فقال حسبي ففعل ذلك، فلما دخل عبد المطلب على الملك وكلمه، فأعجبه كلامه.
ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك، قال عبد المطلب: حاجتي إليك، أن ترد إلي مائتي بعير لي، فلما قال ذلك، قال له أبرهة: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم إني رجوت.
يعني: كرهت فيك حيث كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه. لا تكلمني فيه. قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه.
فقال: ما كان يمنع مني، قال: أنت وذلك فرد عليه الإبل، فانصرف عبد المطلب إلى قريش، وأخبرهم الخبر، وأمر بالخروج لمن بقي من أهل مكة إلى الجبال، وفي بطون الشعاب.
ثم إن عبد المطلب، أخذ بحلقتي باب الكعبة، وقال: اللهم إن المرء يمنع رحله، وذكر كلمات في ذلك. ثم أرسل حلقتي الباب، وانطلق ومن معه إلى الجبال، ينتظرون ما يصنع أبرهة بمكة. فلما أصبح أبرهة، تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وجيشه، وكان اسم الفيل محموداً، وكنيته أبو العباس. وكتبه أبو البكشوم، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي، حتى جاء إلى جنب الفيل. ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محموداً، وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك والله في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فاضطجع، فضربه ليقوم فأبى، فضربوه ليقوم فأبى وضربوا بالطبرزين فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة، فبرك وأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر، أمثال الخطاطيف. مع كل طير منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمصة والعدسة، لا تصيب أحداً منهم إلا هلك.
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه، ويتساءلون عن نفل بن حبيب، ليدلهم على الطريق، فخرج نفيل يشتد، حتى صعد الجبل، فخرجوا معه يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، فأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا معه فيسقط من جسده أنملة أنملة، كلما سقطت منه أنملة، خرجت منه مدة قيح ودم، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم مات، فملك ابنه يكثوم بن أبرهة ملك اليمن.
وروي في الخبر، أنه أول ما وقعت الحصبة، والجدري بأرض العرب ذلك العام. وقال بعضهم: كان أمر أصحاب الفيل، قبل مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلم، بثلاث وعشرين سنة. وقال بعضهم:
كان ذلك في عام مولده- عليه السلام-. وروي عن قبس بن مخرمة أنه قال: ولدت أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في عام الفيل. فنزل قوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ يعني:
كيف عاقب ربك أصحاب الفيل، بالحجارة، حين أرادوا هدم الكعبة.
قال تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ يعني: في خسارة. ويقال: معناه ألم يجعل(3/621)
صنيعهم في أباطيل وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ يعني: متتابعاً بعضها على أثر بعض، أرسل عليهم الله طيوراً بيضاً صغاراً. وقال عبيد بن عمير: أرسل عليهم طيراً بلقا من البحر، كأنها الخطاطيف. وروى عطاء عن ابن عباس قال: طيراً سوداً، جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً.
ثم قال تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال سعيد بن جبير، الحجارة أمثال الحمصة. وروي عن ابن عباس قال: رأيت عند أم هانئ من تلك الحجارة، مثل بعر الغنم، مخططة بحمرة.
وروى إسرائيل، عن جابر بن أسباط قال: طيراً كأنها رجال الهند، جاءت من قبل البحر، تحمل الحجارة في مناقيرها وأظافيرها، أكبرها كمبارك الإبل، وأصغرها كرؤوس الإنسان تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ يعني: من طين خلط بالحجارة، ويقال: طين مطبوخ كما يطبخ الآجُرْ. وذكر مقاتل، عن عكرمة قال: هي طير جاءت من قبل البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع، لم تر قبل يومئذ ولا بعده، فجعلت ترميهم بالحجارة، فتجدر جلودهم.
وكان أول يوم رأى فيه الجدري. ويقال: مكتوب في كل حجر اسم الرجل، واسم أبيه، ولا يصيب الرجل شيء، إلا نفذه فيها وقع على رأس رجل، إلا خرج من دبره، وما وقعت على جانبه، إلا خرجت من الجانب الآخر.
وقال وهب بن منبه بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال بالفارسية سنك وكل يعني: حجارة وطين. وروى موسى بن بشار عن عكرمة بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال: سنك وكل. ثم قال عز وجل: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ يعني: كزرع بالٍ، فأخبر الله تعالى أنه سلط على الجبابرة أضعف خلقه، كما سلط على النمرود بعوضة، فأكلت من دماغه أربعين يوماً، فمات من ذلك.
والله أعلم بالصواب.(3/622)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
سورة قريش
وهي أربع آيات مكية
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ قرأ ابن عامر لإلاف قريش، بغير ياء بعد الهمزة، والباقون بياء قبلها همزة، ومعناهما واحد، وهذا موصول بما قبله. يعني: أن الله تعالى، أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش، يعني: لتقر قريش بالحرم، ويجاورون البيت. فقال عز وجل:
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لإيلاف قريش يعني: فعل ذلك، ليؤلف قريشاً بهاتين الرحلتين، اللتين بهما عيشهم ومقامهم بمكة. وقال أهل اللغة: ألفت موضع كذا، أي: لزمته وألفنيه الله.
كما يقال: لزمته موضع كذا، ألزمنيه الله. وكرر لإيلاف على معنى التأكيد، كما يقال: أعطيتك المال لصيانة وجهك، وصيانتك عن جميع الناس.
وقال مجاهد: لئلاف قريش، يعني: لنعمتي على قريش، وقال سعيد بن جبير، أذكر نعمتي على قريش، ويقال: معناه لا يشق عليهم التوحيد، كما لا يشق عليهم رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قال مقاتل وذلك أن قريشاً، كانوا تجاراً، وكانوا يمتارون في الشتاء من الأردن وفلسطين، لأن ساحل البحر كان أدناها، فإذا كان الصيف تركوا طريق الشام، وأخذوا طريق اليمن، فشق ذلك عليهم، فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة، حتى حملوا الطعام في السفن إلى مكة للبيع، وجعل أهل مكة يخرجون إليهم على مسيرة ليلة، ويشترون فكفاهم الله تعالى مؤونة الشتاء والصيف.
ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
لأن رب هذا البيت، كفاهم مؤونة الخوف والجوع، فليألفوا العبادة، كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف وقال الزجاج: كانوا يترحلون في الشتاء إلى الشام، وفي الصيف إلى اليمن. وهذا موافق لما قال مقاتل: وقال السدي في الشتاء إلى اليمن، وفي(3/623)
الصيف إلى الشام، وهكذا قال القتبي. وروي عن أبي العالية، أنه قال: كانوا لا يقيمون بمكة صيفاً ولا شتاءً، فأمرهم الله تعالى بالمقام عند البيت، في العبادة.
ويقال معناه: قل لهم يا محمد صلّى الله عليه وسلم حتى يجتمعوا على الإيمان والتوحيد، وعبادة رب هذا البيت، كاجتماعهم على رحلة الشتاء والصيف لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
يعني: سيد وخالق هذا البيت، الذي صنع هذا الإحسان إليكم، حتى يكرمكم في الآخرة، كما أكرمكم في الدنيا الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ يعني: أشبعهم بعد الجوع الذي أصابهم، حتى جهدوا وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ يعني: من خوف الجهد، والعدو الغارة. وقال السدي آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ يعني: من خوف الجذام، والله تعالى أعلم بالصواب.(3/624)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
سورة الماعون
مختلف فيها وهي سبع آيات مكية
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قرأ الكسائي، أَرَأَيْتَ بغير ألف. وقرأ نافع بالألف بغير همزة، والباقون بالألف والهمزة، أَرَأَيْتَ. وهذه كلها لغات العرب، واللغة المعروفة بالألف والهمزة، ومعناه ألا ترى يا محمد صلّى الله عليه وسلم هذا الكافر الذي يكذب بالدين يعني:
بيوم القيامة. وقال: معناه ما تقول يا محمد في هذا الكافر، الذي يكذب بيوم القيامة، فكيف يكون حاله يوم القيامة. وقال قتادة: نزلت في وهب بن عايل، وقال جعدة بن هبيرة: نزلت في العاص بن وائل، ويقال: هذا تهديد لجميع الكفار.
ثم قال عز وجل: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ يعني: يدفع اليتيم عن حقه، ويقال: يمنع اليتيم حقه ويظلمه وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ يعني: لا يحث على طعام المسكين، ويقال: لا يطعم المسكين. ثم قال عز وجل: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ يعني: للمنافقين الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ يعني: لاهين عنها حتى يذهب وقتها. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ الناس بالصلاة، ولا يريدون بها وجه الله تعالى، حتى إذا رأوا الناس صلوا، وإذا لم يروا الناس لم يصلوا.
قوله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال مقاتل: يمنعون الزكاة، والماعون بلغة الحبش المال. وعن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه قال: يراءون بصلاتهم، ويمنعون الزكاة.
ويقال: الماعون يعني: المعروف كله، الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم. وعن أبي عبيد قال:
سألت عبد الله بن مسعود، - رضي الله عنه- عن الماعون، قال: الماعون ما يتعاطاه الناس(3/625)
فيما بينهم، مثل الفأس والقدوم والقدر والدلو ونحو ذلك. وروى وكيع، عن سالم بن عبد الله. قال: سمعت عكرمة يقول: الماعون: الفأس، والقدوم، والقدر، والدلو. قلت: من منع هذا فله الويل. قال من راءى بصلاة وسها عنها، ومنع هذا فله الويل. وقال القتبي:
الماعون الزكاة، ويقال: الماعون هو الماء والكلأ. وروي عن الفراء أنه قال: هو المال، والله تعالى أعلم بالصواب.(3/626)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
سورة الكوثر
وهي ثلاث آيات مكيّة
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يعني: الخير الكثير لفضيلة القرآن، ويقال العلم، وقال القتبي أحسبه «فَوْعَلَ» من الكثرة والخير الكثير، وقال مقاتل: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أراد به نهراً في الجنة طينه مسك أذفر ورضراضه اللؤلؤ أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وروى عطاء بن السائب عن محمد بن زياد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الكوثر نهر في الجنة حافتاه الذهب ومجراه على الدر والياقوت ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، تربته أطيب من المسك وروي عن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ فَإِذَا بِنَهْرٍ حَافَتَاهُ مِنَ اللُؤْلُؤْ المُجَوَّفِ يَعْنِي الخِيَامَ قُلْتُ مَا هذا يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: هذا الكَوثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ» .
ثُمَّ قال عز وجل فَصَلِّ لِرَبِّكَ يعني صلّ لله الصلوات الخمس وَانْحَرْ قال بعضهم:
انحر نفسك يعني اجتهد في الطاعة، وقال بعضهم: انحر يعني: استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم: وانحر يعني: البدنة يعني: اعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعم، انحر يعني:
استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم: وانحر يعني: البدنة يعني: اعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعم، وقال بعضهم: صل صلاة العيد يوم العيد وانحر البدنة ثم قال عز وجل: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ يعني: مبغضك وهو «العاص بن وائل السهمي» هو الأبتر يعني: الأبتر من الخير وذلك أن العاص بن وائل السهمي كان يقول لأصحابه: هذا الأبتر الذي لا عقب له. وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاغتم لذلك فنزل إن شانئك هو الأبتر وأنت يا محمد صلّى الله عليه وسلم ستذكر معي إذا ذكرت فرفع الله ذكره في كل مواطن ويقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ بأن يستوي بين السجدتين(3/627)
حتى يبدي نحره فخاطب بذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلم والمراد به جميع الأمة كما قال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ وأراد به هو وأصحابه، وروي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال يعني: ضع اليمين على الشمال في الصلاة إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ في ماله وولده وأهله والبتر: في اللغة الاستئصال والقطع وقال قتادة الأبتر الحقير الرقيق الذليل.(3/628)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
سورة الكافرون
وهي ست آيات مكيّة
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وذلك أن قريشاً قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن يَسُرّك بأن نتبعك عاماً ونترك ديننا ونتبع دينك وترجع إلى ديننا عاماً. فنزلت هذه السورة وقال مقاتل:
نزلت في المستهزئين وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وجرى على لسانه ما جرى فقال أبو جهل أخزاه الله لا يفارقنا إلا على أحد أمرين ندخل معك في بعض ما تعبد وتدخل معنا في بعض ديننا أو نتبرأ من آلهتنا وتتبرأ من إلهك فنزلت هذه السورة، وقال الكلبي: إنهم أتوا العباس فقالوا له: لو أن ابن أخيك استلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول وآمنا به فنزل قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، ويقال إنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك يؤذينا ونحن لا نؤذيه بحرمتك فدعاه أبو طالب وذكر ذلك له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنَّما أَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ» فقال ما هي؟ قال: «لا إله إلا الله» فنفروا عن هذه الكلمة فنزلت قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يعني: قل يا محمد لأهل مكة لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يعني: لاَ أَعْبُدُ بعد هذا مَا تَعْبُدُونَ أنتم من الأوثان ولا أرجع إلى دينكم وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني: لا تعبدون أنتم بعد هذا الرب الذي أعبده أنا حتى ترون ما يستقبلكم غدا وهذا كقوله عز وجل:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً [الكهف: 29] قوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ يعني: لست أنا في الحال عابداً لأصنامكم وما كنت عابداً لها قبل هذا لأني علمت مضرة عبادتها وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني: لستم عابدين في الحال لجهلكم وغفلتكم وقلة عقلكم. ثم قال عز وجل: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ يعني: قد أكملت عليكم الحجة فليس عليّ أن أجبركم على الإسلام فاثبتوا على دينكم حتى تروا ماذا يستقبلكم غداً وأنا أثبت على ديني الذي أكرمني الله تعالى به ولا أرجع إلى دينكم أبداً وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ بآية(3/629)
القتال، فيها دليل أن الرجل إذا رأى منكراً أو سمع قولاً منكراً فأنكره فلم يقبلوا منه لا يجب عليه أكثر من ذلك وإنما عليه أن يحفظ مذهبه وطريقه ويتركهم على مذهبهم وطريقهم. وقال الحسن سمعت شيخاً يحدث قال: بينما أسير مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم فسمع رجلاً يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فقال: «أَمَّا هذا فَقَدْ بَرِىء مِنَ الشِّرْكِ» وسمع رجلاً يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال:
«أَمَّا هذا فَقَدْ غَفَرَ الله تَعَالَى لَهُ» والله أعلم.(3/630)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
سورة النصر
وهي ثلاث آيات مكية
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وروى عبد الملك بن سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول كان أناس من المهاجرين قد وجدوا عمر وفي إدنائه ابن عباس رضي الله عنهما دونهم وكان يسأله فقال عمر: أما إني سأريكم منه اليوم ما تعرفون به فضله فسأله عن هذه السورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال بعضهم: أمر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجا أن يحمده ويستغفره فقال لابن عباس تكلم، فقال أعلمه الله متى يموت فقال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فهي آيتك من الموت فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، قال مقاتل لما نزلت هذه السورة قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فاستبشروا فسمع بذلك ابن عباس فبكى فقال النبي صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك فقال نعيت نفسك فقال:
«صَدَقْتَ» فعاش بعد هذه السورة سنتين. وروى أبو عبيد بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: «سُبْحَانَكَ رَبِّي وَبِحَمِدكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وقال علي رضي الله عنه لما نزلت هذه السورة مرض النبيّ صلّى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل وتوفي بعد أيام. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني: إذا أتاك نصر من الله تعالى على الأعداء من قريش وغيرهم، وَالْفَتْحُ يعني: فتح مكة والطائف وغيرها وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً يعني: جماعة جماعة وقبيلة قبيلة، وكان قبل ذلك يدخلون واحداً واحداً فدخلوا فوجاً فوجاً فإذا رأيت ذلك فاعلم أنك ميت فاستعد للموت بكثرة التسبيح والاستغفار فذلك قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يعني: سبحه، ويقال: يعني: سبح صل لربك وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً يعني: مسبحاً وذلك لمن تاب.(3/631)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
سورة المسد
وهي خمس آيات مكية
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ يعني: خسر أبو لهب وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] صعد على الصفا ونادى فاجتمعوا فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ وَأَدْعُوهُمْ إِلَى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فَقُولُوا أَشْهَدْ لَكُمْ بِهَا عِنْدَ رَبِّي» فأنكروا ذلك فقال أبو لهب: تبا لك سائر الأيام ألهذا دعوتنا، وروي في خبر آخر أنه اتخذ طعاماً ودعاهم ثم قال: «أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَأَطِيعُوا تَهْتَدُوا» فقال أبو لهب:
تبا لك سائر الأيام ألهذا دعوتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ يعني: خسرت يدا أبي لهب عن التوحيد وَتَبَّ يعني: وقد خسر ويقال: إنما ذكر اليد وأراد به هو وقال مقاتل: تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وتب يعني: خسر نفسه وكان أبو لهب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم واسمه «عبد العزى» ولهذا ذكره بالكنية ولم يذكر اسمه لأن اسمه كان منسوباً إلى صنم وقال بعضهم: كنيته كان اسمه ثم قال عز وجل: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ يعني: ما نفعه ماله في الآخرة إذ كفر في الدنيا وَما كَسَبَ يعني: ما ينفعه ولده في الآخرة إذا كفر في الدنيا والكسب أراد به الولد لأن ولد الرجل من كسبه ثم قال عز وجل: سَيَصْلى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ يعني: يدخل في النار ذات لهب يعني: ذات شعل ثم قال عز وجل: وَامْرَأَتُهُ يعني: امرأته تدخل النار معه حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قرأ عاصم حمالة الحطب بنصب الهاء ويكون على معنى الذم والشين ومعناه أعني حمالة الحطب والباقون بالضم على معنى الابتداء وحمالة الحطب جعل نعتاً لها فقال: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ يعني: حمالة الخطايا والذنوب. ويقال: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ يعني: تمشي بالنميمة فسمى النميمة حطباً لأنه يلقي بني القوم العداوة والبغضاء وكانت تمشي بالنميمة في عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ويقال:
كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه بالليل من بغضها لهم حتى بلغ النبي(3/632)
- عليه السلام- شدة وعناء فحملت ذات ليلة حزمة شوك لكي تطرحها في طريقهم فوضعتها على جدار وشدتها بحبل من ليف على صدرها فأتاها جبريل- عليه السلام- ومده خلف الجدار وخنقها حتى ماتت فذلك قوله: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي من ليف وقال أكثر أهل التفسير فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ يعني: في الآخرة في عنقها سلسلة من حديد وتحتها نار وفوقها نار، وروى سعيد بن جبير رضي الله عنه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال:
لما نزلت تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ جاءت امرأة أبي لهب فقال أبو بكر رضي الله عنه لو تنحَّيْتَ يا رسول الله فإنها امرأة بذية فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «سَيُحَال بَيْنِي وَبَيْنَهَا» فدخلت فلم تره فقالت لأبي بكر رضي الله عنه هجاناً صاحبك فقال والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله قالت إنك لمصدق فاندفعت راجعة فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ما رأتك فقال: «لَمْ يَزَلْ بَيْنِي وَبَيْنَها مَلَكٌ يَسْتُرُنِي عَنْهَا حَتَّى رَجِعَتْ» . وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي يزيد بن زيد قال لما نزلت هذه السورة قيل لامرأة أبي لهب أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد هجاك فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في الخلاء وقالت يا محمد صلّى الله عليه وسلم على ماذا تهجوني فقال: «أَمَا وَلله مَا أَنَا هَجَوْتُكِ مَا هَجَاكِ إلاَّ الله عَزَّ وَجَلَّ» قالت هل رأيتني أحمل الحطب أو رأيت في جيدي حبل من مسد؟ وقال مجاهد:
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ مثل حديد البكرة، وقال غيره يعني عروة سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً والله أعلم.(3/633)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
سورة الإخلاص
مختلف فيها وهي أربع آيات مكيّة
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وذلك أن قريشاً قالوا له صِفْ لنا ربَّك الذي تعبده وتدعونا إليه ما هو؟ فأنزل الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعني: قل يا محمد للكفار إني ربي الذي أعبده هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعني: فرد لا نظير له ولا شبيه له ولا شريك له ولا معين له ثم قال عز وجل: اللَّهُ الصَّمَدُ يعني: الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب، وقال السدي وعكرمة ومجاهد الصَّمَدُ الذي لا جوف له، وعن قتادة قال كان إبليس لعنه الله ينظر إلى آدم- عليه السلام- ودخل في فيه وخرج من دبره يعني حين كان صلصالاً فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الصمد الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ويتضرعون إليه عند مسألتهم وقال أبو وائل الصَّمَدُ السيد الذي انتهى سؤدده وكذلك قال سعيد بن جبير وقال الحسن البصري رضي الله عنه الصَّمَدُ الدائم، وقال قتادة الصَّمَدُ الباقي ويقال الكافي وقال محمد بن كعب القرظي الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أحد ويقال: الصَّمَدُ التام في سؤدده وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: الصَّمَدُ الذي لا يخاف من فوقه ولا يرجو من تحته ويُصْمَد إليه في الحوائج ثم قال عز وجل لَمْ يَلِدْ يعني: لم يكن له ولد يرث ملكه.
وَلَمْ يُولَدْ يعني: لم يكن له والد يرث عنه ملكه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يعني: لم يكن له نظير ولا شريك فينازعه في عظمته وملكه وقال مقاتل: إن مشركي العرب قالوا إن الملائكة كذا وكذا وقالت اليهود والنصارى في عزير والمسيح ما قالت فكذبهم الله تعالى وأبرأ نفسه مما قالوا فقال: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، قرأ عاصم في رواية حفص كفواً بغير همزة وقرأ حمزة بسكوت الفاء مهموزاً والباقون بضم الفاء مهموزاً بهمزة وكل ذلك يرجع إلى معنى(3/634)
واحد وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بعد صلاة الفجر إحدى عشرة مرة لم يلحقه ذنب يومئذٍ ولو اجتهد الشيطان.
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُم أَنْ يَقْرَأ القُرآنَ فِي لَيْلَةٍ؟» فقيل يا رسول الله من يطيق ذلك؟ قال: «أَنْ يَقْرَأ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ثَلاَثَ مَرَاتٍ» ، وروي عن ابن شهاب عن الزهري رضي الله عنه قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«من قرأ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ مَرَّةً فَكَأَنَّمَا قَرَأ ثُلُثَ القُرْآنِ» والله أعلم.(3/635)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
سورة الفلق
مختلف فيها وهي خمس آيات مكية
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ يعني: قل يا محمد أعتصم وأستعيذ وأستعين بخالق الخلق، والفلق الخلق وأنما سمي الخلق فلقاً لأنهم فُلِقُوا من آبائهم وأمهاتهم ويقال: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ يعني: بخالق الصبح، ويقال: فالق الحب والنوى قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام: 95] وقال فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: 96] ويقال الفلق واد في جهنم، ويقال: جب فِي النَّارِ.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الفَلَقُ شَجَرَةٌ فِي جَهَنَّمَ فَإِنْ أَرَادَ الله أنْ يُعَذِّبَ الكَافِرَ بِأَشَدِّ العَذَابِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا» .
وروي عن كعب الأحبار أنه دخل في بعض الكنائس التي للروم فقال: أخسر عمل وأضلُّ قوم قد رضيت لكم بالفلق فقيل له ما الفلق يا كعب؟ قال: بئر في النار إذا فتح بابها صاح جميع أهل النار من شدة عذابها.
ثم قال عز وجل: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ قال الجن والإنس وقال الكلبي من شر ما خلق يعني: من شر ذي شر. ثم قال عز وجل: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ يعني: ظلمة الليل إذا دخل سواد الليل في ضوء النهار ويقال: إِذا وَقَبَ يعني: إذا جاء وأدبر وقال القتبي:
الغاسق الليل والغسق الظلمة ويقال: الغاسق القمر إذا انكسف واسودّ وإِذا وَقَبَ يعني:
إذا دخل في الكسوف.
ثم قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ يعني: الساحرات المهيجات اللواتي ينفثن في العقد ثم قال عز وجل: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ يعني: كل ذي حسد أراد به لبيد بن(3/636)
أعصم اليهودي ويقال لبيد بن عاصم. وروى الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال سحر النبيّ صلّى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود عقد له عقداً فاشتكى لذلك أياماً فأتاه جبريل- عليه السلام- فقال له: إن رجلاً من اليهود سحرك فبعث عليّا رضي الله عنه واستخرجها فحلّها فجعل كلما حل عقدة وجد النبي صلّى الله عليه وسلم لذلك خفة حتى حلها كلها فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال فما ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلم ذلك لليهود.
وروي في خبر آخر أن لبيد بن أعصم اتخذ لعبة للنبي صلّى الله عليه وسلم وأخذ من عائشة رضي الله عنها فأفحل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل في اللعبة أحد عشرة عقدة ثم ألقاها في بئر، وألقى فوقها صخرة فاشتكى من ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم شكواً شديداً فصارت أعضاؤه مثل العقد فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان إذ أتاه ملكان أحدهما جلس عند رأسه والآخر عند قدميه فالذي عند قدميه يقول للذي عند رأسه ما شكواه قال السحر قال: من فعل به؟ قال لبيد بن أعصم اليهودي قال فأين صنع السحر قال في بئر كذا قال: ماذا رأوه يبعث إلى تلك البئر فنزح ماؤها فإنه انتهى إلى الصخرة فإذا رأها فليقلعها فإن تحتها كؤبة وهي كؤبة قد سقطت عنقها وفيه إحدى عشرة عقدة فيحرق في النار فيبرأ إن شاء الله تعالى فاستيقظ النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقد فهم ما قالا فبعث عمار بن ياسر وعليا رضي الله عنهما إلى تلك البئر في رهط من أصحابه فوجدوها كما وصف النبيّ صلّى الله عليه وسلم لهم فنزلت هاتان السورتان وهي إحدى عشرة آية فكلما قرأ آية حل منها عقدة حتى انحلت كلها ثم أحرقها بالنار فبرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وروي في بعض الأخبار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ما سأل منها سائل ولا استعاذ مستعيذ بمثلها قط وهذه الآية دليل أن الرقية جائزة إن كنت بذكر الله تعالى وبكتابه والله أعلم بالصواب.(3/637)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
سورة الناس
مختلف فيها وهي ست آيات مكية
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ يقول أستعيذ بالله وخالق الناس ويقال: أستعيذ بالله الذي هو رازق الخلق، ثم قال عز وجل: مَلِكِ النَّاسِ يعني: خالق الناس ومالكهم وله نفاذ الأمر والملك فيهم، ثم قال عز وجل: إِلهِ النَّاسِ يعني: خالق الناس ومعطيهم ومانعهم مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعني من شر الوسواس يعني من شر الشيطان، لأني لا أستطيع أن أحفظ نفسي من شره لأنه يجري في نفس الإنسان مجرى الدم ولا يراه بشر والله تعالى قادر على حفظي من شره ومن وسوسته.
ثم وصف الشيطان فقال: الْخَنَّاسِ قال مجاهد: هو منبسط على قلب الإنسان إذا ذكر الله خنس وانقبض فإذا عقل انبسط على قلبه ويقال له: خنوس كخنوس القنفذ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يعني: يدخل في صدور الجن كما يدخل في صدور الإنس ويوسوس لهم ويقال: النَّاسِ في هذا الموضع يصلح للجن والإنس فإذا أراد به الجن فمعناه: يوسوس في صدور المؤمنين الذين هم جن يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ يعني: الذين هم من بني آدم ويقال: النَّاسِ معطوف على الوسواس ومعناه: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ وَمِن شر الناس كما قال في آية أخرى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وقال مقاتل روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال له جبريل- عليه السلام- ألا أخبرك يا محمد صلّى الله عليه وسلم بأفضل ما يتعوذ به؟ قلت: «وَمَا هُوَ؟» قال المعوذتان.
وروى علقمة عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا تَعَوَّذَ المُعَوِّذُونَ بِمِثْلِ(3/638)
المَعُوذَتَيْنِ» . وروي عن الحسن البصري في قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قال إن من الناس شياطين فتعوذوا بالله من الشياطين يعني: شياطين الجن والإنس، وقال هما شيطانان فأما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فإنه علانية وروى أبو معاوية عن عثمان بن واقد قال أرسلني أبي إلى محمد بن المنكدر أسأله عن المعوذتين أهما من كتاب الله تعالى؟ قال: من لم يزعم أنهما من كتاب الله تعالى فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين ورسول رب العالمين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة والمقربين وأهل طاعتك أجمعين. ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل. ووافق الفراغ من كتاب هذا التفسير المبارك لمولانا الإمام العالم العلامة أبي الليث نصر بن إبراهيم السمرقندي رضي الله عنه آمين وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه ونفعنا بعلومه ومدده وأسراره في الدارين آمين في يوم الأحد المبارك مستهل محرم الحرام افتتاح سنة اثنين وتسعين وتسعمائة المباركة. أحسن الله عاقبتها بمحمد وآله) .(3/639)