ الأزهر.
الجزء الأول من التفسير الحديث 17(1/257)
الألفاظ والأساليب القرآنية، واستخراج معان خاصة منها تباعد بيننا وبين نزول القرآن وجو البيئة النبوية التي تتصل بالقرآن ونزوله وأساليبه وألفاظه اتصالا مباشرا ووثيقا على ما شرحناه في مناسبة سابقة.
ومع أن من العلماء من توقف في التسليم بمدى هذه الآثار ورأى فيها تعارضا مع ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ وجدل، وقال إن القرآن كان ينزل على قلب النبي من عند الله منجما حسب الحوادث فإن كثيرا منهم أخذوا بها كما يبدو من التدقيق في مختلف الكتب والتفاسير القديمة التي كانت عماد كتب التفسير التالية قليلا أو كثيرا، ومنهم من جمع بين الأخذ بها وبين القول بنزول القرآن حسب الحوادث معا، وجل هذه الآثار إن لم يكن كلّها منسوب إلى ابن عباس مع اختلاف في النصوص والطرق:
1- فقد أخرج الحاكم من إحدى الطرق عن ابن عباس أنه قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] .
2- وأخرج الحاكم كذلك بطريق أخرى عن ابن عباس أنه قال «فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي» .
3- وأخرج الطبراني من إحدى الطرق عن ابن عباس قال «أنزل القرآن في ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما» .
4- وأخرج الطبراني كذلك عن ابن عباس من طريق أخرى أنه قال «أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم» .
5- وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أن القرآن دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة ثم جعل ينزله تنزيلا» .(1/258)
6- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال «نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ونجمه جبريل على النبي عشرين سنة» . وقد سيقت هذه الروايات في سياق هذه الآيات:
1- شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] .
2- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] .
3- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] .
ووردت متقاربة المدى مع بعض التباين في الصيغة في التفسير المنسوب إلى ابن عباس وفي تفاسير عديدة مثل الطبري و «الكشاف» والخازن وأبي السعود والبيضاوي جريا على العادة من اتخاذ المفسرين الروايات الواردة في أغلب الأحيان عمادا للتفسير مهما كان أمرها ورواتها على ما شرحناه في مناسبة سابقة.
ولم يقتصر الأمر على الروايات المعزوة إلى ابن عباس فإن بعض العلماء رووا روايات وقالوا أقوالا أخرى في الموضوع فقال أبو شامة وهو من علماء القرآن باحتمال أن يكون القرآن قد أنزل إلى السماء قبل نبوة النبي. وروي عن عكرمة أنه قال إن آية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] ، تعني نزول القرآن منجما من السماء الأولى.
وعلّق بعض العلماء والمفسرين على ما تضمنته الروايات تعليقات تطبيقية وتوفيقية على اعتبار أنها قضية مسلمة فقال أبو شامة إن السرّ في إنزاله إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما حسب الوقائع لهبط به الأرض جملة واحدة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين بإنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا.. وقال الحاكم والترمذي أنزل القرآن جملة واحدة إلى(1/259)
سماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد، وذلك أن بعثة محمد كانت رحمة فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد وبالقرآن فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حدّ الدنيا ووضعت النبوة في قلب محمد، وجاء جبريل بالرسالة ثم بالوحي، كأنه تعالى أراد أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من الله.. وقال السخاوي إن في إنزاله إلى السماء جملة واحدة تكريما لبني آدم وتعظيما لشأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم، ولهذا أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام «1» ، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له، وفيه تسوية بين نبينا وبين موسى في إنزاله كتابه جملة، والتفضيل لمحمد في إنزاله جملة ومنجما..! وجاء في تفسير الخازن في سياق سورة القدر وبعد إيراد الروايات المذكورة سابقا: قيل إنما أنزله إلى سماء الدنيا لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة، وذكر السيوطي في إتقانه أنه ورد في تفسير النيسابوري أن جماعة من العلماء قالوا نزل القرآن جملة ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزة فحفظ جبريل وغشي على أهل السماوات من هيبة كلام الله فمرّ بهم جبريل وقد أفاقوا وقالوا ماذا أنزل ربكم قالوا الحق يعني القرآن وهو معنى قوله تعالى حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] ، فأتى به جبريل إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة يعني الملائكة وهو معنى قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس 15- 16] ، وآية سبأ جاءت في سياق مشهد من مشاهد الآخرة وفيه إنذار وتنديد بالكفار وحكي فيه موقف من مواقف الجدل بينهم وبين النبي ولا صلة قط بينه وبين المعنى أو المشهد الذي أورده النيسابوري، وفي هذا مثل آخر لأخذ المفسرين الآيات آية أو جملة من آية وعدم ملاحظتهم السياق الذي جاءت فيه.. ومنهم من ناقش ما إذا كانت جملة
__________
(1) هناك حديث روي عن النبي بذلك.(1/260)
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض، ثم خرجوها بأن معنى أنزلناه في الجملة قضيناه وقدرناه «1» .
كل هذا في حين أن هذه الأقوال وخاصة المعزوة إلى ابن عباس وهي الأصل فيها ليست مرفوعة إلى النبي، وهي أخبار عن غيب متصل بعلم الله وسرّ ملكوته ووجوده لا يمكن العلم بها إلا عن طريق النبي وهو ما لم يثبت فيما اطلعنا عليه، ونستبعد صدورها عن ابن عباس لما فيها من تخمين في أمر لا يصح أن يلقى الكلام فيه جزافا ومن غير سند نبوي ثابت أو صراحة قرآنية.
وفي الروايات الوثيقة الواردة أن الوحي نزل لأول مرة على النبي بأول آيات القرآن في ليلة من ليالي رمضان وهو معتكف في غار حراء على عادته من الاعتكاف في هذا الشهر، وما احتوته آيات البقرة والدخان والقدر هو فيما نعتقد إشارة إلى هذا الحادث، وقد جاءت كلمة القرآن في أوائل سورة المزمل التي هي من أوائل القرآن نزولا ثم ظلت تتكرر في السور المكية والمدنية وكانت تعني بطبيعة الحال الجزء الذي تم نزوله على قلب النبي، وفي هذا دليل على أن تعبير إِنَّا أَنْزَلْناهُ في آيتي الدخان والقدر وجملة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في آية البقرة [158] لا تقتضي أن تكون قصدت جميع القرآن مما يمكن أن يكون محل إشكال أريد تخريجه على الوجه الذي خرج به.
ولقد أورد السيوطي في إتقانه حديثا نبويا برواية واثلة بن الأسقع جاء فيه أن النبي قال إن التوراة نزلت لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة والزبور لثمان عشرة والقرآن لأربع وعشرين خلت منه، وسيق هذا الحديث في معرض تلك الآيات والروايات والأقوال، ومهما يكن من أمره فليس من شأنه على فرض صحته أن يؤيد تلك الأقوال والروايات لأنه ليس فيه صراحتها، وليس من المستبعد أن يكون أريد به الإشارة إلى أول نزول الكتب السماوية بما فيها القرآن كما هو الواقع
__________
(1) الأقوال التي أوردناها قد ورد جلّها في «الإتقان» للسيوطي.(1/261)
المروي في الأحاديث الصحيحة بالنسبة إلى القرآن.
ومن الطريف أن بعض المعلقين استنبط على ما ذكره السيوطي من عدم الرد على الكفار فيما تحدوه من إنزال القرآن جملة واحدة صحة ما قيل من أن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة وقال إنها لو لم تكن نزلت جملة واحدة لكان القرآن ردّ على المتحدين.
وإذا كان بعض العلماء توقف في ما إذا كانت جملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] هي من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض فكم بالأحرى الآيات الكثيرة المماثلة ثم الفصول الكثيرة جدا الواردة في مختلف السور والتي تحكي حجاج الكفار وجدلهم في القرآن وتحديه أو تحكي مواقف الكفار من الدعوة النبوية ومن إنذارات القرآن وتبشيراته باليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه، وهزؤهم بالنبي وتحديه بإحداث المعجزات وإنزال الملائكة إلخ، ثم التي تحكي وقائع السيرة الجهادية والتشريعية، ثم التي تندد بالكفار وتصور عنادهم وتحتم لهم الخلود في النار وتلك التي تذكر إسلام كثير منهم وتوبة الله عليهم وانتقالهم من صف الكفار إلى صف المسلمين ومن مصير الخلود في النار إلى الخلود في الجنة وأمثال ذلك مما كان يقع نتيجة لسير الدعوة وظروفها الطارئة ومما يغلب عليه طابع الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسسه ودعوته. ولا ندري كيف سوغ القائلون لأنفسهم بعد هذا أن يقولوا إن القرآن- وهم يعنون جميع ما بين الدفتين من أسس ووسائل- قد نزل جملة واحدة يوم بعثة النبي أو قبله.
وعلى كل حال فإن ما ساقه القائلون في حكمة إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء عند بدء النبوة أو قبلها وكذلك ما علقوا به من تعليقات هي الأخرى أقوال تخمينية، وفيها من التكلّف والتزيد بل والتهافت ما يستطيع أن يلمسه المدقق الذي ينعم النظر، وأن القول في أصله يظل غير مفهوم الحكمة، وغير متسق مع طبائع الأمور وحقائق الأشياء، ولقد غاب عنهم فيما يتراءى لنا أن القرآن بصفته وحي الله(1/262)
قد تحققت فيه جميع معاني التعظيم والتفخيم والتكريم، وإنه ليس في حاجة إلى المزيد بمثل هذه المظاهر كما غاب عنهم أنهم يقررون ماهيات مادية عن السماء الأولى وبيت العزة والحفظة والسفرة والتوزيع على جبريل وتلقي جبريل عنهم، ويصفون مشاهد إبصارية لا يصحّ إلقاء الكلام فيها جزافا، وليس عندهم أي دليل نقلي ثابت وصحيح صادر عن النبي الذي هو وحده صاحب الحق في الإخبار عن الغيبيات.
ومهما يكن من أمر فإن هذه الأقوال تدل على أن كثيرا من الناظرين في القرآن وعلمائه ومفسريه اعتبروا أو يقع الوهم بأنهم اعتبروا القرآن- ومن جملته الفصول الوسائلية والتدعيمية والوقائع الجهادية والأسئلة والأجوبة ومواقف التحدي والجدل والحجاج المتقابلة- مستقلا في أصله عن الأحداث التي نزل بمناسباتها، وكون هذه الأحداث ليست إلا ظروفا عابرة لنزوله حتى مع قولهم إن القرآن قد نزل منجما حسب الحوادث- لأن هذا يبدو غريبا إزاء القول إن القرآن نزل في بدء نبوة النبي أو قبلها جملة واحدة إلى سماء الدنيا- فقالوا ما قالوه وولعوا بما ولعوا به من أسرار القرآن، واستقراء حروفه ورموزه ومغيباته، واستغرقوا في ماهيات ما جاء فيه من مشاهد كونية وقصص تاريخية، وحاولوا أن يستخرجوا حقائق ما كان ويكون من الوقائع والعلوم ونظرياتها، وفي هذا ما فيه من التكلّف والتجاوز والتشويش وتعريض القرآن للمغامز والمطاعن في حين أنه لا طائل من ورائه ولا ضرورة له ولا أسناد وثيقة تدعمه.
- 9- روايات نزول القرآن بالمعنى وأثرها:
ثانيا: ومن ذلك ما قاله بعض العلماء من نزول القرآن على قلب النبي بالمعنى لا باللفظ. فقد ذكر صاحب «الإتقان» هذا الموضوع في فصل كيفية نزول القرآن على قلب النبي بالمعنى لا باللفظ. فقد ذكر صاحب «الإتقان» هذا الموضوع في محل كيفية نزول القرآن، وقال إن هناك أربعة أقوال: (1) إنه نزل باللفظ(1/263)
والمعنى وإن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. (2) إن جبريل إنما نزل به بالمعاني خاصة وإن النبي علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب، واستند قائلو هذا القول بظاهر قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 193- 194] . (3) إن القرآن ألقي إلى جبريل بالمعنى وإنه عبر عن المعاني بالألفاظ العربية وبها نزل على النبي، وإن أهل السماء يقرأونه بالعربية. (4) إن الوحي نزل باللفظ حينا وبالمعنى حينا فما نزل باللفظ فهو القرآن وما نزل بالمعنى فهو السنّة، أي أن الأحاديث النبوية هي أيضا وحي رباني ولكنها نزلت بالمعنى، وعلّل أصحاب هذا القول إنه كان يقصد التخفيف عن الأمة، ولذلك جازت رواية الأحاديث النبوية بالمعنى.
ويلاحظ أن هذه الأقوال تخمينية، ولم يورد قائلوها أسنادا موثقة لها في حين أن الموضوع متصل بسرّ وحي الله وسرّ النبوة كذلك، فهو أمر غيبي إيماني لا يصح قول شيء فيه إلا بنصّ صريح من قرآن أو حديث ثابت عن النبي، وما دام أنه لم يرد شيء من ذلك، وإن النبي قد بلغ القرآن الموحى به إليه بألفاظه العربية التي دوّنت وحفظت عنه بالتواتر اليقيني فليس من محل للقول إن القرآن أوحي إليه بالمعنى كما أنه ليس من ورائه طائل، وإن الحق في هذا هو ما يتسق مع الواقع وحسب وهو أن ما بلغه النبي من ألفاظ القرآن هو ما نزل الوحي به على قلبه، وأنه لا يصح أن يعدل عن هذا إلى غيره بالظنّ والتخمين.
على أن النصوص القرآنية هي في جانب ما نقول أيضا أكثر منها في الجانب الآخر أو في جانب السكوت. فآيات يوسف [2] والزخرف [3] والزمر [28] وفصلت [3 و 44] التي تذكر تنزيل القرآن عربيا وجعله عربيا- وقد نقلناها في مناسبات سابقة- تحتوي قرائن بل دلائل قوية على قصد تقرير كون الألفاظ العربية التي بلغها النبي هي ما نزل الوحي به على قلبه.
ومن الغريب أن القائلين بنزول القرآن بالمعنى استندوا إلى آيتي الشعراء:
[193- 194] اللتين نقلناهما وغفلوا عن ما بعدها بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) ، كما(1/264)
هي العادة من أخذ آية دون آية ودون سياق للتدليل بهما على رأي ما، في حين أن بعدهما أي الآية [195] يحتوي ما ينقض ذلك بصراحة، ومن الغريب أكثر أن لا يحتج القائلون بنزول القرآن بألفاظه بهذا النصّ القرآني الصريح القاطع.
ومما يجدر التنبيه عليه في هذه المناسبة أن القول بأن الأحاديث النبوية مما كان ينزل به الوحي بالمعنى على إطلاقه لا يتسق مع الواقع والنصوص القرآنية.
فقد احتوت آيات عديدة عتابا للنبي على بعض الحوادث والوقائع والمواقف والأقوال التي صدرت منه بل وعلى بعض الأفكار والخطرات التي دارت في ذهنه في العهد المكي والعهد المدني على السواء مما تشير إليه آيات سورة عبس: [1- 10] والإسراء: [73- 75] وهود: [12] والأنفال: [67- 68] والتوبة: [43 و 113- 117] والأحزاب: [37] والتحريم: [1- 2] والنساء: [105- 112] .
فلو كان كل ما قاله النبي وفعله وفكر فيه وحيا على إطلاق القول لما كان محل لمعاتبته. ولقد أثر عن النبي حوادث وأخبار وأحاديث كثيرة ووثيقة في تقرير كونه بشرا قد يخطىء ويصيب في اجتهاداته في أمور الدنيا وسياستها وفي ما يبدو له من ظواهر الأمور التي لا يكون مطلعا على بواطنها وملابساتها، وإنه لا يحلف على شيء فيرى ما هو خير إلا كفّر عن يمينه وأتى الذي هو خير إلخ.
ولقد استند القائلون بالوحي العام الشامل إلى آيتي سورة النجم وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) ، مع أن روح الآيات وسياقها هما في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي عن اتصال وحي الله به بصورة عامة كما هو المتبادر منها، وهو ما تكررت في صدده الآيات واستهدفته، وإن من التجوز تشميل مداها لكل قول صدر عن النبي لتعارض ذلك مع الوقائع والنصوص.
ونريد أن ننبه على نقطة هامة، فنحن لا نعني بما نقرره أن لا يكون النبي في كثير مما قاله وفعله وأمر به ونهى عنه وخاصة مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله، ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي قبل نزول قرآن به قد وقع بإلهام رباني، وإن القرآن الذي نزل بذلك جاء مؤيدا(1/265)
له فيه، كما أن جميع ما ثبت عن النبي من سنن قولية وفعلية، وأوامر ونواه مات عنها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن «1» ، وإنما الذي نعنيه التعليق على القول بأن جميع ما صدر عنه من قول وفعل إطلاقا، وبأن جميع السنن النبوية القولية والفعلية وحي من جنس الوحي القرآني مع فارق واحد وهو أن هذا باللفظ وذاك بالمعنى مما لم يرد ما يؤيده من حديث نبوي ثابت أو نص قرآني صريح، ومما لا يجوز الكلام فيه بالظن والتخمين والاجتهاد. وفي القرآن مشاهد كثيرة تدل على أن النبي كان يجتهد في أمر فينزل القرآن مؤيدا له ومثبتا فيه ومنددا بالذين وقفوا منه موقف المخالفة أو التردد أو التمرد، فلو كان ذلك وحيا من جنس الوحي القرآني مع ذلك الفارق لكان يقتضي أن ينصّ عليه حين صدوره عن النبي، أو حين تثبيت النبي فيه قرآنيا بعد صدوره أنه كان وحيا ربانيا وهذا لم يقع.
ولقد استهدف بعض الذين قالوا ذلك تقرير العصمة النبوية. وننبه على أن ما نقرره لا يمسّ هذه العصمة، عدا أنه قائم على براهين محكمة قرآنية وواقعية.
فالعصمة النبوية تتناول ما يبلغه النبي عن الله، وآيتا النجم مصوبتان على هذا المعنى، والمبلغ عن الله بصراحة هو القرآن فقط ثم تتناول امتناع النبي عن اقتراف إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن قولا وفعلا، ولا تتناول فيما نعتقد الأقوال والأفعال والمواقف الاجتهادية والعادية التي لم تؤيد بقرآن وليس فيها نية الإثم والضرر والشر والمخالفة، والتي قد يكون فيها الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله والذي لا ينكشف للنبي إلا بوحي. وفي القرآن مشاهد عديدة تدل على أن النبي كان يجتهد في أمر فيصدر عنه قولا أو فعلا فينزل القرآن معاتبا حينا ومنبها أو مذكرا حينا بما هو الأولى كمشاهد أسرى بدر وتحريم النبي على نفسه زوجاته واستغفاره لأقاربه من المشركين وإذنه للمعتذرين عن الانضمام لحملة تبوك، وزواجه بمطلقة متبنيه وحادث الأعمى وخطرات نفسه في التساهل
__________
(1) اقرأ آيات الحشر: [7] ، والنساء: [80] ، وآل عمران: [31] .(1/266)
مع المشركين مما احتوت الإشارات إليه سورة الأنفال والتحريم والتوبة والأحزاب وعبس والإسراء، مما لا يمكن أن يحتمل القول معه أن ذلك كان إلهاما ربانيا في معنى الوحي البتة. ونحن من المؤمنين بالعصمة النبوية ولكن لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي يمتنع عليه أن يصدرمنه أي اجتهاد في خلاف الأولى المغيب عنه علمه أو أي خطأ بريء مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن، ومما تنعدم به حكمة الثناء العظيم الذي أثناه الله في القرآن على أخلاقه، وحكمة اختصاصه من دون الناس بالرسالة، ولكن على المعنى الذي يتحقق في الكمال النبوي خلقا وروحا وعقلا والذي لم يصل النبي إلى درجة الاصطفاء الرباني إلا بعد أن وصل إليه، فصار من سموّ الأخلاق وصفاء الروح وعظم القلب ورجاحة العقل إلى ما يرتفع به عن كل ما يشين، ثم على معنى عصمته من أي خطأ في تبليغ ما أوحي إليه والتزامه له بكل دقة وأمانة وصدق واستغراق.
ومهما يكن من أمر، ومع أن كثيرا من العلماء على رأي أن القرآن نزل بألفاظ عربية، وأن ما بلغه النبي من ألفاظه هو ما ألقي إليه من الوحي فالذي يتبادر لنا أن لتلك الأقوال أثرا في الروايات الكثيرة عن خلافيات القراءة وخاصة الخلافيات اللفظية والنظمية من بدل كلمة بكلمة ومن تقديم وتأخير مما أوردنا أمثلة عديدة عنه في مناسبة سابقة، أو أن الذين تداولوا ودونوا هذه الخلافيات دون تمحيص ونقد قد تأثروا بهذه الأقوال، أو أن الذين اخترعوا ودسوا هذه الخلافيات أو بعضها بقصد التشكيك قد استغلوا وروجوا هذه الأقوال، أو أن كل هذا قد وقع معا، كما أنه مما يتبادر لنا أن تكون هذه الأقوال قد أثرت أو تأثرت بأحاديث الأحرف السبعة وتأويلاتها العجيبة التي ذكرنا بعضها سابقا، وخاصة ما ورد في بعض وجوهها من أنها بقصد تقرير أن القرآن قد نزل بمعان متسق مفهومها مختلف مسموعها حيث يجوز التغاير إذا لم تبدل كلمة عذاب بكلمة رحمة.
ولعل ما عزي إلى أبي حنيفة من تجويزه الصلاة بقراءة القرآن بالترجمة الفارسية، وتقريره أن المهم في القرآن هو المعنى متصل بهذه الأقوال. وقد ذكر الزمخشري أن أبا حنيفة استند إلى ما روي عن ابن مسعود من إجازته لقارىء بقراءة(1/267)
«طعام الفاجر» بدلا من طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 44] على شرط أن تؤدي الترجمة المعاني على كمالها، وعلق الزمخشري على هذا بقوله إن هذا الشرط بمثابة المنع لأن في كلام العرب وخصوصا القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها، ولم يكن أبو حنيفة يحسن الفارسية فلم يكن ذلك التقرير منه عن تحقيق وتبصّر، ثم قال إن صاحبي أبي حنيفة أنكرا جواز الصلاة بالقراءة الفارسية، وإن عليّ بن الجعد روى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة هو على رأي صاحبيه في الإنكار.
وننبه على أننا لسنا هنا في معرض منع ترجمة القرآن أو عدم جوازه، بل إننا نرى هذا مفيدا جدا وواجبا لازما في سبيل نشر الدعوة الإسلامية القرآنية العظمى، كما أن عموم الرسالة النبوية، وعموم الخطاب القرآني لجميع الناس من الدلائل على هذا الوجوب، على أن يقوم بها الأكفاء في فهم القرآن ولغته ولغة ترجمته، وعلى أن يكون القصد منها النشر والدعوة والتبشير لا الصلاة بها، حيث نعتقد بصواب رأي أبي يوسف والحسن صاحبي أبي حنيفة في إنكار الصلاة بها وعدم جوازها إلا بالألفاظ القرآنية العربية التي نزل القرآن بها، لأن القرآن قد وصف فيه بأنه قرآن عربي ولا يمكن أن يعتبر قرآنا تصح به صلاة إلا بهذا الوصف.
- 10- الخلاف على خلق القرآن وأثره:
ثالثا: ومن ذلك ما دار عليه الخلاف الكلامي المشهور من كون القرآن مخلوقا أو غير مخلوق. ومع أن هذه المسألة فرع من أصل موضوع صفات الله ومعانيها ومداها فإنها اشتهرت أكثر من غيرها لأن الخلاف فيها أدى إلى أحداث تجاوزت الجدل الكلامي بين العلماء إلى الميدان السياسي، وكان من آثارها فتن عمياء أريق فيها الدماء واضطهدت حرية الرأي والعقيدة، وازدرى فيها العلماء واشترك فيها الغوغاء مع الساسة في ساحة واحدة حتى صارت رئيسية، وحتى قال بعضهم إن علم الكلام قد سمّي بهذا الاسم بسبب الخلاف الشديد المشهور على(1/268)
صفة الكلام الإلهي المتصلة بمسألة خلق القرآن وعدمه.
وكان الخلاف من حيث الأساس بين المعتزلة الذين سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد وبين أهل السنة الذين التزموا ما كان عليه السلف من قول وما وردت به الأحاديث أو دلت عليه الآيات، أو كانوا في موقف يرون أنفسهم فيه كذلك. على أن هؤلاء افترقوا في القول حيث إن ابن حنبل وأشياعه قالوا غير ما قاله أبو الحسن الأشعري وجماعته مثلا.
ومن أصول الخلاف بين المذهبين صفات الله، فالمعتزلة قالوا إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته قادر بذاته متكلم بذاته إلخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته، على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه غير ذاته هو تعدد الله القديم الذي يستحيل عليه التعدد، وأهل السنة قالوا إن لصفات الله معنى زائدا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلم بكلام، واحترزوا بهذا لمنع تعدد الله القديم بتعدد صفاته لأنهم مثل أولئك معتقدون باستحالة التعدد في حق الله، ثم تكشف الخلاف في هذا الباب حول صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله، فقال الأشاعرة إن الله متكلم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها، وإن القرآن معنى قائم بذات الله، وقيدوا أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة، ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام دون أن ينطق به فهو شامل في آن واحد لجميع الكلام الذي يدور في الخلد، أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة وإنما هي من الحوادث، لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف عن حرف نطقا وكتابة وسمعا وهذا من سمات الأمور الحادثة، وافترق الحنابلة وهم من أهل السنة عن الأشاعرة في تقريرهم أن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن صفة كلام الله الأزلي القديم وأنها مثلها قديمة أزلية أيضا أي ليست حادثة ولا مخلوقة. أما المعتزلة- والشيعة الإمامية مثلهم في أكثر المذاهب الكلامية- فقد قالوا إن الله متكلم بذاته بدون كلام زائد عنها، وإنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض(1/269)
فتقرأ وتسمع، وإن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفات المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة وحفظ وناسخ ومنسوخ إلخ هو مخلوق ولا يصح أن يكون قديما أزليا، ويقولون إن القرآن اسم لما نقل إلينا عن دفتي المصحف تواترا وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة، فيجيبهم الأشاعرة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حال فيها بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ويحفظ بالنظم المخيل، ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم، وإن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج إلخ.
وواضح أن الجماعات المختلفة معترفون بكمال صفات الله، وإن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات الكاملة وتخيلها وتفهمها ومداها، وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافيات الكلامية الأخرى منهم المعظم لله ومنهم المنزّه له وإنهم متفقون على أن القرآن منزل من الله على نبيه.
ولا يعنينا التبسط في هذه المسألة الخلافية وتاريخها، ونعتقد أنها ذات صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرون الإسلامية الأولى، وكان لتسرب الأساليب الكلامية والكتب الفلسفية الأجنبية أثر قوي فيها، وأنها لا تتصل بآثار نبوية وراشدية موثقة ثابتة في ذاتها، فضلا عن ما هناك من آثار نبوية وراشدية تنهى عن التورط في بحوث قد تنتهي إلى الخوض في ماهية الله والقرآن ومحتوياته وإنه يكفي للمسلم أن يظل فيها في حدود التقريرات القرآنية من أن القرآن كلام الله ومن عند الله، ومن أن الله ليس كمثله شيء، وإن ما عدا ذلك متصل بسرّ الوجود وواجب الوجود وسرّ الوحي والنبوة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل البشري، وإنه لا طائل من الجدل والخلاف فيه ولا ضرورة له، وإنما الذي يعنينا هنا هو تقرير أن هذه المسألة الخلافية قد تكون أدت بين حين وآخر وبقصد وبغير قصد إلى إغفال صلة الفصول والآيات القرآنية بأحداث السيرة النبوية(1/270)
وظروف البيئة النبوية، واعتبار هذه الأحداث والظروف شأنا عابرا. وأن هذا قد أدى إلى ما قيل من أقوال وضمّن من تخمينات حول أسرار القرآن وحروفه ورموزه ومغيباته وماهيات ما جاء فيه من مشاهد الكون ونواميس الخلق وقصص التاريخ والأمثال ومطوياتها مما لا يتسق مع حقائق الأمور وأهداف القرآن الواضحة في الهداية والإرشاد والدعوة إلى الخير والحق وأسباب السعادة، ومما فيه تشويش على الأهداف وعلى الناظر في القرآن والراغب في تفهمه وتفهم السيرة النبوية والبيئة النبوية والأسس والمبادئ القرآنية، وما كان من سير التشريع القرآني وتطوره.
- 11- النهي عن التفسير بالرأي وأثره:
رابعا: ومن ذلك ما ورد في النهي عن تفسير القرآن بالرأي. وما قيل من وجوب الوقوف في تفسيره عند حدود الروايات المروية عن النبي والصحابة والتابعين أو علمائهم.
فقد قال بعض العلماء إنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي في ذلك، وقال بعضهم إن التفسير قسمان قسم ورد تفسيره بالنقل وقسم لم يرد، والأول إما أن يكون عن النبي أو الصحابة أو رؤوس التابعين، وإما لم يرد فيه نقل فهو قليل، وقال بعضهم إن ما ورد فيه حديث نبوي لا يعدل عنه فيه إلى غيره، وما لم يرد فيه حديث نبوي وورد فيه قول صحابي فلا يعدل فيه إلى غيره، وما لم يرد فيه قول صحابي وورد فيه قول عالم تابعي أو قول تابعي- على اختلاف في التخصيص والإطلاق- فلا يعدل فيه إلى غيره، وإنه إذا كان هناك أقوال عديدة من مصدر من هذه المصادر الثلاثة فيجتهد في التوفيق والجمع بينها. وقد روي عن الشافعي أنه قال إنه لا يحلّ تفسير المتشابه إلا بسنّة أو خبر أو إجماع «1» ، ولم يحدد المتشابه في هذا
__________
(1) الأقوال ملخصة عن «الإتقان» للسيوطي.(1/271)
القول مع أن مداه واسع جدا وموضوع خلاف كبير.
ولما كان قد ورد روايات منسوبة إلى المصادر الثلاثة المذكورة كثيرة جدا وصف ما ورد عن ابن عباس منها بوصف لا يحصى، وقيل إن ما روي منها منسوبا إلى النبي والصحابة نحو خمسة عشر ألفا، وتكاد تشمل كل آية في القرآن، بل وإن كثيرا ما ورد في آية واحدة أكثر من رواية وحديث، وقد روي تفسير كامل عن ابن عباس وحده، ونسب إلى تابعين وتابعي تابعين تفاسير عديدة كاملة أو ناقصة فإن من شأن الأقوال الواردة في إيجاب الوقوف في التفسير عند الروايات والأقوال المنسوبة إلى المصادر الثلاثة المشار إليها أن يؤدي إلى أن هذا الموقف يجب أن يشمل جميع آيات القرآن.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد روي حديثان نبويان أخرج أحدهما أبو داود والترمذي والنسائي جاء فيه «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وأخرج ثانيهما أبو داود جاء فيه «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وفسّر بعضهم تعبيري «برأيه» و «بغير علم» في الحديثين بغير سند من حديث أو رواية أو خبر..
وقد التزم إمام المفسرين بعد عصر تابعي التابعين أي الطبري هذا المبدأ فألّف تفسيره الكبير في نطاقه، ويكاد يكون قاصرا على الروايات المروية عن المصادر الثلاثة المذكورة. وفعل قبله مثله البخاري في الكتاب الذي عقده في صحيحه على التفسير وبوّبه على ترتيب السور في المصحف مع التزامه شروطه في رواية الأحاديث والأقوال المنسوبة إلى هذه المصادر.
ومع أن من العلماء المتقدمين من خرّج الحديثين النبويين تخريجا من شأنه التوسيع فقال إنهما في صدد النهي عن التفسير بالهوى، وعن القول بقول يعلم قائله أن الحق غيره، وعن الكلام في القرآن بغير علم يساعد صاحبه على الاستنباط وحسن الإدراك من معرفة باللغة والفقه والناسخ والمنسوخ إلخ، وإن منهم من أورد بعض الأحاديث التي تسوغ النظر في القرآن والاجتهاد في الاستنباط منه مثل(1/272)
الحديث الذي أخرجه أبو نعيم وجاء فيه «القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» ، وإن منهم من قال إن المسلمين مأمورون بنص القرآن بالنظر فيه وتدبره وتفهم أحكامه وهذا هو متناول التفسير والتأويل، وإن نصوص القرآن تحتم صرف الأحاديث النبوية في حالة صحتها إلى مثل ما صرفت إليه، وأنه ما من آية إلا ويحب الله أن يعلم الناس فيما أنزلت وما أريد منها، ومع أن هذا التوجيه متسق مع طبائع الأشياء، بحيث يكون النهي في الأحاديث إذا صحت قد استهدف النعي على الذين يحاولون صرف نصوص القرآن ودلالاته إلى تأييد بدعة في القول أو رأي فيه انحراف عن جادة الحق وتلقينات القرآن الواضحة ومفهوماته المتواترة، وعلى الذين يلقون الكلام في القرآن على عواهنه ويحملون عباراته غير ما تتحمله ويخوضون في الماهيات الغيبية التي وردت الإشارات إليها بغير سند، ولم يستهدف خطر التدبر في آيات القرآن وأهدافه وتفهم معانيه بالعقل والتفكير والدراية والاستنباط والمقايسة، وخاصة في سبيل تجلية الأهداف السّامية والمثل العليا والأحكام الشرعية التي تنطوي فيه، لأن هذا هو الذي أوجبه القرآن على سامعيه وأنزل على النبي من أجله وجرى السلف الصالح عليه، وهو الذي تدل عليه الروايات الكثيرة جدا المعزوة إلى علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم والوارد كثير منها في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا إذ أن كثيرا من هذه الروايات إن لم يكن أكثرها تأويلات وتفسيرات اجتهادية شخصية، ويدل عليه كذلك سير المفسرين الذين جاؤوا بعد هذه الطبقة على هذا النمط متجاوزين أحيانا كثيرة حدود الروايات المعزوة إلى المصادر الثلاثة، ومدونين هم الآخرون تأويلات وتفسيرات اجتهادية شخصية نقول إنه مع ذلك كله فإن الروايات ظلت عماد التفسير الأقوى وركنه الأعظم.
ومما لا ريب فيه أن الفكرة من حيث أصلها وجيهة كل الوجاهة، لأن الصحابة والتابعين وخاصة علماءهم هم أعلم بمفهومات القرآن ودلالاته ومناسبات نزوله ومدى مقاصده على اعتبار أنهم أشد الطبقات اتصالا بظروف نزوله وجو نزوله، ومما لا ريب فيه أن القول أقوى صحة ووجاهة وصوابا وأولوية بالنسبة الجزء الأول من التفسير الحديث 18(1/273)
للأحاديث النبوية، كما أن للنهي والتشديد ما يبرر هما لأن خطورة شأن القرآن من جميع الاعتبارات توجب حتما الاحتياط والتروي والتدبر وعدم إلقاء الكلام فيه جزافا، وتجعل الانحراف عن هذه الخطة والخطأ الناشئ عن غير علم وروية إثما كبيرا، لما يترتب عليه من آثار تمسّ بأمور الإيمان والعقيدة ومصالح الإنسانية عامة والمسلمين خاصة.
ومما لا ريب فيه أيضا أن هناك أحاديث نبوية وصحابية قوية الأسناد وردت في كتب الصحاح ومتسقة مع روح الآيات القرآنية ومضامينها كما أن هناك أقوالا منسوبة إلى الصحابة والتابعين وخاصة علمائهم وردت في كتب الحديث المعتبرة سائغة ومعقولة المتون كذلك في شرح العبارات القرآنية وتفسيرها وإيضاح مداها، فيجب الأخذ بتلك الأحاديث وهذه الأقوال والوقوف عندها وإدارة الكلام في نطاقها تبيانا وشرحا وتجلية وتطبيقا.
غير أنه مما لا ريب فيه أن الروايات والأقوال لا يصح أن تؤخذ قضايا مسلمة في هذا الصدد كما في غيره إلا بعد التمحيص متنا وسندا وتطبيقا ومقايسة على العبارات والدلالات القرآنية، وإنه قد تسوهل في هذا الباب تساهلا عظيما، وإن كثيرا مما ورد إن لم نقل أكثره مما يحمل على التوقف فيه من حيث أسناده ومتونه، لغلبة احتمال الخطأ والتحريف والتلفيق والدسّ والانتحال والغرض السياسي والطائفي والنحلي فيه وخاصة ما لا يتسق في مداه ومعناه مع روح الآيات والوقائع التي يلهمها القرآن، وإنه يصدق فيه قول ابن حنبل الذي أشرنا إليه في مناسبة سابقة «ثلاثة لا أصل لها التفسير والمغازي والملاحم» بل ولعلّه إنما قيل بسبب هذه العلات.
ومع أن العلماء والمفسرين قالوا بوجوب التمحيص والنقد، وتوقفوا في روايات وأقوال كثيرة وناقشوها وجرحوها، وفي طليعتهم إمام مفسري المأثور الطبري فإن النهي في أصله والقول بالأخذ بالروايات أولا، وكثرة الروايات كثرة عجيبة ثانيا جعل هذه الروايات تستفيض في مختلف كتب التفسير على علاتها،(1/274)
وتكون عمادا قويا بل العماد الأقوى فيها، ولم يحظ إلا القليل منها بالنقد والتمحيص والجرح، بل وإن هذا المنقود المجروح لم يبعد من كتب التفسير، ومنها ما لم يشر إلى جرحه، وكان هذا من أسباب وعلل ما وقع في هذه الكتب من تشويش واضطراب وإغراب ومفارقة، وما أدى إليه من تشويش على الناظر في القرآن والراغب في تفهمه، ومن اتخاذه من قبل المغرضين وسيلة إلى الغمز والطعن وسوء التفسير والاستنباط، سواء أكان ذلك في أحداث السيرة النبوية المختلفة أم في ظروف البيئة النبوية، أم في ما احتواه القرآن من قصص ومشاهد كونية وأخروية وأخبار إيمانية غيبية، أم في انسجام الفصول والمجموعات القرآنية وتوجيهاتها وتلقيناتها ومداها الخاص والعام والزمني المستمر.(1/275)
خاتمة
ذلك اليقين بالخطة المثلى لفهم القرآن وخدمته التي شرحناها في الفصل الثالث، وهذه الثغرات العديدة التي نبهنا عليها في الفصل الرابع جعلنا نعتقد أن الحاجة ما تزال ماسة إلى تفسير واف بالغرض غير مطول مملّ ولا موجز مخلّ، تجتمع فيه الملاحظات، وتتحاشى فيه الثغرات، ويسار فيه وفق هذا المنهج المتسق مع الخطة التي شرحناها والثغرات التي نبهنا عليها:
(1) تجزئة المجموعات والفصول القرآنية إلى جمل تامة يصح الوقوف عندها من حيث النظم والمعنى والسياق، وقد تكون هذه الجمل آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة.
(2) شرح الكلمات والتعابير الغريبة والجديدة وغير الدارجة كثيرا بإيجاز ودون تعمق لغوي ونحوي وبلاغي إذا لم يكن هناك ضرورة ماسة.
(3) شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا حسب المقتضى والمتبادر بأداء بياني واضح وبسيط، والاكتفاء من ذلك بعرض الهدف والمدلول إذا كانت العبارة واضحة للمتوسطين نظما ولغة.
(4) إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة الآيات أو في صددها وما قيل في مدلولها وأحكامها وقصصها إذا كان الموضوع يقتضي ذلك، وإيراد ما يقضي إيراده من الروايات والأقوال، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز.
(5) تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام أو مبادئ أو تلقينات أو توجيهات تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية.(1/276)
(6) تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية، وقد اهتممت لذلك حتى جاء الكلام أحيانا بحثا ودرسا وتقريرا موضوعيا مع أنه ليس من الأسس، لأني رأيت أن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة النبوية وسيرها وصورها وتطورها، وعلى تجلية جوّ نزول القرآن الذي ينجلي به كثير من المقاصد القرآنية سواء أكانت أسسا أم وسائل، فضلا عن أنه يساعد على تصحيح كثير مما جاء مضطربا أو ناقصا أو محرّفا في الروايات من سور البيئة ومشاهد السيرة النبوية وأحداثها.
(7) التنبيه على الجمل الوسائلية والتدعيمية، وعلى ما يكون فيها من مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والتثبيت والتبصير والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل والتشبيه والتنديد والتنويه والتذكير إلخ، مع إبقاء ذلك ضمن المقصد الذي جاءت من أجله، وعدم الاستغراق والتطويل فيه، والتنبيه بإيجاز على ما ورد في صدده مما يخرج به عن هذا النطاق إذا اقتضى الأمر.
(8) وصل الجمل القرآنية بعضها ببعض سياقا أو موضوعا كلما كان ذلك مفهوم الدلالة، والتنبيه على هذا لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي أو السياقي أو الهدفي أو الوسيلي. وقد اهتممت لهذه النقطة اهتماما خاصا لأنها مما يساعد كثيرا على فهم دلالات القرآن وظروف نزوله ومدى متناوله.
(9) الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية قبل كل شيء في صدد التفسير والشرح والسياق والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد ما دام ذلك ممكنا وضروريا. ثم بعد هذا بالروايات إذا ما كانت متسقة مع المفهوم والسياق، ثم بأقوال المفسرين إذا كانت كذلك وما دام ذلك ممكنا وضروريا أيضا.
(10) العطف على ما جاء في السور السابقة حين تفسير الجمل القرآنية ومقاصدها إذا ما كان ذلك ممكنا وضروريا وكافيا لتفادي التكرار والتطويل.
وإنا لنرجو الله أن يوفقنا إلى إخراج تفسيرنا الحديث الذي نهجنا فيه هذا المنهج فنتمّ به السلسلة القرآنية التي بدأناها بكتاب «عصر النبي عليه السلام وبيئته(1/277)
قبل البعثة» مقتبسا من القرآن ثم بكتاب «سيرة الرسول عليه السلام» مقتبسا كذلك منه ثم بكتاب «نظم القرآن ودستوره في شؤون الحياة» ، ولا سيما إننا نشعر برغبة ملحة عند كثير من شباب المسلمين في فهم القرآن ومدلولاته وظروفه بتفسير حديث يتسق مع روح العصر، وبأسلوب قريب التناول، غير ضارب بالتفريع والاستطرادات والتزيد في العلوم الآلية، ثم لا سيما إن الرغبة أخذت تزداد عند المسلمين عامة في تخطي القرون الطويلة التي ساد فيها الجهل والغفلة ووقف المسلمون فيها جامدين في نطاق التقليد والترديد والتعقيد، وفي تفهّم أهداف الدعوة الإسلامية وظروفها وتوصياتها في «القرآن المجيد» معجزتها الخالدة.(1/278)
(بسم الله الرحمن الرّحيم)(1/279)
التفسير الحديث السور مرتبة حسب النزول محمد عزّة دروزة الجزء الأول(1/281)
السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- الفاتحة 2- العلق 3- القلم 4- المزّمل 5- المدّثر 6- المسد 7- التكوير 8- الأعلى 9- الليل 10- الفجر 11- الضحى 12- الشرح 13- العصر
__________
(1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء. [.....](1/283)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الفاتحة
فيها تقرير الحمد لله تعالى وربوبيته للعالمين، وسعة رحمته، وتعليم بعبادته وحده والاستعانة به وحده وطلب الهداية منه، والوقاية من طريق الضالين والمغضوب عليهم.
وقد ورد حديث نبوي يفيد أنها أولى السور القرآنية التامة نزولا على ما ذكرناه في المقدمة، وقد قال كثير من المفسرين إنها براعة استهلال رائعة للقرآن.
ولعل في ذلك كله تنطوي حكمة وضعها فاتحة للمصحف وإيجاب قراءتها في كل ركعة صلاة، ومطلعها مما تكرر في مطالع سور عديدة أخرى وهي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب القرآن في مطالع سوره.
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) (1) (1) الرحمن الرحيم: مما قيل في الفرق بينهما أن الرحمن يعني المنعم بجلائل النعم، والرحيم المنعم بدقائقها. ومن ذلك أن الرحمن يعني المنعم بنعم عامة تشمل جميع الناس مؤمنين وكفارا، والرحيم هي خاصة بالمؤمنين. وفي ذلك(1/285)
أن الرحمن لا يطلق إلا على الله عزّ وجلّ في حين أن الرحيم يمكن أن يطلق على الناس مثل عليم وحكيم وحليم وجميل. وعلى كل حال فممّا لا ريب فيه أن هناك فرقا في اللفظين، وأن هذا ما يفسر حكمة التنزيل في استعمالهما معا.
(2) الربّ: لها في القرآن معان عديدة. منها المعبود الرئيسي، ومنها المعبود الثانوي الذي يشرك مع الله، ومنها الرئيس، ومنها صاحب الشيء، وسيد الأشخاص الذين يكونون تحت رعايته، والمتسلط والراعي، والمربي، والحاكم.
وهي هنا بمعنى المعبود الرئيسي، وصاحب السلطان الشامل لجميع الأكوان والعالمين.
(3) العالمين: هنا كناية عما في الكون من كائنات ومخلوقات.
(4) الدين: للدين في القرآن أكثر من معنى وهي هنا بمعنى الجزاء والحساب والقضاء. ويوم الدين كناية عن أول يوم من الحياة الأخروية الذي يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الدنيا.
(5) الصراط: الطريق.
في السورة:
1- تقرير الحمد لله ربّ الأكوان وما فيها من كائنات ومخلوقات.
2- وتقرير لصفات الرحمة الشاملة لله، وملك يوم الجزاء له وحده.
3- وخطاب موجّه من عباده إليه كتعليم لهم بأن يقولوا إنهم يعبدونه وحده ويستعينون به وحده.
4- ودعاء موجه منهم إليه كتعليم لهم، بأن يدعوه أن يهديهم الطريق القويم، وهو طريق الذين أنعم عليهم لا طريق الضالين ولا المغضوب عليهم.
أسماء السورة
جرت تسمية السور القرآنية على الأغلب بكلمة أو اسم يكون فيها. والاسم المشهور لهذه السورة هو الفاتحة الذي وضعناه عنوانا لها. وهذا الاسم ليس ممّا احتوته السورة من كلمات كما هو ظاهر. والمتبادر أن هذا الاسم اشتهر لأنه جاء(1/286)
من وضع السورة في مفتتح السور القرآنية في ترتيب المصحف الذي نرجح أنه من متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم من أنها مفتتح التلاوة القرآنية في كل صلاة ذات ركوع وسجود. وهناك أسماء أخرى للسورة منها ما ورد في حديث رواه أبو داود والترمذي وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحمد لله ربّ العالمين أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني» «1» .
ولقد ذكرت بعض الروايات أن السورة مدنية «2» ، وذكرت رواية أنها نزلت
__________
(1) انظر كتاب «التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول» ج- 4، ص 13. وسوف يأتي ذكر هذا الكتاب كثيرا. وتعريفا به نقول إنه من تأليف الشيخ منصور ناصف وهو في خمسة أجزاء. وجمع فيها المؤلف معظم الأحاديث الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي. وقد اتفق العلماء على أن الأحاديث الواردة في هذه الكتب هي أوثق وأصح من غيرها وتعتبر عندهم الطبقة الأولى من كتب الحديث.
وحين نذكر عبارة الخمسة نعنيهم. وحين نذكر كتب الأحاديث الصحيحة نعني هذه الكتب وهو ما يقوله علماء الحديث. وإن كان بعضهم يحصر وصف (صحيح) في ما جاء في كتابي البخاري ومسلم اللذين ينعتان أحيانا بالشيخين. ويطلق علماء الحديث على كتب الثلاثة الآخرين اصطلاح (أصحاب السنن) وترتيبهم: أبو داود أولا فالترمذي فالنسائي. وحين نذكر هذا الاصطلاح نعني أن الحديث مروي من قبل ثلاثتهم وحينما نذكر رواه الثلاثة نعني البخاري ومسلم وأبو داود. والأربعة يكون الرابع الترمذي. (انظر «قواعد التحديث» للقاسمي ص 225 وما بعدها) .
وننبه على أن هناك كتابا آخر هو كتاب «الموطّأ» للإمام مالك وهو أقدم ما وصل إلينا من كتب الحديث تأليفا وصاحبه توفي سنة 170 هـ واحتوى عددا كبيرا من أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيهم ويلحقه كثير من علماء الحديث بالكتب الخمسة. وكثير ممّا ورد فيه ورد في الكتب الخمسة. وننبه في هذه المناسبة على أمر هام وهو أن هناك أحاديث نبوية وصحابية كثيرة أخرى في كتب أئمة آخرين من أئمة الحديث يأتي في مقدمتهم أبو عبد الله القاسم والشافعي وأحمد بن حنبل وابن ماجه والبيهقي والدارقطني والحاكم وغيرهم تروى عن راو عن راو إلى رسول الله أو أصحابه تحتمل الصحة من حيث رواتها ومتونها وكثير منها من باب ما جاء في الكتب الستة.
(2) انظر تفسير السورة في «تفسير الآلوسي» و «الإتقان» ج 1، ص 24- 25.(1/287)
مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة «1» .
وأسلوبها ثم التواتر اليقيني بأنها مفتتح التلاوة في كل صلاة والتواتر اليقيني المؤيد بمضامين قرآنية بأن الصلاة كانت تمارس منذ بدء الدعوة حيث احتوت هذه المضامين آيات سورة العلق هذه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) يسوغ القول بشيء من الجزم أن السورة مكية وهو ما عليه الجمهور. حيث ذكرت كذلك في جميع تراتيب السور المروية، أما رواية نزولها مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة، فنحن نتوقف فيها لأننا لم نر حكمة ظاهرة لذلك.
حكم البسملة في مفتتح هذه السورة ومفتتح السور الأخرى
لقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في هذه المسألة. فهناك من قال إن البسملة في هذه السورة آية أصلية خلافها للسور الأخرى وهناك من قال إن البسملة آية أصلية في كل سورة. وهناك من قال إنها ليست آية أصلية لا في هذه السورة ولا في السور الأخرى.
وهناك أحاديث يوردها المفسرون في صدد هذه المسألة «2» منها حديث يرويه الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» . وحديث يرويه مسلم عن أنس جاء فيه: «كان إذا نزل على رسول الله سورة قال أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» . وحديث يرويه أبو داود في «سننه» والحاكم في «مستدركه» عن ابن عباس جاء فيه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم» . وحديث عن ابن مسعود جاء فيه: «كنا لا نعلم فصلا بين سورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن
__________
(1) «الإتقان» أيضا ج 1، ص 24- 25.
(2) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير والخازن ورشيد رضا مثلا.(1/288)
الرحيم» ، وحديث رواه الترمذي والحاكم عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم قبل سائر آيات السورة» . وحديث رواه أبو داود والحاكم عن أم سلمة: «أنه كان يقرأ البسملة مع سائر آيات السورة» .
وليس شيء حاسم في الصدد الذي نحن فيه إلّا في الحديث الأول ويظهر أنه لم يثبت عند أصحاب الأقوال الأخرى. وليس في الأحاديث الأخرى حسم بدليل اختلاف الأقوال في المسألة. ومما استدل عليه الذين قالوا إنها آية في كل سورة وضعها في مفتتح كل سورة باستثناء سورة التوبة لسبب خاص سوف نشرحه في مناسبتها. وقال غيرهم إن وضعها هو للتبرك وحسب. والذين قالوا إنها آية أصلية في الفاتحة اعتبروا جملة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آية والذين قالوا إنها ليست أصلية قطعوا هذه الجملة إلى آيتين.
والجمهور على أن البسملة آية أصلية في هذه السورة دون غيرها. والله تعالى أعلم. وننبه على أن هذا الخلاف لا يمسّ كون جملة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جزءا من آية أصلية في الآية [30] من سورة النمل.
ولقد أورد ابن كثير حديثا في سياق البسملة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «كلّ أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم» «1» . ولقد درج المسلمون منذ النبي صلّى الله عليه وسلّم على أن يبدأوا رسائلهم وكتبهم وعزماتهم وأكلهم وشربهم بالبسملة حتى غدت طابعا مميزا لهم. وهناك من يختصره ويكتفي بجملة باسم الله. حيث رويت أحاديث نبوية يأمر النبي فيها بعض المسلمين بقولها إذا أكلوا أو باشروا عملا أو عثروا «2» .
__________
(1) ذكر ابن حجر في فصل تخريج أحاديث تفسير «الكشاف» في الجزء الرابع من هذا التفسير هذا الحديث بفرق يسير وهو بدل (أجذم) (أقطع) مرويا عن أبي هريرة من طريق بشر بن إسماعيل عن الزهري.
(2) روى الأربعة عن عمر بن أبي سلمة قال: «كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في الصّحفة فقال لي يا غلام سمّ الله وكل بيمينك» «التاج» ج 3، ص 106. وروى ابن حجر في الفصل المذكور حديثا رواه أحمد جاء فيه: «كلّ أمر لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع» . وقد يكون من هذا الباب حديث آخر رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» التاج ج 1 ص 88.
الجزء الأول من التفسير الحديث 19(1/289)
خطورة شأن الفاتحة
ولقد أكثر المفسرون القول في صددها ومداها وبركاتها «1» . وقالوا فيما قالوه إنها احتوت رموزا لكل ما جاء في القرآن من مواضيع. ففيها التوحيد وفيها الثناء على الله وتقرير ربوبيته العامة وفيها العبادة لله والاستعانة به. وفيها إشارة إلى اليوم الآخر، وإشارة إلى الأمم على اختلافها من مهتدين ومغضوب عليهم وضالين.
وفيها إشارة إلى ملكوت الله وما فيه من عوالم إلخ. ورأوا فيها من أجل ذلك كله براعة استهلال رائعة للقرآن وعنوانا لمواضيعه. ولمحوا من هذا حكمة جعلها في ترتيب المصحف فاتحة القرآن وفي الصلاة مفتتح التلاوة وتكرارها في كل ركعة.
ولعل في كل هذا تدعيم لأولية نزولها كسورة تامة ولا سيما أنها لا تحتوي إشارة ما إلى وقائع السيرة التي وقعت بعد أن سار النبي صلّى الله عليه وسلّم شوطا ما في الدعوة، وأن ما فيها هو تعليم وتلقين عامان مما يصح أن يكون طابع الآيات والسور الأولى.
وأسلوب السورة يلهم أنها بسبيل تعليم المسلمين ما يجب عليهم من حمد الله وعبادته وطلب الهداية منه. وفيها تلقينات جليلة: فالإله الذي يؤمن به المسلمون هو ربّ جميع العالمين ورحمته شاملة عامة. وهو ملك يوم الآخرة.
وعليهم أن يفرغوا أنفسهم وقلوبهم من غيره فلا يخضعوها لأحد ولا يبالوا في الحق أحدا. لأنه هو النافع والضار والخالق والرازق والشامل برحمته جميع الخلق. وهم مدينون له في حياتهم ومماتهم وهدايتهم ورزقهم وكيانهم وفي هذا ما فيه من إنقاذ المسلم وروحه من تأثير غيره فيه، وبثّ القوة والاعتماد والكرامة فيه.
والصراط المستقيم يصح أن يكون الطريق القويم في أمور الدين والدنيا معا.
فالإيمان بالله وبما جاء به رسوله هو طريق قويم. والقيام بالواجبات التعبدية هو
__________
(1) لا يكاد يخلو كتاب تفسير قديم وحديث من شيء من ذلك، فلم نر ضرورة إلى تعيين مصادر للأقوال.(1/290)
طريق قويم. والتزام الصدق والوفاء وسائر مكارم الأخلاق هو طريق قويم، وكل ما يغاير هذا هو طريق أعوج لا يسير فيه إلّا الضالون والمستحقون لغضب الله.
وهناك أحاديث نبوية وردت في كتب الأحاديث الصحيحة في خطورة هذه السورة ووجوب قراءتها في كل ركعة من كل صلاة. منها حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «1» ، وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام. قيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك» «2» . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد بن المعلّى قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ألا أعلّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، فأخذ بيدي فلمّا أردنا الخروج قلت له: يا رسول الله إنّك قلت لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن، قال: الحمد لله ربّ العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» «3» .
وحديث رواه مسلم عن ابن عباس قال: «بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قطّ إلّا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم فسلّم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلّا أعطيته» «4» . وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله ربّ العالمين قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال:
مالك يوم الدين، قال: مجّدني عبدي. فإذا قال: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، قال:
__________
(1) التاج ج 1، ص 156.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) التاج ج 4 ص 13- 14.
(4) انظر المصدر نفسه.(1/291)
هذا بيني وبين عبدي. ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصّراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» «1» .
تعليق على موضوع الأحاديث القدسية
وهذا الحديث الأخير مما يسمى في اصطلاح علماء الحديث بالحديث القدسي، لأن الكلام فيه مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الله عز وجل، وبهذه المناسبة نقول إن هناك أحاديث كثيرة مروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن جبريل عن الله عز وجل، أو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الله عز وجل. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة. ومن واجب المؤمن أن يؤمن ويصدق بكل ما ثبت صدوره عن النبي صلّى الله عليه وسلم. ولما كان القرآن يبلّغ عن الله تعالى بواسطة الوحي الرباني أو جبريل عليه السلام فقد تكون مسألة الأحاديث القدسية موضع سؤال عن الفرق بين الوحي بالحديث القدسي والوحي بالقرآن، وحكمة ذلك.
ولما كان هناك كما قلنا أحاديث قدسية صحيحة فالذي يمكن أن يقال في صددها أنها هي الأخرى من سرّ النبوة مثل سرّ الوحي القرآني الذي لا يدرك بالعقول العادية ويجب الإيمان به لأنه ثابت بنص القرآن والحديث النبوي مع فارقين أو لهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفرق بين الحديث القدسي وبين الوحي القرآني، فيأمر بتدوين الوحي القرآن حال نزوله ويبلّغه كقرآن، ويخبر بالحديث القدسي إخبارا مرويا عن الله ولا يأمر بتدوينه بل كان يدخل في متناول النهي النبوي كتابة غير القرآن حيث روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب شيئا فليمحه» . ومن الحكمة الملموحة في هذا الحديث الحرص على عدم اختلاط أي كلام غير قرآني بالقرآن. وهو أمر ذو دلالة خطيرة في صدد عمق اليقين النبوي بالوحي القرآني وتمييزه عن أي معنى آخر
__________
(1) التاج ج 4، ص 32- 33.(1/292)
يحبك في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويحدث به أصحابه، أو أي معنى آخر يوحي الله به إليه أو يلهمه إياه ويحدث به أصحابه دون أن يتصف بأنه قرآن.
وهذا يشمل كما هو المتبادر الأحاديث القدسية التي يحدث بها النبي صلى الله عليه وسلّم عن الله تعالى والأحاديث العادية التي كان يقولها لأصحابه في مناسبة ما. ويبدو ذلك السرّ وهذه الدلالة الخطيرة أقوى صورة إذا لوحظ أن السنن النبوية القولية والفعلية واجبة الاتباع مثل القرآن وهي مصدر التشريع الإسلامي مثله وكل ما في الأمر أنها تأتي بعده «1» . ولقد جاء في سورة النساء هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ، والقرآن يمثل الله تعالى والحديث يمثل رسوله بعد موته. وفي ذلك السر وهذه الدلالة ردّ مفحم على الأغيار الذين ينسبون القرآن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
أما الفارق الثاني فهو أن أسلوب الأحاديث القدسية مماثل لأسلوب الأحاديث النبوية العادية أي أسلوب مخاطبة عادية دون أسلوب القرآن من حيث التقطيع والتوازن والتركيز في أواخر المقاطع أو الآيات كما هو ملموح في الحديث الذي أوردناه عن أبي ذر وفي غيره مما سوف نورده في مناسبات أخرى والله تعالى أعلم «2» .
تعليق على كلمة (الله) جلّ جلاله
وبمناسبة ورود اسم الجلالة (الله) لأول مرة في البسملة والسورة نقول إن من المفسرين «3» من قال إن الكلمة مضعفة أو معدلة من لفظ (إله) وإنها من جذر (أله)
__________
(1) انظر كتاب «السنة» للسباعي ص 72.
(2) انظر «قواعد التحديث» للقاسمي ص 39- 45 ففيها بحث واف عن الأحاديث القدسية ومداها. [.....]
(3) انظر تفسير الفاتحة في تفسير الطبري والزمخشري والطبرسي والخازن وغيرهم.(1/293)
بمعنى عبد أو (وله) بمعنى حار من شدة الوجد أو (لاه) بمعنى سكن إلى الشيء.
ومما قاله بعضهم إن كلمة (اللاة) المعبود الجاهلي المشهور المذكور في سورة النجم هي مؤنث (الله) . ويقتضي القول الأخير أن تكون كلمة (اللاة) عربية فصحى أصلا مع أن هذه الكلمة قرئت بصيغ متنوعة متقاربة مثل (اللاتو) و (اللت) و (هاللت) على آثار قديمة بابلية ونبطية وثمودية وتدمرية ولحيانية «1» قبل البعثة بأمد طويل قد يصل إلى ألفي عام ولا يقل عن أربعمائة عام أي قبل أن تصبح اللغة العربية فصحى مثل لغة القرآن وعصر النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ولما كانت لغة البابليين والثموديين واللحيانيين والأنباط والتدمريين واللغة العربية الفصحى من أصل قديم واحد فلا يبعد أن يكون أصل الكلمة يعني الربّ المعبود وأن تكون من جذر من الجذور السابقة الذكر. وأن تكون كلمة (الله) الفصحى هي تطور من ذلك. وفي اللغات العربية القديمة وردت كلمة (ايل) بمعنى الله أو الإله أو المعبود. وكانت تطلق على المعبود الأعظم أحيانا وعلى بعض المعبودات أحيانا في بلاد اليمن والعراق والشام قبل البعثة النبوية بمئات السنين.
وكانوا يضمون إليها كلمات متنوعة ويسمون أنفسهم بها تسجيلا لعبوديتهم للمعبود الذي كانت ترمز إليه. ومن ذلك يسمع ايل (إسماعيل) ويصدق ايل وحي ايل وباب ايل وإسرائيل. وقد يكون من هذا الباب جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل إلخ ...
فليس من المستبعد أن تكون كلمة (الله) في الفصحى وكلمة (اللاة) تطورا عن تلك الكلمات وأن يكون أحد الجذور المذكورة مشتركة بين هذه اللغات وأن تكون الكلمة من أحدها.
وفي اللغة العبرانية التي هي شقيقة من شقائق اللغة العربية كلمة (الوهيم) بمعنى الآلهة حيث يبدو من ذلك صورة من صور تطور الكلمة من أحد تلك الجذور.
__________
(1) انظر «تاريخ العرب قبل الإسلام» جواد علي ج 5، ص 72 وما بعدها.(1/294)
وعلى كل حال فإن كلمة (الله) قد غدت في اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام علما على القوة العظمى العاقلة الخالقة المدبرة الرازقة المحيية المميتة، أو اسما رئيسيا وأصيلا لها. وقد كان العرب يستعملونها في هذه الدلالة على اعتبار أنه لا بدّ لهذا الكون العظيم البديع من صانع عاقل حكيم مدبر والدينونة له بالعبودية والعبادة. وكانوا يعبدونه ويحلفون بكلمتي (الله) و (اللهم) ويسمون أنفسهم (عبد الله) للدلالة على ذلك. وإن كانوا يشركون معه شركاء للتقرب إليه والاستشفاع بهم عنده مما حكته آيات قرآنية كثيرة كثرة تغني عن التمثيل.
ولقد استعمل القرآن هذا اللفظ علما أو اسما رئيسيا على تلك القوة أيضا.
وورد فيه لحدته أحيانا ومع صفات الله وأسمائه الحسنى أحيانا. ومع تقرير وجوب وجود القوة العظمى التي يرمز إليها ووجوب الاعتقاد بها وشمول ربوبيتها ووجوب الدينونة لها بالعبادة والخضوع، والإخلاص لها وحدها، ووجوب تنزيهها عن أية شائبة ومماثلة وشراكة بأي اعتبار كان، ووصفها بجميع صفات الكمال مما احتوت تقريره والتدليل عليه آيات كثيرة كثرة تغني عن التمثيل كذلك. ومما غدا الطابع المميز للعقيدة الإسلامية. وقد جرى المسلمون على إطلاق لفظ (الجلالة) على الله تقويا وتعظيما.
تعليق على مدى جملة رَبِّ الْعالَمِينَ
في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم والتي كتبت بأقلام بشرية بعد موسى عليه السلام تكرر وصف الله تعالى برب إسرائيل وإله إسرائيل، وتكررت حكاية أقوال بني إسرائيل بأن الرب رب إسرائيل والإله إله إسرائيل على معنى الاختصاص والحصر حتى صار ذلك عندهم عقدة وعقيدة. وبلغ الأمر بهم أنهم رفضوا أن يشترك أهل منطقة السامرة في فلسطين الذين كانوا يدينون بالدين الموسوي في تجديد معبد أورشليم حين سمح لهم كورش ملك الفرس بالعودة من بابل إلى أورشليم وتجديد المعبد. فقد حكى سفر نحميا أحد أسفار الكهنة القديم أن أهل(1/295)
السامرة جاؤوا إليهم وقالوا لهم نبني معكم معبد الرب الذي نعبده مثلكم فرفضوا وقالوا لهم إننا نبني معبد إله إسرائيل. وهذا من دون ريب تحريف وتشويه للحق والحقيقة بكون الله عز وجل رب جميع الأكوان والمخلوقات.
ومن هذا الاعتبار فإن تقرير هذا المعنى لله عز وجل في أولى سور القرآن يصح أن يعتبر تصحيحا ربانيا لذلك النشوز والتحريف، ووضعا للأمر في نصاب الحق المحكم ليكون عقيدة الدين الإسلامي الذي شاء الله سبحانه أن يكون دين الناس جميعهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وبلادهم ولغاتهم. ووعد أن يظهره على الدين كله كما جاء في هذه الآية من سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) «1» .
تعليق على الحياة الأخروية
ويَوْمِ الدِّينِ في الآية الثالثة يعني يوم القضاء بين الناس ويوم جزائهم على أعمالهم. والمقصود منه هو الحياة الأخروية التي يبعث الناس فيها ويقفون في يومها الأول أمام ربهم عز وجل ليحاسبوا على ما فعلوه في الدنيا ويجزوا عليه.
وهذه أولى إشارة إلى هذه الحياة، تأتي في أولى سور القرآن التي يجب تلاوتها في كل ركعة من ركعات كل صلاة مما يسبغ عليها مغزى هام وخطير. ثم توالت الإشارات إليها بأساليب متنوعة حتى شغلت حيزا عظيما في القرآن وحتى يمكن أن يقال إنها ذكرت في معظم سوره بإسهاب حينا واقتضاب حينا آخر. وصار الإيمان بها بمقتضى النصوص القرآنية ركنا من أركان الإسلام كما ترى في آية سورة البقرة هذه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
__________
(1) تكرر هذا مرتين بتوكيد أقوى في سورتي الصف والتوبة بصيغة مماثلة تقريبا في الآيات 32- 33 من سورة التوبة و 8- 9 من سورة الصف. وهذا نصّ آيات سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) .(1/296)
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ... [177] ، وهذه الآية في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً
(136) ، وحتى صارت تشغل حيزا كبيرا في القرآن وخاصة في المكي منه بحيث يمكن أن يقال إنها كانت من أقوى وسائل الدعوة وتنبيه الناس وحثّهم على الإيمان بالله وحده والعمل الصالح وتحذيرهم من الآثام والمنكرات والفواحش.
ولقد احتوت الآيات القرآنية فيما احتوته بيانا للأهداف والمقاصد يمكن تلخيصها بأن الله تعالى لا يمكن أن يكون خلق الكون عبثا وأن حياة الإنسان الذي شاء أن يكون أكمل مخلوقاته الأرضية عقلا لا يمكن أن تكون قاصرة على الزمن القصير الذي يحياه في الدنيا. وأنه لا بد من أن يكون لها تتمة أكمل وأفضل وأدوم يسود فيها أهل الإيمان والحق والعدل والخير وينخذل فيها أهل الجحود والباطل والظلم والشر. وأنه لا يتسق مع عدل الله أن يفلت الشرير مما يرتكبه من الآثام التي كثيرا ما ينجو من عواقبها في الدنيا ومن عقاب جحوده لخالقه وما أسبغه عليه من نعم. وأن يذهب عمل المؤمن الصالح وما قد يناله في سبيل الحق والخير من أذى وحرمان كثيرا ما لا ينال عليه مكافأة في الدنيا هدرا وهباء. وأن يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالجاحدين لله المفسدين في الأرض والمتقون كالفجار. وأن حكمة الله اقتضت من أجل ذلك تلك التتمة المسماة بالحياة الأخرى. يرجع فيها الناس إلى ربهم ويكافأ فيها المؤمن المحسن، ويعاقب فيها الجاحد المسيء.
والمؤمن بالله الذي ينعم النظر في مشاهد الكون ونواميسه ويلمس فيها ما يذهب بلبّه ويملك عليه مشاعره من العظمة والإتقان والنظام واجد كل الطمأنينة والحق في هذه المقاصد والأهداف. وواجد أن الحياة الأخروية ليست مما يخرج عن نطاق قدرة الله مبدع هذا الكون ومدبره وحكمته السامية. ومن المتبادر بالإضافة إلى ما تقدم أن فكرة الحياة الأخروية وثوابها وعقابها تنطوي على الحافز(1/297)
على الخير والوازع عن الإثم. فالذين لا يخافون الآخرة وحسابها ولا يعتقدون بها قلّما يأبهون للحق والخير في شتى مجالاتهما. ويندفعون فيهما اندفاعا ذاتيا وجدانيا دون انتظار مقابلة أو جزاء في الدنيا، وقلما يتورعون عن الإثم والمنكرات والفواحش إذا ما تيقنوا من النجاة من العقوبة وأمنوا منها في الدنيا. وفي هذا ما فيه من مقاصد صلاح الإنسانية وخيرها على مختلف المستويات.
وفي القرآن آيات عديدة تتضمن ذلك صراحة وضمنا، مثل آية سورة النحل هذه: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) [22] ، وآيات سورة المؤمنون هذه: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وآية سورة المؤمنون هذه: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) .
وهذا يعني فيما يعنيه أن الإيمان بالآخرة يجعل صاحبه يتحمل المكاره ويصبر على الشدائد ويقوم على التضحية بماله ونفسه في سبيل الله والحق دون أن يهتم كثيرا لما قد يصيبه أو يناله من جزاء دنيوي أو حرمان أو أذى أو نكران لأنه يعتقد أنه سوف يستوفي جزاءه على أوفى ما يكون في ذلك اليوم أكثر بكثير من غير المؤمن بها وعلى أي مستوى.
ونحن نعرف أن من الذين لا يؤمنون بالآخرة من يقول أنه ليس لفكرتها التأثير الخلقي العميق، لأنها سبب خارجي أو نظري ليس من كيان النفس وأعماق الضمير. وإن أقل صدمة لهذا السبب تجعل ما أوجده من الحافز والوازع عدما.
وإن تربية الناس تربية خلقية عميقة نافذة هي التي تستطيع أن تكون الحافز والوازع الذاتيين. وينسى القائلون- ونقول هذا من قبيل المساجلة- أن الأمل في هذه التربية وشمولها خيال مستحيل التحقيق بالنسبة لجميع البشر أو جمهورهم أو لكثرة ما منهم. وإنه إذا أمكن أن تكون في أناس فإنهم من الندرة والقلة في الدرجة التي لا يكون منها أي أثر إيجابي محسوس بالنسبة للمجموع، بل إن هناك ظروفا(1/298)
اجتماعية ونفسية يفقد فيها الحافز والوازع في هذه الطبقة القليلة النادرة، وتصبح تحت حكم الغرائز والطبائع البهيمية.
هذا إلى أن الكثرة العظمى من المجتمع لا يمكن أن تستغني عن حافز ووازع مؤثرين وما اضطرار الهيئات الحاكمة في الجماعات وما اضطرار الهيئات الاجتماعية إلى وضع القوانين والحدود والتقاليد إلا مظهر من مظاهر هذه الحاجة وتثبيت لها. ولم يقل أحد إنه ليس من حاجة إلى هذه القوانين والحدود لمنع الناس من الشذوذ والبغي والآثام وحفزهم على العمل الصالح والاستقامة على طريق الحق. وإن هذا وذاك يمكن التحقق ذاتيا. وما دامت التجربة قد أثبتت أن كثيرا من الأفراد ينزعون إلى التفلّت من القوانين والتقاليد والقيود ومعاكستها بشتى الأساليب تحقيقا لمنافعهم وأهوائهم الخاصة حينما يأمنون المغبة ولا يقبلون على الخير لذاته ولا يستقيمون على طريق الحق، إذا أمنوا اللوم والمهانة والحرج والخطر فإن الحاجة تظل ماسة إلى حافز ووازع أقوى تأثيرا وأعمق أثرا في النفوس من القوانين والتقاليد يجعلان المرء رقيبا على نفسه ولو لم يكن عليه رقيب ويحملانه على الرهبة من الإثم والشر والشذوذ والرغبة في المعروف والخير والاستقامة في حال سرّه وعلنه وفي داخل نفسه وأعماقها. والإيمان بالآخرة وثوابها وعقابها هو الذي يستطيع أن يسد هذه الحاجة.
وإذا كان كثير من المؤمنين بالآخرة ينزعون أيضا إلى الإثم والشر ولا يندفعون إلى الخير فإن غير المؤمنين أكثر نزوعا إلى التفلّت من وازع الضمير ووازع الرهبة من القوانين والتقاليد لأن أثرا ما من إيمان المؤمنين والخوف من الحساب الأخروي يظل في هؤلاء قد يوقظهم في لحظة ما ويجعلهم يندمون ويثوبون ويصلحون ... بينما لا يكون في الجاحدين أثر من شيء ما داموا مستطيعين التفلت من العقوبة المانعة والفوز بالمنفعة الذاتية.
ويمكن أن يضاف إلى هذا أمر خطير آخر وهو ما تكون عليه قلوب ونفوس الجاحدين من فراغ ويأس وحيرة وقلق وتساؤل لا جواب عليه من أمر هذه الحياة(1/299)
التي يحيونها بدون غاية ومدى بدءا وسيرة ونهاية. في حين أن المؤمنين بالله واليوم الآخر تكون قلوبهم مطمئنة بحكمة الله السامية في خلقهم وحياتهم وسيرتهم ومماتهم ويملأ نفوسهم الأمل بتتمة أفضل وأسعد لكل ذلك.
ولقد قلنا إننا نقول هذا من قبيل المساجلة وحسب، وإلّا فإن فكرة الآخرة متصلة أشد الاتصال بفكرة الإيمان بالله وعظمته وعدله وقدرته وحكمته. ثم هي متصلة بما في أعماق النفس البشرية من فكرة الدين. وبما تثيره عظمة الكون وبدائعه ونواميسه في هذه النفس من يقين عميق ذاتي بوجود واجب الوجود وعظمته وحكمته وعدله واستحالة أن يكون خلق ما خلق من أكوان ومخلوقات عبثا لا يكاد يستطيع أن يتفلت منها أحد حتى الذين يظنون أحيانا أنهم استطاعوا التفلت منها وبخاصة في وقت الرخاء والسعة حيث إنهم لا يشعرون إلّا وهم تحت تأثيرها حينما تلمّ بهم النائبات وتجتاحهم الأخطار.
ولقد كانت الحياة الأخروية كما قلنا من أكثر ما دار حولها الجدل بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار على ما حكته الآيات الكثيرة جدا. وكان ذلك من أسباب هذه الكثرة على ما هو المتبادر. ولقد احتوت ردودا متنوعة على جحود الكفار المتنوع الصور والأساليب للحياة الأخروية فيها توكيد وبراهين على قدرة الله على ذلك وحكمته السامية المتوخية للحقّ والعدل في هذه الحياة. وقد جاءت بأساليب نافذة إلى أعماق النفوس والقلوب باعثة أشد اليقين فيها بحقيقة هذه الحياة على ما سوف ننبه عليه في مناسباته الآتية.
هذا، ويلحظ أولا أن كثيرا من الآيات التي ذكرت فيها الحياة الأخروية قد جاءت بأساليب تلهم أنها بالإضافة إلى حقيقتها الإيمانية استهدفت في جملة ما استهدفته الترغيب والترهيب وحمل الناس على الإيمان بالله وحده واليوم الآخر، والتزام ما رسمه من حدود وأحكام من الإقبال على الخير والعدل والحق والابتعاد عن الشر والظلم والباطل، كما جاء مثلا في آيات سورة الزمر هذه: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ(1/300)
الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ
(16) ، وآيات سورة الشورى هذه: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... [22- 23] ، وفي سورة طه آية مهمة في هذا الباب وهي: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) .
ويلحظ ثانيا أن مشاهد الحياة الأخروية وأهوالها وحسابها وثوابها وعقابها في القرآن متساوقة مع مألوفات الناس في الحياة الدنيا مما يتمثل في آيات لا تكاد تحصى كثرة. والإيمان بكل ما ورد في القرآن وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم من المشاهد الأخروية على مختلف أنواعها وكونه في نطاق قدرة الله عز وجل واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون للأسلوب والعبارات التي ذكرت بها تلك المشاهد حكمة، ولعل من ذلك قصد التأثير في النفوس التي لا تتأثر إلّا بما تعرفه وتحس به والله أعلم.
وننبّه على أن هناك أحاديث نبوية واردة في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة وغيرها في صور مشاهد الحياة الأخروية على أنواعها متساوقة مع ما ورد من ذلك في القرآن. وقد أجّلنا إيرادها إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
والحياة الأخروية ليست عقيدة إسلامية فقط، بل هي عقيدة مشتركة بين جميع الأديان والنحل والملل وفي جميع الأدوار البشرية. ومنها ما شملت هذه الحياة ومشاهدها ونعيمها وعذابها حيزا غير يسير فيها يشبه ما ورد عنها في النصوص الإسلامية. غير أن وصفها بالأوصاف والسعة التي جاءت في القرآن هو من الخصوصيات القرآنية لأنها لم ترد بسعة وصراحة وتركيز إلّا في القرآن. وليس من ذلك في أسفار اليهود والنصارى المتداولة اليوم إلّا إشارات غامضة ومقتضبة وخاطفة.(1/301)
والجاحدون للحياة الأخروية يركزون على ناحية من أمر هذه الحياة وهي أنها تجعلهم ينفضون أيديهم من الحياة الدنيا ويعتبرون أنفسهم عابري سبيل فيها.
ونقول إنهم بالنسبة للمسلمين يقيسون الأمر على الواقع الذي لا يتحمل الإسلام والقرآن مسؤوليته. فكل ما في القرآن حتى العبادات من صلاة وصيام وحج هادف إلى صلاح الإنسان في الحياة الدنيا على ما سوف نشرحه في مناسباته. وحتى الحياة الأخروية نفسها قد انطوت على هذا الهدف على ما مر شرحه.
وصلاح الإنسان في الدنيا أمر عام يشمل كل شيء، ولقد: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور/ 55] ، والصالحات التي قرنت بالإيمان كل شيء يجعل المسلمين صالحين لهذه الخلافة من علم وعمل وعزة وكرامة وقوة وتقدم في كل مجال من مجالات الحياة. وكل هذا هو عماد النجاح للاستخلاف في الأرض والتمكن منها. ولا يصح أن يكون الله قد رشحهم لذلك ويرضى منهم أن ينفضوا أيديهم منه بطبيعة الحال.
ولقد توقع الله منهم أن يكونوا عند هذا حينما هتف بهم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) [آل عمران/ 104- 105] ، وكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران/ 110] ، والَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج/ 41] ، والمعروف هو كل ما فيه خير ونفع ومصلحة وعزة وكرامة وعدل واستقامة وصلاح وحق. والمنكر هو كل ما فيه أضداد ذلك. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة/ 143] ، أي حاملي مشعل الهداية لهم والخير العادل المستقيم على الحق الذي برىء من الإفراط والتفريط والغلوّ والتقصير.(1/302)
وقد استكبر الله تحريم طيباته وجعل للمسلمين حقهم فيها مثل غيرهم في الدنيا مع اختصاصهم بها في الآخرة: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) [الأعراف/ 32] .
ويحسن أن ننبه في هذه المناسبة على نقطة هامة، وهي أن الوعد والوعيد في القرآن للمؤمنين الصالحين المتقين والجاحدين والآثمين الباغين ليسا قاصرين على الحياة الأخروية. ففيه آيات كثيرة وعد فيها الأولون بالحياة السعيدة الرضية والآخرون بالخيبة والشقاء والعذاب في الحياة الدنيا أيضا. حيث يبدو من هذا تساوق حكمة التنزيل مع الحاجات النفسية العاجلة والآجلة معا لتحقيق أهدافها بصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
والآيات في ذلك كثيرة كما قلنا فنكتفي بالأمثلة التالية:
1- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف/ 96] .
2- وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [النحل/ 30] .
3- أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل/ 45] .
4- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور/ 55] .
هذا، وبعض الذين ينحون في تأويل الآيات القرآنية تأويلا باطنيا أو صوفيا يذهبون إلى تأويل الحياة الأخروية وآياتها إلى مذهب يتناسب مع نحوهم حتى(1/303)
يصل أمرهم إلى إنكارها كما جاء خبرها وتفصيلاتها بالعبارات الصريحة القرآنية.
وهذا لا يستقيم لا من حيث اللغة ولا من حيث مقاصد الله عز وجل المبينة في كثير من الآيات بصراحة قطعية لا تتحمل أي تأويل غير تأويل الحياة الأخروية الفعلية بعد الموت. فضلا عن هذه الحياة بهذا الوصف من عقائد البشر التي كانت عامة شاملة وقت نزول القرآن. وحمل الآيات القرآنية على غير ذلك شطح بل هذيان، والله تعالى أعلم.
ومن الذين يؤمنون بالحياة الأخروية من يرى أنها ستكون حياة روحية أو عالما روحيا لا جسديا. وآيات القرآن صريحة صراحة قطعية بأن البعث سيكون بالجسد أيضا. وإنكار ذلك أو التمحّل فيه مراء إزاء هذه الصراحة. ولقد أنكر ذلك الكفار فردّ عليهم ردا قويا في آيات كثيرة وبأساليب متنوعة، وواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء بالقرآن بدون تمحل ولا مراء وأن يؤمن بأن ما ورد فيه هو في نطاق قدرة الله وأن لا يقيس الأشياء بعقله وأن يكل ما يعجز عن إدراكه إلى الله عز وجل. وسنزيد هذا الموضوع شرحا في مناسبات آتية، والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
وكثير من المفسرين فسروا المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى والصراط المستقيم بالدين الإسلامي. ورووا حديثا مرفوعا بأن اليهود هم المغضوب عليهم والنصارى هم الضالون «1» . وهناك حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم رواه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي عن عدي بن حاتم جاء فيه: «اليهود مغضوب عليهم والنّصارى ضالّون» «2» . والذي نلاحظه أن السورة أولى سور القرآن نزولا
__________
(1) انظر مثلا تفسير السورة في تفسير المنار والطبرسي والزمخشري والطبري وابن كثير.
(2) انظر «التاج الجامع» ، ج 4 ص 33.(1/304)
وعلى الأقلّ من أبكر ما نزل من القرآن.
والقرآن المكي قد جرى على ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى إجمالا بأسلوب محبب وعلى سبيل الاستشهاد بهم على صحة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق الوحي القرآني. وذكرت آيات عديدة فيه خبر إيمانهم وإظهار الخشوع والخضوع حينما كان يتلى عليهم كما ترى في الأمثلة التالية:
1- أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام/ 114] .
2- فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس/ 94] .
3- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد/ 36] .
4- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) [الإسراء/ 107- 109] .
5- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) [القصص/ 52- 53] .
6- وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت/ 47] .
7- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) [السجدة/ 23- 24] .
8- قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف/ 10] .
الجزء الأول من التفسير الحديث 20(1/305)
حيث يلهم كل ذلك أن المسلمين كانوا يعتبرون أنفسهم والكتابيين حزبا واحدا. والمستفاد من نصوص الآيات القرآنية المدنية أن مواقف الصدّ والجحود والمناوأة والعداء من جمهرة اليهود، ومن بعض فئات النصارى إنما كانت بعد الهجرة. ولهذا كله نقول إن الحديث مدني وإذا صحّ فإنه يكون من قبيل تطبيق مدى الآية على اليهود والنصارى الذين كابروا وعاندوا تطبيقا مؤخرا من حيث إن اليهود فعلوا ذلك عن بينة وعلم فاستحقوا غضب الله الذي سجلته عليهم آيات مدنية عديدة مثل آيات سورة البقرة هذه: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) ومن حيث إن النصارى فعلوا ذلك عن ضلال مما انطوى في آيات عديدة منها آيات المائدة هذه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) .
ولقد كان استدلال المفسرين على أن المقصود من الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم اليهود من الآيات التي سجل فيها غضب الله عليهم والتي أوردناها آنفا. وعلى أن المقصود من الضَّالِّينَ هم النصارى من آية في سورة المائدة جاءت بعد آيات كان موضوع الكلام والخطاب فيها النصارى وعقيدتهم في المسيح وأمّه وهي هذه:(1/306)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) [المائدة/ 77] وهذه الآيات مدنية حيث ينطوي في هذا تدعيم لما قلناه من أن القول هو من قبيل التطبيق في العهد المدني نتيجة لمواقف النصارى واليهود في هذا العهد، والله أعلم.
وبناء على ذلك يتبادر لنا والله أعلم أن جملة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ في أولى سور القرآن قد تضمنت التنبيه على أن صنوف الناس عند الله ثلاثة، صنف أنعم الله عليه فاهتدى وسار على طريقه المستقيم. وصنف انحرف عن هذا الطريق عن علم ومكر واستكبار فاستحق غضب الله. وصنف انحرف عن هذا الطريق ضلالا بغير علم وبينة ثم ظل منحرفا دون أن يهتدي بما أنزل الله على رسله فلزمته صفة الضلالة. والتصنيف رائع جليل شامل.
وفي القرآن الذي جاءت سورة الفاتحة براعة استهلال له صور متنوعة منه في صدد أهل الكتاب وغيرهم. وقد أوردنا آنفا بعض الآيات بالنسبة لأهل الكتاب.
وهذه بعض آيات بالنسبة لغيرهم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر/ 42- 43] ، وفي هذه الآيات نموذج لمن ينحرف مكرا واستكبارا.
وهذه آيات فيها نماذج عن الضلال بغير علم والاستمرار فيه: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) [الأعراف/ 30] ، ويَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) [الحج/ 12- 13] . والأمثلة كثيرة سوف تأتي في السور الآتية فنكتفي بما تقدم.(1/307)
بعض أحاديث واردة في واجب حمد الله تعالى في مناسبة جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
ومع أن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ هي تقرير رباني مباشر بما الله تعالى أهل له وحده من الحمد فقد أورد المفسرون في سياق الجملة أحاديث عديدة فيما يجب على المسلم من حمد الله تعالى. منها حديث رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال: «قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟
فقال: أما أن ربّك يحب الحمد» . وحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله» . وحديث رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلّا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ» والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن هذا لا يمنع صحتها، والتعليم والتنويه اللذان ينطويان فيها حقّ واجب على كل مسلم في كل ظرف ومناسبة.
التأمين بعد الآية الأخيرة من السورة
ولقد جرى المسلمون جيلا بعد جيل على أن يقولوا (آمين) بعد سماع الآية الأخيرة من السورة وتلاوتها وليست هذه الكلمة من السورة. وإنما كان ذلك سنّة نبوية قولية وفعلية. حيث روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فقال آمين مدّ بها صوته» . وحيث روى أبو داود عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال آمين حتى يسمع من يليه من الصفّ الأول» «1» . وحيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله ما تقدّم من ذنبه» «2» .
__________
(1) «التاج» ، ج 1، ص 164.
(2) انظر المصدر نفسه.(1/308)
ومع أن المتبادر أن معنى آمين هو دعاء بالاستجابة فقد روى الزمخشري حديثا عن ابن عباس أنه سأل النبي عن معناها فقال له: (افعل) . وقد روى كذلك في خطورة آمين وفي تعليم قولها للنبي من قبل جبريل حديثين آخرين واحد منهما عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبيّ آمين خاتم ربّ العباد على عباده المؤمنين» .
وثانيهما عن أبي ميسرة التابعي جاء فيه: «أقرأ جبريل النبيّ فاتحة الكتاب فلما قال وَلَا الضَّالِّينَ قال له قل آمين فقال آمين» «1» .
وبعض هذه الأحاديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكنه ورد في كتب حديث أخرى مثل الطبراني وابن مردويه والإمام أحمد «2» . ولا تبعد في مآلها عن الحديث الوارد في هذه الكتب والله تعالى أعلم.
تعليق على تفسير شيعي باطني لكلمة الصراط
واستطراد إلى روايات ومذاهب مفسري الشيعة وأثرها هذا، وبمناسبة ورود كلمة الصراط في السورة نقول إن بعض مفسري غلاة الشيعة الباطنية يروون عن أبي جعفر الطوسي أنه قال لأبي عبد الله أحد الأئمة الإثني عشر الذين يدين لهم الشيعة بالولاية دون غيرهم: أنتم الصراط في كتاب الله وأنتم الزكاة وأنتم الحج؟ فقال يا فلان: نحن الصراط في كتاب الله عز وجل، ونحن الزكاة، ونحن الصيام ونحن الحج، ونحن الشهر الحرام ونحن البلد الحرام ونحن كعبة الله ونحن قبلة الله ونحن وجه الله» «3» .
وفي هذا ما هو ظاهر من الغلوّ الحزبي الذي ننزّه أبا عبد الله عنه ونرجّح أنه منحول له نحلا. ومثل هذا كثير مما سوف نعرض أمثلة منه في مناسبات آتية. بل هذا ديدن الشيعة غلاتهم ومعتدليهم وباطنييهم حيث يصرفون العبارات القرآنية إلى
__________
(1) انظر فصل تخريج أحاديث تفسير الزمخشري لابن حجر في الجزء الرابع من «الكشاف» .
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) «التفسير والمفسرون» لمحمد حسين الذهبي ج 2، ص 267.(1/309)
ما يوافق هواهم ومقالاتهم مهما كان في ذلك من تعسف وغرابة وسخف وشطط وبعد عن الفحوى والمناسبة والسياق، حتى ولو كان في سياق قصص الأمم السابقة وأنبائهم أو مشاهد الآخرة أو في مشاهد الكون أو في حق الكفار بالله ورسالات رسله والمشركين به قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي حياته.
وحيث يزعمون أن لكل آية وجملة بل وكلمة في القرآن باطنا وظاهرا وأن الباطن متعدد الوجوه والمدى حتى يبلغ سبعين وجها لكل آية أو كلمة أو جملة، وأن من السائغ أن يكون أول الآية في أمر وآخرها في أمر وظاهرها في أمر وباطنها في أمر. وظاهرها في ماض أو حاضر وباطنها في مستقبل وظاهرها في أناس بأعيانهم وباطنها في أناس آخرين بأعيانهم.
حتى لقد بلغ بهم الأمر إلى حد الزعم أن جلّ القرآن بل كله في الأئمة وحقوقهم وشيعتهم وأعدائهم، وإن لم يكن ذلك ظاهرا فهو منطو في الباطن.
وإلى حد صرف كلمات الصلاة والصيام والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة والحشر إلى معان متصلة بعقائدهم، مما مرّت أمثلة منه في أول هذا التعليق، ومن ذلك أن الوضوء هو موالاة الإمام، والتيمم هو الأخذ من المأذون في غيبة الإمام والصلاة هي اتباع الإمام الناطق بالحق والغسل هو تجديد العهد للإمام، والجنة هي سقوط التكاليف، والنار هي مشقة حمل التكاليف.
ومنهم من زعم أن صفات علي وأحفاده الأئمة وحقوقهم وفضلهم كانت في القرآن صراحة وأن الذين جمعوا القرآن من كبار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أسقطوا كل ما فيه من ذلك وحرفوا كل ما فيه إشارة ضمنية إلى ذلك.
ومنهم من بلغ به الزعم إلى القول أن ما أسقط من القرآن أكثر من نصفه حيث كان نحو سبعة عشر ألف آية فلم يبق منه إلا نحو سبعة آلاف، وأن الإمام علي دوّنه جميعه وأودعه أولاده. وأن هناك مصحفا عندهم باسم مصحف فاطمة يبلغ ثلاثة أضعاف المصحف الحالي وفيه ما أسقطه الصحابة من القرآن، وإلى حد(1/310)
الزعم أن إنكار الباطن في القرآن كفر «1» .
ووصل بهم الشطط إلى صرف كل ما ورد في القرآن من أسماء الله الحسنى وصفاته وغضبه وأسفه إلى الأئمة. وكل ما ورد فيه من وصف للكافرين والمنافقين والمشركين ومن لعنة وتنديد بالكفار والمنافقين والمشركين وإنذار لهم بعقوبة الدنيا والآخرة إلى كبار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، باستثناء بضعة منهم كانوا بزعمهم موالين لعلي رضي الله عنه فقط، ثم إلى سائر من كان مواليا للخلفاء الراشدين الثلاثة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم إلى كل من والاهم من المسلمين من لدن عهد الخلفاء إلى اليوم. وإلى زعم كون أسماء علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على عرش الله قبل خلق الناس وأن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم لأن أنوارهم كانت متلألئة على جبينه، وأن أنبياء الله الأولين كانوا يتوسلون بهم في الملمات وأنهم معصومون وأنهم يتلقون الوحي عن الله مباشرة خلافا للأنبياء الذين كانوا يتلقونه بالواسطة مما فيه معنى تفضيلهم عليهم، وأن الله يحل فيهم دورا بعد دور وأن عليا هو النبي بل هو الإله والعياذ بالله.
وقد تجرأوا على رسول الله وعلى علي وأولاده. فوضعوا على ألسنتهم الأحاديث الكثيرة جدا بسبيل تأييد أقوالهم ومذاهبهم، يبرز عليها التزوير والكذب فحوى وأسلوبا ومناسبة، وأنكروا كل حديث يروي خلاف ما يقولون ولو كان واردا في كتب الصحاح. وقرروا أنه لا يجوز ولا يصح حديث لم يروه أئمتهم وأنهم هم تراجمة القرآن الذين هم أدرى بما فيه لأنهم أهل البيت الذي نزل فيه وأنه لا يجوز لأحد أن يتلقى التفسير أو يفسر القرآن بدون أحاديثهم المذكورة. فجعلوا
__________
(1) يستند القائلون بذلك والذين يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا إلى حديثين معزوين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهما واحد مرسل أخرجه الغرياني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع» . وثان أخرجه الديلمي مرفوعا إلى رسول الله جاء فيه:
«القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد» . ( «التفسير والمفسرون» لمحمد حسين الذهبي، ج 2، ص 19) ولم يرد أي من الحديثين في كتب الحديث المعتبرة. وعبارتهما لا يمكن أن تبعث أي طمأنينة بصدورهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(1/311)
بذلك عامتهم وراء سور مغلق يجترون ما يقرؤونه في كتب تفسيرهم منها وتترسب بذلك فيهم العقد والأحقاد ضد الجمهور الأكبر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والجمهور الأكبر من المسلمين من بعدهم الذين يحترمونهم ويوالونهم حتى ولو كانوا يوالون عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأولاده ويحترمونهم. وهو ما هو عليه فعلا جمهور أصحاب رسول الله وجمهور المسلمين من بعدهم، لأنهم أهل لذلك لإسلامهم وجهادهم وصلتهم برسول الله وهذا سرّ المأساة المروعة الأليمة التي يعيشها عامة الشيعة منذ أكثر من اثني عشر قرنا وسرّ الانقسام الذي انقسم إليه المسلمون وافترقوا به عن بعضهم «1» .
ومن العجيب أن يؤلف بعضهم كتبا في الطعن بأبي هريرة رضي الله عنه لأنه يروي كثيرا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرى تعسفا في بعض من يرى ما لا يصح من أخبار
__________
(1) في الجزء الثاني من كتاب «التفسير والمفسرون» تأليف محمد حسين الذهبي حيث يجد القارئ الغريب العجيب المذهل الذي لا يكاد يصدق أنه يصدر من مؤمن عاقل من كل ذلك مرويا عن كتب تفسير الشيعة مثل كتب الكارزاني والعسكري، والكاشي والعلوي والخراساني والطوسي والطبرسي. والذهبي إنما يورد أمثلة فقط أو غيضا من فيض مما في تلك الكتب ويستوي في ذلك معتدلوهم وغلاتهم. فالطبرسي مثلا من أشدهم اعتدالا وتحرزا ومع ذلك فهو يروي الكثير مما يرويه الغلاة.
ونحن نعتقد أن هؤلاء المفسرين ليسوا أغبياء وبلهاء وأنهم أوردوا ما أوردوه وهم يعلمون ما فيه من سخف ومفارقة وصنع وكذب على الله ورسوله وآله الطيبين لمآرب وضغائن ترسبت فيهم مستغلين طيبة وغفلة عوام الشيعة وعزلتهم عن أهل السنة والجماعة ليستمر لهم شفاء هذه المآرب والضغائن لأنه كما قلنا لا يمكن أن يصدق أحد أنه يصدر عن مؤمن عاقل. وقد يستثنى من ذلك الطبرسي لما نراه من اعتداله وتحفظه في ما يورده وعدم إيراده لكثير مما يورده غيره وإيراده مع ما يورده ما يورده أهل السنة والجماعة من روايات وأحاديث حيث يدل هذا على أمانته العلمية.
وننبه على أن أقوال وروايات وأحاديث وأفكار وعقائد الشيعة على اختلاف فرقهم لا تنحصر في كتب تفسيرهم. فلهم كتب كثيرة في الحديث والفقه والتاريخ والعقائد والجدل فيها الغريب العجيب المذهل، ولكننا سنقتصر من الأمثلة على ما رووه وساقوه في سياق التفسير.(1/312)
وأحداث دنيوية وأخروية وينسون ما يروونه من آلاف الأحاديث الكاذبة الموضوعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآل بيته والتي لا يمكن بشيء منها أن يصح والتي يبرز عليها طابع الوضع والصنع المتعمدين لتحريف كلام الله عن مواضعه في حين أنه ليس فيما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة من رواية أبي هريرة ما لا ينطبق على القرآن أو يغاير أحاديث رسول الله التي يرويها غيره من أصحاب رسول الله.
ونريد أن ننبه على أمر وهو أننا نجلّ عليّ بن أبي طالب وأولاده الطيبين رضي الله عنهم ثم الصالحين من ذريتهم كل الإجلال لصلتهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن هذا واجب كل مؤمن مخلص. وهو ما نعتقد أن جل أهل السنة بل كلهم عليه.
وإننا إذ نكتب هذا التعليق وإذ نورد الأمثلة من تفسيرات مفسري الشيعة وغلاتهم وباطنييهم لا نقصد تشهيرا وتقبيحا لذاتهما وإنما نقصد تحذير المسلمين جميعهم سنيين وشيعيين على السواء. ولا نحمل مسؤولية ذلك على عامة الشيعة فهم منها براء ولا يحمل مسؤوليته وإثمه إلا الذين صنعوه ورووه وتمسكوا وما يزالون يتمسكون به ويحثون العامة من الشيعة على التمسك به ويلقنونهم أنهم هم وحدهم على الحق وأنهم هم وحدهم أصحاب الحظوة عند الله حتى يظلوا متمسكين به تحقيقا لما توخوه ويتوخونه من مآرب ومنافع ونشهد الله على صدق ما نفعله.
ومن الجدير بالذكر أن كتب الشيعة المتنوعة على اختلاف فرقهم لم تنحصر وتقف عند القرون الإسلامية الأولى، فقد استمر كتابهم يكتبون مختلف الكتب في التفسير والحديث والفقه والجدل والتاريخ والعقائد في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي إلى اليوم يكررون فيها ما قاله ورواه أسلافهم من العجيب الغريب المذهل «1» فكان هذا مما ساقنا إلى هذا التحذير. وإلى إيراد تأويلاتهم الشاذة
__________
(1) من هذه الكتب «الإيقاظ» للحرّ العاملي و «الآيات البينات» لكاشف الغطاء و «أعيان الشيعة» لمحسن الأمين وهذا موسوعة كبرى فيها تراجم كل نابه من الشيعة وأقواله وأفعاله. وفي هذه الكتب وغيرها تكرار لما قاله ورواه قدماء الشيعة من أفكار وعقائد ومجادلات ومدائح وقبائح وعادات وأفكار وتأييد لها وفيها العجيب المذهل من كل ذلك وبخاصة في صفات الأئمة وعصمتهم وصلتهم المباشرة بالله وفي حصر صفة الإسلام والنجاة في الشيعة ونفيهما عن سائر المسلمين. وفي تكفير وذم كبار أصحاب رسول الله ومن والاهم من المسلمين إلى الآن.(1/313)
للقرآن التي لم يمنعهم منها عقل ولا دين على ما مرّت أمثلته وعلى ما سوف يمر منه أمثلة كثيرة أخرى ليرى القارئ ما فيها من شطط وزور وشذوذ.
ومهما يمكن أن يقال أن التشيع قد غدا مع الزمن الطويل عقدة معقدة يجعل أصحابها متعصبين لها متمسكين بالروايات والأقوال التي يسوقها لهم علماؤهم ومفسروهم ورواتهم مهما كان فيها من التعسف والشطط والمفارقة والبعد عن العقل والمنطق والحق والدين والإيمان فإنه قد آن لنبهاء الشيعة وعقلائها والصادقين منهم في إيمانهم والمخلصين للإسلام وهم كثيرون فيما نعتقد أن يتنبهوا إلى أن أسبابه سياسية لا صلة صحيحة لها بالدين والقرآن وأن هذه الأسباب قد عفّى عليها الزمن ولم يعد لها مكان ولا معنى ولا مبرر ولا فائدة إلا لفئة قليلة من الناس الذين يرون في التمسك به مأربا خاصا لأنفسهم وأن يبذلوا جهودهم للتخفيف من غلواء التمسك بتلك الروايات والأقوال والتعصب للفكرة التي وراءها والتي هي سياسية قديمة وللتقارب مع السنيين إلى أن تسود الأخوة والمحبة وتزول الفرقة والضغينة. وعلى نبهاء السنيين وعقلائهم والصادقين في إيمانهم والمخلصين بإسلامهم بدورهم أن يبذلوا جهودهم بسبيل ذلك أيضا بمختلف الوسائل والمواقف وعلى مختلف المستويات، والله الهادي إلى سواء السبيل.(1/314)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
سورة العلق
تضع جميع تراتيب السور المروية هذه السورة أولى السور ترتيبا. والمتبادر أن ذلك بسبب كون الآيات الخمس الأولى منها هي أولى آيات القرآن نزولا على ما عليه الجمهور. لأن مضمون باقي الآيات وأسلوبها يدلان على أنه نزل بعد مدة ما من نزول آياتها الخمس الأولى، على أن هذه المدة ليست طويلة على ما تلهم آيات السورة.
وفي الآيات الخمس الأولى أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة وتنويه بما ألهم الله الإنسان من العلم. وفي بقية الآيات حملة على باغ مغتر بماله وجاهه تصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيت للنبي في دعوته وموقفه وعدم المبالاة به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
(1) العلق: الدم المتجمد.
هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، سنورده بعد قليل، أولى الآيات القرآنية نزولا. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سورا أخرى(1/315)
مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولا فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سندا كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية «1» .
وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة. وإنما هي تنبيه وإعداد.
ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.
أول قرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم
وقد نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلّم ليلا في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «أوّل ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح. ثم حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث- أي يتعبّد- فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: «اقرأ» فقال: «ما أنا بقارئ» قال: «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني» . فقال: «اقرأ» ، فقلت: «ما أنا بقارئ» قال: «فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ مني الجهد ثم أرسلني» فقال: «اقرأ» فقلت:
«ما أنا بقارئ» فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني» فقال:
__________
(1) انظر سياق تفسيرها في الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم وانظر كذلك كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي ج 1 ص 24 وما بعدها، الطبعة المذكورة سابقا. وننبه إلى أننا سرنا على الاكتفاء بذكر اسم كتاب التفسير أو مؤلفه دون ذكر رقم المجلد أو الجزء أو الصفحة لأن هناك أكثر من طبعة لأكثر من كتاب من كتب التفسير، وقد لا تكون الطبعة التي ننقل عنها هي المتيسرة في يد القارئ، وطريقتنا تيسر للقارىء أن يراجع المادة في أي طبعة كما هو واضح. [.....](1/316)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ: ما لَمْ يَعْلَمْ» «1» . ونزول هذه الآيات ليلا وفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] ، وآية سورة الدخان هذه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) ، وآية سورة القدر هذه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) .
والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه صلّى الله عليه وسلّم إلى المهمة العظمى التي انتدب إليها، وتعليمه أن يجعل الله هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعا بالانصراف عما سوى الله، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها وآمالها بغير الله الربّ الأكرم.
مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم في أول ما نزل من القرآن
والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم الله التي أنعمها على الإنسان، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر الله عليه ويسعى في اكتسابه.
والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.
__________
(1) «التاج» ، ج 3 ص 226.(1/317)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
وفي هذا من الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى، وما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها، وقوة عناصر خلودها.
ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جدا في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحثّ على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.
والمتبادر أنه لا يقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي، وقد اختص الإنسان بالذكر لأنه موضوع الخطاب في الآيات، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه إلى مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم، وبقصد الموعظة والهداية.
وبناء على هذا فلا نرى محلا ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.
هذا، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
(1) كلّا: حرف ردع وزجر. وقال المفسرون إنها في المقام الذي تأتي فيه بمعنى أيها الناس ارتدعوا وازدجروا فالأمر أعظم مما ظننتم. وقد وردت كثيرا ولا سيما في السور المبكرة في النزول الذي يشتد فيها الإنذار والتنبيه والتنديد ووردت كذلك في معرض التنديد والاستدراك والتثبيت وكثرة ورودها في القرآن تدل على أنها مما كان مستفيضا في أساليب الخطاب العربي.
(2) يطغى: يتجاوز الحد في العدوان والبغي.
(3) استغنى: ظن نفسه مستغنيا، أو رأى نفسه غنيا. والكلمة هنا بمعنى (رأى نفسه غنيا بماله) على ما عليه الجمهور. واستعملت الكلمة بمعنى (رأى نفسه غنيا عن مساعدة الغير فتمنع وتكبر) كما في آيات سورة عبس هذه: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) . وأصل معنى كلمة (غني) غير المحتاج سواء أكانت الحاجة مالا أو غيره. وقد وصف الله جلّ جلاله نفسه بها في آيات كثيرة.
(4) التقوى: الاتقاء من عذاب الله بصالح العمل.
(5) تولّى: ذهب دون أن يصغي للدعوة ويهتم لها.
(6) السفع: الأخذ أو الجذب بقوة، واللطم بشدة.
(7) الناصية: مقدم الوجه أو شعر الجبهة.
(8) ناديه: النادي: مجلس القوم، والمقصود أهل المجلس.
(9) الزبانية: الموكلون بالعذاب.
(10) اسجد: أمر بالسجود لله. والسجود هو وضع الجبهة على الأرض في معرض عبادة الله وتعظيمه والخضوع له.
(11) اقترب: تقرب إلى الله بالسجود.(1/318)
في هذه الآيات:
1- تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيرا منهم يتجاوزون الحدّ كبرا وبغيا حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم وقوة أنصارهم وعصبيتهم وشخصيتهم وأسلوب الآية التي وردت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.
2- تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.
3- تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذّب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصي عليه آثامه ومواقفه.
4- تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذّب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينته عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة.
وإذا دعا ناديه لنصرته فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.
5- تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته. فلا محلّ للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيما طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلا عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلّي عند الكعبة لأطأنّ على عنقه فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: لو فعل(1/320)
لأخذته الملائكة عيانا» «1» . ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال: «قال أبو جهل: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم- يريد على ما يظهر هل يصلّي ويسجد- قيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي فما فجئهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه فقيل له: ما لك، فقال: إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) إلى آخر السورة» «2» .
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا؟ فزبره النبي، فقال أبو جهل: إنّك لتعلم ما بها ناد أكثر منّي فأنزل الله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) . قال ابن عباس: (فو الله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله) «3» .
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجّحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحا من جملة ما قاله وفعله وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية (أبي جهل) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية
__________
(1) «التاج» ، ج 4 ص 262.
(2) انظر المصدر نفسه.
(3) انظر المصدر نفسه.
الجزء الأول من التفسير الحديث 21(1/321)
ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له: ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد؟ قال: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له: وأنا والذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ما سمعت:
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه «1» .
حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
علنية الدعوة في بدئها
والمشهد الذي احتوته الآيات والأحاديث المروية في صدده يدلّ بقوة على أن الدعوة بدأت علنية خلافا لما روي «2» أو لما هو مستقر في الذهن. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ يمارس صلاته الجديدة جهرة ويدعو الناس إلى الله وتقواه. وفي المشاهد المماثلة التي ظلت تذكر في السور العديدة المبكرة في النزول، مثل القلم والمزمل والمدثر والتكاثر والماعون والكافرون تأييد لذلك. وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الأحاديث التي تروي أقوال بعض أصحاب رسول الله مثل ما روي عن عمر في قصة إسلامه حيث سأل بعد إسلامه: «أنحن على حقّ أم باطل؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل على حقّ، فقال عمر: ففيم التخفي إذن؟» . ومثل ما روي عن ابن مسعود أنه قال: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين آمنين حتى أسلم عمر» «3» . إن النبي صلّى الله عليه وسلّم- حماية لأصحابه- كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم. غير أن دعوته للناس كانت
__________
(1) انظر «السيرة الحلبية» ، ج 1، ص 330 وما بعدها. وانظر تفسير آية سورة الحجر فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [94] في كتاب تفسير ابن كثير والبغوي بل وغيرهما من المفسرين.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر «سيرة ابن هشام» ج 1 ص 342 وما بعدها.(1/322)
وظلت جهرة. وهذا هو المعقول المتسق مع هدف الدعوة وإيمان النبي بالله ورسالته.
والمتبادر أن هذه الآيات قد نزلت بعد نزول الآيات الخمس الأولى بمدة ما، وبعد نزول جملة من القرآن تتضمن أمرا بالدعوة وشيئا من مبادئها وأهدافها. وبعد أن سار النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته شوطا ما، حيث أخذ يتصل بالناس ويدعوهم ويبشرهم وينذرهم ويتلو عليهم ما أوحي إليه من آيات القرآن وسوره ويصلي جهرة، فتصدى له الطاغية فنزلت منذرة منددة، مذكرة قارعة.
وإلحاق هذه الآيات بالآيات الخمس الأولى حيث تكونت شخصية السورة يدل على أن سور القرآن كانت تؤلف أولا فأولا، وعلى أن المشهد الذي احتوته لم يتأخر كثيرا. ولعله من أوائل مشاهد المناوأة للدعوة والتعرّض لصاحبها مما يدل عليه إلحاق آياته بأولى آيات القرآن نزولا.
موقف الزعامة من النبي وموقف النبي منها منذ البدء
وفي الآيات وبخاصة في الآيات [15- 19] تطمين وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء تعرض الزعيم الطاغية كما هو واضح، وقد ثبت فيه بدون ريب الطمأنينة والقوة والعزم على متابعة مهمته العظمى. ومما لا ريب فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تلا الآيات حتى وصلت إلى مسامع الطاغية، بل من المحتمل القوي أن يكون قذف بها في وجهه مباشرة.
وإذ يتصور المرء النبي صلّى الله عليه وسلّم يصرخ في وجه هذا الطاغية المعتدّ بماله وقوته وناديه صرخته المدوية تردادا لوحي الله: كلا كلا، ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية غير مبال بالزعامة وقوتها وهو من دون نصير من الناس ولم يكن قد آمن به من يستطيع له نصرا ويقف في جانبه يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها والتي استمدها من إيمان عميق مستول على(1/323)
مشاعره جعله لا يرى عظمة إلا لله ولا قوة إلا لله ولا سلطانا إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعا أو ضرا، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق وقوة الجنان وعمق اليقين، مما كان موضوع ثناء الله في آية القلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) .
وفي كل هذا أسوة يجب على المسلمين أن يتأسوا بها وبخاصة الدعاة إلى الإصلاح والمتعرضين للظلم والطغيان. لأن الله سبحانه أمرهم بأن يكون لهم في رسوله الأسوة الحسنة كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) .
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصدّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به، ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع. ولا شك في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تلا الآيات على أصحابه، فقوّت من روحهم وزادتهم إيمانا، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقتهم بعنفها وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي، وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزما على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
على أن جملة: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ تسوغ القول أن أبا جهل لم يكن وحيدا في موقفه من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيدا أن يكون تعبير «ناديه» قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحلّ والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة، فإذا صحّ هذا فإن من السائغ أن يقال إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم علنا بصلاة جديدة لا عهد للناس بها، وفي دعوته الناس جهارا إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها،(1/324)
وأنها عمدت إلى أحد أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشدّ حماسا ضدها من غيره فكان هو المتصدي.
وهكذا ينطوي في الآيات المبكرة جدا في النزول أولى صورة من صور مواقف زعماء مكة الشديدة المناوأة التي تكررت واستمرت إلى أن تمّ الفتح المكي. وأولى صورة من صور الردّ القرآني المبلغ للرسول والمعلن للناس من قبله على هذه المواقف التي تكررت وحكاها القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل.
وفي الرد القرآني المنطوي في آيات السورة تعليل لهذا الموقف وقد انطوى في الردود القرآنية مثل هذا التعليل أو ما يقاربه. وهو على الأكثر الاستكبار ومكر السيء والاستهتار والاعتداد بالمال والولد والحرص على التقاليد التي كانوا يستمدون منها قوة وجاها والحسد والاعتبارات الشخصية والأسرية. ومن ذلك آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ، وآيات سورة الزخرف هذه: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) ، وآيات سورة ص هذه:
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) .
وقد يعني هذا أن الزعماء الذين كان أكثرهم أغنياء وأولو عصبية في الوقت نفسه قد رأوا في الدعوة النبوية تحدّيا لهم وتهديدا لمركزهم وثرواتهم فانبروا إلى مناوأتها من أول أيامها، وأدى ذلك إلى نضال طويل مرير مختلف الصور والأشكال بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم مما شغلت حكايته وصوره حيزا كبيرا من القرآن وبخاصة المكي منه على ما سوف يأتي متواليا.(1/325)
تعليق على ما في الآيات كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
(7) من تلقين ثم من مدى ومغزى في صدد أهداف الرسالة الإسلامية وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حبّ المال والحرص عليه والتباهي به واعتباره عنوانا للكرامة وتنديدا بذلك مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلا عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضا على إطعام المساكين والتصدّق على الفقراء وتزكية المال والإنفاق في سبيل الله.
واحتوت في الوقت نفسه صورا عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي ودعوته إلى جانب الزعماء حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديدا لثرواتهم فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جدا واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى. وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه والدعوة إلى مساعدة المحتاجين خطورة إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.(1/326)
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم متساوقة مع كل ذلك أيضا شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
تعليق على كلمة الصلاة
وبمناسبة ورود كلمة «صلى» لأول مرة نقول: إن الصلاة تعني في اللغة الدعاء والبركة وقد جاءت بهذين المعنيين في القرآن كما يفهم من آيات سورة الأحزاب هذه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وإِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) ، ومن آية سورة التوبة هذه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، وتعني كذلك الشكل الخاص الذي يتعبد المتعبد به لمعبود، كما هي في هذه السورة وغيرها، والمعنيان متقاربان ولعلّ الأصل هو الأول، ولا سيما والعبادة هي الاتجاه للمعبود ودعاؤه.
وإطلاق كلمة الصلاة على الشكل الخاص من العبادة مطلقا ليس إسلاميا، بل كان كذلك قبل البعثة كما تدل عليه آية الأنفال هذه: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً «1» [35] ، حيث عبرت عما كان يؤديه المشركون من الطقوس الدينية عند الكعبة بكلمة الصلاة.
ومع أن الروايات تذكر «2» أن شكل الصلاة الإسلامية المعروف هو الشكل الذي أدّى به النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاته الأولى بتعليم الملك، فإن ورود تعابير الركوع والسجود والقيام في القرآن وتكليف المشركين بالسجود تارة، والركوع أخرى كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
__________
(1) المكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق على ما جاء في تفسير الزمخشري «الكشاف» .
(2) ابن هشام ج 1 ص 229 وما بعدها، و «السيرة الحلبية» ج 1 ص 263 وما بعدها.(1/327)
وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ، وفي آية سورة الحج هذه: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) ، وفي آية سورة الفرقان هذه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) ، وفي آية سورة المرسلات هذه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) ، يلهم أن هذه الأشكال كانت معروفة قبل البعثة وممارسة، كأشكال عبادة وصلاة، وكمظهر خضوع لله أو للمعبودات.
ولقد روى ابن هشام خبر أولى صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عزوا إلى ابن اسحق: «حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله ينظر إليه ليريه كيف الطهور إلى الصلاة ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل توضأ. ثم قام به جبريل فصلى به، فصلى رسول الله بصلاته ثم انصرف جبريل. فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله ثم صلّى بها كما صلى به جبريل» . وقال كذلك عزوا إلى ابن اسحق: «وحدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير وكان كثير الرواية عن ابن عباس قال: لما افترضت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل عليه السلام فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلّى به العشاء الأخيرة حين ذهب الشفق. ثم صلّى به الصبح حين طلع الفجر. ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله. ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلّى به العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل الأول، ثم صلّى به الصبح مسفرا غير مشرق. ثم قال: يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس» «1» .
__________
(1) ابن هشام ج 1 ص 244- 245.(1/328)
ولقد روى الترمذي وصاحباه حديثا عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه معظم ما جاء في هذا الحديث وهذا نصّه: «أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرّتين، فصلّى الظهر في الأولى منهما حينما كان الفيء مثل الشّراك، ثم صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ثم صلّى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلّى العشاء حين غاب الشّفق، ثم صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلّى المرّة الثانية الظهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه. ثم صلّى المغرب لوقته الأول، ثم صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلّى الصبح حين أسفرت الأرض، ثمّ التفت إليّ جبريل فقال: يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين» «1» .
ولقد روى الخمسة إلّا الترمذي عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزل جبريل فأمّني فصلّيت معه ثم صلّيت معه ثمّ صلّيت معه ثمّ صلّيت معه ثمّ صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات. زاد في رواية ثمّ قال بهذا أمرت» «2» .
وليس في هذه الأحاديث تعيين لوقت هذا التعليم والإمامة. ولكن ورود الإشارة إلى صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورة التي هي من أبكر ما نزل من القرآن قد يدل على أن ذلك كان عقب نزول أول وحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد يؤيد هذا ما جاء في حديث ابن اسحق الأول من مجيء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إلى بيته وتعليمه ما علمه إياه الملك لخديجة رضي الله عنها التي كانت أول من آمن به، والتي لم يكن بعد على ما هو محتمل مؤمنا به غيرها. وقد يؤيد ذلك أيضا أن الإشارة إلى الصلاة والدعوة إليها وخبر ممارستها قد ذكرت في سور أخرى مبكرة جدا في النزول مثل سور المزمل والمدثر والأعلى والشرح والكوثر. هذا في حين أن البخاري ومسلم والنسائي والترمذي يروون حديثا عن أنس جاء فيه: «فرضت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة
__________
(1) «التاج الجامع» ، ج 1، ص 125 و 126.
(2) المصدر نفسه.(1/329)
أسري به الصلوات خمسين ثم نقصت حتّى جعلت خمسا ثم نودي يا محمد إنه لا يبدّل القول لديّ، وإنّ لك بهذه الخمس خمسين» «1» .
والإسراء ذكر في سورة الإسراء بأسلوب قد يلهم أنه ذكر عقب وقوعه، وسورة الإسراء ليست من السور المبكرة في النزول بل يخمن أنها نزلت في أواخر الثلث الأول من العهد المكي. وهناك روايات تذكر أن الإسراء وقع في مثل هذا الظرف.
ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا عن عبد الله في سياق تفسير بعض الآيات الأولى من سورة النجم التي تروي بعض الأحاديث أنها في صدد مشاهد الإسراء والمعراج جاء فيه: «إنه لما بلغ رسول الله سدرة المنتهى قال: انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق، فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهنّ نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا» «2» .
وسورة النجم نزلت كذلك بعد عدة سور ذكرت فيها الصلاة مثل المزمل والمدثر والأعلى والشرح والكوثر والماعون.
وعلى هذا فإن الصلاة إما أن تكون غير مفروضة فرضا مستقرا وكانت تؤدى كمظهر من مظاهر العبادة لله تعالى وحسب قبل نزول سورتي النجم والإسراء أو قبل سورة النجم- لأن هناك احتمالا أن يكون الإسراء وقع قبل نزول سورة الإسراء بمدة ما وأن يكون ذكره في سورة الإسراء من قبيل التذكير به- إذا صح حديثا أنس وعبد الله رضي الله عنهما. وإما أن يتوقف في هذين الحديثين استئناسا بالآيات وبحديث ابن اسحق الأول. ويقال إنها كانت تمارس كفرض محدود الأوقات في عهد مبكر من البعثة النبوية وقبل الإسراء النبوي، والله تعالى أعلم.
__________
(1) «التاج» ج 1 ص 117.
(2) «التاج» ، ج 4 ص 221، المقحمات: الذنوب العظيمة. [.....](1/330)
وليس في القرآن مما يتصل بشؤون الصلاة والاستعداد لها إلّا إشارات في صدد الوضوء والاغتسال من الجنابة والتيمم بدلا منهما، واستقبال القبلة والأذان وتطهير الثياب والبدن وقصر الصلاة وصلاة الخوف وصلاة الجمعة شاءت حكمة التنزيل أن تشير إليها في مناسبات حادثة في بعض السور. أما كيفيات الصلاة وأوقاتها وأركانها وركعاتها والدخول فيها والخروج منها وما يقرأ ويدعى ويسبح فيها والنوافل المؤكدة وما يفعل في السهو فيها والعجز عن بعض كيفياتها وأركانها وما يكره فيها ... إلخ. فقد تكفلت ببيانها السنة النبوية القولية والفعلية على اختلاف في أسانيدها ورتبها حفلت بها وبشرحها كتب الحديث والفقه وتعددت المذاهب بسبب ما بها من اختلاف في النصوص مما لا يدخل تفصيله في منهاج التفسير وما صار متمما لتشريعها القرآني وجزءا منه وصار العمل بالثابت منه واجبا كما هو الشأن في كل ما سكت عنه القرآن أو جاء فيه غامضا أو مطلقا أو غير مستوف لكل جانب في مسألة من المسائل عملا بالمبدأ القرآني المنطوي في آية سورة النساء هذه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وآية سورة الحشر هذه:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وقد أوردنا من قبل بعض هذه الأحاديث ونورد فيما يلي طائفة منها مما ورد في الكتب الخمسة تحتوي صورا وسننا رئيسية مع التنبيه على أنها ليست كل ما ورد في هذه الكتب، فضلا عن أن هناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب الأحاديث الأخرى. من ذلك ما رواه الخمسة عن أبي هريرة: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد فدخل رجل فصلّى ثم جاء فسلّم على النبي فردّ النبيّ عليه السلام فقال: ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ. فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ فقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ ثلاثا. فقال: والذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره فعلّمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثمّ اركع حتى تطمئنّ راكعا ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائما ثمّ اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ثمّ ارفع حتى تطمئنّ جالسا ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها» . وزاد أبو داود: «فإذا فعلت هذا فقد تمّت صلاتك(1/331)
وما انتقصت من هذا شيئا فإنّما انتقصته من صلاتك» «1» .
وروى الخمسة أيضا عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «2» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام.
فقيل لأبي هريرة: إنما نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك» . وروى الخمسة عن عبد الله قال: «كنّا نقول في الصلاة خلف رسول الله: السلام على الله السلام على فلان، فقال لنا رسول الله ذات يوم: إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كلّ عبد لله صالح في السماء والأرض. أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله ثمّ يتخيّر من المسألة ما يشاء» .
وروى الخمسة عن كعب بن عجرة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في الصلاة:
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وروى الخمسة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اعتدلوا في السّجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» وروى أبو داود والترمذي عن حذيفة: «أنه صلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى» . وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجزىء صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود» . وروى أصحاب السنن
__________
(1) هذا الحديث وما نورده بعده من أحاديث منقولة من الجزء الأول من كتاب «التاج الجامع» ، انظر الصفحة 117 وما بعدها.
(2) هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء قرآنا غير الفاتحة.(1/332)
عن الحسن بن علي قال: «علّمني رسول الله كلمات أقولهنّ في قنوت الوتر: اللهمّ اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولّني فيمن تولّيت وبارك لي فيما أعطيت وقني شرّ ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت تباركت ربّنا وتعاليت» . وروى الخمسة إلّا مسلما عن عمران بن حصين قال: «كانت بي بواسير فسألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» . وروى الشيخان والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» . وروى أبو داود والنسائي والحاكم وأحمد والترمذي عن سبرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مروا الصبيّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» . وروى الخمسة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها لا كفّارة لها إلّا ذلك. أقم الصلاة لذكري» . وروى مسلم حديثا جاء فيه: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها» . وروى الترمذي والبيهقي والحاكم عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر» . وروى الخمسة عن عبد الله قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكبّر في كلّ خفض ورفع وقيام وقعود» .
وروى الخمسة عن ابن عمر قال: «رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم افتتح التكبير للصلاة فرفع يديه حين يكبّر حتى يجعلهما حذو منكبيه وإذا كبّر للركوع فعل مثله وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله وقال ربّنا ولك الحمد» . وفي رواية: «إذا قام من الركعتين رفع يديه ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود» . وروى مسلم وأبو داود حديثا جاء فيه: «كان النبيّ إذا كبر رفع يديه ثم التحف بثوبه ثم أخذ شماله بيمينه» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن علي قال: «كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة كبّر ثم قال وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ(1/333)
العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. اللهمّ أنت الملك لا إله إلّا أنت، أنت ربّي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلّا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلّا أنت، واصرف عني سيّئها لا يصرف سيّئها إلّا أنت، لبّيك وسعديك، والخير كلّه في يديك، والشرّ ليس إليك، وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» .
وروى أصحاب السنن عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة كبّر ثمّ يقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك، ثم يقول الله أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» .
وروى الترمذي وأبو داود عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربّي العظيم ثلاث مرات فقد تمّ ركوعه وذلك أدناه. وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تمّ سجوده وذلك أدناه» . وروى أصحاب السنن عن الفضل بن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلاة مثنى مثنى تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع وتضرّع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا ربّ يا ربّ ومن لم يفعل فهي خداج» .
وروى أبو داود والنسائي عن ابن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي فقال:
إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلّمني ما يجزئني منه، فقال: قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العظيم. قال: يا رسول الله هذا لله فما لي؟ قال: قل اللهمّ ارحمني وارزقني وعافني واهدني. فلمّا قام قال هكذا بيديه. فقال رسول الله: أما هذا فقد ملأ يديه من الخير» . وروى البخاري والنسائي وأبو داود عن عائشة قالت: «سألت رسول الله عن الالتفات في(1/334)
الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن أم حبيبة قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من عبد مسلم يصلّي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوّعا غير فريضة إلّا بنى الله له بيتا في الجنة» . وزاد الترمذي: «أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر» .
وروى الخمسة عن ابن عمر قال: «حفظت من رسول الله عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح» . وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن خارجة بن حذافة قال: «خرج علينا رسول الله فقال: إن الله قد أيّدكم بصلاة وهي خير لكم من حمر النّعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر» . وروى الأربعة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتّى لا يدري كم صلّى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس» . وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشّكّ وليبن على ما استيقن ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم فإن كان صلّى خمسا شفعن له صلاته وإن كان صلّى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان» .
وروى الخمسة عن أبي هريرة قال: «صلّى لنا رسول الله صلاة العصر فسلّم في ركعتين فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله: كلّ ذلك لم يكن، فقال: كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتمّ رسول الله ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم» . وروى الخمسة عن عبد الله: «أنّ رسول الله صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صلّيت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلّم. وفي رواية قال: أنا بشر(1/335)
مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون. ثم سجد سجدتي السّهو» . وروى الخمسة إلّا الترمذي عن أبي قتادة قال: «رأيت رسول الله يؤمّ الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي ابنة زينب بنت رسول الله على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها» وروى أصحاب السنن عن عائشة قالت: «جئت ورسول الله يصلي في البيت والباب مغلق فمشى حتى فتح لي ثمّ رجع إلى مكانه ووصفت الباب في القبلة» .
وروى الخمسة إلّا الترمذي عن عائشة قالت: «لقد رأيتني ورسول الله يصلّي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمز رجليّ فقبضتهما» . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن سهل بن سعد عن النبي قال: «من نابه شيء في صلاته فليسبّح فإنّه إذا سبّح التفت إليه» . وروى البخاري ومسلم عن عائشة: «أنّ رسول الله كان يصلّي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس» .
وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . وروى الخمسة إلّا أبا داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة» . وروى أصحاب السنن وأحمد عن أبيّ بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحبّ إلى الله عزّ وجلّ» . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن نافع عن ابن عمر «أن رسول الله كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول ألا صلّوا في الرّحال» .
وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتّباعه عذر لم تقبل منه الصلاة التي صلّى. قالوا وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» .
وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن مالك بن الحويرث قال: «قال لنا رسول الله إذا حضرت الصلاة فأذّنا ثمّ أقيما وليؤمّكما أكبركما، ولأبي داود، ليؤذّن لكم خياركم وليؤمّكم قرّاؤكم» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يؤمّ القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم(1/336)
بالسّنة فإن كانوا في السّنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمّنّ الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلّا بإذنه» .
وروى أصحاب السنن عن مالك في الحديث قال: «سمعت رسول الله يقول من زار قوما فلا يؤمّهم وليؤمّهم رجل منهم» . وروى الخمسة عن أبي مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ منكم منفّرين فأيّكم صلّى بالناس فليتجوّز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء» .
وروى أبو داود والحاكم وابن خزيمة وصححه عن عبد الرحمن بن خلّاد:
«أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يزور أمّ ورقة في بيتها فاستأذنته في مؤذّن فجعل لها مؤذّنا وأمرها أن تؤمّ أهل دارها» . وروى البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال: «لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضعا بقباء قبل قدوم النبيّ كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا» . وروى أبو داود وأحمد عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلف ابن أمّ مكتوم يؤمّ الناس وهو أعمى» . وروى أبو داود والدارقطني حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «الصلاة المكتوبة واجبة خلف كلّ مسلم برّا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا كبّر فكبّروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهمّ ربّنا لك الحمد. وإذا صلّى قائما فصلّوا قياما وإذا صلّى قاعدا فصلّوا قعودا أجمعين» . وروى الطبراني عن أبي بكرة أنه ركع دون الصف فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زادك الله حرصا ولا تعد صلّ ما أدركت واقض ما سبقك» «1» .
وروى الطبراني عن ابن مسعود في الذي يفوته بعض الصلاة مع الإمام قال:
«يجعل ما لا يدرك مع الإمام آخر صلاته» «2» . وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام
__________
(1) عن «مجمع الزوائد» ج 1 ص 76. ويفيد الحديثان أن على من يدرك الإمام وقد صلى بعض الركعات أن يتمم ما فاته منها بعد انتهاء الإمام من صلاته.
(2) المصدر نفسه.
الجزء الأول من التفسير الحديث 22(1/337)
والمقبرة» . وروى الترمذي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يصلّى في سبع مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمّام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله الحرام» . وروى النسائي وأحمد وابن ماجه عن عمر قال: «صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تماما ليس بقصر على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم» .
وروى أبو داود وأحمد والترمذي عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكبّر في الفطر والأضحى. في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمسا» . ولفظ الترمذي:
«كان النبي يكبّر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الآخرة خمسا قبل القراءة» . وروى الخمسة إلّا الترمذي عن جابر قال: «شهدت العيد مع رسول الله فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثمّ قام متوكّئا على بلال فأمر بتقوى الله وحثّ على طاعته ووعظ الناس وذكّرهم» . وروى النسائي عن أبي رمثه قال:
«رأيت النبي يخطب وعليه بردان أخضران» وروى أصحاب السنن عن ابن عباس:
«أن رسول الله خرج في الاستسقاء متبذّلا متواضعا متضرّعا حتى أتى المصلّى فرقى المنبر فلم يخطب خطبكم هذه ولكن لم يزل في الدّعاء والتضرّع ثم صلّى ركعتين كما يصلّي في العيد» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أوصاني خليلي بثلاث بصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر وركعتي الضّحى وأن أو تر قبل أن أنام» .
وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الصّيام بعد رمضان شهر الله الحرام وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» . وروى الترمذي وأحمد والحاكم عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربّكم ومكفرة للسّيئات ومنهاة للإثم. وفي رواية ومطردة للدّاء عن الجسد» .
وروى الخمسة عن ابن عمر: «أنّ رجلا قال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟
قال: مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة» . وروى مسلم عن عائشة قالت:
«لما بدّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثقل كان أكثر صلاته جالسا» . وروى الخمسة عن جابر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلّها، كما يعلّمنا السورة من(1/338)
القرآن يقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثمّ ليقل اللهمّ إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب. اللهمّ إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسّره لي ثمّ بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عنّي واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال ويسمّي حاجته» .
وروى الخمسة عن زيد بن أرقم قال: «كنّا نتكلّم في الصلاة يكلّم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصّلاة حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة/ 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» . وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» . وروى الخمسة إلّا الترمذي عن ابن عمر: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يركز له الحربة فيصلّي إليها» . وروى أبو داود وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم يكن معه عصا فليخطط خطا ثمّ لا يضرّه من مرّ أمامه» . وروى الخمسة عن أبي جهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمرّ بين يديه- قال أبو النضر أحد رواة الحديث- لا أدري قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة» .
وهناك أحاديث كثيرة أخرى في طهارة الثياب والوضوء والغسل من الجنابة ونظافة البدن والمياه وستر العورة والقبلة وصلاة الخوف والسفر والجمعة والميت والأذان والإقامة والمساجد مما له صلة بالصلاة سنورد الرئيسي منها في سياق إشارات وردت إليها في سور أخرى.
هذا، والصلاة في أصلها تمجيد وتسبيح وابتهال لله تعالى وأداء حقه من العبادة وطلب الرحمة والهدى منه. والصلاة الإسلامية من أكمل أشكال ذلك،(1/339)
حيث توجب على المسلم أن يستعد لها بطهارة البدن والثوب ثم يدخل فيها متفرغا لله وحده بعبارة الله أكبر التي تعني التحرر من الغير وتقرير الكبرياء والعزّة والقوة لله وحده. ويكرر هذه العبارة عند كل حركة من حركات القيام والركوع والسجود والجلوس، ويتلو في مفتتح كل ركعة سورة الفاتحة التي تقرر الحمد لله رب العالمين، وتعلم إعلان الخضوع والعبادة له وحده وطلب الرحمة والهداية والعون منه وحده، ويركع ويسجد في كل ركعة مسبحا في ركوعه وسجوده باسم الله العظيم الأعلى.
ولقد أسبغ القرآن على الصلاة خطورة عظمى فجعلها من عناوين الإيمان والتقوى المتلازمة معهما كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ، ونوّه بالمؤمنين الذين يقيمونها باستمرار وخشوع كما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) ، ووَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) ، ووصفها بأنها كتاب، أو فرض معين الأوقات يجب أداؤها فيها على أي حال وفي أي ظرف ولو في ظرف القتال والحرب، كما جاء في آيات سورة النساء هذه: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) .(1/340)
وجريا على العادة القرآنية في بيان فوائد أوامر الله ونواهيه في الدنيا والآخرة معا نبه في أكثر من آية إلى ما تؤدي إليه الصلاة من نتائج عظيمة خلقية وروحية واجتماعية مثل ما جاء في آية سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) ، وفي آية سورة العنكبوت هذه: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) ، وفي آيات سورة المعارج هذه: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ
(34) . ولقد أمر الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بمعالجة ما كان يلم به من أزمات بالصلاة، ومن ذلك ما جاء في الآية الأخيرة من سورة العلق التي نحن في صددها، حيث أمرته بأن لا يأبه للطاغية المتصدي له، وبأن يسجد لله ويتقرب إليه حيث يجد في ذلك أمنه وطمأنينته.
ومن ذلك ما جاء في سورة الشرح: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) ، ومن ذلك آيات سورة الحجر هذه:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا موجه للمسلمين، وقد خوطبوا بذلك فعلا في آية سورة البقرة [153] التي أوردناها آنفا.
ولقد أثرت أحاديث نبوية كثيرة في فضل الصلاة وثوابها ورد كثير منها في(1/341)
كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن الصنابحيّ حديثا جاء فيه: «أشهد أنّي سمعت رسول الله يقول: خمس صلوات افترضهنّ الله عزّ وجلّ، من أحسن وضوء هنّ وصلّاهنّ لوقتهنّ وأتمّ ركوعهنّ وخشوعهنّ كان له على الله عهد أن يغفر له» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أبي قتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عزّ وجلّ إني افترضت على أمتك خمس صلوات وعهدت عندي عهدا أنّه من جاء يحافظ عليهنّ لوقتهنّ أدخلته الجنة ومن لم يحافظ عليهنّ فلا عهد له عندي» «2» وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كلّ يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء. قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا» «3» وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربّهم وهو أعلم بهم:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون وأتيناهم وهم يصلّون» «4» .
وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفّارات لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر» «5» . وروى مسلم حديثا عن عمرو بن سعيد جاء فيه: «كنت عند عثمان فدعا بطهور فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلّا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كلّه» «6» .
__________
(1) «التاج» ، ج 1 ص 118.
(2) المصدر نفسه، ج 1، ص 118- 119.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(1/342)
وبهذا يتسق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو الشأن في كل أمر على ما سوف يأتي إيراده في مناسباته.
ومما لا ريب فيه أن الصلاة بإيمان وقلب وذكر وخشوع تجعل المصلي لا يفكر إلا في الله وعظمته، فتتحرر نفسه من كل خوف وقلق، ويشعر بالطمأنينة والقوة المعنوية، فتهون لديه كل خطوب الدنيا، ولا يعود يرى كبيرا إلا الله ولا قويّا إلّا الله ولا ضارّا ولا نافعا إلّا الله. ثم تجعله يستحيي من التلبس بالنفاق والكذب إذا ما خالف بين باطنه وظاهره وقوله وعمله، بينما هو يتهيأ من آن لآخر للوقوف بين يدي الله تعالى، فينتهي كما ذكرت آية سورة العنكبوت عن الفحشاء والمنكر، ويتطهر من الهلع والجزع ويتحلى بالصفات الكريمة الفاضلة كما ذكرت آيات سورة المعارج حقا وصدقا.
وعلى هذا فيسوغ القول إن الصلاة التي لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ولا تجعله يتحلى بفاضل الأخلاق ويعمل صالح الأعمال لا تكون صحيحة. وهذا ما عبرت عنه أحاديث عديدة مروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» منها: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» . ومنها: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بعدا» ومنها: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة.
وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر» .
هذا، وهناك أحاديث نبوية تسجل عظيم إثم تارك الصلاة حتى لتعتبره مرتدا وكافرا منها حديث رواه مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن جابر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» «2» . وحديث رواه الترمذي عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن شقيق قال: «كان أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) انظر تفسير الآية [45] من سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير.
(2) «التاج» ، ج 1 ص 124- 125.(1/343)
لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» «1» .
وننبه على أن مسألة كفر تارك الصلاة من المسائل الخلافية فهناك من الأئمة من أخذ بظاهر الأحاديث فاعتبر تارك الصلاة كافرا مرتدا يستتاب فإن لم يتب يقتل وفقا للتشريع النبوي الذي شرع قتله في حديث رواه الخمسة جاء فيه «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «2» . وهناك من تأول الأحاديث فذهب إلى أن الكفر والارتداد إنما يكونان بسبب جحود واجب الصلاة فقط. ويكون تاركها كسلا فاسقا مرتكبا إحدى الكبائر. ومهما يكن من أمر فالأحاديث تنطوي على تعظيم الصلاة وتفظيع إثم تاركها.
ولقد سألني سائل عن كيفية تعبّد النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء في اعتكافاته، قبل بعثته التي جاء ذكرها في الحديث الذي أوردناه قبل. وجوابا على السؤال قلنا إن القيام والركوع والسجود كأشكال للعبادة كانت معروفة وممارسة على ما تلهمه بعض آيات القرآن وهو ما ذكرناه قبل. وفي آيات سورة الحج [25/ 26] وسورة البقرة [124/ 125] التي أوردناها قبل أمر إبراهيم بتطهير بيت الله للقائمين الركع السجود. ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في جماعة أنفوا أن يسيروا في طريق الشرك ودين الجاهلية وكانوا ينشدون ملة إبراهيم. ولقد روي عن زيد بن عمرو أحد هؤلاء أنه كان يسجد في فناء الكعبة ويهتف قائلا: «لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم، إنني لك عان راغم. مهما تجشمني فإني جاشم» «3» . ولقد أمر الله نبيه بعد أن بعثه أن يقول: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) [الأنعام/ 161- 163] ، حيث يمكن
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) «التاج» ج. 3 ص 17. [.....]
(3) انظر «أسد الغابة» ج 2 ص 178.(1/344)
القول على ضوء ذلك أن من الجائز أن يكون تعبّد النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء قائما راكعا ساجدا داعيا لله مسبحا مقدسا ذلك غير أنه لا يمكن القول بجزم أنه كان يصلي بالصلاة الإسلامية المعروفة بحذافيرها لأن الآثار التي أوردناها تفيد أن هذه الصلاة كانت من تعليم جبريل بعد الوحي والله تعالى أعلم.
ومن الجدير بالذكر أن الصلاة الإسلامية المفروضة والنافلة على السواء، غير مقيدة بمكان وإمامتها غير منوطة بما يعرف في الملل الأخرى بطبقة الكهنوت ورجال الدين. فكل مكان طاهر ليس محلا للمناظر الكريهة يصح أن يكون مكانا لصلاة المسلم. وكل مسلم مهما كانت مهنته وصفته ولونه وجنسه يصح أن يؤمّ غيره إذا كان يحسن قراءة القرآن ويعرف سنن الصلاة، ولقد روي في صدد هاتين المسألتين أحاديث في الكتب المعتبرة. ففي صدد المسألة الأولى روى أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمام والمقبرة» «1» وروى الترمذي عن ابن عمر «أنّ رسول الله نهى أن يصلّى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمّام ومعاطن الإبل وفوق ظهر البيت الحرام» «2» . وروى الخمسة إلّا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب وأحلّت إليّ الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» «3» .
تعليق على آية أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى
وبمناسبة ورود هذه الآية لأول مرة نقول: إن القرآن احتوى آيات كثيرة، نسبت فيها الرؤية والسمع إلى الله تعالى، وإنه دار جدل وتشاد بين علماء الكلام
__________
(1) «التاج» ج 1 ص 219- 220.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 205.(1/345)
حول ذلك من حيث إنه إنما يحدث من أعضاء السمع والبصر، وما إذا كان لله سبحانه مثل هذه الأعضاء أم لا. وخير المذاهب في هذا الموضوع وأمثاله هو مذهب الصدر الإسلامي الأول، وهو عدم الخوض في الكيفيات وعدم التشاد والجدل حولها، مع تنزيه الله سبحانه عن كل مماثلة لخلقه وملاحظة الضابط القرآني المحكم المنطوي في آية سورة الشورى وهو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [11] ، واعتبار أن المقصود بذلك وصف الله عز وجل بشمول العلم والإحاطة بكل شيء والقدرة على كل شيء والهيمنة الكاملة على الكون وما فيه من كائنات والتصرف المطلق فيه واتصافه بكل صفات الكمال. والمتدبر في نصف آية الشورى المذكورة والآية التالية لها يرى تأييد هذا قويا، وهذا نص الآيتين: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) .
تعليق على كلمة (التقوى) وما ينطوي فيها من تلقين وأهداف جليلة
وبمناسبة ورود كلمة (التقوى) لأول مرة في السورة نقول إن الأمر بالتقوى والحثّ عليها والتنويه بالمتقين ووعد الله لهم بالغفران وتوسيع الرزق والهداية إلخ قد تكرر في القرآن كثيرا حتى لقد بلغ عدد الآيات التي وردت فيها الكلمة ومشتقاتها نحو مئتين وخمسين مرة مما يدل على مبلغ العناية القرآنية بذلك.
والكلمة في أصل معناها وقصدها التوقّي من غضب الله وسخطه باجتناب نواهيه واتباع أوامره. وهو لا يأمر إلّا بما فيه خير للإنسان والإنسانية. ولا ينهى إلّا عما فيه ضرر لهما. وبعبارة أخرى أن المقصد أو الهدف المتوخى من الأمر بالتقوى والحثّ عليها هو إصلاح الإنسان وتوجيه المسلم إلى كل ما فيه الخير(1/346)
وإشعاره بالخوف من الله عز وجل وجعله يتجنب كل ما فيه شرّ وضرر.
وفي القرآن آيات عديدة تضمنت تقرير وجوب تلازم التقوى مع الإيمان مثل آيات سورة يونس هذه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) . وآية سورة الأعراف هذه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) ، وآية سورة البقرة هذه: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) ، وآية سورة المائدة هذه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) .
حيث يتضمن هذا تقرير كون الإيمان وحده لا يكفي لنجاة الإنسان إذا لم يرافقه عزم على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه وممارسته لذلك أو بعبارة أخرى تقرير كون الإيمان هو أمر في سريرة الإنسان لا دليل عليه إلّا التقوى التي تحمل المؤمن على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
وفي القرآن آيات عديدة تضمنت تقرير الفوائد المتنوعة التي ييسرها الله للمتقين مثل آيات سورة الطلاق هذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) ، وهذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ، وهذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) ، وآية سورة هود هذه: إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) ، وآية سورة الأنفال هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) ، وآية سورة الزمر هذه: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) ، وآية سورة الحديد هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(1/347)
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(28) .
ويبدو هذا ظاهر الحكمة لأن المتقي يكون قد تجنب العثرات والمواقف الضارة المؤذية فأمن شرها وحظي بما يكون فيه الأمن والسلامة والنفع والخير والسداد والتوفيق والنجاح والنجاة في دنياه وأخراه. ولهذا كله حثّ القرآن على التقوى واعتبرها خير زاد يتزود بها المؤمن- والزاد لا بد منه لدوام الحياة مما يفهم ضرورته ذوو العقول النيرة- كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) ، ونبّه على أن أولياء الله هم المتقون كما جاء في آيات سورة يونس [62/ 63] التي أوردناها قبل قليل. وقرر أن الله هو ولي المتقين كما جاء في آية سورة الجاثية هذه: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) ، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم كما جاء في آية سورة الحجرات/ 13 وجعل قبول دعاء الداعين وعبادة العابدين منوطا بالتقوى كما جاء في آية سورة المائدة هذه: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) ، وكرر تقرير محبة الله للمتقين في آيات عديدة منها آية آل عمران هذه: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) «1» ، وأنه مع الذين اتقوا كما جاء في سورة النحل:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) ، وأنه ينجي الذين اتقوا كما جاء في آية سورة الزمر هذه: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) «2» ، وفي سورة البقرة آية فيها جماع الفضائل الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية وصف المتصفون بها بالمتقين وهي: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ
__________
(1) لهذه الآيات أمثال أخرى فاكتفينا بمثل واحد.
(2) المصدر نفسه.(1/348)
وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) .
حيث يبدو من كل ذلك كما قلنا عناية الله الجليلة وحكمة التنزيل السامية بإصلاح المسلم وتوجيه إلى أحسن الوجهات التي فيها خيره وخير الإنسانية وسعادته في الدنيا والآخرة.
تعليق على مدى جملة: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ وما بعدها
وجملة: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ وما بعدها، تفتح الباب للكافر والمجرم والمنحرف للتراجع والأمل بعفو الله ومغفرته على سابق أفعاله. وتجعل العقوبة المنذر بها مستحقة عليه إذا أصرّ على كفره وإجرامه وانحرافه ولم ينته ولم يتراجع عنه.
ولقد انطوى هذا المعنى في آيات كثيرة جدا مكية ومدنية كثرة تغني عن التمثيل. بحيث يقال إن الإنذارات القرآنية إنما استهدفت في الدرجة الأولى تنبيه الكفار والمنحرفين والمجرمين وردعهم وصلاحهم وحملهم على التراجع والانتهاء من كفرهم وانحرافهم وإجرامهم. وفي هذا ما فيه من روعة وحكمة سامية وتلقين مستمر المدى.
تعليق على سنّة سجود التلاوة في مناسبة الآية الأخيرة من السورة
هذا وهناك أحاديث عديدة تقرر سنة نبوية بالسجود عند تلاوة عدد من الآيات فيها أمر بالسجود لله أو خبر باستكبار الكفار عنه. من جملة ذلك سنة:(1/349)
السجود عند تلاوة آخر سورة العلق حيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا جاء فيه: «سجدنا مع رسول الله في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق/ 1] ، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق/ 1] » .
ومن الأحاديث المروية في الموضوع عامة حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله، وفي رواية يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» .
وحديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر جاء فيه: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ علينا القرآن فإذا مرّ بالسجدة كبّر وسجد وسجدنا معه» «1» .
وفي المصحف الذي اعتمدنا عليه إشارة إلى أربع عشرة سجدة هي آيات الرعد [15] والنحل [49] والإسراء [107] ومريم [58] والحج [18 و 77] والفرقان [60] والنمل [25] والسجدة [15] وص [24] وفصلت [37] والنجم [62] والانشقاق [21] والعلق [18] . وفي بعض هذه السجدات أحاديث دون بعض. ولقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص حديثا قال فيه: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرأني خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصّل وفي سورة الحجّ سجدتان» «2» . وروى الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء حديثا جاء فيه: «سجدت مع رسول الله إحدى عشرة سجدة منها التي في النجم» «3» . وروى أبو داود حديثا مرفوعا جاء فيه: «قرأ رسول الله وهو على المنبر (ص) ، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّما هي توبة نبيّ ولكنّي رأيتكم تشزّنتم للسجود فنزل
__________
(1) «التاج» ج 1 ص 198 وما بعدها.
(2) التاج ج 1 ص 198 وما بعدها.
(3) المصدر نفسه.(1/350)
فسجد وسجدوا» «1» . وهذا بالإضافة إلى حديث أبي هريرة الذي ذكر في سجدتي الانشقاق والعلق. وما بقية السجدات فهي على ما يبدو من تنبيهات المفسرين اجتهادية جريا على قاعدة ذكرها الزمخشري في سياق آية سورة النمل [25] حيث قال إن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها. ثم قال:
إن أبا حنيفة والشافعي رحمهما الله اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة وإنما اختلفا في سجدة (ص) وسجدتي (النحل) .
ولقد روى الخمسة عن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والنجم فلم يسجد فيها» وروى البخاري عن ربيعة بن عبد الله قال: «قرأ عمر بن الخطاب على المنبر يوم الجمعة بسورة النحل فلما جاء السّجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها فلما جاء السّجدة قال يا أيّها النّاس إنما نمرّ بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر» وروى البخاري حديثا عن ابن عمر جاء فيه: «إن الله لم يفرض علينا السجود إلّا أن نشاء» .
ويلحظ أن السجدات جميعها في سور مكية وقد كان العهد المكي بنوع خاص عهد نضال وتشاد مريرين بين التوحيد والشرك والإيمان والكفر وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكفار العرب وفي مقدمتهم زعماء مكة. حيث يلمح من ذلك حكمة السنة النبوية التي فيها علامة الاستجابة السريعة من أهل الإيمان إلى السجود إلى الله عز وجل عند كل مناسبة ورد وتحد عمليان على الكفار بسبب استكبارهم وعنادهم.
تعليق على الأحاديث الواردة في صدد فضل قراءة السور القرآنية
هذا، ولقد أورد الزمخشري في آخر تفسير هذه السورة حديثا معزوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» .
__________
(1) المصدر السابق نفسه.(1/351)
وننبّه بهذه المناسبة على أن الزمخشري يورد في آخر كل سورة بدون استثناء حديثا من هذا الباب «1» . وقد نبّه ابن حجر الذي اضطلع بتخريج أحاديث هذا المفسر على ضعف رواة هذه الأحاديث وانقطاعها عن رسول الله، والمتبادر أن في هذا الحق والصواب. وقد جعلنا هذا نكتفي بإيراد حديث هذه السورة كمثال والتنبيه على ما نبه عليه ابن حجر.
على أننا ننبه على أن هناك أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة بالتنويه ببعض السور. ومن ذلك الأحاديث التي أوردناها في سورة الفاتحة.
وسنورد ما كان من هذا الباب في سياق السور التي جاءت في صددها.
__________
(1) هذه بعض نماذج أخرى من هذه الأحاديث:
1- من قرأ لَمْ يَكُنِ كان يوم القيامة مع خير البرية.
2- من قرأ سورة الشمس فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر.
3- من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام.
4- من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء له يوم القيامة.
5- من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه.
6- من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطي عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا والنصوص بينة لا تكاد تبقي شبهة في النفس بأنها موضوعة مكذوبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(1/352)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
سورة القلم
في السورة تثبيت وتطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وثناء عليه وحملة على المكذبين وإنذار لهم، وصور لمواقفهم من الدعوة. وفيها قصة جاءت في معرض التذكير والإنذار كما فيها إشارة إلى قصة يونس في معرض تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومضمون الآيات الأربع الأولى منها والتالية لها يحتمل أن تكون الآيات الأربع نزلت لحدة، وأن تكون بقية الآيات نزلت بعد مدة ما، كما يحتمل أن تكون جميعها نزلت دفعة واحدة. وترتيبها كثانية السور نزولا هو بناء على احتمال نزول الآيات الأربع لحدتها. وعقب آيات سورة العلق الخمس الأولى. فإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحا وكانت الآيات الأربع وما بعدها قد نزلت معا، فلا يكون ترتيبها هذا صحيحا والحالة هذه، ويقتضي أن تكون نزلت متأخرة بعض الشيء. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [17- 33] و [48- 50] مدنيات. وأسلوبها ومضمونها يلهمان عدم صحة ذلك.
وآيات السور منسجمة في موضوعها وتسلسلها وسبكها. وهذا يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة، مع ملاحظة ما ذكرناه في صدد آياتها الأربع الأولى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
الجزء الأول من التفسير الحديث 23(1/353)
(1) يسطرون: من سطر بمعنى كتب.
(2) المنّ: يأتي في القرآن واللغة في معان عديدة. منها القطع، ومنها الإنعام والتفضل. ومنها تعداد النعم في مقام التذكير بالجميل. وجملة غير ممنون هنا بمعنى غير مقطوع على ما عليه الجمهور.
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيها:
قسم بالقلم وما يكتب الناس به على سبيل التوكيد بأن عناية الله ونعمته شاملتان له، وأنه ليس مجنونا، وأن له أجرا دائما من الله على قيامه بمهمته العظمى وما يتحمله في سبيلها، وأنه على خلق عظيم أهّله لاصطفاء الله وعنايته.
وفي كتب التفسير أقوال عديدة في مدلول حرف (ن) . في بعضها إغراب وخيال. فمن ذلك ما ورد في تفسير ابن عباس الذي يرويه الكلبي عن أبي صالح أنه السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور الصخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلّا الله وأن اسم السمكة ليواشي أو ليوتي واسم الثور يهبموت أو يلهوي. وقد ورد في التفسير نفسه إلى هذا إنه اسم من أسماء الله أو إنه الدواة. وهذه الأقوال الثلاثة مروية في كتب تفسير أخرى مثل كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم عن ابن عباس أو (الرواة) أو كعب الأحبار. وفي الرواية الأولى في تفسير البغوي زيادات أكثر غرابة وخيالا معزوة إلى (الرواة) نرويها كنموذج مستغرب أكثر المفسرون السابقون من إيراد أمثاله على هوامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية عزوا إلى الأخباريين من أصحاب وتابعين الذين تذكر أسماؤهم أحيانا وتغفل أحيانا حيث جاء فيها: «لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتق إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع حتى خبطها فلم يكن(1/354)
لقدميه موضع قرار فأهبط الله عليه من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة من الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة ألف عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه. وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا فإذا تنفس مدّ البحر وأزبد. وإذا ردّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ [لقمان/ 16] ولم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسمه خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة يقل الدنيا كلها بما عليها حرفان من كتاب قال لها الجبار كوني فكانت.
ويستمر البغوي في سياقه فيقول: وقال كعب الأحبار إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس له فقال له أتدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو تنفثهم ألقيتهم عن ظهرك. فهم لوثيا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت. قال كعب: فو الذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه، إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت ...
وفي كتب التفسير بالإضافة إلى هذه الروايات والأقوال أحاديث معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. سنورد نصوصها بعد قليل في واحد منها أن النون هو الحوت. وفي واحد منها أنه الدواة. وفي واحد منها أنه لوح من نور. وفي الآيات الأخيرة من السورة إشارة إلى يونس عليه السلام بوصفه صاحب الحوت على ما سوف نشرحه بعد. وفي سورة الأنبياء آية فيها إشارة أخرى إلى يونس عليه السلام بوصفه ذي النون: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [87] ، حيث يمكن أن يكون كون (النون) اسما للحوت الذي ذكر صاحبه(1/355)
في آخر السورة واردا وربط ذلك أول السورة بآخرها. وفي هذا إن صح صورة من صور النظم القرآني. وجملة وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ قد تجعل كون (النون) اسما للدواة واردا أيضا للتناسب الظاهر. وتعدد السور التي تبتدئ بحرف أو حروف هجائية يتبعها قسم قد يجعل القول إن حرف النون مثلها واردا أيضا، وقد يكون ما احتوته الآيات الخمس الأولى من سورة العلق أول القرآن نزولا وما احتواه مطلع السورة من مماثلة موضوعية، حيث أمر في الأولى بالقراءة ونوه بالقلم وما علمه الله للإنسان وحيث أقسم في الثانية بالدواة والقلم والكتابة. وهي يَسْطُرُونَ مع حديث أبي هريرة الذي فيه تفسير نبوي للنون بالدواة والذي لا مانع من صحته كل هذا يجعل الرجحان لهذا أكثر.
وإذا صح هذا الترجيح فيكون مطلع السورة الذي من المحتمل أن يكون نزل بعد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق توكيدا لما احتوته هذه الآيات الخمس في صدر تلقين القرآن منذ بدء تنزيله بخطورة القراءة والكتابة والعلم والتعليم في حياة الإنسان وكرامته.
استطراد إلى ما عرف في كتب التفسير بالإسرائيليات وتعليق عليها
وسياق الرواية الطويلة التي نقلناها عن البغوي معزوة إلى (الرواة) يفيد أن كعب الأحبار هو المعني بالرواة أو هو منهم. وهذا الرجل من اليهود الذين أسلموا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه الراشدين واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد روى عنه وعن رفاقه مثل عبد الله بن سلام ومحمد القرظي وثعلبة ونوف البكالي وأبناء منبه روايات كثيرة على هامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية فيها مثل ما في هذه الرواية من إغراب وخيال. وقد وصفها علماء المسلمين بالإسرائيليات التي تتضمن معنى التشكيك وعدم الثقة فيها.
ولقد كان عند اليهود أسفار وقراطيس فيها شرائعهم وأخبار أجدادهم(1/356)
وأنبيائهم وأخبار ما قبلهم من خلق وتكوين وأنبياء وأحداث. وقد استطاعوا قبل البعثة أن يوجدوا في نفوس العرب فكرة كونهم أصحاب علم في شؤون الدين والدنيا المتنوعة. وكانوا هم يتبجحون بذلك وينسبون كثيرا مما يحدثون به العرب إلى كتب الله على ما أشارت إليه آيات قرآنية كثيرة في سورتي البقرة وآل عمران «1» . فلما أسلم من أسلم منهم بعد البعثة صار المسلمون في الصدر الإسلامي يسألونهم عن تفصيل ما ورد مجملا في القرآن من قصص وأعلام ومشاهد وأحداث واصطلاحات فيفيضون لهم عنه. وكانوا يفيضون بذلك بدون سؤال أيضا إذا ما وقعت المناسبة. ولقد روى البخاري عن أبي هريرة حديثا جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا [136] ، إلى آخر الآية من سورة البقرة» «2» .
فكان الرواة يتلقون ما يذكره هؤلاء ويروونه إلى غيرهم. إلى أن بدأ التدوين فصارت بياناتهم تدون في الكتب الأولى ثم تنقل منها إلى كتب أخرى. ولم يكن للمفسرين اطلاع على الأسفار بلغاتها ولم يتيسر لهم ترجمات لها فصاروا يدونون ما يروى لهم على علاته التي منها الكثير من الإغراب والخيال والمفارقة.
ولقد شغلت الإسرائيليات حيزا كبيرا جدا من كتب التفسير وكان كثير منها مملوءا مثل الرواية التي أوردناها بالإغراب والخيال برغم احتمال كون شيء قليل أو كثير مما كانوا يدلون به واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وليس كل ما كان في أيديهم من أسفار وقراطيس صحيحا في مجمله أو تفصيله.
ولقد كان لتداول الرواة لهذه البيانات وتدوينها في كتب التفسير وشغلها منها حيزا كبيرا بل الحيز الأكبر أثر قوي في التغطية على ما في القرآن من مبادئ وأحكام وتلقينات ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والنور
__________
(1) «التاج» ، ج 4 ص 43.
(2) المصدر نفسه.(1/357)
والموعظة والفرقان حينما يريد المسلم أن يقرأ القرآن مفسرا في أحد هذه الكتب ثم في استغراق المسلمين في هذه البيانات بقصد استقصاء جزئيات القصص والأعلام والمشاهد والاصطلاحات القرآنية حتى صارت وما تزال أسئلتهم لمن يشتغل بالقرآن من العلماء عنها في الدرجة الأولى دون الأهداف والمحكمات القرآنية بحيث يقال بحق إنها شوشت على القرآن وأذهان المسلمين.
ويحمل الباحثون اليهود الرواة مسؤولية ذلك. ومنهم من يرى أنهم قصدوا إليه قصدا كيدا للإسلام واستغفالا للمسلمين. وقد يكون في هذا القول شيء من الحق. غير أننا نرى أن الرواة الأولين من المسلمين ثم المدونين الذين دونوا رواياتهم لأول مرة ثم الذين نقلوا عن هؤلاء يتحملون كذلك مسؤولية مثلهم إن لم نقل أكثر منهم لأنهم مفروض فيهم القدرة على تمييز الغثّ من السمين والباطل من الحق والكذب من الصدق وعلى لمح ما في الروايات من غلوّ ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤيدها أثر صحيح. ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها وإشغالها الحيز الكبير أو الأكبر من كتب التفسير من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب وعلى أهداف القرآن ومحكماته.
وقد يكون من الحق أن بعض المفسرين وقفوا من الاسرائيليات موقف المنكر المنبه الناقد غير أن هذا ليس شاملا ولا عاما، ومن الناقدين والمنكرين والمنبهين أنفسهم من روى كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد ولا إنكار ولا تنبيه.
تنبيه في صدد الأحاديث والأقوال التي تروى بدون سند صحيح
ويكون فيها تعدد وتباين وتباعد وغرابة في الأحاديث المعزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم عن مدلول النون واحد يذكر أنه الدواة وواحد يذكر أنه الحوت وواحد يذكر أنه لوح من نور. وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب المعتبرة. وفي الأقوال المعزوة إلى ابن عباس رواية مختصرة مماثلة في مداها لما رواه البغوي عن كعب الأحبار ورفاقه الرواة. ورواية(1/358)
تذكر أنه اسم الله بالإضافة إلى قولين مما ورد في الأحاديث وهما أنه لوح من نور أو أنه الدواة. ومع ما قلناه من أن هذه الأحاديث والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن المتبادر أنه لا يعقل أن يصدر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو ابن عباس أقوال متعددة فيها تباين وتضارب وغرابة. وكل ما يعقل أن يكون صدر قول واحد في تفسير الكلمة. وأن تكون الأقوال الأخرى على الأقل منحولة نحلا. ومثل هذا كثير على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. وليس هذا خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وابن عباس فإن المفسرين يروون أقوالا عديدة فيها تضارب وتباين وتباعد وغرابة عن شخص واحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم. وقد أردنا بهذا تنبيه القارئ إلى ضرورة التدبر في هذا الأمر والتوقف فيما لا يكون وثيق السند ويكون فيه في الوقت نفسه تعدد وتضارب وتباين وغرابة سواء أنسب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إلى أصحابه أو تابعيهم، والله تعالى أعلم.
تعليق على الحروف المتقطعة في أوائل السور
وعلى تقدير أن حرف (ن) من الحروف المتقطعة المماثلة للحروف التي بدئت بها سور عديدة أخرى نقول إن هذه السور [29] وهي سورة البقرة وآل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر ومريم وطه والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة ويس وص وغافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وق ون. وهناك من يخرج (طه) و (يس) ويقول إنهما اسمان للنبي صلّى الله عليه وسلّم و (ق) ويقول إنه اسم جبل بالإضافة إلى (ن) التي قال بعضهم إنه الحوت أو الدواة كما ذكرنا آنفا. وهناك من يجعل هذه الأربعة كسائر الحروف.
وليس هناك أثر نبوي وثيق في مدى ومغزى هذه الحروف التي جرى التواتر غير المنقطع على قراءتها بأسمائها (الف. لام. ميم إلخ) وقد تعددت روايات(1/359)
وأقوال المفسرين في هذا المدى والمغزى «1» . منها أنها رموز إلى أسماء الله تعالى أو صفاته. أو أقسام أقسم الله تعالى بها، أو أسماء للسور، أو أريد بها تحدي الكفار بالقول إن القرآن إنما هو حروف وكلمات من جنس ما يعرفونه فليأتوا بمثله أو بشيء منه. وهناك من فضل عدم التخمين ووكل علمها وحكمتها إلى الله تعالى. وهناك من خمن أنها أو أن بعضها احتوى أسرارا أو ألغازا دنيوية مغيبة. وهناك من روى أنها لحساب المدة الباقية من الدنيا بحساب الأرقام التي ترمز إليها الحروف في حساب الأبجدية التي ترتيبها (أب ج د هـ وز ح ط) (ي ك ل م ن س ع ف ص) (ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ) حيث تحسب الحروف التسعة الأولى أرقام آحاد من الواحد إلى التسعة والحروف التسعة التالية أرقام عشرات إلى التسعين والحروف العشرة التالية أرقام المئات إلى الألف ويبلغ مجموع أرقام جميع الحروف على هذا الحساب (3295) وهذا الترتيب والحساب هو ترتيب الأبجدية العبرانية وحساب اليهود لها باستثناء الحروف الستة الأخيرة التي ليس لها نظير في هذه الأبجدية.
وقد طلع باحث عربي مؤخرا برأي يقول فيه إنها ترمز إلى عدد آيات السور التي جاءت في مطلعها على أساس ذلك الحساب «2» .
__________
(1) انظر تفسير أول سورة البقرة خاصة وتفسير أوائل السور التي تبتدئ بهذه الحروف بصورة عامة في مختلف كتب التفسير القديمة كالطبري والبغوي والقرطبي والنيسابوري والنسفي والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير ... إلخ إلخ. [.....]
(2) نشر السيد نصوح الطاهر في رمضان 1373 هـ- 1954 م رسالة عنوانها «أوائل السور في القرآن» ذهب فيها هذا المذهب. ومن ينعم النظر فيها ير تجوزا بارزا في الحساب وتسليما بروايات مدنية الآيات في السور المكية ومكية الآيات في السور المدنية بدون سند وثيق وعدم تسليم ببعضها بدون سند وثيق للحساب والتطبيق. مع أن هناك روايات مضادة ومع أن روح الآيات وسياقها يلهمان بقوة عدم صحة معظم روايات مدنية ومكية الآيات في السور المكية والمدنية.
ومما يقوله السيد الطاهر أن الحروف في بعض السور بل في معظمها كانت ترمز إلى عدد آيات السور في مرحلة من المراحل وقبل ترتيب آياتها نهائيا. ثم أضيف بعد هذه المرحلة إليها آيات وفصول أو أنقص منها آيات وفصول. ومن السور المكية ما أضيف إليه آيات مدنية ومن السور المدنية ما أضيف إليه آيات مكية. وإن من السور ما كان متداخلا بعضه في بعض فلما رتبت آيات السور وفصل بعض ما كان داخلا في سور أخرى عن بعضها ووضع في سور أخرى أو جعل بعضها سورا مستقلة اختل العدد الذي ترمز إليه الحروف في الحساب الأبجدي. وهنا سلاسل من هذه السور متشابهة في حروفها المتقطعة. فذهب في بعضها إلى أن أحدها كان يرمز إلى عدد جميع آيات السور وذهب في بعضها إلى أن حروف إحداها هي التي كانت ترمز إلى عدد آياتها جميعا دون تعليل مقنع لتكرر الحروف المتشابهة في هذه السلاسل. وهذا الرأي يعني أن إضافة آيات أو فصول في سورة ما مرموز فيها إلى عدد آياتها في مرحلة من المراحل أو إنقاص آيات وفصول قد أخل في هذه الرمزية إذا كانت الحروف وحيا قرآنيا كما نعتقد ونزلت لترمز لذلك حسب رأي السيد الطاهر الذي نعتقد أنه هو الآخر لا ينكر كونها وحيا. وبالتالي قد أفقدتها حكمتها التي علمها الله. فإذا فرضنا أن ترتيب السور في صورتها النهائية قد تم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم وأمره وهو ما نعتقده استنادا إلى دلائل وقرائن كثيرة قرآنية وغير قرآنية فيكون النبي قد أخل بحكمة الرمزية الربانية وحاشاه أن يفعل. وإذا كان الترتيب قد تم بعد وفاته على ما يقول به بعض العلماء فيرد حينئذ سؤال عما إذا كان النبي قد أخبر أصحابه بمفهوم الرمز. فإذا لم يكن قد أخبر به فيكون قد خالف أمر الله فلم يبين بعض ما أنزله الله عليه وحاشاه أن يفعل.
وإذا كان قد أخبرهم به فيكونون قد خالفوه وأخلّوا بحكمة الرمزية الربانية معا وحاشاهم أن يفعلوا. ويبقى هناك فرض وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعرف مفهوم ورمزية الحروف. وظل هذا خفيا عليه وعلى جميع الناس من بعده إلى أن كشف عنه للسيد الطاهر ولا نظن هذا السيد يدعي ذلك.(1/360)
وهناك قول معزو إلى ابن عباس رضي الله عنه بأنها للتنبيه واسترعاء الأسماع أي من نوع هلا، ألا. ولقد روى الترمذي حديثا في سياق أوائل سورة الروم جاء فيه «إنّها لمّا نزلت خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة: «الم، غلبت الروم» «1» الآيات ونحن نرجح هذا القول. واتباع الحروف في معظم السور بالتنويه بالقرآن وبجمل قسمية به مما يقوي في نظرنا هذا الترجيح. وهو ما أخذنا به مع القول إن تنوع الحروف التي أريد بها الاسترعاء والتنبيه متصل بحكمة التنزيل. ولا بأس بالقول إنها أقسام ربانية وردّ حكمة ذلك وعلمه إلى الله عز وجل أيضا قول عليم
__________
(1) انظر «التاج الجامع» ج 4 ص 178- 179.(1/361)
حكيم متسق مع مذهب السلف الإسلامي الأول في تجنب الخوض والتخمين والمراء في العبارات القرآنية التي يصعب على الأفهام اكتناه كنهها. وحساب الحروف لاستخراج عدد السنين الباقية للدنيا أو محاولة الاستدلال بها على عدد آيات السور في مرحلة من المراحل أو القول بأنها تنطوي على أسرار وألغاز ورموز لأحداث مغيبة مستقبلة يؤدي إلى القول إن في القرآن أسرارا خفيت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أو كتمها عن أصحابه، وليس من أثر نبوي وثيق في ذلك. ولا يجوز أن يظن أن الله تعالى أخفاها عن النبي أو أن النبي أخفاها عن أصحابه، والقرآن يقرر أن الله أنزله ليتدبر الناس آياته ويعقلوها وأن الله أمر نبيه أن يبين للناس ما نزل إليه من ربه.
تعليق على ما ورد من أحاديث وأقوال عن مدى (القلم) في الآية
لقد أورد المفسرون في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة عن معنى القلم مفردا ومعناه ومعنى النون معا. منها حديث ورد في كتب الأحاديث المعتبرة أو الصحيحة حيث روى الترمذي وأبو داود حديثا جاء فيه: «قال عبادة بن الصامت لابنه يا بنيّ إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتّى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا ربّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلّ شيء حتى تقوم الساعة» «1» . ومنها ما رواه المفسرون بطرق أخرى، من ذلك حديث أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أول ما خلق الله القلم والحوت. فقال للقلم اكتب. قال: ما أكتب. قال: كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة. ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم/ 1] . فالنون الحوت والقلم القلم» .
وحديث أورده ابن كثير رواه ابن عساكر عن أبي هريرة قال: سمعت رسول
__________
(1) انظر «التاج» ، ج 1 ص 33.(1/362)
الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن أول شيء خلقه الله القلم ثمّ خلق النون وهي الدواة ثم قال له اكتب قال وما أكتب قال اكتب ما يكون أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة. فذلك قوله ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل وقال وعزّتي لأكملنّك فيمن أحببت ولأنقصنّك ممن أبغضت» . وحديث رواه ابن جرير الطبري مرويا عن معاوية بن قرة عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. لوح من نور. وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة» . وأورد المفسرون أقوالا عن بعض التابعين تفيد أن القلم المقسم به في الآية هو هذا القلم الذي أمره الله أن يكتب ما هو كائن. ومع ذلك فقد قالوا أيضا إنه أريد بالقلم المقسم به جنس القلم مطلقا وأريد بالقسم به تعظيم الكتابة وأدواتها حيث يفيد هذا أن الذين قالوا هذا لم يأخذوا الأحاديث النبوية كتفسير قاطع للمراد بالقلم المقسم به في الآية. ونحن نرى هذا هو الأوجه. ولعل اتباع القلم بجملة وما يسطرون وسبقه بكلمة نون المفسرة بالدواة من مقويات هذا الترجيح. لأن صيغة المضارع تفيد الحاضر والمستقبل في حين أن أمر الله للقلم المذكور في الأحاديث هو في صدد أمر مضى. كما أن الاتساق في المعنى والموضوع بين معنى وعمل القلم هنا وفي آيات سورة العلق من مقوياته أيضا، والله أعلم.
وما احتوته الأحاديث من كتابة المقادير بالقلم على اللوح متصل ببحثي القدر واللوح مما سوف يكون موضوع تعليق في مناسبات آتية.
تعليق على الأقسام القرآنية
والآية الأولى تضمنت قسما ربانيا، والآيات الثلاث هي جوابه. والأيمان الربانية أسلوب قرآني مألوف كثير الورود والصور، بسبب كون الأيمان أسلوبا تخاطبيا مألوفا كما هو المتبادر. وهناك سور عديدة تبدأ بالأيمان مما يمكن أن يعتبر كأسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.(1/363)
ولقد تنوع المقسم به تنوعا كبيرا فشمل مشاهد الكون السماوية والأرضية وموجوداته الحية والجامدة. غير أن الذي يتبادر من المقسم به وأسلوب القسم أن ذلك مما له خطورة في أذهان الناس أو واقع حياتهم. سواء أكان ذلك بسبب ما فيه من عظمة مشهد وروعة مظهر وقوة صورة، أم بسبب ما يثيره من معان وآثار نفسية، أم بسبب ما له من نفع عظيم، أم بسبب ما يتصل به من عادات وتقاليد ومفهومات. وإن مما هدفت إليه الأقسام التوكيد واسترعاء الأذهان والأسماع لما يأتي بعد القسم من تقريرات متنوعة الأهداف والمعاني.
وقت نزول الآيات الأولى من هذه السورة
وقد روي «1» أن هذه الآيات هي التي أعقبت آيات سورة العلق الأولى.
ووضع سورة القلم في ترتيب ثانية سورة قرآنية نزولا إنما هو بسبب ذلك. فإذا صحت الرواية فتكون الآيات قد نزلت وحدها وبقية آيات السورة نزلت بعدها بمدة ما. ثم ألحقت بها وتم بذلك تأليف السورة وشخصيتها. وتكون كذلك قد نزلت لتطمين النبي عليه السلام وتثبيته، ونفي ما ظنه وخشي منه، وهو أن يكون ما رآه وسمعه حينما أوحي إليه لأول مرة مسّا من الجن حتى إنه أراد أن يلقي نفسه من شاهق الجبل على ما رواه الطبري «2» في حديث معزو إلى عبد الله بن الزبير عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وإن لم تصح الرواية فيكون في الآيات تطمين وتثبيت من جهة، ورد
__________
(1) «السيرة الحلبية» ، ج 1 ص 244.
(2) «تاريخ الطبري» ، ج 2 ص 48- 49 مطبعة الاستقامة.
ومما جاء في هذا الحديث عن لسان النبي صلّى الله عليه وسلم: «لما انصرف عني الملك وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتابا قال ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما. قلت الأبعد يعني نفسه شاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبدا. لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن..» .(1/364)
على نعت الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون من جهة. وقد حكى ذلك القرآن عنهم في آيات عديدة مثل آية سورة الحجر هذه: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) ، ومثل آية سورة المؤمنون هذه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) ، ومثل الآية الأخيرة من سورة القلم نفسها:
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) .
ويلحظ الانسجام والتلاحق بين هذه الآيات وما بعدها، وهذا قد يضعف الرواية الأولى ويسوغ القول إنها نزلت هي وما بعدها سلسلة واحدة أو متلاحقة، وإن ترتيبها كثاني سورة غير صحيح، لأن الآيات التالية لها تضمنت مشاهد تكذيبية وجدلية، وحملة تنديدية وحكاية لقول المكذبين إن القرآن أساطير الأولين، مما لا يمكن أن يكون وقع إلّا بعد نزول جملة غير يسيرة من القرآن واتصال النبي عليه السلام بالناس وتلاوته عليهم واشتباكه معهم بالجدل والحجاج.
أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم
والثناء من الله على خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل «1» على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف هذه: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) ، وفي آية سورة آل عمران
__________
(1) انظر كتابنا «سيرة الرسول عليه السلام» ، ج 1 ص 24 وما بعدها.(1/365)
هذه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [144] ، وفي آية سورة الأعراف هذه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [188] ، وفي آية سورة الكهف هذه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ، والمتبادر أن ذلك متأتّ من قصور الأفهام عن إدراك ما في أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم من عظمة وما في نفسه من صفاء، وما في قلبه من إيمان وإخلاص جعله أهلا لاصطفاء الله، فحفزهم إلى البحث عن أسباب أخرى، فيها ما فيها من الغلو الذي لا ينسجم مع طبائع الأشياء، ولا يتسق مع نصوص القرآن.
والآيات من أوائل القرآن نزولا على كل حال، وهذا يعني أن الخلق العظيم الذي كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، واستحق به هذا الثناء البليغ الرباني، قد كان مما تحلى به قبل البعثة، وهو الذي أهّله للاصطفاء والمهمة العظمى، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد جاء في حديث للبخاري عن عائشة أن السيدة خديجة رضي الله عنها حينما عاد إليها بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، وقصّ عليها ما رآه وسمعه وقال لها: «إني خشيت على نفسي قالت له كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» «1» ، وجاء في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله «2» بن الزبير أنها قالت له حينما قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا: «أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» وهذا مما يؤيد قولنا، لأن هذه الأخلاق الكريمة مما كان يتحلى به النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثته.
__________
(1) انظر كتاب «التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول» للشيخ منصور علي ناصف ج 3 ص 226 طبعة ثانية نشر دار إحياء الكتب العربية.
(2) «تاريخ الطبري» ج 2 ص 47- 48.(1/366)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
[سورة القلم (68) : الآيات 5 الى 16]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
(1) المفتون: الضال أو المنحرف.
(2) تدهن: تلاين أو تصانع.
(3) همّاز: عيّاب أو شتّام.
(4) مشاء بنميم: يسعى بالنميمة.
(5) عتلّ: جاف غليظ.
(6) زنيم: دعيّ. ويقال للئيم زنيم أيضا.
(7) الخرطوم: هذا التعبير خاص بالفيل والكلمة هنا على الاستعارة لفم القائل، فيكون في النار عقابا على قوله.
(8) أساطير الأولين: الأساطير جمع أسطورة وهي مشتقة من سطر بمعنى كتب، والجملة تعني قصص الأولين وكتاباتهم.
(9) سنسمه: مشتقة من وسم أي جعل علامة للشيء. وخاصة العلامة التي تعلم بالكيّ على جلود الأنعام وهي عادة عربية بدوية لتمييز الأنعام عن بعضها وخاصة الإبل.
شرح الآيات [5- 16] من سورة القلم وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلم:(1/367)
1- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم.
فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم منطويا على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقّا ومهتد حقّا.
2- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة.
والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات «1» عدم تسفيه أحلامهم وسبّ آلهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعبادتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
3- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاظ القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات [10- 16] مفرد، وقد ذكر المفسرون «2» اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها عنت أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة (كل) . والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالا حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي وأنها بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلّى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والنيسابوري.
(2) المصدر نفسه.(1/368)
مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكرا فإن فيها تأييدا لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد سار في الدعوة علنا منذ بدئها كما هو المتبادر.
تعليق على ما في التنديد بأخلاق المتصدين لمناوأة الدعوة النبوية من تلقين مستمر المدى
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذمّ هذه الأخلاق والصفات ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لا يدخل الجزء الأول من التفسير الحديث 24(1/369)
الجنة قتّات وفي رواية نمّام» «1» . وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال:
«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إنّ شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إيّاكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة» «3» . وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أنبّئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس» «4» . وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» «5» . وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ ومن الكبائر السبّتان بالسّبة» «6» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» «7» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان ولا الفاحش ولا البذيء» «8» . وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّق وأنت له به كاذب» «9» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتى يدعها إذا
__________
(1) «التاج» ، ج 5 ص 23.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه. [.....]
(5) المصدر نفسه ص 23- 39.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه.
(9) المصدر نفسه.(1/370)
حدّث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» «1» .
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» «2» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» «3» . وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدّين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم أفشوا السلام بينكم» «4» .
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق ثان على موقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه المواقف وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلّى الله عليه وسلّم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة
__________
(1) «التاج» ج 5 ص 23- 39.
(2) المصدر نفسه، ص 25- 27.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.(1/371)
إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق.
تعليق على مفاوضات وعروض زعماء قريش على النبي صلّى الله عليه وسلم
وآية وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم/ 9] «1» صريحة بأنها تحكي رغبة بعض الزعماء في ملاينة النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم ومجاراته لهم حتى يقابلوه بالمثل. وقد ذكر بعض المفسرين أنهم طلبوا منه ذكر آلهتهم بالخير أو السكوت عنها، حتى يستمعوا إليه ويجاروه في بعض ما يطلب. ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن هذا لم يبق وحيدا. بل تكرر في ظروف عديدة في العهد المكي، على ما أشارت إليه بعض الآيات وروته بعض الروايات مما فيه صورة خطيرة من صور السيرة النبوية في هذا العهد.
ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ البدء- وظل- شديد الحرص على هداية قومه شديد الحزن من انقباضهم عن دعوته وبخاصة الزعماء، لأنهم يسدون الطريق أمام السواد الأعظم من العرب على ما ذكرناه قبل قليل. فكان بعض الزعماء يستغلون هذه العاطفة ويعرضون عليه مباشرة أو بواسطة عمه أبي طالب بعض العروض والاقتراحات بسبيل تبادل الملاينة والمسايرة.
من ذلك ما تضمنت الإشارة إليه آيات سورة الإسراء هذه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) ، وقد روى المفسرون «2» في صددها روايات عديدة، منها أن فريقا من زعماء قريش اقترحوا عليه السكوت عن شتم آلهتهم وتسفيه أحلامهم ليحاسنوه ويسايروه. ومنها أنهم طلبوا منه الإبقاء على
__________
(1) انظر تفسيرها في كتب تفسير البغوي وابن كثير والطبري والخازن والطبرسي.
(2) المصدر نفسه.(1/372)
بعض تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن، ومنها أنهم طلبوا منه الإلمام بأصنامهم كما يفعل بالحجر الأسود، ومنها السماح لهم بذلك. ويظهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطر لباله أن يسايرهم بعض المسايرة، فثبته الله تثبيتا ينطوي فيه التنبيه المنطوي في آيات سورة القلم والذي نوهنا به آنفا.
وفي سورة يونس هذه الآية: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) ، وقد روى المفسرون «1» أنهم طلبوا منه قرآنا خاليا من الحملة عليهم وعلى شركائهم.
ولقد روى ابن هشام «2» أن زعماء قريش جاءوا إلى أبي طالب متذمرين أكثر من مرة، طالبين منه ردع ابن أخيه عن شتم آلهتهم وتسفيه عقولهم. ومما قالوه له في إحدى المرات وكان حاضرا في مجلسهم: إننا نحب أن يسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا. وفي إحدى المرات قال لعمه: أريد منهم أن يعطوني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم فقالوا له: نعم وأبيك وعشر كلمات، قال تقولون: لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفقوا وقال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا.
وفي سورتي الأنعام والكهف آيات تلهم نصوصها وما رواه المفسرون في صددها «3» أن الزعماء كانوا يقترحون عليه طرد الفقراء والمساكين من حوله إذا كان يريد منهم أن يجلسوا إليه ويستمعوا منه ويستجيبوا له، ويتمجحون بهم لعدم استجابتهم لدعوته وهي هذه:
1- وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ
__________
(1) انظر تفسيرها في كتب تفسير البغوي وابن كثير والطبري والخازن والطبرسي..
(2) ابن هشام ج 1 ص 282- 285 وج 2 ص 26- 28.
(3) المصدر السابق نفسه. [.....](1/373)
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) [الأنعام: 52- 53] .
2- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) [الكهف: 28] .
وقد تضمنت الآيات تحذير النبي صلى الله عليه وسلّم من الاستجابة لاقتراحات زعماء الكفار، وبإغداق عطفه واهتمامه على أصحابه الذين آمنوا به والتفوا حوله مهما كانت طبقتهم الاجتماعية لأنهم أظهروا من صدق الرغبة في الإيمان والاتجاه إلى الله وحده ما رفع شأنهم وقدرهم عند الله. وفي الآيات من التلقين الجليل ما هو ظاهر.
هذا، وجنوح الزعماء إلى طلب المداهنة والملاينة من النبي صلّى الله عليه وسلم، ووعدهم بالمقابلة بالمثل منذ عهد مبكر، واستمرارهم على ذلك يدل على أنهم لم يكونوا يجدون في أنفسهم من القوة ما يستطيعون به إرغامه على الكف عن دعوته والاعتدال في تنديداته وحملاته، كما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لديه من الجرأة والقوة الروحية والاستغراق في الله ما يجعله غير مبال بما كان عليه الزعماء من قوة ومال وكثرة، وما يجعله يظل يقذف بنذر القرآن وحملاته في وجوههم ويقرع بها آذانهم منذ بدء الدعوة، ويدل في الوقت نفسه على أن الزعماء يعرفون ذلك، وفي هذا ما فيه من العظمة وبليغ الأسوة.
ولقد قلنا قبل إن هذه الآيات لا بد من أن تكون نزلت بعد طائفة من السور التي فيها مبادئ الدعوة من وحدانية الله تعالى وإيجاب اختصاصه وحده بالعبادة والدعاء وترك كل ما عداه والإيمان باليوم الآخر وإيجاب الأعمال والأخلاق الحسنة وتجنب الأعمال والأخلاق السيئة وعدم الاستغراق في حب المال واكتنازه وإيجاب البر بالمساكين والفقراء والإنفاق على سبل الخير المختلفة إلخ.. ومعنى(1/374)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
أمر الله تعالى لرسوله بعدم إطاعتهم في ما يطلبونه من مسايرة مقابل وعدهم له بالمسايرة في بعض ما يدعو إليه أن المبادئ الأساسية للدعوة لا يصح في أي حال وظرف أن تكون محل مساومة وتمييع. وهذا الأمر قد تكرر على ما تفيده آيات سورة الإسراء [73- 74] التي أوردناها آنفا.
وفي هذا ما فيه روعة وتلقين جليل مستمر المدى.
تعليق على جملة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
وجملة أساطير الأولين قد تكررت كثيرا في القرآن حكاية لزعم الكفار عن القرآن، وهذه الجملة أو بتعبير أدق كلمة أساطير تعني الآن القصص التي لا تستند إلى أصل أو يشوبها الغلو أو الخرافة. غير أن الذي يتبادر لنا أن استعمالها في القرآن لم يكن لهذا المعنى فقط، وإنما كان أيضا لمقصد الإشارة إلى كتب الأولين وصحفهم، بما في ذلك كتب النصارى واليهود التي كانت متداولة. وفي سورة الفرقان آية قد تؤيد ذلك حيث جاء فيها: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) ، وحيث أراد الكفار أن يقولوا إن ما يتلوه النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اقتبسه واستكتبه وحفظه من الكتب الأولى المتداولة وليس وحيا.
والجملة في السورة تدل في حد ذاتها على أن ما نزل من القرآن قبل هذه الآيات كان شيئا غير يسير حيث رأى الكفار فيه من التطابق والمواضيع، ما سوغ لهم هذا القول وتؤيد ما قلناه في صدد ترتيب هذه السورة.
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)(1/375)
(1) بلوناهم: امتحنّاهم واختبرناهم.
(2) الصرم: القطف أو القطع.
(3) مصبحين: في الصباح الباكر.
(4) لا يستثنون: لا يقولون إن شاء الله بعد القسم.
(5) فطاف عليها طائف من ربك: كناية عن بلاء رباني أصاب ثمر الجنة فأيبسه وجعله كالصريم أي كالمقطوف.
(6) حرثكم: هنا بمعنى بستانكم.
(7) يتخافتون: يتهامسون.
(8) حرد: شدة التصميم أو سوء النية والقصد.
(9) ضالون: هنا بمعنى حائرون أو تائهون.
(10) أوسطهم: أعقلهم وأرشدهم.
(11) ظالمين: وردت كلمة الظلم في القرآن كثيرا وفي معان عديدة، منها الجور ضد العدل. ومنها الانحراف عن طريق الحق. ومنها الجناية على النفس والإضرار بالنفس والغير. ومنها العدوان والبغي على الغير. ومنها الإجرام. ومنها النقص والبخس. وهي هنا بمعنى الجناية على النفس.
(12) يتلاومون: يلوم بعضهم بعضا.
(13) طاغين: متجاوزين الحد في البغي والتمرد.
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف عقابا لهم(1/376)
على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي فقال لهم: ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبّحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه.
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم والذي هو أشد وأكبر.
تعليق على قصة البستان وهدفها
وقد روى المفسرون «1» أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر بعضهم أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفا عند السامعين.
وضمير بَلَوْناهُمْ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن،
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والنيسابوري مثلا.(1/377)
لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك- أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا لمرشدهم وتابوا إلى الله واستغفروه.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولا: أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد. وثانيا: أن مضمونها يلهم كون المثل موجها إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثا أن الضمير في بَلَوْناهُمْ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعا أن أسلوبها وطابعها أكثر شبها لأسلوب وطابع الآيات المكية ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولا والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة إن القرآن قد احتوى كثيرا من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حينا ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود(1/378)
والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحا في مناسبات آتية.
تعليق على روايات الآيات المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول: إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية [147] آية في [34] سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزا على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاما تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقا بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلا لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها.
وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.(1/379)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
. (1) تدرسون: تقرءون أو تتعلمون أو تعلمون منه.
(2) تخيرون: تتخيرون وتختارون.
(3) أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة: بمعنى هل لكم عهد من الله بالنجاة مستمر وشامل ليوم القيامة.
(4) زعيم: كفيل أو ضامن أو مؤيد.
(5) يوم يكشف عن ساق: كناية عن وقت اشتداد الخطب، حيث كان من عادة العرب إذا اشتدت معركة الحرب أن يكشفوا عن سيقانهم، وهنا يعني يوم القيامة واشتداد الخطب فيه.
(6) ترهقهم: تلحقهم أو تزعجهم أو تحيق بهم.
في هذه الآيات:
1- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
2- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
3- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين: فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون؟.(1/380)
4- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك وعما إذا كانوا يظنون أن شركاءهم يفعلون ذلك حقا، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين.
5- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت: فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلبا لغفران الله فلسوف يعجزون. لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيرا في القرآن مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.(1/381)
تعليق على الجنات الأخروية
والإشارة الخاطفة إلى الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول: إن الجنات في القرآن جعلت عنوانا لما سيناله المؤمنون الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبو إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم.
ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين والبشرى من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرة جدا. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجىء بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قلت يا رسول الله ممّا خلق الخلق؟ قال:
من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت. وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤس.
ويخلّد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال ثلاثة لا تردّ دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ عزّ وجل: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين» «1» . وحديث
__________
(1) «التاج» ج 5 ص 365.(1/382)
رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدّرّيّ الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين» «1» .
وحديث رواه الترمذي عن علي قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصّيام وصلّى لله بالليل والناس نيام» «2» ، وحديث رواه مسلم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ في الجنة لسوقا يأتونها كلّ جمعة فتهبّ ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» «3» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن في الجنة سوقا إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثمّ يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربّهم ويبرز لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا» «4» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم» «5» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين
__________
(1) المصدر السابق ص 370- 371.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر ص 371- 375.
(5) المصدر نفسه.(1/383)
يلونهم على أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السّماء. وفي رواية ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخّ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشيا» «1» .
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزا بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلّا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها. لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصل إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البرّ، دون أن ينتظر جزاء ماديا معجلا في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام.
وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل
__________
(1) المصدر السابق ص 371- 375.(1/384)
ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضا، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه:
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) ، وفي آية التوبة هذه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) . وفي آيات السجدة هذه: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) . وفي آيات سورة الفجر هذه: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) .
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية [35] التي صارت علما على المؤمنين برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأول مرة نقول: إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيرا في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى كما جاءت علما على الدين الصحيح إطلاقا، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقا كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [128] وإِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) ، وقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما الجزء الأول من التفسير الحديث 25(1/385)
أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) ، وآيات سورة آل عمران هذه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) ، ووَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) .
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلّم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علما عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة (المسلمين) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) . وهذه السورة مختلف في مكيتها ومدنيتها ولكن مضامينها تلهم بقوة أنها مكية أضيف إليها آيات مدنية، اقتضت إضافتها المناسبات على ما سوف نشرحه عند تفسيرها، وهذه الآية هي من الآيات المكية على ما يلهم سياقها، وهذا يعني- إذا صح- أن العلمية تقررت في العهد المكي، ثم جاءت آية سورة المائدة المدنية الثالثة التي جاء فيها: ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ... لتكون علما على دين المسلمين.(1/386)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 45]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
(1) الاستدراج: التوريط في الأمر درجة بعد درجة.
(2) الإملاء: الإمداد والإمهال.
(3) الكيد: التدبير ضد العدو ونكايته.
(4) متين: قوي أو شديد.
الآيتان استمرار في حملة التقريع كسابقاتهما مع تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية له وإنذار للمكذبين. والخطاب موجه إليه: فليترك لله الذين يكذبون بالقرآن ولا يغتر بما يتمتعون به من قوة ومال، فإن الله إنما يفعل ذلك استدراجا لهم من حيث لا يعلمون وإملاء، وإن كيده لقوي شديد، ولسوف يحيط بهم.
تعليق على آيتي سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ووَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
وصيغة هاتين الآيتين قد تكررت في مواضع أخرى في مقامات مماثلة للمقام الذي جاءتا فيه. والمتبادر من روحهما أن تعابير سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ووَ أُمْلِي لَهُمْ وكَيْدِي هي تعابير أسلوبية مألوفة في الخطاب البشري ثم في الكلام العربي.
ولا محل للتوهم بأنها تعني أن الله يصبر على الكفار المكذبين بقصد توريطهم ويمد لهم بقصد بث الاغترار فيهم، أو أنه يكيد لخلقه كيدا. فإنه سبحانه منزّه عن ذلك كله. وقد وقع من الكفار التكذيب ووقفوا موقف الجحود والتمرد والمناوأة والصد عن سبيل الله فاستحقوا النكال والعذاب. والتعابير إلى هذا تنطوي على تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته وتقويته وإنذار للكفار المكذبين كما قلنا.
وهناك آيات فيها تعليل لعدم التعجيل بعذاب أمثال هؤلاء والاكتفاء بمثل هذه(1/387)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
الانذارات التي احتوتها الآيتان. من ذلك آية سورة الكهف هذه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) ، وآية سورة فاطر هذه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) .
وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي وأبو داود يصح أن يساق في هذا المقام عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» «1» .
ويتبادر من ذلك كله أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يمنح الكفار والمكذبون والبغاة الفرصة لعلهم يرتدعون ويرعوون فإذا أضاعوها واستمروا في غيهم وبغيهم استحقوا النكال في الدنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا حسب مشيئة الله تعالى. وجملة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [58] في آية الكهف ذات دلالة جليلة في المدى المتبادر.
والآيات في ذات الوقت تسجيل للحالة التي كان عليها الكفار المكذبون حين نزولها، ومن المعلوم اليقيني أن كثيرا منهم قد آمن بعد نزولها قبل الفتح المكي أو بعده فظهر مصداق حكمة الله المتبادرة، والله تعالى أعلم.
[سورة القلم (68) : الآيات 46 الى 47]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
. (1) المغرم: التكليف المالي أو الدين أو المخسر.
(2) يكتبون: هنا بمعنى يقضون أو يقررون ما يريدون.
والآيتان أيضا استمرار في السياق، والخطاب فيهما موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) التاج، ج 5 ص 64.(1/388)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
كذلك. وقد جاءتا بأسلوب التساؤل عما إذا كان يطلب من الكفار أجرا على دعوته لهم وإرشادهم حتى يستثقلوا الطلب ويتهربوا من الدعوة تفاديا من المغرم والخسارة أو عما إذا كانوا مطلعين على غيب الله أم بيدهم أمر المستقبل، فيقررون لأنفسهم ما يشاؤون حتى يبدو منهم هذا الاطمئنان إلى العاقبة.
نفي طمع النبي صلّى الله عليه وسلّم في أجر على رسالته:
وأسلوب الآيتين منطو على التنديد بالمكذبين على تصاممهم عن الدعوة وعدم مبالاتهم، كما هو منطو على الإنذار كما هو المتبادر. كذلك فإنه منطو على نفي طلب النبي صلّى الله عليه وسلّم أو طمعه في أجر أو مكافأة على مهمته العظمى، وقد تكرر في القرآن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلانه ذلك في معرض الدعوة والتنديد، ثم في معرض التدليل على صدق الدعوة والإخلاص لها إخلاصا مجردا من أي غاية خاصة إلّا واجب القيام بأمر الله ورغبة هدايتهم إلى الله ومكارم الأخلاق، وتأمين أسباب السعادة لهم في الدنيا والآخرة وإنذارهم بالعواقب الوخيمة لعدم استجابتهم مثل آيات سورة سبأ هذه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) . وآية سورة الفرقان هذه: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) .
[سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 50]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
[50- 48] .
(1) صاحب الحوت هو النبي يونس كما ذكرت ذلك آيات أخرى بصراحة.(1/389)
(2) مكظوم: ممتلىء غيظا وغمّا.
(3) نبذ: ألقي مهملا.
(4) العراء: الأرض العارية من الشجر.
(5) مذموم: سيء الذكر والعاقبة.
(6) اجتباه: اختاره وقرّبه وتاب عليه.
الآيات موجهة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها:
1- أمر بالصبر إلى أن يتم أمر الله وحكمه.
2- ونهي عن أن يكون كصاحب الحوت الذي ضاق ذرعه ولم يطق صبرا على تكذيب أمته له.
3- وإشارة خاطفة إلى ما كان من عاقبته حيث استغاث الله وناداه فعطف عليه وتداركته نعمته واجتباه وجعله من الصالحين. ولولا ذلك لألقاه الحوت إلى الأرض العارية منبوذا مذموما.
والآيات استمرار للسياق كما هو واضح. وفيها صورة مما كان يطرأ على النبي صلّى الله عليه وسلّم من أزمات وضيق صدر من موقف الصدّ والتكذيب والمناوأة الذي أخذ يواجهه منذ أوائل الدعوة. وقد تكررت الإشارات القرآنية إلى مثل هذه الصورة كما تكررت الأوامر القرآنية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والثبات «1» .
والإشارة إلى صاحب الحوت هي أولى الإشارات القرآنية إلى الأنبياء وقصصهم لأن صاحب الحوت هو النبي يونس على ما ذكر ذلك بصراحة في سورة الصافات. ثم توالت الفصول القرآنية في قصص الأنبياء وأقوامهم. ومعظمها تكرر وروده أكثر من مرة مقتضبا في مكان مسهبا في مكان آخر حتى شغلت حيزا غير قليل من القرآن وخاصة المكي منه. واقتضاب الإشارة وخاصة الاكتفاء بالإشارة الضمنية إلى النبي يونس بتعبير صاحب الحوت يدلان على أن قصة يونس لم تكن
__________
(1) انظر كتابنا «سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم» ج 1 ص 275 وما بعدها.(1/390)
غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت بتفصيل واف في سفر يونان أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وهذه الأسفار كانت متداولة بين اليهود والنصارى في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلّم وسامعي القرآن منهم قد سمعوها أو أن بعضهم قد سمعها منهم.
وملخص ما ورد في السفر المذكور وهو متطابق إجمالا مع ما ورد في القرآن أن الله تعالى أمر يونان بن امتاي «1» بإنذار أهل نينوى بعذاب الله ولكنه هرب من وجه الرب إلى يافا ليبحر إلى ترشيش فركب سفينة فثارت زوبعة عظيمة فخاف الملاحون وألقوا أثقالهم ثم اقترعوا على إلقاء بعضهم على أمل أن يلقوا من كان الشر بسببه فوقعت القرعة عليه وحثهم على إلقائه قائلا إن الزوبعة ثارت من أجلي فألقوه فوقفت الزوبعة. وابتلع يونان حوت عظيم وبقي في بطنه ثلاثة أيام وكان يصلي لله ويستغيث به فاستجاب الله له وأمر الحوت بقذفه من جوفه ثم أمره بالذهاب إلى نينوى ثانية فلما جاءهم وأنذرهم آمنوا فكشف الله عنهم الشر الذي كان يوشك أن ينزل بهم.
أهداف القصص القرآنية
والإشارة إلى صاحب الحوت هنا وردت في معرض التمثيل والتحذير والتثبيت حتى لا يضيق صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم بموقف التكذيب واللجاج الذي وقفه قومه منه. وهذا ما استهدفته قصص الأنبياء في القرآن التي يلحظ أنها استهدفت ثلاثة أهداف:
الأول: تثبيت النبي عليه السلام ودعوته إلى التأسي كما هو في الآيات التي نحن في صددها وكما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة الأنعام هذه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ
__________
(1) عرّب هذا الاسم فصار يونس بن متى. وقد ذكر في بعض الأحاديث النبوية بصيغته المعربة من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود جاء فيه: «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» ، انظر «التاج» ، ج 3 ص 368.(1/391)
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) .
والثاني: إنذار الكفار وتذكيرهم بما حل بمن سبقهم من الجاحدين المكذبين الصادين كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) .
والثالث: تطمين وتبشير المسلمين بما كان من عاقبة كل من المؤمنين والكفار من الأمم السابقة حيث أهلك الله الكفار ونصر ونجى المسلمين ودعوتهم إلى التأسي بما كان من صبر الأنبياء والمؤمنين السابقين وثباتهم على دين الله كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة هود هذه: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) .
ومجمل الأهداف الثلاثة هو العبرة والموعظة والتطمين والتسلية والتنديد والإنذار، وفي القرآن آيات كثيرة أخرى تتضمن تقرير هدف القصص القرآنية في نطاق ذلك منها آية سورة الأعراف هذه: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) . وآية سورة هود هذه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) ، وآية سورة(1/392)
يوسف هذه: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [111] .
ولقد قلنا إن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن، وهذا يطّرد في القصص القرآنية عامة على ما سوف نبينه في مناسباته. وآيات العنكبوت تنطوي على دليل قوي على ذلك إذا ما أنعم القارئ النظر فيها. وهناك آيات عديدة أخرى تفيد ذلك منها آية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ، وآية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [48] . حيث يمكن أن يقال إن حكمة الله اقتضت أن تكون القصص معروفة من قبل السامعين جزئيا أو كليا لتكون العبرة والعظة والإلزام والإفحام أشد، لأن الناس يتأثرون بالأمثال التي يعرفونها، والأحداث التي يعلمون نبأها.
ولقد سبق الآيات التي نحن في صددها آيات تنديدية وإنذارية، كما لحقتها آيتان فيهما تنديد وتثبيت أيضا. وهذا مؤيد لكون الهدف هو التثبيت والتحذير.
وقد جرى القرآن على هذا الأسلوب في معظم الفصول التي وردت فيها قصص الأنبياء، بل إن هذا في هذه الفصول أوفى وأظهر، مما هو مؤيد لفكرة الهدف من جهة ومظهر من مظاهر الانسجام في النظم القرآني من جهة ثانية، ودليل على أن القصص القرآنية لم ترد لماهيتها التاريخية من جهة ثالثة.
ولقد قلنا إن معظم قصص الأنبياء وأقوامهم قد تكررت في القرآن وتنوعت أساليبها ومنها ما تكرر مرارا عديدة، وقد غمز المغرضون من المبشرين والمستشرقين القرآن بسبب ذلك وبسبب تكراره الفصول التدعيمية الأخرى كمشاهد الكون ومشاهد الآخرة والحجج والبراهين. وردا على ذلك نقول إن الفصول القصصية لم تكن للسرد التاريخي وإنما هي للوعظ والعبرة ولقد كانت اتصالات النبي صلّى الله عليه وسلّم بمختلف طبقات الناس والمناسبات والأوقات مستمرة متجددة. وكانت متنوعة في ظروفها وأشخاصها. فمن الطبيعي أن تتماثل الفصول القرآنية التي كانت تتلى بوحي الله على مختلف الطبقات وفي مختلف المناسبات والأوقات بسبيل(1/393)
تدعيم الدعوة وتحقيق الهدف من القصص القرآنية. ومع جلالة قدر النبوة وصاحبها صلى الله عليه وسلّم يمكن أن يقال إن مثل النبي في ذلك مثل الواعظ أو المدرس أو المعلم الذي يلقي دروسه على طلابه ومستمعيه. فهؤلاء يتجددون من آن لآخر، فمن الطبيعي أن يكرر المعلم والواعظ والمدرس دروسه ومواعظه بناء على ذلك. وقصارى ما يمكن أن يحدث هو شيء من التبدل والتنوع في طريقة العرض والأسلوب والألفاظ. وهو نفس الشيء الذي كان بالنسبة للفصول القصصية والتدعيمية الأخرى المتكررة «1» ، حيث كانت حكمة التنزيل توحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بما يقتضي الموقف ذكره من القصص بالأسلوب الذي يقتضيه. ولا يتناقض هذا مع كون النبي صلى الله عليه وسلّم كان قد عرف أو سمع هذه القصص قبل الوحي لأن الوحي ينزل بالأسلوب المؤدّي إلى الهدف من القصص. ويلحظ أنه كل مرة تكررت فيها هذه الفصول جاء فيها شيء جديد استكمالا للعبرة والموعظة على ما سوف ننبه إليه في مناسباته. وهذا من مظاهر تلك الحكمة كما هو المتبادر.
وهناك نقطة أخرى يحسن أن نشير إليها، وهي أن المفسرين يجنحون إلى القول أو الظن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم شيئا من القصص التي كان يوحى إليه بها قبل نزولها. ولسنا نرى هذا وجيها لا من وجهة نظر الوحي القرآني ولا من وجهة نظر النبوة. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعيش قبل نزول الوحي عليه في بيئة فيها كتابيون يروون ما في كتبهم من قصص ويتداولونها والروايات العديدة تذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتصل بهم ويسمع منهم ما في كتبهم. وتجار وغير تجار كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة للجزيرة يسمعون من أهلها مختلف الأنباء والأخبار والقصص.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه قام ببعض الأسفار إلى بعض هذه البلاد كما هو ثابت ثبوتا في درجة اليقين. ورواة العرب يروون ما يتناقله الأجيال من أخبار وأحداث وقصص عربية. فليس من المعقول ولا من الطبيعي أن يقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجهل هذه القصص كليا أو جزئيا. ونقول هنا ما قلناه قبل قليل إن ذلك آت من سوء فهم كنه
__________
(1) انظر كتابنا «القرآن المجيد» ، في مقدمة هذا التفسير.(1/394)
وهدف الوحي بهذه القصص عن حسن نية. وليس من تعارض قط بين وحي ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأسلوب الذي أوحيت به وبين ما يمكن ويصح أن يكون النبي قد عرفه منها قبل نزولها. ولقد كان في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم تقاليد دينية واجتماعية متنوعة وكان يجري فيها أحداث متنوعة شاهد بعضها وسمع بعضها وعاش بعضها. ولقد ذكر في القرآن كثير من ذلك وليس أحد يدعي أو يمكن أن يدعي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعرف ذلك قبل بعثته. وهذا وذاك من باب واحد.
ويورد الذين يقولون ذلك القول بعض آيات وردت في سياق بعض القصص منها آية سورة هود هذه في سياق قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [49] ، وآية سورة آل عمران هذه في سياق قصة مريم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) ، وآية سورة يوسف في سياق قصة يوسف وإخوته: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) . وقصتا نوح ويوسف وردتا متصلتين في سفر التكوين وبين ما ورد في هذا السفر وما ورد في القرآن تطابق كثير. وهذا السفر كان مما يتداوله الكتابيون. وكان العرب يعرفون قصة نوح واتخذوا أصنام قومه التي ذكرها الله في سورة نوح أصناما لهم على ما سوف نشرحه في سياقها. فلا يصح أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم وقومه لم يعرفوا شيئا من هذه القصص الثلاث، وليس من مناص إزاء الواقع من تخريج الآيات بما يزيل الإشكال ويتفق معه. وقد رأينا الخازن يعلق على آية هود فيقول: إن هذه القصة مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة. وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها، وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف كلمة (الغيب) إلى معنى الزمن البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر.(1/395)
وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران وكذلك الفصول المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ويوسف ومريم لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد. وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل سور ص والأعراف والقمر والشعراء وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى ولم يرد في هذه القصص في هذه السور مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغا وصوابا.
ومما يصح إضافته إلى الآيات العديدة التي احتوت دلائل وقرائن على أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم في القرآن على سبيل العظة والتذكر أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص مسهبة حينا ومقتضبة حينا معزوة إلى علماء الأخبار إطلاقا حينا وبأسماء حينا مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن اسحق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم. واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذه القصص أو قصصا لسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ونميل إلى القول بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة وبعدها وحولها. وأنها مما يمكن الاستئناس به في تأييد ما قلنا. وكذلك مما يصح إضافته أيضا صيغة أعلام القصص مثل طالوت وجالوت ويونس وأيوب وفرعون وهامان وقارون وهرون وإبراهيم وسليمان وداود وإدريس ونوح والمسيح عيسى وموسى وهاروت وماروت ... إلخ. فإن هذه الأعلام قد جاءت في القرآن معرّبة وعلى أوزان عربية من لغات غير عربية ولم تكن فيها بالصيغة العربية الواردة حتما ومن المستبعد أن تكون قد عربت لأول مرة في القرآن ومن المرجح أن تكون عربت وتداولت بأوزانها العربية قبل نزولها. وبهذا وحده يصح أن يشملها (بلسان عربي مبين) الذي جاء في معرض نزول القرآن لأنها جزء منه. وتداولها معربة قبل نزول القرآن يعني كما هو بديهي معرفة العرب شيئا من(1/396)
أخبار أصحابها. وفي ما تكررت حكاية في القرآن عن الكفار من قولهم عن القرآن إنه أساطير الأولين وإن النبي صلى الله عليه وسلم استكتبها وهي تملى عليه وإنه كان أناس يعينونه عليها وإنهم لو شاؤوا لقالوا مثلها كما جاء في آيات سور [الأنعام/ 25] و [الأنفال/ 30] و [الفرقان/ 5] و [القلم/ 8 و 15] قرينة قوية كذلك إن لم نقل حاسمة على أن العرب كانوا يسمعون من مقصد القرآن ونذره وبشائره وتذكراته ما كان اتصل علمه بهم وكان متداولا بينهم.
وننبه على ظاهرة هامة في صدد القصص القرآنية، وهي أن السور المكية هي التي ورد فيها على الأعم الأغلب ما اقتضت إيراده حكمة التنزيل من القصص بأحداثها وأخبارها وأشخاصها وتكراراتها بالصيغ والأساليب المتنوعة. وأن السور المدنية لم تحتو إلا إشارات تذكيرية خاطفة إليها، والحكمة التي نلمحها في هذه الظاهرة هي أن القصص كانت تورد كما قلنا قبل في مجال الجدل والحجاج للإلزام والإفحام والموعظة والتذكير والإنذار وتدعيم الدعوة ومبادئها الرئيسية.
ومسرح ذلك في الأعم الأغلب كان العهد المكي. في حين صار العهد المدني عهد قوة وعزة وطمأنينة وتشريع وجهاد أكثر منه عهد حجاج ولجاج. والله تعالى أعلم.
ويذهب بعض الذين يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا أو صوفيا إلى زعم كون القصص القرآنية رموزا لشؤون أخرى ويؤولونها على هذا الاعتبار تأويلا تعسفيا فيه العجيب الغريب. وفي هذا ما فيه من شطح بل وهذيان. لأن جل القصص الواردة في القرآن إن لم نقل كلها مما كان واردا في أسفار وقراطيس ومما كان متداولا بين الناس جيلا بعد جيل ومعروفا بأشخاصه وأحداثه. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات التي نحن في صددها من سورة القلم مدنية، غير أن انسجامها مع السياق والموضوع انسجاما تاما وقويا ومماثلة الصورة التي احتوتها لصور العهد المكي تجعلنا نتوقف في صحة رواية مدنيتها، والله تعالى أعلم.(1/397)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
[سورة القلم (68) : الآيات 51 الى 52]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
(1) الإزلاق: الإهلاك. وبعض المفسرين قالوا إنها الإصابة بالعين «1» ومعنى الجملة هنا: أنهم يكادون يلتهمونك ويهلكونك بأعينهم الناظرة إليك شزرا.
(2) الذكر: في الآية الأولى كناية عن القرآن وقد تكرر ذلك في آيات عديدة، وفي الآية الثانية بمعنى التذكير، وقد تكرر ذلك كذلك.
وفي هاتين الآيتين صورة أخرى من مواقف الكفار تجاه النبي صلّى الله عليه وسلم، إذ كانوا حينما يسمعونه يتلو القرآن ينظرون إليه شزرا حتى يكادوا يلتهمونه ويهلكونه بأبصارهم ويأخذون في نعته بالمجنون. وقد احتوت الآية الثانية ردا عليهم وتوكيدا بأن القرآن هو هدى للعالمين ومنبه ومذكر لهم.
والآيتان متصلتان بالسياق والموقف الذي هو موضوع الآيات السابقة كما هو المتبادر وأسلوب الآية الأولى تنديدي في معرض حكاية موقفهم.
تعليق على نعت الكفار النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون
ولقد تكررت هذه الصورة في القرآن، مما يدل على أن مثل هذا الموقف والقول كان يتكرر من الكفار. وأسلوب الآية الثانية يلهم بقوة أن الكفار لم يعنوا بنعت النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون أنه كان مختل العقل أو به خبل وصرع، مما هو من أعراض الأمراض العقلية فقد كانوا من النباهة في درجة لا يعقل معها ذلك وهم يسمعون ما يتلوه عليهم من الفصول القرآنية الرائعة في بلاغتها وقوتها وحكمتها
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.(1/398)
وأمثالها وانسجامها وما بدا منهم من جنوح إلى التفاهم معه ومصانعته، وحلفهم له الأيمان على ذلك دليل قوي آخر. وفي القرآن آيات تفيد أنهم كانوا يعرفون فيه رجاحة العقل وسلامة الذهن والبعد عن الفضول والتكلف مثل ما تلهمه آية سورة يونس هذه: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) . وما تلهمه آيات سورة المؤمنون هذه: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) . فالذي يتسق مع هذا أن نعتهم كان على سبيل الاستنكار ومن قبيل ما اعتاد الناس أن يفعلوه إزاء من يدعو إلى شيء جديد مثير في العقائد والآراء ويرون منه جرأة لا تتسع لها حوصلتهم. ومن الممكن أن يكونوا قد أرادوا بذلك أيضا نسبة اتصال الجن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وتلقيه عنهم، على ما كانوا يعتقدونه بالنسبة إلى الشعراء والكهان والعرافين والسحرة «1» حيث كانوا يعتقدون أن شياطين الجن هم الذين يوحون للشعراء النوابغ بشعرهم وإلى الكهان والعرافين والسحرة بما يقولونه للناس الذين يراجعونهم لحل ما يلمّ بهم من مشاكل. والراجح أن نسبتهم الشعر والكهانة والسحر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما جاء في آيات كثيرة مثل آية الذاريات هذه: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) ، ومثل آيات سورة الطور هذه: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) متصل بذلك. ومن المحتمل أن يكون نعتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون يرمي إلى القصدين معا، بحيث كانوا أو كان بعضهم يقصد هذا حينا، وكانوا أو كان بعضهم يقصد ذاك حينا. وفي سورة الشعراء آيات تنفي تنزّل الشياطين بالقرآن وهي: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) . وفي
__________
(1) انظر كتابنا: «عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة» ، الفصل الرابع من الباب الثالث «حياة العرب العقلية» ص 293- 298، والفصل الرابع من الباب الرابع «حياة العرب الدينية» ص 371- 378. [.....](1/399)
سورة الحجر آيات تحكي قولهم إنه مجنون وتتحداه أن يأتي بالملائكة إن كان من الصادقين وهي: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) [6- 7] ، كأنما تقول إن اتصالك إنما هو بالجن وإلّا فائتنا بالملائكة إن كنت صادقا أن اتصالك بالله، حيث كانوا يعترفون أن الملائكة هم المختصون بخدمة الله. ويعتقدون أنهم بنات الله على ما حكته عنهم آيات كثيرة، منها آيات الصافات هذه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) «1» .
وفي جملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ينطوي ردّ قوي على الكفار الذين نعتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون. ففي هذا القرآن الذي يتلوه عليهم هدى وموعظة وذكر للعالمين جميعهم ولا يمكن أن يصدر هذا من مجنون.
وفي سورة الشعراء آيات أخرى جاءت بعد تلك الآيات السابقة الذكر ذات مدى عظيم في هذا الباب وهي: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) ، حيث ينطوي فيها تقرير كون الوحي الذي يأتي النبي لا يمكن أن يكون شيطانا وكون النبي لا يمكن أن يكون شاعرا، لأن الشياطين كاذبون وإنما يتنزلون على الأفاكين الآثمين ولأن الشعراء يتصفون بأوصاف لا تمت إلى الأخلاق الفاضلة بسبب ولا يتبعهم إلّا الغاوون أمثالهم في حين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صادق يدعو إلى توحيد الله وتمجيده وعبادته وحده ثم إلى الخير والحق والعدل والإحسان ومكارم الأخلاق وينهى عن الإثم والفواحش والمنكرات وأن الذين يتبعونه هم من ذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكريمة والنوايا الطيبة الطاهرة.
__________
(1) انظر كتابنا «عصر النبي عليه السلام وبيئته» ، الفصل الرابع، الحياة الدينية.(1/400)
تعليق على نعت المستشرقين والمبشرين النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون
ونقول بهذه المناسبة إنه لمما يدعو إلى الاشمئزاز ألّا يتورع المبشرون والمغرضون من المستشرقين عن تكرار نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون وأن يصل بهم الزعم إلى القول إنه كان مصابا بالصرع، وإنه كان يفقد صوابه حينما تأتيه النوبة وتعتريه التشنجات ويسيل العرق منه حتى إذا أفاق منها تلا على المؤمنين ما يقول إنه من وحي الله إليه، في حين أن هذا الوحي لم يكن إلّا أثرا من نوبات الصرع «1» .
وقد أساءوا تأويل بعض الأحاديث والروايات التي ذكرت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذه الوجد والعرق ويحمرّ وجهه حينما كان يوحى إليه وحرفوها عن حقيقة مداها.
ولقد كشفهم حقدهم وخبث سرائرهم فأنساهم أن المصابين بالصرع تتعطل فيهم أثناء النوبة حركة الشعور والتفكير والذاكرة «2» وجعلهم يناقضون أنفسهم حين يعترفون أنه كان عقب ذلك يتلو آيات القرآن التي أوحي إليه بها، متجاهلين إلى ذلك ما فيها من الروعة والبلاغة والحكمة والمبادئ الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية السامية والدعوة إلى الله وحده والخير والمعروف ومحاربة الشرك والوثنية والنهي عن الإثم والفواحش والمنكرات مما لا يعقل أن يصدر عن مريض في عقله وجسمه وخلقه. ولقد تجاهلوا إلى هذا أيضا أن القرآن قد حكى مرارا نسبة الجنون إليه على لسان خصومه الأشداء ومكذبيه العنيدين، وهو أمر بالغ الخطورة والقوة في هذا المقام ويردها عليهم ردّا شديدا مرفقا كما هو في الآية التي نحن في صددها بإعلان أن ما جاء به هو ذكر للعالمين ودعوة لهم. ومن ذلك آية سورة الأعراف هذه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) ، وآيات سورة المؤمنون هذه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
__________
(1) انظر كتاب «حياة محمد» ، حسين هيكل طبعة ثانية ص 39- 40.
(2) المصدر نفسه.
الجزء الأول من التفسير الحديث 26(1/401)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) ، وآيات سورة الطور هذه: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) ، وآية سورة سبأ هذه:
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) «1» .
وهذا بالإضافة إلى آيات سورة الشعراء التي أوردناها الرائعة القوية في عبارتها وما ينطوي فيها وأن حكاية أقوال الكفار والرد عليها بمثل هذه الردود النافذة إلى أعماق القلوب والعقول كافيان وحدهما للجم ألسنة الأفاكين الآثمين عند كل منصف مهما كانت نحلته.
ويقف بعض مفسري الشيعة عند الآية [47] فيقولون إنها عنت أبا بكر وعمر حين قالا يوم الغدير الذي أعلن فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاية علي وإمامته من بعده: «انظروا إلى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون» «2» . وفي هذا ما هو ظاهر من زور واجتراء على الله ورسوله وأصحابه لا يكونان من عاقل مؤمن والعياذ بالله.
__________
(1) تتضمن الآية معنى عظيما، فقد كان الكفار وبخاصة زعماءهم يتضامنون في موقف العداء ويشجع بعضهم بعضا ويستحي بعضهم من بعض، بل ويخاف بعضهم من بعض لأسباب تتعلق بمراكزهم ومصالحهم وما ثار فيهم من حسد واستكبار لاختصاص محمد صلّى الله عليه وسلّم دونهم بالوحي والقرآن على ما حكته آيات عديدة. منها آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [42، 43] ، ومنها آية سورة ص هذه: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [8] فدعتهم آية سبأ/ 46 المذكورة إلى التفكر الهادئ على انفراد في أمر النبي ورسالته وحينئذ يتيقنون من الحق والحقيقة فيها ويتجلى لهم باطل ما ينسبون إليه من جنون.
(2) انظر كتاب «الصراع بين الإسلام والوثنية» للقصيمي، ج 1 ص 435 نقلا عن كتاب الوافي وعزوا إلى أحد الأئمة الإثني عشر الصادق الذي نحب أن ننزهه عن هذا القول الأثيم.(1/402)
تعليق على جملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ
وجملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ التي اختتمت بها السورة عظيمة المدى في إطلاقها حيث ينطوي فيها إعلان كون الرسالة المحمدية دعوة شاملة لجميع الأجناس والألوان والأديان والبلدان في جميع الأزمان. وتبكير ورودها يعني أن ذلك كان هدفا محكما من أهداف هذه الرسالة منذ بدئها خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يزعموه من أن هذه الرسالة للعرب فقط أو بأن عمومها قد كان تطورا متأخرا. ولقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة مكية ومدنية متنوعة الأساليب قوية المدى. منها آيات سورة ص هذه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «1» (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) ، وآية سورة الأنعام هذه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) ، وفي سورة الأنبياء آية تضمنت المعنى مع زيادة تقرير كون رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي رحمة للعالمين وهي: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) ، وفي سورة الأعراف آية تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان كون رسالته للناس جميعا وهي: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) . وهذا بالإضافة إلى آيات عديدة وجهت فيها الدعوة إلى أهل الكتاب مثل آيات سورة المائدة هذه:
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) ، وهذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) . وهناك آيات ذات مدى عظيم حيث تضمنت تقريرا ربانيا بأن الله
__________
(1) في سورتي يوسف والتكوير فصل مماثل أيضا.(1/403)
قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وبأنه سيظهره على الدين كله على ما جاء في آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) ، وآية سورة الصف هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) «1» حيث ينطوي في هذا تأييد لعموم رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووعد رباني بأنها ستعم البشرية وتظهر على سائر الأديان لأنها رسالة الحق والهدى. ولن يخلف الله وعده.
هذا، ويلحظ أن فصول السورة قد نزلت بمناسبة مواقف الكفار وأقوالهم واحتوت ردا عليهم وإنذارا وتثبيتا وتأييدا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين. فهي من قسم الوسائل ويصح أن تكون نموذجا كاملا من نماذجه المبكرة في النزول. ومع ذلك فقد تخللها مبادئ اجتماعية وإيمانية محكمة أيضا، مما فيه صورة من صور التنزيل القرآني التي تكررت في كثير من فصول القرآن وسوره.
__________
(1) في سورة التوبة آية مماثلة.(1/404)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
سورة المزّمّل
في السورة نداء للنبي صلّى الله عليه وسلّم للقيام بالليل وتلاوة القرآن والاستعداد لما يوحى إليه، وتثبيت له إزاء مواقف الزعماء والأغنياء المكذبين، وحمله عليهم. وإشارة إلى موقف فرعون من رسالة موسى عليه السلام ونكال الله به على سبيل الإنذار والتذكير، وتخفيف من شدة قيام الليل وتهجده. والآية الأخيرة التي فيها هذا التخفيف مدنية وقد ألحقت بالسورة لمناسبة ما جاء في أولها. وترتيبها كثالث سورة نزولا بسبب رواية نزول آياتها التسع الأولى لحدتها كثالث مجموعة نزولا، غير أن هذه الرواية وترتيب السور بسببها موضع نظر على ما يرد شرحه بعد. ولقد تكرر بدء مطالع السور بنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وشخصياتها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
. (1) المزمّل: المتزمل. والتزمل هو الالتفاف بالثوب.(1/405)
(2) الترتيل: هنا بمعنى التجويد والتمهل في القراءة. وجاءت الكلمة في سورة الفرقان بمعنى تنزيل القرآن مفرقا قسما بعد قسم.
(3) ناشئة الليل: النهوض من النوم في الليل.
(4) أشد وطئا: قيل إن معناها أشد وقعا، وقيل أكثر موافقة وملاءمة وأدعى إلى التنبيه والإخلاص.
(5) أقوم قيلا: القيل هو القول، ومعنى الجملة هو أسد وأقوم للمقال والتلاوة.
(6) سبحا طويلا: مجالا طويلا للعمل والمشاغل.
(7) التبتل: الخشوع.
في هذه الآيات أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلا ومعتمدا له وهو الذي لا إله إلّا هو ربّ المشرق والمغرب.
وقد جاء في بعض الروايات «1» أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن، كما جاء في بعضها «2» أنها نزلت حينما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله: «زملوني» . ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها. لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلّا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى الله عليه وسلّم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولا بسبب ذلك.
__________
(1) انظر تفسير الآلوسي لهذه السورة.
(2) المصدر أيضا.(1/406)
على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحا.
والآيات على كل حال مما نزل مبكرا جدا، ويصح أن يقال والحالة هذه إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها.
ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار «1» .
والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولا سيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلّى الله عليه وسلّم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق، حيث جاء فيه فيما جاء: «ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد» ، وكان لذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.
وقد روي «2» أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيمانا وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.
ولقد روي هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه في حديث رواه البخاري والترمذي
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير.
(2) المصدر نفسه.(1/407)
والنسائي عن المغيرة قال: «إن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول أفلا أكون عبدا شكورا» وفي رواية الترمذي: «حتى انتفخت قدماه فقيل له تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا» . وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) . ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) . ولقد استمر النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلّى الله عليه وسلّم في نفسه ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم.
والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه، وليس من إله غيره، وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح.
وإلى هذا فإن فيها لأول مرة إعلانا لوحدة الله وشمول ربوبيته، ودعوة إلى(1/408)
جعله وحده وكيلا ومعتمدا في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأندادا، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء، واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أربابا من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته.
تعليق على كلمة القرآن
وكلمة «القرآن» ترد هنا لأول مرة، وهي مصدر القراءة. وتعني المقروء أيضا، ومع أنها صارت علما على جميع محتويات المصحف منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فإنها كانت تطلق على ما نزل من القرآن قبل أن يتم تمامه أيضا على ما تدل عليه آية سورة النمل هذه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) ، وآية سورة الأنعام هذه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [19] . ومثل آية سورة طه هذه: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) وآية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] .
وإلى هذا فإنها كانت تعني القسم الذي يحتوي مبادئ الدعوة ومؤيداتها دون حكاية مواقف تكذيب الكفار وحجاجهم والرد عليهم على ما تدل عليه آية سورة الإسراء هذه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) ، ومثل آيات سورة يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) ، ومثل آية سورة الفرقان هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ(1/409)
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا
(32) ، ومثل آية سورة فصلت هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) ، ومثل آية سورة الحشر هذه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ، وآية سورة إبراهيم هذه: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) .
وواضح من آيات يونس/ 15- 16، والفرقان/ 32 وفصلت/ 26 وأمثالها الكثيرة التي حكت أقوال الكفار عن القرآن أنهم كانوا يعنون بالقرآن ما فيه دعوة إلى الله وحده وحملة على شركهم وتسفيه لعقولهم ومخالفة لتقاليدهم وعقائدهم، وما فيه من المبادئ الإيمانية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والأخلاقية التي رأوا فيها بدعة ورأوها تهدد مراكزهم ومصالحهم. وعلى أي حال لا يدخل فيما كانوا يعنونه من الكلمة حكاية أقوالهم والرد عليها، وهذا شغل جزءا كبيرا من القرآن المكي. كذلك فإن ذلك هو الذي عنته على ما هو المتبادر آيات الأنعام/ 19 والبقرة/ 185 والإسراء/ 82 والحشر/ 21 وإبراهيم/ 1 وأمثالها الكثيرة جدا.
تعليق على مدى تعبير وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا
وما روي في صدد أدب تلاوة القرآن لقد رويت أحاديث وقيلت أقوال عديدة في صدد أدب تلاوة القرآن في سياق تفسير جملة وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا من ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه: «أن أنس سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: إنها كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ ببسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم» «1» . وحديث
__________
(1) التاج، ج 4 ص 8- 9.(1/410)
رواه الترمذي عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته يقول الحمد لله ربّ العالمين ثم يقف، الرحمن الرحيم ثم يقف، وكان يقرأ ملك يوم الدين» «1» .
وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي موسى: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» «2» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عن عبد الله بن مغفّل قال: «قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له على راحلته سورة الفتح فرجّع في قراءته. قال معاوية لولا خوفي من اجتماع الناس عليّ لحكيت لكم قراءته» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنّى بالقرآن يجهر به» «3» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم. ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» «4» وقد علق مؤلف التاج على الحديث الأخير بقوله شارحا إن تحسين الصوت بالقرآن يزيد في بهائه وجلاله ويصل بمواعظه إلى أعماق القلوب مع مراعاة علم التجويد فإن زاد القارئ في المد والغن أو تركهما كان مكروها في قول وحراما في قول وأثم القارئ ووجب على السامع الإنكار.
ولقد روى الطبري في سياق شرح العبارة عن مجاهد أن معناها (ترسل فيه ترسلا) وعن قتادة (بينه بيانا) وقال النسفي: إن معناها وجوب القراءة بتأنّ وتثبت وإشباع الحركات. وروى البغوي عن ابن عباس أنها بمعنى: «اقرأه على هينتك ثلاث آيات أو أربعا أو خمسا» . وروي عن ابن مسعود أنه قال في شرحها: «لا تنثروه نثر الدقل- الرمل- ولا تهذوه هذّ الشعر. قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة» . ويعني بالجملة الأخيرة عدم السرد السريع.
__________
(1) المصدر السابق، ص 8- 9.
(2) المصدر نفسه. [.....]
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.(1/411)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
وعلى ذلك يمكن أن يقال إن من أدب تلاوة القرآن وترتيله تلاوته بتأنّ وتثبت وتبيين وأداء وعظي وخاشع نافذ إلى العقول والقلوب وحسن إخراج الحروف ومراعاة علم التجويد. وإنه لا بأس في ترجيعه بصوت حسن إذا لم يزد عن الحد الذي يخرجه إلى ما لا يستحب ولا ينسجم مع قدسيته من أساليب الغناء.
[سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 14]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
. (1) اهجرهم: اعتزلهم أو تجنبهم.
(2) أولي النعمة: المتنعمين، وتعني الأغنياء والزعماء والمترفين.
(3) الأنكال: الأغلال والقيود.
(4) الجحيم: النار الشديدة.
(5) ذا غصة: الذي يسبب الغصة.
(6) الكثيب: تل الرمل.
(7) المهيل: الرخو المتداعي للتبعثر والانسياح.
وفي هذه الآيات:
1- تثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء تكذيب الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك وهم يتمتعون بنعم الله، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم.
2- وأمر آخر له بهجرهم هجرا لينا.
3- ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه.
4- ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.(1/412)
ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلّى الله عليه وسلّم الأقاويل فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلّى الله عليه وسلّم اتخاذ الله وكيلا قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا.
وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطرا على مراكزهم ومصالحهم وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها.
وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصد والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات.
تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسرّية الدعوة
والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة، لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء، وتلقينا بأن لا يهتم له، وتوجيها له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة، وعدم الغلظة والشدة في الهجر، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر(1/413)
في القرآن المكي كلما حزب النبي صلّى الله عليه وسلّم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) ، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) ، ومثل ما جاء في سورة يونس: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) ، وقُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) ، ومثل ما جاء في آية ق: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) .
ولقد ذكرت الروايات «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اتخذ له مركزا سرّيا عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين، فيقيمون فيه صلواتهم معه، ويتلقون تعاليم دينهم عنه، كما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء «2» وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين «3» ، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه
__________
(1) السيرة الحلبية ج 1 ص 283.
(2) انظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص 87 وما بعدها.
(3) السيرة الحلبية نفس الجزء والصفحة. وننبه على أن ابن هشام لم يذكر مدة السنين الثلاث وإنما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أسلم جماعة فيهم ضعفاء صار يجتمع ويصلي بهم مستخفيا في دار الأرقم في الصفا وفي شعاب مكة إلى أن صار عدد المسلمين أربعين وأسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب فخرجوا (انظر ج 1 ص 253- 264) واحتمال أن تكون مدة اجتماع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين الأولين في دار الأرقم وصلاته بهم مستخفيا امتدت ثلاث سنين وارد لأن عمر وحمزة رضي الله عنهما لم يسلما إلّا في السنة الثالثة أو الرابعة. غير أن سياق ابن هشام يدعم ما قلناه من أن الاستخفاء إنما كان رفقا بالمسلمين الأولين ولم يكن انقطاعا عن الدعوة.(1/414)
الروايات فإن من الممكن أن يقال إن هذا كان بتلقين الآية الأولى، ولا سيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عمليا أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم وهذا ما تلهمه جملة وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أيضا.
ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد.
تعليق على رواية نسخ حكم الآية: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا
ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(5) .
ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطرا ولا جبارا وإنما هو منذر ومذكر.
والأمر يتحمل شيئا من البيان، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصد والمناوأة الذي(1/415)
يقفه الكفار والمشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف.
ومن جهة ثانية إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقذفه ومناوأته وصد الناس عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة والله أعلم.
تعليق على تبدل نواميس الكون عند قيام الساعة
وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيبا مهيلا نقول: إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيرا. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس، على مختلف طبقاتهم، هيبة ورهبة، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما في مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف، والجبال تصبح كثيبا ومهيلا. والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا، وفي سورة النمل تسير سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سرابا وفي سورة القارعة تكون كالعهن المنفوش. ومثل هذا التنوع وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا.
والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة(1/416)
الأخرى، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله الذي خلقها وسوّاها أول مرة، فإنها قد جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل تنوع الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها.
والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة، حيث احتوت إنذارا وإعلانا بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيبا مهيلا.
ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهما للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر عدا أنه لا يستند إلى روايات وثيقة متصلة بالنبي صلّى الله عليه وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أو تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحا إذا لم يكن متصلا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب- والحال هذه- أن يوقف منها عند ما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والانذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيرا تلميحا حينا وتصريحا حينا آخر، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها.
تعليق على النار الأخروية
وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول: إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير- وكلها مترادفة- قد جعلت في القرآن عنوانا الجزء الأول من التفسير الحديث 27(1/417)
لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الاخرة. لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب لأول مرة قد اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم.
وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت هي الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وآيات سورة النبأ هذه: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) وآيات سورة الدخان هذه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
(49) . ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا.
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب.
والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية(1/418)
الأخرى، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاما شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة.
وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا، ونرجىء بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنم.
قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم:
تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين» .
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» . وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة» .
وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا» . وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما وما تفضي إلى قرار معا» قال عتبة وكان عمر يقول: «أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد» .
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الحميم(1/419)
ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» .
وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] ، ثم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه» وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا وصلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيقولون ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى، قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلّا في ضلال. قال: فيقولون: ادعوا مالكا فيقولون له يا مالك ليقض علينا ربك فيجيبهم إنكم ماكثون. قال فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. قال فيجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلمون. قال فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفرة والحسرة والويل» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن النعمان بن بشير قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه» .
وواضح من هذه الأمثلة كذلك أن الأحاديث النبوية في النار والعذاب الأخروي متساوقة هي الأخرى مع الآيات القرآنية في وصف النار ووسائل العذاب الأخروية بأشد ما يكون إيلاما للنفوس والأجسام. والإيمان بالمشاهد الأخروية التي يثبت خبرها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكونها في نطاق قدرة الله تعالى واجب كالإيمان بما جاء في ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذكر ذلك لا بد من أن يكون له حكمة وهدف. وإثارة الفزع والخوف والارعواء عن الكفر والغي(1/420)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
وسيء الأعمال من الملموح في الأحاديث من تلك الحكمة كما هو الشأن في الآيات القرآنية.
[سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 19]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
. (1) وبيلا: شديدا أو ثقيلا.
(2) منفطر: متشقق ومتصدع.
الخطاب في الآيات موجه إلى سامعي القرآن أو المكذبين منهم وينطوي على الإنذار والزجر حيث:
1- يقرر لهم أن الله قد أرسل إليهم رسولا شاهدا عليهم كما سبق وأرسل إلى فرعون رسولا.
2- ويذكرهم بمصير فرعون الذي عصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذه الله أخذا شديدا.
3- وينذرهم بيوم القيامة بأسلوب السؤال الإنكاري عن الوسيلة التي يتقون بها- إذا كفروا بالله وجحدوا رسالة رسوله- هول ذلك اليوم الذي يجعل الأطفال شيبا وتكون السماء فيه متصدعة.
4- ويؤكد لهم أن هذا الوعد الرباني آت لا ريب فيه، لأن وعد الله صادق.
5- ويقرر بأسلوب عام أن ما يسمعونه من إنذار ودعوة، هو تذكير وتنبيه وبلاغ. وأن الناس بعد ذلك موكولون إلى اختيارهم ومشيئتهم، فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به وتصديق رسالة رسوله.(1/421)
والآيات غير منفصلة عن السياق السابق موضوعا ولا نظما. وقد جاءت بأسلوب انتقال والتفات، وهو ما جرى عليه النظم القرآني.
والآية الأولى منها تحتوي أول تنزيل قرآني صريح في مهمة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم ونعته بنعت الرسول ثم توالى ذلك وتنوع حيث نعت بالنبي وبالنذير وبالبشير، وهي نعوت توضيحية لمهمة الرسالة.
تعليق على قصة موسى وفرعون
والإشارة إلى فرعون وموقفه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه أولى إشارة قرآنية إلى أخبار ومواقف المكذبين الأولين عامة وفرعون خاصة.
واقتضاب الإشارة من جهة وأسلوب الآيتين الأوليين من جهة أخرى يدلان أولا على تلك الأولية، وثانيا على أن قصة موسى وفرعون ليست غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت قصة موسى وفرعون بتفصيل كثير في سفر الخروج. وهو من أسفار العهد القديم. وكانت هذه الأسفار متداولة بين أيدي اليهود والنصارى في بيئة النبي. صلّى الله عليه وسلم. ولا بد من أن العرب غير الكتابيين قد سمعوا القصة منهم. ويبدو هدف الإنذار والتذكير للكفار في مضمون الآيات وأسلوبها واضحا وهو الهدف الرئيسي من الإشارة والقصة في القرآن. وقد سبقت بآيات تنديدية وإنذارية وألحق بها مثل ذلك جريا على أسلوب النظم القرآني الذي نوهنا به سابقا وفيه توكيد لذلك الهدف أيضا.
ولقد تكرر ورود قصة موسى وفرعون وأخبار بني إسرائيل وأنبيائهم أكثر من غيرهم من الأنبياء والأمم الأولين، كما أن هذه القصة والأخبار جاءت مسهبة أكثر من غيرها أيضا.
ولقد كانت كتلة كبيرة من بني إسرائيل مستوطنة في بيئة النبي عليه السلام منذ بضعة قرون قبل البعثة، وشغلوا حيزا كبيرا في هذه البيئة اجتماعيا ودينيا وثقافيا(1/422)
واقتصاديا «1» وكان ذلك مما جعل أهل هذه البيئة يعرفون الشيء الكثير من قصة موسى وفرعون ومن أخبار بني إسرائيل وأنبيائهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن يكثر الاستشهاد بذلك في معرض العظة والإنذار والتذكير والتأييد.
بيان مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم
وفي الآية الأخيرة شرح موجز وضمني لمهمة الرسول ومداها. فالرسول مذكر وداع إلى الله. والناس بعد ذلك موكولون إلى قابلية الاختيار وقوة التمييز اللتين أو دعهما الله فيهم فمن شاء اختار طريق الهدى واتخذ إلى ربه سبيلا فكان سعيدا ناجيا. وهكذا تكون الآية في نفس الوقت قد تضمنت تقرير قابلية الإنسان وقدرته على التمييز والاختيار. وهذا وذاك من المبادئ القرآنية المحكمة التي تكرر تقريرها بأساليب متنوعة على ما سنشير إليه في مناسباته. وهو المتسق مع حكمة الله في إرسال الرسل وتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين كما هو واضح.
ولقد رأينا المستشرق الطلياني كايتاني في كتابه «تاريخ الإسلام» يزعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقدم نفسه كرسول من الله في أوائل دعوته، تهيبا وتحفظا، وأنه اكتفى بقوله إنه نذير لهم مع صراحة ذكر نعته بالرسول في هذه الآيات التي وردت في سورة من أبكر السور نزولا. هذا بالإضافة إلى أن القرآن استعمل كلمات نذير وبشير ونبي ورسول في مقامات متجانسة وفي آيات مبكرة ومتأخرة ومكية ومدنية ووصف النبي في آية مبكرة مكية بوصف الرسول النبي الأمي كما جاء في آية سورة الأعراف [157] كما وصف بهما في آيات عديدة أخرى ضمنا وصراحة ومقارنة على ما سوف يأتي التنبيه إليه بعد مما يدل على أن الاستعمال كان متسقا مع ما تقتضيه حكمة الخطاب والأسلوب. ولقد جمعت هذه الصفات جميعها للنبي صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر الفصل الثالث من الباب الأول من كتابنا «عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة» ص 95 وما بعدها.(1/423)
في آية واحدة هي آية سورة المائدة هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(19) وهذا من غرائب مفارقات المستشرقين ومثل على إرسالهم الكلام جزافا.
تعليق على السماء وانفطارها يوم القيامة
والسماء تذكر هنا لأول مرة، ولقد ذكرت في القرآن مرارا كثيرة جدا. مفردة حينا وجمعا مطلقا بصيغة (السموات) حينا وبصيغة (سبع سموات) و (السموات السبع) حينا، وأحيط ذكرها بحفاوة عظيمة وأقسم بها مرات عديدة.
ومعنى السماء اللغوي هو العالي، وقد وصفت بالعلو في بعض الآيات كما جاء في آية سورة طه هذه: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) ووصفت بالفوقية التي هي في نفس المعنى كما جاء في آية سورة الشورى هذه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ.
وليس في القرآن شيء صريح عن ماهية القرآن، ولم نطلع على حديث صحيح صريح في ذلك أيضا.
وقد يقال إن ذكر انفطار السماء قد يفيد قرآنيا أنها جسم صلب قابل للتشقق، غير أن الأسلوب الذي جاء به ذلك هو أسلوب إنذار وترهيب ووصف لهول يوم القيامة مثل ما جاء قبل قليل عن مصير الجبال. ومثل ما جاء في الجملة نفسها من صيرورة الولدان شيبا في ذلك اليوم استهدافا لإثارة الرهبة في نفوس المكذبين وحملهم على الارعواء واتقاء غضب الله تعالى. وهو ما تستهدفه الآيات المماثلة بصورة عامة على ما نبهنا إليه قبل، وما دامت حكمة الله ورسوله لم تشأ ذكر ماهية السماء بصراحة وقطعية فالأولى من ناحية التفسير القرآني الوقوف من ذلك عند الحد الذي وقف عنده القرآن والذي فيه تحقيق للهدف الذي استهدفه منه.(1/424)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
تعليق على مدى كلمة الكفر في القرآن
وبمناسبة ورود أحد اشتقاقات كلمة الكفر في القرآن لأول مرة في الآيات وهو (كفرتم) نقول: إن هذه الكلمة اشتقاقاتها قد وردت كثيرا في القرآن.
وجاءت في معظم آياته التي وردت فيها بمعنى جحود رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الأنبياء من قبله وإنكار الله وآياته ونعمه. ولا تدل على عقيدة دينية خاصة. وهي في أصلها وصف أسلوبي يصح أن يوجه إلى كل إنسان جاحد بشيء ما. غير أنها صارت في القرآن ومنذ عهد النبي وما بعده وصف تشنيع أيضا. وقد استعملت من أجل معناها المذكور في معرض الإشارة إلى إنكار المشركين والوثنيين والكتابيين وجحودهم جميعا على أنها استعملت في بعض الآيات في وصف الذين أنكروا وحدة الله مطلقا أو اعتقدوا بألوهية السيد المسيح لما جاء في آيات المائدة هذه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) ، ولَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [73] .
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
. (1) يقدّر: يحسب.
(2) لن تحصوه: هنا بمعنى لن تصلوا إلى الغاية من عبادته أو لن تطيقوه.(1/425)
(3) فتاب عليكم: هنا بمعنى خفف عنكم وتسامح معكم.
(4) الضرب في الأرض: كناية عن السعي في سبيل الرزق.
تعليق على الآية: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ إلخ
وما روي في سياقها من روايات وما انطوى فيها من صور وتلقين معنى الآية واضح، والجمهور على أنها مدنية «1» . والمصحف الذي اعتمدناه ذكرها كذلك. وطابع المدنية عليها واضح مثل ذكر القتال في سبيل الله الذي إنما كان بعد الهجرة ومثل تعبير إقراض الله الذي لم يرد إلّا في الآيات المدنية حثا على الإنفاق في سبيل الله. ويلحظ أن هناك مناسبة بين موضوع الآية وموضوع الآيات الأولى من السورة، فقيام الليل موضوع مشترك بينهما. وفي الآيات الأولى معنى الإلزام به وفي هذه الآية تخفيف. وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني وخاصة في وضع الآيات المدنية في السور المكية. ونعتقد أن ذلك كان يتم بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وفي حياته. ومن البراهين القرآنية على ذلك الآية الأخيرة من سورة النساء. فقد نزلت بعد أن تم تأليف السورة وفيها تتمة لتشريع الإرث الذي احتوته آيات السورة الأولى فأمر النبي بإلحاقها بالسورة ولو في آخرها للتناسب الموضوعي.
ولقد روى الطبري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أجعل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيرا يصلي عليه من الليل فتسامع به الناس فاجتمعوا فخرج كالمغضب وكان بهم رحيما، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال يا أيها الناس أكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما دمتم عليه. ورأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم وأنزل الآية» .
ومهما يكن من أمر ففي الآية تنطوي صورة من صور حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه
__________
(1) انظر كتب تفسير الطبري والنسفي والطبرسي والخازن وابن كثير والبغوي.(1/426)
الأولين التعبدية، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم ظل ملازما لما أمره الله به من قيام الليل والتهجد فيه وتلاوة القرآن. وأصحابه الأولون حذوا حذوه في ذلك كما هو صريح في الآية وكما ذكرته آيات سورة الذاريات التي أوردناها قبل قليل. واستمر ذلك ردحا في العهد المدني على ما تدل عليه الآية. فلما نما عدد المسلمين وكثرت مشاغلهم وواجباتهم اقتضت الحكمة التخفيف تمشيا مع الظروف والمصلحة وطبائع الأمور.
فنزلت الآية وألحقت بالسورة التي أمرت آياتها الأولى النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام قسم كبير من الليل وحفزت أصحابه الأولين على الاقتداء به.
وواضح أنه ليس في الآية نسخ وإنما تخفيف وتعديل في أمر ليس أساسيا في العقيدة والتكليف. فالصلاة والزكاة فرضان أساسيان في التكليف فأمرت بالتزامهما. والتهجد الليلي الطويل هو أمر إضافي مستحب، فلم تر حكمة الله بأسا في تخفيفه وتعديله مراعاة لطاقة المسلمين وظروفهم. وفي هذا مشهد من مشاهد التطور في التكليف والتشريع والتنزيل. وفيه تلقين جليل يصح أن يقاس عليه. وفيه إيذان بأن الله لا يكلف في عبادته إلّا المستطاع الذي لا يكون فيه مشقة وضنى، ولا يسبب إهمالا وانصرافا وعجزا عن الواجبات المشروعة الأخرى شخصية كانت أم عمومية. فالله يعلم أن الناس مهما حرصوا واشتدوا في العبادة فلن يوفوا الله حقه ولن يبلغوا الغاية. وإن منهم المريض ومنهم الساعي في سبيل الرزق والمرابط والمقاتل في سبيل الله. وكل هذه واجبات وأعذار مشروعة للتخفيف، ومثل هذه التلقينات قد تكرر في القرآن بأساليب متنوعة على ما سوف نشير إليه في مناسباته.
وننبه على أن هذا التلقين وأمثاله يجب أن يبقى في نطاق ما لم يرد فيه نصّ قرآني أو نبوي ثابت قاطع وصريح، وفي نطاق الرخص الصريحة ومدى التسهيلات القرآنية والنبوية الثابتة.
تعليق على الزكاة
وبمناسبة ورود كلمة «الزكاة» لأول مرة هنا ولو في آية مدنية نقول إن أصل(1/427)
الكلمة زكا بمعنى نما وطلب. وقد وردت الكلمة في القرآن بمعنى التطهير أو مرادفة له مثل ما جاء في آية سورة البقرة هذه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) ، وفي آية سورة التوبة هذه: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [103] ، وإطلاقها على الصدقات مجازي يراد به أنها مطهرة أو منمية للمال.
ونرجح أنها كانت تستعمل في هذا المعنى قبل البعثة بدليل ورودها به في آيات مبكرة جدا مثل آيات سورة الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) ، وآيات سورة الليل هذه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) على اعتبار أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وكل ما فيه بهذا اللسان الذي كان هو لسان العرب وأهل بيئة النبي قبل نزوله «1» . غير أنها صارت علما على الفريضة التي فرضت على أموال الأغنياء للفقراء والمحتاجين وسبل الخير ومصلحة المسلمين العامة.
وقد ذكرت بلفظها في سورة مبكرة نوعا ما مثل آية سورة الأعراف هذه:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) ، وآية سورة مريم هذه: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) . وفي سورتي النمل ولقمان المبكرتين نوعا ما في النزول أيضا وردت بلفظها في سياق وصف المسلمين الأولين كما ترى في هذه الآيات:
1- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) [النمل/ 3] .
2- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [لقمان/ 4- 5] .
حيث ينطوي في هذه الآيات دليل على أن الزكاة كانت ممارسة من قبل المسلمين الأولين قبل نزولها بمدة ما.
__________
(1) انظر فصل الحياة العقلية في كتابنا «عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة» .(1/428)
وهذه الآيات وإن جاءت بأسلوب التنويه والحثّ فإن ذلك هو صفة جميع المأمورات والمنهيات القرآنية في السور المكية لأنه هو المتسق مع طبيعة العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته ولا يمنع القول إن النبي صلّى الله عليه وسلّم استلهاما من آيات سورتي الأعلى والليل اللتين يرجح أنهما نزلتا في السنة الأولى من البعثة قد يكون اعتبرها ركنا من أركان الإسلام منذ عهد مبكر وأمر المسلمين الأولين الميسورين بأدائها لأن الحاجة كانت ماسة إلى ذلك سواء أكانت من أجل أغراض الدعوة أم من أجل مساعدة الذين آمنوا من الفقراء والمساكين والأرقاء وكانوا يتعرضون للأذى والحرمان.
ويلحظ أن أسلوب الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة جاء في آية سورة البقرة هذه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) ، التي نرجح أنها من أبكر الآيات المدنية في بابها حيث يسوغ القول إن هذا الركن قد ثبت بأسلوب الأمر والتشريع حالما سنح الظرف المناسب وهو الهجرة التي قوي بها الإسلام وصار له بها سلطان ودولة يتمثلان في النبي صلّى الله عليه وسلّم والمجتمع الإسلامي الجديد في المدينة.
وليس في القرآن المكي ولا المدني مقدار محدد للزكاة، وقد حدد ذلك في الأحاديث النبوية. وهذه الأحاديث على ما يلمح من أسماء رواتها هي أحاديث مدنية «1» غير أن آيات في سور المعارج والذاريات والأنعام يمكن أن تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد حدد لها مقادير معينة في العهد المكي كما ترى فيما يلي:
1- كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام/ 141] .
2- وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) [المعارج/ 24- 25] .
ومن المحتمل أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في العهد المدني أدخل تعديلات على
__________
(1) انظر نصوص الأحاديث وأسماء رواتها في كتاب «التاج الجامع» ، ج 2 ص 8- 21.(1/429)
المقادير التي حددها في العهد المكي. ومع أن مصارف الزكاة قد ذكرت في آية من آيات سورة التوبة هذه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) . التي نزلت في وقت متأخر من العهد المدني فإن أسلوبها والسياق الذي جاءت فيه يلهمان أن هذه المصارف كانت مما جرى عليه قبل نزولها، وبالتالي أنها تشريع نبوي ثبت في هذه الآية. وقد ذكرت بعض هذه المصارف بألفاظها في إحدى آيات سورة البقرة المبكرة في النزول في العهد المدني وهي: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ [177] .
والزكاة في الآية التي نحن في صددها قرنت إلى الصلاة. وهذا تكرر في معظم الآيات التي ذكرت فيها الصلاة. وفي هذا القرآن من جهة وفي جعلها من صفات المؤمن الرئيسية كما جاء في آية النمل التي أوردناها قبل، وكما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وغيرهما. وبعبارة أخرى في جعلها عنوانا من عناوين الإيمان وركنا من أركان الإسلام من جهة ثانية توطيد لمبدأ المعونة المالية للمحتاجين إليها وللمصالح العامة بصورة إلزام وفرض، وعدم ترك ذلك للتطوع والاختيار. ولقد روي أن ابن عباس سئل عن حكمة قرن الصلاة إلى الزكاة في القرآن فقال لأن الصلاة والزكاة توأمان في الإسلام لا تقبل إحداهما بدون الأخرى. تلك حق الله وهذه حق الناس.
ولعل فريضة الزكاة بهذه الصفة والمعنى من أعظم التشريعات الإسلامية سعة مدى وأثرا في صلاح المجتمع الإسلامي وأمنه وتضامنه، وتخفيف أزمات بنيه ومحتاجيه، وتقليل أسباب الأحقاد والضغائن والحسد بين المحتاجين، وغير المحتاجين، وتيسير تغذية المشاريع العامة التي لا تقوم إلّا بالمال. وهي من أعظم(1/430)
مميزات الشريعة الإسلامية على غيرها، على هذا الاعتبار والمعنى ومن أعظم مرشحاتها للخلود.
ولقد ذكرت الزكاة حضا عليها وإيجابا لها وتنويها بفاعليها وتنديدا بمانعيها ووعدا بمضاعفة ثوابها وبإخلاف الله على فاعليها في آيات كثيرة جدا مكية ومدنية تغني كثرتها عن التمثيل حيث ينطوي في ذلك مقدار العناية التي أعارتها حكمة التنزيل للزكاة ومدى ما كان وقدر لها من أثر وخطورة في حياة المجتمع الإسلامي. ولقد ورد مثل ذلك في أحاديث نبوية عديدة أيضا.
من ذلك ما رواه الشيخان والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهمّ أعط ممسكا تلفا» «1» . وما رواه كذلك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب ولا يقبل الله إلّا الطيّب إلّا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله» «2» . وروى الترمذي زيادة على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» «3» .
وما رواه النسائي عن أبي سعيد قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فقال: والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم أكبّ فأكبّ كلّ رجل منّا يبكي لا ندري على ماذا حلف ثمّ رفع رأسه في وجهه البشرى فكانت أحبّ إلينا من حمر النّعم ثم قال ما من عبد يصلّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر إلّا فتحت له أبواب الجنة فقيل له (ادخل بسلام) » «4» . وما رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثمّ يأخذ
__________
(1) التاج الجامع، ج 2 ص 4- 5.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه، ص 5- 7.(1/431)
بلهزميه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران/ 180] «1» . مما ينطوي فيه كذلك تساوق مع العناية والخطورة اللتين أعارتهما حكمة التنزيل للزكاة.
وفي القرآن آيات عديدة تنبه المسلمين بل والناس جميعا إلى أمر هام وهو أن ما في أيديهم من مال هو مال الله الذي رزقهم إياه وجعلهم مستخلفين فيه ليكون في ذلك تلقين جليل هو أنهم وكلاء على هذا المال وأن صاحبه الأصلي هو الله وهو الذي يأمرهم بالإنفاق منه فليس لهم من جهة منة على أحد فيما ينفقون وليس لهم من جهة أخرى حق في الامتناع عن الإنفاق. من ذلك آية سورة الحديد هذه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) ، وآية سورة النور هذه: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [33] ، وآية سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [254] .
والزكاة ضريبة سنوية على رأس المال وليست على الربح بالنسبة للنقود والعروض والمواشي والأنعام وعلى جميع الغلات الزراعية غير الصافية. وبكلمة أخرى إن المعوزين المفتقرين إلى المعونة حقا يستحقون في كل سنة جزءا معينا من كل ذلك واجب الأداء في كل سنة جزءا معينا من رؤوس الأموال التي في أيدي الناس يبلغ مقداره اثنين ونصفا من المائة بالنسبة للنقود والعروض وعشرة من المائة بالنسبة للغلات الزراعية ونحوا من ذلك بالنسبة للمواشي. وهو مقدار لم تصل الأمم الحديثة التي تقرر حصة من مواردها للإنفاق على المعوزين إلى مثله.
وننبه على أنه ليس هناك ما يمنع أن ينفق هذا المورد الكبير أو قسم منه على
__________
(1) المصدر السابق ج 2 ص 5- 7. [.....](1/432)
إنشاء المياتم ودور العجزة والصنائع ودور الضيافة والمشافي والعيادات والملاجئ والمعاهد المتنوعة لمصلحة الفئات المعوزة فيكون الانتفاع به أشمل وأدوم وأجدى.
وإذا لوحظ أن التشريع الإسلامي لم يقتصر على هذه الضربية لمصلحة المعوزين بل أوجب لهم جزءا آخر من كل مورد مالي رسمي ذكر في القرآن وهو الفيء والغنائم على ما سوف نشرحه في مناسباته ومما يمكن أن يقاس عليه الموارد الرسمية المالية الأخرى. ثم إذا لوحظ أن القرآن احتوى إلى جانب ذلك آيات كثيرة تغني كثرتها عن التمثيل فيها حثّ على التصدق على الفقراء والمساكين والمحتاجين والإنفاق في سبيل الله بأسلوب يلهم أن المقصود منها صدقات تطوعية زيادة على الفريضة على ما سوف ننبه عليه في مناسباته بدت قوة وروعة حكمة الله بهذه الفئات وقصد ضمان صلاح المجتمع الإسلامي وأمنه وتضامنه وتخفيف أزمة بنيه والمحتاجين وتقليل أسباب الأحقاد والضغائن والحسد على ما ألمحنا إليه آنفا.
وبدت قوة جريمة الذين لا يراعون قصد الله عز وجل فلا يؤدون الحق المفروض لهذه الفئات وشدة مسؤوليتهم عن ما يتعرض له المجتمع من هزات وأزمات بسبب ذلك.
وآية التوبة التي أوردناها صريحة الدلالة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي كان يجبي الزكاة بواسطة عمال يعينهم وينفقها على مصارفها في حدود ما يراه من مصلحة وحاجة وظرف. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يمثل بذلك سلطان الدولة في الإسلام، وهذا يسوغ القول أن سلطان الدولة في الإسلام هو صاحب الحق في جباية الزكاة وإنفاقها في حدود ما رسمه القرآن والسنة النبوية الثابتة «1» .
ونكتفي هنا بما تقدم، وهناك أحاديث نبوية وصحابية واجتهادات فقهية حول مقادير الزكاة والفئات والجهات التي تستحقها سنوردها ونتوسع في شرحها في سياق آية سورة التوبة التي هي أكثر ملاءمة.
__________
(1) اقرأ بحث النظام المالي في كتابنا الدستور القرآني في شؤون الحياة.
الجزء الأول من التفسير الحديث 28(1/433)
تعليق على تعبير وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
وبمناسبة ورود هذا التعبير لأول مرة نقول إنه كما هو المتبادر تعبير استحثاثي على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على المحتاجين وقد تكرر في آيات مدنية عديدة.
وفيه معنى لطيف يزيد في قوة الحث وهو أن الذي ينفق أمواله في سبيل الله ويتصدق بها على المحتاجين كأنما يقرض الله وأن الذي يقرض الله يستحق الوفاء أضعافا مضاعفة. وهذا ما ورد في آيات عديدة مثل آية سورة البقرة هذه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) وورود هذا التعبير بعد الأمر بإيتاء الزكاة في الآية التي نحن في صددها ذو مغزى عظيم حيث يفيد أن المطلوب من الميسورين ليس الزكاة فقط بل أكثر منها وأن الزكاة هي الحد الأدنى الواجب الذي يكون تركه معصية كبيرة. ويتبادر لنا أن هذا المعنى هو المقصود في كل موضع جاء فيه التعبير والله أعلم.
تعليق على تعليم الاستغفار
ولقد انتهت الآية بطلب استغفار الله، والغفران في الأصل بمعنى الستر والوقاية، ثم صار بمعنى التسامح والإغضاء عن الذنوب. والمرجح أنه كان بهذا المعنى قبل البعثة أيضا.
وفي الأمر تلقين رباني بأن الله يعلم أن أكثر الناس لا يمكنهم أن يكونوا في نجوة من الهفوات والأخطاء، وأنه هو الغفور الرحيم الذي من شيمته التسامح والإغضاء وشمول عباده بالرحمة الواسعة إذا آمنوا به واعترفوا بذنوبهم وندموا عليها ولجأوا إليه يطلبون غفرانه ورحمته. وفي هذا ما فيه من حث المذنب على الندم والتوبة وتأميله بالغفران والرحمة وبعبارة أخرى فيه وسيلة من وسائل التربية الروحية وقصد إصلاح المسلم وصلاحه وهو مما تتوخاه الآيات القرآنية بصورة عامة.
ولقد تعددت الآيات التي تأمر المؤمنين بالاستغفار في السور المكية والمدنية(1/434)
مما فيه تدعيم لهذا التلقين. وفي إحدى آيات سورة النساء حض للمسيئين بالاستغفار وتأميل بغفران الله لمن يستغفره وهي: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
(110) . وفي إحدى آيات سورة آل عمران تنويه بالمستغفرين وهي: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) .
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في حض المؤمنين على الاستغفار وتعليم بعض صيغه وبيان فوائده. منها حديث رواه البخاري والترمذي وأبو داود عن شداد بن أوس قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سيد الاستغفار أن تقول اللهمّ أنت ربّي لا إله إلّا أنت. خلقتني وأنا عبدك. وأنا على عهدك ما استطعت. أعوذ بك من شرّ ما صنعت. أبوء لك بنعمتك عليّ. وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت. قال ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن زيد مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فرّ من الزحف» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» «3» وحديث رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا ومن كلّ همّ فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب» «4» . وحديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
__________
(1) التاج، ج 5 ص 134- 135.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 135- 137.
(4) المصدر نفسه.(1/435)
«أنزل الله عليّ أمانين لأمتي، وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال/ 33] فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» «1» . وحديث أورده ابن كثير في سياق آية النساء المار ذكرها أخرجه ابن مردويه عن علي قال: «سمعت أبا بكر هو الصديق يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ما من عبد أذنب فقام فتوضّأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلّى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له لأنّ الله يقول: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء/ 110] الآية» ، حيث ينطوي في كلّ هذا تلقين نبوي متسق مع التلقين القرآني.
ويحسن بنا أن ننبه في هذا المقام على نقطة هامة، وهي أن الاستغفار يعني التوبة أو هو صيغة من صيغها. وللتوبة شروط وهي الندم على الذنب والعزم على الإصلاح وعدم الرجوع إليه في فسحة من العمر والعافية على ما تفيده الآيات الكثيرة التي سوف نوردها ونعلق عليها في سياق سورة البروج التي ذكرت فيها التوبة لأول مرة والتي يأتي تفسيرها في هذا الجزء. وفائدة الاستغفار إنما تتحقق بذلك ولا تكون بحركة اللسان والشفتين وحسب. ومن الأولى أن تحمل الأحاديث النبوية الخاصة على الاستغفار والمبشرة بفوائده على ذلك.
تعليق على تعبير سبيل الله
وتعبير «سبيل الله» يأتي لأول مرة في الآية التي نحن في صددها وإن كانت مدنية. ولقد التبس مفهومه بحيث صار كثير من الناس يظنون أنه الجهاد ووسائله لأنه جاء كثيرا في آيات الجهاد، غير أن إمعان النظر في هذه الآيات يكشف أنه غير الجهاد وأنه أعم منه وأن الجهاد بالمال والنفس إنما شرع لأجله، وأنه في الحقيقة مرادف لمعنى طريق الله ودعوته ودينه وتعاليمه الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية والسياسية والتهذيبية التي احتواها القرآن
__________
(1) التاج، ج 4 ص 109.(1/436)
وهدى إليها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبعبارة ثانية إنه الدعوة الإسلامية نفسها.
وهذا ما يبدو واضحا بقوة في آية سورة النحل هذه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(125) [125] . وإذا كان تعبير سبيل الله اقترن في القرآن كثيرا بالجهاد فلا يعني هذا أن الجهاد قد شرع لنشر الدعوة الإسلامية. فالقرآن قد قرر خطة حكيمة مثلى لنشر الدعوة منطوية في آية النحل وفي آيات كثيرة أخرى مكية ومدنية. وقد ظلت هذه الخطة خطة النبي صلّى الله عليه وسلّم في عهديه المكي والمدني ثم خطة خلفائه من بعده. أما الجهاد فقد شرع لمقابلة العدوان ودفع الأذى وحماية الدعوة من الصد والتعطيل والطعن مما احتوى القرآن كثيرا من الآيات في صدده سوف نشرحها في مناسباتها.
ويروي الخمسة حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم منّي ماله ونفسه إلّا بحقّه وحسابه على الله» «1» . ولما كانت جميع الغزوات التي قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم وجميع السرايا التي سيرها كانت ضد أعداء بادئين بالعدوان ومقابلة لعدوان وتنكيلا بمعتدين ومتآمرين على العدوان وناقضين للعهد وصادين عن دين الله ولم يرو أية رواية أن النبي قاتل أناسا لأنهم كفار ودون أن يبدو منهم عمل عدواني ما. فنحن نحمل هذا الحديث على قصد أنه أمر بمقاتلة الأعداء حتى يقولوا لا إله إلّا الله كما جاء في آية سورة التوبة هذه: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5] ، وعبارة فَإِنْ تابُوا صريحة الدلالة على أن المقصودين هم أعداء معتدون. وبعد هذه الآية آيات أكثر صراحة في هذا الباب وهي: فَإِنْ تابُوا
__________
(1) «التاج» ، ج 4 ص 326. وهناك حديث في بابه في صيغة أخرى رواه أصحاب السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلّا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ج 4 ص 326.(1/437)
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) ، وهذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن لأن سورة التوبة هي آخر ما نزل وقد نزلت بعد فتح مكة. وبالإضافة إلى هذا فإن هذا الحديث روي في مناسبتين أخريين، أولاهما رواها الترمذي في سياق آيتي سورة الغاشية: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) ، فقال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال نفس الحديث ثم تلا هاتين الآيتين» «1» حيث يفيد هذا أنه إنما قال الحديث ليكون مفسرا لخطته بالنسبة لمن يعصمون بقولهم لا إله إلّا الله دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وليقول إنه يترك حساب ما لا يعرف من أعمال الناس الذين يقولون لا إله إلّا الله إلى الله وليس هو محاسبا على خفاياهم وأسرارهم. فإذا كان الحديث في أصله قد صدر من النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموقف وحسب فيكون لذلك دلالته الخطيرة في صدد ما نحن بسبيل تقريره. أما المناسبة الثانية فهي عزيمة أبي بكر رضي الله عنه على حرب الممتنعين عن الزكاة بعد وفاة النبي حيث جاءه عمر رضي الله عنه فقال له: كيف تقاتلهم وهم يقولون لا إله إلّا الله وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإن قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله؟ فقال له أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقا لقاتلتهم على منعها فلم يلبث أن شرح الله صدر عمر وجعله يرى موقف أبي بكر هو الحقّ «2» . وهذه الرواية يرويها أصحاب الكتب الخمسة. وخطورة دلالتها لا تقل عن خطورة دلالة رواية المناسبة الأولى إن لم تفقها. ويتبادر لنا أن رواية الترمذي هي أصل ظرف صدور الحديث وأن رواية
__________
(1) «التاج» ، ج 4 ص 258.
(2) المصدر نفسه، ج 2 ص 7- 8.(1/438)
أصحاب الكتب الخمسة هي المتأخرة وهي في مثابة تطبيق للحديث في مقام مماثل للمقام الذي صدر فيه الأصل.
وكان رد أبي بكر رضي الله عنه واضعا للأمر في نصابه من حيث إنه أصرّ على قتال الممتنعين عن الزكاة لأنهم امتنعوا عن أداء حق المال. ومع ذلك حتى لو أردنا أن نأخذ الحديث مجردا من زيادة الترمذي وملابسة حرب الممتنعين عن الزكاة فإن حمله على قصد مقاتلة الأعداء هو الأولى بل الأوجب كما قلنا ما دام أنه لم يرو قط أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاتل حياديين ومسالمين وموادين أو أمر بقتال غير المقاتلين من ذوي الأعداء من شيوخ ونساء وأطفال.
وفي سورة الممتحنة آية فيها فيما نعتقد القول المحكم الفيصل في هذا الباب وهي: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) ، ولقد قال المفسر الطبري في صدد هذه الآية إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال إنها عنت جميع من لم يقاتل المسلمين في الدين من جميع أصناف الملل والأديان وأنه لا معنى لقول من قال إن ذلك منسوخ لأن برّ المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا. إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/439)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
سورة المدّثّر
في هذه السورة أول أمر صريح للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالقيام بمهمة الدعوة والإنذار، ورسم الخطة التي يجب عليه اتباعها في ذلك. وفيها إنذار للكفار بيوم القيامة وتنديد بمن وقف من النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن موقف الهزء والإنكار والإعراض والتحدي. وتقرير لمسؤولية الإنسان عن عمله. وذكر للملائكة وأهل الكتاب لأول مرة أيضا. ومن المحتمل أن تكون آياتها الأولى نزلت لحدتها، وأن يكون ترتيب السورة بسبب نزول هذه الآيات مبكرة لأن الآيات الأخرى احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلّا بعد مضي النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته شوطا ما. على أن أسلوب آيات السورة وانسجامها يسوغ القول أيضا أنها نزلت دفعة واحدة أو متلاحقة. وأن الآيات الأولى بسبيل التثبيت. وحينئذ يكون ترتيبها كرابع سورة غير صحيح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
. (1) المدثر: المتدثر أي المتلفف بدثاره أو غطائه.
(2) الرجز: الفحش قولا وعملا أو المعصية والأوثان والإثم «1» .
(3) ولا تمنن تستكثر: لا تعط ما تعطيه بقصد نيل الأكثر مقابلة له، وقيل لا
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.(1/440)
تستكثر ما تفعله من الخير وتمنن به أي تفخر به أو تحمل من تعطيه الجميل «1» ، ويمكن أن تكون بمعنى أنك إذا لم تمنن بما تعطيه ييسر الله لك الأكثر منه، من باب لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم/ 7] .
ظاهر أن في ألفاظ بعض الآيات تأخيرا وتقديما لحفظ الوزن والقافية وأن تقديرها: وكبر ربك وطهر ثيابك واهجر الرجز ولا تستكثر ما تفعل ولا تمنن به أو لا تفعله للاستكثار من المقابلة عليه واصبر لحكم ربك، ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح آخر.
وقد ذكرت الروايات أن هذه الآيات نزلت بعد فترة قصيرة من الوحي، بعد نزوله الأول على النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء. ومما جاء في حديث مروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثوت منه خوفا وجئت أهلي فقلت زملوني زملوني، وفي رواية دثروني دثروني، فدثروني فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. ثم تتابع الوحي «2» وهناك روايات تذكر أنها أول ما أنزل أو أنها ثاني أو ثالث أو رابع مجموعة نزلت «3» .
ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت حكاية أقوال بعض المكذبين ومواقفهم، ولا يمكن أن يكون هذا إلّا بعد نزول جملة من القرآن وسير النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة شوطا، فيكون ترتيب السورة المتقدم بسبب رواية تبكير نزول آياتها الأولى هذه.
والرواية التي تذكر أولية نزولها على غيرها وردت في حديث رواه البخاري
__________
(1) انظر الطبري أيضا.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وحديث جابر رواه الشيخان والترمذي أيضا بصيغة قريبة جدا. انظر التاج ج 3 ص 228.
(3) انظر تفسير الآيات في تفسير الآلوسي وتاريخ الطبري ج 2 ص 50- 52 مطبعة الاستقامة.(1/441)
ومسلم عن يحيى قال: «سألت أبا سلمة أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قلت: أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ! فقال: لا أخبرك إلّا بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا ففعلوا وأنزل عليّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) » «1» [سورة المدثر: 1- 3] .
ومع ذلك فليس في الكلام النبوي ما يساعد على الجزم بأولية الآيات. ويظل حديث أولية آيات سورة العلق الأولى أقوى.
والآيات تحتوي أول أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإنذار الناس ودعوتهم وبما يجب عليه من الظهور بالمظهر الطاهر النظيف واللسان العفيف والتواضع. وهذا مما يمكن أن يدعم رواية كونها ثانية مجموعة نزلت بعد آيات العلق الأولى. والمصحف الذي اعتمدناه هو الذي ذكر أنها نزلت بعد المزمل، وجعلها رابع السور نزولا فلم نشأ أن نخلّ في ترتيبه.
على أن روح الآيات ونظمها وروح الآيات التالية لها ونظمها أيضا يمكن أن يلهم أنها غير منفصلة عن بعضها. وحينئذ فإن الآيات تكون قد نزلت بقصد تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وتكون قد نزلت هي والآيات التالية لها معا أو متلاحقة بعد نزول سور وفصول قرآنية فيها مبادئ الدعوة وأهدافها. وفي هذه الحالة يكون ترتيبها كرابعة سورة قرآنية غير صحيح.
وعلى كل حال فالآيات وآيات السورة معا مما نزل مبكرا على ما يلهم أسلوبها ومضمونها والخطة التي رسمها الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة والاتصال بالناس
__________
(1) التاج ج 4 ص 247. وهناك حديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قريب من هذا مع زيادة ونصه: «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه ورجعت وقلت زملوني زملوني فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» . التاج ج 3 ص 227- 228. [.....](1/442)
ودعوتهم وإنذارهم من الأدلة القوية على ذلك. وهي خطة رائعة جليلة الشأن، فالله أكبر من كل شيء، وكل ما عداه حقير صغير، فلا ينبغي أن يعتبر غيره كبيرا مرهوبا ويجب أن يكون التعظيم له وحده. والصبر والثبات في المهمة كافلان للنجاح فيها. والداعي إلى الله ومكارم الأخلاق يجب أن يكون القدوة الصالحة لمن يدعوهم في الاستغراق في الله ومكارم الأخلاق وفعل الخير، بدون منّ واستكثار وانتظار جزاء ومقابلة، والطهارة مع البعد عن كل فحش وإثم وبذاءة ومظهر مستنكر.
والمدقق في السيرة النبوية وآيات القرآن التي احتوت أصدق الصور عنها يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم التزم هذه الخطة. وكانت من أقوى وسائل نجاح دعوته وتفاني أصحابه السابقين إلى الإيمان به في تأييده والالتفاف حوله وتهيب غير المؤمنين له وتقديرهم إياه وعدم إنكارهم مزاياه الخلقية.
وهذه الخطة وإن كانت كما يتبادر قد رسمت للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن ما احتوته من تلقين موجه إلى كل مسلم وبخاصة إلى كل صاحب دعوة إصلاح ومعروف وإلى كل صاحب شأن ممن يتولون في الأمة الزعامة والتوجيه والإرشاد والإصلاح.
بل إنه موجه إلى كل مسلم إطلاقا في كل زمن ومكان ليكون عنوانا للخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلمون مظهرا وسيرة.
وفي القرآن آيات عديدة تؤكد ذلك، من ذلك في صدد المنّ آيات سورة البقرة هذه: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [264] .
وفي صدد الفواحش والآثام في الأقوال والأفعال آية سورة الأعراف هذه:
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ(1/443)
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
(33) .
وهناك أحاديث عديدة متساوقة مع الآيات، من ذلك حديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء» «1» ، وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي بكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنة خبّ ولا منّان ولا بخيل» «2» .
وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق» «3» . ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث توجب غسل النجاسات عن الثياب مثل الدم والبول والغائط من ذلك حديث رواه البزار عن عمار بن ياسر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم» «4» . وقد رتّب الفقهاء على ذلك كون طهارة الثياب ركنا من أركان الصلاة، ولقد أوجب الله على المسلم أن يصلي خمس مرات كل يوم، ويستتبع هذا واجب عناية المسلم بطهارة ثيابه في كل وقت في الليل والنهار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ومن الجدير بالذكر أن حثّ الله ورسوله على الطهارة لا يقتصر على طهارة الثياب. ففي القرآن والأحاديث نصوص كثيرة توجب على المسلم طهارة البدن بالإضافة إلى طهارة ثيابه فيتوضأ إذا قام إلى الصلاة ويغتسل إذا كان جنبا ويغسل أطرافه ويغتسل حتى لغير الوضوء والجنابة مما سوف نورده وننبه عليه في مناسبات أخرى.
هذا، والتساوق في مطلعي السورتين المزمل والمدثر لافت للنظر، ففي مطلع الأولى إعداد للنبي صلّى الله عليه وسلّم لمهمته العظمى وفي مطلع الثانية خطة له حينما أمر
__________
(1) التاج ج 5 ص 34- 38.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) مجمع الزوائد ج 1 ص 283.(1/444)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
بدعوة الناس وإنذارهم. بل إن التساوق بين مطلعي السورتين الأوليين أيضا ملحوظ إذا ما أنعم القارئ النظر، وكل هذا يؤيد تبكير نزول هذه المطالع.
[سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 10]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
. (1) الناقور: الأداة التي يدق عليها أو ينفخ فيها لإحداث صوت خاص بدعوة الناس وتنبيههم أو هو الصور أو القرن «1» .
في الآيات إشارة إلى الموقف العصيب العسير الذي سوف يواجهه الكافرون حينما يبعث الناس إلى يوم القيامة والحياة الأخرى.
والمتبادر أنها بسبيل الإنذار والوعيد، والفاء التي بدئت بها الآيات تعقيبة، فكأنما جاءت الآيات معقبة على أمر الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر الذي كان في معرض التثبيت والتطمين، ومؤكدة له. فعليه الصبر لأمر ربه رغما عن موقف الجاحدين لرسالته الذين سوف يكون حسابهم عسيرا يوم الجزاء الأخروي. وقد يلهم هذا صحة التوجيه الذي وجهناه من أن آيات السورة متصلة ببعضها نظما وموضوعا ونزولا.
تعليق على النقر في الناقور ومرادفه النفخ في الصور
وما ورد في ذلك من أحاديث:
والنقر في الناقور هو إيذان للبعث والقيامة الأخروية على ما تفيده العبارة والآيات. وقد فسره المفسرون وعلماء اللغة بالصور أو القرن الذي ينفخ فيه لتجميع الناس. وكلمة الناقور لم ترد إلّا هذه المرة. غير أن كلمة الصور التي ترادفها في المعنى وردت مرات عديدة منها ما ورد بدون آثار مثل آية سورة ق
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.(1/445)
هذه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) ، وآية سورة طه هذه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) . ومنها ما ورد مع ذكر آثار النفخ في البشر مثل آية سورة النمل هذه: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ... [87] ، وآية سورة الزمر هذه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) . وهناك أحاديث عديدة متنوعة الرتب في الصور، منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة، من ذلك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر، أن ينفخ فينفخ، قال المسلمون فكيف نقول يا رسول الله؟
قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، وعلى الله توكّلنا» «1» . وحديث ثان روياه أيضا جاء فيه: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّور فقال قرن ينفخ فيه» «2» . وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا جاء فيه: «ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الدجّال إلى أن قال ثم ينفخ في الصّور فلا يسمعه أحد إلّا أصغى لتيا ورفع لتيا وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل أو قال ثم ينزل الله مطرا كأنه الطلّ أو الظلّ فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال يا أيها الناس هلمّ إلى ربّكم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ثم يقال أخرجوا بعث النار فيقال من كم فيقال من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذاك يوم يجعل الولدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق» «3» . وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أييت.
قالوا أربعون شهرا قال أييت، قالوا أربعون سنة قال أييت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلّا يبلى إلّا عظما واحدا وهو
__________
(1) التاج ج 4 ص 201.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ج 5 ص 328- 329 وفسّر الشارح كلمه لتيا بمعنى ناحية من عنقه وكلمة (أييت) بمعنى لا أدري.(1/446)
عجب الذنب ومنه يركّب الخلق يوم القيامة» «1» .
ومنها أحاديث أوردها المفسرون في سياق السور التي ذكر فيها الصور رواها أئمة حديث آخرون وهي إجمالا من باب الأحاديث السابقة وصحتها محتملة. منها حديث رواه الطبري في سياق تفسير جملة إن هي: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [ص/ 15] ، عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله لمّا فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر قال أبو هريرة يا رسول الله وما الصور؟ قال:
قرن. قال: كيف هو؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات نفخة الفزع الأولى والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين. يأمر الله اسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض إلّا من شاء الله ويأمره الله فيديمها ويطوّلها فلا يفتر وهي التي يقول الله: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [ص/ 15] «2» .
وما دام النفخ في الصور والنقر في الناقور قد ذكر في القرآن مع شيء من البيان في أحاديث نبوية صحيحة فمن واجب المسلم الإيمان بذلك مثل سائر المشاهد الأخروية التي ورد خبرها في القرآن والحديث الصحيح. وهذا لا يمنع القول إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تكون المشاهد الأخروية الأخرى من حساب ونعيم وعذاب مما هو مألوف في الدنيا من صور وبعبارات من بابها على ما ذكرناه في تعليقنا على الحياة الأخروية والجنة والنار في سور الفاتحة والقلم والمزمل اقتضت أن تكون دعوة الناس حين بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة حينما تقترن مشيئة الله بذلك بأدوات وأساليب مألوفة في الدنيا من حيث أن الناس اعتادوا الضرب على الطبول والنفخ بالأبواق والقرون والنقر على الأدوات المصوتة
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) هناك أحاديث أخرى رواها المفسرون في صدد الاستثناء الوارد في آيتي سورتي النحل والزمر سنوردها في مناسباتهما.(1/447)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
والهتاف بالأصوات العالية والصيحات الداوية حينما يراد تجميع الجموع لأمر هام. ولقد ورد في سورة ق ثلاث صور من ذلك معا، ففي آية ذكر نفخ الصور [20] وفي آية ذكر المنادي [41] وفي آية ذكرت الصيحة [42] . وقد يصح أن يضاف إلى ما قلناه أن فحوى وأسلوب الآيات والأحاديث يسوغان القول إن قصد التأثير على السامعين وبعث الخوف والرهبة في قلوبهم من يوم الحشر والحساب الأخروي وحملهم على تقوى الله لينالوا رضاءه وأمانه فيه من الحكمة المنطوية فيها، والله تعالى أعلم.
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 17]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)
. (1) خلقت وحيدا: يمكن أن تكون الجملة بمعنى خلقته مجردا من كل قوة ومال وبنين. والآيات التالية تدعم هذا التأويل.
(2) بنين شهودا: يمكن أن تكون الجملة بمعنى بنين حاضرين لديه لنصرته وقضاء مصالحه.
(3) مهدت له: مكنت له.
(4) سأرهقه صعودا: بمعنى سأتعبه وأحمله المشقات لأن المشقة تحصل عادة من الصعود للمرتفعات.
والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك.
ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيدا رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلّا الصعاب والمشاق. وكلمة «ذرني» التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلم، فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.(1/448)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
وقد روي «1» أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.
ومما روي «2» أن هذا قال: إذا كان محمد صادقا فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلّا لي ولأمثالي فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.
وهذه الآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صدّا وعنادا من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلّى الله عليه وسلّم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى: فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.
[سورة المدثر (74) : الآيات 18 الى 25]
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
. (1) إنه فكر وقدر: بمعنى استنتج وحسب بعد التفكير.
(2) قتل: دعاء بمعنى قاتله الله.
(3) بسر: تجهم.
(4) سحر: أصل معنى الكلمة إزالة الشيء أو صرفه عن موضعه. ومن
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والآلوسي.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير الكشاف للزمخشري.
الجزء الأول من التفسير الحديث 29(1/449)
التعريفات التي عرف بها أنه كل ما دقّ مأخذه وخفي سببه من آثار نفسية وحسية.
أو كل ما ظهر على غير حقيقته. أو كل ما يحدث في النفس والحث من آثار غير اعتيادية.
(5) يؤثر: معروف مأثور.
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم وتجهم ثم أدبر عنه مستكبرا مستخفا قائلا إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلّا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق السابق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلا بارزا.
وقد روى المفسرون أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات أن الوليد قال لزعماء قريش: سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فوجده قائما يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال: سمعت قولا حلوا أخضر مثمرا يأخذ بالقلوب، فقالوا: هو شعر؟ فقال: لا والله ما هو بالشعر وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا: فهو كاهن؟ فقال: لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا: فهو سحر الأولين اكتتبه؟ فقال: لا أدري إن كان شيئا فهو إذا سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة ولكنها متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة(1/450)
القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول ردا قويا ردّ على هذا ردا قويا أيضا. ثم بين بعد قليل جانبا من أهداف الدعوة السامية وحمل حملة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلّى الله عليه وسلّم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقا في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلّا حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علما صادقا على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل. ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من «هذا القرآن» وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله إلّا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
تعليق على موضوع السحر
وبمناسبة ورود كلمة السحر ونسبة الكفار السحر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأول مرة نقول: إن كلمة السحر ومشتقاتها قد وردت في القرآن نحو خمسين مرة. ولقد تكرر فيه حكاية قول الكفار ما حكته الآية التي نحن في صددها. وقد جاء في آيات أخرى حكاية نعتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالساحر والمسحور، مثل ما جاء في آية سورة يونس هذه: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ(1/451)
لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ
(2) ، ومثل ما جاء في آية سورة الفرقان هذه: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) ، كما أنه ورد في القرآن آيات عديدة ذكر فيها السحر في غير معرض الدعوة النبوية مثل ما جاء في سورة البقرة هذه: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [102] . وأكثر ما ورد في معرض الدعوة قد ورد في حكاية مواقف حجاج الكفار خاصة في موضوع البعث بعد الموت وجحوده، حيث يفيد هذا بطبيعة الحال أن السحر كان معروفا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره، وأن من المحتمل- إن لم نقل من المحقق- أنه كان في بيئة النبي وعصره سحرة يرجع إليهم الناس في قضاء مطالبهم ورغباتهم «1» .
والآيات القرآنية يمكن أن تفيد أن مفهوم السحر عند العرب هو أعمال خارقة تقع على أيدي أشخاص ذوي مواهب وبراعة وقوى فوق العادة فيرى الناس بتأثيرها ما لا يرى في العادة، ويسمعون ما لا يسمع في العادة، ويحسون ما لا يحس في العادة وتحدث أمور لا تحدث في العادة أيضا. ويمكن أن تفيد أيضا أن من العرب من كان يظن أن السحر وأعمال السحر تخييلات أكثر منها وقائع حقيقية مما انطوى في آية سورة الأنعام هذه: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ، وفي آية سورة هود هذه: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ، وفي آيات سورة الحجر هذه: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) ، وفي آيات سورة ص هذه: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) .
__________
(1) اقرأ موضوع السحر والكهانة في الباب الثالث (الحياة العقلية) في كتابنا «عصر النبي صلّى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة» ص 293 وما بعدها.(1/452)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
وفي القرآن آيات أخرى تفيد أيضا صحة ما كان يدور في أذهان العرب عن السحر حيث ورد في سورة الأعراف في سياق قصة موسى وفرعون آية فيها حكاية لقول موسى عليه السلام للسحرة وهي هذه: قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) ، وحيث ورد في سورة طه في سياق مماثل هذه الآية: قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) .
والمتبادر أن العرب بناء على هذه المفهومات كانوا يظنون ويزعمون أحيانا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ساحر وأحيانا أنه مسحور وأن القرآن سحر لأنهم رأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول ما لم يعتادوه ويخبر بما لم يكن لهم به عهد وبما لا يمكن مشاهدته وإدراكه في العادة وبما ظنوه مستحيلا. ولأنهم سمعوا من القرآن بلاغة مؤثرة تذهب بلبّ السامع وتؤثر على روحه. ولعل نعتهم إياه بالمسحور كان يعني زعمهم أنه تحت تأثير السحر فيما يقوله ويخبر به ويدعيه ويتلوه.
والآيات التي أوردناها هي بسبيل حكاية الواقع سواء أفي ما ذكرته من أقوال العرب وأشارت إليه من مفهوماتهم أم فيما ذكرته في سياق قصة موسى عليه السلام وسحرة فرعون أكثر منها بسبيل تقرير حقيقة السحر.
وفي سورة البقرة آية في السحر استطرد المفسرون في سياقها إلى موضوع حقيقة السحر وأثره وحكمه وأوردوا بعض الأحاديث والمذاهب في ذلك رأينا أن نؤجلها إلى مناسبتها التي هي أكثر ملاءمة مكتفين الآن بما تقدم.
[سورة المدثر (74) : الآيات 26 الى 31]
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)(1/453)
(1) سقر: النار الشديدة الحرارة.
(2) لا تبقي ولا تذر: تحرق كل أجسادهم ولا تبقي منها شيئا «1» .
(3) لواحة: حارقة.
(4) : البشر: في الآية [29] بمعنى بشرات الأجسام وجلودهم وفي الآية [31] بمعنى الناس.
(5) فتنة: اختبار وابتلاء وامتحان.
الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت:
1- إنذارا ربانيا لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود.
2- وإخبارا بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله.
3- وتعليلا لحصر العدد حيث ذكر ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها، وسببا لازدياد إيمان المؤمنين.
وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو مما قصد إليه هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد.
ولقد روى الترمذي عن جابر «أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة هل يعلم نبيّكم عدد خزنة جهنّم قالوا لا ندري حتّى نسأل نبينا فجاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد غلب أصحابك اليوم قال وبم غلبوا؟ قال: سألهم اليهود فقالوا لا ندري حتّى نسأل نبيّنا قال أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون فقالوا حتى نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إنّي سائلهم عن تربة
__________
(1) انظر تفسيرها في الطبري. [.....](1/454)
الجنة وهي الدّرمك فلمّا جاؤوا قالوا يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنّم قال هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعا قالوا نعم فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ما تربة الجنة فسكتوا هنيهة ثم قالوا أخبرنا يا أبا القاسم فقال الخبز من الدّرمك» «1» .
وراوي الحديث صحابي مدني، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيبا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية [30] .
وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافيا لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم وبذلك يزدادون إيمانا ويقينا. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلّا الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك.
تعليق على موضوع زيادة الإيمان ونقصه
وجملة وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً في الآية [31] قد تكررت بأسلوب مقارب في سور عديدة مدنية منها آية سورة الأنفال هذه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ
__________
(1) انظر التاج ج 4 ص 247- 248.(1/455)
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) ، وآية سورة آل عمران هذه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) ، وآية سورة الأحزاب هذه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) ، وآية سورة التوبة هذه: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) .
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من المسائل التي دار الكلام والبحث حولها بين علماء الكلام وأئمة التأويل من ناحية ما إذا كان الإيمان يزيد وينقص «1» .
ومنهم من استدل بها على أنه يزيد وينقص أو على تفاضل الإيمان في القلوب وهناك أحاديث تساق في سبيل الاستدلال على ذلك أيضا منها حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري جاء فيه: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» «2» . ومنها حديث رواه الخمسة جاء فيه: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» «3» .
والذي يتبادر لنا أن الإيمان في حدّ ذاته لا يصح عليه زيادة ولا نقص مع احتفاظه بصفته. لأن الزيادة تعني نقصا سابقا والنقص يعني تراجعا وشكا.
وكلاهما ينقض صفة الإيمان لذاته. وكل ما يمكن أن يصح فيما يتبادر لنا أن هناك يقينا أو إيمانا غيبيا يمكن أن يصير يقينا أو إيمانا عينيا من قبل طمأنينة القلب بالبرهان والمشاهدة مع الإيمان قبل ذلك إيمانا غيبيا ومن قبيل ما حكي في آية البقرة هذه عن إبراهيم وجواب الله على سؤاله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
__________
(1) انظر تفسير هذه الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والخازن والطبرسي والمنار والقاسمي.
(2) التاج ج 1، ص 24.
(3) المصدر نفسه، ص 23.(1/456)
تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [260] . والجملة التي نحن في صددها تتسق مع هذا الشرح من حيث إنها تصف الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بالذين آمنوا وتقرر أنهم بتلقيهم الخبر الذي يبلغهم إياه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بالتصديق والتسليم تبعا لإيمانهم بالله ورسوله فيكون ذلك مظهرا جديدا من مظاهر قوة يقينهم وإيمانهم عبر عنه بالزيادة. وهذا ملموح بقوة في آيات آل عمران والأنفال والتوبة والأحزاب التي أوردناها آنفا، ويزداد لمحها قوة من السياق الذي وردت فيه إذا ما أمعن النظر فيه أيضا. والذي يتمعن في الأحاديث النبوية لا يجد فيها على ما يتبادر لنا أية دلالة على ما أريد الاستدلال بها عليه من احتمال الزيادة والنقص في الإيمان لذاته.
وفي سورة الحجرات آيات فيها تدعيم لما يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله وهي: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) [14- 15] . فقد علم الله تعالى أن الأعراب كانوا مشككين مرتابين وهذا يتناقض مع الإيمان فأمر نبيه بإجابتهم بأنهم لم يؤمنوا وكل ما في الأمر أنهم يمكن أن يقولوا أسلمنا لأنهم أذعنوا وخضعوا فقبل منهم ذلك تسامحا دون أن يستحقوا صفة الإيمان. ثم وصف المؤمنين الصادقين بأنهم الذين لم يرتابوا بعد أن آمنوا ... والله تعالى أعلم.
هذا من ناحية الموضوع في ذاته. وأما من ناحية الجملة في مقامها وفي المقامات الأخرى التي وردت فيها فالذي يتبادر من روح الآيات والسياق أنها تورد في صدد التنبيه والتنويه والعظة في الأمر الذي جاءت له الجملة. وليست لأجل تقرير الموضوع من الناحية الكلامية والعقائدية. وأن الأولى أخذ الأمر على هذا الوجه والوقوف عنده. وهذا يقال بالنسبة لكثير من الآيات والجمل القرآنية التي يتشاد علماء المذاهب الكلامية حولها ويحاولون استنباط مذاهبهم منها أو الاستناد إليها.(1/457)
تعليق على جملة كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدى من يشاء
وتنبيه إلى ما ينبغي ملاحظته والتعويل عليه في صدد ما قد يتوهمه بعضهم من إشكال في بعض العبارات القرآنية التعليق على هذه الجملة يتناول أمرين أو وجهين: الأول مداها في مقامها الذي جاءت فيه. والثاني مداها من وجهة عامة. ففي صدد الأول نقول إن أسلوب ومضمون الآية [31] جميعها يلهمان أن فيهما تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويها بالمؤمنين، واستشهادا بالكتابيين مع الوثوق بشهادتهم الإيجابية وإنذارا للكفار ومرضى القلوب وتنديدا بهم وأنهما يعنيان الذين كانوا يسمعون القرآن في الدرجة الأولى من مؤمنين وكتابيين ومرضى قلوب وكفار.
وفي صدد الأمر الثاني نقول إن الآية وبخاصة الجملة بسبب أسلوبها المطلق يكون مداها عاما شاملا لغير السامعين الأولين للقرآن. وينطوي في الجملة من هذه الناحية قصد تقرر كون امتحان الله تعالى الناس يؤدي إلى اهتداء من حسنت نيته وأنار الله قلبه وإلى ضلال من كان قاسي القلب سيء الطوية والقصد. وليس فيها قصد تقرير أزلية تقدير الهدى والضلال على الناس بأعيانهم أو تقرير كون هدى الناس وضلالهم هو تقدير رباني حتمي لا كسب لهم ولا خيرة لهم فيه. ولعل في الآية التالية مباشرة قرينة حاسمة حيث جاء فيها فيما جاء: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر/ 37] وفي آية أخرى تأتي بعد قليل قرينة حاسمة أخرى تقرر كون الإنسان رهنا بما يكسب: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر/ 38] كما أن في الآيات بصورة عامة قرائن حاسمة أيضا على صحة هذا التوجيه. وفي سور البقرة والرعد آيات مقاربة لهذه الجملة وفيها زيادات توضيحية تصح أن تورد كدلالة حاسمة على هذا التوجيه أيضا. ونص آيات البقرة هو: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ(1/458)
الْخاسِرُونَ
(27) ونص آيات الرعد هو: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) ، حيث تنطوي الآيات على تقرير كون الذين يهديهم الله هم أصحاب السيرة الطيبة والرغبة الصالحة في الإنابة إلى الله، والمؤمنون الذين يعملون الصالحات، وكون الذين يضلهم الله هم الفاسقون المتمردون على الله المفسدون في الأرض الناقضون لعهد الله القاطعون ما أمر الله به أن يوصل. وفي سورة الرعد آيات فيها صورة أخرى وهي أن الذين يتذكرون ويتأثرون هم أولو الألباب الموفون بعهد الله والواصلون ما أمر الله به أن يوصل دون الذين يتعامون عن الحق المنطوي في ما أنزل الله على رسوله وبمعنى آخر أن الهدى إنما يكون لهؤلاء بسبب ما عندهم من رغبة في الحق والهدى وهي: فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
(22) وجاء بعدها إشارة إلى صفات الذين لا يهديهم الله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) . وفي سورة الأعراف آية مهمة في بابها تفيد أن الذين حقت عليهم الضلالة هم الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) . وفي سورة إبراهيم آية مؤيدة لهذه المعاني وهي: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) . كذلك في سورة غافر آيات مهمة فيها مماثلة لهذه الآية مع التوضيح وهي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي(1/459)
آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ
(74) . وفي سورة يونس آية مهمة أخرى في هذا الباب وهي: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) . وفي سورة الزمر آيات هامة جدا في هذا الباب، وهي: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) ، حيث
تدعو الآيات عباد الله المسرفين على أنفسهم إلى الإنابة إلى الله واتباع أحسن ما نزل إليهم قبل مداهمة العذاب حتى لا يتحسروا على ما فاتهم من الفرص، ويقولوا فيما يقولونه أن لو هدانا الله لا هتدينا وكنا من المتقين فقد جاءتهم آيات الله ليهتدوا بها فكذبوا واستكبروا وكفروا فحق عليهم العذاب.
وقد اهتممنا لتوضيح هذه الآية وبخاصة جملة: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [31] لأنها وأمثالها التي تكررت في القرآن كانت وما تزال موضوع جدل وتشاد بين علماء الكلام في صدد الاستدلال على قابلية الإنسان لاختيار الهدى والضلال ومسؤوليته عن اختياره، ولأنها وأمثالها كانت وما تزال تبدو لبعض الباحثين محل إشكال من حيث توهمهم أن الله يقدر الهدى والضلال على أناس بأعيانهم تقديرا حتميا لا دخل لإرادتهم واختيارهم وكسبهم وأفعالهم فيه.(1/460)
ونحن نعرف أن هناك أحاديث نبوية صحيحة قد يتعارض ظاهرها مع هذا التخريج. من ذلك حديث رواه الشيخان عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله عزّ وجلّ قد وكّل بالرحم ملكا فيقول أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي ربّ مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك أي ربّ ذكر أو أنثى. شقيّ أو سعيد. فما الرزق. فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه» «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن علي قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلّا وقد علم منزلها من الجنة والنار. قالوا: يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتّكل قال اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له. ثم قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) والآية التالية لها» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «قيل يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ففي العمل أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل قال لا بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟
قال: كلّ عامل ميسّر لعمله» «3» . وفي رواية للترمذي: «قال عمر يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه فقال فيما قد فرغ منه يا ابن الخطاب كل ميسر، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأمّا من كان من أهل الشّقاء فإنّه يعمل للشقاء» «4» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول جفّ القلم على علم الله تعالى» «5» .
غير أنه ما دام هناك آيات صريحة بأن الله إنما يضل الظالمين وإنه لا يضل
__________
(1) التاج، ج 5 ص 173.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه ص 173- 174.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(1/461)
إلّا الفاسقين وإنه يهدي إليه من أناب وما في باب ذلك فينبغي حمل هذه الأحاديث وأمثالها على سبق علم الله تعالى بما سوف يختار عباده من طرق الهداية والضلال.
وهذا الموضوع متصل من ناحية ما بموضوع القدر وسيأتي تعليق مسهب عليه في مناسبة آتية أيضا، وما تقدم هو من ناحية العبارة بالذات. أما من ناحية جعلها موضوع تشاد كلامي فنقول أولا: إن الآية كما قلنا قبل قد عنت سامعي القرآن الأولين بقصد التنويه بالمؤمنين منهم وإنذارا للكفار ومرضى القلوب وتثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن الأولى أن تؤخذ على هذا الاعتبار ويوقف عنده. ومع ذلك فإن المدقق في الآيات وما يماثلها يجدها تهدف بصورة عامة إلى غير ذلك من حيث إنها تهدف إلى التدعيم والتثبيت والوصف والتقريب والتسلية على ما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية ويجد أن التشاد حولها لا محل له. ولا يتسق مع أهداف القرآن وحكمة إرسال الرسل وإنذار الناس وتبشيرهم، وإن الحق يوجب ألا يخرج القرآن عن نطاقه من التبشير والموعظة والدعوة إلى نطاق الجدل والنقاش ولا سيما فيما يتعارض مع تلك الأهداف والحكمة.
هذا، ولقد رأينا عبد الحميد الخطيب المكي يؤول في تفسيره «تفسير الخطيب» الذي نشره حديثا جملة: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بنسبة المشيئة إلى الإنسان أي إن الله يضل من يشاء لنفسه الضلالة بالكفر والإثم ويهدي من يشاء الهدى لنفسه بالإيمان والعمل الصالح. وقد هدف بتأويله إلى تثبيت قابلية المشيئة والاختيار للإنسان وتنزيه الله عن إضلال الناس وهدايتهم بدون أن يكون في ذلك أثر لكسبهم واختيارهم وأخلاقهم. ومع أن وجهة نظره تلتقي مع وجهة نظرنا التي شرحناها فإننا نرى في تأويله تكلفا وغرابة على غير ضرورة. ولا سيما وهناك آيات تنسب الهدى والضلال إلى الله وليس فيها جملة «من يشاء» مثل آية البقرة [26] التي أوردناها آنفا ومثل آية سورة الأعراف هذه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) ، ومثل آية سورة الشورى هذه: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) .(1/462)
ومن الجدير بالذكر والتنبيه في هذه المناسبة أن كثيرا مما يأتي مطلقا في آيات من أمثال هذه الآية ومما له صلة بكسب الإنسان واختياره ومصيره وثوابه وعقابه يأتي في آيات أخرى مقيدا وموضحا، فيزول بذلك الوهم واللبس اللذان قد ينشآن عن الإطلاق، ويتجلى الانسجام التام بين التقريرات القرآنية. وهذا فضلا عن أن في القرآن تقريرات ومبادئ محكمة هي بمثابة القول الفصل الذي يجب أن يعول عليه في ما يبدو من إشكالات أو مباينات في عبارة بعض الآيات وسبكها وسياقها.
وكثير من الذين يتشادون حول بعض الآيات القرآنية أو يتحيرون أمام ما يرونه في ظاهره إشكالات ومباينات يغفلون عن ذلك. فالحق الواجب هو اعتبار القرآن كلا، يفسر بعضه بعضا في كثير من الموضوعات والألفاظ والتراكيب والمعاني والسياق والمبادئ والاستعانة على تأويل ما يبدو فيه إشكال بسبب إطلاقه وأسلوبه وسياقه وعبارته بالآيات الأخرى التي فيها تقييد أو التي جاءت بأسلوب أو في سياق أوضح وأظهر أو بالمبادىء المحكمة التي هي القول الفصل. وحينئذ لا يبقى كثير مما كان من أسباب الخلاف والتشاد حول النصوص القرآنية، وسنزيد هذا توضيحا في المناسبات الآتية.
تعليق على عبارة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وجملة وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ في الآية [31] تفيد أن الذين كانوا يقفون من النبي صلّى الله عليه وسلّم موقف العناد والتكذيب والتشكيك فريقان: مرضى قلوب وكفار. ولا بد من أن يكون بينهما فرق. وقد قال بعض المفسرين «1» إن في هذا تلميحا للمنافقين الذين ظهروا فيما بعد في المدينة بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إليها. وفي هذا القول تكلف ظاهر فيما يتبادر لنا. فالآيات مكية وتحكي مواقف وصورا مكية. ولقد حكت آيات قرآنية مكية مواقف لفريقين كانوا في مكة: فريق كان يكذب النبي في دعواه بكل شدة ويقف موقف العناد والمكابرة والصدّ والأذى
__________
(1) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري.(1/463)
بدون هوادة، وفريق لم يكن في هذه الشدة، وإنما كان مترددا متشككا يقنع نفسه بالأعذار الواهية أو يخجل من الناس أو الزعماء أو يخشى شرهم، بينما كان في قرارة نفسه يعترف بصدق ما كان يخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه من أخلاق عظيمة وعقل راجح، مما ينطوي في آية الأنعام هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) ، وفي آية القصص هذه: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وغيرهما مما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية «1» فالمتبادر أن الفريق الأول هو الذي نعتته الآية بالكافر وأن الفريق الثاني هو الذي نعتته بمريض القلب. وفي ذلك صورة من صور العهد المكي.
تعليق على موضوع الملائكة
وبمناسبة ورود ذكر الملائكة لأول مرة نقول: إن ذكرهم قد تكرر في القرآن كثيرا وفي مواضع ومناسبات متنوعة. وأكثر المفسرين على أن الاسم مشتق من الألوكة بمعنى الرسالة وأن الكلمة تعني الرسل «2» وفي سورة فاطر آية يمكن أن يستأنس بها على صحة هذا القول بقوة وهي: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [1] ، وهناك آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آية سورة النحل هذه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [2] . وبعض الباحثين يرجعون الكلمة إلى أصل عبراني ويقولون إنها دخيلة بلفظها ومعناها على اللغة العربية، ويمكن أن يورد على هذا أن العبرانية والعربية من أصل واحد والتشارك بين اللغتين في الأسماء والأفعال
__________
(1) انظر كتابنا «سيرة الرسول عليه السلام» ج 1 ص 190 وما بعدها.
(2) انظر تفسير آية وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [30] من سورة البقرة في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.(1/464)
والمصادر واسع جدا، وليس من الضروري أن تكون الكلمة عبرانية ودخيلة إلّا إذا فقد من العربية ما يمكن أن يكون أصلا لها. والحال في هذه الكلمة ليست كذلك ما دام يوجد في العربية جذر «ألك» بمعنى أرسل «1» . ولا سيما أن من الممكن أن يكون هذا الجذر- أو أي جذر آخر يحتمل أن ترجع إليه الكلمة- مشتركا بين اللغتين. وهذا يقال بالنسبة لكلمات كثيرة يحلو لبعض الباحثين رجعها إلى العبرانية، والزعم بأنها دخيلة على العربية. وننبه إلى أننا لا نريد أن ننفي وجود كلمات كثيرة في اللغة العربية القرآنية معرّبة عن لغات أخرى. غير أن هذا قد كان قبل نزول القرآن وصار ما في اللغة العربية من ذلك جزءا من هذه اللغة بالصقل والاستعمال. وعلى كل حال فإن مما لا يحتمل شكا أن كلمة الملائكة ومفردها مما كان مستعملا في اللسان العربي قبل نزول القرآن ومما كان يعد من هذا اللسان، ومما كان مفهوم الدلالة عند العرب. ودليل هذا الحاسم هو في اتخاذ العرب الملائكة آلهة وشفعاء قبل الإسلام، واعتقادهم أنهم بنات الله على ما حكته عنهم آيات عديدة مثل آيات سورة الصافات هذه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) ، وآيات سورة الزخرف هذه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) وقد حكى القرآن في آيات كثيرة أقوال الكفار عن الملائكة أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [8] ، ومنها هذه الآيات في سورة الحجر: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) .
__________
(1) انظر «أساس البلاغة» للزمخشري.
الجزء الأول من التفسير الحديث 30(1/465)
ولقد أيّد القرآن ذلك حيث يفيد ما ورد فيه عن الملائكة أنهم ذوو صلة بالله وأنهم يقومون بخدم متنوعة له من تبليغ الأنبياء والرسل أوامر الله ومن تولي أمر الجنة والنار واستقبال المؤمنين والكافرين حسب ما يستحق كل منهم فيهما، ومن إنزال العذاب الرباني بمستحقيه في الدنيا ومن تأييد الأنبياء والمؤمنين، ومن إحصاء أعمال الناس، ومن حمل عرش الله والتسبيح بحمده، ومن استعدادهم للقيام بكل مهمة يأمرهم بها الله دون أن يعصوا له أمرا، وليس في القرآن شيء عن ماهيتهم. وكل ما فيه في صفتهم أنهم أو أن منهم ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع على ما جاء في آيات سورة فاطر التي أوردناها قبل. وهناك حديث رواه مسلم والإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم في قوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) [المؤمنون/ 12] » «1» . وقد يتبادر من الحديث أن الملائكة ليسوا من مادة جامدة. ومع ذلك ففي القرآن ما يفيد أنهم يتراءون للأنبياء وغيرهم بأشكال مادية كما ترى في آيات سورة هود هذه: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) ، وفيه ما يفيد أنهم يمكن إذا شاء الله أن يتشكلوا على شكل الرجال وينزلوا راكبين الخيل المسومة لتأييد المؤمنين كما ترى في هذه الآيات:
1- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) الأنعام [8- 9] .
2- بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران/ 125] «2» .
__________
(1) التاج الجامع ج 5، ص 269. [.....]
(2) في القرآن آيات عديدة أخرى يمكن أن تورد في هذا الصدد فاكتفينا بما أوردناه للتمثيل.(1/466)
وهناك أحاديث صحيحة تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرى ملك الله أو جبريل عليه السلام حينما ينزل عليه ويكلمه بين الناس وإن لم يكن يراه غيره. من ذلك الحديث الذي أوردناه في مطلع السورة والذي ذكر فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى الملك على عرش بين السماء والأرض، ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «إن الحارث بن هشام سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» «1» .
وحديث عن عائشة أيضا رواه الشيخان والترمذي جاء فيه: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام قلت وعليه السلام ورحمة الله. ترى يا رسول الله ما لا أرى» . وحديث طويل رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب مفاده أن جبريل طلع على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في صورة رجل وقد جاء فيه: «بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منّا أحد حتى جلس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفّيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشرّه قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك. قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أماراتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان. قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم» «2» .
__________
(1) التاج ج 1 ص 20- 21.
(2) المصدر نفسه.(1/467)
ومهما يكن من أمر فإن وجود الملائكة واختصاصهم بخدمة الله ثابت بصراحة القرآن والإيمان بذلك واجب بنص القرآن على ما جاء في آيات كثيرة، منها آية البقرة هذه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [177] وليس وجودهم مما هو خارج عن نطاق قدرة الله تعالى بطبيعة الحال ولو لم تدركه عقولنا التي يعييها إدراك كثير من قوى الكون ونواميسه.
ومن الواجب أن يوقف في أمر ماهيتهم وخدماتهم لله عز وجل واتصالهم بالأنبياء وغيرهم عند ما وقف عنده القرآن أو السنة الثابتة بدون تزيد ولا تخمين وأن يسلم به تبعا لواجب التسليم والإيمان بما جاء في القرآن والسنة الثابتة.
ولعل حكمة ما احتواه القرآن من صور عن الملائكة متصلة من ناحية ما بما كان في أذهان العرب عنهم وما كان لهم فيهم من عقائد تأليه واستشفاع وبنوة لله وحظوة لديه مما أشارت إليه آيات قرآنية عديدة أوردنا بعضها آنفا، بحيث أريد فيما أريد تقرير كونهم ليسوا إلّا عبيدا لله وخدما ينفذون أوامره ويسبحون بحمده، وأن الله هو وحده المستحق للعبادة والخضوع، وهو وحده النافع والضار، وأن من يحيد عن ذلك ويعبد عبيده وخدمه ويرجو منهم النفع والضرر يكون في أشد الضلال والانحراف عما يقضي به العقل والمنطق. وفي آيات سورة الأنبياء هذه:
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) ، وآيات سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) وآيات سورة الفرقان هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)(1/468)
قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ
[18] ، وآية سورة النساء هذه: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[172] قرائن قوية على ذلك. وفي هذا كما هو المتبادر تدعيم للدعوة القرآنية والرسالة النبوية.
وعلى كل حال إن القرآن وهو يخبر عن الملائكة ويتحدث عنهم في شتى المواضع والمناسبات يخبر ويتحدث عن قوى ومخلوقات يعترف السامعون بوجودها وصفاتها بما يقارب ما يقرره القرآن عنها بقطع النظر عن عقائدهم الدينية فيها.
وهذه نقطة مهمة في أسلوب القرآن من حيث مخاطبته للناس بما يعرفونه ويسلمون به مستهدفا العظة والعبرة والتدعيم أيضا، إذ لا يكون الخطاب عن الأمور والوقائع ذا أثر إلّا حينما يكون مستمدا من معارف السامعين ومتسقا معها «1» .
ولقد أورد المفسرون كثيرا من البيانات المعزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيهم عن مختلف أحوال الملائكة وخدماتهم وخلقتهم وحركاتهم في السموات والأرضين وحول العرش على هامش ما ورد عنهم من ذلك في القرآن جلها أو كلها غير موثق بأسناد صحيحة وفيها إغراب غير قليل وخوض في ماهيات وتفصيلات غيبية من الأحوط الوقوف منها موقف التحفظ. وفيها مع ذلك دلالة على أن الحديث عنهم من شتى النواحي كان مستفيضا في بنية النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يتسق مع ما قلناه ويؤيده.
هذا، وننبه على أن أسفار العهد القديم والأناجيل قد ذكرت الملائكة في مواضع عديدة بصفتهم رسل الله إلى أنبيائه ومنفذي أوامره. غير أن الأسلوب الذي ذكروا به في القرآن يختلف اختلافا كبيرا عنه في هذه الكتب، سواء أكان ذلك في التنويه بما لهم لدى الله من مكانة أم فيما يقومون به من مهام عظمى في الدنيا والآخرة. وهذا من خصوصيات القرآن ولعله متصل من ناحية ما بأحوال بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره.
__________
(1) انظر كتابنا القرآن المجيد في مقدمة هذا التفسير.(1/469)
تعليق على أَهْلِ الْكِتابِ
وبمناسبة ورود تعبير أَهْلِ الْكِتابِ لأول مرة نقول إن التعبير يعني على ما يستفاد من الآيات القرآنية أهل الملل التي عندها كتب منسوبة إلى الله تعالى أنزلها على أنبيائه وفيها شرائعه ووصاياه. ولقد تكرر ذكر أهل الكتاب كثيرا في القرآن بأساليب متنوعة ومواضع عديدة في مناسبات شتى. ويلحظ أن الكلام عنهم في الآية التي نحن في صددها يفيد أنهم لم يكونوا مناوئين وجاحدين للرسالة النبوية. وفي القرآن آيات عديدة تفيد ذلك أيضا، وقد استشهد بهم في آيات كثيرة على صحة النبوة المحمدية والوحي القرآني ووحدة المصدر لكتبهم وللقرآن ولرسالة رسلهم وأنبيائهم ولرسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ورسالته. وأسلوب الاستشهاد بهم يلهم أن شهادتهم في جانب النبي صلّى الله عليه وسلّم هي المنتظرة. وفي آيات مكية عديدة ما يفيد أنهم شهدوا وصدقوا وآمنوا مثل آيات سورة القصص هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) وآيات سورة الإسراء هذه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) وآية سورة الأنعام هذه:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) ، وآية سورة العنكبوت هذه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (47) ، وآية سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) ، وهذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) مع التنبيه على أن في السور المدنية ما يفيد أن من أهل الكتاب من(1/470)
آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن في العهد المدني أيضا مثل آية سورة آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) ، وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [162] .
وفي القرآن آيات عديدة تفيد أن المقصود بالتعبير بالدرجة الأولى هم اليهود والنصارى مثل آيات سورة البقرة هذه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وفي آيات سورة آل عمران [63- 67] وسورة النساء [43- 55] وسورة المائدة [12- 16] وسورة التوبة [29- 34] نفس الدلالة.
والآيات والروايات الموضحة تدل على أن أكثر الكتابيين في مكة كانوا من النصارى ولم يكونوا مع ذلك كتلة كبيرة. ومنهم من كان غير عربي جاء من البلاد المجاورة. وأنه كان في المدينة وحولها كتلة كبيرة من اليهود. وأن هؤلاء كانوا جاليات إسرائيلية جاءت قبل البعثة بقرون عديدة إلى هذه المنطقة. وأن بعض أفراد منهم كانوا يقيمون في مكة أو يترددون عليها. وأسلوب الآيات المكية إجمالا يتسم بالعطف والودّ نحو أهل الكتاب. وقد طرأ على هذا الأسلوب بعض التبدل(1/471)
في القرآن المدني بالنسبة لليهود بخاصة تبدل موقفهم من الدعوة النبوية «1» ، بسبب أخلاقهم وجبلتهم ومصالحهم خاصة، وأدى ذلك إلى التصادم بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وإجلاء بعضهم والتنكيل ببعضهم. وفي القرآن آيات كثيرة في ما كانوا عليه من أخلاق ووجوه من مواقف الكيد والتآمر. ولقد ذكر القرآن كتب اليهود باسم الكتاب وباسم التوراة وكتب النصارى باسم الإنجيل وذكر أن الله قد أنزلهما وآتاهما موسى وعيسى عليهما السلام. والعبارة القرآنية بذلك صريحة الدلالة على أن المقصد هو الكتب والتبليغات الربانية بالأحكام والشرائع والمبادئ الإيمانية كما ترى في الآيات التالية:
1- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ... آل عمران [3- 4] .
2- إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) المائدة [43- 47] .
3- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
__________
(1) اقرأ مبحث الجاليات الأجنبية في الحجاز ومبحث النصارى واليهود في كتابنا عصر النبي وبيئته قبل البعثة ومبحث النصارى واليهود في كتابنا سيرة الرسول عليه السلام.(1/472)
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) المائدة [65- 66] .
4- وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا الإسراء [2] .
والمتبادر أن اليهود والنصارى قد سموا باسم أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب في القرآن بسبب ذلك. وهناك نقاط أخرى في صدد اليهود والنصارى وما في أيديهم من كتب وما طرأ عليها من تحريف ستكون موضوع تعليقات وبيانات أوفى في مناسبات آتية أكثر بلاغة إن شاء الله.
وننبه على أمر هام وهو أن في القرآن ما يسوغ القول إن تعبير أهل الكتاب أشمل من اليهود والنصارى. فهناك آيات تذكر أن الله قد أرسل في كل أمة رسولا وأنه لم تخل أمة إلّا جاءها نذير وأن الله قد أرسل رسلا منهم من قصهم في القرآن ومنهم من لم يقصص. وآيات تذكر أهل الكتاب بأسلوب مطلق، وتأمر المسلمين بأن يعلنوا إيمانهم بكل أنبياء الله وكتبه، كما ترى في الآيات التالية:
1- لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ... البقرة [177] .
2- آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... البقرة [285] .
3- قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ آل عمران [84] .
4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً النساء [136] .(1/473)
5- وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ النحل [36] .
6- إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ فاطر [24] .
7- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ غافر [78] .
8- فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ الشورى [15] .
بحيث يسوغ القول بناء على ذلك أن التعبير يصح أن يشمل كل أمة تدعي أن عندها كتبا منسوبة إلى الله تعالى أوحيت إلى رجال قدماء منهم وفيها شرائعها وعليها سمة ما من سمات الكتب المنسوبة إلى الله دعوة أو مبادئ أو أحكاما أو وصايا أو شرائع مهما كان فيها تحريف وانحراف. لأن هذا كان وما يزال قائما بالنسبة لليهود والنصارى وما في أيديهم من كتب منسوبة إلى الله تعالى. ومعلوم اليوم أنه كان في فارس شخص اسمه زرداشت له كتاب ويوصف بأنه من الأنبياء وأن أشخاصا عديدين ظهروا في الأزمنة القديمة في الهند والصين وغيرهما وتركوا كتبا فيها شرائع وتعاليم ووصايا منسوبة إلى خالق الأكوان وربّ الأرباب.
وهناك آية مهمة في بابها تؤيد النتيجة التي انتهينا إليها وهي آية سورة الحديد هذه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ. فذكر ذرية نوح مع ذرية إبراهيم يفيد كما هو المتبادر أن هناك أنبياء آخرين من ذرية نوح أنزل عليهم كتب الله من غير ذرية إبراهيم التي منها جل أبناء بني إسرائيل وبنوع خاص موسى وعيسى اللذين أنزل عليهما التوراة والإنجيل. وليس في القرآن والحديث شيء مهم في ذرية نوح إلّا ما جاء في القرآن بأن الله نجاها مع نوح من الطوفان الذي أغرق الله به الكافرين. ومن ذلك آية سورة الصافات هذه: وَجَعَلْنا(1/474)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ
[77] ، وفي الإصحاحات (7- 10) من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم ذكر أن الذين نجوا مع نوح هم أبناؤه سام وحام ويافث ونسوتهم وأمهم فصاروا أجداد أمم شتى نمت في آسيا وإفريقية.
وإذا صح ما انتهينا إليه إن شاء الله فيكون من تعنيهم الآيات من كون المقصود بالتعبير بالدرجة الأولى على ما نبهنا عليه قبل هم اليهود والنصارى إنما هو على ما يتبادر بسبب كونهم هم الذين كان العرب الذين أنزل القرآن في بيئتهم يعرفونهم ويتصلون بهم كأهل كتاب، والله تعالى أعلم.
[سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 37]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
. (1) أدبر: ولّى.
(2) الصبح: هنا بمعنى الفجر أو النهار.
(3) أسفر: انجلى أو انكشف.
(4) إحدى الكبر: إحدى آيات الله الكبرى، والمرجح أن المقصود بذلك سقر.
والآيات استمرار للآيات السابقة. وقد تضمنت ردعا بمعنى الإيعاد والزجر، وقسما بالقمر والليل حين ينقضي ويولي والصبح حين يسفر بأن سقر التي ينذر الكفار بها حقيقة وليست وهما، وأنها إحدى آيات الله الكبرى، وأنها ذكرت لتكون نذيرا لجميع البشر حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيتقدم من يشاء إلى الإيمان بالله واتباع الدعوة فينجو، ويتأخر من يشاء عن ذلك فيهلك.
والآية الأخيرة احتوت- بعد أن أكدت الآيات السابقة لها حقيقة الحياة الأخروية وما سوف يلقاه الكافرون من العذاب والنار- تقريرا لقابلية التمييز عند الناس وقدرتهم على الاختيار، ولكون مهمة الرسول هي الإنذار والتبليغ. وفي ذلك توكيد لما قررناه في سياق الآيات السابقة ودليل حاسم عليه.(1/475)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 47]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
. (1) كل نفس بما كسبت رهينة: كل نفس مسؤولة بما عملت ومرتهنة به.
وتأويل الطبري يفيد أن ذلك بالنسبة لذوي المعاصي والكافرين.
(2) أصحاب اليمين: تعبير قرآني عن الناجين يوم القيامة.
(3) ما سلككم في سقر: ما الذي جعلكم في عداد أصحاب جهنم.
(4) الخوض: التوغل في الشيء، والمقصود الخبط والتورط بدون علم وحق أو الاندماج في الباطل.
(5) اليقين: الموت وانقضاء الحياة.
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون مصير كل نفس رهنا بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون، فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حوارا مقدرا بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.(1/476)
تعليق على مدى ما أولاه القرآن من العناية بالمسكين
وبمناسبة جملة وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ التي تأتي لأول مرة في الآية [44] نقول: إن الآيات القرآنية التي ذكرت المسكين والمساكين بسبيل الحثّ على البرّ بهم ومساعدتهم والعناية بهم والتنديد بمن لا يفعل ذلك قد بلغت اثنتين وعشرين منها المكي ومنها المدني حيث يبدو من ذلك مبلغ عناية الله سبحانه بهذه الطبقة منذ أوائل عهد التنزيل واستمرارها إلى نهاياته. ومما احتوى حثا على إطعامه وتنويها بمن يفعلون وتنديدا بمن لا يفعلون آيات سورة البلد هذه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ، وآيات سورة الفجر هذه: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) ، وآيات سورة الماعون هذه التي تجعل عدم الحض على طعامهم دليلا على عدم الإيمان بالآخرة وعقاب الله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) ، وآيات سورة الحاقة هذه: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ (37) ، وآيات سورة الإنسان هذه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) وفي سورتي الإسراء والروم آيتان تجعل للمسكين حقا وتوجب إعطاءه له وهذا نص آية الروم: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) .
وقد يتبادر إلى الذهن أن كلمة المسكين تعبر عن الطبقة الفقيرة المحتاجة،(1/477)
غير أن هناك آيات تذكر المساكين مع الفقراء وآيات تذكر المساكين مع السائلين مثل آية سورة التوبة هذه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها [60] . وآية سورة البقرة هذه: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ [177] .
وهناك حديث فيه وصف للمسكين رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» «1» حيث يظهر في هذا الوصف جانب من حكمة الله تعالى في ما ورد في القرآن من حضّ على البرّ بالمسكين وإطعامه والتنديد بمن لا يفعلون ذلك لأنه يصبر على العوز والحرمان ولا يسأل الناس وفي هذا ما فيه من مغزى جليل.
ولقد خصت حكمة التنزيل المسكين دون الفقير بنصيب من خمس غنائم الحرب ومن الفيء وهما موردان جعل للدولة حق استيفائهما وتوزيعهما على ما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [41] ، وآية سورة الحشر هذه: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [41] ، وخصت المسكين بخاصة بطعام الكفارات كما جاء في آية سورة المائدة هذه: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ... [89] ، وهذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ... [95] ، وآيات سورة المجادلة هذه: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ
__________
(1) التاج ج 2 ص 28.(1/478)
مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [3- 4] . حيث تزداد تلك الحكمة وهذا المغزى روعة وجلالا.
وهذا بالإضافة إلى ذكر المسكين كصاحب نصيب مع الفقراء في مورد الزكاة الذي تستوفيه الدولة وتوزعه كذلك على ما جاء في آية سورة التوبة التي أوردناها آنفا.
ولقد روى الشيخان والترمذي عن صفوان بن سليم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل» «1» . والحديث من ناحية يدعم الوصف الذي ورد في الحديث السابق ويتساوق مع التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو في كل أمر.
وهناك مناسبات آتية أخرى سوف يكون لنا فيها تعليقات أخرى على هذا الأمر وأمثاله فنكتفي بما تقدم.
تعليق على تعبير: (أصحاب اليمين وأصحاب الشمال)
وتعبير أَصْحابَ الْيَمِينِ تعبير مجازي، فالعرب كانوا يتفاءلون بالجهة اليمنى ويعتبرونها مباركة، ويتشاءمون باليسرى ويعتبرونها منحوسة. ولقد ذكرت آيات أخرى أن الناس يوم القيامة يعطون كتب أعمالهم. وأن الناجين يعطونها بأيمانهم والخاسرين بشمالهم كما جاء في آيات سورة الحاقة هذه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ
__________
(1) التاج ج 5 ص 13.(1/479)
الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ
(34) وقد يسوغ هذا القول أن تعبير أصحاب اليمين قد قصد به الناجون يوم القيامة بأيمانهم وأعمالهم الصالحة.
والمتبادر على كل حال أن تعبير أصحاب اليمين وأصحاب الشمال بالمقابلة هو تعبير مقتبس مما في أذهان العرب الذين يسمعون القرآن، ومفهوماتهم وأساليب خطابهم، للتقريب والتشبيه والتمثيل والتأثير، مع واجب الإيمان بوقوع ما أخبرت به الآيات من ذلك كمشهد من المشاهد الأخروية.
هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) [44- 45] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على تعبير كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
وتعبير كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ تقرير قرآني حاسم بمسؤولية الناس عن أعمالهم، وقابليتهم للكسب والاختيار واستحقاقهم للجزاء وفاقا لذلك، وهذا(1/480)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
التقرير بهذا الأسلوب ذو خطورة تلقينية عظمى في صدد أعمال الناس وتصرفاتهم وتربية نفوسهم وأخلاقهم.
والمؤمن إذا تيقن من هذا واجتهد ليكون من نفسه على نفسه رقيب، وحسب حساب عاقبة كل ما يقدم عليه نما فيه الوازع الذاتي الذي يزعه عن الإثم والشر، والحافز الذاتي الذي يحفزه إلى الخير والصلاح والهدى. وفي هذا التعبير على ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله تدعيم لشرحنا الذي شرحنا به مدى جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أيضا حين إمعان النظر. حيث يتضمن كون الإنسان مسؤولا عمّا يكتسب ويختار من هدى وضلال.
[سورة المدثر (74) : آية 48]
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
. وهذه الآية تعقيب على الآيات السابقة، وقد تضمنت تقريرا بأن الكفار والمجرمين لن تنفعهم يوم القيامة شفاعة الشفعاء، فتحول دون صيرورتهم إلى المصير الرهيب الذي استحقوه بكسبهم.
وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته تنبيه الكفار إلى أن المرء إنما ينفعه في الدرجة الأولى إيمانه وعمله الصالح، وحملهم على الارعواء من ضلالهم وعدم الإركان إلى شفاعة الشافعين.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها
واستطراد إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنون هذه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ الجزء الأول من التفسير الحديث 31(1/481)
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) ، وآية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) ، وآية سورة العنكبوت هذه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) ، وآية سورة الزمر هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) ، وآية سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) .
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع لديه على ما جاء في آيات كثيرة، منها آية سورة يونس هذه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [18] ، وآية سورة الزمر هذه: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) .
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة مثل آيات سورة الزمر هذه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وآية سورة الزخرف هذه: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وآية سورة النجم هذه: وَكَمْ(1/482)
مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى
(26) .
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) .
ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلّا لمن حاز مبدئيا رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية أن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وهذا ما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم(1/483)
أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقا.
ونستطرد إلى القول إن القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهدا منها آيات سورة النجم [26] وسورة الزخرف [86] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) ، وآية سورة طه هذه: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) .
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال: «سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل ... » «1» وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني آت من عند ربّي فخيّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا» «2» .
وحديث عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا» «3» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» «4» .
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من أمّتي من يشفع للفئام ومنهم من يشفع للقبيلة ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة» «5» . وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء
__________
(1) التاج ج 5 ص 342.
(2) المصدر نفسه ص 348- 360.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.(1/484)
قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته» «1» ، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» «2» .
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم للناس جميعا للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له «3» .
ومما جاء في بعضها «أنّ الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا ربّ أمّتي أمّتي فيقال له انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبّة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفّع، فأقول أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفّع فأقول يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل» .
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.
__________
(1) التاج ج 5 ص 348- 360.
(2) المصدر نفسه. [.....]
(3) المصدر نفسه.(1/485)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
[سورة المدثر (74) : الآيات 49 الى 51]
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
. (1) التذكرة: كناية عن الدعوة النبوية.
(2) حمر: جمع حمار. وقيل إن هذا الجمع خاص بحمار الوحش وقد ورد في سورة لقمان لفظ (حمير) جمعا لحمار.
(3) مستنفرة: شاردة.
(4) قسورة: من أسماء السبع.
والآيات استمرار للسياق وتعقيب عليه، حيث تندد بالكفار وتتساءل عن سبب إعراضهم عن الدعوة النبوية وفرارهم منها، كما تفرّ الحمر الوحشية من السبع حين يبدو لها.
[سورة المدثر (74) : الآيات 52 الى 56]
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
والآيات استمرار للسياق وتعقيب استدراكي وتنديدي عليه.
وقد تلهم الآية الأولى أن الكفار تحدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنزال صحف مكتوبة على كل منهم لتكون برهانا على صحة دعواه ودعوته، كما تحتمل أن تكون في معرض التنديد بشدة عنادهم، حتى لكأنهم يريدون ليؤمنوا ويصدقوا أن ينزل على كل منهم كتاب خاص من السماء «1» . وقد روى بعض المفسرين «2» أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن سرك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان نؤمر فيه
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير ففيهما ما يدعم الوجهين.
(2) انظر تفسير الآيات في الطبري.(1/486)
باتباعك» كما روى بعضهم أنهم قالوا له: «ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك» «1» . ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء ذلك عنهم فعلا في مناسبة أخرى كما ترى فيها: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) .
والآية الثانية احتوت تقريرا لواقع الحال من أمرهم وسبب عدم استجابتهم بأسلوب الزجر والاستدراك وهو عدم خوفهم من الآخرة وجحودهم بها. وتلهم أنها بسبيل تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والآيتان الثالثة والرابعة احتوتا ردا على تحدّيهم وشدة عنادهم في صورة تقرير لمهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي هي تذكير وتبليغ للناس ثم تركهم لاختيارهم ومشيئتهم في الاستجابة إليها.
أما الآية الخامسة فإنها احتوت تقريرا بأن مشيئة الناس في التذكر والاستجابة منوطة بمشيئة الله الذي هو الجدير بالاتقاء والخشية والذي هو القادر على العفو والمغفرة.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أنس بن مالك قال:
«قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: قال الله عزّ وجل أنا أهل أن أتّقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له» «2» .
حيث ينطوي في الحديث توضيح فيه تبشير وترغيب للمتقين.
تعليق على تعبير وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
ولقد يبدو فيما جاء في الآية الخامسة من إناطة تذكر الناس بمشيئة الله نقض
__________
(1) انظر تفسير الآيات في الخازن.
(2) التاج ج 4 ص 248.(1/487)
أو تحديد لما جاء في الآية [37] من تقرير المشيئة للناس إطلاقا. ولقد قال بعض العلماء والمفسرين إن هذه الآية وما في بابها مثل آية سورة الإنسان هذه: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بسبيل تقرير أن الناس إنما يشاءون بقوة المشيئة التي خلقها الله فيهم. وقال آخرون إن إناطة مشيئة الناس بمشيئة الله تعالى السابقة على مشيئتهم تعني مفهومها الظاهر إطلاقا فلا يشاءون إلّا ما شاء الله «1» . وقد كانت هذه الآية وما يماثلها مدار جدل بين علماء المذاهب الكلامية بسبب ما يبدو من التعارض بينها وبين الآيات الأخرى التي تقرر قابلية الاختيار والمشيئة في الناس إطلاقا.
ونقول أولا إن النظم القرآني جرى أحيانا على نسبة كل شيء من أفعال العباد الواقعة أو المتوقعة إلى الله تعالى وعلى جعل كل شيء منها منوطا بمشيئته مع قيام قرائن في الآيات نفسها أو في غيرها على أنها من كسب العباد ومشيئتهم المباشرة فيما يترافق معها أو يترتب عليها من تثريب وتنديد ووعيد لما يكون ضلالات وانحرافات وتنويه ووعد جميل لما يكون استقامة وحقا وهدى. غير أنه جرى أيضا وفي الأعم الأغلب على نسبة الأفعال والمشيئة إلى العباد مما هو مثبوت في مختلف السور بكثرة تغني عن التمثيل بحيث يسوغ القول إن الأسلوب الأول ينبغي أن يؤول على ضوء ما فيه وما في القرآن من قرائن ولا يصح أن يوقف عند كل عبارة لحدتها لأن في ذلك تعريضا للقرآن للتعارض والاختلاف مما يجب تنزيهه عن ذلك ولا سيما إن في القرآن حلا لما يبدو من توهم في ذلك على ما شرحناه في سياق جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [31] وإن القول إن الناس يشاؤون بقوة المشيئة التي أودعها الله فيهم هو المتسق مع تقرير المشيئة للعباد وتقرير قابلية الاختيار والكسب فيهم مما انطوى في الآيات السابقة وآيات كثيرة أخرى وهو المتسق مع روح الآية نفسها التي جاءت بعد الآية التي تقرر المشيئة للناس مباشرة. ثم هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ويوم الجزاء الذي يوفى فيه
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير أبي السعود والنيسابوري.(1/488)
الناس جزاء أعمالهم التي اكتسبوها بقوة هذه المشيئة والقابلية للاختيار والكسب التي أودعها الله فيهم بمقتضى إرادته وحكمته ومشيئته الأزلية. وعبارة الآيات ومعظم آيات القرآن التي تنسب الأفعال والتفكير للإنسان من الأدلة التي تكاد تكون حاسمة على ذلك. ويتبادر لنا إلى هذا أنه أريد بالآية تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يغتم بموقف الإعراض والعناد والمناوأة والتكذيب الذي وقفه الجاحدون. وقد تكرر مثل ذلك في مواضع كثيرة في القرآن مثل آية سورة فاطر هذه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) ، وآية القصص هذه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ، وآية سورة الأنعام هذه: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) بحيث تبدو بذلك حكمة التنزيل في الأسلوب. ويلحظ أن الآيات نسبت اكتساب الهدى والاستجابة إلى أصحابها مما قد يكون فيه دليل على صحة تأويلنا، والله أعلم.
تعليق على تحدي الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالآيات وأجوبة القرآن على ذلك ودلالتها
ولقد تكررت حكاية القرآن لصور عديدة من تحدي الجاحدين ومعجزاتهم، والآية [52] من هذه الآيات احتوت أولى مرات التحدي- إذا صحت روايات المفسرين- وليس ما يمنع صحتها، لأن الصورة مؤيدة بنص قرآني آخر على ما أوردناه قبل، وذلك بطلب الكفار إنزال كتب إليهم فيها تأييد لصحة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر باتباعه. وقد ردت الآيات التالية عليهم، فبينت أن موقفهم هو في حقيقته راجع إلى عدم خوفهم من الآخرة، وأن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن الذي يتلوه عليهم تذكرة فمن شاء تذكر واهتدى. ولم تجبهم إلى تحديهم. ولقد ظلت آيات القرآن(1/489)
ترد عليهم في كل موقف تحدّ وقفوه، وكل ما طالبوا ببرهان خارق للعادة مما عبر عنه القرآن بتعبير آية أو آيات بمثل ما ردت عليهم في هذه الآيات من حيث الجوهر، مع تنوع الصيغ والأساليب دون الاستجابة إلى تحديهم، موجهة الخطاب إلى العقول لتتدبر وإلى القلوب لترعوي، ومقررة صراحة حينا وضمنا حينا أن الدعوة النبوية إنما هي دعوة إلى الله وحده والإقرار له بالعبودية ونبذ ما سواه والتزام الأعمال الصالحة، وتحذير من الكفر والشرك والإثم والفواحش، وأن مثل هذه الدعوة لا تحتاج إلى معجزات مؤيدة، وإنما تحتاج طلى تروّ وإذعان ونية حسنة وطوية نقية ورغبة في الحق والخير والهدى وبعد عن العناد واللجاج، ليرى المرء البرهان على صحتها وقوتها في الكون وما فيه من آيات باهرة وحكمة بالغة ونواميس دقيقة، وفيما تدعو إليه من مكارم الأخلاق والفضائل وتنهى عنه من الإثم والبغي والفواحش كما تلهم آيات سورة الأنعام هذه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) ، ومثل آيات سورة الأنعام هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
(111) وآيات سورة الرعد هذه:
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) وآية سورة الرعد هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) وآيات سورة الإسراء هذه: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا(1/490)
كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) وآيات سورة العنكبوت هذه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) .
وهذه الردود القوية على تحدي الكفار هي بسبيل تقرير أن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى معجزات وأن الذين حسنت طواياهم ونواياهم وصدقت رغباتهم في الحق والحقيقة آمنوا، ففيها ما يكفي لحملهم على الارعواء والاستجابة. أما الذين خبثت نواياهم وانعدمت فيهم الرغبة في الحق والحقيقة فلن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات والمعجزات. ولئن لم يكن بدّ من آية فهي القرآن الذي يتلى عليهم وفيه الكفاية كل الكفاية. وهكذا تنفرد الدعوة القرآنية والرسالة المحمدية عما سبقها، من حيث إنها لم تقم على الخوارق استجابة للتحدي وإنما قامت على خطاب العقل والقلب والبرهنة بما في الكون من إبداع ونظام وعظمة يدل على وجود الله عز وجل واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه وبطلان الشرك والوثنية والعقائد المتناقضة مع ذلك هم بما انطوى في هذه الدعوة من مبادئ الحق والخير والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن والحث على التضامن والتعاون ومنع الاستعلاء والاستغلال وإقامة مجتمع إنساني عام يتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، ويتكافلون فيها ويسود فيه الحق والعدل والحرية والمعروف والخير.(1/491)
ولعل مما يحسن أن يضاف إلى هذا من حكمة الله في عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار أن الأنبياء السابقين قد جاؤوا لقومهم وأن المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم هي لإقناع جيل هذا القوم الذي كانت رسالة الأنبياء لهم في حين أن الله سبحانه قد شاء أن تكون رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لجميع الأجيال ودين الإنسانية العام في جميع الأزمنة والأمكنة. وهو ما انطوى في آيات عديدة أوردنا بعضها في تعليقنا على جملة رَبِّ الْعالَمِينَ في سياق تفسير سورة الفاتحة، وفي هذا لا تغني المعجزة لأنها غير دائمة الأثر. وقد تنكر من الأجيال الآتية فكان الإقناع وقوة البرهان ومخاطبة العقل والقلب والقرآن المجيد الذي ينطوي فيه كل ذلك بأروع وأقوى ما يكون هي الحجج المؤيدة لصدق الرسالة المحمدية التي تظل واردة وقائمة راهنة بكل قوتها في كل ظرف ومكان. ولقد جاء في سورة الإسراء هذه الآية: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [59] وهي عظيمة المدى والدلالة بسبيل ما نحن في صدده حيث تضمنت تقريرا ربانيا صريحا بأن الله عز وجل امتنع عن إظهار المعجزة على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم إجابة على تحدي الكفار وتعليلا لذلك بأن الأمم السابقة قد كذبت بالمعجزات التي أظهرها الله على أيدي أنبيائه السابقين ولم يتحقق المقصود منها.
ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «ما من نبي إلّا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» حيث يتساوق الحديث مع التلقين القرآني بأن معجزة النبوة المحمدية هي ما أوحاه الله تعالى إلى النبي من قرآن وحكمة فيهما الهدى والرحمة وأسباب الصلاح والنجاة للبشر في دنياهم وآخرتهم.
ونريد أن ننبه إلى أمر وهو أن ما قررناه استلهاما من الآيات القرآنية هو بسبيل الردّ على تحدي الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبهم منه الإتيان بالمعجزات والخوارق لتأييد صلته بالله وإننا لا ننكر أن الله عز وجل قد أظهر على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم معجزات متنوعة الصور في ظروف كثيرة له خاصة وله وللمسلمين عامة على ما تدل عليه(1/492)
آيات قرآنية عديدة مما سوف ننوه به في مناسباته وعلى ما ورد في أحاديث عديدة قوية الأسانيد سنوردها في مناسبات آتية.
نقول هذا ونحن نعرف أن هناك أحاديث قوية الأسانيد بأن ما احتوته الآية الأولى من سورة القمر من انشقاق القمر بناء على تحدي الكفار قد وقع فعلا. غير أن هناك ما يمكن إيراده في هذا الصدد على ما سوف نذكره في سياق تفسير هذه الآية.
تعليق على مدى الآية كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ
وبمناسبة هذه الآية في هذه السورة نقول إن الآيات القرآنية المكية التي ينطوي فيها المعنى المقرر في الآية قد تكررت بسبيل تعليل موقف الكفار الجحودي والمناوىء والعدواني والمستكبر والمستهتر والساخر بالوعيد والإنذار الربانيين. من ذلك آية سورة النحل هذه: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) وآية سورة المؤمنون هذه: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وآية سورة الزمر هذه: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
(45) وآية سورة النجم هذه: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) .
والموضوع في أصله متصل بموضوع جحود الكفار للآخرة الذي نبهنا عليه في التعليق على الحياة الأخروية في تفسير سورة الفاتحة. غير أن النقطة الجديرة بالتنبيه في هذا المقام هي ما انطوى في الآية التي نحن في صددها وأمثالها من تلقين جليل وتعليل لموقف الكفار. فالذي لا يخاف الآخرة لا يأبه كثيرا للحق والخير في شتى ساحاتهما ولا يندفع فيهما اندفاعا ذاتيا وجدانيا إذا لم يأمل في مقابلة وجزاء في الدنيا. ولا يتورع عن الإثم والمنكر إذا ما تيقن الخلاص من(1/493)
العقوبة. وفي سورة الأنعام آية داعمة لذلك بأسلوب إيجابي وهي: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) ومن هذا الباب آية سورة هود هذه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وهكذا تكون الآيات قد انطوت على تقرير أثر الإيمان بالآخرة في سلوك الناس سلبا وإيجابا. وهو متسق مع ما جاء في تعليقنا السابق وداعم له.
وإذا كان من المحتمل أن يكون بعض الناس يقدمون على عمل الخير والامتناع عن الإثم والشرّ بدون إيمان بالله واليوم الآخر فإن أغلب هؤلاء يستهدفون جزاء ما ولو معنويا في الدنيا. فضلا عن أن ذلك الاحتمال يظل بعيدا بالنسبة للكثرة الكاثرة في أغلب المواقف. وإذا كان من المحتمل أن يكون كثير من المؤمنين بالله واليوم الآخر لا يقدمون على الخير ولا يمتنعون عن الإثم إلّا بقوة ما يتحققون من نيله من ثواب وعقاب دنيويين في الدرجة الأولى فإن أمثال هؤلاء لا يمكن أن يوصفوا بصفة الإيمان الصحيح السليم أولا وإن إيمان هؤلاء يظل على كل حال ذا قوة وازعة ورادعة ثانيا.
تعليق على مدى ما ينطوي في جملة بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً
ويتبادر لنا من هذه الجملة أنها تنطوي على قرينة أو دليل على أن عدد الذين يقرأون ويكتبون من سامعي القرآن كبير. وعلى أن المعتاد عندهم أن يكتب على صحف تطوى وتنشر أي على ورق أو رقوق ناعمة رقيقة. وفي هذا نقض لما في الأذهان من ضعف الثقافة العربية وضيق نطاقها في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته «1» .
__________
(1) انظر أيضا فصل الحياة العقلية في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة.(1/494)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
سورة المسد
فيها دعاء على أبي لهب وإنذار له ولامرأته بالنار. ورواية سبب نزولها لا تتسق مع رواية تبكير نزولها. ورواية تبكير نزولها أكثر اتساقا مع مضمونها. ولعلها تلهم أن يكون موقف أبي لهب وامرأته من أبكر وأول مواقف الصدّ والمناوأة التي واجهها النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه كان لهذا الموقف أشد الأثر في نفس النبي وسير الدعوة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
. (1) تبت: خسرت أو هلكت، والمصدر تبّ وتباب، والكلمة دعاء بالخسران أو الهلاك.
(2) الجيد: العنق.
(3) مسد: ليف أو حديد أو نار على اختلاف الأقوال. ومما قيل إن المسد نبات ذو ألياف تجدل منه حبال متينة.
في آيات السورة دعاء على أبي لهب بالهلاك والخسران، وتقرير بأنه لن يغني عنه ماله وما كسبه شيئا، وأنه سيصلى نارا عظيمة هو وامرأته حمالة الحطب التي سوف يكون في جيدها حبل من مسد، تقاد به.(1/495)
والروايات مجمعة على أن أبا لهب هذا هو عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن اسمه عبد العزى وأن امرأته هي أم جميل أخت أبي سفيان «1» والمرجح أن كنية «أبي لهب» هي كنية قرآنية على سبيل الهجو فصارت له علما.
ولقد روى الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «لمّا نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء/ 214] خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذبا. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب تبا لك ما جمعتنا إلّا لهذا، ثم قام فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد/ 1] » «2» .
وإلى هذا الحديث الذي أورده أيضا الطبري والمفسرون الآخرون «3» رووا روايات أخرى كسبب نزول السورة منها «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [214] جمع أقاربه فدعاهم إلى الإسلام فقال له أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا؟» ومنها: «أن أبا لهب قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك؟ قال: كما يعطى المسلمون. فقال: ما لي عليهم فضل. قال: وأيّ فضل تبتغي؟ قال: تبا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء فأنزل الله سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [1] » .
ونلحظ في صدد الرواية الأولى والثانية أنهما تقتضيان أن تكون سورة المسد نزلت بعد سورة الشعراء التي منها آية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ مع أن الروايات مجمعة تقريبا على وضع سورة المسد كسادس سورة أو خامس سورة في ترتيب النزول بينما تأتي سورة الشعراء كرابعة وأربعين أو خامسة وأربعين في هذا
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير والبغوي وغيرهما.
(2) التاج ج 4 ص 268.
(3) انظر تفسير النيسابوري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن أيضا.(1/496)
الترتيب «1» أي أنها نزلت بعد سورة المسد بثلاث سنين على الأقل. وروح آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ تلهم أنها لم تنزل مبكرة «2» . لذلك فنحن نتوقف في الروايات، وإشراك امرأة أبي لهب مما يقوي صواب توقفنا إن شاء الله.
ولقد ذكرت الروايات «3» أن إحدى بنات النبي كانت مخطوبة أو زوجة لعتبة بن أبي لهب وأن بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مجاورا لبيت أبي لهب. فمما يمكن أن يرد على البال بقوة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اتصل بعمه عقب نزول الوحي عليه في أول من اتصل بهم ودعاه في أول من دعا. فالرجل عمه وجار بيته وصهره، ولعله كان يكثر التردد على بيته. ومن المعقول أن يفاتحه قبل الناس وأن يفضي إليه بأمره وأن يطلب منه التصديق والتعضيد ولعله كان واثقا كل الثقة بأنه سيقابل بالحسنى والإجابة، وبأنه واجد في عمه العضد القوي والسند الأمين. فلم يلبث أن خاب أمله فقوبل أسوأ مقابلة، وكان من عمه وزوجته أشد موقف في الأذى والعناد والتعطيل، والقطيعة حتى لقد روي «4» أن أبا لهب كان يسير وراء النبي صلّى الله عليه وسلّم فكلما رآه يكلم أحدا جاء إليه وقال له: أنا عمه فلا تصدقه فإنه ذاهب العقل، وأن زوجته كانت تضع الأقذار أمام بيته وتشيع عنه الإشاعات السيئة. وأن الزوجين حملا ابنهما على تطليق بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعمومة أبي لهب للنبي صلّى الله عليه وسلّم مما يزيد في شدة موقفه في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي الغرباء كما هو بدهي. ونعت امرأة أبي لهب بحمالة الحطب يلهم أنها كانت ذات تأثير قوي في الموقف فيزداد شدة ولعلها كانت تقوي زوجها وتنفخ في روحه كلما أنست فيه جنوحا إلى الفتور والتروي، بسبب ما كان
__________
(1) انظر تراتيب النزول المروية في كتابنا سيرة الرسول ج 1 ص 134- 135 والإتقان في علوم القرآن ج 1، ص 26.
(2) يذكر الطبري في تاريخه ج 2 ص 61.
(3) انظر مجمع الزوائد، مكتبة القدسي ج 9 ص 213- 214.
(4) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 32 مطبعة حجازي وتفسير السورة في تفسير ابن كثير والبغوي والطبري والنيسابوري وابن عباس، والجزء والصحف المذكورة آنفا من مجمع الزوائد. [.....]
الجزء الأول من التفسير الحديث 32(1/497)
يربطه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من روابط العصبية التي كانت تقاليدها شديدة الرسوخ في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان تأثيرها عاملا قويا في شذوذ هذا العم عن سائر أعمامه وسائر أفراد عشيرته الذين كانوا يحمون النبي صلّى الله عليه وسلّم وينصرونه بقوة العصبية برغم أن أكثرهم ظلوا في العهد المكي نائين عن اعتناق الإسلام.
وإذا صحت رواية كون أم جميل هي أخت أبي سفيان- وليس هناك ما ينفيها- فلا يبعد أن يكون موقفها متأثرا بموقف أخيها الذي كان من أبرز الزعماء وذوي الشأن في قريش والذي كانت لأسرته المكانة البارزة في مكة، والذي ظل هو وأسرته يناوئون النبي صلّى الله عليه وسلّم نحو عشرين سنة أي إلى فتح مكة في العام الثامن من الهجرة مناوأة عنيفة، وقد قاد زعيمهم أبو سفيان الجيوش التي غزت المدينة دار هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين. ولا يبعد أن تكون فكرة النضال الأسروي بين الأسرة الأموية صاحبة الشأن والبروز في مكة والأسرة الهاشمية التي ترشحت للبروز والخلود بدعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وحركته حافزا أو مقويا لموقف أبي سفيان المناوىء من النبي صلّى الله عليه وسلّم وموقف أخته زوجة أبي لهب منه أيضا.
وأبو لهب وامرأته هما الشخصان الوحيدان اللذان اختصهما القرآن بالذكر وسوء الدعاء وبصراحة، وسجل عليهما اللعنة الخالدة على مرّ الدهور. ولا شك في أن هذا يدل على أن موقفهما كان شديد الأثر في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وسير دعوته وخاصة في أول أمرها فاستحقا من أجله هذا التخصيص.
وإننا لنرجو أن تكون هذه البيانات والتوجيهات هي المتسقة مع حقيقة الموقف لأنها هي المتسقة مع روح الآيات ومضمونها وإشراك زوجة أبي لهب ثم مع رواية تبكير نزول السورة.(1/498)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
سورة التكوير
السورة فصلان، الأول في صدد يوم القيامة وهول أعلامه وحساب الناس فيه ومصائرهم، والثاني في صدد توكيد صدق ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من صلته بوحي الله وملكه ونفي الجنون عنه وصلة الشيطان به. والفصلان على اختلاف موضوعيهما غير منفصلين عن بعضهما، والمرجح أنهما نزلا متتابعين فوضع الواحد بعد الآخر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
. (1) كورت: سترت أو لفّت. والمقصود إذا ذهب ضوءها وانمحق على الأرجح.
(2) انكدرت: اغبرّت وانطفأت أو تساقطت على اختلاف الأقوال.
(3) العشار عطلت: العشار هي النياق وقيل الغمام وتعطيلها بمعنى توقفها عن طبيعتها ومهمتها.
(4) حشرت: جمعت من كل ناحية.(1/499)
(5) سجرت: تفجرت أو أفرغت أو التهبت على اختلاف الأقوال.
(6) النفوس زوجت: الناس صنفوا حسب أعمالهم.
(7) الموءودة: الطفلة التي تدفن في التراب وهي في حالة الحياة بتعمد قتلها.
(8) كشطت: تمزقت أو تشققت أو كشفت أو أزيلت على اختلاف الأقوال.
(9) سعرت: أو قدت أو توقدت بشدة.
(10) أزلفت: أدنيت أو هيئت لأصحابها «1» .
تشير الآيات إلى قيام القيامة أو اليوم الآخر وما يكون حينذاك من انقلاب وتبدل في نواميس الكون كانمحاق ضوء الشمس وانطفاء النجوم وتسيير الجبال وجمع الوحوش وتعطيل العشار عن طبيعتها وتفجير البحار واشتداد حرارة المياه والتهابها، وتشقق السماء أو انكشافها، وتصنيف الناس حسب أعمالهم، ونشر كتب الأعمال وتأجيج النار وتهيئة الجنة، وحينئذ يرى كل امرئ نتيجة عمله وعاقبة ما قدم بين يديه، ومن جملة ما يسأل الناس عنه وأد بناتهم بدون ذنب.
والآيات كما يبدو تتضمن توكيدا قويا بمجيء يوم القيامة وأهواله وأماراته التي تسبقه أو ترافقه ومحاسبة الناس على أعمالهم في الدنيا وتوفية كل منهم جزاءه بالجنة والنار.
ولقد روى الترمذي في سياق هذه السورة حديثا عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير/ 1] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار/ 1] وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» [الانشقاق/ 1] » «2» ومطلع السورتين الثانية والثالثة المذكورتين في الحديث مشابه لمطلع هذه السورة في وصف مشاهد القيامة وأهوالها.
__________
(1) انظر معاني الكلمات في تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والنيسابوري والزمخشري والطبرسي.
(2) التاج ج 4 ص 252.(1/500)
وما ذكر من الانقلاب الذي يطرأ على نواميس الكون هو على ما يتبادر وبالإضافة إلى حقيقته الإيمانية ودخوله في نطاق قدرة الله بسبيل تصوير هول يوم القيامة وأثره في مشاهد الكون العظيمة التي تملأ الأذهان استهدافا لإثارة خوف السامعين وحملهم على الارعواء. وليس من طائل في التخمين والتزيّد في مظاهر هذا الانقلاب وماهياته المادية. وليس ذلك من أغراض القرآن على ما شرحناه في مناسبة سابقة «1» .
وعادة دفن البنات أحياء وكراهة ولادتهن من صور حياة العرب قبل البعثة وعاداتهم. وقد ذكر هذا في أكثر من موضع في القرآن، ومن ذلك في آيات النحل هذه: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) [58- 59] .
وأسلوب الآية هنا أسلوب تنديد بهذه العادة وإنذار بشدة عقوبتها عند الله لما فيها من قسوة بالغة وجرأة على إزهاق روح بريئة. وتخصيص وأد البنات بالذكر لا يعني بطبيعة الحال أن هذا هو وحده الذي يسأل الناس عنه. وإنما يمكن أن يلمح منه قصد تشديد النكير على هذه العادة القاسية البشعة التي كان الذين يمارسونها يظنون أنه ليس عليهم فيها حرج ولا إثم.
تعليق على جملة وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ
وبمناسبة آية وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ نقول إن هذا المعنى قد تكرر بأساليب متنوعة في القرآن. وقد ذكر في بعض الآيات أن لله على الناس مراقبين يكتبون ما يفعلونه. وأن ما يكتبونه هو صحف أعمال الناس التي تنشر يوم القيامة وتوزع على أصحابها، وتعطى للناجين بأيمانهم وللخاسرين بشمالهم. ومما جاء في القرآن في هذا آية سورة الزخرف هذه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ
__________
(1) انظر كتابنا القرآن المجيد في مقدمة هذا التفسير.(1/501)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
يَكْتُبُونَ (80) وآيات سورة ق هذه: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وآيات سورة الجاثية هذه: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) ومنها آيات سورة الحاقة التي أوردناها في سياق تفسير سورة المدثر.
ولما كان الله عز وجل غنيا عن كل ذلك لا يعزب عنه شيء فالذي يتبادر من الحكمة الربانية لما ذكرته الآيات أنه بسبيل الإنذار والترهيب والوعيد بأسلوب من الأساليب التي اعتادها الناس في الدنيا من تسجيل الأحداث وإبراز التسجيلات في مقام الإثبات والإفحام. ولقد نبهنا قبل إلى ما اقتضته حكمة التنزيل من وصف المشاهد الأخروية بأوصاف مستمدة من مألوفات الحياة الدنيا في التعليق على الحياة الأخروية في سورة الفاتحة. وهذا من ذاك، هذا مع تقرير وجوب الإيمان بما ذكرته الآيات كحقيقة إيمانية غيبية، وبأنه في نطاق قدرة الله تعالى وحكمته.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
. (1) الخنس: جمع خانس من خنس الشيء إذا سكن واستخفى. والمراد هنا النجوم التي لا تظهر. وقيل النجوم الرواجع التي تسير في اتجاه فتختفي ثم تظهر.
(2) الكنس: جمع كانس من كنس الشيء إذا توارى وانحجب. والمراد هنا النجوم التي تنحجب في النهار بضوء الشمس وتظهر في الليل.
(3) عسعس: أدبر أو انقضى.(1/502)
(4) تنفس الصبح: بمعنى طلوع الفجر.
(5) الغيب: بمعنى وحي الله الذي يأتي من الغيب والخفاء.
(6) ضنين: ممسك، وقرئت ظنين. ومعناها المتهم في أمانته والمراد هنا إخفاء شيء من الرسالة التي أوحيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو خيانتها.
(7) الشيطان: العاتي القوي من الإنس والجن.
(8) رجيم: مرجوم ومطرود من رحمة الله «1» .
وفي هذه الآيات قسم بالمشاهد الكونية المذكورة وحركاتها بأن الذي يبلغ وحي الله هو رسول كريم أمين على ما ينقل قوي على حمل الأمانة حظي عند الله، وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس مجنونا وبأنه قد رأى ملك الله في أفق السماء، وبأنه صادق فيما يقول غير متهم في أمانته، وغير مخف شيئا مما رآه وسمعه وعرفه، وبأن ما يبلغه ليس من تخليط الشيطان الرجيم وأقواله.
وسألت إحدى الآيات السامعين أين يذهبون في أمر النبي وماذا يظنون؟
والسؤال ينطوي على تنديد بالمكذبين والمترددين في تصديق ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم وبأوهامهم وتفسيراتهم الخاطئة لما يخبر به من المشاهد الروحانية. ونبهت إحدى الآيات على أن ما يبلغه إنما هو تذكرة لهم وموعظة ليرى من شاء الحق فيتبعه ويستقيم عليه فيكون قد اهتدى بهدى الله ومشيئته التي تناط بها مشيئة الناس.
والآيات فصل مستقل الموضوع عن سابقاتها، غير أن الارتباط بينها وبين هذه السابقات قائم. فالأولى تخبر بيوم القيامة وأهواله ونتائجه وتنذر الناس بعواقب أعمالهم، والثانية تؤكد صدق الأخبار والإنذار وترد على الكفار ما يقولونه في صددهما وما ينسبونه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من تخليط الشياطين عليه، والمرجح أن الفصلين نزلا متتابعين إن لم يكونا قد نزلا معا.
وقد ذكر المفسرون «2» عدة وجوه في صدد حرف «لا» الذي سبق فعل القسم
__________
(1) انظر تفسير الكلمات في كتب التفسير المذكورة آنفا.
(2) انظر تفسير الآيات في تفسير الآلوسي والنسفي وانظر تفسير سورة الواقعة في تفسير الطبري والزمخشري والبغوي.(1/503)
فقالوا إنه قد يكون مختصرا من «ألا» التنبيهية أو قد يكون حرف ابتداء فقط أي لأقسم بمعنى إني لأقسم، أو قد يكون حرف نفي، ليفيد أن الأمر المذكور صحيح وواضح لا يحتاج إلى القسم، أو قد يكون زائدا وليس حرف نفي. وقد أسهبنا في ذكر الوجوه لأن هذا قد تكرر أكثر من مرة في معرض التوكيد والقسم. ومهما يكن من أمر فالجملة قسمية على ما تلهمه روح الآيات. ولا شك أن هذا من الأساليب التي كانت مستعملة في كلام العرب. وفي سورة الواقعة هاتان الآيتان: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ، وفيهما صراحة بأن الجملة قسمية.
ولم نطلع على رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها نزلت ردّا على أقوال تقولها الكفار والجاحدون. وقد انطوت على ردّ قوي يوحي بصدق ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم وعمق إيمانه به واستناده فيه على الحقيقة الواقعة التي أدركها بالقوة التي اختصه الله بها، ويقضي على أي شك في نفس كل امرئ حسنت نيته ورغب عن المماراة بالباطل.
ونفي الآيات الجنون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وصلة الشيطان بما يبلغه دليل على أن المكذبين كانوا يقولون إن ما يخبر به هو من تلقينات الشيطان. ويقصدون بذلك الجن على الأرجح لأن العرب كانوا يعتقدون أن شياطين الجن يوحون إلى الشعراء والكهان والسحرة. وقد يأتي على البال من هذا أن المكذبين كانوا حينما ينعتون النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمجنون، ويقولون إن به جنّة على ما حكته آيات عديدة منها آية سورة المؤمنون هذه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) ، كانوا أحيانا يعنون أن له شيطانا من الجن يتصل به ويلقنه ما يقول على نحوما كانوا يعتقدونه. والراجح أنهم نعتوه بالشاعر والكاهن والساحر بناء على هذا الاعتقاد.
وأكثر المفسرين «1» يصرفون تعبير رَسُولٌ كَرِيمٌ إلى الملك الذي كان يبلغ
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري وابن كثير والنيسابوري والبغوي والزمخشري والطبرسي.(1/504)
النبي صلّى الله عليه وسلّم وحي الله وقرآنه. والضمير في الآية [23] يدعم هذا القول. ولقد ورد في الحديث المروي عن جابر بن عبد الله والذي ذكرناه في سياق تفسير سورة المدثر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رأى الملك في أفق السماء. فالآية هنا على الأرجح في معرض التوكيد لهذه الرؤية الروحانية التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكرها فكان المؤمنون يصدقونه والجاحدون يكذبونه. وتبكير نزول السورة يؤيد هذا، حيث لم يكن قد مضى وقت طويل على هذه الرؤية. والتوكيد والنفي والتنديد في الآيات قوي يبعث اليقين في نفس من لا يتعمد العناد والمكابرة في صدق هذه المشاهدة، ويجلّي صورة رائعة لصميمية النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقينه بصحة ما رأى، ويؤيد صحة الحديث.
وعلى المسلم أن يؤمن بذلك ويقف عنده ولا يزيد في الظن والتخمين في صدد الماهية والكنه. فلا طائل من وراء ذلك وهما سرّ من واجب الوجوب وسرّ النبوة والوحي الذي تقصر عنه عقول الناس.
تعليق على العرش
وكلمة العرش تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت كثيرا. وقد جاءت في سياق ذكر ملكة سبأ في آية سورة النمل هذه: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ، وجاءت جمعا في سياق ذكر القرى التي دمرها الله في آية سورة الحج هذه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) ، وأكثر ما جاءت منسوبة إلى الله بمعنى ربّ العرش وصاحبه كما جاءت في هذه السورة أو بصيغة استواء الله على العرش كما جاء في آية سورة الأعراف هذه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ، وذكر في آية في سورة هود هكذا: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7] ، وفي آية في سورة(1/505)
الزمر هكذا: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [75] ، وفي آية في سورة غافر هكذا: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [7] .
وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات عديدة ذكر فيها العرش، منها حديث رواه الترمذي عن أبي رزين جاء فيه: «قلت يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» «1» . وروى الإمام أحمد هذا الحديث بمغايرة يسيرة حيث جاء فيه بعد: «وما فوقه هواء» ، ثمّ خلق العرش بعد ذلك» ، ومنها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «بينما نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان هذه روايا الأرض يسوق الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنّها سقف محفوظ وموج مكفوف. قال: هل تدرون كم بينكم وبينها؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع سموات ما بين كلّ سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما به مثل ما بين السماءين. ثم قال: هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها الأرض.
ثم قال: هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن تحتها الأرض الأخرى مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
__________
(1) التاج ج 4 ص 131.(1/506)
عَلِيمٌ» «1» [الحديد: 3] .
ومنها حديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة جاء فيه: «ما السموات السبع وما فيهنّ في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة، لا يقدر قدره إلّا الله عز وجل» «2» . ومنها رواية معزوة إلى (بعض السلف) جاء فيها: «إن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة. وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة وهو من ياقوتة حمراء» «3» . ومنها حديث رواه أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «شأن الله أعظم من ذلك وإنّ عرشه على سمواته هكذا وأشار بيده مثل القبة» «4» . ومنها رواية عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده جاء فيها: «إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام، والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النور. لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله. والأشياء كلّها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة» «5» . ورواية عن مجاهد جاء فيها: «إنّ بين السماء السابعة وبين العرش سبعين ألف حجاب. حجاب من نور وحجاب من ظلمة. وحجاب من نور وحجاب من ظلمة» «6» والروايات الثلاث الأخيرة لم ترد كذلك في كتب الأحاديث الصحيحة.
وهناك قول معزو إلى بعض السلف بدون أسماء جاء فيه: «إنّ مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة وارتفاعه من الأرض
__________
(1) التاج الجامع ج 4 ص 226- 227، وإذا صح الحديث الثاني فالواجب أن يحمل تعبير (هبط على الله) على غير المعنى الجسماني المادي المتبادر منها أو على معنى الوجود الشامل والإحاطة الكاملة لأن الله عز وجل منزّه عن ذلك.
(2) تفسير ابن كثير للآية [7] من سورة هود.
(3) تفسير المفسر نفسه للآية الثانية من سورة الرعد.
(4) تفسير المفسر نفسه للآية [86] من سورة المؤمنون.
(5) تفسير البغوي للآية السابقة من سورة غافر.
(6) المصدر نفسه.(1/507)
السابعة مسيرة خمسين ألف سنة» «1» . وقول معزو إلى كعب الأحبار جاء فيه: «إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلّق بين السماء والأرض» «2» . وواضح أنه ليس في الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية الصحيحة وغيرها شيء صريح عن ماهية العرش بل باستثناء الرواية التي يرويها ابن كثير عن بعض السلف بأنه من ياقوتة حمراء والتي تتحمل التوقف ليس في الروايات الأخرى أيضا شيء صريح عن ماهيته.
ومهما يكن من أمر فإن من واجب المسلم الإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة عن العرش والوقوف عند حدّ ذلك بدون تزيد مع الإيمان بقدرة الله تعالى على كل شيء. وبأن ذكر العرش بالأسلوب الذي ذكر به لا بد من أن يكون له حكمة سامية.
ولما كانت الآيات والأحاديث التي ورد فيها ذكر عرش الله قد وردت في صدد بيان عظمة الله عز وجل وعلو شأنه وشمول ربوبيته وسعة كونه وبديع خلقه ونفوذ أمره في جميع الكائنات خلقا وتدبيرا وتسخيرا فإن هذا قد يكون من الحكمة التي انطوت في الآيات والأحاديث. ولا سيما أن الله عز وجل ليس مادة يمكن أن تحدّ بمكان أو صورة أو تحتاج إلى عرش مادي يجلس عليه أو تكون فوقه. وفي القرآن آيات نسبت إلى الله عز وجل اليد واللسان والروح والنزول والمجيء والقبضة والوجه مما هو منزّه سبحانه عن مفهوماتها ومما هو بسبيل التقريب والتشبيه والمجاز. وقد يكون هذا من هذا الباب والله تعالى أعلم.
هذا، وهناك أحاديث وأقوال في صدد استواء الله تعالى على العرش وحمل الملائكة للعرش نرجىء إيرادها والتعليق عليها إلى مناسباتها.
__________
(1) تفسير ابن كثير للآية [86] من سورة المؤمنون وهناك روايات أخرى أوردها المفسران في سياق سور أخرى فاكتفينا بما أوردناه. [.....]
(2) المصدر نفسه.(1/508)
تعليق على كلمة الشيطان
وبمناسبة ورود كلمة الشيطان لأول مرة نقول إن المفسرين «1» قالوا إن اشتقاق الكلمة عربي من شطن بمعنى بعد أو شاط بمعنى بطل وفسد، وإنها نعت لكل داهية قوي الحيلة والبغي. وقد خطر لبالنا أن يكون بينها وبين شط بمعنى جار وبغى صلة، ومنه ما جاء في آية ص هذه: فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) ، وفعلان من الصيغ العربية التي تتضمن معنى الوصف والمبالغة. والمتبادر أن شيطان من هذا الباب اشتقت من جذر من الجذور الثلاثة.
والكلمة أكثر ما وردت في القرآن مرادفة لإبليس ومفهومه من إغواء الناس، كما جاء في آية سورة النساء هذه: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) ، وفي آيات سورة البقرة هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) ، وقد وردت مرات عديدة للتعبير عن جبابرة الجن ومرة في شمولها لجبابرة الإنس كما جاء في آية سورة الأنعام هذه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) .
وقد قال بعض الباحثين إنها دخيلة على العربية من كلمة سلطان أو جطان العبرية وإن مفهومها المرادف لإبليس دخيل أيضا. ومع أن هذا المفهوم لا يبعد أن يكون منقولا إلى العرب من الكتابيين الذين وردت كلمة الشيطان في معرض إغواء الناس والوسوسة لهم في ما كان وما يزال متداولا من أسفار وقراطيس مرات عديدة فإن
__________
(1) اقرأ تفسير الفاتحة في تفسير الطبرسي «مجمع البيان» وانظر مادة شط في أساس البلاغة للزمخشري.(1/509)
وجود جذر عربي فصيح للكلمة لا يبرر إبعادها عن الأصالة العربية الفصحى. على أن هذا لا يمنع القول باحتمال وحدة جذر الكلمة في العربية والعبرية أيضا لأنهما شقيقتان ترجعان إلى أصل واحد.
ومهما يكن من أمر فإن من الحق أن يقال إن الكلمة بقالبها الذي وردت به في القرآن قد استعملها العرب قبل نزولها وكانوا يفهمون كل الدلالات التي تدل عليها الآيات المتنوعة التي وردت فيها، وإنها تعد من اللسان العربي المبين ما دام القرآن يقرر أنه نزل بهذا اللسان. وهي هنا على كل حال تعني جبابرة الجن الذين كانوا يتنزلون على الشعراء والكهان والسحرة على ما كان يعتقده العرب. ونعت الشيطان بالرجيم يدل على أنه كان للشيطان في أذهان سامعي القرآن صورة بغيضة.
وفي سورة الصافات هذه الآية من آيات فيها وصف لشجرة الزقوم الأخروية:
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) حيث ينطوي في هذا أنه كان للشياطين في أذهانهم صورة مخيفة أيضا.
وأسلوب مطلع السورة مما تكرر في مطالع عديدة أخرى بحيث يسوغ أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.
ولقد علقنا على فقرة تشبه الآية الأخيرة في صدد إناطة مشيئة الناس بمشيئة الله في سياق تفسير سورة المدثر. وما قلناه هناك يصح هنا بتمامه فنكتفي بالإشارة دون الإعادة.(1/510)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
سورة الأعلى
تتضمن السورة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتقديس اسم الله، وإيذانا له بأن الله ميسره في طريق اليسر، وأمره بالتذكير وتبشير المستجيبين بالفلاح وإنذار المتمردين بالنار.
وأسلوبها يلهم أنها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وليس فيها مواقف ومشاهد جدلية، ولعلها نزلت بعد الفاتحة. أو نزلت قبل نزول ما تضمن حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والرد عليهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
. (1) التسبيح: التنزيه والتقديس عن كل ما لا يليق.
(2) سوّى: أتقن وجعل الشيء سويّا تاما.
(3) قدّر: حسب ورتب.
(4) غثاء: النبات اليابس المتكسر الذي تحركه الرياح وتجره المياه.
(5) أحوى: أسود أو ضارب للسواد.
(6) اليسرى: مؤنث الأيسر أي الأسهل، من اليسر.(1/511)
الخطاب في الآيات موجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد تضمنت:
1- أمره بتقديس اسم ربّه الأعلى الذي يستحق كل تقديس وتنزيه. فهو الذي خلق كل شيء وسوّاه على أتم وجه. وهو الذي رتب وحسب في الخلق كل أمر.
وأودع في خلقه قابلية الهدى. وهو الذي أنبت النبات ثم جعله جافا متكسرا أسود اللون بالناموس الذي أودعه في الكون بعد ما كان أخضر لينا.
2- وتنبيها له بأنه سيوحى إليه بالقرآن ويعلمه إياه، فلا ينسى منه شيئا إلّا ما شاء الله فهو العليم بكل شيء ظاهر وخفي وبمقتضيات كل حال، وبأنه سييسره في أسهل السبل وأيسرها، وبأن عليه أن يدعو الناس إليها ويذكرهم لعل الذكرى تنفعهم وهذه مهمته.
3- وتقريرا بأن الناس إزاء الذكرى فريقان: تقي صالح وشقي آثم. فالأول هو الذي يخشى العاقبة فيتقبل الدعوة وينتفع بالذكرى، والثاني هو الذي لا يخشى العاقبة فيعرض عن الدعوة والذكرى، فيكون جزاؤه النار الهائلة التي لا يموت فيها فيستريح، ولا يأمل الخلاص منها والحياة الآمنة المطمئنة.
وليس في الآيات إشارة إلى موقف خاص لمكذبين ومناوئين، وإنما هي بسبيل عرض عام للدعوة ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأسلوب رصين وهادىء معا.
تنبيه على ما أسبغه القرآن والسنّة النبوية على التسبيح من حفاوة
وبمناسبة الأمر بتسبيح الله تعالى في مفتتح السورة نقول إن الأوامر القرآنية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين بتسبيح الله تعالى قد تكررت كثيرا. منها ما فيه أمر بالتسبيح في أوقات معينة، ومنها ما فيه أمر بالتسبيح مطلقا أو في كل وقت. ومنها ما فيه أمر بالتسبيح باسم الله أو التسبيح بحمد الله. ومن السنن النبوية الصحيحة المعمول بها بدون انقطاع صيغة (سبحان الله العظيم) في كل ركوع من كل صلاة وصيغة (سبحان ربي الأعلى) في كل سجود من كل صلاة. حيث تتساوق السنة النبوية مع الأوامر القرآنية.(1/512)
والتسبيح هو تقديس وتنزيه وذكر لله عز وجل وثناء عليه بما هو أهله. بحيث يسوغ القول إن الأوامر القرآنية والنبوية بمواصلة تسبيح الله تعالى قد هدفت إلى جعل المسلم يديم ذكر الله في كل وقت مقدسا منزها مثنيا حامدا مستعيذا. ولا شك في أن المسلم الذي يداوم على ذلك بصدق وقلب وإيمان يظل مستشعرا بالله عز وجل مراقبا جانبه في كل ما يفعل أو يريد أن يفعل فيجعله ذلك حريصا على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. ويكون له بذلك وسيلة عظمى من وسائل التربية الروحية والأخلاقية والاجتماعية.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة فيها صيغ التسبيح بسبيل تعليم المسلمين وبيان لما في التسبيح من ثواب وقربى عند الله عز وجل. فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك اللهمّ اغفر لي» «1» وما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عنها أيضا: «أنه كان يقول في ركوعه وسجوده سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» «2» . وما رواه الترمذي وأبو داود عن عبد الله قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تمّ ركوعه وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تمّ سجوده وذلك أدناه» «3» وما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن جويرية: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج من عندها بكرة حين صلّى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال ما زلت على الحال التي فارقتك عليها قالت نعم قال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» «4» .
وما رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال
__________
(1) انظر التاج الجامع، ج 1 ص 169.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) التاج ج 5 ص 92 و 96.
الجزء الأول من التفسير الحديث 33(1/513)
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» «1» . وما رواه أبو داود: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده ولا قوة إلّا به، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما، فإنه من قالهنّ حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهنّ حين يمسي حفظ حتى يصبح» «2» . وما رواه أبو داود كذلك عن ابن عباس قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى تُخْرَجُونَ «3» أدرك ما فاته في يومه ذلك ومن قالهنّ حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» «4» .
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الانتفاع بالتسبيح رهن بالإخلاص فيه وعدم اقتصاره على الحركة اللسانية التي لا يستشعر صاحبها بما فيه من تذكير وتنبيه وحافز على مراقبة الله عز وجل وتقواه. والله أعلم.
التلقين المنطوي في الآيتين سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
ولقد احتوت الآيتان [10- 11] تلقينا جليلا مستمدا من الوصف الذي وصف به الفريقين اللذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتذكيرهما ودعوتهما. فالذي يعرض عن دعوة الحق هو شقي بطبعه يصدر عن نية خبيثة وطوية فاسدة وخلق سيء بعكس الذي يتأثر بدعوة الحق ويستجيب إليها فإنه يصدر عن نية حسنة وطوية سليمة وخلق
__________
(1) المصدر السابق.
(2) التاج ج 5 ص 99.
(3) المقصود هو آيات سورة الروم هذه: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) .
(4) التاج ج 5 ص 99.(1/514)
فاضل ويخشى العاقبة ويسارع إلى رضاء الله.
وينطوي في هذا تقرير كون الاستجابة والإعراض عملين اختياريين يقدم من يقدم عليهما بدافع من عقله وطبعه وخلقه وطويته. وفي الآية [3] تأييد لهذا التقرير حيث تقرر أن الله قد أودع في الناس قابلية الهدى والسير في طريق الحق والخير والصواب. فمن لم ينتفع بها فيكون هو الشقي الذي اختار لنفسه طريق الضلال المؤدية إلى الهلاك والخسران والمتبادر أن هذا مبدأ من المبادئ المحكمة التي نوهنا بها في سياق تفسير سورة المدثر، والتي ينبغي النظر في إشكالات بعض الآيات والعبارات القرآنية في ضوئها.
تعليق على جملة سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ومسألة جواز النسيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وتعليقا على هذه الجملة نقول إن في القرآن والحديث ما يسيغ القول بجواز النسيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. من ذلك آية سورة الكهف هذه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وقد روي أن الآيات نزلت لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعد بالإجابة على أمر دون أن يقول إن شاء الله على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ومن ذلك آية سورة الأنعام هذه: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) والنبي صلّى الله عليه وسلّم داخل في مدى التعليم القرآني المنطوي في آية البقرة هذه: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [286] على ما يلهمه سياقها.
ومن الحديث ما رواه الخمسة عن عبد الله قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال وما ذاك قال صلّيت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلّم» . وفي رواية قال: «أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى(1/515)
كما تنسون ثم سجد سجدتي السّهو» «1» .
غير أن الجملة كما يتبادر لنا توجب على المسلم أن يعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن ينسى تبليغ شيء من القرآن الذي يوحي الله به إليه إلّا ما شاء الله أن ينساه. وتكون هذه في الحالة من نوع النسخ القرآني على ما سوف نشرحه في سياق تفسير إحدى آيات سورة النحل لأن ذلك أكثر ملاءمة والله تعالى أعلم.
تعليق على وصف الْأَعْلَى
ولقد استنبط بعض أصحاب المذاهب الكلامية من وصف (الأعلى) الذي وصف به الله عز وجل أنه سبحانه وتعالى في السماء. ونقول تعليقا على ذلك أن الله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة وإن في السماء. ونقول تعليقا على ذلك أن الله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة وإن في القرآن آيات عديدة تذكر أنه في السماء إله وفي الأرض إله وأنه ربّ السّموات وربّ الأرض مثل آيات سورة الزخرف هذه: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) والمتبادر أن وصفه بالأعلى يهدف إلى تقرير وصفه بالعلوّ عن كل شيء الذي يدانيه في عظمته وقوته وتساميه شيء. ولقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال: «لما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجعلوها في سجودكم» «2» فجرى المسلمون من لدن النبي صلّى الله عليه وسلّم بدون انقطاع على ذكر هذه الصيغة مرات في كل سجدة يسجدونها مما فيه معنى لطيف متصل بالهدف المذكور فيما يتبادر لنا من حيث تضمنه الاعتراف لله بصفة العلوّ عن
__________
(1) التاج الجامع ج 1 ص 197، وهناك أحاديث صحيحة أخرى من هذا الباب فاكتفينا بهذا الحديث.
(2) أورد الحديث المفسر ابن كثير في سياق هذه السورة وفي سياق سورة الواقعة.(1/516)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
كل شيء في حالة السجود التي تمثل أروع حالات الخضوع لله عز وجل.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
. (1) تزكى: تطهر أو أدى الزكاة. والمعنى الأخير هو المرجح هنا.
(2) الصحف الأولى: الكتب المنزلة السابقة.
وفي هذه الآيات:
1- تقرير توكيدي لفلاح ونجاة الذين يتزكون ويذكرون ربهم ويصلّون له.
2- وخطاب موجه إلى السامعين فيه تنبيه بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا، في حين أن الآخرة هي خير وأبقى لهم، وبأن هذه الدعوة التي يدعوهم إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست بدعا وإنما هي حلقة من سلسلة دعوة أنبياء الله الأولين والكتب المنزلة عليهم وخاصة كتب موسى وإبراهيم.
والآيات متصلة بسابقاتها اتصالا وثيقا، وفيها ذكر مصير الذي ينتفع بالذكرى ويخشى العاقبة وتتمة للكلام عنه بعد ذكر مصير الشقي الذي يعرض عنها.
وكلمة «تزكى» تحتمل في الآية معنى التطهير أو أداء الزكاة غير أن تلازم ذكر الصلاة والزكاة في جلّ المواضع القرآنية قد يسوّغ الترجيح بأن المقصد هنا هو زكاة المال. وإذا صح هذا كانت الدعوة إلى الزكاة والحثّ عليها قد لازما الأمر بالصلاة والحث عليها منذ بدء الدعوة. وقد يفسّر هذا الموقف المتجهم الذي وقفه الأغنياء بالإجمال من الدعوة منذ بدئها.
وأسلوب الدعوة إلى الزكاة إذا صح الترجيح هو أسلوب الحث والترغيب.
وهذا هو المتسق مع ظروف العهد المكي وخاصة مع ظروف أوائله. وهذا(1/517)
الأسلوب ملموح في الدعوة إلى الصلاة أيضا، وهو ملموح في المواضيع المماثلة في جميع السور المكية.
وروح آيات السورة وأسلوبها يلهمان أن الخطاب في الآية [16] لم يوجه لفريق خاص بقصد التثريب والتنديد وإنما هو موجه إلى الناس جميعا بقصد تقرير الطبيعة الغالبة فيهم وهي إيثار النفع العاجل على الآجل، وبقصد تنبيههم إلى ما هو خير وأبقى استهدافا لإقبالهم على الاستجابة للدعوة.
القرآن لا يحظر الاستمتاع بالطيبات
وليس في الآية بطبيعة الحال حظر الاستمتاع بالحياة الدنيا إذا ما استجاب الناس للدعوة وقرنوا العمل للدنيا والآخرة معا.
وفي آيات سورة الأعراف هذه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) تأييد صريح لما نقرره.
وفي سورة المائدة آية نهت المسلمين عن تحريم طيبات ما أحله الله لهم على أنفسهم بدون تجاوز على الحدود المعقولة. وهي هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وكان هذا النهي في مناسبة جنوح بعض المسلمين إلى الرهبانية والتقشف والامتناع عن النساء ولذائذ العيش. وحلفهم على ذلك وقد فرض الله لهم تحلة لأيمانهم في آية أخرى بعد هذه الآية وهي: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ(1/518)
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(89) وفي هذا تدعيم آخر كما هو واضح.
تعليق على ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام وصحفهما
وإبراهيم وموسى عليهما السلام يذكران في القرآن هنا لأول مرة. ثم تكرر ذكرهما كثيرا وبحفاوة عظيمة في سور عديدة مكية ومدنية.
وقد ذكر إبراهيم عليه السلام وسيرته وأولاده وأحفاده في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم بشيء غير قليل من الإسهاب. ويستفاد من ذلك أنه هاجر من بلاد أور الكلدانيين أو حاران إلى أرض كنعان التي صارت تعرف بفلسطين بأمر الله عز وجل هو وزوجته ساره وابن أخيه لوط عليهم السلام.
فاستقروا ونموا فيها وكانوا موحدين مخلصين لله ومحل تجلياته وعنايته وشاخ ومات ودفن في فلسطين.
وفي السور الأخرى شيء من سيرتهم، منه ما يتطابق مع ما ورد في السفر المذكور ومنه ما لا يتطابق أو ما لم يذكر فيه على ما سوف ننبه عليه في مناسبات أخرى.
وفي كتب التفسير روايات كثيرة ومسهبة عنهم مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول. منها المتطابق مع ما جاء في سفر التكوين ومنها غير المتطابق. وفيها على كل حال دلالة على أن ذكرهم كان متداولا بنطاق واسع في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة ومصدر ذلك على ما هو المتبادر الكتابيون الذين كانوا في هذه البيئة وبنوع خاص الاسرائيليون الذين ينتسبون إليهم بالأبوة. على أن لإبراهيم عليه السلام مقاما خاصا عند العرب يأتي مما كان متواترا حتى بلغ مبلغ اليقين من أن القرشيين والعدنانيين الذين يتفرع الأولون منهم كانوا يتداولون نسبتهم بالأبوة إليه من ناحية إسماعيل ابنه(1/519)
البكر عليهما السلام. ونسبة الكعبة وتقاليد الحج المتنوعة إليه أيضا. وفي القرآن آيات فيها تأييد وترديد لذلك منها آيات سورة البقرة هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وآية سورة الحج هذه: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) وهذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... [78] .
وقد ذكر موسى في سفر الخروج ثاني أسفار العهد القديم والأسفار التالية له المتداولة اليوم بإسهاب. وهو من نسل إبراهيم على ما يستفاد من أسفار العهد القديم ومن القرآن معا. وكثير مما ورد في القرآن عنه متطابق مع ما ورد في أسفار هذا العهد، ومنه غير المتطابق أيضا. وفي كتب التفسير روايات كثيرة عنه مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول منها ما هو المتطابق مع هذه الأسفار ومنها غير المتطابق. وفيها على كل حال دلالة على أن ذكره كان متداولا بنطاق واسع في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة.
ومصدر ذلك على ما هو المتبادر الكتابيون الذين كانوا في هذه البيئة وبنوع خاص الإسرائيليون.(1/520)
ونكتفي بهذه اللمحة عنه لأن ذكره هنا جاء خاطفا وسوف نعود إلى ذكره بتوسع أكثر في المناسبات التي ذكر فيها بتوسع أكثر.
والإشارة الواردة في الآيتين الأخيرتين [18- 19] هي أولى الإشارات إلى كتب الله الأولى التي فسرت في الآية [19] بصحف إبراهيم وموسى. والإشارة خاطفة يمكن أن تؤيد أولية ذكر هذه الكتب وأسلوبها يمكن أن يدل على أن السامعين لا يجهلون أن هناك كتبا إلهية نزلت على أنبيائه ومنهم إبراهيم وموسى عليهما السلام. ولقد كان في الحجاز جاليات نصرانية ويهودية وكانوا يتداولون الأسفار المنسوبة إلى الله وإلى الأنبياء ولا بد من أن السامعين كانوا يعرفون ذلك من طريقهم.
والمتبادر أن المقصود من تعبير (صحف موسى) هو ما أوحاه الله إليه من تعليقات وتشريعات. وقد ذكر ذلك بصراحة في آيات عديدة مكية ومدنية غير أنه عبر عنه بتعبير «الكتاب» الذي أنزله الله هدى للناس وآتاه الله موسى هدى لبني إسرائيل وبتعبير التوراة التي فيها نور وهدى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار مما أوردنا أمثلة منه في تعليق آخر في سورة المدثر.
ولقد كتب موسى عليه السلام ما بلغه الله إليه في سفر سمي التوراة وكتاب الشريعة وفي ألواح. ولكن ذلك لم يصل إلينا وكان يتداوله اليهود في الأزمنة القديمة على ما ذكر في بعض الأسفار المتداولة اليوم «1» . والمتبادر أن ذلك هو ما قصد بصحف موسى.
أما ما في أيدي اليهود والنصارى اليوم مما يسمى بالعهد القديم والمؤلف من مجموعة كبيرة من الأسفار والتي في بعضها تشريعات وأحكام ربانية مبلغة من الله لموسى عليه السلام ومن موسى لبني إسرائيل والتي في بعضها تاريخ بني إسرائيل قبل موسى وبعده مع تاريخ أنبياء وأشخاص وأحداث شعوب أخرى قبله وبعده أيضا فإنها مكتوبة بأسلوب الحكاية وبأقلام كتاب عديدين في أزمنة مختلفة
__________
(1) انظر سفر الخروج الإصحاح 24 وسفر التثنية الإصحاح 31 وسفر الملوك الثاني الإصحاح 22 وسفر نحميا الإصحاح 8.(1/521)
بعد موسى. وفيها كثير من التناقض والمفارقات والغلوّ وفيها أشياء كثيرة منسوبة إلى الله عز وجل وأنبيائه لا يمكن أن تكون صحيحة. ولا يصح أن توصف بوصف صحف موسى كما هو ظاهر. وسيأتي بيان أوفى عنها في مناسبة أخرى.
أما صحف إبراهيم فليس هناك شيء عنها إلّا هذه الإشارة التي تفيد أن فيها ما قررته آيات سورة الأعلى من مبادئ. وإشارة مثلها في سورة النجم مع زيادة توضيحية هذا نصها: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) .
وهناك حديث طويل أورده المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية [163] من سورة النساء مرويا عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «إن عدد الصحف المنزّلة على إبراهيم عشر» ولكن الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد توقف بل طغى فيه بعض علماء الحديث على ما ذكره المفسر المذكور والله تعالى أعلم.
وذكر صحف إبراهيم وموسى في مقام عرض الدعوة وأهدافها يلهم أنه بسبيل تقرير كون الدعوة المحمدية وما يبشر وينذر به النبي صلّى الله عليه وسلّم مما هو متطابق مع دعوة الأنبياء السابقين وما أنزل عليهم واستمرار له. وهذا مما تكرر تقريره في القرآن كثيرا، من ذلك آية سورة الشورى هذه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وآيات سورة النساء هذه: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا(1/522)
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
(165) .
ونرجح، بل نعتقد أنه كان في أيدي اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسفار أو قراطيس فيها أخبار أخرى غير الواردة في سفر التكوين وهو أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم عن إبراهيم عليه السلام وملته كانوا يسمونها صحف إبراهيم لم تصل إلينا. ولقد ذكر في سور عديدة مثل مريم والشعراء والأنعام والأنبياء قصص رسالة إبراهيم لأبيه وقومه وما كان بينهم وبينه من جدل وحجاج حول عبادتهم للأصنام وما كان من تأجيجهم النار وإلقاء إبراهيم فيها. وهذه القصص لم ترد في سفر التكوين. ويتبادر لنا أن هذه القصص كانت في تلك الأسفار والقراطيس.
ولعل اختصاص صحف إبراهيم وموسى بالذكر في هذه السورة المبكرة متصل خاصة بما كان للنبيين الكريمين من صورة خطيرة في أذهان السامعين أكثر من غير هما. فقد كان في الحجاز جاليات يهودية كبيرة ذات تأثير في أهلها، وكانت توراة موسى وشريعته وقصة رسالته إلى فرعون ومعجزاته مشهورة متداولة.
ولقد كان إبراهيم عليه السلام وملته الحنيفية وصلته بالكعبة وتقاليد الحج وأبوته- من طريق ابنه إسماعيل- للعدنانيين سكان الحجاز مما يشغل في أذهان العرب حيزا كبيرا مما احتوى القرآن آيات عديدة في صدده مثل آيات سورة البقرة هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ(1/523)
الْحَكِيمُ
(129) وآيات سورة الحج هذه: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) وهذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) .
وفحوى الآيات يلهم بقوة أن سامعيها من العرب كانوا يعرفون كثيرا مما احتوته ونوهت به ويعتقدون به، وهناك روايات كثيرة تؤيد ذلك «1» .
دلائل أولية سورة الأعلى وصفتها
وأسلوب آيات السورة ومضمونها ونظمها يسوّغ القول بأنها من السور التي نزلت جملة واحدة، وأنها من أوائل ما نزل وأنها سبقت سور القلم والمزمل والمدثر، أو على الأقل سبقت ما جاء بعد مطالع هذه السور إذا صحت روايات أولية نزول هذه المطالع، وسبقت كذلك آيات سورة العلق التي جاءت بعد مطلعها. ولعلها نزلت بعد سورة الفاتحة، أو بعد مطلع سورة العلق. ويلحظ أن إحدى آيات السورة احتوت تعبير (سنقرئك) وأن السورة بدئت بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتسبيح اسم ربه الأعلى، مما فيه شيء من التجانس بينها وبين مطلع سورة العلق، وعلى كل حال فهي من القسم الذي كانت تعنيه تسمية القرآن في بدء الدعوة مثل سورة الفاتحة، والذي احتوى عرض أهداف الرسالة المحمدية والدعوة إليها على ما هو المتبادر، والله أعلم.
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 5- 13 و 237- 247 طبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1355 هـ 1936 م. [.....](1/524)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
سورة الليل
في السورة تصنيف الناس حسب أعمالهم، وتنويه بصالح العمل وأصحابه، وتنديد بسيء العمل وأصحابه وإنذارهم. وفيها تنويه بمن يتزكّى بماله، وتنديد بالبخل والمنع. وأسلوبها كسابقتها من حيث دلالته على احتوائها عرضا عاما للدعوة وعلى تبكير نزولها قبل غيرها الذي احتوى مشاهد ومواقف حجاجية وتكذيبية. وبين السورتين من التوافق في المبنى والأسلوب والجرس ما يلهم أنهما نزلتا متتابعتين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)
. (1) يغشى: يغطي أو يخيم أو ينتشر.
(2) تجلى: ظهر أو انكشف أو برز.
(3) شتى: جمع شتيت بمعنى أنواع مختلفة.
(4) الحسنى: مؤنث الأحسن. ومن المفسرين من أوّل جملة وَصَدَّقَ(1/525)
بِالْحُسْنى
بمعنى صدق بوعد الله بزيادة الإخلاف على المنفقين. ومنهم من أوّلها بمعنى صدق بالموعود الأحسن من الله، ومنهم من أوّلها بمعنى صدق بالجنة التي وعد الله المؤمنين المحسنين «1» .
(5) اليسرى: مؤنث الأيسر أي الأسهل.
(6) استغنى: شعر بالغنى عن غيره أو عن الله بما صار عنده من مال.
(7) العسرى: مؤنث الأعسر أي الأشق الأصعب.
(8) تردى: سقط أو هوى من عال.
الخطاب في الآيات موجه إلى السامعين بأسلوب مطلق وتقريري. وقد تضمنت:
1- قسما ربانيا بالليل إذا خيم والنهار إذا انجلى، وما خلق الله من ذكر وأنثى إن الناس في سلوكهم وأعمالهم أنواع. منهم المؤمن بالله والمتصدق بماله والمصدق بوعود الله الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره الله في السبيل اليسرى التي فيها النجاة والسعادة. ومنهم البخيل الذي يستشعر الغنى عن غيره وربه، البخيل بماله الجاحد لوعود الله الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره الله في السبيل العسرى التي فيها الهلاك والخسران ولن يغني عنه ماله ويقيه السقوط والتردي في ذلك المصير الرهيب.
2- وتقريرا ربانيا بأن ما للناس على الله هو أن يبين لهم طريق الهدى والخير ويدلهم عليه ويحذرهم من طريق الضلال والشر، وبأن أمر الدنيا والآخرة في يده وهو المتصرف فيهما تصرفا مطلقا.
والآيات كما هو ظاهر بسبيل الدعوة العامة للناس. وليس فيها مواقف ومشاهد حجاجية وتكذيبية. وفيها مبادئ هذه الدعوة بإيجاز بليغ وهي الإيمان بالله وتصديق وعود الله والعمل الصالح ونفع الغير ومساعدتهم وعدم البخل بالمال بسبيل ذلك مع التنبيه على أن هذا المال لن يغني عنه شيئا إذا لم يستجب للدعوة
__________
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والزمخشري والطبرسي وابن كثير.(1/526)
ويلتزم بمبادئها. فمن فعل ذلك فهو ناج سعيد ومن فعل العكس فهو خاسر شقي.
وقد انطوى فيها حكمة إرسال الله الرسل للناس ليبين لهم بلسانهم معالم الهدى. كما انطوى فيها تقرير كون الناس موكولين بعد ذلك إلى اختيارهم للطريق التي يسيرون فيها ومستحقين للنتائج التي تترتب على هذا الاختيار في الدنيا والآخرة معا. وكل هذا مما تكرر تقريره بحيث يعد من المبادئ القرآنية المحكمة.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآيات حديثا عن علي بن أبي طالب قال: «كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازة فقال ما منكم من أحد إلّا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا يا رسول الله أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل. قال اعملوا فكلّ ميسّرّ لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فييسّر لعمل أهل السعادة. وأمّا من كان من أهل الشقاء فييسّر لعمل أهل الشّقاء ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) [الليل/ 5- 7] » «1» . والحديث ينطوي على إيذان بعلم الله عز وجل الأزلي بمصير كل إنسان في الآخرة وليس في كون الله عز وجل قد قدر على الناس مصائرهم الأخروية بقطع النظر عن أعمالهم التي يستحقون هذه المصائر بسببها كما هو المتبادر. وهذا ما ينطوي في الآيات أيضا حين إمعان النظر فيها. حيث يربط الآيات والحديث السعادة والشقاء بالعمل فمن عمل عمل أهل السعادة سعد ومن عمل عمل أهل الشقاء شقي.
وهذا الموضوع متصل بناحية ما بموضوع القدر الذي سوف نبحثه بحثا وافيا في مناسبة أكثر ملاءمة.
تعليق على جملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى
وجملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى التي جمع فيها من الذكر والأنثى في القسم قرينة
__________
(1) التاج ج 4 ص 259- 260(1/527)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
على نظرة الله تعالى المتساوية لهما وتسوغ القول إن ما جاء بعدها من الإشارة إلى أعمال الناس من خير وشر وتيسير الله لهم وفقها يشمل الذكر والأنثى معا. وإن صح استنتاجنا ونرجو أن يكون صحيحا فيكون أول تقرير قرآني لمبدأ تكليف الذكر والأنثى على السواء تكليفا متساويا بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا ولمبدأ ترتيب نتائج سعي كل منهما وفقا لما يكون من نوع هذا السعي من خير وشر ونفع وضرّ وهدى وضلال. وأول تقرير قرآني لتساوي الذكر والأنثى في القابليات التي يختار كل منهما عمله وطريقه بها. ولقد تكرر تقرير كل ذلك كثيرا وبأساليب متنوعة وفي القرآن المكي والمدني معا.
ومن ذلك آيتان مهمتان في بابهما في سورة الأحزاب وهما: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) . وجمهور المؤولين والمفسرين على أن كلمة «الأمانة» تعني هنا التكليف أي ما رسمه الله للإنسان من واجبات ونهاه عنه من محظورات. والإنسان في الآية الأولى مطلق أريد به الإنسان الذي يمثله الذكر والأنثى معا بدليل الآية الثانية التي احتوت إنذارا للمنافقات والمشركات اللاتي ينحرفن عن التكليف أسوة بالمنافقين والمشركين وبشرى للمؤمنات اللاتي يلتزمن حدود الله المرسومة أسوة بالمؤمنين على قدم المساواة، وفي ذلك ما فيه من روعة وجلال.
[سورة الليل (92) : الآيات 14 الى 21]
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
. (1) تلظى: تتوهج وتتقد.(1/528)
وهذه الآيات معقبة على الآيات الأولى وفيها إنذار للسامعين الذين وجهت إليهم الدعوة بأسلوب تقريري بالنار المتوهجة المعدة للأشقياء الذين يكذبون الدعوة ويعرضون عنها. أما الذين يتقون الله بالإيمان والعمل الصالح ويعطون أموالهم زكاة ابتغاء وجه ربهم ورضائه، ودون أن يكون مقابلة لأحد له عليهم نعمة سابقة أو يد سالفة فيجنبونها، ويكون لهم من الله ما فيه رضاؤهم وطمأنينتهم.
وآيات السورة كسابقتها تماما من حيث هي عرض عام للدعوة وتبشير وإنذار بأسلوب آخر هو أيضا هادىء ورصين ورائع. وقد احتوت مثلها تلقينات جليلة.
ففيها حث على تقوى الله بالإيمان والعمل الصالح والإنفاق في وجوه البر دون غاية من غايات الدنيا المألوفة وتنويه بجلال هذا العمل. وتلقين بأن المال إنما يفيد صاحبه إذا هو اتجه في طريق الصلاح والخير وأنفقه بسخاء في وجوه البر ابتغاء وجه الله. وأنه شر على صاحبه إذا أثار فيه الغرور والاعتداء وبخل به ولم ينتفع به غيره.
وقد جاءت الدعوة فيها إلى إعطاء المال زكاة بصراحة، وهذا يدعم ترجيحنا من أن تعبير «تزكى» في السورة السابقة قد قصد به زكاة المال.
وهكذا يتوالى في المجموعات القرآنية الأولى الحث على الإنفاق والزكاة وفعل الخير ابتغاء وجه الله ورضائه فحسب، والتنديد بالبخل والغرور بالغنى والمال والتمسك بأعراض الدنيا وشهواتها والإعراض عن الخير والبر، مما ينطوي فيه أن ذلك من أهم أهداف ومبادئ الدعوة بعد الإيمان بالله واليوم الآخر وعبادة الله وحده. وفي هذا ما فيه من بالغ الروعة والجلال. فالمال من أعز الأشياء على أصحابه. والمعوزون أكثر من الميسورين دائما كما أن كل مشروع خيري وإصلاحي عام يحتاج إلى المال في أول ما يحتاج.
وقد روى المفسرون «1» أن الآيات [17- 21] نزلت في حق أبي بكر رضي
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري وغيرهم.
الجزء الأول من التفسير الحديث 34(1/529)
الله عنه لكثرة ما أنفقه وخاصة في شراء أرقاء المسلمين الذين كان مالكوهم الكفار يعذبونهم. غير أن وحدة وزن الآيات السابقة لها وأسلوب آيات السورة وتماسكها يجعلنا نرجح نزولها جملة واحدة وكونها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها. وهذا لا ينفي رواية إنفاق أبي بكر رضي الله عنه وإنقاذه الأرقاء المعذبين من المؤمنين.
وقد رأينا ابن كثير يقول بعد ذكر رواية نزولها في حق أبي بكر: إنه ولا شك داخل فيها بسبب كثرة ما أنفقه ولكن لفظها لفظ العموم. والسورة من أبكر ما نزل كما قلنا. وقد نزلت فيما نعتقد قبل أن ينشب حجاج ونضال بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه الأولين وبين الكفار. ومن المحتمل أن يكون أبو بكر فعل ما فعل بتأثير ما احتوته من حث وتنويه وأن يكون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رأوا في فعله مطابقة تامة للآيات فنوهوا به في مناسبتها، فكان هذا أصل الرواية.
ولقد استعظم مفسرو الشيعة ما روي من أن الآيات [17- 21] في حق أبي بكر رضي الله عنه فنفوا ذلك وقالوا إنها مع الآيات [5- 7] في حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والهوى الحزبي بارز على هذا القول وهذا مثال آخر من أمثلة كثيرة سوف نوردها في مناسباتها «1» .
هذا، ويلحظ شيء من التوافق اللفظي بين آيات هذه السورة وآيات السورة السابقة كما يلحظ توافق أسلوبي وهدفي أيضا. وهذا وذلك يلهمان صحة ترتيب تتابعهما في النزول ووحدة ظروف نزولهما وكون هذه كتلك من أولى السور نزولا ومما كان يعنيه لفظ القرآن في بدء الأمر مثلها.
__________
(1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 224.(1/530)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
سورة الفجر
تحتوي السورة تذكيرا بعذاب الله الذي حل بالطغاة المتمردين من الأمم السابقة كعاد وثمود وفرعون وإنذارا لأمثالهم، وتنديدا بحب المال والاستغراق فيه، واستباحة البغي والظلم في سبيله، وعدم البر باليتيم والمسكين، ودحضا لظن أن اليسر والعسر في الرزق اختصاص من الله بقصد التكريم والإهانة. وفيها تصوير مشهد ما يكون من مصير البغاة يوم القيامة وحسرتهم، وتنويه بالمؤمنين ذوي النفوس المطمئنة وبشرى لهم برضاء الله وجنته. وأسلوب السورة عام العرض والتوجيه مما يدل على تبكيرها بالنزول. وفصولها وآياتها منسجمة مما يدل على نزولها جملة واحدة أو متتابعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
. (1) ليال عشر: قيل إنها العشر الأخيرة من رمضان وقيل إنها العشر الأولى من المحرم وقيل إنها العشر الأولى من ذي الحجة. وكل من هذه العشرات مبارك(1/531)
في الآثار والتقاليد الإسلامية. ومما قيل إنها العشر الأولى من كل شهر حيث يبدو في أولها الهلال ثم يكبر ثم يكبر كما يبدو الفجر خيطا من نور ثم يتسع. وفي ذلك توافق بين الفجر والهلال.
(2) الشفع: كل شيء مزدوج من اثنين ومضاعفاتهما. وقيل إن المقصود هو يوم النحر لأنه عاشر أيام ذي الحجة وهو شفع.
(3) الوتر: كل شيء مفرد غير قابل للقسمة على اثنين، وقيل إن المقصود هو يوم عرفات لأنه التاسع من ذي الحجة وهو وتر. ومما قيل في المقصود من الشفع والوتر هو الله سبحانه الوتر وجميع الأحياء هم شفع لأنهم من زوجين ذكر وأنثى. ومما قيل كذلك أن المقصود هم جميع الخلق الذين منهم الشفع ومنهم الوتر وروى الترمذي إلى هذا حديثا عن عمران بن الحصين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الشفع والوتر فقال «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» «1» .
(4) يسري: يمضي أو يدبر أو يجري نحو الانتهاء.
(5) ذي حجر: ذي عقل. وجملة هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ هي بمعنى أليس فيما تقدم من الأقسام كفاية ومقنع لمن لديه عقل على ما ذكره جمهور المفسرين.
(6) عاد: قبائل عربية قديمة كانت تسكن في القسم الجنوبي من جزيرة العرب الذي كان يسمى بالأحقاف أيضا. وقد وردت هذه التسمية في سورة الأحقاف في صدد الإشارة إلى قوم عاد. والأحقاف هي أكثبة الرمل.
(7) إرم: قيل إنها اسم جدّ عاد الأقدم. وقيل إنها اسم مدينة قوم عاد.
(8) ذات العماد: ذات الأعمدة. قيل إنها وصف لمدينة إرم. وقيل إنها وصف لمساكن قبائل عاد بن إرم التي كانت خياما تقوم على أعمدة.
(9) ثمود: قبائل عربية قديمة كانت تسكن في القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب في طريق المدينة والشام وفي المنطقة المعروفة اليوم بمدائن صالح.
__________
(1) التاج ج 4 ص 258.(1/532)
(10) جابوا: قطعوا. ولعلها بمعنى نحتوا الصخر واتخذوه منازل. وقد ذكر ذلك عن ثمود في مواضع قرآنية أخرى مثل آية سورة الشعراء وهي: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) التي جاءت في سلسلة قصة ثمود ونبيهم صالح عليه السلام.
(11) ذي الأوتاد: صاحب المنشآت العظيمة التي تشبه الجبال حيث وصفت الجبال في القرآن بالأوتاد كما جاء في آية سورة النبأ هذه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) ولعلها تعني الأهرام أو أن الأهرام بعضها لأن الكلمة جاءت وصفا لفرعون.
(12) سوط: أصل معناه العصا التي يضرب بها أو ما يقوم مقامها.
واستعملت هنا مجازا.
(13) بالمرصاد: محل الرصد والترصد. والمقصود من جملة إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أن الله مترصد للطغاة لينكّل بهم «1» .
في الآيات الأربع الأولى أقسام ربانية بالفجر والليل الذي يجري حتى ينتهي إلى الفجر والنهار وبالليال العشر المباركة وبالشفع والوتر. أما جواب القسم فقيل إنه في جملة إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ حيث يعني أن الله يقسم إنه بالمرصاد للطغاة الجاحدين كما فعل بأمثالهم السابقين المذكورين. وقيل إنه محذوف مقدر بأن ما يسمعه الناس من الإنذار حقّ لا ريب فيه أو بأن الله الذي هو بالمرصاد للطغاة الجاحدين ليعذبنهم أو ليقتصن منهم كما فعل بأمثالهم «2» .
والآية الخامسة توكيد رباني بأن فيما فعله الله في الأولين وفي قسمه بأنه بالمرصاد للطغاة الجاحدين مقنعا لذوي العقول والبصائر.
__________
(1) انظر معاني الكلمات في تفسير السورة في تفسير الطبري والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي والنيسابوري.
(2) انظر تفسير السورة في تفسير مجمع البيان للطبرسي مثلا.(1/533)
تعليق على قصص الأقوام المذكورة في السورة
والأسلوب الاستفهامي الذي جاءت فيه الآية السادسة وما بعدها يلهم أن أخبار عاد وثمود وفرعون وآثارهم والعذاب الرباني الذي حل فيهم غير مجهول عند سامعي القرآن كما يلهم أن ذكرهم هو في معرض التذكير والإنذار والموعظة.
وبهذا يستحكم جواب القسم والإنذار الذي انطوى فيه، وهذا وذاك هو هدف القصص القرآنية.
ولقد وردت إشارة خاطفة إلى فرعون في سورة المزمل. وأسلوبها يلهم ذينك الأمرين معا. وحكمة ذلك ظاهرة. فالسامع يتأثر بالقصص التي يعرفها أو يعرف عنها شيئا أكثر مما لا يعرفه. وقصة فرعون مع بني إسرائيل وموسى مفصلة في سفر الخروج من أسفار التوراة. ولا بد من أن العرب كانوا يعرفون كثيرا منها من طريق الكتابيين الذين كانوا بينهم، والذين كانت هذه الأسفار متداولة عندهم.
ولقد رجحنا أن الأوتاد هي الأهرام المصرية لأنها جاءت مع ذكر فرعون. ولقد كان تجار الحجاز يصلون في رحلاتهم التجارية إلى مصر بطريق شرق الأردن وفلسطين على ما تلهم آيات في سورة الصافات التي تذكر الحجازيين بما رأوه من آثار تدمير الله سدوم وعمورة بلدي لوط في غور أريحا، وهي هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) ولقد ذكرت الروايات «1» اسم عمرو بن العاص من جملة من زاروا مصر قبل إسلامه. والمتبادر أن الأهرام وهولها ومماثلتها للجبال مما كان يتحدث به الزوار.
أما قصص عاد وثمود فليست واردة في أسفار أهل الكتاب المتداولة. وهي في صدد قومين عربيين قديمين. وأسلوب الآيات يلهم أن السامعين لا يجهلونها
__________
(1) انظر كتاب حياة عمرو بن العاص لإبراهيم حسن.(1/534)
وأنها وصلت إليهم منقولة من جيل إلى جيل. وفي سورة العنكبوت آية قد يكون فيها دليل على أن من سامعي القرآن من زار مساكن عاد وثمود ورأى أطلالها وخرائبها وسمع أن الله تعالى قد دمرها بعذابه بسبب تكذيب أهليها لرسوليهم هود وصالح عليهما السلام وهي هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وبلاد عاد هي في جنوب اليمن مما يعرف اليوم ببلاد حضرموت وبلاد ثمود هي في شمال الجزيرة العربية وعلى طريق بلاد الشام مما يعرف اليوم ببلاد مداين صالح. وكانت القوافل الحجازية التجارية تمرّ بمداين صالح في طريقها إلى بلاد الشام ومصر كما كانت تصل إلى بلاد حضرموت في رحلتها الشتوية إلى اليمن.
ولقد تكررت قصص فرعون وثمود وعاد في القرآن مرارا، مسهبة حينا ومقتضبة حينا حسب حكمة التنزيل بسبب تكرر المناسبات والمواقف على ما شرحناه في سورة القلم.
وفي القصص الواردة في السور الأخرى بيانات كثيرة عنهم وعن أنبيائهم ومواقفهم منهم ونكال الله عليهم. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة على هامشها أيضا معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول حيث يفيد هذا أن الحديث في هذه القصص مما كان يجري في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره متصلا بالأجيال السابقة. ومما يؤيد القول بمعرفة أهل هذه البيئة والعصر أشياء كثيرة منها.
ونكتفي الآن بما قلناه على أن نعلق بما يقتضي في المناسبات الآتية إن شاء الله.
والمتبادر أن ما احتوته الآيات هنا عنهم هو بسبيل التنويه بما كانوا عليه من قوة وبسطة، وبسبيل تقرير أنهم لم يعجزوا الله حينما طغوا وتجبروا فصبّ عليهم عذابه ونكّل بهم، وبسبيل البرهنة على قدرته على كل من يسير في طريقهم من التجبر والطغيان والتمرد على الله، وكل هذا متصل بأهداف القصص القرآنية كما هو واضح.(1/535)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
هذا، والآيات لا تحتوي إشارة إلى موقف معين للمكذبين والجاحدين.
ولذلك يصح أن يقال إنها بسبيل الإنذار والتذكير والتحذير من الطغيان والفساد والتمرد على الله ودعوته بصورة عامة. وفي هذا ما هو واضح من التلقين الجليل المستمر المدى.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 20]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
. (1) ابتلاه: اختبره وامتحنه.
(2) أكرمني: هنا بمعنى رفع قدري وعني بي.
(3) قدر عليه رزقه: بمعنى ضيقه عليه.
(4) أهانني: هنا بمعنى وضع قدري وتقصد ضرري وإهانتي.
(5) تحاضون: تتحاضون أي تحضون بعضكم بعضا.
(6) التراث: الميراث.
(7) لمّا: جمعا والقصد أكل الميراث جميعه بدون تفريق بين حق وباطل.
(8) جمّا: كثيرا.
في الآيتين الأوليين:
1- عرض لصورة من تفكير الإنسان وتلقّيه في حالتي الغنى والفقر والنعيم والبؤس. ففي الأولى يظن أن الله إنما يسّر له ذلك عناية به ورفعا لقدره واهتماما لشأنه. وفي الثانية يظن أن الله إنما اختصه بذلك حطّا من قدره وإهانة له في نظر الناس.(1/536)
2- تقرير بأن ذلك ليس كما يظن الإنسان في حاليه. ونفي ردعي لهذا الظن. وإنما هو امتحان رباني، ليظهر موقفه من الله والناس في حالتي اليسر والعسر والنعيم والبؤس.
وفي الآيات الأربع التالية تأنيب ردعي وتكذيبي:
1- للذين يحتقرون اليتيم ولا يرعون حقه.
2- وللذين يضنون على المساكين وخاصة بما هم في حاجة إليه من الطعام الذي فيه حفظ حياتهم، ولا يحض بعضهم بعضا على ذلك.
3- وللذين يشتد فيهم الشره إلى المال ويحبونه حبّا يملك عليهم مشاعرهم ويجعلهم يستبيحون أكل الميراث، دون تفريق بين حقّ وباطل وحلال وحرام.
ولقد روى الطبري عن حرملة بن عمران أنه سمع عمر مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله يقول (كلا) فإنما يقول للمخاطب (كذبت) وتطبيقا على هذا يكون ما ذكرناه مما انطوى في الآيات الأربع بمثابة تكذيب لقول القائلين.
ويبدو لأول وهلة أن هذا الفصل منفصل عن الفصل السابق. غير أن الصلة تلمح بينهما حين التروي. فالفصل الأول بسبيل التذكير بما كان من بغي بعض الأمم والملوك السابقين وطغيانهم وفسادهم في الأرض ونكال الله فيهم، وقد احتوى قسما ربانيا بأن الله بالمرصاد لأمثالهم دائما. وهذا الفصل بسبيل بيان ما يدور في أذهان الناس- ومنهم السامعون- من ظنون خاطئة في حالتي يسرهم وعسرهم فيها غرور وسوء أدب نحو الله. وما يقدم عليه الناس- ومنهم السامعون- من بغي على الفئات الفقيرة والضعيفة وحرمان لهم من مقومات الحياة ونعم الله التي أنعم عليهم. وازدرائهم، وما ينبعث في نفوس الناس- ومنهم السامعون- من حب شديد للمال يجعلهم لا يفرقون في سبيله وخاصة في الميراث بين حلال وحرام. ويلمح في حرف الفاء التعقيبي أو التفسيري- الذي بدىء به الفصل الثاني والله أعلم- قصد تشميل قسم الله بأنه بالمرصاد للناس الذين حكى هذا الفصل(1/537)
ظنونهم الخاطئة وغرورهم وسوء أدبهم نحو الله وعدم شكرهم له، وازدرائهم باليتيم وحرمانهم المساكين من مقومات الحياة، واستغراقهم في حب المال ذلك الاستغراق الذي يجعلهم لا يفرقون في سبيله بين حلال وحرام.
ومع أن كلمة الإنسان مطلقة، والخطاب في صدد عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وحب المال حبا شديدا وأكل الميراث أكلا ذريعا موجه إلى السامعين إطلاقا فالمتبادر أن المقصودين بالتنديد هم الذين يظنون تلك الظنون الخاطئة، ويفعلون هذه الأفعال الكريهة.
ويلمح أن الآيات الأربع الأخيرة قد جاءت على أسلوب الحكيم، فالآيتان السابقتان لها تعرضان إلى الخطأ في تفكير الناس في حالتي السعة والضيق واليسر والعسر، مع تقريرهما أن ذلك امتحان رباني. فجاءت الآيات تلفت نظرهم إلى خطيئات أخرى هم واقعون فيها وتندد بهم من أجلها وتكذبهم في أقوالهم وتعليلاتهم.
وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآيات أو القسم الأول منها نزل في أمية بن خلف أحد زعماء قريش مع أن أسلوبها عام مطلق كسابقاتها وهي منسجمة مع بعضها انسجاما قويا. وكلام الطبري شيخ المفسرين يفيد أنها عرض عام لظنون المنحرفين من الناس وسلوكهم بصورة مطلقة.
ولقد انطوى فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى. فالمرء ينبغي ألّا تبطره النعمة واليسار فيخرج عن حده بالخيلاء والغرور وزعم اختصاص الله إياه بالحظوة، كما أنه لا ينبغي أن يداخله غم ويأس إذا ما حل فيه ضيق وعسر فيعتبر ذلك نقمة وإهانة اختصه الله بهما. فكثيرا ما يكون في الثروة والرخاء بلاء، وكثيرا ما يكون في الفقر والخصاصة راحة نفس وسلامة دين وعرض. ومن الواجب أن يرى كل من الفريقين كذلك أنهما إزاء اختبار رباني وأن على الميسور أن يشكر الله ويقوم بواجبه نحوه ونحو الناس وخاصة ضعفاءهم وذوي الحاجة منهم وأن
__________
(1) انظر تفسير البغوي.(1/538)
على المعسر أن يصبر ويصابر. ومن تلقيناتها تقرير كون الغنى والفقر عرضين تابعين لنواميس الكون ومن جملتها قابليات الناس وظروفهم التي لا تبقى على وتيرة واحدة. ولا يصح أن يظن ظانّ أنهما اختصاص رباني بقصد التكريم والإهانة ورفع القدر أو حطه.
ومن تلقيناتها كذلك أن جعل المال أكبر الهمّ وقصارى المطلب واستباحة البغي والظلم في سبيل الحصول عليه وحرمان المحتاجين والضعفاء من المساعدة والعطف والبر بتأثير حب المال من الأخلاق الذميمة التي يجب على الإنسان وعلى المسلم من باب أولى اجتنابها والترفع عنها. ويلفت النظر بخاصة إلى الآيات وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) التي جاءت بعد الآيات: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) [17- 18] التي تنطوي على تنديد لاذع لمن يفعل ما جاء فيها حيث يلمح فيها إيذان قرآني بكراهية الاستكثار من حيازة المال والحرص الشديد عليه وعدم إنفاقه على المحتاجين والفقراء. ولهذا دلالة خطيرة المدى ولا سيما أنه بدأ منذ أوائل التنزيل القرآني واستمر يتكرر إلى آخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي نزل فيه آيات سورة التوبة هذه التي كانت من أواخر ما نزل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) .
وهناك أحاديث كثيرة تتساوى في التلقين المنطوي في الآيات بالنسبة للأمر الأخير بخاصته. منها حديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» «1» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن
__________
(1) التاج ج 5 ص 145 وما بعدها. هناك أحاديث عديدة أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.(1/539)
النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعس عبد الدينار والدّرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» «1» . وحديث رواه الترمذي ومسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنّعه الله. وفي رواية طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع» «2» . وحديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن كعب بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشّرف لدينه» «3» وحديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين وانتظر بعض الصحابة فقال رسول الله لهم والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» «4» . وحديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ لكلّ أمّة فتنة وفتنة أمتي المال» «5» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرّني ألا تمرّ بي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلّا شيئا أرصده لدين» «6» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» «7» . وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد جاء فيه: «إنّ هذا المال حلوة من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» «8» .
__________
(1) التاج ج 5 ص 148- 149.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه. [.....]
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه.(1/540)
تعليق على ما أولاه القرآن من العناية باليتيم
وبمناسبة التنديد في الآية [17] بالذين لا يكرمون اليتيم نقول إن القرآن المكي والمدني معا قد احتوى آيات كثيرة بلغ عددها اثنتين وعشرين في صدد العناية باليتيم وتكريمه وحفظ ماله وإعطائه حقه وعدم معاملته بالعنف والقسوة والنهي عن أكل ماله وأذيته والتحايل عليه. والإنفاق والتصدق على فقراء اليتامى وتخصيص نصيب لهؤلاء في موارد الدولة الإسلامية الرسمية، وبعبارة أخرى جعل ذلك من واجبات هذه الدولة أسوة بالمسكين ولأنه على الأرجح من نوعه لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه، حيث يدل هذا على عظم عناية حكمة التنزيل به طيلة زمن التنزيل في مكة والمدينة. نورد منها الأمثلة الآتية:
1- أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) الماعون [1- 7] .
2- فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) الضحى [9] .
3- فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) البلد [11- 16] .
4- وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ الإسراء [34] .
5- فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) الروم [38] .
6- يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) البقرة [215] .
7- وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الأنفال [41] .(1/541)
8- وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) النساء [2] .
9- إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) النساء [10] .
10- ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الحشر [10] .
ولما كان اليتيم على الأكثر ضعيفا فاقد المعين والكافل والمنفق فالعناية القرآنية به متسقة مع روح البرّ والحق والعدل التي انطوت في المبادئ القرآنية والدعوة الإسلامية منذ البدء كما هو شأن البر بالمساكين على ما مر شرحه في سياق سورة المدثر.
ولعل في كثرة ما جاء في حق اليتيم صورة لما كان اليتيم معرضا له قبل البعثة من صنوف الهضم والأذى والإهمال والحرمان. وفي آيات الإسراء المكية والنساء المدنية ما يفيد أنه كان الذين يترك لهم آباؤهم مالا منهم معرضين لضياع إرثهم وأكله من قبل الأوصياء والأولياء فاقتضت حكمة التنزيل أن توالى الحث والنهي والإنذار في شأنه بأساليب متنوعة وأحيانا بأساليب قارعة. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في البر والعناية باليتيم. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا وقال بإصبعيه السّبابة والوسطى» «1» . وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله وما هنّ؟ قال الشرك بالله والسّحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم والتولّي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» «2» . وحديث رواه
__________
(1) التاج ج 5 ص 13.
(2) المصدر نفسه ج 3 ص 4- 5.(1/542)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له» «1» .
وهناك حديث أورده ابن كثير في سياق الآية [10] من سورة النساء أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «قلنا يا رسول الله ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال: انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال كلّ رجل منهم له مشفران كمشفري البعير. وهو موكّل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في أحدهم حتى تخرج من أسفله. ولهم جؤار وصراخ. قلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا» . وحديث آخر أورده المفسر نفسه في صحيح ابن حبان عن أبي حرزة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجّج أفواههم نارا. قيل يا رسول الله من هم قال ألم تر إلى أنّ الله قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً النساء [10] . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو في كل أمر آخر.
وفي الآيات تنديد بمن لا يحض على طعام المسكين. ولقد سبق مثل هذا في آية سورة المدثر وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
[سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 30]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
. (1) دكا دكا: القصد من ذلك وصف شدة الانهيار والتدمير الذي يحلّ في
__________
(1) المصدر السابق نفسه.(1/543)
الأرض يوم تقوم القيامة، أو وصف هول هذا اليوم وأثره في الأرض.
(2) جهنّم: الوادي أو البئر العميق الموحش. ويقال بئر جهنام أيضا بنفس المعنى. ثم صارت علما قرآنيا على الحفرة الهائلة النارية التي يلقى فيها الكفار والمجرمون يوم القيامة. وتعبير وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تعبير أسلوبي بمعنى هيئت.
(3) لا يعذب عذابه أحد: يحتمل أن تكون الجملة بمعنى لا يعذب مكانه أحد غيره، كما يحتمل أن تكون بمعنى لا يعذب مثل عذابه أحد بسبيل وصف شدة عذابه «1» . والأول أوجه فيما نرى، لأن العذاب لكل إنسان استحقه.
(4) لا يوثق وثاقه أحد: الوثاق هو الغل والحبل الذي يقيد به الشيء.
والجملة تحتمل الاحتمالين المذكورين آنفا. والأول أوجه فيما نرى للسبب نفسه.
وقد ذكرت آيات عديدة أن المستحقين للعذاب يوم القيامة يقيدون بالأغلال.
في الآيات تنبيه زجري وردعي لما سوف يكون في يوم القيامة، حيث تندك الأرض اندكاكا شديدا، ويقف الله لمحاسبة الناس والملائكة من حوله صفوفا، وتهيأ جهنم لمستحقيها. وحينذاك يتذكر الإنسان الذي اقترف الأفعال السيئة الباغية ويتمنى أن لو قدم بين يديه الخير والعمل الصالح. ولكن الذكرى لن تنفعه لأنه أضاع وقتها والتمني لن يغني عنه شيئا. وحينذاك يصير إلى العذاب ولن يكون له مفلت منه، ولن يكون له فيه بديل، ويوثق بالأغلال ولن يوثق محله بديل عنه.
أما المؤمنون الصالحون ذوو النفوس الطيبة المطمئنة بما قدمت فيهتف بهم بأن لهم من ربهم الرضاء التام، وبأن مكانهم هو بين عباده الصالحين الأبرار وبأن منزلهم هو الجنة.
والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها ملموحة حيث يتبادر أنها تعقيب عليها بقصد بيان ما يكون من مصير الذين يقترفون الأفعال السيئة التي ذكرت في الآيات السابقة بعض نماذجها، وأسلوب الآيات عام مطلق أيضا مثل سابقاتها.
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والنيسابوري والآلوسي.(1/544)
ولقد تكررت في القرآن كثيرا حكاية ما سوف يصدر من الكفار ومقترفي الآثام من ندم وحسرة على ما فعلوه حينما يرون مصيرهم الرهيب يوم القيامة، وقد مرّ مثل هذا في سورة المدثر بأسلوب آخر، كما تكرر الإنذار بأنه لن يغني في الآخرة أحد عن أحد. والمتبادر أن هذا الأسلوب مع ما ينطوي عليه من حقيقة إيمانية مغيبة قد استهدف فيما استهدفه إثارة الندم والخوف في هذه الفئة وحملها على الارعواء قبل فوات الفرصة والندم حيث لا ينفع الندم.
ولقد تكرر في القرآن ذكر وقوف الناس بين يدي الله يوم القيامة أو مجيئه لذلك واصطفاف الملائكة حوله في مشهد الحساب والجزاء يوم القيامة بأساليب متنوعة. والمتبادر أن هذا مع وجوب الإيمان به وكونه في النص من قدرة الله ومع وجوب تنزيه الله عز وجل من مفهوم المجيء والرواح والوقوف والجلوس وغير ذلك من أفعال الخلق وصفاتهم قد استهدف التأثير بالسامعين لأنهم بخطورة المشهد القضائي الأخروي العظيم، قد اعتادوا في الدنيا عقد مجالس قضائية لمحاكمة المجرمين وعقوباتهم. وقد يكون الشأن في هذا هو مثل وصف الجنة والنار بأوصاف اعتادها الناس في الدنيا للتقريب والتمثيل والتأثير في السامعين على ما شرحناه قبل.
ولهذا لا نرى طائلا من التزيد الذي يتزيده بعض المفسرين في صدد هذه المشاهد، ونرى وجوب البقاء في حدود ما جاء عنها في القرآن والسنة الثابتة، مع ملاحظة ذلك الهدف الذي ذكرناه والذي جاء وصف المشاهد الأخروية بأوصاف الدنيا من أجله.
ولقد أولنا جملة وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ بما أولناها به لأن هذا هو الأكثر ورودا من معناها.
والمتبادر أن الآيات الثلاث الأخيرة قد رمت إلى ذكر مصير الصالحين في الآخرة للمقابلة بمصير الآثمين الباغين مما جرى عليه الأسلوب القرآني كثيرا.
وهي قوية رائعة بهتافها وتلقينها وروحها، حيث تنطوي على الإشارة بطمأنينة الجزء الأول من التفسير الحديث 35(1/545)
النفس وما سوف يلقاه صاحبها من التكريم والرضاء عند الله. ولعل مما تنطوي عليه ويتصل بموضوع الآيات السابقة وخاصة الآيتين [15 و 16] تلقين التخلق بخلق الاطمئنان والرضى وعدم الاضطراب بتبدل ظروف الحياة عسرا ويسرا، وكون هذا هو ما يجب أن يكون عليه الإنسان العاقل في حالتي العسر واليسر.
وهذا الخلق من أقوى المشجعات على مواجهة أحداث الحياة بقلب قوي ونفس رضية والتغلب على صعابها. ومن أوتيه فقد أوتي خيرا كثيرا وصار جديرا بهذا النداء الرباني المحبب النافذ إلى الأعماق. وواضح أن الآيات تلهم أن مثل هذا الخلق وأثره لا يكون إلا فيمن شع في نفسه الإيمان واستشعر بعظمة الله وقدرته الشاملة، وأسلم النفس والأمر إليه، ولم يتوان مع ذلك في القيام بواجبه نحوه ونحو الناس على كل حال.
وآيات السورة وأسلوبها كما قلنا لا تحتوي مواقف جدل مع أشخاص بأعيانهم، وهي بسبيل إنذار عام وتوجيه عام ونقد عام حيث يصح أن يقال عنها ما قلناه عن سورة الفاتحة والأعلى والليل.
تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي للآية الأخيرة من السورة
واستطراد خاطف إلى تفسيرات الصوفية وتعليق عليها هذا وفي الجزء الثالث من كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي تفسير مروي عن الشيخ محيي الدين بن عربي الصوفي المشهور للآية وَادْخُلِي جَنَّتِي جاء فيه: «وادخلي جنتي التي هي ستري وليست جنتي سواك. فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف إلّا بك كما أنك لا تكون إلّا بي فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف فإذا دخلت جنة دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها فتكون صاحب معرفتين معرفة به من حيث أنت ومعرفة بك من حيث هو لا من حيث أنت. فأنت عبد رأيت ربا وأنت رب لمن له فيه أنت عبد وأنت رب وأنت عبد لمن(1/546)
له في الخطاب عهد ... » «1» .
والشطح في هذا التفسير ظاهر حيث تفسر كلمات القرآن الواضحة المعنى والمدى بتأويلات رمزية لا تتصل بهدف القرآن الذي هو دعوة الناس إلى الإيمان بالله وحده واليوم الآخر وبرسالة رسوله وبما جاء في كتابه وسنة رسوله والالتزام به والوقوف عنده لأنه في ذلك صلاح بني الإنسان ونجاتهم في الدنيا والآخرة. وفي حين أن العبارات القرآنية قطعية الدلالة على أن خلق الله هو غير الله تعالى فإن الشيخ في شطحه حين يفسر الآية التي نحن في صددها يجعل الله تعالى وتنزه وخلقه شيئا واحدا متعدد الصور فلا يتورع من القول إن العبد رب للرب والرب عبد للعبد مما يقال له وحدة الوجود التي يستغرق فيها الصوفيون فيعمدون إلى تفسير آيات القرآن وفاقا لها مهما كانت المناسبة مفقودة ومهما كانت العبارات واضحة صريحة. ومهما كان فيما يقولونه شطح وشطط ومفارقة لغوية أو سبكية أو نظمية.
بل ومهما كان فيه كفر بواح. ولهم شعار خاص بهم أسوة بشعار غلاة الشيعة والباطنية فهؤلاء يعمدون إلى تغطية هذياناتهم وشطحاتهم بالقول إن لكل آية وجملة قرآنية ظاهرا وباطنا وإن الجوهري المهم هو الباطن الذي يمكن أن تتعدد وجوهه وأن لا يكون منطبقا على سياق أو مناسبة أو حاضر أو مستقبل أو لغة كما شرحنا ذلك قبل.
والصوفيون يعمدون إلى تغطية هذياناتهم وشطحاتهم بالقول إن للجمل القرآنية معنى حقيقيا ومعنى ظاهرا تشريعيا ويقولون إن الجوهري هو الحقيقة وإن الشريعة فيه هي شؤون ظاهرة تناسب عقول البسطاء من المسلمين وإن من السائغ
__________
(1) ص 8 والمؤلف يعزو تفسير الآية هذا إلى كتاب للشيخ محيي الدين اسمه فصوص الحكم.
وقد اطلعنا على هذا الكتاب وفيه سبعة وعشرون فصلا عقد كل فصل على نبي أو شخص من أنبياء وأشخاص القرآن وفسر في كل فصل لبعض آيات الله وقصص الأنبياء والأشخاص تفسيرا من نوع هذا التفسير وفيه العجيب الغريب من الشطح إن لم نقل من الهذيان. ويعزى لهذا الشيخ تفسير اسمه الفتوحات المكية فيه مثل ذلك من الشطح على ما يستفاد من النبذ المنسوبة إليه.(1/547)
أن لا يكون بين الحقيقة والشريعة توافق في المدى والمحتوى والمناسبات وسائر الوجوه والمجالات. وسنورد أمثلة أخرى من تفسيراتهم لتوكيد الصورة بقصد تنبيه المسلمين إلى نموذج آخر من النماذج الشاذة في تفسير كتاب الله تعالى وهو التفسير الصوفي، وتحذيرهم من هذا النحو الذي لا سند له من عقل ونقل والذي يعمد إليه أفراد شاذون في خيالهم وعقولهم يزعمون لأنفسهم الإلهام والوحي أو يزعم لهم ذلك في حين أن الله تعالى قد أنزل الكتاب على رسوله ليكون للعالمين نذيرا وليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليكون فيه هدى ورحمة لقوم يؤمنون وليهديهم به إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين كما علمنا الله أن ندعوه وله الحمد أولا وآخرا.
ولقد تصدى لابن عربي وأمثاله المتصوفة القائلين بوحدة الوجود وكون كل ما في الكون من خلق وكل ما يفعله الخلق هي صور لله كثير من العلماء في مختلف الحقب والبلاد الإسلامية ويندّدون بأقوالهم ويبينون ما فيها من تخريف وانحراف بل ودسائس على الإسلام لما فيه من شطح وهذيان ثم لما تؤدي إليه من إسقاط تكاليف الإسلام وإباحة كل محرم والتسوية بين الله والأوثان وبين المتقين والمجرمين والزناة واللصوص وبين الخير والشر والهدى والضلال والانحراف والاستقامة وإنكار لليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه «انظر كتاب مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وتحذير العباد من أهل العناد، تأليف العلامة برهان الدين البقاعي، تحقيق وتعليق عبد الرحمن الوكيل، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة 1373 هـ- 1953 م» .(1/548)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
سورة الضحى
في هذه السورة تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدم ترك الله إياه. وتذكير له بما كان من أفضاله عليه، وحثه على البر باليتيم والسائل والتحدث بنعمة الله. وأسلوبها ومضمونها يلهمان أنها نزلت في ظروف أزمة نفسية ألمّت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن نزولها كان في عهد مبكر من الدعوة. وفيها إشارة إلى نشأة النبي صلّى الله عليه وسلّم في طفولته وحاله الاقتصادية والروحية في شبابه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
. (1) سجى: هدأ وسكن أو أطبق بالظلام.
(2) ودعك: بمعنى تركك.
(3) قلى: ترك وهجر.
(4) ضالا: هنا بمعنى حائرا.
(5) عائلا: فقيرا.
(6) فلا تقهر: فلا تظلمه ولا تغلبه على حقه ولا تذله.
(7) فلا تنهر: فلا تصرخ فيه ولا تؤذه بالقول.(1/549)
(8) التحدث بنعمة الله كناية عن ذكر نعمة الله وشكر الله عليها وأداء الواجب على صاحبها نحو الله والناس.
جميع آيات السورة موجهة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعانيها واضحة. وفي آياتها الخمس الأولى قسم رباني في معرض التوكيد والتطمين. وفي آياتها الثلاث الأخيرة تعليمه ما يجب عليه إزاء نعم الله من الشكر وإزاء اليتيم من الرعاية وإزاء السائل من كلمة الخير والمساعدة.
ومع احتمال انصراف الآية الرابعة إلى الحياة الأخروية فإن من المحتمل أيضا أن يكون قصد بها تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وتبشيره بنجاح الدعوة، وبأن مستقبلها سيكون خيرا من بدئها وقد تساعد الآية الخامسة على تدعيم هذا التوجيه حيث تلهم أن ما احتوته من الوعد والبشرى بإعطاء الله له حتى يرضى هما بالنسبة لظروف الحياة الدنيا أقوى منهما بالنسبة للحياة الأخروية.
ومع أن الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن الأوامر الربانية الواردة في الآيات الثلاث الأخيرة متسقة مع المبادئ والأهداف التي احتواها القرآن منذ بدء تنزيله، وتلقينها شامل لجميع المؤمنين. ويلحظ أن الفصول القرآنية السابقة قد احتوت ما يماثل هذه الأوامر، وقد استمرت الفصول القرآنية على ذكرها مما له مغزى جليل ينطوي على عظمة أهداف الرسالة المحمدية في صدد البرّ بالفقراء والرأفة بالضعفاء والتحدث بنعمة الله قولا وفعلا. ويتبادر لنا أن هذا كان من الأسباب القوية التي جعلت أغنياء مكة وزعماءها يتحالفون ضدّ الدعوة ويشتدون في مناوأتها، ويستمرون في ذلك طيلة العهد المكي والشطر الأكبر من العهد المدني.
تعليق على روايات فتور الوحي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
ولقد روى المفسرون أن هذه السورة نزلت بعد فترة من نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم والروايات متنوعة ومتعددة في ذلك. منها ما هو في مدة هذه الفترة حيث تتراوح حسب اختلاف الروايات بين يومين وبين ثلاث سنين. ومنها ما هو في أسبابها وأثرها حيث روي فيما روي أن السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها(1/550)
قالت له حينما فتر عنه الوحي: ما أرى إلّا أن ربك قلاك، وأن مثل هذا القول صدر عن امرأة أبي لهب في معرض السخرية والشماتة، وأن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت له ما أرى شيطانك إلّا تركك فإني لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، وأن المشركين أو بعضهم قالوا لما عرفوا خبر الفترة إن محمدا قد ودّع وأن السورة لم تلبث أن نزلت بعد هذه الأقوال، وحيث روي أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذي القرنين وأهل الكهف والروح فقال لهم: سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله ففتر الوحي عنه، فلما جاءه بعد الفتور بهذه السورة قال له يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال: إني كنت أشد شوقا إليك ولكني عبد مأمور، وحيث روي أنه كان للحسن أو الحسين في بيته جرو فلما نزل الوحي بالسورة وسأله النبي عن فتوره قال له: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب! ومن الروايات ما هو في وقت نزول السورة حيث روي أن الفترة كانت بعد نزول آيات سورة العلق الأولى، وأن سورة الضحى هي أول ما نزل بعد هذه الآيات. ومنها ما هو في عدد فترات الوحي حيث روي أنها لم تكن مرة واحدة وإنما تكررت قصيرة حينا وطويلة حينا. وقد روي فيما روي كذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حزن حزنا شديدا من الفترة حتى همّ بأن يلقي نفسه من شاهق الجبل «1» .
ومعظم الروايات غير موثق ومنها ما لا يمكن التسليم به لتعارضه مع وقت نزول السورة خاصة مثل رواية الفترة بسبب عدم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إن شاء الله حينما سأله اليهود عن المسائل الثلاث وقال لهم سأخبركم غدا. لأن احتكاك النبي صلّى الله عليه وسلّم باليهود وأسئلتهم التعجيزية له كانت في العهد المدني ولم ترد رواية وثيقة عن مثل ذلك في العهد المكي فضلا عن أن نزول قصص أهل الكهف وذي القرنين والسؤال عن الروح إنما كان في أواسط العهد المكي، ومثل رواية الفترة بسبب جرو الحسن
__________
(1) انظر هذه الروايات المتنوعة والمتعددة في سياق تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن والآلوسي وشرح العيني على البخاري ج 19 ص 62 وكتاب التاج الجامع وكتاب التفسير في تفسير سورة الضحى وفترة الثلاث سنين ذكرت في شرح العيني على البخاري ورواية حزن النبي من الفترة حتى همّ بأن يلقي نفسه من شاهق في تاريخ الطبري ج 2 ص 52 مطبعة الاستقامة.(1/551)
أو الحسين رضي الله عنهما في بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن السبطين الشريفين من مواليد المدينة، ومثل رواية قول خديجة رضي الله عنها للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أرى ربك إلّا قلاك، لأن المأثور أنها كانت تشجعه وتثبته وتبثّ في نفسه الثقة والقوة والعزيمة على ما أوردنا بعض ذلك في مناسبة سابقة ومثل رواية استمرار الفترة ثلاث سنين لأن هذا لو وقع لكان غيّر مجرى تاريخ الدعوة لأن من شأنه أن يثير القلق بل والشكّ حتى في نفوس المؤمنين المخلصين الذين استجابوا للدعوة والتفوا حول النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والموثق من الروايات والتي يبدو عليها سمة الصحة وصدق الاحتمال هي رواية فتور الوحي ليلتين أو ثلاثا وقول امرأة للنبي صلّى الله عليه وسلّم إني أرى شيطانك قد تركك، فما لبثت السورة أن نزلت وقد جاءت هذه الرواية في حديث للبخاري ومسلم، ورواية إبطاء الوحي عن النبي أياما وقول المشركين أن محمدا قد ودّع فما لبثت السورة أن نزلت، وقد جاءت هذه الرواية في حديث لمسلم والترمذي «1» .
وعلى كل فيمكن القول بشيء من القطعية والجزم استلهاما من سورة الضحى واستئناسا بالروايات الكثيرة المتواترة:
1- إن الوحي قد فتر أياما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أوائل عهد الدعوة.
2- وإن الفترة قد أثارت في نفسه حزنا وأزمة وخوفا من أن يكون الله قد تخلّى عنه بعد أن سار في الدعوة شوطا ما.
3- وإن المشركين أو بالأحرى الذين قادوا حركة المعارضة لدعوته والذين أظهروا عداء شديدا له استغلوا ذلك وقالوا في سخرية وشماتة إن ربّه قد قلاه
__________
(1) التاج الجامع ج 4 ص 260 ونص الحديث الأول: «اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) » ، وعلق مؤلف التاج على هذا الحديث أن المرأة هي العوراء أخت أبي سفيان وزوجة أبي لهب. وقد روى المفسرون اسمها في جملة ما رووه. ونصّ الحديث الثاني قال الراوي:
«كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار فدميت إصبعه فقال هل أنت إلّا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت. قال فأبطأ عليه جبريل فقال المشركون قد ودّع محمد فأنزل الله ما ودّعك ربّك وما قلى» .(1/552)
وودعه، وإن منهم من عيّره بذلك مواجهة، وإن ذلك قد زاد من حزنه وأزمته حتى نزلت السورة التي احتوت تثبيتا وتطمينا وردا على الشامتين.
ومن الجدير بالذكر أن في القرآن قرائن قد تدل على أن الوحي فتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أواسط العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. غير أن ذلك لم يحدث في النبي صلّى الله عليه وسلّم أزمة، ولم يتعرض بمناسبة ذلك لحملة كما كان شأن هذه المرة مما هو طبيعي، لأن هذه المرة كانت في مبادئ الدعوة وخطواتها الأولى.
صورة من صميمية النبي صلّى الله عليه وسلّم
والمتمعن في آيات السورة الأولى وهي تؤكد للنبي صلّى الله عليه وسلّم عدم ترك ربّه إياه يلمس صميمية رائعة تملأ النفس إعجابا فيما أثارته الفترة من قلق في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وتنمّ عن يقينه العميق بأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبأن ما كان يبلغه من الآيات والفصول القرآنية هو وحي الله، فإذا أوحي إليه بشيء تلاه وإذا فتر عنه الوحي أعلن ذلك، وإذا لم يتل على الناس شيئا جديدا في ظرف ما فلأنه لم يوح إليه بشيء جديد. فقد علمه الله أن يعلن للناس أنه ليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يزعم أنه ملك كما جاء في سورة الأنعام هذه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [50] وآية سورة الأعراف هذه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) وقد أمره الله أن يعلن أنه لا يبلغ إلّا ما يوحى إليه ولا يستطيع أن يغير ويبدل فيه كما جاء في آية يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) .(1/553)
نشأة النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ طفولته إلى نبوته
وفي الآيات [6 و 7 و 8] إشارة إلى ما كانت عليه ظروف النبي صلّى الله عليه وسلّم في نشأته الشخصية والروحية وحاله الاقتصادية منذ طفولته إلى أن أكرمه الله بالنبوة، فأشير فيها إلى يتمه في عهد طفولته، وفقره في عهد فتوته وشبابه، ثم حيرته الروحية في الاتجاه الذي يتجه إليه في دينه وعبادته ومبادئه. وقد قررت أن الله قد حماه في عهد يتمه حيث كان اليتيم معرضا للإرهاق والقهر والضياع فجعل له مأوى أمينا، ويسّر له في عهد شبابه من بسطة العيش واليسر ما جعله في غنى عن التكسب وفي راحة من عناء المعيشة وهمها، ونقّى نفسه ووجّهه إلى سبيل الهدى القويم فأنقذه من حيرته.
والروايات تكاد تكون متواترة إلى حد اليقين «1» بأنه كان له من جده عبد المطلب أولا ومن عمه أبي طالب بعده من البرّ والرأفة والحماية والعناية في طفولته وشبابه ثم من عمّه بعد بعثته من النصر والعطف ما ضمن له النشأة الصالحة ثم الحرية والمنعة.
كذلك فإن الروايات تكاد تكون متواترة إلى حدّ اليقين «2» بأن حاله الاقتصادية قد تحسنت وانتهى ما كان يعانيه من متاعب العيش بزواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها الشريفة في قومها، الغنية في مالها القوية في خلقها وعقلها وروحها، المتنعمة في معيشتها، وكان من أثر ذلك أن اطمأنت نفسه وأخذ يفرغ قلبه وذهنه لما كانت نفسه مستعدة له من الاستغراق في آلاء الله ومظاهر الكون والتفكير فيما عليه قومه من ضلال في التقاليد والعقائد، وتمكن من القيام باعتكافات روحية كانت خديجة رضي الله عنها تشجعه عليها وتهيىء له ما يحتاج إليه فيها على ما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة والذي أوردناه في سياق سورة العلق، حتى كان مظهر اختصاص الله إياه بالرسالة العظمى حينما بلغ أشده واستوى.
ولقد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها عطوفة عليه بارة به، ومن أقوى
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 99 وما بعدها مثلا.
(2) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 113 وما بعدها وانظر أيضا الأمرين في كتاب حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم لهيكل طبعة ثانية ص 105- 132.(1/554)
المشجعين المثبتين له الذابّين عنه المصدقين به، مما يمكن أن يدل على أنها قد أدركت بفراستها القابليات العظمى التي تميز بها والاستعداد الروحي الذي ظهرت آثاره عليه، والأخلاق الكريمة التي تحلى بها فلم يكد يخبرها بأمر الوحي حتى تيقنت صدقه ونفت ما طاف في ذهنه من خوف وهتفت بتلك الكلمات المأثورة الخالدة: «كلا إن الله لن يخزيك. فإنك تفعل المعروف. وتقري الضيف. وتحمل الكل. وتعين على نوائب الدهر» على ما أوردناه من حديث للبخاري في سياق سورة القلم.
وأما عن حيرته فقد كان إزاء ما عليه قومه من تقاليد وطقوس وأخلاق وعادات وعقائد في موقف المنقبض المتشكك منذ عهد شبابه على ما ذكرته الروايات»
كما كان في مثل هذا الموقف إزاء ما كان عليه أهل الكتاب من اختلاف ونزاع وشذوذ من دون شك ولا سيما حينما كان يسمع اليهود يقولون ليست النصارى على شيء، وحينما كان يسمع النصارى يقولون ليست اليهود على شيء، ويرى الخلاف والنزاع يشتدان بينهم إلى درجة الاقتتال مما أشارت إليه آية البقرة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وآية البقرة هذه أيضا: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ «2» [253] . فكانت تعتلج في نفسه الأفكار وتقوم في صدره الشكوك في صواب ما يرى، ويسلم نفسه إلى التفكير في آلاء الله وعظمة الكون والاعتكافات الروحية، فلم يلبث أن صفت نفسه وشعّ في قلبه نور الحقيقة الإلهية العظمى واهتدى إليها بإلهام الله فجعلها الهدف الذي يستهدفه والاتجاه الذي يتجه إليه.
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 112 و 126- 127 و 136 و 140. [.....]
(2) الآيات تذكر أمرا واقعا قبل نزولها ممتدا إلى ما قبل البعثة ونعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسمعه ويعرفه.(1/555)
ولقد روت الروايات «1» أنه أخذ ينشأ في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم طبقة من العقلاء داخلهم الشك مثله في صواب ما عليه العرب والكتابيون، وأخذوا يبحثون مثله عن الطريق الأقوم والسبيل الحق ويتجهون مثله إلى الحقيقة الإلهية العظمى وحدها، ومنهم من كان اعتزم الطواف للبحث عن ملّة إبراهيم ليسير عليها وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم التقى ببعض هؤلاء قبل البعثة.
فمن الممكن أن يقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في عهد حيرته هذا من هذه الطبقة وإنه كان مثل أفرادها يود أن يتعرف على حدود ملة إبراهيم ويسير في سبيلها عن يقين، ثم كان له من صفاء النفس وذكاء العقل وقوة القلب وعظيم الخلق وعيمق الاستغراق ما جعله يمتاز عليهم فكان مصطفى الله من بينهم، فأتم الله إيمانه وأنار بصيرته وأنقذه من حيرته إلى اليقين واختصه بالنبوة وانتدبه للمهمة العظمى التي أوحي إليها فيما بعد بآيات الأحزاب هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) .
ولقد نصت الآيات القرآنية على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى عهد نبوته لم يكن يدري من أمر نبوته ومهمته شيئا، ولم يكن يرجو أن ينزل عليه كتاب كما جاء في آية سورة القصص هذه: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [86] وفي آية سورة الشورى هذه: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) وفي آية سورة يونس هذه: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا
__________
(1) انظر الفصلين الخامس والسادس من الباب الرابع في الحياة الدينية عند العرب في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 396- 434 وانظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 215- 323 وج 2 ص 103، وص 177، 178 وطبقات ابن سعد ج 1 ص 202 وتفسير الرازي ج 1 ص 369، 370 وأسد الغابة ج 2 ص 327- 329.(1/556)
أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) . وهذا يجعلنا نقول إن هذا الدور الذي قضاه منذ شبابه إلى اكتمال نضجه ونزول الوحي عليه كان دور استعداد وتأهل روحي، وهو الدور الذي يمكن أن يطلق عليه دور الحيرة والذي عنته الآية الكريمة: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيما يتبادر لنا مما يجعلنا نعتقد أن كلمة ضَالًّا لم تعن السير في سبيل الضلالة والشرك والتقاليد الجاهلية والوثنية التي كان عليها العرب، وأن كلمة فَهَدى لم تعن أن الله أخرجه من هذا النطاق بعد أن ارتكس فيه، وإنما عنت الأولى ما كان في نفسه من حيرة وتململ وتوقان إلى ساحل اليقين، كما عنت الأخرى ما كان من اليقين الذي وصل إليه فاطمأنت به نفسه.
وفي سورة الأنعام آيات يمكن الاستئناس بها لما قررناه بوجه عام ولما أشرنا إليه في صدد ملة إبراهيم والرغبة في الاهتداء إليها واتباعها بوجه خاص وهي: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) وقوة التلقين والدلالة في هذه الآيات قوية أخّاذة.
هذا ولقد روى بعض المفسرين «1» في سياق آية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) أنها إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تاه في طفولته في جبال مكة فقلق عليه جده وبحث عنه طويلا حتى وجده ولم يصب بسوء. ونحن نشك في الرواية كل الشك، لأنّ الحادث الذي ذكرته أتفه من أن يكون موضوع ذكر وتذكير، فضلا عن عدم وثوقها وعن التوجيه الصحيح الذي قررناه والذي تسنده آيات القرآن.
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير مجمع البيان للطبرسي والخازن.
على أن هؤلاء المفسرين وجمهرة المفسرين الآخرين يؤولون الضلال بنحو ما أولناه أو في نطاقه. انظر كتب التفسير الثلاثة المذكورة وانظر أيضا تفسير الطبري والنيسابوري والبغوي وابن كثير والآلوسي إلخ.(1/557)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
سورة الشرح
في السورة تطمين لنفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وتذكيره بعناية الله به. وبينها وبين سابقتها تماثل حتى لكأنها امتداد لها وحتى لقد روي أن السورتين سورة واحدة غير أن المتواتر أنهما سورتان، تفصل بينهما بسملة مثل سائر السور.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
. (1) وضعنا: حططنا وخففنا.
(2) وزرك: حملك.
(3) أنقض ظهرك: أتعبك وأثقل عليك.
(4) فرغت: خلوت أو انتهيت من شغلك.
(5) فانصب: فقم واجهد.
(6) وإلى ربك فارغب: أقبل بشوق على عبادة ربك.
آيات هذه السورة موجهة كذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كسابقتها. وقد احتوت تذكيرا بما كان من عناية الله به وتطمينا وتثبيتا له أو حثا على عبادة الله والتقرب إليه.(1/558)
وقد ذكرت بعض الروايات «1» أنها وسورة الضحى سورة واحدة وأن طاوسا وعمر بن عبد العزيز من التابعين كانا يتلوانهما معا بدون فصل بالبسملة. غير أن المتواتر المتصل بمصحف عثمان رضي الله عنه الذي هو على ترتيب المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، والذي نعتقد أنه الترتيب المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهما سورتان تفصل بينهما بسملة. والمتبادر أن التماثل والتعاقب بين السورتين مما جعل بعض التابعين إذا صحت الرواية يقولان إنهما سورة واحدة.
وهذا التماثل والتعاقب يلهمان أن هذه السورة بمثابة استمرار لسابقتها ظرفا وسياقا وموضوعا، أو أنها نزلت في ظرف أزمة نفسية ثانية، ألمت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أزمة فترة الوحي مما كان يلاقيه من قومه من عناء وعسر. وأسلوبها أسلوب تطميني محبب. فالله الذي شرح صدره وخفف الوزر الذي كان شديدا عليه ورفع ذكره مما هو معترف به منه، لا يمكن أن يدعه وشأنه، ولا أن يجعل عسره مستمرّا، وعليه أن يتجلد ويصبر، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا.
والمتبادر أن شرح الصدر قد قصد به ما أنعم الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الهدى واليقين. وأن وضع الوزر قد قصد به إنقاذه من دور حيرته النفسية، وأن رفع الذكر قد قصد به ما كان من اختصاصه بالنبوة العظمى.
وفي التوكيد مرتين بأنه سيكون مع العسر يسرا ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يلقى صدا وعسرا شديدين، وأنه كان يعتلج في نفسه بسبب ذلك همّ وغمّ وقلق.
وفيه بشرى وتطمين بأن الأمر سينتهي إلى اليسر والنجاح. ومثل هذه البشرى قد جاءت في السورة السابقة بأسلوب الوعد بأن الله سوف يعطيه حتى يرضى، وأن النهاية ستكون خيرا من البداية.
ومما لا شك فيه أنه كان لهذا التوكيد وكذلك للأمر بالاتجاه في الفراغ والخلوات حالما يفرغ من عمله اليومي أثر في استشعار النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسكينة وقوة
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير النيسابوري «غرائب القرآن» .(1/559)
النفس والروح، وأن ذلك قد ساعده أعظم مساعدة على مواجهة الصعاب، والاستخفاف بالعقبات والاستغراق في الدعوة والاندفاع فيها، والثبات والصبر حتى تمّ له النصر الموعود وتبدل العسر يسرا، وصارت كلمة الله هي العليا.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى دون ريب، حيث يمد كل صاحب دعوة إلى سبيل الله والخير العام بقوة الروح، وسكينة النفس وطمأنينة القلب والاندفاع فيما هو بسبيله، واقتحام صعابه وعقباته وتحمل العناء، راضيا مطمئنا إلى أن يصل إلى هدفه، ويكون له بعد العسر يسر إذا ما تشبع قلبه بالإيمان، وامتلأ بعظمة الله واتجه إليه وحده واستصغر كل ما عداه.(1/560)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
سورة العصر
احتوت السورة توكيدا حاسما بأن لا فلاح للإنسان إلّا بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر. وأسلوبها يدل على أنها من أوائل السور نزولا مثل الليل والأعلى وغيرهما، لأنها احتوت مبادئ عامة محكمة من مبادئ الدعوة. وقد ذكرت بعض الروايات «1» أنها مدنية، غير أن أسلوبها يدل على مكيتها وهو ما عليه الجمهور.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
. (1) العصر: آخر النهار إلى احمرار الشمس، ويقال له الأصيل أيضا.
وبعض المفسرين قالوا إن العصر هو الدهر «2» ولكن الجمهور على القول الأول.
(2) تواصوا: أوصى بعضهم بعضا.
السورة على قصرها جاءت بأسلوب حاسم قوي، لتهتف بالناس أن لا فلاح لهم ولا نجاح ولا صلاح إلّا في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر، وأن كل من ينحرف عن هذه السبيل فهو خاسر.
__________
(1) انظر تفسير الآلوسي ج 30 ص 227.
(2) انظر تفسير السورة في تفسير النيسابوري مثلا.
الجزء الأول من التفسير الحديث 36(1/561)
وهي على إيجازها خلاصة هدف الدعوة الإسلامية الموجهة إلى الإنسانية جمعاء، وهي عرض عام مثل سورة الأعلى والليل. ولذلك نرجح أنها نزلت مثلهما قبل الفصول القرآنية التي فيها حكاية مواقف المكذبين في سورة العلق والقلم والمزمل والمدثر.
ولقد كان المؤمنون الأولون رضي الله عنهم يعرفون عظم مدى السورة حتى لقد روي «1» أن الرجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا التقيا لم يفترقا إلّا بعد أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر. ولقد قال الشافعي رحمه الله «2» : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.
ونقول بالمناسبة إن هناك آثارا في فضل صلاة العصر. وقد فسرت الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها بنوع خاص في آية البقرة هذه: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [238] بصلاة العصر «3» . والتسمية تنويهية بفضل هذه الصلاة. ومما يروى «4» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجلس في مسجده في المدينة لأصحابه بعد هذه الصلاة فيلتفون حوله ويستمعون إلى تعاليمه وعظاته ويراجعه الناس في مشاكلهم، لأنهم يكونون في هذا الوقت قد فرغوا من مشاغلهم اليومية أو كادوا، وتكون شدة الحرارة في الصيف قد خفّت. ومن هنا كان الحث على المحافظة عليها كما هو المتبادر ومن هنا تبدو حكمة القسم الرباني بوقتها.
تعليق على تعبير الصَّالِحاتِ
وتعبير الصَّالِحاتِ عام مطلق يتضمن كل نوع من أنواع الخير والبر والمعروف تعبديا كان أم غير تعبدي، فعبادة الله وحده وإسلام النفس إليه ونبذ ما
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر تفسير الآية في تفسير الزمخشري والطبرسي وابن كثير والطبري والمنار.
(4) انظر تفسير آية المائدة التي فيها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ... الآية [106] في تفسير الزمخشري والطبرسي والمنار أيضا.(1/562)
سواه عمل صالح، والإحسان والبرّ بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء عمل صالح، والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين وتضحية النفس والمال في هذا السبيل عمل صالح، والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة عمل صالح، والتعاون على البرّ والتقوى والأعمال العامة عمل صالح، والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وأولاده وأقاربه عمل صالح، ومعاملة الناس بالحسنى عمل صالح إلخ ... وهكذا يكون تلقين السورة وما انطوى فيها من هدف الدعوة هو التبشير بكل عمل فيه خير وبرّ ورحمة ومكرمة وفضيلة وإخلاص لله، وبكلمة ثانية بكل ما فيه جماع الخير وسعادة الدارين. وأعظم بهما من تلقين وهدف جليلين خالدين، ومن هنا تبدو قوة القول المأثور عن الشافعي رحمه الله.
تعليق على التواصي بالحق والتواصي بالصبر
وتعبير «التواصي» قوي لأنه للمشاركة. فلا يكفي أن يلتزم الإنسان الحق والصبر بنفسه، بل يجب أن يتضامن الناس فيهما ويوصي بعضهم بعضا بهما.
والتواصي بالحق يستهدف تضامن أفراد المجتمع في الحق وإحقاقه، بحيث يكون الحق هو القائم الحاكم المؤيد من مجموعهم. والتواصي بالصبر يستهدف تضامن أفراد المجتمع في شد بعضهم أزر بعض في الأحداث الملمة والمصاعب المدلهمة وفي مواقف الحق والخير، دونما وهن ولا ضعف ولا جزع ولا تراخ.
وإذا لوحظ أن تعبير الحق عام يشمل كل شيء من حقوق الله على عباده وحقوق المجتمع على أفراده، وحقوق المجتمعات على بعضها، وحقوق الأفراد على بعضهم ومجتمعاتهم، وحقوق الضعفاء والبؤساء والمحرومين على الأقوياء والقادرين والميسورين يبان مدى التلقين القرآني الجليل في التنويه بالتواصي بالحق وجعله لازما للذين آمنوا وعملوا الصالحات، واختصاصه بالذكر من الصالحات مع أنه داخل في معناها الشامل، وما استهدفه هذا التلقين من الارتفاع بالإنسان(1/563)
والمجتمع الإنساني إلى مرتبة الكمال من حيث الطمأنينة العامة والسلامة الاجتماعية، وانتفاء أسباب الضغينة والحقد والقطيعة والخصام والبغي والبؤس والقلق التي تجتاح المجتمع حينما تنتشر فيه الفردية وتقوى الأنانية، ويشتد عدم مبالاة الفرد بغير نفسه ومصلحته وكيانه الخاص لضمان النفع لنفسه من أي سبيل، أو حينما يتسع المجال فيه لبغي الناس وعدوانهم بعضهم على بعض بدون رادع، أو حينما تداس فيه حقوق الضعفاء وتفقد فيه رغبة مساعدة المحتاجين، وتضعف أو تزول فيه عاطفة البرّ والتعاطف الاجتماعية.
وهذا المبدأ بهذه السعة من المبادئ الجليلة التي قررها القرآن مرة بعد مرة وبأساليب متنوعة، حتى كان من أهم أهداف الدعوة الإسلامية. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على أنه من أسس الدعوة الرئيسية، وإنه لكذلك. وإنه لمن أقوى مرشحات الإسلام للشمول والخلود.
ومثل هذا يقال في صدد الصبر والتواصي به. لأن ذلك الخلق الشخصي الاجتماعي من لوازم الحياة الإنسانية الصالحة وعمدها. ويهدف القرآن إلى تقويته في الأفراد والمجتمع وبثّ روح القوة والطمأنينة فيهم. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على اعتباره من أهم الأخلاق التي يجب أن تقوم عليها الشخصية الإنسانية الإسلامية، وعلى ما له من خطورة وضرورة في حياة الأفراد والمجتمع.
مدى التنويه القرآني بالصبر
ونرى بهذه المناسبة أن نشير إلى ما تكرر كثيرا في القرآن من التنويه بالصبر حتى لقد بلغ عدد المرات التي وردت فيها كلمة الصبر ومشتقاتها في القرآن المكي والمدني ونوّه فيها بخلق الصبر وحثّ عليه وأثنى على من يتخلق به ويلتزمه ووعد بالنجاح والأجر وأمر بالاستعانة به على مواجهة الخطوب والشدائد نحو مائة مرة حيث يدل هذا على مبلغ العناية الربانية بترسيخ هذا الخلق أو هذه الفضيلة التي هي من أجل الفضائل الأخلاقية في المسلمين. من ذلك في القرآن المكي هذه الآيات:(1/564)
1- إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يوسف [90] .
2- وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) الرعد [22] .
3- وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل [41- 42] .
4- ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) النحل [96] .
5- الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) الحج [35] .
6- قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) الزمر [10] .
7- وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) فصلت [34- 35] .
8- وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الشورى [43] .
ومن ذلك في القرآن المدني هذه الآيات:
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ(1/565)
مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
(157) البقرة [153- 157] .
2- لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة [177] .
3- وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) آل عمران [146] .
4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) آل عمران [200] .
وواضح من هذه الآيات ومن الآيات الكثيرة الأخرى التي وردت في سور عديدة، أن هدفها هو بثّ روح الجلد ورباطة الجأش وضبط النفس والسكينة والتضحية في نفس المسلم مما يضمن له الكرامة والعزة والنجاح ويجنبه الطيش والهلع والجزع والاضطراب والقلق في الأزمات والأخطار.
والصبر بعد يتجسد في أخلاق كثيرة، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد ومواقف الحق. والعفاف هو الصبر على الشهوات. والحلم هو الصبر على المثيرات.
والكمال هو الصبر على أمانة الأسرار. والزهد هو الصبر على الحرمان. فإذا ما رسخ هذا الخلق في امرئ صار له من القوة المعنوية والشجاعة والجلد ما يمكنه من مواجهة الخطوب دون فزع وجزع وتحمل المشاق والرضاء بالمكروه والحرمان في سبيل الحق والشرف والكرامة والعزوف عن الشهوات والمثابرة على المقاصد النبيلة مهما عسرت وطال أمدها وغدا محل رضاء الله عز وجل والناس واعتمادهم.
ولقد روى الخمسة عن أبي سعيد الخدري حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه:(1/566)
«ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» «1» . حيث ينطوي في الحديث التنويه العظيم بالصبر الذي ينطوي في الآيات القرآنية ويتساوق بذلك التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر مثل سائر الأمور.
ولقد يكون في القرآن المكي بل والمدني آيات تحثّ النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على الصبر على ما كان يقع من أذى الكفار وما كان من هؤلاء من مكابرة وعناد ومناوأة. غير أن المتمعن فيها يجد أنه ليس من تناقض بينها وبين ما قررناه. كما أنه ليس فيها ما يمكن أن يكون حثا على احتمال الظلم والجور والضيم والذل.
وكثير منها بل جميعها إنما توخت تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما هو عليه من الحق وتهدئتهم إلى الوقت المناسب وحث النبي صلّى الله عليه وسلّم على الاستمرار في الدعوة والمهمة التي انتدب لها كما ترى في الأمثلة التالية وهي مكية ومدنية:
1- وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) يونس [109] .
2- وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) النحل [126- 128] .
3- فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) غافر [77] .
4- وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) الطور [48] .
5- وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) البقرة [109] .
__________
(1) التاج ج 2 ص 32- 33.(1/567)
6- لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) آل عمران [186] .
مغزى تلازم الإيمان والعمل الصالح في القرآن
وفي تقديم الإيمان على العمل الصالح إشارة إلى انبثاق العمل الصالح من الإيمان. فالإيمان هو الذي يدفع صاحبه إلى الخير ويزعه عن الشر. وفي ربط الإيمان بالعمل الصالح إشارة إلى وجوب تلازمهما واعتبار العمل الصالح عنوانا أو مظهرا للإيمان. وهذا التلازم بين ذكر الإيمان والعمل الصالح يلحظ في جل الآيات القرآنية مما يمكن أن يدل على قصد الإشارة إلى شدة الارتباط واللحمة والتوافق بينهما وتوكيدها. وإذا لوحظ أن الإيمان شيء داخلي أو ذاتي في أعماق النفس لا يمكن أن يدل على نفسه بنفسه، ولا يمكن أن يدل عليه إلا العمل الصالح بأن لنا وجه الحق في ذلك.
والحكمة في هذا ظاهرة قوية، فالإيمان يمنح صاحبه طمأنينة واستقرار نفس يجعلانه يصدر في أعماله وأهدافه عن يقين وقصد وتثبت واندفاع وصبر، ويتحمل في سبيل ذلك ما قد يلاقيه من مصاعب وما تمس الحاجة إليه من تضحيات.
والإيمان بالله يجعل صاحبه يقبل على الخير والعمل الصالح وينقبض عن الشر والإثم والسيئات ابتغاء لوجه الله واتقاء لغضبه واكتسابا لرضائه ورضوانه، دون أن يكون هناك حافز من منفعة عاجلة أو دون أن يكون ذلك مما لا بد منه على الأقل.
أما العمل الذي لا يصدر عن إيمان فإنه يكون معرضا في الأغلب للانقطاع والتردد والتأثر بالمؤثرات والاعتبارات الشخصية والنفعية والظرفية. وكثيرا ما ينصرف المرء عنه حينما يلقى المصاعب والمشاكل، أو حينما يتطلب منه التضحيات أو حينما لا يكون من ورائه جلب خير أو دفع شر عاجل. والعمل الصالح من الجهة(1/568)
الأخرى لا يكون فيه حيوية ويقين وتثبت واستمرار إذا لم يكن منبثقا من إيمان يجعله لازما حيّا قويا بذاته وبصرف النظر عن أي اعتبار، ويجعل صاحبه لا ينصرف عنه مهما لاقى في سبيله من مصاعب واقتضى منه من تضحية وعناء واستنفد من قوة وجهد.
وإذا أراد قائل أن يقول إن هناك من يفعل الخير لذاته نتيجة للتربية الخلقية الراسخة فليذكر هذا القائل أن هذا النوع من الندرة بحيث لا يمكن أن يورد على ما قررناه آنفا وأن المجتمع في حاجة دائمة إلى حافز مشترك يشمل بتأثيره أكبر عدد ممكن من البشر، وليس هذا الحافز إلّا الإيمان. وهذا فضلا عن أن التدين الراسخ في أعماق الطبيعة الإنسانية يمهد السبيل لقوة هذا الحافز وتأثيره وشموله.
وإذا أراد قائل أن يقول إن كثيرا من المؤمنين بالله واليوم الآخر لا يفعلون الخير أو لا يفعلونه إلّا إذا رجوا مقابلة عاجلة عليه، فالجواب على هذا هو أن إيمان هؤلاء ليس هو الإيمان الصحيح. فهم مسلمون أكثر منهم مؤمنون. وقد فرق القرآن بين الفئتين ونبه لمدى وأثر الإيمان الصحيح في صاحبه في آيات سورة الحجرات هذه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) .
على أن الوازع للخير يظل دائما أقوى في المؤمنين على كل حال منه في غير المؤمنين على ما هو المشاهد المحسوس في كل وقت.
هذا، وأسلوب السورة المطلق يسوغ وصفها بما وصفت به سورة الفاتحة والأعلى والليل والفجر، والله أعلم.
[تم بتوفيق الله الجزء الأول ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني وأوله تفسير سورة العاديات](1/569)
فهرس المحتويات
مقدمة الطبعة الأولى 5- 18 مقدمة الطبعة الثانية 19- 21 محتويات القرآن المجيد الفصل الأول: القرآن أسلوبه ووحيه وأثره 27- 66 القرآن والمسلمون- شخصية النبي- الدعوة القرآنية- أسلوب القرآن- القرآن والبيئة والسيرة النبوية- الوحي الرباني والوحي القرآني- شهود العيان لأعلام النبوة- أثر القرآن الروحي وبلاغته النظمية- أثر الدعوة القرآنية في نجاح الفتوحات الإسلامية- تطور سيرة النبي والتنزيل القرآني- القرآن والعرب في عهد النبي.
الفصل الثاني: جمع القرآن وتدوينه وقراءاته ورسم المصحف وتنظيماته.. 67- 140
مجموعات من الروايات والأقوال في تدوين القرآن وجمعه- تعليقات على الروايات والأقوال وترجيح تدوين القرآن وترتيبه في عهد النبي ومرجحات ذلك-- أسماء السور- فصل السور بالبسملة- السجدات- كتابة ترتيب النزول وعدد الآيات- الشكل والنقط- علامات الوقف والوصل- رسم المصحف العثماني- القراءات.(1/570)
الفصل الثالث: الخطة المثلى لفهم القرآن وتفسيره 141- 203 القرآن والسيرة النبوية- القرآن والبيئة النبوية- اللغة القرآنية- القرآن أسس ووسائل- القصص القرآنية- الملائكة والجنّ في القرآن- مشاهد الكون ونواميسه في القرآن- الحياة الأخروية في القرآن- ذات الله في القرآن- تسلسل الفصول القرآنية وسياقها- فهم القرآن من القرآن.
الفصل الرابع: نظرات وتعليقات على كتب المفسرين ومناهجهم 205- 275 روايات أسباب النزول- روايات التفسير- تعليقات المفسرين على القصص- تعليقات المفسرين على مشاهد الكون والملائكة والجن- التشاد المذهبي في سياق التفسير- الولع بأسرار القرآن ورموزه ومنطوياته- الولع بالتفريع والاستطراد- روايات نزول القرآن جملة واحدة وأثرها- روايات نزول القرآن بالمعنى وأثرها- الخلاف على خلق القرآن وأثره- النهي عن التفسير بالرأي وأثره.
خاتمة: أفضل المناهج لتفسير القرآن 276- 278(1/571)
محتويات التفسير الحديث تفسير سورة الفاتحة 285 حكم البسملة 288 خطورة شأن الفاتحة 290 تعليق على موضوع الأحاديث القدسية 292 تعليق على كلمة الله جلّ جلاله 293 تعليق على مدى جملة رَبِّ الْعالَمِينَ 295 تعليق على الحياة الأخروية 296 تعليق على جملة الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 304 بعض الأحاديث في جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 308 التأمين بعد الآية الأخيرة من السورة 308 تعليق على تفسير شيعي باطني لكلمة الصراط 309 تفسير سورة العلق 315 أول قرآن نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم 316 مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم 317 علنية الدعوة في بدئها 322 موقف الزعامة من النبي 323 تعليق على كلمة الصلاة 327 تعليق على آية أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى 2345 تعليق على كلمة التقوى 346 تعليق على مدى جملة كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ... 349
تعليق على سنّة سجود التلاوة 349 تعليق على الأحاديث في فضل قراءة السور القرآنية 351 تفسير سورة القلم 353 استطراد إلى ما عرف في كتب التفسير بالإسرائيليات 356 تنبيه في صدد الأحاديث التي تروى 358 تعليق على الحروف المتقطعة في أوائل السور 359 تعليق على ما ورد عن مدى القلم 362 تعليق على الأقسام القرآنية 363 تعليق وقت نزول الآيات الأولى من هذه السورة 364 أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم 365 تعليق على موقف المناوأة للدعوة النبوية 369 تعليق ثان على موقف المناوأة للدعوة النبوية 371(1/572)
تعليق على عروض زعماء قريش للنبي 372 تعليق على جملة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 375 تعليق على قصة البستان وهدفها 377 تعليق على روايات الآيات المدنية في السور المكية 379 تعليق على الجنات الأخروية 382 تعليق على كلمة المسلمين 385 نفي طمع النبي في أجر على رسالته 389 أهداف القصص القرآنية 391 تعليق على نعت الكفار النبي بالجنون 398 تعليق على نعت المستشرقين والمبشرين النبي بالجنون 401 تعليق على جملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 403 تفسير سورة المزمل 405 تعليق على كلمة القرآن 409 تعليق على تعبير وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 410 تعليق على هجر الزعماء والأغنياء وسرّية الدعوة 413 تعليق على رواية نسخ حكم الآية وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ.. 415
تعليق على تبدل نواميس الكون عند قيام الساعة 416 تعليق على النار الأخروية 417 تعليق على قصة موسى وفرعون 422 بيان مهمة الرسول 423 تعليق على السماء وانفطارها يوم القيامة 2424 تعليق على مدى كلمة الكفر في القرآن 425 تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ.. 426
تعليق على الزكاة 427 تعليق على تعبير وَأَقْرِضُوا اللَّهَ.. 434
تعليق على تعليم الاستغفار 434 تعليق على تعبير سبيل الله 436 تفسير سورة المدثر 440 تعليق على النقر في الناقور 445 تعليق على موضوع السحر 451 تعليق على موضوع زيادة الإيمان ونقصه 455 تعليق على جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ 458 تعليق على عبارة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ 463 تعليق على موضوع الملائكة 464 تعليق على أَهْلِ الْكِتابِ 470 تعليق على عناية القرآن بالمسكين 477 تعليق على تعبير أَصْحابَ الْيَمِينِ.. 479
هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين 480 تعليق على تعبير كُلُّ نَفْسٍ.. 480
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك 481 تعليق على تعبير وما يدركون إلا.. 487
تعليق على تحدي الكفار للنبي 489 تعليق على مدى كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ.. 493
تعليق على مدى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ.. 494
تفسير سورة المسد 495(1/573)
تفسير سورة التكوير 499 تعليق على جملة وَإِذَا الصُّحُفُ.. 501
تعليق على العرش 505 تعليق على كلمة الشيطان 509 تفسير سورة الأعلى 511 تنبيه على ما أسبغه القرآن والسنّة على التسبيح 512 التلقين المنطوي في الآيتين سَيَذَّكَّرُ مَنْ.. 514
تعليق على جملة سَنُقْرِئُكَ فَلا.. 515
القرآن لا يحظر الاستمتاع بالطيبات 518 تعليق على وصف الْأَعْلَى 516 تعليق على ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام 519 دلائل أولية سورة الأعلى وصفتها 524 تفسير سورة الليل 525 تعليق على جملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 2527 تفسير سورة الفجر 531 تعليق على قصص الأقوام المذكورة في السورة 534 تعليق على ما أولاه القرآن من العناية باليتيم 541 تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي للآية الأخيرة 546 تفسير سورة الضحى 549 تعليق على روايات فتور الوحي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم 550 صورة من صميمية النبي صلّى الله عليه وسلّم 553 نشأة النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ طفولته إلى نبوته 554 تفسير سورة الشرح 558 تفسير سورة العصر 561 تعليق على تعبير الصَّالِحاتِ 562 تعليق على التواصي بالحق والتواصي بالصبر 563 مدى التنويه القرآني بالصبر 564 مغزى تلازم الإيمان والعمل الصالح. 568(1/574)
الجزء الثاني
السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- العاديات 2- الكوثر 3- التكاثر 4- الماعون 5- الكافرون 6- الفيل 7- الفلق 8- الناس 9- الإخلاص 10- النجم 11- عبس 12- القدر 13- الشمس 14- البروج 15- التين 16- قريش 17- القارعة 18- القيامة 19- الهمزة 20- المرسلات 21- ق 22- البلد 23- الطارق 24- القمر 25- ص 26- الأعراف
__________
(1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.(2/5)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
سورة العاديات
تتضمن السورة تنديدا بجحود الإنسان واستغراقه في حب المال وتذكيرا بالآخرة وإحاطة الله بأعمال الناس. وأسلوبها عرض عام للدعوة كسابقتها. وقد روي «1» أنها مدنية والجمهور على أنها مكية وأسلوبها وتبكير نزولها مما يؤيد مكيتها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
(1) العاديات: من العدو وهو الجري السريع، والمقصود بالعاديات الخيل أو الإبل على اختلاف الأقوال والأول أوجه ومتسق مع الآيات الأخرى.
(2) الضبح: هو صوت نفس الخيل حينما تركض وتتعب، وقيل إنه نوع من السير.
(3) الموريات: من الوري، وهو إيقاد الشرارة والشعلة والنار.
(4) قدحا: القدح هو الحك الشديد بالشيء الصلب لبعث الشرر.
__________
(1) انظر تفسير السورة في الطبرسي والنيسابوري.(2/7)
(5) المغيرات: من الإغارة وهي مباغتة العدو.
(6) أثرن: من الإثارة وهي التحريك والتهييج.
(7) النقع: الغبار.
(8) كنود: جاحد للنعمة.
(9) حب الخير: جمهور المؤولين يؤولون الجملة بحب المال.
(10) بعثر ما في القبور: كناية عن بعث الناس وخروجهم من قبورهم يوم القيامة.
(11) حصل ما في الصدور: كناية عن مواجهة الناس بما حفظ عنهم وسجل عليهم من أعمال.
في آيات السورة تنديد ببعض أخلاق الإنسان وإنذار له، وقد تضمنت:
1- قسما ربانيا بالخيل وهي تعدو عدوا شديدا حين تعتزم الإغارة فيغدو نفسها ضبحا وينقدح من اصطدام حوافرها بالحجارة الشرر، ويثور الغبار، وتتوسط الجمع المغار عليه على أن الإنسان جاحد لنعمة الله مع ما يشهده من آثار أفضال الله عليه، مستغرق في حب المال.
2- وتساؤلا في معرض الاستنكار والإنذار والتذكير عما إذا كان الإنسان لا يعرف أن الله محاسبه على ما يقدم من عمل حين يبعث الناس من قبورهم ويواجهون بأعمالهم، ولسوف يظهر لهم جليا أن الله خبير بهم وبأعمالهم.
والمتبادر أنه أريد بوصف الإنسان بما وصف تقرير كون ذلك هو الطبع الغالب على الجبلة الإنسانية وأن الآيات قد استهدفت تنبيه الإنسان إلى ما في هذه الأخلاق من شطط ومجانبة للحق والواجب نحو الله والناس وحمله على تجنبها وتذكيره بنعمة ربه عليه وكونه محيطا بأعماله مراقبا له فيها ومحاسبه عليها في الحياة الأخرى.
وإطلاق الآيات وعدم احتوائها إشارة إلى موقف معين يسوغان القول بأنها بسبيل عرض أهداف الدعوة ومبادئها عرضا عاما كسابقتها، كما يسوغ وصفها بما(2/8)
وصفت به سور الفاتحة والأعلى والليل والفجر والعصر أيضا.
والأهداف التي احتوتها جليلة في صدد الأخلاق الشخصية والاجتماعية، حيث إنها ترتفع بالإنسان إلى أن لا يكون المال هو كل شيء لديه فينسيه واجباته نحو ربه بالاعتراف بربوبيته والخضوع له وشكره على نعمه، ونحو الناس بالبر والرحمة.
ويلفت النظر بنوع خاص إلى التنديد بحب المال. وما سبق من مثل ذلك في سورة الفجر حيث يتلاحق الإيذان الرباني بكراهية اكتناز المال واستقطاب الثروة على ما نبهنا عليه في سياق سورة الفجر.
مغزى القسم القرآني بالخيل
وقد يكون القسم القرآني بالخيل متصلا بما كان للخيل والفروسية في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته من أهمية بالغة. حيث ينطوي فيه صورة من صور ذلك العصر والبيئة. ولقد روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود حديثا عن عروة الباقي قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم» «1» مما قد يكون فيه توكيد لتلك الأهمية البالغة.
تعليق على رواية مدنية السورة
ولقد روى الطبرسي المفسر الشيعي أن السورة مدنية. وروى مناسبتين لنزولها واحدة عن مقاتل جاء فيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية إلى حي من حنانة عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري فتأخر رجوعهم فقال المنافقون إنهم قتلوا جميعهم فأخبر الله تعالى بما كان من غارتهم ونصرهم. وثانية عن الإمام أبي عبد الله جاء فيها أنها نزلت في مناسبة بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم عليّ بن أبي طالب إلى ذات السلاسل ونصره بعد أن أرسل مرارا غيره فعادوا بدون نصر. وأنها لما نزلت خرج رسول
__________
(1) التاج الجامع ج 4 ص 312. [.....](2/9)
الله صلّى الله عليه وسلّم الغداة فصلى بالناس وقرأ السورة وقال إن عليا ظفر بأعدائه وبشرني جبريل بذلك هذه الليلة في هذه السورة. وجمهور المفسرين على أنها مكية مبكرة في النزول، وأسلوبها وفحواها يؤيدان ذلك بكل قوة. ونخشى أن يكون للهوى الشيعي أثر في رواية مدنيتها فإن الرواة الشيعيين دأبوا يروون روايات كثيرة في مناسبات آيات كثيرة لتأييد هواهم بقطع النظر عن ما في الروايات من مآخذ على ما سوف ننبه عليه في مناسباته.(2/10)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
سورة الكوثر
في السورة بشرى وتطمئن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتنديد بمبغضيه. وقد روي أنها مدنية ومضمونها وأسلوبها يلهمان مكيتها وهو ما عليه الجمهور.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
. (1) الكوثر: على وزن فوعل: الكثير جدا. وقيل إنه نهر في الجنة. وأوّل ابن عباس الكلمة بالخير الكثير «1» .
(2) انحر: اذبح الضحية، وقيل: ارفع يدك إلى نحرك «2» . والمعنى الأول أوجه وعليه الجمهور.
(3) الشانئ: المبغض أو العدو.
(4) الأبتر: المقطوع وهنا بمعنى مقطوع النسل.
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبيل البشرى والتطمين. فقد أعطاه الله الكوثر، فعليه أن يصلي لربه ويقرب إليه القرابين شكرا. ويتأكد أن عدوه ومبغضه هو الأبتر.
__________
(1) انظر تفسير السورة في الطبري.
(2) المصدر نفسه.(2/11)
وقد روى المفسرون «1» أن وائل بن العاص أو عقبة بن معيط قال على أثر وفاة عبد الله بن النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن محمدا أبتر، فإذا مات انقطع ذكره واسترحنا منه، فأنزل الله السورة.
ومضمون الآيات وروحها يلهمان صحة الرواية ويلهمان أن قول الكافر ونعته النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنعت المؤذي قد أثارا في نفسه أزمة، فأنزل الله السورة ترد عليه وتحمل البشرى والتطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالأسلوب القوي الذي جاءت به حيث تقول له إن الله قد أعطاه الكوثر ومن أعطي الكوثر فلن يكون أبتر وأن مبغضه المقطوع من رحمة الله لهو الحري بهذا النعت وعليه أن يشكر الله بالصلاة وذبح القرابين تقربا إليه.
ومما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مستغرقا في النوم فأفاق ضاحكا مستبشرا ثم قال نزلت عليّ هذه السورة «2» . وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح. وإن صحت ففيها صورة من صور الوحي القرآني. وهناك رواية تذكر أن السورة نزلت يوم الحديبية بسبيل التنويه بما تم للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين في ذلك اليوم من الفتح وبشرى وأمر بالصلاة ونحر الهدي في الحديبية «3» . وكان إذ ذاك عيد الفطر، ولم ترد هذه الرواية في كتب الصحاح ولا في كتب السيرة القديمة التي روت تفاصيل يوم الحديبية. على أن جمهور الرواة والمفسرين على أن السورة مكية ومن السور المبكرة جدا في النزول.
وقد تعددت الأقوال في معنى الكوثر وفي المقصود من الصلاة والنحر. ففي صدد الكوثر روى البخاري والترمذي عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا عرج بي إلى السماء أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوّفا فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر» . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها سئلت عن قوله تعالى
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري فقد رووا ذلك جميعهم.
(2) الإتقان للسيوطي ج 1 ص 24 وتفسير الآلوسي للسورة.
(3) الإتقان ج 1 ص 15 وتفسير الآلوسي.(2/12)
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الكوثر [1] فقالت: «نهرا أعطيه نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم شاطئاه عليه درّ مجوّف آنيته كعدد النجوم» . وروى الترمذي وأبو داود عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ قلت للملك ما هذا قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله ثم ضرب بيده إلى طينه فاستخرج مسكا ثمّ رفعت لي سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما» . وروى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدرر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» «1» . وإلى جانب هذه الأحاديث التي رواها الطبري بنصوصها أو نصوص مقاربة أورد هذا المفسر أقوالا رواها عن رواة عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير من علماء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم تذكر أن معنى الكلمة الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه والنبوة والحكمة والقرآن. ومما أورده الطبري أن سائلا سأل سعيد بن جبير عن معناها فلما قال له الخير الكثير قال السائل كنا نسمع أنه نهر في الجنة؟ فقال: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه وفي رواية أخرى أنه نهر وغيره ... «2» .
فيمكن والحالة هذه أن يقال إن ابن عباس وتلامذته لم يثبت عندهم تلك الأحاديث ففسروا الكلمة بهذه التفسيرات الوجيهة المتسقة مع ظروف الدعوة الأولى التي كان يلقى النبي فيها المواقف الشديدة فتقتضي حكمة التنزيل تثبيته وتطمينه وتذكيره بما أنعم الله عليه من نعم عظمى وحثه على التقرب إليه بالصلاة والشكر مما تكرر في السور السابقة.
ومما يلحظ أن ترتيب هذه السورة سابق على سورة النجم التي تروي مشاهد الإسراء والمعراج في سياق آياتها الأولى. وقد يكون في هذا تدعيم لذلك التفسير والتوجيه.
__________
(1) الأحاديث الأربعة في التاج الجامع ج 4 ص 266.
(2) استوعب الطبري جميع الأقوال وليس في كتب التفسير الأخرى أقوال مغايرة لها.(2/13)
ولقد جمع سعيد بن جبير مع ذلك في جوابه بين القولين. وقد يكون في هذا توفيق موفق والله تعالى أعلم.
وأما الصلاة والنحر فليس فيهما حديث صحيح. وقد قيل إن الصلاة هي صلاة الفجر يوم عيد النحر كما قيل إنها صلاة ذلك العيد وإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمر في الآية بنحر القربان عقب الصلاة على اختلاف الوقتين المرويين. وهناك من قال إنهما أمران مطلقان للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة والتقرب إليه بالقرابين شكرا على نعمه الكثيرة التي والاها عليه. كما أن هناك من قال إنها تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن تكون صلاته ونحره لله وحده إذا كان قومه يصلون وينحرون لغيره وقد أعطاه الخير الكثير «1» .
ونحن نميل إلى ترجيح أحد القولين الأخيرين والله أعلم.
__________
(1) استوعب الطبري جميع الأقوال وليس في كتب التفسير الأخرى أقوال مغايرة لها.(2/14)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
سورة التكاثر
في السورة تنديد بالمستغرقين في الدنيا ومالها ونعيمها. وإنذار لهم بالآخرة. وهي عامة العرض والتوجيه. وقد روي أنها مدنية. وأسلوبها ومضمونها يحمل على الشك في ذلك. وقد سلكتها التراتيب المروية في سلك السور المكية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(1) التكاثر: المباراة في الاستكثار من المال والبنين والتفاخر بذلك.
(2) زرتم المقابر: كناية عن الموت حيث يؤتى بالأموات فيدفنون في المقابر.
(3) الجحيم: النار المتقدة أو المتأججة.
في آيات السورة:
1- تنديد موجه إلى السامعين بما هم فيه من المباراة في الاستكثار من الأموال والأولاد والتفاخر بذلك واستغراقهم بسبب ذلك استغراقا يمنعهم من التفكير في الموت وما بعده، بحيث لا ينتهون مما هم فيه إلّا حين يموتون.(2/15)
2- وتنبيه وتبصير لهم. فإنهم سوف يعلمون علما يقينيا بأنهم مخطئون، وأنهم سوف يرون الجحيم الموعودة ويرون بعين اليقين ما أوعدوا به. وأنهم سوف يسألون عن أعمالهم وما قضوه في الدنيا من حياة النعيم التي ألهتهم عن الآخرة والتفكير فيها.
ولقد روى بعض المفسرين روايات عديدة في نزول السورة. منها أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخرتا فيما بينهما بما عندهما من مال وما هما فيه من نعيم. ومنها أنها نزلت في فريق من اليهود فخروا على المسلمين بما كان عندهم من مال. ومنها أنها نزلت في حيين من قريش هما بنو مناف وبنو سهم تفاخرا فيما بينهما بما عندهما من مال «1» . ولم ترد هذه الروايات في كتب الصحاح.
والروايتان الأوليان تقتضيان أن تكون السورة مدنية مع أن رواة النزول وجمهور المفسرين يسلكونها في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وأسلوبها ومضمونها يحملان على الشك في الروايتين وفي رواية تفاخر بني سهم ومناف القرشيين أيضا ويسوغان الترجيح بأنها مطلقة التوجيه عامة الإنذار والتنبيه مثل سور العاديات والعصر والأعلى والليل والفجر إلخ.
ولقد احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى. ومتسقا مع التلقينات التي احتوتها السور المماثلة السابقة وهو وجوب تنبيه الناس إلى واجباتهم نحو الله ونحو الناس في الحياة الدنيا وعدم الاندفاع في الاستكثار من المال والاستغراق في النعيم وجعل شهوات الحياة ونعيمها قصارى الهمّ والمطلب.
ولقد رويت بضعة أحاديث نبوية على هامش هذه السورة. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله بن الشخير قال: «إنه انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [1] قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلّا ما تصدّقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت» «2» . وحديث رواه الترمذي
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير والبغوي والطبرسي والنيسابوري.
(2) التاج ج 4 ص 365.(2/16)
عن الزبير بن العوام قال: «لما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [8] قلت يا رسول الله فأيّ النعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء. قال أما إنّه سيكون» «1» . حيث يتسق التلقين النبوي مع ما نوهنا به من التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو الشأن في كل أمر آخر.
وننبه مع ذلك على ضوء آيات سورة الأعراف [31- 33] التي أوردناها في مناسبة مماثلة في تفسير سورة الأعلى أن روح الآيات تلهم أن التنديد والتنبيه موجهان إلى من تلهيه أمواله وأولاده وشهواته ومتعه عن واجباته نحو ربه ونحو الناس ويستغرق في ذلك استغراقا يملك عليه تفكيره ويعمي بصيرته ويجعله لا يحسب للعواقب حسابا ويوهمه بأنه في أمن دائم. لا إلى أصحاب الأموال والأولاد والمتنعمين إطلاقا إذا ما أدوا حق الله بالإيمان به وعبادته وشكره وحق الناس بالبر والتزموا القصد والاعتدال. وليس في الأحاديث النبوية ما يتناقض مع ذلك. بل هناك أحاديث ينطوي فيها هذا بصراحة أوردناها في سياق تفسير سورة الفجر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
__________
(1) التاج ج 4 ص 365.
الجزء الثاني من التفسير الحديث 2.(2/17)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
سورة الماعون
تضمنت السورة نعيا وتنديدا بالذين يكذبون بالآخرة ويقسون على اليتيم ويحرمون المسكين من الطعام ويراؤون في صلاتهم وأعمالهم ويمنعون ماعونهم عن ذوي الحاجة إليه، وقد روي أن السورة مدنية كما روي أن آياتها الثلاث الأخيرة فقط هي مدنية. ومع احتمال صحة الرواية الأخيرة استلهاما من مضمون الآيات، فإننا نميل إلى ترجيح كونها مكية جميعها وكونها عرضا عاما لأهداف الدعوة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
. (1) الدين: كناية عن يوم الآخرة والحساب.
(2) يدعّ: يدفع بشدة.
(3) ساهون: هنا بمعنى لاهون وغافلون وقيل إنها بمعنى تفويت وقت الصلاة. والمعنى الأول أوجه على ضوء الآية السادسة فإن المرائي لا يلهم الجد في الصلاة فيؤديها وهو غافل لاهي القلب.
(4) ويل: وردت هذه الكلمة مرارا في القرآن. وأكثر ورودها في معنى إنذار(2/18)
رباني لمن يستحقها من الكفار والمشركين والظالمين والكذابين والمعتدين.
ووردت على لسان الظالمين في معنى التندم والتحسر والهلع من عذاب الله مثل:
يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا الفرقان [28] ، ومثل: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ الأنبياء [14] . ووردت على لسان زوجة إبراهيم في معنى التعجب: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً هود [72] وهي هنا من الباب الأول. ويروي الطبري في سياق الآية [79] من سورة البقرة حديثين أحدهما عن عثمان بن عفان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «الويل جبل في النار» وثانيهما عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيها: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . وهذان الحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الويل هو العذاب مطلقا. حيث يبدوا أنه لم يثبت عنده الأحاديث. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله أعلم.
(5) يراؤون: يتظاهرون بغير حقيقتهم أو ينافقون.
(6) الماعون: روى المفسرون أنها المعونة إطلاقا أو أنها الزكاة أو أنها أدوات البيت كالقدر والدلو والفأس ونحو ذلك وكل ذلك وارد.
في الآيات الثلاث الأولى:
1- سؤال تنديدي موجه للسامع عن ذلك الذي يكذب بالحساب والجزاء الأخرويين.
2- وتقرير بمثابة الجواب بأنه هو الذي لا تأخذه الشفقة على اليتيم فينتهره ويدفعه بشدة والذي لا تأخذه الرأفة بالمسكين فلا يطعمه ولا يحض غيره على إطعامه.
وفي الآيات الأربع التالية:
إنذار وسوء دعاء على الذين يصلون وقلوبهم لاهية عما هم فيه. والذين يصدرون في عبادتهم وأعمالهم أمام الله والناس عن رياء وخداع. والذين يمنعون عونهم وبرّهم أو ماعونهم عن المحتاجين إليه.(2/19)
وقد روي أن السورة جميعها مدنية «1» كما روي أن الآيات الثلاث الأخيرة فقط هي المدنية، وطابع الآيات الأربع الأولى مكي، وقد تكررت ألفاظها ومعانيها في السور المكية كثيرا وفيما سبق من السور وقد روي أنها نزلت في أبي جهل حيث كان وصيا على يتيم فسأله شيئا من ماله فدفعه ولم يعبأ به، كما روي أنها نزلت في أبي سفيان الذي كان ينحر في الأسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بالعصا «2» . أما الآيات الثلاث الأخيرة فإن الصورة التي انطوت فيها قد تكون مدنية من الوجهة الزمنية، لأن صورة المسلم المتظاهر بالإسلام واللاهي عن الصلاة، هي صورة من صور المنافقين في المدينة الذين وصفوا في القرآن المدني بهذه الصفة كما جاء في آية سورة النساء هذه: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
(142) .
غير أن الآيات من جهة أخرى متسقة في الوزن ومنسجمة مع الآيات السابقة لها كما هو ظاهر. وحرف الفاء في بدء الآية الرابعة قد يسوغ القول إن الآيات الثلاث جاءت معقبة على الآيات الأربع السابقة لها.
وعلى هذا فإما أن يكون التنديد في الآيات الثلاث الأخيرة تنديدا بالإنسان المرائي في صلاته وعمله ودينه، المانع معونته عن المحتاج إليها إطلاقا، ومثل هذا يكون في أي مجتمع وظرف. ويكون من هدف الآيات تحذير المؤمنين الأولين من هذا الخلق، وإما أن تكون رواية مدنية الآيات الثلاث صحيحة وقد أضيفت إلى الأربع حينما أوحي بها لحكمة متصلة بهذه الآيات بدت للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الأول بسبب التوازن والانسجام وعدم وضوح الحكمة في إضافة آيات قليلة مدنية إلى آيات قليلة مكية وتكوين سورة قصيرة من هذه وتلك.
__________
(1) انظر الإتقان للسيوطي ج 1 ص 15- 18 الطبعة المذكورة سابقا وتفسير الآلوسي ج 3 ص 241.
(2) انظر تفسير السورة في تفسير الخازن والطبرسي والنيسابوري.(2/20)
وأسلوب الآيات قد جاء مطلقا فيكون ما احتوته مستمر المدى والتلقين.
وهو ما جرى عليه النظم القرآني بسبيل ذلك مما مرت منه أمثلة عديدة. ولا يتعارض هذا مع ما يمكن أن يصح من نزولها أو نزول بعضها في مناسبة حادث وقع من بعض الأشخاص، فكثير من آيات القرآن وفصوله نزلت في مناسبات معينة بأسلوب مطلق ليكون مستمر المدى والتلقين.
مدى وتلقينات آيات السورة
ومن تلقينات السورة الرئيسية تقريرها لكون جحود الإنسان للآخرة هو الذي يشجعه على اقتراف الآثام في الدنيا وعلى قسوة القلب إزاء الضعفاء واليتامى والمساكين، إذا أمن الجزاء والمقابلة، وفي هذا توكيد لتقريرات قرآنية سابقة، ولحكمة الله التي جعلت للحياة الدنيا تتمة في حياة أخرى لجزاء كل امرئ بما عمل. كما أن فيه مظهرا من مظاهر حكمة التنزيل في تكرار الإنذار بالحياة الأخرى وجعل الإيمان بها ركنا من أركان الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة الفاتحة.
وتخصيص اليتيم والمسكين بالذكر لا يعني كما هو المتبادر أن قهر الأول وحرمان الثاني هما عنوان التكذيب بالآخرة وجزائها حصرا. فهذا أسلوب من أساليب القرآن وهناك آيات قرآنية كثيرة منها مما سبق تذكر آثاما أخرى عامة وخاصة يقترفها الإنسان نتيجة لجحوده ذلك. وقد يعني تخصيص ذلك بالذكر هنا قصد التنويه بخطورة أمر اليتيم والمسكين. وهو ما تكرر كثيرا في القرآن وقد سبق منه أمثلة عديدة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
وفي التنديد بالمصلين اللاهية قلوبهم عن صلاتهم تنبيه لوجوب تذكر المصلي الله، وإفراغ قلبه له حينما يقف أمامه متعبدا، وتقرير ضمني بأنه بذلك فقط يتأثر بصلاته تأثرا يبعث فيه السكينة والطمأنينة ويرتفع به إلى أفق الروحانية العلوية كما هو مجرب عند كل من يفعل ذلك حقا. ويوقظ فيه الضمير فيبتعد عن الفحشاء والمنكر ويندفع نحو الخير والصلاح. وكل هذا من مقاصد الصلاة بالإضافة إلى(2/21)
كونها واجب العبادة ومظهر الخضوع لله على ما شرحناه في سياق سورة العلق. أما اللاهون فلا يتأثرون ذلك التأثير الباعث الموقظ الوازع الدافع فتكون صلاتهم عملا آليا لا روح فيها ولا حياة ويكون القصد منها الرياء والخداع ولا تكون بعد مقبولة عند الله.
وجملة يُراؤُنَ [6] جاءت مطلقة لتنعى الرياء على الإنسان إطلاقا سواء أكان يرائي في صلاته أم في أي موقف وعمل آخر. وتتضمن بناء على ذلك تنديدا بخطورة خلق الرياء وبشاعته حيث يكون المتخلق به أمام الله مخادعا وأمام الناس كاذبا مضللا ساخرا، وتنبيها إلى ما في انتشار هذا الخلق في مجتمع من المجتمعات من الشر العام.
ولقد تكرر النعي القرآني على هذا الخلق والنهي عنه كما جاء في سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وآية سورة النساء هذه: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وآية سورة الأنفال هذه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وآية سورة النساء هذه: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) .
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في ذمّ الرياء والمرائين منها حديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعوّذوا بالله من جبّ الحزن قالوا يا رسول الله وما جبّ الحزن؟ قال: واد في جهنّم تتعوّذ منه جهنّم كلّ يوم ألف مرة. قيل يا رسول الله من يدخله قال القرّاء المراءون بأعمالهم» «1» . وحديث رواه
__________
(1) التاج ج 1 ص 50. [.....](2/22)
البغوي بطرقه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال الرياء» . وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله الله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإنّ الله أغنى الشركاء عن الشرك» «1» . ولمسلم عن أبي هريرة حديث آخر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشّرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» «2» .
وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إنّ أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النّار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها، قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال ما عملت فيها، قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» «3» .
وننبه على أن هناك حديثا فيه استدراك يحسن سوقه في هذا المساق رواه الترمذي جاء فيه: «قال رجل يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه ذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له أجران أجر السرّ وأجر العلانية» «4» . حيث يفيد
__________
(1) التاج ج 4 ص 154.
(2) التاج ج 1 ص 49.
(3) المصدر نفسه ص 50- 51.
(4) المصدر نفسه.(2/23)
هذا أن الرياء المعاقب عليه هو ما قصد صاحب العمل أن يقال عنه وليس خالصا لله. وأنه إذا كان عمل المرء عملا بنية خالصة وعرفه الناس وأعجبوا به لا يعد من هذا الباب.
والتنديد بما نعى الماعون سواء أكان المعونة عامة أم الزكاة أم أدوات البيت جدير بالتنويه من حيث كون منع الماعون مظهرا من مظاهر عدم التعاون وعدم تبادل المعروف أو عدم بذل ما يكون الآخر في حاجة إليه من عون. ومن حيث تضمنه حقا لكل مسلم على تجنبه وعلى بذل كل عون يقدر عليه إلى من هو في حاجة إليه وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرت أمثلة منها.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي حديثا عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» «1» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما هو في كل شأن.
__________
(1) التاج ج 5 ص 68.(2/24)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
سورة الكافرون
في السورة أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان الكفار أنه لا يعبد ما يعبدون، ولهم إذا شاءوا أن يظلوا على ما هم عليه فلا يعبدون ما يعبد، ولكل من الفريقين دينه، وقد تضمنت مبدأ حرية التدين الذي ظلت الآيات القرآنية تقرره في المكي منها والمدني.
ولقد روى الترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن ومن قرأ قل يا أيّها الكافرون عدلت له بربع القرآن ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له بثلث القرآن» «1» . وروى الترمذي عن أنس أيضا: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لرجل من أصحابه هل تزوّجت يا فلان قال لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوّج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد، قال: بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح، قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك قل يا أيّها الكافرون، قال: بلى، قال: ربع القرآن. قال: أليس معك إذا زلزلت، قال: بلى، قال: ربع القرآن، تزوّج تزوّج» «2» .
ومن الحكمة الملموحة في الحديثين التنويه والترغيب والتيسير، والله تعالى أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
__________
(1) التاج ج 4 ص 21.
(2) المصدر نفسه.(2/25)
في الآيات أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يعلن جاحدي رسالته بخطته بالنسبة لدينهم وعبادتهم. وبأن لهم إذا شاءوا أن يسيروا على نفس الخطة فهو يعبد غير ما يعبدون. ويخضع لغير ما يخضعون، ويتجه إلى غير ما يتجهون. وهو مسؤول عن تبعة موقفه، وهم مسؤولون عن تبعة موقفهم، ولكل من الفريقين دينه الذي ارتضاه لنفسه.
وقد روي أن السورة نزلت بمناسبة مراجعة بعض زعماء قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبهم التشارك في عبادة الآلهة، فيصلي إلى آلهتهم ويصلون إلى إلهه، ويحترم آلهتهم ويحترمون إلهه إلى أن يتحقق الفريقان أيّ الدينين خير فيتبعونه «1» .
والرواية محتملة الصحة على ما تلهمه روح الآيات، ويؤيدها آية سورة القلم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) التي مر تفسيرها قبل في سياق السورة المذكورة.
على أن من المحتمل أيضا أن تكون نزلت بمناسبة موقف حجاجي بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار، ظل هؤلاء معاندين مكابرين فيه فنزلت لإنهاء الموقف. وقد تكرر مثل ذلك في مواقف ومناسبات مماثلة كما جاء في آية سورة يونس هذه:
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وفي آية سورة يونس هذه أيضا: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وفي آية سورة الكهف هذه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [29] وفي آيات سورة سبأ هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
__________
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.(2/26)
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) .
وقد يفسر هذا التوجيه أسلوب السورة من حيث خلوه من الحملة على عبادة الكفار الضالة. ولعلها استهدفت فيما استهدفته درء الأذى عن المسلمين المستضعفين الذين كان زعماء الكفار ينالونهم به وخاصة في أوائل عهد الدعوة حيث تدعوهم إلى الإنصاف، فإن كانوا يريدون أن يثبتوا على دينهم ويرون ذلك من حقهم فعليهم أن يحترموا هذا للمسلمين أيضا.
مبدأ حرية التدين في النظام الإسلامي
ومع خصوصية الخطاب وزمنيته فالمتبادر أن السورة تضمنت مبدأ قرآنيا جليلا منذ عهد مبكر من الدعوة، في تقرير حرية التدين والعبادة والدعوة إلى احترامها واستشعار الناس بشعور الإنصاف والعدل فيما بينهم في صددها، باعتبار هذه المسألة مسألة وجدان ويقين وطمأنينة قلب وروح وانشراح صدر، لا يجوز أن تكون معرضة لأي تأثير أو تابعة لأي اعتبار.
ومن الجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يقرر في هذه السورة فحسب أو في العهد المكي الذي كان فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم ضعيفا والمسلمون قلة مستضعفة، بل قررته آيات القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل مرات كثيرة وبأساليب متنوعة، كما يفهم من الآيات التي أوردناها آنفا ومن آيات سورة النمل هذه: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) ومن آيات سورة الأنبياء هذه: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ(2/27)
أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
ثم قررته آيات عديدة من القرآن المدني في مختلف أدوار التنزيل كذلك كما يفهم من آية سورة البقرة هذه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) وآية سورة آل عمران هذه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) وآية سورة آل عمران هذه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) وآية سورة النساء هذه: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) وآية سورة المائدة هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وآيات سورة التوبة هذه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) وإِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) وآيات سورة الممتحنة هذه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) وهكذا يكون هذا المبدأ من المبادئ المحكمة. وفي هذا ما فيه من بليغ التلقين وبعد المدى ومؤيدات الخلود للإسلام ومبادئه.
ولقد يرد أنه ورد في القرآن آيات كثيرة تدل على أن كفار العرب لم يكونوا ينكرون ربوبية الله ولم يكونوا منصرفين عن عبادته ودعائه بالمرة مثل ما جاء في آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وفي آية(2/28)
سورة لقمان هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) ، وإن في هذا ما يتناقض مع مضمون السورة. ومع أن الشق الأول صحيح فليس هناك من تناقض. فقد كانوا يشركون مع الله غيره ويتخذون الأصنام رموزا لشركائهم فيسجدون لها ويقربون القرابين عندها، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ويعبدونهم ويدعونهم ولو ليكونوا شفعاءهم عند الله وفي هذا كفر صريح بحق الله وواجبه على خلقه وتناقض صريح بين ما يعبد النبي صلّى الله عليه وسلّم ويدعوا إليه وهو الله وحده لا شريك له ولا كفؤ له ولا ولد له وبين ما يعبدونه ويتجهون إليه، وهذا هو المراد في آيات السورة كما هو المتبادر.
ونحن نعرف أنه يورد على هذا أقوال من جانب المسلمين وغير المسلمين على السواء. فإن كثيرا من علماء المسلمين ومفسري القرآن قالوا إن الآيات التي تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاكتفاء بإنذار المشركين وهجرهم وتركهم وشأنهم وإعلانهم أنه ليس إلّا منذر لهم وأنه ليس عليهم مسيطر ولا جبار أو التي تأمر بقتال المقاتلين للمسلمين منهم دون سواهم مما جاء في سور كثيرة مكية ومدنية مثل الآيات التالية في السور المكية:
1- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ سورة يونس [108] .
2- فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ سورة الحجر [94] .
3- وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ سورة النحل [127] .
4- إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ سورة النمل [91- 92] .(2/29)
5- وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا سورة المزمل [10] .
6- فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ سورة الغاشية [21- 22] .
ومثل الآيات التالية في السور المدنية:
1- وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ البقرة [190] .
2- وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ البقرة [193] .
3- لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة [256] .
4- إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا النساء [90] .
وأمثالها الكثير في السور المكية والمدنية قد نسخت بآيات سورة التوبة هذه:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن(2/30)
يسلموا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ثم بآية سورة التوبة [36] التي جاء فيها:
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً والتي ينعتها بعض العلماء والمفسرين بآية السيف. وقد فسر كثير من مفسري القرآن وعلمائهم كلمة فتنة الواردة في آية سورة البقرة هذه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) بمعنى الشرك وقالوا إنها توجب قتال المشركين حتى لا يبقى شرك ومشركون ويسود دين الله الإسلام.
ومما قاله المفسرون في سياق تفسير آية البقرة لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ البقرة [256] إن هذه الآية منسوخة بالنسبة للعرب المشركين دون غير العرب. وإن العرب المشركين لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف وإن غير العرب يقبل منهم الجزية دون السيف.
وأما من ناحية غير المسلمين فإن كثيرا من المبشرين والمستشرقين قالوا إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لم يقف عند مبدأ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرون [6] إلّا في ظروف ضعفه، وإنه حالما قوي بعد الهجرة أخذ يقاتل الكفار ولم يكن يقبل من المشركين إلّا الإسلام ومن الكتابيين إلّا الاستسلام والجزية. واستمر على ذلك إلى النهاية وكان يغري المسلمين بالغنائم.
وشرح الموضوع على وجهه الحق الذي يتبادر من نصوص القرآن ووقائع السيرة النبوية كفيل بالإجابة على الطرفين.
إن القتال في الإسلام إنما شرع للدفاع عن حرية الدعوة والمسلمين ومقابلة الأذى والعدوان والصدّ إلى أن تضمن الحرية والسلامة للمسلمين، والحرية والانطلاق للدعوة ويمتنع الأذى والعدوان على المسلمين والإسلام، وظل هذا المبدأ محكما إلى النهاية.(2/31)
وأول آيات وردت في هذا الصدد آيات سورة الحج هذه: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
. ثم نزلت آيات سورة البقرة هذه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) .
والأساس في هذه الآيات وتلك هو ذلك المبدأ، وفيها صراحة أن المشركين كانوا يقاتلون المسلمين. وكانوا إلى هذا يفتنون المسلمين عن دينهم بالجبر والإكراه ويصدون عن سبيل الله ويعطلون سير الدعوة. ويضطرون المسلمين إلى الخروج من موطنهم مرغمين. وكل هذا سبب مشروع لقتالهم متسق مع ذلك المبدأ. وفي تأويل كلمة «الفتنة» بالشرك تجوّز كبير. فالفتنة هي إرغام المسلمين على الارتداد عن الإسلام الذي كان يمارسه زعماء المشركين في مكة ضد ضعفاء المسلمين. والدليل على ذلك آية سورة البروج هذه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) وآية سورة النحل هذه:
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) والكلمة في الآية الثانية من سلسلة آيات البقرة [190- 194] والتي هي في جملة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ البقرة [191] تعني نفس الشيء حينما يتروى فيها. ولا يصح في حال أن تؤول بالشرك. ونزول(2/32)
آية: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ البقرة [193] دليل قوي بل حاسم على أن معنى الآية هو قتال المعتدين إلى أن ينتهوا عن موقف العدوان وفتنة المسلمين وتغدو حرية الدعوة وحرية المسلمين في دينهم ودمائهم وأموالهم وحقوقهم مضمونة. وقد جاء في سورة الأنفال آية مثلها تقريبا وهي: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) ولعل في مقطع هذه الآية الأخير قرينة أقوى على أن المقصد من جملة «فإن انتهوا» الانتهاء من موقف العدوان وفتنة المسلمين.
ومن الأدلة اليقينية على أن جملة فَإِنِ انْتَهَوْا الأنفال [93] في هذه الآية وفي آية سورة البقرة [193] ليست الانتهاء بالإسلام فقط وإن من الممكن أن يكون بوقف حالة الحرب بالصلح أيضا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وقريش في السنة الهجرية السادسة حيث أنهى هذا الصلح حالة الحرب ووقف القتال ضد قريش. والآيتان نزلتا قبل هذا الصلح على الأرجح. ومما يسوغ تخمينه بقوة أن آية البقرة نزلت قبل وقعة بدر وآية الأنفال نزلت بعد هذه الوقعة على ما سوف نشرحه في مناسباتهما.
وفي سورة الإسراء آية فيها دليل حاسم على معنى كلمة الفتنة وهو الرد والارتداد والإرجاع وهي هذه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) .
وآيات سورة التوبة التي تعلن البراءة من المشركين وتأمر بقتالهم إلى أن يتوبوا ويؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والتي أوردناها آنفا تخللها وجاء معها استثناءات تجعل ذلك الإعلان والأمر محصورا في المشركين المعتدين والناكثين لعهودهم كما جاء في عبارة إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً التوبة [4] وكما جاء في الآيات التالية التي هي جزء من السلسلة: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ الجزء الثاني من التفسير الحديث 3(2/33)
مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) .
وآيتا فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ في سلسلة آيات التوبة ليستا المخرج الوحيد كما قد يتبادر. فالآيات في جملتها تعني أنهم إن آمنوا فبها ونعمت ويصبحوا إخوانا للمسلمين، ويهدر كل ما فعلوه معهم قبل. وإن لم يؤمنوا وحافظوا على عهدهم واستقاموا عليه فلا مانع. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في الدين فيقاتلون حتى ينتهوا من هذا الموقف العدواني.
وجملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً في آية التوبة [36] ليست منفردة. فإن لها تتمة وهي كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً التوبة [36] وهذه التتمة تزيل اللبس في الجملة وتعيد الأمر إلى أصله من وجوب قتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين وتظهر مقدار ما في الاستناد إليها من تجوز كبير أيضا.
وفحوى القول إن آية سورة النساء [90] منسوخة تجوز كبير أيضا إزاء ما فيها من صراحة وحسم. ويدعم هذا آية في سورة الممتحنة التي نزلت قبيل الفتح المكي فيها مثل هذه الصراحة والحسم بل وأكثر حيث إنها تحض على البرّ والإقساط للذين لا يقاتلون المسلمين ولا يشتركون في إخراجهم من ديارهم وهي:(2/34)
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) وقد فند الطبري قول من قال إن هذه الآية منسوخة وقال إن برّ المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على دعوة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. وفي سورة البقرة آية أخرى تدعم ذلك وتدعم أو توضح مدى آية الممتحنة في الوقت نفسه وهي: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) وقد روى الطبري وغيره روايتين في نزولها واحدة تذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمنع الصدقات عن فقراء المشركين وثانية أن المسلمين كانوا يمنعون صدقاتهم عن المشركين من أقاربهم وأنسبائهم فنزلت الآية مؤذنة بأن النبي والمسلمين غير مسؤولين عن هداهم الذي هو في يد الله وأن الصدقات هي قربة من المتصدق لله عن نفسه فلا مانع من إعطائهم منها على شركهم ... وليس هناك أي قول فيما اطلعنا عليه بنسخ هذه الآية الرائعة في مداها الذي نحن في صدده.
ولقد حدث مرة سوء تفاهم بين قائد إحدى السرايا وبعض العرب الذين أظهروا الإسلام أو المسالمة، فظن القائد أن ذلك خدعة، وقتل بعضهم وأخذ ماشيتهم فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم أشد الغضب ولم يلبث أن أوحى الله بآية قوية رائعة فيها عتاب على عدم قبول ظواهر الناس كما ترى فيها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً سورة النساء [94] ، وفي آية سورة الأنفال هذه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) أمر صريح بأن يسالم كل من جنح إلى المسالمة من الأعداء. وفي آيات سورة محمد هذه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ(2/35)
أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها
[4] آمر بقتال الكفار الصادّين عن سبيل الله إلى أن تخضد شوكتهم ثم يؤسر الباقون إلى أن يفتدوا أنفسهم أو يطلق سراحهم منّا دون إرغام على الإسلام لأن المقصود من القتال قد حصل.
ولم يرد أي خبر بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين، كما أنه لم يرد أي خبر بأنه قاتل أو أمر بقتال أناس مسالمين أو حياديين أو معتزلين. والذي يدرس وقائع الجهاد «1» يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع فئة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأرا لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها، أو بناء على نكث عهد أو بسبب مظاهرة لعدو أو تآمر معه على المسلمين.
وكل هذا متسق مع النصوص القرآنية التي لا يمكن أن يصدر منه ما ينقضها بطبيعة الحال.
وكل هذا ينطبق على وقائع القتال مع اليهود والنصارى الكتابيين أيضا. فكل عملية تأديب أو تنكيل أو غزوة ضد يهود يثرب والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام كانت ردا على عدوان أو مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين «2» . وحملات مؤتة وتبوك كانت مقابلة على عدوان القبائل العربية النصرانية في طريق الشام والبلقاء
__________
(1) انظر وقائع الجهاد وغزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم وسراياه في طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وفي الجزء الثاني من الطبرسي.
(2) اقرأ الوقائع من الكتب الثلاثة السابقة الذكر وكتابنا القرآن واليهود.(2/36)
على رسل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقوافل المسلمين «1» .
وآية التوبة هذه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) تضمنت إشارة إلى ذلك وحصرت أمر القتال في الفئات التي لا تدين دين الحق ولا تحرم ما حرم الله ورسوله من الكتابيين دون سائرهم وحملات الفتح التي سيرها أبو بكر رضي الله عنه وما بعدها هي امتداد لهذه الحملات حيث كانت حالة الحرب التي نشأت عن العدوان قائمة. ووصايا النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء رضي الله عنهم لقواد هذه الحملات بألّا يقاتلوا إلّا من يقاتلهم وبأن يسالموا من يسالمهم وبأن يتركوا من لا يتعرض لهم ومن يعتزلهم وشأنه وأن لا يقتلوا النساء والصبيان معروفة مشهورة «2» . ولو كان قتال كل كافر وكل مشرك مبدأ إسلاميا لاقتضى أن يقاتل كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنه وموقفه وهذا لم يحصل إطلاقا لا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا في زمن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم. وقتال أبي بكر للمرتدين وعدم قبوله منهم إلّا الإسلام والاستسلام حالة أخرى لأن الارتداد كان ضد الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي في الدرجة الأولى «3» .
__________
(1) اقرأ الجزء الثاني من كتابنا سيرة النبي عليه السلام ص 161 وما بعدها وطبقات ابن سعد ج 3 ص 103- 104 و 174- 178 و 218- 221.
(2) طبقات ابن سعد ج 3 ص 132 والطبرسي ج 2 ص 520 وما بعدها وأشهر مشاهير الإسلام ج 1 ص 66 وما بعدها. ولقد روى الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه على رأس جيش إلى الشام «إني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نخلا ولا تغلل ولا تجبن وإنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له» .
(3) انظر تفسير آية سورة البقرة [190] : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ في تفسير الخازن والطبرسي والزمخشري وتفسير آية سورة البقرة [193] : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
في تفسير الطبرسي والزمخشري وتفسير آيات سورة التوبة [1- 13] في تفسير الخازن. ففي أقوال هؤلاء المفسرين في تفسير هذه الآيات نماذج لأقوال المفسرين وتأويلاتهم التي ذكرناها في مطلع البحث، وانظر تفسير آية [190] : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وآية [193] : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ في تفسير المنار للسيد رشيد رضا، فهو مطابق لما قلناه من عدم إساغته لتأويل الفتنة بالشرك وعدم إساغته لنسخ الاية الأولى. وعزا إلى الإمام محمد عبده أنه ردهما. ج 2 ص 209 الطبعة الأولى لسنة 1352 هـ- 1934 م.(2/37)
وفي موطأ الإمام مالك حديث عن يحيى بن سعيد احتوى وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه على رأس جيش إلى الشام جاء فيها: «إني موصيك بعشر لا تقتلنّ امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعنّ شجرا مثمرا ولا تخربنّ عامرا ولا تعقرنّ شاة ولا بعيرا إلّا لمأكلة ولا تحرقنّ نخلا ولا تفرّقنّه ولا تغلل ولا تجبن. وإنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له» .
ويورد فيما يورد حديث صحيح جاء فيه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلّا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلّا بحقّه وحسابه على الله» «1» . ونكرر هنا ما قلناه تعليقا على هذا الحديث في سياق التعليق على (سبيل الله) والخطة القرآنية للدعوة إلى سبيل الله في سورة المزمل من أن ذلك يحمل على قصد قتال الذين يستحقون القتال حسب المبادئ التي قررها القرآن وليس قتل الكفار والمشركين بسبب كفرهم وحسب. لأنه لم يرد كما قلنا أي خبر عن قتال النبي صلّى الله عليه وسلّم لكفار ومشركين موادين ومسالمين ومحايدين وغير معتدين وغير متآمرين وغير ناقضين بشكل ما.
وهناك أحاديث صحيحة عديدة تدعم ما ذكرناه. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن بريدة قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا
__________
(1) التاج ج 4 ص 326. [.....](2/38)
تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحوّلوا فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين.
فإن أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أنس قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلّوا وضمّوا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين» «2» .
وحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلّى الله عليه وسلّم فنهى عن قتل النساء والصبيان. وسئل النبيّ عن أهل الدار يبيّتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريّهم قال هم منهم» «3» . وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عطية القرظي قال: «عرضنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلّي سبيله فكنت ممّن لم ينبت فخلّي سبيلي» «4» .
وفي الحديث الأول بخاصة نقض لما قاله بعض المفسرين في سياق جملة لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ في الآية [256] من سورة البقرة وذكرناه قبل من أن هذه
__________
(1) التاج ج 4 ص 327- 329.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، ص 333 والمتبادر أن جملة (هم منهم) بسبيل عذر من يقتل بعض النساء والأولاد في التبييت العام الذي لا يمكن التمييز فيه بين الكبار والصغار والرجال والنساء ويظل الأصل وهي النهي عن قتل النساء والصبيان محكما. ويوم قريظة هو يوم قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم يهود بني قريظة عقب وقعة الخندق مما سوف نشرحه في سياق سورة الأحزاب.
(4) المصدر نفسه.(2/39)
الجملة منسوخة بالنسبة للمشركين من العرب ولا يقبل منهم غير الإسلام أو السيف. فليس في القرآن على ضوء ما قدمناه ما ينسخ ذلك بالنسبة للمشركين العرب. وفي هذا الحديث الصحيح إجازة بقبول الجزية من الأعداء المشركين ومعظم الجيوش والسرايا التي سيرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت على الأعداء المشركين من العرب. بل وإن صلح الحديبية الذي أشرنا إليه دليل على جواز الصلح مع المشركين العرب بدون جزية إذا ما كان في ذلك من مصلحة المسلمين. وفي سورة الأنفال آية تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنوح إلى السلم إذا جنح إليها الكفار الأعداء. وهي الآية [61] وهي مطلقة لا تشترط جزية ولا شرطا آخر، وفي هذا دليل على ما تقدم أيضا، والله تعالى أعلم.(2/40)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
في السورة تذكير بما كان من نكال الله في أصحاب الفيل في معرض الإنذار.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
. (1) أبابيل: جماعات وفرق يتبع بعضها بعضا. أو الجماعات الكثيرة وقيل إن واحدها أبيل، وقيل إنها جمع إبّالة وهي الحزمة، وهذا في نفس المعنى الأول.
(2) سجيل: الطين المتحجر وقيل إنها تعريب سنك كيل الفارسية التي تعني ذلك. وقد تكرر ورودها في القرآن مما يدل على أن دخولها في اللسان العربي قديم.
(3) العصف: ورق الزرع.
معنى آيات السورة واضح، وهي تذكر السامعين في معرض الإنذار بما كان من نكال الله في أصحاب الفيل فجعل كيدهم حابطا خاسرا حيث أرسل عليهم جماعات من الطير فرمتهم بحجارة طينية وجعلتهم كورق الزرع الممضوغ.(2/41)
وجمهور المفسرين «1» على أن المقصد من أصحاب الفيل هم الأحباش الذين غزوا مكة فإذا كان هذا صحيحا فإنه يؤيد الروايات التي ترويها الكتب العربية القديمة عن الغزوة التي تعرف في تاريخ العرب قبل الإسلام بغزوة الفيل والتي قام بها الأحباش بقيادة أبرهة. وسميت كذلك لأنه كان في الحملة الحبشية بعض الأفيال.
وملخص ما جاء في الروايات «2» أن الأحباش غزوا اليمن قبل البعثة النبوية بذريعة نصر النصارى الذين اضطهدهم الملك الحميري ذو نواس الذي كان يعتنق اليهودية وانتصروا عالى الدولة الحميرية ووطدوا سلطانهم في اليمن. وقد اضطهدوا بدورهم اليهود اليهودية وأخذوا يدعون العرب إلى النصرانية وينشئون الكنائس في اليمن وقد أنشئوا كنيسة كبرى سمتها الكتب العربية باسم القليس. غير أن العرب لم يستجيبوا إلى الدعوة وظلوا متعلقين بتقاليدهم وبالحج إلى الكعبة في الحجاز حتى أن بعضهم نجّس القليس فغضب الأحباش وأرادوا أن يخضعوا الحجاز لحكمهم ويهدموا الكعبة التي يتعلق بها العرب فجاءوا بحملة كبيرة فلما وصلت قرب مكة شرد أهل مكة إلى الجبال لأنهم رأوا أن لا طاقة لهم بها. ولكن الله حبس الفيل الكبير الذي كان في طليعة الحملة عن مكة فتوقفت الحملة، فسلط الله عليها جماعات كثيرة من الطيور تحمل بمناقيرها حجارة صغيرة من طين متحجر وأخذت ترمي بالحجارة على الأحباش فلا يكاد الحجر يصيب جسم الحبشي حتى يتهرأ. وقد تمزق شمل الحملة نتيجة لذلك ونجا الحجاز والكعبة. وقد كان لهذا الحادث ونتيجته ردّ فعل عظيم في بلاد العرب حتى صاروا يؤرخون أحداثهم بعام الفيل. وقد روي فيما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولد في هذا العام كما روي أن الحادث كان قبل ولادته بمدة تراوحت بين ثلاث عشرة سنة وأربعين سنة على اختلاف
__________
(1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والطبرسي إلخ.
(2) انظر تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة ج 1 ص 529- 560. وغزو الحبشة لليمن وسيطرتهم عليها مما أيدته المنقوشات والآثار القديمة أيضا انظر الجزء الخامس من كتابنا الجنس العربي ص 76 وما بعدها.(2/42)
الروايات، ومما ذكرته الروايات أن عربيا اسمه أبو رغال صار دليلا للحملة فمات في مكان اسمه المغمس فصار العرب يرجمون قبره استنكارا لخيانته لقومه وظلوا على ذلك دهرا.
وأسلوب الآيات ومضمونها يدلان أولا على أن الحادث كان لا يزال صداه يتردد على الألسنة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما نزلت السورة. وثانيا على أن العرب كانوا يعتقدون أن البلاء الذي وقع على الأحباش وهرّأ أجسامهم ومزق شملهم هو بلاء رباني. وثالثا على أن القصد من التذكير بالحادث الذي كان قريب العهد، وكان مالئا للأذهان هو الموعظة ودعوة السامعين أو زعماء قريش إلى الارعواء عن مواقف الأذى والجحود التي يقفونها. فالله الذي كان من قدرته أن يصب بلاءه على الأحباش ويمزقهم شرّ ممزق مع ما هم عليه من شدة البأس قادر على أن يصب بلاءه عليهم ويمزقهم. وهم يعرفون ذلك فعليهم أن يرعووا ويحذروا ويتركوا الأذى والعناد.
وهكذا يتسق الأسلوب والهدف القرآني في هذه القصة اتساقهما في القصص القرآنية عامة، على ما شرحنا قبل، أما ماهية الطير والحجارة فقد ذكر المفسرون القدماء «1» في صددها أقوالا تجعل الحادث في نطاق المعجزات والخوارق. ورووا فيما رووه أن مرضي الحصبة والجدري ظهرا لأول مرة في الحجاز «2» عقب الحادث كأنما يريدون أن يقولوا إن الطير رمتهم بحجارة أصيبوا منها بأحد المرضين. وقد أوّل الإمام الشيخ محمد عبده «3» ذلك بأن الحجارة كانت ملقحة بجرثومة الجدري. ولسنا نرى كبير طائل في تحقيق ماهية الحادث لذاته لأنه خارج عن نطاق الهدف القرآني. ولكنا نقول إن حرفية آيات السورة وظاهرها على كل حال في جانب كون الحادث بلاء ربانيا خارقا كما أن أسلوبها يساعد على القول إنها في صدد التذكير بحادث عظيم، وإن سامعي القرآن الذين كانوا حديثي عهد
__________
(1) انظر كتب التفسير المذكورة سابقا.
(2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والزمخشري.
(3) انظر تفسير السورة في تفسير جزء عم للإمام الشيخ محمد عبده.(2/43)
بالحادث كانوا يعتقدون أن الذي وقع على الأحباش هو بلاء رباني خارق في صورة زحوف من الطير كانت ترميهم بحجارة من سجيل.
هذا، ولقد أسهب المفسرون المطولون في صور الحادث وأوردوا روايات عديدة عن ماهية الطير والحجارة وأشكالها وكيفية رميها والإصابات التي كانت تحدثها ومقابلة عبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبرهة قبل الحادث وما دار بينه وبينه في صدد مواشي أهل مكة والكعبة، وأوردوا فيما أوردوه أن ابن عباس قال: إنه رأى من حجارة الطير قفيزا عند أم هانئ رضي الله عنها عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي مخططة بحمرة وأن عائشة رضي الله عنها قالت إنها رأت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين ... إلخ «1» ومع أن هذا الإسهاب لا يدخل في غرض التفسير وأن الروايات تتحمل الشك والتوقف، فإن هذا وذاك يدلان على أن العرب في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون أخبار الحادث العظيم ومشاهده.
__________
(1) انظر كتب التفسير المذكورة سابقا.(2/44)