[الجزء الاول]
ترجمة المؤلف
«1»
اسمه
: هو نصر بن محمد، بن أحمد، بن إبراهيم، أبو الليث، الفقيه السمرقندي، المشهور ب: إمام الهدى.
وذكر له كحالة في «معجم المؤلفين» صفاتا منها: «فقيه، مفسر، محدث، حافظ، صوفي» اه.
أما كونه فقيها فهذا صحيح، كونه ذكر في عدد من «طبقات الحنفية» . ويدل على فقهه وسعة علمه كتابيه: «المقدمة في الفقه» ، «وشرح الجامع الصغير» .
وهو مفسر أيضا، يدل على ذلك كتابه هذا «بحر العلوم» وقد ذكره الداوودي في «طبقات المفسرين» .
أما عن أنه محدث حافظ «2» ففي ذلك نظر، فقد قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» : وتروج عليه الأحاديث الموضوعة إلّا أن له رواية، يروي عن: محمد بن الفضل بن أنيف البخاري اه.
وروى عنه: أبو بكر محمد بن عبد الرحمن الترمذي، وغيره.
وهو صوفي له باع في علومهم، فمن ذلك كتابه: «بستان العارفين» .
وفي «طبقات الحنفية» للكنوي: أنه أخذ عن، أبي جعفر الهندواني، عن أبي القاسم الصفار، عن نصير بن يحيى، عن محمد بن سماعة، عن أبي يوسف.
وهو حنفي المذهب ذكر ذلك في «تاج التراجم» ، و «الجواهر المضية» ، و «الفوائد البهية» وغير ذلك. وقد أخطئوا في «دائرة المعارف الإسلامية» «3» حيث عدّوه فقيها حنبليا.
مؤلفاته
: 1- بحر العلوم، كتاب في التفسير.
وقد شكّك الزركلي في «الأعلام» «4» في نسبة هذا المخطوط إلى أبي الليث السمرقندي، مقلدا بذلك حاجي خليفة في «كشف الظنون» «5» ونسبه إلى سمرقندي آخر اسمه: علي، من أبناء المائة التاسعة.
__________
(1) أنظر ترجمته في: طبقات المفسرين 2/ 345، سير أعلام النبلاء 16/ 322، تاج التراجم 58- 59، الجواهر المضيئة 2/ 160، الفوائد البهية 221، كشف الظنون 243، 334، معجم المؤلفين 13/ 91، معجم سركيس 1045، إيضاح المكنون 1/ 474.
(2) أخطأ كحالة في معجم المؤلفين 13/ 91 فقد أحاله إلى «تذكرة الحفاظ» ولم يذكره الذهبي.
(3) دائرة المعارف الإسلامية- النسخة المصرية- 1/ 396.
(4) الأعلام 8/ 28.
(5) كشف الظنون 1/ 225.(1/3)
والصواب أنه لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي، المترجم له.
إلّا أن كلام حاجي خليفة صحيح من حيث نسبة تفسير «بحر العلوم» إلى علاء الدين علي بن يحيى السمرقندي القرماني، المتوفى في حدود سنة 860 ب: لارندة. وهو شيخ علاء الدين البخاري. إلا أنه لم يتنبه إلى وجود تفسيرين لسمرقنديين يحملان نفس العنوان. ولقد ذكر في «الشقائق النعمانية» أنه لم يكمله، بل بلغ فيه إلى سورة المجادلة. بينما «بحر العلوم» الذي ألفه أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي فهو تام- وسيأتي في وصف المخطوطة بيان ذلك-.
ففي فهرس «المكتبة العبدلية» «1» نسخة من مخطوطة «بحر العلوم» لعلاء الدين علي بن يحيى السمرقندي المتأخر. الجزء الأول- من سورة الفاتحة، وتنتهي إلى قوله تعالى، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً من سورة المائدة ... وفيه ما نصه: نسخت مسودة كتاب علاء الدين السمرقندي المسمى «ببحر العلوم» فوق لفظ نسخت- يعني: ولي بن مصطفى بن إسحاق، من أحباس الوزير خير الدين على المكتبة الصادقية سنة 1292.
ومن مؤلفاته أيضا.
2- تنبيه الغافلين. ط.
3- خزانة الفقه، على مذهب أبي حنيفة. ط.
4- وبستان العارفين في الآداب الشرعية. ط.
5- عمدة العقائد. خ.
6- فضائل رمضان. خ.
7- المقدمة، في الفقه. ط.
8- شرح الجامع الصغير، في الفقه.
9- عيون المسائل، خ.
10- دقائق الأخبار في بيان أهل الجنة وأهوال النار. خ.
11- مختلف الرواية، في الخلافيات بين أبي حنيفة ومالك والشافعي. خ.
12- شرعة الإسلام، فقه. خ.
13- النوازل من الفتاوى. خ.
14- تفسير جزء عم يتساءلون، موجز. خ.
15- رسالة في أصول الدين. خ.
__________
(1) أنظر فهرس جامع الزيتونة، المكتبة العبدلية ص (40) .(1/4)
وفاته
: قال الكنوي: ذكر صاحب «مدينة العلوم» وفاته ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة خلت من جمادي الآخرة سنة 393، وذكر علي القاري في طبقاته: أنه مات بكورة بلخ سنة 376، وذكر هو في «شرح الشفا» لعياض أنه مات سنة 373 هـ، وذكر صاحب «الكشف» ، وفاته عند ذكر «البستان» ، و «التفسير» ، و «تنبيه الغافلين» سنة 325، وعند ذكر «خزانة الفقه» ، سنة 383. وسيأتي عن الكفوي أنه مات سنة 373.
وصف المخطوط
اعتمدنا في تحقيق هذا التفسير على مخطوطتين. الأولى: بدار الكتب المصرية. رقم 56 تفسير.
خطها: نسخ دقيق واضح، ميزت الآيات بالحمرة، والتفسير بالمداد الأسود.
أوراقها: 543.
مسطرتها: 29.
وفي آخرها ذكر تاريخ الفراغ من كتابتها في يوم الأحد مستهل محرم من سنة 992 هـ.
وقد اعتبرناها النسخة الأصل، لأنها أكثر ضبطا وقليلة الأخطاء.
والثانية: هي نسخة جامعة «أدينبرج» رقم 3688 مكتبة شستربيتي. فيها نقص لأربع سور من الحجر إلى آخر الكهف. وهي في أربعة أجزاء.
خطها: مشرقي.
أوراقها: 352 مسطرتها: 24 في أولها فهرس المواضع السور وللمواضيع.
ولم يظهر تاريخ النسخ عليها. إلا أن هذه النسخة تعتبر متقدمة بالنسبة للمخطوطة الأولى، وهناك تباين ظاهر بين المخطوطتين بالنسبة للنص، وكأن هذه المخطوطة مسودة لكثرة الأخطاء التي فيها- وهي ليست كذلك- ووجود تقديم وتأخير بين بعض الجمل والعبارات، إضافة إلى الأخطاء النحوية والصرفية الموجودة.
ولم نشر إلى اختلاف النسختين لعدم ضرورة ذلك، ولاعتبار النسخة الأولى هي النسخة الصحيحة نسبيا والمعتمدة في التحقيق، أما النسخة الثانية فقد استخدمناها كنسخة مساعدة في حال التعذر في قراءة نص ما، أو في حال وجود اضطراب أو إشكال.(1/5)
آخر المخطوطة من التفسير، وتنتهي بتفسير سورة الناس. وعليها تاريخ النسخ آخر المخطوطة لوحة (ب) وتنتهي بتفسير سورة الناس وعليها تاريخ النسخ 644(1/10)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف
باب الحث على طلب التفسير
قال: أخبرنا أبو الفضل جبريل بن أحمد اليوناني قال: أنبأنا أبو محمد لقمان بن حكيم بن خلف الفرغاني بأوزكندة قال: حدثنا الفقيه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي رحمة الله عليه، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن الفضل قال: أخبرنا محمد بن جعفر الكرابيسي، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدّثنا وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن مرة الهمذاني قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد العلم فليثر القرآن- وفي رواية أخرى فليؤثر القرآن- فإن فيه علم الأولين والآخرين. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: مَا من شيء إلا وعلمه في القرآن غير أن آراء الرجال تعجز عنه.
حدّثنا أبو جعفر محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا محمد بن الفضل الضبّي، عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السّلمي، قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقرءون على النبيّ صلّى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى، حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل.
قال الفقيه: حدثنا أبي قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد المعلم قال: حدثنا أبو عمران الفريابي قال: حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن حبيب قال: حدثنا داود بن المخبر قال:
حدّثنا عباد بن كثير، عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته: «أَيُّها النّاس، قد بين الله لكم في محكم كتابه ما أحلّ لكم وما حرّم عليكم، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وآمنوا بمتشابهه، واعملوا بمحكمه، واعتبروا بأمثاله» قال: فلما أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن يحل حلاله ويحرم حرامه، ثم لا يمكن أن يحل حلاله، ويحرم حرامه إلا بعد ما يعلم تفسيره. ولأن الله تعالى أنزل القرآن هدى للناس، وجعله حجة على جميع الخلق لقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] فلما كان القرآن حجة على(1/11)
العرب والعجم، ثم لا يكون حجة عليهم إلا بعد تفسيره برأيه، فدلّ ذلك على أن طلب تفسيره وتأويله واجب.
ولكن لا يجوز لأحد أن يفسر القرآن من ذات نفسه برأيه، ما لم يتعلم ويعرف وجوه اللغة وأحوال التنزيل، لأنه روي في الخبر ما حدثنا به محمد بن الفضيل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . وروى أبو صالح، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من فسّر القرآن برأيه فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» .
قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو حفص، عن ابن مجاهد قال: قال رجل لأبي: أنت الذي تفسر القرآن برأيك؟ فبكى أبي ثم قال: إني إذا لجريء. لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم رضي الله عنهم.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: 31] فقال: لا أدري ما الأبّ. فقيل له: قل من ذات نفسك يا خليفة رسول الله. قال:
أيّ سماء تظلّني وأي أرض تقلّني، إذا قلت في القرآن بما لا أعلم. فإذا لم يعلم الرجل وجوه اللغة وأحوال التنزيل، فتعلم التفسير وتكلف حفظه فلا بأس بذلك، ويكون ذلك على سبيل الحكاية. والله أعلم.(1/12)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال: حدثنا السراج قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال:
حدثنا خالد، عن داود، عن عامر قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يكتب: باسمك اللهم فلما نزل في سورة هود بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41] كتب: بسم الله فلما نزل في سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] كتب بسم الله الرحمن فلما نزل في سورة النمل إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] كتب: بسم الله الرحمن الرحيم.
ففي هذا الخبر دليل على أنه ليس من أول كل سورة، ولكنه بعض آية من كتاب الله تعالى من سورة النمل. فأما تفسير قوله: بِسْمِ اللَّهِ، يعني: بدأت باسم الله، ولكن لم يذكر بدأت، لأن الحال ينبئ أنك مبتدئ فيستغنى عن ذكره. وأصله: باسم الله بالألف، ولكن حذفت من الاسم لكثرة الاستعمال، لأنها ألف وصل، وليست بأصلية، بدليل أنها تسقط عند التصغير، فتقول سميّ. وقال بعضهم: معنى قوله بِسْمِ اللَّهِ، يعني: بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته، وهذا تعليم من الله تعالى لعباده، ليذكروا اسم الله تعالى عند افتتاح القراءة وغيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة اسم الله تعالى. وقوله اللَّهِ هو اسم موضوع ليس له اشتقاق، وهو أجلّ من أن يذكر له الاشتقاق، وهو قول الكسائي. قال أبو الليث رحمه الله: هكذا سمعت أبا جعفر يقول: روي عن محمد بن الحسن أنه قال: هو اسم موضوع ليس له اشتقاق. وروي عن الضحاك أنه قال: إنّما سمي اللَّهِ إلها، لأن الخلق يولهون إليه في قضاء حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد البصري أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه، بنصب اللام، ويألهون بكسر اللام أيضا، وهما لغتان وقيل أيضا: إنه اشتق من الارتفاع.
وكانت العرب تقول للشيء المرتفع «لاه» ، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: طلعت لاهة، غربت لاهة وقيل أيضا: إنما سمي اللَّهِ، لأنه لا تدركه الأبصار، «ولاه» معناه احتجب كما قال القائل:
لاه ربّي عن الخلائق طرّا ... خالق الخلق لا يرى ويرانا(1/13)
وقيل أيضا: سمي اللَّهِ لأنه يوله قلوب العباد بحبه.
وأما «الرحمن» فالعاطف على جميع خلقه بالرزق لهم، ولا يزيد في رزق التقيّ لأجل تقاه، ولا ينقص من رزق الفاجر لأجل فجوره. وما كان في لغة العرب على ميزان «فعلان» يراد به المبالغة في وصفه، كما يقال: شبعان، وغضبان، إذا امتلأ غضبا. فلهذا سمى نفسه رحمانا، لأن رحمته وسعت كل شيء، فلا يجوز أن يقال لغير الله تعالى «الرحمن» ، لأن هذا الوصف لا يوجد في غيره.
وأما «الرحيم» فالرفيق بالمؤمنين خاصة، يستر عليهم ذنوبهم في الدنيا، ويرحمهم في الآخرة، ويدخلهم الجنة. وقيل أيضا: إنما سمى نفسه رحيما، لأنه لا يكلف عباده جميع ما يطبقون، وكل ملك يكلف عباده جميع ما يطيقون، فليس برحيم.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ قال:
اسمه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما الرحمن فهو عون لمن آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما «الرحيم» فلمن تاب وآمن وعمل صالحاً.
وقد فسره بعضهم على الحروف، وروى عبد الرحمن المديني، عن عبد الله بن عمر:
أن عثمان بن عفان- رضي الله عنهم- سأل صلى الله عليه وسلم عن تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال:
أما الباء: فبلاء الله وروحه، ونصره وبهاؤه وأما السين: فسناء الله، وأما الميم: فملك الله وأما الله: فلا إله غيره وأما الرحمن: فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم:
فالرفيق بالمؤمنين خاصة.
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: الباء، بهاؤه، والسين: سناؤه ولا شيء أعلى منه، والميم: ملكه، وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير، فلا شيء يعازه. وقد قيل: إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه فالباء: مفتاح اسمه بصير، والسين: مفتاح اسمه سميع، والميم: مفتاح اسمه ملك، والألف: مفتاح اسمه الله، واللام: مفتاح اسمه لطيف، والهاء: مفتاح اسمه هادي، والراء: مفتاح اسمه رزاق، والحاء: مفتاح اسمه حليم، والنون: مفتاح اسمه نور. ومعنى هذا كله: دعاء الله عند الافتتاح.(1/14)
سبع آيات مدنية روي عن مجاهد أنه قال: سورة فاتحة الكتاب مدنية، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية. ويقال: نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة. حدثنا الحاكم أبو الفضل، محمد بن الحسين الحدادي قال: حدثنا أبو حامد المروزي قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا عمر بن يونس قال: حدثنا جهضم بن عبد الله بن العلاء عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ فِي كِتَابِ الله لَسُورَةً مَا أَنْزَلَ الله عَلَى نَبِيٍ مِثْلَهَا، فسأله أبي بن كعب عنها فقال: إنِّي لأرْجُو أنْ لا تَخْرُجَ مِنَ البَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا، فجعلتُ أتبطَّأ، ثم سأله أبيٌّ عنها فقال: كَيْفَ تَقْرَأُ فِي صَلاتِكَ؟ قال: بأمِّ الكتاب.
فقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالقُرْآنِ مِثْلُهَا، وَإنَّهَا السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ» وقال بعضهم: السبع المثاني، هي السبع الطوال سورة: البقرة، وآل عمران، والخمس التي بعدها، وسماها مثاني لذكر القصص فيها مرتين. وقال أكثر أهل العلم: هي سورة الفاتحة وإنما سميت السبع، لأنها سبع آيات وإنما سميت المثاني، لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة.
وقال: حدثنا أبي قال: حدّثنا أبو عبد الله، محمد بن حامد الخزعوني قال: حدّثنا علي بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مروان، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي(1/15)
صالح، مولى أم هانئ، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ قال:
الشكر لله. ومعنى قول ابن عباس: الشكر لله، يعني الشكر لله على نعمائه كلها وقد قيل:
(الحمد لله) يعني الوحدانية لله. وقد قيل: الألوهية لله. وروي عن قتادة أنه قال: معناه الحمد لله، الذى لم يجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين. ثم معنى قوله (الحمد لله) قال بعضهم: «قل» فيه مضمر يعني: قُلِ: الحمد لِلَّهِ. وقال بعضهم: حمد الرب نفسه، ليعلم عباده فيحمدوه.
وقال أهل اللغة: الحمد هو الثناء الجميل، وحمد الله تعالى هو: الثناء عليه بصفاته الحسنى، وبما أنعم على عباده، ويكون في الحمد معنى الشكر وفيه معنى المدح وهو أعم من الشكر، لأن الحمد يوضع موضع الشكر، ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وقال بعضهم:
الشكر أعم، لأنه باللسان وبالجوارح وبالقلب، والحمد يكون باللسان خاصة. كما قال اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13] .
وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وذلك إن آدم عليه السلام، قال حين عطس: الحمد لله فقال الله تعالى: يرحمك الله، فسبقت رحمته غضبه. وقال الله تعالى لنوح: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: 28] وقال إبراهيم- عليه السلام-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [إبراهيم: 39] وقال في قصة داود وسليمان: وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل: 15] وقال لمحمد- عليه السلام-: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء: 111] وقال أهل الجنة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] فهي كلمة كل شاكر.
وقوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: سيد العالمين. وهو رب كل ذي روح تدب على وجه الأرض. ويقال: معنى قوله رَبِّ الْعالَمِينَ: خالق الخلق ورازقهم ومربيهم ومحولهم من حال إلى حال، من نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة.
والرب في اللغة: هو السيد قال الله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: 50] ، يعني إلى سيدك. والربّ: هو المالك يقال: ربّ الدار، وربّ الدابة والرب هو المربي من قولك: ربى يربي. وقوله: (العالمين) كل ذي روح ويقال: كل من كان له عقل يخاطب، مثل بني آدم والملائكة والجن، ولا يقع على البهائم ولا على غيرها. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن لله تَعَالَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ألْفَ عَالَمٍ، وَإنَّ دُنْيَاكُمْ مِنْهَا عَالَمٌ وَاحِدٌ» ويقال: كل صنف من الحيوان عالم على حده.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال في رواية الكلبي: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر. وقال بعض أهل اللغة: هذا اللفظ شنيع، فلو قال: هما اسمان لطيفان، لكان(1/16)
أحسن ولكن معناه عندنا- والله أعلم- أنه أراد بالرقة الرحمة، يقال: رق فلان لفلان إذا رحمه. يقال: رق يرق إذا رحم. وقوله: أحدهما أرق من الآخر قال بعضهم: الرحمن أرق، لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين والكافرين وقال بعضهم: الرحيم أرق، لأنه في الدنيا وفي الآخرة. وقال بعضهم: كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه، فلهذا المعنى لم يبين، وقال: أحدهما أرق من الآخر، يعني كل واحد منهما أرق من الآخر.
قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو عمرو بن العلاء وابن عامر: ملك بغير الألف، وقرأ عاصم والكسائي بالألف. فأما من قرأ بالألف قال: لأن المالك أبلغ في الوصف، لأنه يقال: مالك الدار، ومالك الدابة، ولا يقال ملك: إلا لملك من ملوك.
وأما الذي قرأ: ملك بغير ألف قال: «لأن الملك أبلغ في الوصف، لأنك إذا قلت: فلان ملك هذه البلدة، يكون ذلك كناية عن الولاية دون الملك وإذا قلت فلان مالك هذه البلدة، كان ذلك عبارة عن ملك الحقيقة. وروى مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتتحون الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وكلهم يقرءون مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف. قال الفقيه- رحمه الله-: سمعت أبي يحكي بإسناده عن أبي عبد الله، محمد بن شجاع البلخي يقول: كنت أقرأ بقراءة الكسائي مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف، فقال لي بعض أهل اللغة: الملك أبلغ في الوصف، فأخذت بقراءة حمزة وكنت أقرأ ملك يَوْمِ الدين، فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي: لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقرءوا القُرْآنَ فَخْماً مُفَخَّماً» ، فلم أترك القراءة ب: «ملك» حتى أتاني بعد ذلك آت في المنام فقال لي: لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ القُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ، فَلِمَ نقّصت من حسناتك عشراً في كل قراءة؟ فلما أصبحت، أتيت قطرباً- وكان إماماً في اللغة- فقلت له: ما الفرق بين ملك ومالك؟ فقال: بينهما فرق كثير. فأما ملك فهو ملك من الملوك، وأما مالك فهو مالك الملوك. فرجعت إلى قراءة الكسائي.
ثم معنى قوله «مالك» يعني: قاضي وحاكم يَوْمِ الدِّينِ يعني: يوم الحساب كما قال تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة: 36 وغيرها] ، يعني الحساب القيم. وقيل أيضاً: معنى يَوْمُ الدين، يعني يوم القضاء. كما قال تعالى: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف: 76] يعني: في قضائه وقيل أيضاً: يوم الدين أي يوم الجزاء، كما يقال: كما تدين تدان، يعني كما تجازي تجازى به. فإن قيل: ما معنى تخصيص يوم الدين؟ وهو مالك يوم الدين وغيره، قيل له: لأن في الدنيا، كانوا منازعين له في الملك، مثل فرعون ونمرود وغيرهما. وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له. كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16](1/17)
فأجاب جميع الخلق لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [الرعد: 16، وغيرها] فكذلك هاهنا. قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يعني في ذلك اليوم لا يكون مالك، ولا قاض، ولا مجاز غيره.
قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ هو تعليم علم المؤمنين كيف يقولون، إذا قاموا بين يديه في الصلاة، فأمرهم بأن يذكروا عبوديتهم وضعفهم، حتى يوفقهم ويعينهم فقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي نوحد ونطيع. وقال بعضهم إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني إياك نطيع طاعة نخضع فيها لك. وقوله تعالى:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول: بك نستوثق على عبادتك وقضاء الحقوق. وفي هذا دليل على أن الكلام قد يكون بعضه على وجه المغايبة وبعضه على وجه المخاطبة، لأنه افتتح السورة بلفظ المغايبة وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم ذكر بلفظ المخاطبة، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهذا كما قال في آية أخرى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ [يونس: 22] فذكر بلفظ المخاطبة، ثم قال: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها [يونس: 22] هذا ذكر على المغايبة ومثل هذا في القرآن كثير.
قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ رويت القراءتان عن ابن كثير أنه قرأ «السراط» بالسين، وروي عن حمزة أنه قرأ بالزاي، وقرأ الباقون بالصاد وكل ذلك جائز، لأن مخرج السين والصاد واحد، وكذلك الزاي مخرجه منهما قريب، والقراءة المعروفة بالصاد قال ابن عباس رضي الله عنهما: اهْدِنَا يعني أرشدنا، الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وهو الإسلام فإن قيل:
أليس هو الطريق المستقيم؟ وهو الإسلام فما معنى السؤال؟ قيل له: الصراط المستقيم، هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود. فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده إلى الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود، ويعصمه من السبل المتفرقة. وقد روي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، وخط بجنبه خطوطاً، ثم قال: إن هذا الصراط المستقيم وهذه السبل، وعلى رأس كل طريق شيطان يدعو إليه ويقول: هلم إلى الطريق. وفي هذا نزلت هذه الآية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] فلهذا قال: اهدنا الصراط المستقيم واعصمنا من السبل المتفرقة. قال الكلبي: أمتنا على دين الإسلام.
وروي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يعني ثبتنا عليه. ومعنى قول علي: ثبتنا عليه. يعني احفظ قلوبنا على ذلك، ولا تقلبها بمعصيتنا. وهذا موافق لقول الله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الفتح: 2] فكذلك هاهنا.
قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يعني طريق الذين مننت عليهم، فحفظت قلوبهم على الإسلام حتى ماتوا عليه. وهم أنبياؤه وأصفياؤه وأولياؤه. فامنن علينا كما مننت عليهم.(1/18)
أخبرنا الفقيه، أبو جعفر قال: حدثنا أبو بكر، أحمد بن محمد بن سهل، القاضي قال:
حدثنا أحمد بن جرير قال: حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد قال: حدثنا هشام بن القاسم قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: هو النبي عليه السلام وصاحباه من بعده أبو بكر- وعمر رضي الله عنهما- قال عاصم: فذكرت ذلك للحسن البصري فقال: صدق والله أبو العالية ونصح.
وقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أي غير طريق اليهود. يقول: لا تخذلنا بمعصيتنا، كما خذلت اليهود فلم تحفظ قلوبهم، حتى تركوا الإسلام.
وَلَا الضَّالِّينَ يعني ولا النصارى، لم تحفظ قلوبهم وخذلتهم بمعصيتهم حتى تنصروا. وقد أجمع المفسرون أن المغضوب عليهم أراد به اليهود، والضالين أراد به النصارى، فإن قيل: أليس النصارى من المغضوب عليهم؟ واليهود أيضاً من الضالين؟ فكيف صرف المغضوب إلى اليهود، وصرف الضالين إلى النصارى؟ قيل له: إنّما عرف ذلك بالخبر واستدلالاً بالآية. فأما الخبر، فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله وهو بوادي القرى:
من المغضوب عليهم؟ قال: اليهود قال: ومن الضالين؟ فقال: النصارى وأما الآية، فلأن الله تعالى قال في قصة اليهود: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ [البقرة: 90] وقال تعالى في قصة النصارى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] .
«آمين» ليس من السورة. ولكن روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقوله ويأمر به، ومعناه ما قال ابن عباس: يعني كذلك يكون. وروي عن مجاهد أنه قال: هو اسم ن أسماء الله تعالى ويكون معناه: يا الله استجب دعاءنا. وقال بعضهم: هي لغة بالسريانية. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: مَا حَسَدَتْكُمْ اليَهُودُ فِي شَيْءٍ، كَحَسَدِهِمْ فِي «آمين» خَاتَمِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَخْتِمُ بِهِ دُعَاءَ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ. وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للرحمة. وروى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين؟ قال: رَبِّ افْعَلْ. ويقال: فيه لغتان «أمين» بغير مد، و «آمين» بالمد، ومعناهما واحد، وقد جاء في أشعارهم كلا الوجهين. قال القائل:
تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ دَعَوْتُه ... آمِينَ فَزَادَ الله مَا بَيْنَنَا بُعْدَا
وقال الآخر:
يَا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدَا ... وَيَرْحَمُ الله عَبْداً قَالَ: آمِينَا
وصلى الله على سيدنا محمد.(1/19)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
سورة البقرة
مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
قال الفقيه: حدّثني أبي رحمه الله قال: حدثني محمد بن حامد قال: حدّثنا علي بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مروان، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى: الم يعني: أنا الله أعلم. ومعنى قول ابن عباس أنا الله أعلم يعني الألف: أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب قد كانت تذكر حرفاً وتريد به تمام الكلمة ألا ترى إلى قول القائل:
قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَاف ... لاَ تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الإِيجَاف
يعني بالقاف: قد وقفت.
وقال الكلبي: هذا قسم، أقسم الله تعالى بالقرآن أن هذا الكتاب الذي أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، هو الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى لا ريب فيه. وقال بعض أهل اللغة: إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح، لأن جواب القسم معقود على حروف مثل: إن، وقد، ولقد، وما، واللام وهنا لم نجد حرفاً من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يميناً. ولكن الجواب أن يقال: موضع القسم قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ، فلو أن إنساناً حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديداً، وتكون «لا» جواباً للقسم، فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد. فإن قيل: إيش الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين، مصدق ومكذب فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه، أقسم على كلامه، فالله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.(1/20)
وقد قيل الم: الألف: الله تعالى، واللام: جبريل، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم ويكون معناه: الله الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لاَ رَيْبَ فِيهِ.
وقال بعضهم: كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء الله تعالى. فالألف مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح اسمه: اللطيف، الميم مفتاح اسمه: مجيد ويكون معناه: الله اللطيف المجيد أنزل الكتاب.
وروي عن محمد بن كعب بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلاَّ نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس. وروي عن الشعبي أنه قال: إن الله تعالى سراً جعله في كتبه، وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة. وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود- رضي الله عنهم- أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر وعن علي رضي الله عنه: هو اسم من أسماء الله تعالى، فرقت حروفه في السور. يعني أن هاهنا قد ذكر الم وذكر: الر في موضع آخر وذكرٍ: حم في موضع آخر وذكر:
ن في موضع، فإذا جمعت يكون (الرحمن) ، وكذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسماً من أسماء الله.
وذكر قطرب: أن المشركين كانوا لا يستمعون القرآن، كما قال الله تعالى: وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] فأراد أن يسمعهم شيئاً لم يكونوا سمعوه، ليحملهم ذلك إلى الاستماع حتى تلزمهم الحجة. وقال بعضهم: أن المشركين كانوا يقولون: لا نفقه هذا القرآن، لأنهم قالوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] فأراد الله أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم، يعني هو على لغتكم، ما لكم لا تفقهون؟ وإنما أراد بذكر الحروف تمام الحروف، كما أن الرجل يقول: علمت ولدي: أ، ب، ت، ث، وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة.
وقال بعضهم: هو من شعار السور وكان اليهود أعداء الله فسروه على حروف الجمل، لأنه ذكر أن جماعة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وشعبة بن عمرو، ومالك بن الصيف دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بلغنا أنك قرأت: الم ذلِكَ الْكِتابُ فإن كنت صادقاً، فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة، لأن الألف: واحد، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا له: وهل غير هذا؟ قال: نعم. المص فقالوا: هذا أكثر لأن (ص) تسعون. فقالوا: هل غير هذا؟
قال: نعم. الر فقالوا: هذا أكثر، لأن (الراء) : مائتان، ثم ذكر المر فقالوا: خلطت علينا يا محمد لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم، وكل(1/21)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
إنسان يدرك العلم بمقدار عقله. وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة، فتفسيره نحو ما ذكرنا هاهنا والله أعلم بالصواب.
قوله عز وجل: ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه مني، لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. وقد يوضع ذلك بمعنى هذا، كما قال القائل:
أقول له والرمح يأْطِرُ مَتْنَه ... تَأمَّلْ خِفَافاً أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يعني هذا. وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك، وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: أراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يعني الكتاب ثبت في اللوح المحفوظ.
وقوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه من الله تعالى ولم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: لا شك فيه؟ وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون؟ قيل له: معناه لا شك فيه عند المؤمنين وعند العقلاء. وقيل: معناه لا شك فيه، أي لا ينبغي أن يشك فيه، لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى.
قوله عز وجل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بياناً لهم من الضلالة للمتقين الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش. فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة، وبيان لهم من الشبهات، وبيان الحلال من الحرام. فإن قيل: فيه بيان لجميع الناس، فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟ قيل له: لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان، ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون، صار في الحقيقة حاصل البيان لهم. روي عن أبي روق أنه قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي كرامة لهم. يعني إنما أضاف إليهم إجلالاً وكرامة لهم، وبيانا لفضلهم.
[سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب. والغيب: هو ما غاب عن العين، وهو محضر في القلب. وإنما أراد به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم القيامة، أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من الله تعالى فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه. ويقال:
يؤمنون بالغيب يعني بالله تعالى. حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا الديبلي قال: حدّثنا أبو عبيد الله، قال: حدّثنا سفيان قال: حدثنا أصحابنا، عن الحارث بن قيس أنه قال لعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- نحتسب بكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد صلى الله عليه وسلم(1/22)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
وصحبته، فقال عبد الله بن مسعود: ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه، وإن أفضل الإيمان الإيمان بالغيب، ثم قرأ عبد الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وقد قيل: (يؤمنون بالغيب) يعني يصدقون بالبعث بعد الموت.
وقوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، أي يديمون الصلاة، وقد قيل أيضاً: إِنَّ العبد يديم الصلاة وقد قيل: يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها. وقد قيل: إن العبد إذا صلى صلاة تُقْبَلُ منه، خلق الله تعالى منها ملكاً يقوم ويصلي لله إلى يوم القيامة، وثوابه لصاحب الصلاة فهذا معنى قوله: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.
وقوله عز وجل: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يتصدقون، قال الكلبي: وهو زكاة المال.
وروى أسباط، عن السدي، عن أصحابه قال: هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة. ويقال: ينفقون أي يتصدقون صدقة التطوع. ويقال: هي عليهم جميعا التطوع والفريضة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني بالقرآن قوله: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني التوراة والإنجيل وسائر الكتب، ويقال: لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب فلما قال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ قالوا: نحن نقيم الصلاة فلما قال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قالوا: نحن ننفق ونتصدق. فلما قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ نفروا من ذلك.
وقوله: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يقرُّون يوم القيامة، والجنة والنار، والبعث، والحساب، والميزان. واليقين على ثلاثة أوجه: يقين عيان، ويقين خبر، ويقين دلالة. فأما يقين العيان: إذا رأى شيئاً، زال عنه الشك في ذلك الشيء، وأما يقين الدلالة: هو أن يرى دخاناً يرتفع من موضع، يعلم باليقين أن هناك ناراً وإن لم يرها وأما يقين الخبر: فإن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد، وإن لم يكن يعاينها. فهاهنا يقين خبر، ويقين دلالة، أن الآخرة حق ولكن تصير معاينة عند الرؤية.
ثم قال عز وجل: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ يعني أهل هذه الصفة الذين سبق ذكرهم على بيان من الله تعالى، أي أكرمهم الله تعالى في الدنيا حيث هداهم، وبين لهم طريقهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في الآخرة، أي الناجون. يعني أن الله تعالى أكرمهم في(1/23)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
الدنيا بالبيان، وفي الآخرة بالنجاة. وقد قيل: الفلاح هو البقاء في النعمة. وقد قيل: الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل. ويقال: معناه قد وجدوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وكل ما في القرآن المفلحون، فتفسيره هكذا.
[سورة البقرة (2) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إن هاهنا للتأكيد وهو حرف من حروف القسم. والكفر في اللغة: هو الستر، يقال: ليلة كافرة إذا كانت شديدة الظلمة وإنما سمي الكافر كافراً، لأنه يستر نعم الله تعالى.
وقوله عز وجل: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي أَأَنْذَرْتَهُمْ بهمزتين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية هشام بهمزة واحدة مع المد أَنْذَرْتَهُمْ وتفسير القراءتين لا يختلف. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي قريش، منهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل وغيرهم. وقال الكلبي: نزلت في رؤساء اليهود منهم: كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب. قال الكلبي:
وليس هو بأخي حيي. وقال بعضهم هو أخو حيي دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم حيث سألوه عن الم والمص ثم خرجوا من عنده فنزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا بالقرآن سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ يعني خوفتهم أو لم تخوفهم لاَ يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون. فإن قيل: إذا علم أنهم لا يؤمنون، فما معنى دعوتهم إلى الإسلام؟ قيل له: لأن في الدعوة زيادة الحجة عليهم، كما إن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن. وجواب آخر: أن الآية خاصة، وليست بعامة، وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم، كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت: رجع أبي وعمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في هذا الرجل؟ فقال: إنه نبي، فقال: ما رأيك في اتباعه؟ فقال: رأيي أن لا أتبعه، وأن أظهر له العداوة إلى الموت. فلم نزلت الآية في شأن مثل هؤلاء الذين قد ظهر لهم الحق وكانوا لا يؤمنون. فقال: أَأَنْذَرْتَهُمْ. وأصل الإنذار هو الإعلام، يعني خوفتهم بالنار، وأعلمتهم بالعذاب أو لم تعلمهم، فهو سواء ولا يصدقونه.
[سورة البقرة (2) : آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: أي طبع الله، ومعنى الختم على قلوبهم أي، ليس أنه يذهب بعقولهم ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون بعلامات(1/24)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيؤمنون، وَعَلى سَمْعِهِمْ فهم لا يسمعون الحق، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ أي غطاء فلا يبصرون الهدى. واتفقت الأئمة السبعة- رحمهم الله- على القراءة برفع الهاء (غشاوة) وقرأ بعضهم بنصبها وهي قراءة شاذة. فأما من قرأ برفع الهاء، فهو على معنى الابتداء أي: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، ثم ابتدأ فقال وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وأما من قرأ بالنصب فيكون الجعل فيه مضمراً، يعني: جعل على أبصارهم غشاوة. فقد ذكر في شأن المؤمنين ثوابهم في الدنيا الهدى، وفي الآخرة الفلاح، وذكر في شأن الكفار عقوبتهم في الدنيا الختم، وفي الآخرة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني عذاباً وجيعاً، يخلص الوجع إلى قلوبهم.
قال الفقيه- رحمه الله- وفي الآية إشكال في موضعين: أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى فأما الذي في اللفظ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ذكر جماعة القلوب ثم قال: وَعَلى سَمْعِهِمْ ذكر بلفظ الوحدان ثم قال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ ذكر بلفظ الجمع، فجوابه: إن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع، فلهذا المعنى- والله أعلم- ذكر بلفظ الوحدان. وقد قيل: معنى وَعَلى سَمْعِهِمْ أي: موضع سمعهم، لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع. وقد قيل: إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة، لأنه قال: وَعَلى سَمْعِهِمْ فقد أضاف إلى الجماعة، والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة، ومرة يذكر بلفظ الوحدان، فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديداً في اللغة فذكر البعض بلفظ الوحدان، والبعض بلفظ الجماعة وهذه علامة الفصاحة، لأن كتاب الله تعالى أفصح الكلام.
وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال: إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة؟ والجواب عن هذا: أن يقال: إنه ختم مجازاة لكفرهم. كما قال في آية أخرى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] لأن الله تعالى قد يسر عليهم سبيل الهدى، فلو جاهدوا لوفقهم، كما قال تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] ، فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم الله تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وفي الآخرة بالعذاب العظيم.
وروي عن مجاهد أنه قال: من أول سورة البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. وروي عن مقاتل أنه قال: آيتان من أول السورة في نعت المؤمنين المهاجرين، وآيتان في نعت المؤمنين غير المهاجرين، وآيتان في نعت مؤمني أهل الكتاب، وآيتان في نعت الكفار، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين من قوله: وَمِنَ النَّاسِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[سورة البقرة (2) : آية 8]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)(1/25)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ: (من) للتبعيض، فإنه أراد به بعض الناس ولم يرد به جميع الناس، فكأنه قال: بعض الناس يقولون: آمنا بالله. وقد قيل: معناه: ومن الناس ناس يقولون: آمنا بالله، يعني صدقنا بالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وبالبعث. بعد الموت وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني ليسوا بمصدقين، بل هم منافقون منهم: عبد الله بن أبي ابن سلول الخزرجي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، ومن تابعهم من المنافقين. وفي هذه الآية دليل على أن القول بغير تصديق القلب لا يكون إيماناً، لأن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم، ولم يكن لهم تصديق القلب، فنفى الله الإيمان عنهم فقال: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
[سورة البقرة (2) : آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وأصل الخداع في اللغة هو الستر. يقال للبيت الذي يخزن فيه المال: مخدع، والعرب تقول: انخدعت الضب في جحرها. فكان المنافقون يظهرون الإيمان ويسترون نفاقهم وكفرهم فقال: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي يكذبون ويخالفون الله والذين آمنوا ويقال يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، لأنه قد بين في سياق الآية حيث قال تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. روي عن الأخفش أنه قال: اجترءوا على الله، حتى ظنوا أنهم يخادعون الله. وقال بكر بن جريج: يظهرون لا إله إلا الله، يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وأنفسهم ويقال: يظهرون غير ما في أنفسهم. وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: علامة المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب.
وقوله: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة الكسائي وَما يَخْدَعُونَ بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف وَمَا يخادعون. وتفسير القراءتين واحد يعني:
وبال الخداع يرجع إليهم ويضر بأنفسهم.
قوله: وَما يَشْعُرُونَ. قال الكلبي: يعني وما يعلمون أن الله يطلع نبيه على كذبهم وقال بعضهم: معناه وما يشعرون أن وبال الخداع يرجع إليهم.
[سورة البقرة (2) : آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني شكاً ونفاقاً وظلمة وضعفاً، لأن المريض فيه فترة ووهن، والشاك أيضاً في أمره فترة وضعف. فعبَّر بالمرض عن الشك، لأن المنافقين فيهم ضعف ووهن، ألا ترى إلى قوله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: 4] .
ويقال: إن المريض تعرض للهلاك، فسمي النفاق مرضاً، لأن النفاق قد يهلك صاحبه، لأن(1/26)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
الخلق على مراتب ثلاث، ميت في الأحوال كلها كالكافر، وحي في الأحوال كلها كالمؤمن لقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] ، ومريض كالمنافق.
ثم قال تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وهذا اللفظ يحتمل معنين: يحتمل الخبر عن الماضي، ويحتمل الدعاء فإن كان المراد به الخبر فمعناه: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً إلى مرضهم، كما قال في آية أخرى فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] ، لأن كل سورة نزلت يشكون فيها، فكان ذلك المرض لهم، وللمؤمنين زيادة اليقين. وإن كان المراد به الدعاء، فمعناه: فزادهم الله مرضاً على مرضهم، على وجه الذم والطرد لهم، كما قال في آية أخرى قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التوبة: 30] أو لعنهم الله، فإن قيل: كيف يجوز أن يحمل على وجه الدعاء، وإنما يحتاج إلى الدعاء عند العجز؟ قيل له: هذا تعليم من الله تعالى أَنَّهُ يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم، لأنهم شر خلق الله تعالى، لأنه وعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار.
ثم قال: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني مؤلم، أي عذاب وجيع الذي يخلص وجعه إلى قلوبهم.
قوله: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي مجازاة لهم بتكذيبهم.
قرأ حمزة وابن عامر فَزادَهُمُ اللَّهُ بكسر الزاي، وهي لغة بعض العرب، وقرأ عاصم وأبو عمرو بالفتح، وهي اللغة الظاهرة، وقرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي يَكْذِبُونَ بتخفيف الذال، وقرأ الباقون بالتشديد. فمن قرأ بالتخفيف فمعناه: بما كانوا يكذبون بقولهم أنهم مؤمنون، وجحدوا في السر لأنهم كفروا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم في السر. ومن قرأ بالتشديد فمعناه: بما كانوا يكذبون، يعني ينسبون محمداً إلى الكذب، ويجحدون نبوته.
[سورة البقرة (2) : آية 11]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، قرأ الكسائي برفع القاف وكذلك كل ما ذكر في القرآن مثل: قيل وحيل وسيق، وقرأ حمزة وعاصم وغيرهما بكسر القاف. وأصله في اللغة قول مع الواو، فحذفت الواو للتخفيف، فجعل الكسائي الرفع مكان الواو وغيره، وقرأ بالكسر للتخفيف. والآية نزلت في شأن المنافقين وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني المنافقين لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي: لا تعملوا فيها بالمعاصي وهو الفساد لأن الأرض كانت قبل أن يبعث النبي- عليه السلام- فيها الفساد، وكان يُعمل فيها بالمعاصي، فلما بعث الله النبي- عليه السلام- ارتفع الفساد وصلحت الأرض فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الأعراف: 56 و 85] .(1/27)
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي نعمل بالطاعة، ولا نعمل بالمعاصي. وقد قيل: معنى لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، أي لا تداهنوا بين الناس ولا تعملوا بالمداهنة، قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني لا نعادي الكفار ولا المؤمنين، حتى لو كانت الغلبة للمؤمنين أو للكفار، لا يصيبنا من دائرتهم شيء.
[سورة البقرة (2) : آية 12]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ في الأرض وليسوا بمصلحين، لأن عداوتهم مع الفريقين، لأن كل فريق منهم يعلم أنهم ليسوا معهم. وقد قيل: معناه لا تفسدوا في الأرض بتفريق الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم، أي لا تصرفوا الناس عن دينه قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ بتفريقنا عن دينه. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ألا: كلمة تنبيه، فنبه المؤمنين وأعلمهم نفاقهم، فكأنه قال: ألا أيها المؤمنون، اعلموا أنهم هم المفسدون العاصون. ويكون تكرار كلمة هم على وجه التأكيد، والعرب إذا كررت الكلام تريد به التأكيد. قال تعالى:
وَلكِنْ لاَّ يَشْعُرُونَ أنهم مفسدون.
[سورة البقرة (2) : آية 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ. قال في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: إن هذه الآية نزلت في شأن اليهود وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني اليهود آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعني عبد الله بن سلام وأصحابه، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يعني الجهال الخرقى. قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يعني الجهال الخرقى بتركهم الإيمان بمحمد عليه السلام، وَلكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ أنهم سفهاء.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في شأن المنافقين، وهكذا قال مجاهد ومعناه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا يعني صدِّقوا بقلوبكم، كما صدّق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم قالُوا: أَنُؤْمِنُ- يعني المنافقين- أنصدِّق كما صدق الجهال. قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يعني الجهّال بتركهم التصديق في السر، ولكن لا يعلمون أنهم جهال.
[سورة البقرة (2) : آية 14]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)(1/28)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
ثم قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، نزلت هذه الآية في ذكر المنافقين، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وغيرهم وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهم- مرّوا بقوم من المنافقين، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء الجهال عنكم فتعلّموا مني كيف أكلمهم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: مرحباً بسيد بني تميم، وثاني اثنين، وصاحبه في الغار، وصفيه من أمته، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر قال: مرحباً بسيد بني عدي القوي في أمر الله تعالى، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحباً بسيد بني هاشم، ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الباذل نفسه ودمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والسابق إلى الهجرة فقال له علي: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق، فإن المنافقين شر خليقة الله. قال: فلم تقول هكذا وإيماني كإيمانكم وتصديقي كتصديقكم. ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتم ردي هؤلاء عنكم؟ فقالوا: لا نزال بخير ما عشت لنا، فنزلت الآية: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا يعني إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم.
قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قال الكلبي: يعني إلى كهنتهم وهم خمسة رهط من اليهود، ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان، منهم كعب بن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة الأسلمي في بني سليم، وأبو السوداء بالشام، وعبد الدار من جهينة، وعوف بن مالك من بني أسد. ويقال: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ يعني إلى رؤسائهم في الضلالة. وقال أبو عبيدة:
كل عات متمرد فهو شيطان ثم قال تعالى: قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي على دينكم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضي الله عنهم-
[سورة البقرة (2) : آية 15]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
قال الله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يجازيهم جزاء الاستهزاء. وذكر في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- الاستهزاء أن يُفتح لهم وهم في جهنم، باب من الجنة فيهللون ويصيحون في النار فيهلكون والمؤمنون على الأرائك ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عليهم، وفتح لهم باب آخر في مكان آخر، والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون، كما قال في آية أخرى فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: 34] الآية. وقال مقاتل: الاستهزاء ما ذكره الله تعالى في سورة الحديد يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد: 13] فهذا استهزاء بهم. ثم قال تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعني يتركهم في ضلالتهم يتحيرون ويترددون عقوبة لهم لاستهزائهم.
[سورة البقرة (2) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)(1/29)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
قوله عز وجل: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، يعني اختاروا الكفر على الإيمان. وفي الآية دليل أن الشراء قد يكون بالمعنى دون اللفظ وهو المبادلة، لأن الله تعالى سمى استبدالهم الضلالة بالهدى شراء، ولم يكن هنالك لفظ شراء.
قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فقد أضاف الريح إلى التجارة على وجه المجاز.
والعرب تقول: ربحت تجارة فلان، وخسرت تجارة فلان، وإنما يريدون به أنه ربح في تجارته، والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب على ما يتعارفون فيما بينهم فلذلك قال: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ أي فما ربحوا في تجارتهم.
قوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قال بعضهم: معناه وما هم بمهتدين في الحال، كقوله تعالى: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم: 29] أي من هو في المهد صبي في الحال.
وقال بعضهم: معناه وَما كانُوا مُهْتَدِينَ من قبل لأنهم لو كانوا مهتدين من قبل، لوفقهم الله تعالى في الحال، ولكن لما لم يكونوا مهتدين من قبل، خذلهم الله تعالى مجازاة لأفعالهم الخبيثة.
[سورة البقرة (2) : آية 17]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)
قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً، روى معاوية بن طلح، عن علي بن أبي طلحة، عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين هم حوالي المدينة، فقال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضاءَتْ يعني كمثل من كان في المفازة في الليلة المظلمة وهو يخاف السباع، فأوقد ناراً فأمن بها من السباع، فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ طفئت ناره وبقي في الظلمة، كذلك اليهود الذين كانوا حوالي المدينة كانوا يقرون بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج، وكانوا إذا حاربوا أعداءهم من المشركين يستنصرون باسمه فيقولون بحق نبيك أن تنصرنا، فلما أخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقدم المدينة، حسدوه وكذبوه وكفروا به فطفئت نارهم وبقوا في ظلمات الكفر.
وقال مقاتل: نزلت في المنافقين، يقول: مثل المنافق مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم كمثل رجل في مفازة فأوقد ناراً فأمن بها على نفسه واهله وعياله وماله، فكذلك المنافق يتكلم بلا إله إلا الله مرآة الناس، ليأمن بها على نفسه واهله وعياله وماله ويناكح مع المسلمين، وكان له نور بمنزلة المستوقد النار يمشي في ضوءها ما دامت ناره تتقد، فلما أضاءت النار أبصر ما حوله بنورها وذهب نورها فبقي في ظلمة.(1/30)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي يذهب الله بنور الإيمان الذي يتكلم به، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ الهدى، فكذلك المنافق إذا بلغ آخر عمره بقي في ظلمة كفره. وهكذا فسّره قتادة والقتبي وغيرهما.
[سورة البقرة (2) : آية 18]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
ثم قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ وفي قراءة عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- «صُمّاً بُكْمّاً عُمْياً» ، وإنما جعلها نصباً لوقوع الفعل عليها، يعني وتركهم صماً بكماً عمياً. وقرأ غيره: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ومعناه هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. وتفسير الآية أنهم يتصاممون، حيث لم يسمعوا الحق ولم يتكلموا به، ولم يبصروا العبرة والهدى، فكأنهم صم بكم عمي، ولأن الله تعالى خلق السمع والبصر واللسان لينتفعوا بهذه الأشياء، فإذا لم ينتفعوا بالسمع والبصر صار كأن السمع والبصر لم يكن لهم. كما أن الله تعالى سمى الكفرة موتى حيث قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] يعني كافراً فهديناه وإنما سماهم موتى- والله أعلم- لأنه لا منفعة لهم في حياتهم، فكأن تلك الحياة لم تكن لهم، فكذلك السمع والبصر واللسان، إذا لم ينتفعوا بها فكأنها لم تكن لهم، فكأنهم صم بكم عمى فهم لا يرجعون، يعني لا يرجعون إلى الهدى.
وقال القتبي: معنى قوله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ قال: الظلمة الأولى كانت ظلمة الكفر، استيقادهم النار قول: لا إله إلا الله، وإذا خلوا إلى شياطينهم فنافقوا.
وقالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] فسلبهم نور الإيمان، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ.
[سورة البقرة (2) : آية 19]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ، يعني كمطر نزل من السماء فضرب لهم الله تعالى مثلاً آخر، لأن العرب كانوا يوضحون الكلام بذكر الأمثال، فالله ضرب لهم الأمثال ليوضح عليهم الحجة، فضرب لهم مثلاً بالمستوقد النار، ثم ضرب لهم مثلا آخر بالمطر. فإن قيل كلمة أو إنما تستعمل للشك فما معنى أَوْ ها هنا، فقيل له: أو قد تكون للتخيير، فكأنه قال: إن شئتم فاضربوا لهم مثلاً بالمستوقد النار، وإن شئتم فاضربوا لهم المثل بالمطر، فأنتم مصيبون في ضرب المثل في الوجهين جميعاً. وهذا كما قال في آية أخرى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور: 40] فكذلك هاهنا أو للتخيير لا للشك. وقد قيل: أو بمعنى الواو يعني،(1/31)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
وكصيب من السماء، معناه: مثلهم كرجل في مفازة في ليلة مظلمة فنزل مطر من السماء، وفي المطر ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ والمطر: هو القرآن، لأن في المطر حياة الخلق وإصلاح الأرض، وكذلك القرآن حياة القلوب، فيه هدى للناس، وبيان من الضلالة وإصلاح، فلهذا المعنى شبه القرآن بالمطر. والظلمات: هي الشدائد والمحن التي تصيب المسلمين، والشبهات التي في القرآن، والرعد: هو الوعيد الذي ذكر للمنافقين والكفار في القرآن، والبرق: ما ظهر من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودلائله.
قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ، أي يتصاممون عن سماع الحق حَذَرَ الْمَوْتِ أي لحذر الموت، إنما نصب لنزع الخافض، مثل قوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أي من قومه، فكذلك هاهنا حَذَرَ الْمَوْتِ، أي لحذر الموت ومعناه:
مخافة أن ينزل في القرآن شيء يظهر حالهم، كما قال في آية أخرى نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا [التوبة: 127] قال بعضهم: في الآية مضمر، ومعناها يجعلون أصابعهم في آذانهم من الرعد، ويغمضون أعينهم من الصواعق. وقال أهل اللغة:
الصاعقة صوت ينزل من السماء فيه نار، فمن قال بهذا القول لا يحتاج إلى الإضمار في الآية:
يجعلون أصابعهم في آذانهم من خوف الصاعقة وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي عالم بأعمالهم.
والإحاطة: هي إدراك الشيء بكماله.
[سورة البقرة (2) : آية 20]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، أي ضوء البرق، يذهب ويختلس بأبصارهم من شدة ضوء البرق فكذلك نور إيمان المنافق يكاد يغطي على الناس كفره في سره، حتى لا يعلموا كفره. وقد قيل: معناه يكاد أن يظهر عليهم نور الإسلام، فيثبتون على ذلك.
ثم قال: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، أي كلما لمع البرق في الليلة المظلمة مضوا فيه، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ، أي إذا ذهب ضوء البرق قامُوا متحيرين فكذلك المنافق، إذا تكلم بلا إله إلا الله، يمضي مع المؤمنين، ويمنع بها من السيف، فإذا مات بقي متحيراً نادما. ويقال:
معناه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة: 20] أي كلما ظهر لهم دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وظهر لهم علاماته مالوا إليه، وإذا أظلم عليهم، أي إذا أصاب المسلمين محنة، كما أصابتهم يوم أحد، وكما أصابتهم يوم بئر معونة قاموا، أي ثبتوا على كفرهم.
وروى أسباط، عن السدي أنه قال: كان رجلان من المنافقين هربا من المدينة إلى(1/32)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
المشركين، فأصابهما من المطر الذي ذكر الله فيه ظلمات ورعد وبرق، كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما فإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا شيئاً، فقاما مكانهما فجعلا يقولان: يا ليتنا لو أصبحنا فنأتي محمداً صلى الله عليه وسلم فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما، فضرب الله في شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين كانوا بالمدينة، ثم قال تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، قال بعضهم بسمعهم الظاهر الذي في الرأس وأبصارهم التي في الأعين، كما ذهب بسمع قلوبهم، وأبصار قلوبهم عقوبة لهم. قيل: معناه، وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ صماً وعمياً في الحقيقة، كما جعلهم صماً وعمياً في الحكم. قد قيل: معناه، وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ صماً وعمياً في الآخرة، كما جعلهم في الدنيا. وروي في إحدى الروايتين، عن ابن عباس أنه قال: هذا من المكتوم الذي لا يفسر. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من العقوبة وغيرها.
[سورة البقرة (2) : آية 21]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، أي أطيعوا ربكم ويقال: وحّدوا ربكم. وهذه الآية عامة، وقد تكون كلمة يا أَيُّهَا النَّاسُ خاصة لأهل مكة وقد تكون عامة لجميع الخلق، فهاهنا يا أَيُّهَا النَّاسُ لجميع الخلق. يقول للكفار: وحدوا ربكم، ويقول للعصاة: أطيعوا ربكم، ويقول للمنافقين: أخلصوا بالتوحيد معرفة ربكم، ويقول للمطيعين: اثبتوا على طاعة ربكم.
واللفظ يحتمل هذه الوجوه كلها، وهو من جوامع الكلم. واعلم أن النداء في القرآن على ست مراتب: نداء مدح، ونداء ذم، ونداء تنبيه، ونداء إضافة، ونداء نسبة، ونداء تسمية. فأما نداء المدح فمثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. ونداء الذم مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا. ونداء التنبيه مثل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ يا أَيُّهَا النَّاسُ. ونداء الإضافة مثل قوله تعالى: يا عِبادِيَ
. ونداء النسبة مثل قوله: يا بَنِي آدَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ ونداء التسمية مثل قوله تعالى: يا داوُدُ يا إِبْراهِيمُ فهاهنا ذكر نداء التنبيه فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ، أخبر بالنداء أنه يريد أن يأمر أمراً أو ينهى عن شيء. ثم بيّن الأمر فقال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، يعني وحدوا وأطيعوا الَّذِي خَلَقَكُمْ، معناه: أطيعوا ربكم الذي هو خالقكم، فخلقكم ولم تكونوا شيئاً وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، يعني وخلق الذين من قبلكم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعصية وتنجون من العقوبة.
[سورة البقرة (2) : آية 22]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)(1/33)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً معناه: اعبدوا ربكم الذي خلقكم وجعل لكم الأرض فراشاً، يعني مهاداً وقراراً. وقال أهل اللغة: الأرض بساط العالم. وروي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: إنما سميت الأرض أرضاً، لأنها تأرض ما في بطنها أي تأكل ما فيها. وقال بعضهم: لأنها تتأرض بالحوافر والأقدام. وَالسَّماءَ في اللغة: ما علاك وأظلك.
يعني اذكروا رب هذه النعم واعبدوه، واعرفوا شكر هذه النعم حيث جعل لكم الأرض فراشاً، والسَّماء بِناءً أي سقفاً. قال ابن عباس- رضي الله عنهما- في رواية الكلبي: كل سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة وسماء الدنيا ملتزقة على الأرض أطرافها ويقال: وَالسَّماءَ بِناءً أي مرتفعاً. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء، يعني المطر فَأَخْرَجَ بِهِ، يعني أنبت بالمطر مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، يعني من ألوان الثمرات طعاماً لكم.
قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، أي لا تقولوا له شركاء وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خالق هذه الأشياء وغيره لا يستطيع أن يخلق شيئاً من هذه الأشياء. ويقال: كل شيء في هذه الدنيا فيه دلالة على كونه الخالق من أربعة أوجه: فوجود هذه الأشياء وكونها يدل على وجود الصانع واستقامتها تدل على توحيده، وهو استقامة الليل والنهار، والشتاء والصيف وخروج الثمرات وحدوث كل شيء في وقته، لأن المدبر لو كان اثنين لم يكن على الاستقامة، كما قال في آية أخرى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وتجانسها يدل على أن الخالق واحد عالم حيث خلق الأشياء أجناساً مختلفة، وتمام الأشياء يدل على أن خالقها واحد قائم قادر.
[سورة البقرة (2) : آية 23]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ قال بعضهم: هذا الخطاب لليهود وإن كنتم في ريب: أي في شك مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه ليس من الله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، أي من مثل هذا القرآن من التوراة، وقابلوها بالقرآن، فتجدوها موافقة لما في التوراة، فتعلموا به أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يختلقه من تلقاء نفسه وأنه من الله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي استعينوا بأحباركم ورهبانكم، يعني عبّادكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تشكون فيه.
وقال بعضهم: نزلت في شأن المشركين وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي في شك مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن وتقولون: إنه اختلقه من تلقاء نفسه فَأْتُوا بِسُورَةٍ أي فاختلقوا سورة من مثل هذا القرآن، لأنكم شعراء وفصحاء وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، أي استعينوا بآلهتكم، ويقال: استعينوا بخطبائكم وشعرائكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه.(1/34)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
وقال قتادة: معناه فأتوا بسورة فيها حق وصدق لا باطل فيها. وكان الفقيه أبو جعفر- رحمه الله- يقول: (الهاء) إشارة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فكأنه قال: فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن قرأ الكتب ولا درس فأتوا بسورة من رجل لم يقرأ الكتب، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: هذه الآيات أصل لجميع ما تكلم به المتكلمون، لأن في أول الآية إثبات الصانع ثم في الآية الأخرى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فالله تعالى أمرهم بأن يأتوا بعشر سور فعجزوا عنها، ثم أمرهم بسورة من مثله، فعجزوا عنها، فنزلت هذه الآية قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ [الإسراء: 88] الآية.
[سورة البقرة (2) : آية 24]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
ثم قال عز وجل: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا، «لم» تستعمل للماضي «ولن» تستعمل للمستقبل، فكأنه قال: فإن لم تفعلوا، أي لم تأتوا في الماضي ولن تفعلوا، أي لن تأتوا في المستقبل، وتجحدون بغير حجة فَاتَّقُوا النَّارَ، قال قتادة: معناه، فإن لم تفعلوا، ولن تقدروا أن تفعلوا ولن تطيقوا فَاتَّقُوا النَّارَ، أي: احذروا النار الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، يعني حطبها الناس إذا صاروا إليها، والحجارة قبل أن يصيروا إليها. ويقال معناه: إن مع كل إنسان من أهل النار حجراً معلقاً في عنقه حتى إذا طفئت النار، رسبه به الحجر إلى أسفل.
ويقال: وقودها الناس والحجارة، أي حجارة الكبريت، وإنما جعل حطبها من حجارة الكبريت لأن لها خمسة أشياء ليست لغيرها: أحدها: أنها أسرع وقوداً، والثاني: أنها أبطأ خموداً، والثالث: أنها أنتن رائحة، والرابع: أنها أشد حراً، والخامس: أنها ألصق بالبدن. قوله تعالى:
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أي خلقت وهيئت للكافرين وقدِّرت لهم.
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
ثم قال: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فقد ذكر في أول الآية إثبات الصانع وذكر حجته، ثم ذكر إثبات الكتاب والنبوة، ثم ذكر الوعيد للكفار، لمن لم يؤمن بالله، ثم ذكر الثواب للمؤمنين وهكذا في جميع القرآن في كل موضع ذكر عقوبة الكفار، ثم ذكر على أثره ثواب المؤمنين لتسكن قلوبهم إلى ذلك، وتزول عنهم الوحشة لكي يثبتوا على إيمانهم ولكي يرغبوا في ثوابه، فقال وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا، أي فرِّح قلوب الذين آمنوا، يعني صدَّقوا(1/35)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
بوحدانية الله تعالى، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جبريل- عليه السلام- وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم جَنَّاتٍ وهي البساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت شجرها ومساكنها وغرفها الأنهار، يعني أنهار الخمر واللبن والماء والعسل كُلَّما رُزِقُوا مِنْها، أي أطعموا من الجنة مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً أي طعاماً.
قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي أطعمنا من الجنة من قبل. قال بعضهم: معناه إذا أتي بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم إذا أتُي بها في آخر النهار، قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، يعني الذي أطعمنا في أول النهار، لأن لونه يشبه لون ذلك، فإذا أكلوا منه وجدوا لها طعماً غير طعم الأول. قال بعضهم: معناه كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمها غير ذلك.
ثم قال تَعَالَيْ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً قال بعضهم: معناه، متشابهاً في المنظر مختلفاً في الطعم. وقال بعضهم: متشابهاً، يعني يشبه بعضها بعضاً في الجودة، ولا يكون فيها رديء.
حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء يعني أسماء الثمار. ثم قال تعالى:
وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي مهذبة في الخلق ويقال: مطهرة في الخلق والخلق، فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يبلنَ ولا يتمخطن ولا يأتين الخلاء. وأما الخلق، فهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن. قوله تعالى: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا.
[سورة البقرة (2) : آية 26]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا وذلك أنه لما نزل قول الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً [الحج: 73] وقال في آية أخرى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41] ، قالت اليهود والمشركون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، أي لا يمتنع من ضرب المثل وبيان الحق(1/36)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
بذكر البعوضة وبما فوقها. ويقال: لا يمنعه الحياء أن يضرب المثل ويبيّن ويصف للحق شبهاً مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، يعني بالذباب والعنكبوت. وقال بعضهم: فما فوقها أي بما دونها في الصغر، وهذا من أسماء الأضداد يذكر الفوق، ويراد به دونه، كما يذكر الوراء ويراد به الأمام مثل قوله: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الإنسان: 27] أي أمامهم، فكذلك الفوق يذكر ويراد به ما دونه، أي يضرب المثل بالبعوضة وبما دونها، بعد أن يكون فيه إظهار الحق، وإرشاد إلى الهدى، فكيف يمتنع من ضرب المثل بالبعوضة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا بعوضة لا يقدرون عليه. ويقال: إنما ذكر المثل بالبعوضة، لأن خلقة البعوضة أعجب، لأن خلقتها خلقة الفيل. ويقال: لأن البعوضة ما دامت جائعة عاشت فإذا شبعت ماتت، فكذلك الآدمي إذا استغنى، فإنه يطغى. فضرب الله المثل للآدمي.
ثم قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا، أي صدقوا وأقروا بتوحيد الله تعالى: فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، يعني المثل بالذباب والعنكبوت، فيؤمنون به. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني اليهود والمشركين فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، أي بذكر البعوضة والذباب. قال الله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً، أي إنما ضرب المثل ليضل به كثيراً من الناس، يعني يخذلهم ولا يوفقهم وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، يعني يوفق به على معرفة ذلك المثل كثيراً من الناس وهم المؤمنون. وقال بعضهم: معنى قوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً، أي يسميه ضالاً، كما يقال: فسّقت فلاناً، أي سميته فاسقاً، لأن الله تعالى لا يضل به أحداً، وهذا طريق المعتزلة، وهو خلاف جميع أقاويل المفسرين، وهو غير مستعمل في اللغة أيضاً، لأنه يقال: ضلله إذا سمَّاه ضالاً ولا يقال: أضله إذا سماه ضالاً، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أنه يخذل به كثيراً من الناس مجازاة لكفرهم.
ثم قال تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ أي وما يهلك به وأصل الضلالة الهلاك.
يقال: ضلّ الماء في اللبن إذا صار مستهلكاً. وما يهلك، وما يخذل به، يعني بالمثل إلا الفاسقين، وأصل الفسق في اللغة هو: الخروج عن الطاعة والعرب تقول: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ويقال للفأرة: فويسقة، لأنها تخرج من الحُجْر وقال الله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] أي خرج عن طاعة ربه.
[سورة البقرة (2) : آية 27]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
ثم نعت الفاسقين فقال تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، أي يتركون أمر الله ووصيته من بعد ميثاقه، أي من بعد تغليظه وتأكيده، وذلك أن الله تعالى أمر موسى في(1/37)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
التوراة بأن يأمر قومه ليقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه إذا خرج. وكان موسى عليه السلام عاهدهم على ذلك، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه ولم يصدقوه ونقضوا العهد. ويقال: إنه أراد به العهد الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم، حيث قال تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] فنقضوا ذلك العهد والميثاق. فإن قيل: كيف يجوز هذا واليهود كانوا مقرّين بالله تعالى؟ فكيف يكون نقض العهد وهم مقرون؟ قيل له: إنهم إذا لم يصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد أشركوا بالله، لأنهم لم يصدقوا بأن القرآن من عند الله، ومن زعم أن القرآن قول البشر فقد أشرك بالله تعالى، وصار ناقضاً للعهد. ويقال: الميثاق الذي يعرف كل واحد ربه إذا تفكر في نفسه، فكان ذلك بمنزلة أخذ الميثاق عليه، وجميع ما في القرآن من ذكر الميثاق فهو على هذه الأوجه الثلاثة.
وقوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، روى الضحاك وعطاء، عن ابن عباس أنه قال: إنهم أمروا أن يؤمنوا بجميع الأنبياء فآمنوا ببعضهم ولم يؤمنوا ببعضهم، فهذا معنى قوله: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. ويقال: أمروا بصلة القرابات فقطعوا الأرحام فيما بينهم. ويقال: كانت بين اليهود والعرب قرابة من وجه، لأن العرب كانت من أولاد إسماعيل واليهود من أولاد إسحاق، فإذا لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد قطعوا ذلك الرحم الذي كان بينهم.
وقوله تعالى: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، لأنهم يكفرون ويأمرون غيرهم بالكفر، فذلك فسادهم في الأرض أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون في العقوبة. وقال الكلبي: ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله منزل وأهل وخدم في الجنة، فإن أطاع الله أتى ومنزله وأهله وخدمه في الجنة، وإن عصى الله ورثه الله تعالى المؤمنين، فقد غبن أي بعد عن أهله وخدمه، كما قال في آية أخرى قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 15] . وقال بعضهم: هذا التفسير لا يصح لأنه لا يجوز أن يقال للكافر منزل في الجنة وخدم، إلا أن الكلبي لم يقل ذلك من ذات نفسه، وإنما رواه عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي الله عنهما-
[سورة البقرة (2) : آية 28]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ، قال ابن عباس: هو على وجه التعجب.
وقال الفراء: هو على وجه التوبيخ والتعجب لا على وجه الاستفهام، فكأنه قال: ويحكم كيف تكفرون وتجحدون بوحدانية الله تعالى. فإن قيل: كيف يجوز التعجب من الله تعالى؟ وإنما يجوز التعجب ممن رأى شيئاً لم يكن رآه أو سمع شيئاً لم يكن سمعه فيتعجب لذلك، والله(1/38)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
تعالى قد علم الأشياء قبل كونها. قيل له: التعجب من الله تعالى يكون على وجه التعجيب، والتعجيب هو أن يدعو إلى التعجب فكأنه يقول: ألا تتعجبون أنهم يكفرون بالله؟! وهذا كما قال في آية أخرى وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: 5] .
ثم قال: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، أي كنتم نطفة في أصلاب آبائكم فأحياكم في أرحام أمهاتكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقطاع آجالكم، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث يوم القيامة، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة فتثابون بأعمالكم. قال الكلبي: فلما ذكر البعث عرف اليهود فسكتوا وأنكر ذلك المشركون فقالوا: ومن يستطيع أن يحيينا بعد الموت؟ فنزل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] . فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لليهود وهم لم يكفروا بالله تعالى؟ فالجواب ما سبق ذكره: أنهم لما أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أنكروا وحدانية الله تعالى لأنهم أخبروا أن القرآن قول البشر.
[سورة البقرة (2) : آية 29]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، أي قدَّر خَلْقَهَا لأن الأشياء كلها لم تُخلق في ذلك الوقت، لأن الدواب وغيرها من الثمار التي في الأرض تخلق وقتاً بعد وقت، ولكن معناه قدَّر خلق الأشياء التي في الأرض.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ هذه الآية من المشكلات والناس في هذه الآية وما شاكلها على ثلاثة أوجه: قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وهذا كما روي عن مالك بن أنس- رحمه الله- أن رجلاً سأله عن قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ، فقال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً فأخرجوه فطردوه، فإذا هو جهم بن صفوان. وقال بعضهم:
نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهذا قول المشبهة. وللتأويل في هذه الآية وجهان: أحدهما: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، أي صعد أمره إلى السماء، وهو قوله: (كُنَّ فكان) ، وتأويل آخر وهو قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي أقبل إلى خلق السماء. فإن قيل:
قد قال في آية أُخرى أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النازعات: 27، 28، 30] فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء، وذكر في هذه الآية أن الأرض خلقت قبل السماء. الجواب عن هذا أن يقال: خلق الأرض قبل السماء وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة، فلما خلق السماء بسط الأرض بعد خلق السماء فذلك قوله تعالى:
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بسطها.(1/39)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
ثم قال تعالى: فَسَوَّاهُنَّ أي خلقهن سَبْعَ سَماواتٍ وهن أعظم من خلقكم وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي بخلق كل شيء عليم. ومعناه: أن الذي خلق لكم مَّا فِى الارض جميعاً وخلق السماوات قادر على أن يحييكم بعد الممات. قرأ نافع والكسائي وأبو عمرو (وهْو) بجزم الهاء. وقرأ الباقون بضم الهاء وَهُوَ في جميع القرآن، وهما لغتان ومعناهما واحد.
[سورة البقرة (2) : آية 30]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، روي عن أبي عبيدة أنه قال: معناه وقال ربك للملائكة وإذ زيادة. وروي عن الفراء أنه قال: واذكر معناه إذ قال ربك. وقال مقاتل: معناه، وقد قال ربك للملائكة. والملائكة: جماعة الملك. وهذا اللفظ على غير القياس لأنه يقال:
ملائكة بالهمز ويقال للواحد: ملك بغير همز. وإنما قيل ذلك لأنه في الأصل كان مألك بالهمز فأسقط الهمز للتّخفيف. وأصله من: ألك يألك ألوكاً وهو الرسالة. كما قال القائل:
وَغُلاَمٌ أَرْسَلَتْهُ أُمُّه ... بِأَلُوكٍ، فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ.
وإنما سميت الملائكة ملائكة، لأنهم رسل الله تعالى وإنما إراد هاهنا بعض الملائكة، «وهم الملائكة الذين كانوا في الأرض. وذلك أن الله تعالى لما خلق الأرض، خلق الجان مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ، أي من لهب من نار لا دخان لها، فكثر نسله، وهم الجان بنو الجان، فعملوا في الأرض بالمعاصي وسفكوا الدماء، فبعث الله تعالى ملائكة سماء الدنيا، وأمر عليهم إبليس وكان اسمه عزازيل، حتى هزموا الجن، وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحار، وسكنوا الأرض فصار الأمر عليهم في العبادة أخف، لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السماوات فيكون خوفهم أشد، وملائكة سماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم، فلما سكنوا الأرض صار الأمر عليهم أخف مما كانوا، وسكنوا الأرض واطمأنوا إليها، وكل من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحول عنها. فأخبرهم الله تعالى أنه يريد أن يخلق في الأرض خليفة فذلك قوله تعالى وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، يعني الذي هم في الأرض إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يعني أريد أن أخلق في الأرض خليفة سواكم. فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها، يعني أتخلق فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها كما أفسدت الجن وَيَسْفِكُ الدِّماءَ كما سفكت الجن وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أي نصلي لك بأمرك. ويقال معناه: نحن نسبح بحمدك ونحمدك وَنُقَدِّسُ لَكَ. قال بعضهم: نقدس أنفسنا لك، يعني نطهر أنفسنا بالعبادة عن المعصية. وقال بعضهم: نقدس لك، أي ننسك إلى الطهارة ونقدس أنفسنا لَكَ.(1/40)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قال مجاهد: علم من إبليس المعصية وعلم من آدم الخدمة والطاعة ولم تعلم الملائكة بذلك. وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: قد علم أنه سيكون من بني آدم من يسبح بحمده ويقدس له ويطيعه. ويقال: قد علم الله تعالى أنه سيكون في ولد آدم من الأنبياء والصالحين والأبرار. وذكر في الخبر أنه لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم، بعث جبريل ليجمع التراب من وجه الأرض، فلما نزل جبريل وأراد أن يجمع التراب، قالت له الأرض: بحق الله عليك لا تفعل فإني أخشى أن يخلق من ذلك خلقاً يعصي الله تعالى فأستحي من ربي، فصعد جبريل وقال: لو أمرني ربي بالرجوع إليها لفعلت. فلما صعد جبريل بعث الله تعالى ميكائيل، فتضرعت إليه الأرض بمثل ذلك، فرجع ميكائيل، فبعث الله تعالى عزرائيل، فتضرعت إليه الأرض، فقال عزرائيل: أمر الله أولى من قولك فجمع التراب من وجه الأرض الطيب والسبخة، والأحمر والأصفر، وغير ذلك، ثم صعد إلى السماء، فقال له تعالى: أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك؟ فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها فقال:
أنت تصلح لقبض أرواح أولاده. فصار ذلك التراب طيناً، وكان طيناً أربعين سنة، ثم صار صلصالاً كما قال في آية أخرى خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن: 14] فكان إبليس إذا مر عليه مع الملائكة قال: أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئاً من الخلائق يشبهه، إن فضّل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون؟ فقالوا: نطيع أمر ربنا. فأسر إبليس في نفسه، وقال لئن فضِّل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه. فلما سوَّاه وَنَفَخَ فِيهِ مِن روحه وعلَّمه أسماء الأشياء التي في الأرض. يعني ألهمه.
[سورة البقرة (2) : آية 31]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)
فذلك قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، يعني ألهمه أسماء الدواب وغيرها، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، هكذا مكتوب في مصحف الإمام عثمان- رضي الله عنه- وأما في مصحف ابن مسعود، وأُبي بن كعب. ففي أحدهما ثُمَّ عَرْضُهَا وفي الآخر ثم عرضهن. فأما من قرأ ثُمَّ عرضهن، يعني به جماعة الدواب ومن قرأ ثُمَّ عَرْضُهَا، يعني به جميع الأسماء. وأما من قرأ ثُمَّ عَرَضَهُمْ، يعني به جماعة الأشخاص. والأشخاص يصلح أن يكون عبارة عن المذكر والمؤنث وإن اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث.
قوله تعالى: فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، أي أخبروني عن أسماء هذه الأشياء التي في الأرض إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. قال مقاتل: معناه(1/41)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
كيف تقولون فيما لم أخلق بعد أنهم يفسدون وأنتم لا تعرفون ما ترونه وتنظرون إليه؟ ويقال:
في هذه الآية دليل على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد ينبغي أن يعلم علم اللغة لأنه- عز وجل- أراهم فضل آدم بعلم اللغة، وقال بعضهم: إنما علمه الأسماء وما فيها من الحكمة، فظهر فضله بعلم الأسماء وما فيها من الحكمة.
[سورة البقرة (2) : آية 32]
قالُوا سُبْحانَكَ لاَ عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ لاَ عِلْمَ لَنا، نزّهوه وتابوا إليه من مقالتهم، ومعناه سبحانك تبنا إليك من مقالتنا فاغفر لنا لاَ عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا أي ألهمتنا. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سُبْحَانَ الله، تَنْزِيهُ الله عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ» . وقال بعض أهل اللغة:
اشتقاقه من السباحة، لأن الذي يسبح يباعد ما بين طرفيه، فيكون فيه معنى التبعيد. وقال بعضهم: هذه لفظة جمعت بين كلمتي تعجب، لأن العرب إذا تعجبت من شيء قالت: حان، والعجم إذا تعجبت من شيء قالت: سب فجمع بينهما فصار: سبحان.
وقوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، يعني أنت العليم بما يكون في السموات والأرض، الحكيم في أمرك، إذا حكمت أن تجعل في الأرض خليفة غيرنا. ويقال: معناه الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ على وجه الحكمة التي تدرك الأشياء بحقائقها، وكان حكمه موافقاً للعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 33]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
قوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ، يعني أخبرهم بِأَسْمائِهِمْ، يعني أسماء الدواب وما فيها من الحكمة وما يحل أكله وما لا يحل أكله. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ يعني أخبرهم بِأَسْمائِهِمْ قال الله تعالى لهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يعني سر أهل السماوات وسر أهل الأرض، وما يكون فيهما. وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ، أي ما أظهرتهم من الطاعة يعني الملائكة وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، يعني ما أسر إبليس في نفسه حين قال: لئن فضل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه. وقال بعضهم: إنهم كانوا يقولون حين أراد الله أن يخلق آدم: إنه لا يخلق أحداً أفضل منهم، فهذا الذي كانوا يكتمون. وهذا التفسير ذكر عن قتادة. وقد قيل: إنه لما خلق آدم، أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم؟ فسألهم عن الأسماء، فلم يعرفوها وسأل آدم عن الأسماء فأخبرهم بها، فظهر لهم أن آدم أعلم منهم. ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم؟ فأمرهم- سبحانه وتعالى- بالسجود له، فظهر لهم فضله.(1/42)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
[سورة البقرة (2) : آية 34]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
وهو قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فأصل السجود في اللغة: هو الميلان والخضوع، والعرب تقول: سجدت النخلة إذا مالت، وسجدت الناقة إذا طأطأت رأسها ومالت. وإنما كانت تلك سجدة التحية لا سجدة العبادة، وكانت السجدة تحية لآدم عليه السلام وطاعة لله- عز وجل- فَسَجَدُوا كلهم إِلَّا إِبْلِيسَ. يقال: إبليس اسم أعجمي ولذلك لا ينصرف وهو قول أبي عبيدة. وقال غيره: هو من أبلس يبلس إذا يئس من رحمة الله، وكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أنه أيئسه من رجسته. وكان اسمه عزازيل ويقال: عزاييل وإنما لن ينصرف لأنه لا سمي له فلا يستثقل فاشتُقّ. وقال ابن عباس- رضي الله عنه-: إنما سمي آدم، لأنه خلقه من أديم الأرض. وروي عن قطرب أنه قال: هذا الخبر لا يصح لأن العربية لا توافقه. وقال بعض أهل اللغة: مأخوذ من الأدمة، وهو الذي يكون من لونه سمرة. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ أي امتنع عن السجود تكبراً: معناه أن كبره منعه من السجود.
وقوله: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي وصار من الكافرين، كما قال في آية أخرى فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 43] ، أي صار من المغرقين. وقال بعضهم: كان من الكافرين، أي كان في علم الله من الكافرين، يعني أنه يكفر. وبعضهم قال بظاهر الآية كان كافراً في الأصل. وهذا قول أهل الجبر. وقالوا: كل كافر أسلم ظهر أنه كان مسلماً في الأصل، وكل مسلم كفر ظهر أنه كان كافراً في الأصل، لأنه كان كافراً يوم الميثاق. ألا ترى أن الله تعالى قال في قصة بلقيس إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ [النمل: 43] ولم يقل إنها كانت كافرة، وقال في قصة إبليس وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ. وقال أهل السنة والجماعة: الكافر إذا أسلم كان كافراً إلى وقت إسلامه، وإنما صار مسلماً بإسلامه إلا أنه غفر له ما قد سلف. والمسلم إذا كفر كان مسلماً إلى ذلك الوقت، إلا أنه حبط عمله.
[سورة البقرة (2) : آية 35]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
قوله تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، روي عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: أمر الله تعالى ملائكته أن يحملوا آدم على سرير من ذهب إلى(1/43)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
السماء، فأدخلوه الجنة ثم خلق منه زوجه حواء، يعني من ضلعه الأيسر، وكان آدم بين النائم واليقظان. وقال ابن عباس: سميت حواء لأنها خلقت من الحي. ويقال: إنما سميت حواء لأنه كان في شفتها حوة، يعني حمرة فقال عز وجل: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ أي حواء. يقال للمرأة: زوجة وزوج، والزوج أفصح.
وقوله عز وجل: وَكُلا مِنْها، أي من الجنة رَغَداً، أي موسعاً عليكما بلا موت ولا هنداز- بالزاي المعجمة- هكذا قال في رواية الكلبي يعني بغير تقتير. وقال أهل اللغة:
الرغد هو السعة في الرّزق من غير تقتير.
قوله تعالى: حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، أي ولا تأكلا من هذه الشجرة.
روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: أنها كانت شجرة القمح. وروى السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال: هي شجرة الكرم. وروى الشعبي عن جعدة بن هبيرة مثله.
وروي عن علي- رضي الله عنه- مثله. وروي عن قتادة أنه قال: وذكر لنا أنها شجرة التين ويقال: إنما كان النهي عن الأكل من الشجرة للمحنة، لأن الدنيا دار محنة، وقد خلقه من الأرض ليسكن فيها، فامتُحِن بذلك، كما امتُحن أولاده في الدنيا بالحلال والحرام. فذلك قوله عز وجل: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ، أي فتصيرا من الضالين بأنفسكما.
[سورة البقرة (2) : آية 36]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها، قرأ حمزة (فأزالهما) بالألف، وقرأ غيره بغير ألف. وأصله في اللغة: من أزلّ يزل، ومعناه فأغراهما الشيطان واستزلَّهما. وأما من قرأ (فأزالهما) بالألف، فأصله من أزال يزيل إذا أزال الشيء عن موضعه.
قوله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ، أي مما كانا فيه من النعم. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: مكث آدم في الجنة كما بين الظهر والعصر، من أيام الآخرة، لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لما رأى إبليس آدم في النعمة حسده، واحتال لإخراجه منها، فعرض نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل في صورتها فأبت عليه، حتى أتى الحية وكانت أعظم وأحسن دابة في الجنة خلقاً وكانت لها أربعة قوائم، فلم يزل يستدرجها حتى أطاعته، فدخل ما بين لحييها وأقام في رأسها، ثم أتى باب الجنة وناداهما وقال: ما(1/44)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، يعني أن هذه الشجرة شجرة الخلد، فمن أكل منها يبقى في الجنة أبداً.
ويقال: إن حواء قالت لآدم: تعال حتى نأكل من هذه الشجرة فقال آدم: قد نهانا ربنا عن أكل هذه الشجرة فأخذت حواء بيده حتى جاءت به إلى الشجرة، وكان يحب حواء فكره أن يخالفها لحبه إياها وكان آدم يقول لها: لا تفعلي فإني أخاف العقوبة. وكانت حواء تقول، إن رحمة الله واسعة فأخذت من ثمرها وأكلت. ثم قالت لآدم: هل أصابني شيء بأكلها؟ - وإنما لم يصبها شيء بأكلها لأنها كانت تابعة، وآدم متبوعاً فما دام المتبوع على الصلاح يتجاوز عن التابع، فإذا فسد المتبوع فسد التابع- ثم أخذت ثمرة أخرى ودفعتها إلى آدم. فلما أكل آدم لم تصل إلى جوفه حتى أخذتهما الرعدة، وسقط عنهما ما كان عليهما من الحلي والحلل وغيرهما وعريا عن الثياب، حتى بدت عوراتهما فاستحيا وهربا. قال الله تعالى: يا آدم أمني تهرب؟
قال: لا ولكن حياء من ذنبي. فأخذا من أوراق التين، وألصقا على عوراتهما. ثم أمرهما الله تعالى بأن يهبطا منها إلى الأرض، فوقع آدم بأرض الهند، وحواء بجدة. وروي عن ابن عباس أنه قال: إنما سمي الإنسان إنساناً، لأن الله عهد إليه فنسي أي ترك.
وقوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي آدم وحواء وإبليس والحية، فبقي بين إبليس وبين أولاد آدم العداوة إلى يوم القيامة. وكذلك بين الحية وبين أولاد آدم عداوة إلى يوم القيامة. ثم قال: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، أي موضع القرار وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، أي الحياة والعيش إلى الموت.
[سورة البقرة (2) : آية 37]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، قرأ ابن كثير فَتَلَقَّى آدَمُ بنصب آدم ورفع كلمات. وقرأ غيره برفع آدم وكسر كلمات. فأما من قرأ فَتَلَقَّى آدَمُ بالرفع فمعناه أخذ وقيل من ربه. ومن قرأ ينصب آدم. يعني استقبلته كلمات من ربه. يقال: تلقيت فلاناً بمعنى استقبلته. ومعنى ذلك كله: أن الله تعالى ألهمه كلمات، فاعتذر بتلك الكلمات وتضرع إليه، فتاب الله عليه.
وروي عن مجاهد أنه قال: تلك الكلمات هي قوله عز وجل: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] الآية. وقال بعضهم: قال: بحق محمد أن تقبل توبتي. قال الله له: ومن أين عرفت محمداً؟ قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك. فتاب الله عليه. وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال:
الكلمات هي قوله سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، رب عملت سوءاً(1/45)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
وظلمت نفسي فتب عليّ وارحمني، إنك أنت التواب الرحيم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الغافرين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين.
قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ، يعني قبل الله توبته. يقال: تاب العبد إلى ربه وتاب الله على عبده، فهذا اللفظ مشترك إلا أنه إذا ذكر من العبد يقال: تاب إلى الله، وإذا ذكر من الله تعالى يقال: تاب الله على عبده، إذا رجع العبد عن ذنبه. وتاب الله على عبده، إذا قبل توبته.
قوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يعني المتجاوز عن الذنوب الرحيم بعباده.
[سورة البقرة (2) : آية 38]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً، يعني آدم وحواء وإبليس والحية. وفي الآية.
دليل على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها، لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصيته. وهذا كما قال القائل:
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا ... فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
وَدَاوِمْ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الإِله ... فَإِنَّ الإِلهَ شَدِيدُ النِّقَمْ
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] الآية.
وقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، وأصله فإن ما إلا أن النون أدغمت في الميم، وإن لتأكيد الكلام، وما للصلة، ومعناه فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى يعني البيان، وهو الكتاب والرسل، خاطب به آدم وعنى به ذريته. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، يعني اتبع كتابي وأطاع رسلي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من أمر الدنيا.
[سورة البقرة (2) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، أي جحدوا رسلي وكذبوا كتابي أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، أي دائمون.(1/46)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ، يا أولاد يعقوب. وإنما سمي إسرائيل، لأن (الإسرا) بلغتهم عبد، و (الإيل) هو الله فكأنه قال: يا بني عبد الله. وقال بعضهم: إنما سمي إسرائيل لأنه أسره ملك يقال له (إيل) ، وذلك أنه كان في سفر مع أولاده، وكان يسير خلف القافلة، وكان له قوة فدخل في نفسه شيء من العجب، فابتلاه الله تعالى، أن جاءه ملك على هيئة اللص وأراد أن يضرب على القافلة، فأراد يعقوب أن يضربه على الأرض فلم يقدر على ذلك، فكانا في تلك المنازعة إلى طلوع الفجر، ثم إن الملك أخذ بعرق يعقوب- أي عرق من عروقه- فمده فسقط في ذلك الموضع ثلاثة أيام. وقال بعضهم: لأنه أسره جني يقال له (إيل) وروي عن السدي:
أنه وقعت بينه وبين أخيه (عيصوا) عداوة فحلف (عيصوا) أن يقتله، فكان يعقوب يختفي بالنهار، ويخرج بالليل فسمي إسرائيل لسيره بالليل. وأصله من إسراء الليل بدليل قوله عز وجل: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] والله أعلم بالصواب. ويقال: إنما سمي بيعقوب، لأنه ولد مع عيصوا، في بطن واحد فخرج على عقب عيصوا فسمي لذلك بيعقوب.
فقال الله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ وإنما أراد بهم اليهود الذين كانوا حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وغيرهم، وكانوا من أولاد يعقوب.
وقال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، يعني احفظوا منتي التي مننت عليكم في التيه من المن والسلوى، يعني اذكروا تلك النعم التي أنعمت عليكم واشكروا لي وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. قال ابن عباس- رضي الله عنهما- في رواية أبي صالح: قد كان الله تعالى عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً، فمن تبعه وصدق به غفرت له ذنوبه، وأدخلته الجنة، وجعلت له أجرين، أجراً باتباعه ما جاء به موسى، وأجراً باتباعه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم محمد- عليه الصلاة والسلام- وعرفوه كذبوه فذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. قال الحسن البصري:
أَوْفُوا بِعَهْدِي، أدوا ما افترضت عليكم، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ مما وعدت لكم. وقال الضحاك: أوفوا بطاعتي أوف لكم بالجنة. وقال الصادق: أوفوا بعهدي في دار محنتي على بساط خدمتي في حفظ حرمتي، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط قربتي بسني رؤيتي.
وقال قتادة: العهد ما ذكر في سورة المائدة في قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله تعالى: وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [المائدة: 12] ، أوف بعهدكم(1/47)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
وهو قوله: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [المائدة: 12] الآية. ويقال: أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي قبلتم يوم الميثاق، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الذي قلت لكم، يعني به الجنة.
قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، يعني: فَاخْشَوْنِ. وأصله فارهبوني بالياء لكن حذفت الياء وأقيم الكسر مقامها. ثم قال: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، أي صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا أي موافقا لما معكم، من التوحيد. وفي بعض الشرائع أنزلت يعني التوراة والإنجيل وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، يعني أول من يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال: بِهِ يعني بالقرآن. وإنما يريد بني قريظة والنضير. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وقد كفر به قبلهم مشركو العرب، قيل له: معناه وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ في وقت هذا الخطاب. ويقال: إن أحبار اليهود كان لهم أتباع، فلو أسلموا أسلم أتباعهم ولو كفروا كفر أتباعهم كلهم، فهذا معنى قوله وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ من قومكم. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم عرضاً يسيراً، لأنهم كانوا عرفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت لهم مأكلة ووظائف من سفلة اليهود، وكانت لهم رئاسة، فكانوا يخافون أن تذهب وظائفهم ورئاستهم فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي عرض الدنيا وإنما سماه قليلاً، لأن الدنيا كلها قليل. ثم خوفهم فقال: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ في صفة محمد صلى الله عليه وسلم فمن جحد به أدخلته النار.
قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ يقال في اللغة: لبس يلبس لبساً إذا لبس الثياب. ومعناه لا تخلطوا الحق بالباطل، فتكتمون صفته، وذلك أنهم كانوا يخبرون عن بعض صفته، ويكتمون البعض ليصدقوا بذلك فيلبسون عليهم بذلك. وقال قتادة: وَلا تَلْبِسُوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام. ويقال:
معناه ولا تؤمنوا ببعض أمره وتكفروا ببعض أمره.
ثم قال تعالى: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ، يقول: ولا تكتموا الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم تكتمون الحق. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، أي أقيموا الصلوات الخمس بركوعها وسجودها في مواقيتها، وَآتُوا الزَّكاةَ المفروضة وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، أي صلوا مع المصلين، مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجماعات. ويقال: صلوا مع المصلين إلى الكعبة. وقال قتادة:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وهما فريضتان واجبتان ليس لأحد فيهما رخصة، فأدوهما إلى الله عز وجل.
[سورة البقرة (2) : آية 44]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ، نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين(1/48)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
كانوا حوالي المدينة، وهم بنو قريظة والنضير، وكانوا ينتظرون خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلم وكانوا يدعون الأوس والخزرج إلى الإيمان به، فلما خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم آمن به الأوس والخزرج وكفر اليهود وجحدوا، فنزلت هذه الآية أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كانت اليهود إذا جاءهم حليف منهم- الذي قد أسلم- وسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر فتقول له: إنه نبي صادق فاتبعه، وتكتم ذلك عن السفلة مخافة أن تذهب منافعه، فنزلت هذه الآية أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. وقال قتادة: في هذه الآية دليل على أن من أمر بخير فليكن أشد الناس تسارعاً إليه، ومن نهى عن شر فليكن أشد الناس انتهاء عنه.
ويقال: تنزلت في شأن القصاص.
قال الفقيه: أخبرنا القاضي الخليل بن أحمد قال: حدثنا ابن أبي حاتم الرازي قال:
أخبرنا الحجاج بن يوسف، عن سهل بن حماد، عن ابن غياث، عن هشام الدستوائي، عن المغيرة وهو ختن مالك بن دينار، عن مالك بن دينار عن ثمامة، عن أنس قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقال: «يَا جِبْرِيلُ مَنْ هؤلاء» ؟ فقال:
هؤلاءِ أمَّتُكَ الَّذيِنَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ. ثم قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ، يعني أفلا تعقلون أن صفته في التوراة. ويقال: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أن ذلك حجّة عليكم.
[سورة البقرة (2) : آية 45]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، أي استعينوا بالصبر على أداء الفرائض وبكثرة الصلاة على تمحيص الذنوب. ويقال: استعينوا بالصبر على نصرة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: استعينوا بالصبر والصلاة يعني بالصوم والصلاة، وإنما سمي الصوم صبراً لأن في الصوم حبس النفس عن الطعام والشراب والرفث. وقد قيل الصبر على ثلاثة أوجه: صبر على الشدة والمصيبة، وصبر على الطاعة وهو أشد من الأول وأكثر أجراً، وصبر عن المعصية وهو أشد من الأول والثاني، وأجره أكثر من الأول. وفي هذا الموضع أراد الصبر على الطاعة. قوله تعالى:
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ، أي الاستعانة ويقال: الصلاة لكبيرة أي ثقيلة إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ، أي المتواضعين. ويقال: الذليلة قلوبهم.
[سورة البقرة (2) : آية 46]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، أي يستيقنون أنهم يبعثون يوم القيامة بعد الموت.
وإنما سمي اليقين ظناً، لأن في الظن طرفاً من اليقين، فيعبَّر بالظن عن اليقين. وقوله: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ يعني في الآخرة بعد البعث للحساب.(1/49)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
[سورة البقرة (2) : آية 47]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)
قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، أي على عالمي زمانهم. وقال بعضهم: من آمن من أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم كانت له فضيلة على غيره وكان له أجران، أجر إيمانه بنبيه- عليه السلام- وأجر إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثَلاَثَةٌ يُعْطِيهُم الله الأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، مَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَها، وَعَبْدٌ أَطَاعَ سَيِّدَهُ وَأَطَاعَ الله تَعَالَى، وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أدرك النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ» . وقال بعضهم: معنى قوله وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ بإنزال المن والسلوى وغيره، ولم يكن ذلك لأحد من العالمين غيرهم.
[سورة البقرة (2) : آية 48]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
وقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً، أي واخشوا عذاب يوم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، يعني لا تغني في ذلك اليوم نفس مؤمنة عن نفس كافرة، وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن من أولاد إبراهيم خليل الله، ومن أولاد إسحاق والله تعالى يقبل شفاعتهما فينا، فنزلت هذه الآية:
لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، أي لا تغني نفس مؤمنة عن نفس مؤمنة ولا نفس كافرة عن نفس كافرة. وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ، أي من نفس كافرة يعني لا ينفع فيها شافع ولا ملك ولا رسول لغير أهل القبلة. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَلاَ تقبل بالتاء، لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء، لأن تأنيثه ليس بحقيقي، وما لم يكن تأنيثه حقيقياً جاز تذكيره، وكقوله عز وجل: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: 275] ثم قال تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، أي لا يقبل الفداء من نفس كافرة كما قال في موضع آخر فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [آل عمران: 91] ، ويقال: لو جاءت بعدل نفسها رجلاً مكانها لا يقبل منها. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، يقول: ولا هم يمنعون من العذاب.
[سورة البقرة (2) : آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، إنما خاطبهم وأراد به آباءهم، لأنهم يتبعون آباءهم فأضاف إليهم. ومعناه واذكروا إذ نجيناكم من قوم فرعون يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي(1/50)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
يعذبونكم بأشد العذاب وأقبح العذاب. ويقال في اللغة: سامه الخسف، إذا أولاه الهوان.
يعني يولونكم بأشد العذاب. ثم بيّن العذاب فقال تعالى: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ الصغار وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، أي ويستخدمون نساءكم. وأصله في اللغة. من الحياة، يقال:
استحيا، يستحيي إذا تركه حيّاً. وكانوا يذبحون الأولاد، ويتركون النساء أحياء للخدمة، وذلك لأن فرعون قالت له كهنته: يولد في بني إسرائيل مولود ينازعك في ملكك، فأمر بأن يذبح كل مولود يولد في بني إسرائيل وتترك البنات.
قوله تعالى: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، أي نعمة من ربكم عظيمة، والبلاء:
يكون عبارة عن النعمة، ويكون أيضاً عبارة عن البلية والشدة وأصله من الابتلاء والاختيار يكون بهما جميعاً. فإن أراد به النعمة، فمعناه وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ، أي اتجاه الله من ذبح الأولاد واستخدام النساء نعمة لكم من ربكم عظيم وإن أراد به العذاب، فمعنى وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ أن في ذبح الأبناء واستخدام النساء بلاء لكم من ربكم عظيم.
[سورة البقرة (2) : آية 50]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، أي فرق الماء يميناً وشمالاً حين خرج موسى مع بني إسرائيل من مصر، فخرج فرعون وقومه في طلبهم فلما انتهوا إلى البحر ضرب موسى عصاه على البحر، فانفلق، فصار اثني عشر طريقاً يبساً، لكل سبط منهم طريق. فلما جاوز موسى البحر ودخل فيه فرعون مع قومه، غشيهم مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ، أي غشيهم الماء فغرقوا في اليم فذلك قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ.
يقول: واذكرا نعمة الله عليكم إذ فلقنا بكم البحر فَأَنْجَيْناكُمْ من الغرق وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ، يعني فرعون وآله. قال بعض أهل اللغة: الآل، أتباع الرجل قريبه كان أو غيره، وأهله قريبه أتبعه أو لم يتبعه. ويقال: الآل والأهل بمعنى واحد، إلا أن الآل يستعمل لأتباع رئيس من الرؤساء يقال: آل فرعون وآل موسى، وآل هارون ولا يقال: آل زيد، وآل عمرو.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: من آلك؟ قال: «آلِي كُلُّ تَقِيَ إَلى يَوْمِ القِيَامَةِ» .
قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، أي تنظرون إليهم حين لفظهم البحر بعد ما غرقوا، يعني آباءهم. وقال بعضهم: معناه أنكم تعلمون ذلك كأنكم تنظرون إليهم. قال الفقيه: وكان في قصة فرعون وغيره علامة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعرف ذلك إلاَّ بالوحي، فلما أخبرهم بذلك من غير أن يقرأ كتاباً، كان ذلك دليلاً أنه قاله بالوحي، وفيه أيضاً تهديد للكفار ليؤمنوا حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، وفيه أيضاً تنبيه للمؤمنين وعظة لهم ليزجرهم ذلك عن المعاصي.(1/51)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
[سورة البقرة (2) : الآيات 51 الى 53]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، قرأ أبو عمرو «وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى» بغير ألف، وقرأ غيره واعَدْنا بالألف، فمن قرأ بغير ألف فمعناه ظاهر، يعني أن الله تعالى وعد موسى عليه السلام وَمَنْ قرأ بالألف فالمواعدة تجري بين اثنين، وإنما كان الوعد من الله تعالى وَمَن موسى الوفاء، ومن الله الأمر، ومن موسى الائتمار. فكأنما جرت المواعدة بين الله تعالى وبين موسى. وقد يجوز أن تكون المفاعلة من واحد، كما يقال: سافر ونافق.
ويقال: أربعين ليلة كانت ثلاثين ليلة منها من ذي القعدة وعشراً من ذي الحجة. وقال بعضهم: ثلاثين كانت من ذي الحجة وعشراً من المحرم وكانت مناجاته يوم عاشوراء. وروى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: لما وعدهم موسى أربعين ليلة، عدَّت بنو إسرائيل عشرين يوماً وعشرين ليلة، وقالوا: قد تمت أربعون ولم يرجع موسى، فقد خالفنا.
وذكر أن السامري قال لهم: إنكم استعرتم من نساء آل فرعون حليهم ولم تردوه عليهم، فلعل الله تعالى لم يرد علينا موسى لهذا المعنى، فهاتوا ما عندكم من الحلي حتى نحرقه، فلعلَّ الله يرد إلينا موسى فجمعوا ذلك الحلي، وكان السامري صائغاً فاتخذ من ذلك عجلاً، وقد كان قبل ذلك رأى جبريل- عليه السلام- على فرس الحياة، فكلما وضع حافره اخضر ذلك الموضع، فرفع من تحت سنبكه قبضة من التراب، ونفخ ذلك التراب في العجل فصار ذلك عجلا جسدا له خوار. وروي عن ابن عباس أنه قال: صار عجلاً له لحم ودم وفيه حياة له خوار. وروي عن عليّ أنه قال: اتخذ عجلاً جسداً مشبكاً، من ذهب له خوار، فدخل الريح في جوفه وخرج من فيه كهيئة الخوار. فقال للقوم: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، يعني أن موسى أخطأ الطريق. وقال بعضهم: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة، فتمَّ ميقات رَبِّهِ أَرْبَعِينَ ليلة، لأنه قد أفطر من الصِّيام في تلك العشرة، لأنه ظهر لهم الخلاف في تلك العشرة وهذا الطريق أوضح.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ، أي عبدتم العجل من بعد انطلاق موسى إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ، أي كافرون بعبادتكم العجل. ويقال: وأنتم ضارون أنفسكم بعبادتكم العجل. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أي تركناكم من بعد عبادتكم العجل، فلم نستأصلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أي لكي تشكروا الله تعالى على العفو والنعمة.
قوله: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي أعطينا موسى التوراة وَالْفُرْقانَ، أي الفارق بين(1/52)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
الحلال والحرام. ويقال: الفرقان هو النصرة بدليل قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: 41] أي يوم النصرة. ويقال: الفرقان هو المخرج من الشبهات. ويقال: هو انفلاق البحر بدليل قوله: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50] . وقال الفراء: في الآية مضمر، ومعناه: وآتينا موسى الكتاب يعني التوراة، وأعطينا محمداً الفرقان، فكأنه خاطبهم فقال: قد أعطيناكم علم موسى وعلم محمد صلى الله عليه وسلم وعلم سائر الأنبياء. قوله: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، أي لكي تهتدوا من الضلالة.
[سورة البقرة (2) : آية 54]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ، وأصله يا قومي بالياء ولكن حذف الياء وترك الكسر بدلاً عن الياء، وتكون في الإضافة إلى نفسه معنى الشفقة. يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، يعني أضررتم بأنفسكم بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، يعني إلى خالقكم يقول: فارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة خالقكم، وتوبوا إليه فقالوا له: وكيف التوبة؟ قال لهم موسى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، يعني يقتل بعضكم بعضاً، يقتل من لم يعبد العجل الذين عبدوا العجل وإنما ذكر قتل الأنفس وأراد به الإخوان. وهذا كما قال في آية أخرى وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين، يعني لا تغتابوا إخوانكم.
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ، يعني التوبة خير لكم عند خالقكم، ومعناه قتل إخوانكم مع رضا الله خير لكم عند الله تعالى مَّنْ ترككم إلى عذاب الله.
قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، أي المتجاوز عن الذنوب الرحيم، حيث جعل القتل كفارة لذنوبكم. وروي في الخبر أن الذين عبدوا العجل جلسوا على أبواب دورهم، وأتاهم هارون والذين لم يعبدوا العجل شاهرين سيوفهم، فكان موسى- عليه السلام- يتقدم ويقول: إن هؤلاء إخوانكم قد أتوا شاهرين سيوفهم، فاتقوا الله واصبروا له، فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو حلّ حبوته، أو مدّ بطرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو برجل.
فيقولون: آمين، وذكر في رواية أبي صالح: أن هارون كان يتقدم ويقول ذلك، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء فكانت القتلى سبعين ألفاً، فكان موسى- عليه السلام- يدعو ربه لما شق من كثرة الدماء، حتى نزلت التوبة. فقيل لموسى: ارفع السيف عنهم، فإني قبلت توبتهم جميعاً، من قتل ومن لم يقتل.
[سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)(1/53)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
ثم قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ، أي لن نصدقك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً أي عياناً، وذلك أن موسى- عليه السلام- حين انطلق إلى طور سيناء للمناجاة، اختار موسى من قومه سبعين رجلاً، فلما انتهوا إلى الجبل أمرهم موسى بأن يمكثوا في أسفل الجبل، وصعد موسى- عليه السلام- فناجى ربه فأعطاه الله الألواح، فلما رجع إليهم قالوا له:
إنك قد رأيت الله فأرناه حتى ننظر إليه، فقال لهم: إني لم أره، وقد سألته أن أنظر إليه، فتجلى للجبل، فدك الجبل، فلم يصدقوه وقالوا: لن نصدقك حتى نرى الله جهرة. فأخذتهم الصاعقة فماتوا كلهم، فدعا موسى ربه فأحياهم الله تعالى، فذلك قوله عز وجل: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى الصاعقة. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، يقول أحييناكم من بعد هلاككم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ للحياة بعد الموت.
[سورة البقرة (2) : آية 57]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ، إنما خاطبهم وأراد به آباءهم وهم قوم موسى- عليه السلام- حيث أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين، فأبوا ذلك وقالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] ، فعاقبهم الله- عز وجل- فبقوا في التيه أربعين سنة، وكانت المفازة اثني عشر فرسخاً، وكان يؤذيهم حر الشمس فظلل عليهم الغمام، فذلك قوله تعالى:
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وهو السحاب الأبيض، يقيكم حر الشمس في التيه، وكان لهم في التيه عمود من نور مد لهم من السماء فيسير معهم من الليل مكان القمر. فأصابهم الجوع فسألوا موسى فدعا الله فأنزل عليهم المن وهو الترنجبين كان يتساقط عليهم كل غداة، فيأخذ كل إنسان منهم ما يكفيه يومه وليلته، فإن أخذ أكثر من ذلك دود ذلك الزائد وفسد وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل إنسان منهم مقدار ما يكفيه يومين، لأنه لا يأتيهم يوم السبت، وكان ذلك مثل الشهد المعجون بالسمن فأجموا من المن، أي ملوا من أكله. فقالوا لموسى- عليه السلام-: قتلنا هذا المن بحلاوته وأحرق بطوننا، فادع لنا ربك أن يطعمنا لحماً. فدعا لهم موسى- عليه السلام- فبعث الله لهم طيراً كثيراً فذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، وهو السماني وهو طير يضرب إلى الحمرة. وقال بعضهم: كان طيراً يأتيهم مشوياً. قال عامة المفسرين إنهم كانوا يأخذونها ويذبحونها.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ، أي قيل لهم كلوا من طيبات، وهذا من المضمرات، وفي كلام العرب يضمر الشيء إذا كان يستغنى عن إظهاره، كما قال في آية أخرى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آل عمران: 106] ، يعني يقال لهم أكفرتم وكما قال في آية أُخرى:(1/54)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: 3] يعني قالوا: ما نعبدهم. ومثل هذا في القرآن كثير. وكذلك قوله هاهنا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ، أي من حلالات مَا رَزَقْناكُمْ، أي أعطيناكم من المن والسلوى ولا ترفعوا منها شيئاً، كما قال في آية أخرى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ [طه: 81] ، أي ولا تعصوا فيه فلا ترفعوا إلى الغد، فرفعوا وجعلوا اللحم قديداً مخافة أن ينفد فرجع ذلك عنهم، ولو لم يرفعوا لدام ذلك عليهم.
قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا، يقول وما أضرونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، أي أضروا بأنفسهم حيث رفعوا إلى الغد حتى منع ذلك عنهم. وروى خلاس، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لَوْلا بَنُو إسْرَائِيلَ لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ، وَلَمْ يَنْتنِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَاءُ لَمْ تَخُنِ امْرَأةٌ زوجها» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
ثم قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ، قال الكلبي: يعني أريحا. وقال مقاتل:
إيليا. ويقال: هذا كان بعد موت موسى- عليه السلام- وبعد مضي أربعين سنة، حيث أمر الله تعالى يوشع بن نون وكان خليفة موسى- عليهما السلام- بأن يدخل مع قومه المدينة، فقال لهم يوشع بن نون: ادخلوا الباب سجداً، يعني إذا دخلتم من باب المدينة فادخلوا ركعاً منحنين ناكسي رؤوسكم متواضعين، فيقوم ذلك منكم مقام السجود وذلك قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ، يعني أريحا أو إيليا.
فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً، موسعاً عليكم وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، أي ركعاً منحنين وَقُولُوا حِطَّةٌ. قرأ بعضهم بالرفع وبعضهم بالنصب وهي قراءة شاذة، وإنما جعله نصباً لأنه مفعول. ومن قرأ بالرفع معناه وقولوا حطة. وروي عن قتادة أنه قال: تفسير حِطَّةٌ، يعني حطّ عنا خطايانا. وقال بعضهم: معناه لا إله إلا الله. وقال بعضهم: بسم الله.
وقال بعضهم: أمروا بأن يقولوا بهذا اللفظ ولا ندري ما معناه.
ثم قال: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام تَغْفِرْ بالتاء والضمة، لأن لفظ الخطايا مؤنث. وقرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة يَغْفِرُ بالياء والضمة بلفظ التذكير، لأن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفعل مقدم. وقرأ الباقون بالنون وكسر الفاء على(1/55)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
معنى الإضافة إلى نفسه وذلك كله يرجع إلى معنى واحد، ومعناه نغفر لكم خطايا الذين عبدوا العجل. وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، أي سنزيد في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال: نغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد، وسنزيد في إحسان من لم يرفع إلى الغد. ويقال: نرفع خطايا من هو عاصٍ، وسنزيد في إحسان من هو محسن. فلما دخلوا الباب خالفوا أمره. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أنَّهُمْ دَخَلُوا البَابَ يَزْحَفُونَ» . وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: دخلوا على أستاههم. ويقال: دخلوا منحرفين على شق وجوههم، وقالوا: «احنطا سمفانا» يعني حنطة حمراء، بلغة القبط استهزاء وتبديلاً، وإنما قال ذلك سفهاؤهم، فذلك قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، أي غيروا ذلك القول وقالوا بخلاف ما قيل لهم.
قال الله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي غيروا رِجْزاً، أي عذاباً مِنَ السَّماءِ وهو موت الفجاءة. وقال أبو روق: (الرجز) الطاعون. ويقال مات منهم بالطاعون سبعون ألفاً. ويقال: نزلت بهم نار فاحترقوا. ويقال: وقع بينهم قتال فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضاً.
بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي جزاء لفسقهم وعصيانهم. ثم رجع إلى قصة موسى حين كانوا في التيه وأصابهم العطش فاستغاثوا بموسى، فدعا موسى ربه، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فَأخذ موسى حجراً مربعاً مثل رأس الإنسان، ووضعه في المخلاة بين يدي قومه، ضَرَبَ عَصَاهُ عَلَيْهِ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ماءً عذباً وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً لكل سبط منهم عين على حدة. قال الفقيه: حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوسة قال: حدّثنا أبو القاسم، أحمد بن حمزة الصفار قال: حدّثنا عيسى بن أحمد قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال: تاه بنو إسرائيل في اثني عشر فرسخاً أربعين عاماً على غير ماء، وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور، فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى بعصاه.
[سورة البقرة (2) : آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
فذلك قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً فإذا ساروا جملوه فاستمسك. وقال بعضهم: كان يخرج عيناً واحدة ثم تتفرق(1/56)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
على اثنتي عشرة فرقة، وتصير اثني عشر نهراً. وقال بعضهم: كان للحجر اثنا عشر ثقباً، يخرج منها اثنتا عشرة عيناً لا يختلط بعضها ببعض. قال مقاتل: كان الحجر مربَّعاً، وكان جبريل- عليه السلام- أمر موسى بحمله معه يوم جاوز البحر ببني إسرائيل، وإنما انفجرت اثنتا عشرة عيناً، لأنه أخذ من مكان فيه اثنا عشر طريقاً.
ثم قال تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، أي قد عرف كل سبط مشربهم، أي موردهم وموضع شربهم من العيون لا يخالطهم فيها غيرهم. والحكمة في ذلك أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة، وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر، وأراد كل سبط تكثير نفسه، فجعل لكل سبط منهم نهراً على حدة ليستقوا منها، ويسقوا دوابهم لكيلا يقع بينهم جدال ومخاصمة. وقال بعضهم: كان الحجر من الجنة. وقال بعضهم: رفعه موسى من أسفل البحر حيث مرّ فيه مع قومه. وقال بعضهم: كان حجراً من أحجار الأرض.
قوله عز وجل: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أي قيل لهم كلوا من المن والسلوى، واشربوا من ماء العيون، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، أي لا تعملوا فيها بالمعاصي، يقال: عثا يعثو عثواً، إذا أظهر الفساد وعَثِي، وعاث- لغتان- الذئب في الغنم أي أسرع بالفساد ثم أنهم أجمعوا من المن والسلوى.
[سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، أي من جنس واحد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ، أي سل لنا ربك يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، أي مما تخرج الأرض مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها.
وقوله بَقْلِها أراد به البقول كلها، وقوله وَقِثَّائِها أراد به جميع ما يخرج من الفاكهة مثل القثاء والبطيخ ونحو ذلك، وقوله: وَفُومِها، أي طعامها وهي الحبوب كلها، ويقال: هي الحنطة خاصة. وقال مجاهد: الفوم الخبز. وقال الفراء: فومي لنا يا جارية، يعني اخبزي لنا.
ويقال: الفوم هو الثوم، والعرب تبدل الفاء بالثاء لقرب مخرجهما. وفي قراءة عبد الله بن مسعود وثومها وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا.(1/57)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
فغضب عليهم موسى- عليه السلام- قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، يعني أتستبدلون الرديء من الطعام بالذي هو خير أي بالشريف الأعلى؟ ويقال: معناه تسألون الدنيء من الطعام وقد أعطاكم الله الشريف منه وهو المن والسلوى؟ ويقال: أتختارون الدنيء الخسيس وهو الثوم والبصل على الذي هو أعلى وأشرف وهو المن والسلوى؟ فقال الله تعالى لهم: اهْبِطُوا مِصْراً قرأ بعضهم بلا تنوين أي المصر الذي خرجتم منه، وهو مصر فرعون، ومن قرأ مصراً بالتنوين يعني: ادخلوا مصراً من الأمصار، فَإِنَّ لَكُمْ فيه مَّا سَأَلْتُمْ تزرعون وتحصدون، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ. قال الحسن وقتادة: جعلت عليهم الجزية يعني على ذريتهم. ويقال: جعل عليهم كدّ العمل، يعني أولئك القوم حتى كانوا ينقلون السرقين.
وَالْمَسْكَنَةُ يعني زي الفقراء. وقال الكلبي: يعني الرجل من اليهود وإن كان غنياً، يكون عليه زي الفقراء.
وقوله تعالى: وَباؤُ بِغَضَبٍ، يعني استوجبوا الغضب مِنَ اللَّهِ. قال بعضهم:
أصله من الرجوع، يعني رجعوا باللعنة في أثر اللعنة. ويقال: باؤوا أي احتملوا كما يقال:
بوِّئت بهذا الذنب أي احتملته. ثم قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، أي ما أصابهم من الذلة والمسكنة- وهم اليهود- بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، يعني كذَّبوا عيسى وزكريا ويحيى ومحمداً- عليهم وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة والسلام- وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أي بغير جرم منهم، وهم زكريا ويحيى. قرأ نافع النَّبِيِّينَ بالهمزة وكذلك جميع ما في القرآن إلا في سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، وقرأ الباقون: بغير همز. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن رجلاً قال له: يا نبيء الله، فقال: «لست بنبيء الله ولكن نبي الله» . (والنبيين) جماعة النبي. وأما من قرأ بالهمز، قال أصله من النبأ وهو الخبر لأنه أنبأ عن الله تعالى، وأما من قرأ بغير همز فأصله مهموز، ولكن قريشاً لا تهمز. وقال بعضهم: هو مأخوذ من النبأة وهو الارتفاع، لأنه شرف على جميع خلقه. وقال بعضهم: النبيء هو الطريق الواضح، سمي بذلك لأنه طريق الخلق إلى الله تعالى.
قوله: ذلِكَ بِما عَصَوْا، أي ذلك الغضب على اليهود بما عصوا أي بسبب عصيانهم أمر الله تعالى، فخذلهم الله تعالى حين كفروا، فلو أنهم لم يعصوا الله تعالى كانوا معصومين من ذلك. وَكانُوا يَعْتَدُونَ يعني بقتلهم الأنبياء وركوبهم المعاصي.
[سورة البقرة (2) : آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)(1/58)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ، قال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن الذين آمنوا وهم قوم كانوا مؤمنين بموسى والتوراة ولم يتهودوا ولم يتنصروا.
والنصارى: الذين تركوا دين عيسى وَتسَمَّوْا بالنصرانية. واليهود الذين تركوا دين موسى وتسمَّوا باليهودية. والصابئين: هم قوم من النصارى ألين قولا منهم. مَنْ آمَنَ من هؤلاء بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ثوابهم. قال مقاتل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، أي صدقوا بتوحيد الله، ومن آمن من الذين هادوا ومن النصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم. وقال القتبي: قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، فكأنه قال: إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين. ويقال: اليهود سموا يهوداً بقول موسى- عليه السلام- إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 156] . ويقال: اشتقاقه من الميل من هاد يهود، إذا مال عن الطريق. وأما النصارى قال بعضهم: سموا أنفسهم نصارى بقول عيسى- عليه السلام- مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 152] ويقال: لأنهم نزلوا إلى قرية ويقال لها ناصرة، فتواثقوا على دينهم فسموا نصارى. وأما الصابي فهو من صبا يصبو إذا مال.
ويقال: من صبأ يصبأ، إذا رفع رأسه إلى السماء لأنهم يعبدون الملائكة. قرأ نافع والصَّابِئِينَ بغير همز من صبا يصبو، إذا خرج من دين إلى دين. وقرأ الباقون بالهمز من صبأ يصبأ، إذا رفع رأسه إلى السماء. واختلف العلماء في حكم الصابئين، فقال بعضهم:
حكمهم كحكم أهل الكتاب في أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم، وهو قول أبي حنيفة، لأنهم قوم بين النصرانية واليهودية يقرءون الزبور وقال بعضهم: هم بمنزلة المجوس لا يجوز أكل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم، وهو قول أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- لأنهم يعبدون الملائكة فصار حكمهم حكم عبدة النيران.
ولم يذكر في الآية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما ذكر الإيمان بالله تعالى فقد دخل فيه الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يكون مؤمناً بالله تعالى ما لم يؤمن بجميع ما أنزل الله تعالى على محمد وعلى جميع الأنبياء- عليهم الصلاة السلام- فكأنه قال: من آمن بالله وبما أنزل على جميع أنبيائه وصدق باليوم الآخر وَعَمِلَ صالِحاً أي أدى الفرائض، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يعني لهم ثواب أعمالهم في الآخرة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من الدنيا. ويقال: ليس عليهم خوف النار ولا حزن الفزع الأكبر. فإن قيل: فيه ذكر من آمن بالله بلفظ الوحدان، ثم قال فلهم أجرهم ولم يقل: فله أجره، قيل له: لأنه انصرف إلى ما سبق ذكره وهو الجماعة فمرة يذكر بلفظ الوحدان لاعتبار اللفظ ومرة بلفظ الجمع لاعتبار المعنى.(1/59)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ، قال ابن عباس: هما ميثاقان الميثاق الأول: حين أخرجهم من صلب آدم- عليه السلام- والميثاق الثاني: الذي أخذ في التوراة وسائر الكتب.
وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وذلك أن موسى- عليه السلام-، لما أتاهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التغليظ والأمر والنهي، شق ذلك عليهم فأبوا أن يقبلوها. وإن الله تعالى قد منّ على هذه الأمة حيث فرض عليهم الفرائض واحداً بعد واحد، ولم يفرض عليهم جملة، فإذا استقر الواحد في قلوبهم فرض الآخر. وأما بنو إسرائيل، فقد فرض عليهم دفعة واحدة فشق ذلك عليهم ولم يقبلوا، فأمر الله تعالى الملائكة فرفعوا جبلاً من جبال فلسطين فوق رؤوسهم، وكان عسكر موسى فرسخاً في فرسخ والجبل مثل ذلك، فلما رأوا أنه لا مهرب لهم منه، قبلوا التوراة وسجدوا من المهابة والفزع، وهم يلاحظون في سجودهم الجبل، فمن ذلك يسجد بعض اليهود على أنصاف وجوههم، فذلك قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ. والطور: اسم جبل بالسريانية: ويقال: هو جبل ذو أشجار.
ثم قال تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، أي قيل لهم: اعملوا بما آتيناكم بجد ومواظبة واعملوا في طاعة الله وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ. قال بعضهم: اعملوا بما فيه. وقال بعضهم: اذكروا ما فيه من الثواب والعقاب، لكي يسهل عليكم القبول. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أي لكي تتقوا عقوبته في المعصية فتمتنعوا عنها. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أي أعرضتم مِن بَعْدِ ذلك الإقرار، يعني من بعد ما رفع عنكم الجبل. فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أي منّ الله عليكم وَرَحْمَتُهُ بتأخير العذاب، لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ بالعقوبة. ويقال: فلولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال الرسل إليكم لكيلا تقيموا على الكفر، لكنتم من الخاسرين بالعقوبة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، أي اصطادوا، ويقال:
استحلوا أخذ الحيتان يوم السبت. والسبت في اللغة هو الراحة، كما قال في آية أخرى وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [النبأ: 9] أي راحة. فيوم السبت كان راحة لليهود عن أشغال الدنيا. وهذه الآية على معنى التحذير والتهديد، فكأنه يقول: إنكم تعلمون ما أصاب الذين استحلوا أخذ(1/60)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
السمك في يوم السبت من العقوبة، فاحذروا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم، وذلك أن مدينة يقال لها آيلة على ساحل البحر كان يجتمع فيها السمك يوم السبت حتى يأخذ وجه الماء، وفي سائر الأيام لا يأتيهم إلا قليل. وقال بعض أهل القصص: إنما كانت الحيتان تجتمع هناك لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس- عليه السلام- ففي كل سبت يجتمعون لزيارتها.
وقال بعضهم: لم يكن لهذا المعنى، ولكن كانت محنة أولئك القوم، فاحتالوا وحبسوا ذلك السمك في يوم السبت وأخذوه يوم الأحد، فلما لم تصبهم العقوبة لفعلهم ذلك أمنوا، واستحلوا أخذها فمسخهم الله قردة. وقد بيّن قصتهم في سورة الأعراف في قوله تعالى:
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف: 163] .
ثم قال تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ، يعني مبعدين من رحمة الله. وأصله في اللغة من البعد. يقال: خسأ الكلب إذا بعد. ويقال: خاسِئِينَ أي صاغرين ذليلين.
قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا، يعني جعلنا تلك العقوبة نكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها، يعني لما سبق منهم من الذنب وَما خَلْفَها، أي عبرة لمن بعدهم. ويقال: فجعلناها، يعني القرية، نكالاً لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى ليعتبروا بها. وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، يعني نهيا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعبرة لهم، لكي لا يستحلوا ما حرم الله عليهم. قال الفقيه: حدّثنا أبو القاسم عمر بن محمد قال: حدّثنا أبو بكر الواسطي قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال:
حدثنا كثير بن هشام، عن المسعودي، عن علقمة بن مرثد، عن المستورد بن الأحنف قال:
قيل لعبد الله بن مسعود: أرأيت القردة والخنازير، أمن نسل القرود والخنازير التي قد مسخت؟
قال عبد الله بن مسعود: إن الله تعالى لم يمسخ أمة فجعل لها نسلاً، ولكنها من نسل قرود وخنازير كانت قبل ذلك.
[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 71]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لاَّ فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)(1/61)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قال ابن عباس:
وذلك أن بني إسرائيل قيل لهم في التوراة: أيما قتيل وجد بين قريتين لا يدرى قاتله، فليقس إلى أيتهما أقرب، فعمد رجلان أخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما واسمه عاميل، فقتلاه لكي يرثاه وكانت ابنة عم لهما شابة جميلة حسناء، فخشيا أن ينكحها ابن عمها عاميل، ثم حملاه إلى جانب قرية، فأصبح أهل القرية والقتيل بين أظهرهم، فأخذ أهل القرية بالقتيل وجاءوا به إلى موسى.
وروى ابن سيرين عن عبيدة السلماني أن رجلاً كان له قرابة فقتله ليرثه ثم ألقاه على باب رجل، ثم جاء يطلب بدمه، فهموا أن يقتتلوا ولبس الفريقان السلاح، فقال رجل: أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فجاؤوا إلى موسى- عليه الصلاة والسلام- فأخبروه بذلك، فدعا الله تعالى في ذلك أن يبيِّن لهم المخرج من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه، فأخبرهم بذلك وقال: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها، يعني بعض أعضاء تلك البقرة فيحيا، فيخبركم من قتله قالُوا: يا موسى، أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قرأ عاصم في رواية حفص برفع الزاي بغير همز، وقرأ حمزة بسكون الزاي مع الهمزة، وقرأ الباقون بالهمز ورفع الزاي. ومعناه أتتخذنا سخرية، يعني أتسخر بنا يا موسى؟ فإن قيل: ألم يكن هذا القول منهم كفراً، حيث نسبوه إلى السخرية؟
قلنا: الجواب أن يقال قد ظهر عندهم علامات نبوته وعلموا أن قوله حق، ولكنهم أرادوا بهذا الكشف والبيان ولم يريدوا به الحقيقة ف قالَ لهم موسى أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، يعني أمتنع بالله. ويقال: معاذ الله أن أكون من المستهزئين.
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: فلو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم بالمسألة فشدد الله عليهم بالمنع لما قالُوا: يا موسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ، أي سل لنا ربك أن يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ، أي يبيِّن لنا كيفية البقرة، إنها صغيرة أو كبيرة. قالَ لهم موسى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لاَّ فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، يعني لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ، وسطاً ونصفاً بين ذلك يعني بين الصغيرة والكبيرة. وقد قيل في المثل: «العوان لا تعلَّم الخُمْرة» ، يعني أن المرأة البالغة ليست بمنزلة الصغيرة التي لا تحسن أن تختمر.
وقوله تعالى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ولا تسألوا. فسألوا وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. قالُوا: يا موسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ، أي سل لنا ربك يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها، قال لهم موسى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، يعني شديد الصفرة. كما يقال: أصفر فاقع إذا كان شديد الصفرة، كما يقال: أسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قاني، وأخضر ناصع إذا وصف بالشدة. وقال بعضهم: أراد به بقرة صفراء الظلف والقرن، أي شعرها وظلفها وقرنها(1/62)
وكل شيء منها أصفر. ويقال: أراد به البقرة السوداء، لأن السواد الشديد يضرب إلى الصفرة، كما قال تعالى: كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: 33] ، وكما قال القائل:
تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ، وَتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ
أراد بالصفر السود. ولكن هذا خلاف أقاويل المفسرين، وكلهم اتفقوا أن المراد به صفراء اللون، إلا قولاً روي عن الحسن البصري.
قوله عز وجل: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، يعني تعجب من نظر إليها لحسن لونها، فشددوا على أنفسهم وقالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ، يعني إنها من العوامل أو من غيرها. إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا، أي تشاكل علينا في أسنانها وألوانها وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، يعني نهتدي للقاتل. ويقال: نهتدي إلى البقرة أي ندركها بمشيئة الله تعالى. وروي عن ابن عباس أنه قال:
لولا أنهم استثنوا لم يدركوها. وروي عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَوْلا أَنَّهُمْ قَالُوا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ مَا وَجَدُوها» .
قالَ إِنَّهُ، لهم موسى: إن ربكم يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ، يقول لم يذللها العمل.
وقال أهل اللغة: الذلول في الدواب مثل الذليل في الناس، يقال: رجل ذليل، ودابة ذليلة بيِّنة الذل. تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تقلبها للزراعة. ويقال للبقرة: المثيرة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، يعني لا يسقى عليها الحرث، أي لا يستسقى عليها الماء لتسقي الزرع، ومعناه أن هذه البقرة لم تكن تعمل شيئاً من هذه الأعمال. مُسَلَّمَةٌ يقال: مهذبة سليمة من العيوب. ويقال: مسلمة من الألوان. لاَّ شِيَةَ فِيها، قال بعضهم لا عيب فيها وقال بعضهم: لا وضح فيها ولا بياض ولا سواد ولا لون سوى لون الصفرة. وقال أهل اللغة: أصله من وشى الثوب، وأصله في اللغة لا وشية فيها ولكن حذفت منها الواو للخفة مثل عدة وزنة.
فلما وصف لهم موسى ذلك، قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، يعني الآن أتممت الصفة.
ويقال: الآن جئت بالصفة التي كنا نطلب. فَذَبَحُوها، يعني البقرة وَما كادُوا يَفْعَلُونَ، أي كادوا أن لا يذبحوها. وقد قيل: إنما أرادوا أن لا يذبحوها، لأن كل واحد منهم خشي أن يظهر القاتل من قبيلته. وقال بعضهم: وما كادوا يفعلون لغلاء ثمن البقرة، لأنهم كانوا لا يدركون بقرة بتلك الصفة. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: لم توجد تلك البقرة إلا عند فتى من بني إسرائيل، كان باراً بوالديه وكان يصلي ثلث الليل، وينام ثلث الليل، ويجلس ثلث الليل عند رأس أمه ويقول لها: إن لم تقدري على القيام فسبحي الله وهللي، وكان ورث عن أبيه بقرة فلم يجد أهل تلك القرية على تلك الصفة إلا هذه البقرة، فاشتروها بملئ مسكها دنانير. وقال بعضهم: كان رجل يبيع الجوهر، فجاءه إبليس يوماً بجراب من لؤلؤ فعرض(1/63)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
عليه، وأراد أن يبيع منه بمائة ألف، وكان ذلك يساوي مائتي ألف. فلما أراد أن يشتري، فإذا مفتاح الصندوق كان تحت رأس أبيه وهو نائم، فذهب ليوقظه ويرفع المفتاح ويدفع الثمن، ثم قال في نفسه: كيف أوقظ أبي لأجل ربح مائة ألف ولم يحتمل قلبه فرجع، فقال: إن أبي نائم. فقال له إبليس: اذهب فأيقظه فإني أبيع منك بخمسين ألفاً فذهب ليوقظه فلم يحتمل قلبه فرجع فلا زال إبليس يحط من الثمن حتى بلغ عشرة دراهم فلم يوقظ أباه وترك الشراء ذلك.
فجعل الله في ماله البركة حتى اشتروا بقرته بملء مسكها ذهبا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 72 الى 73]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
ثم قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها أي تدافعتم، يعني ألقى بعضكم على بعض. يقال: ادَّارأ القوم أي تدافعوا وقال القتبي: أصله تدارأتم، فأدغمت التاء في الدال وأدخل الألف ليسلم السكون للدال، ويقال: هذا ابتداء القصة، ومعناه وإذ قتلتم نفساً فأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى، فَقَالَ موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً إلى آخره.
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، أي مظهر ما كنتم تكتمون من قتل عاميل. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
أي اضربوا الميت ببعض أعضاء البقرة. قال بعضهم: بفخذها الأيمن. وقال بعضهم: بلسانها. وقال بعضهم: بعجب ذنبها وهو عظم في أصل ذنبها، ويقال عليه تركيب الخلق، فأول شيء يخلق ذلك الموضع، ثم يركب عليه سائر البدن، وهو آخر الأعضاء فساداً بعد الموت. فلما ضربوا الميت جلس وأوداجه تشخب دماً، وقال: قتلني ابنا عمي. فأخذا وقتلا، ولم يعط لهما من ميراثه شيئاً. وقال عبيدة السلماني: لم يورث قاتل بعد صاحب البقرة.
ثم قال تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
، كان في ذلك دليل لأولئك القوم أن البعث كائن لا محالة، لأنهم رأوا الإحياء بعد الموت معاينة وكان في ذلك دليل لهذه الأمة ولمشركي العرب وغيرهم، لأن الله لما أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبرهم فصدقوه في ذلك أهل الكتاب ولم يكونوا على دينه، فكان ذلك من أدل الدليل عليهم بالبعث. قوله تعالى:
الى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
، كان في ذلك دليل لأولئك القوم أن البعث كائن لا محالة، لأنهم رأوا الإحياء بعد الموت معاينة وكان في ذلك دليل لهذه الأمة ولمشركي العرب وغيرهم، لأن الله لما أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبرهم فصدقوه في ذلك أهل الكتاب ولم يكونوا على دينه، فكان ذلك من أدل الدليل عليهم بالبعث. قوله تعالى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ، أي عجائبه مثل إحياء الموتى وغيره. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
، أي تفهمون أن الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم حق.(1/64)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
[سورة البقرة (2) : الآيات 74 الى 75]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، قال الزجاج: تأويل قست في اللغة أي غلظت ويبست، فتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع. وقوله: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، قد قيل: من بعد إحياء الميت، ويحتمل بعد الآيات التي ذكرت، نحو مسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وتفجير الأنهار من الحجر وغير ذلك. وقال بعض الحكماء: معنى قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، أي يبست. ويبس القلب أن ييبس عن ماءين أحدهما: ماء خشية الله والثاني: ماء شفقة الخلق.
ثم قال تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ، وكل قلب لا يكون فيه خشية الله تعالى فهو كالحجارة. أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، قال بعضهم: بل أشد قسوة مثل قوله تعالى: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] بمعنى بل يزيدون، وكقوله: كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77] ، أي بل هو أدنى. وقال بعضهم: معناه وأشد قسوة الألف زائدة. وقال الزجاج:
أو للتخيير يعني إن شئتم شبهتم قسوتها بالحجارة أو بما هو أشد قسوة فأنتم مصيبون كقوله تعالى: كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: 19] ثم قال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فأعذر الحجارة وعاب قلوبهم، حين لم تلن بذكر الله ولا بالموعظة فقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، يعني الحجر الذي منه العيون في الجبل. ويقال أراد به حجر موسى- عليه السلام- الذي كان يخرج منه العيون. وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ، أي من الحجارة ما يتصدع فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. ويقال: كل حجر يتردى من رأس الجبل إلى الأرض فهو من خشية الله. ويقال: أراد به الجبل الذي صار دكاً حين كلم الله موسى- عليه السلام-. ويقال: هو جميع الجبال، وما يزول الحجر من مكانه إلا من خشية الله تعالى. وقال بعضهم: هو على وجه المثال، يعني لو كان له عقل لهبط من خشية الله تعالى، وهو قول المعتزلة وهو خلاف أقاويل أهل التفسير.
قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، قرأ ابن كثير وابن عامر يعملون بالياء والباقون بالتاء. واختلفوا في مواضع أخرى. قرأ حمزة والكسائي في كل موضع وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بالياء. وفي كل موضع وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] بالتاء. واختلفت الروايات عن غيرهما. وهذا كلام التهديد، يعني أن الله تعالى يجازيكم بما(1/65)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
تعملون فيحذركم بذلك. ثم ذكر التعزية للنبي صلى الله عليه وسلم لكيلا يحزن على تكذيبهم إياه، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا فقال تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ، قال ابن عباس: يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة. وقال بعضهم: أراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، أفتطمعون أن يصدقوكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ؟ فإن أراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة، فمعناه أفتطمع أن يصدقوك؟
وقد يذكر لفظ الجماعة ويراد به الواحد، كما قال في آية أخرى مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ [يونس: 83] ، وقال تعالى: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ [القصص: 76] ، وقال تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ [هود: 14] ، أراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة كذلك هاهنا. ثم قال: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ، قال في رواية الكلبي: يعني السبعين الذين ساروا مع موسى- عليه السلام- إلى طور سيناء فسمعوا هناك كلام الله تعالى، فلما رجعوا قال سفهاؤهم: إن الله أمر بكذا بخلاف ما أمرهم، فذلك قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أي غيروه من بعد ما حفظوه وفهموه. وقال بعضهم: إنما أراد به الذين يغيرون التوراة. وقال بعضهم: يغيرون تأويله وهم يعلمون.
[سورة البقرة (2) : الآيات 76 الى 78]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
قوله عز وجل: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا، يعني المنافقين منهم قالُوا للمؤمنين آمَنَّا، أي أقررنا بالذي أقررتم به. وهم منافقو أهل الكتاب. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ، يعني إذا رجعوا إلى رؤسائهم، قالُوا لبعضهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، أي أتخبرونهم بأن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كتابكم فيكون ذلك حجة عليكم؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ أن ذلك حجة لهم عليكم؟ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ، أي ليخاصموكم عِنْدَ رَبِّكُمْ باعترافكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لا تتبعوه أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أي أفليس لكم ذهن الإنسانية؟ لا ينبغي لكم هذا فيما بينكم. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. قال بعضهم:
ما يسرون فيما بينهم وما يعلنون مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتابَ، أي مّنْ أَهْلِ الكتاب وهم السفلة أميون لا يقرءون الكتاب، لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته. وقال الزجاج: الأمي المنسوب إلى(1/66)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
ما عليه جبلة الأمة، يعني هو على الخلقة التي خلق عليها لأن الإنسان في الأصل لا يعلم شيئاً ما لم يتعلَّم. إِلَّا أَمانِيَّ، قال بعضهم: إِلا التلاوة، وهذا كما قال في آية أخرى إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] ، أي في تلاوته. يقول: إن السفلة منهم كانوا لا يعرفون من التوراة شيئاً سوى تلاوته. وقال بعضهم: إلا أماني: إلا أباطيل. وروي عن عثمان بن عفان أنه قال: منذ أسلمت ما تغنيت ولا تمنيت، أي ما تكلمت بالباطل. وروي في الخبر أن الإنسان إذا ركب دابته ولم يذكر الله تعالى، صكّه الشيطان في قفاه ويقول له: تغنَّ فإن لم يحسن الغناء، يقول له: تمنَّ أي تكلم بالباطل. وَإِنْ هُمْ، أي وما هم إِلَّا يَظُنُّونَ، لأنه قد ظهر لهم الكذب من رؤسائهم فكانوا يشكون في أحاديثهم وكانوا يظنون من غير يقين. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والظن فإنه من أكذب الحديث» .
[سورة البقرة (2) : آية 79]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ، الويل: الشدة من العذاب. ويقال: الويل كلمة تستعمل عند الشدة ويقال: يا ويلاه. ويقال: الويل وادٍ في جهنم. قال: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر أنه قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدّثنا وكيع بن سفيان، عن زياد، عن أبي عياض قال: الويل واد في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم. وإنما صار رفعاً بالابتداء. وقال الزجاج: ولو كان هذا في غير القرآن لجاز (فويلاً) على معنى: جعل الله ويلاً للذين يكتبون الكتاب، إلا أنه لم يقرأ. وذلك أن رؤساء اليهود محوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم كتبوا غير نعته، ثُمَّ يَقُولُونَ للسفلة هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، أي عرضاً يسيراً من مال الدنيا. وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن يكتب المصحف بالأجر، وتأول هذه الآية فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ. إلى قوله: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا وغيره من العلماء أباحه. ثم قال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أي مما يصيبهم من العذاب وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ، أي مما يصيبون فجعل الويل لهم ثلاث مرات.
[سورة البقرة (2) : آية 80]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، روي عن الضحاك أنه قال: لم يكن أحد من الكفار أجرأ على الله تعالى من اليهود، حين قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وقالوا: إن الله(1/67)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
فقير وقالوا أيضاً لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، أي مقدار الأيام التي عبد فيها العجل آباؤنا. وهي أربعون يوماً. وقال مجاهد: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، أي عدد أيام الدنيا وهي سبعة أيام. وهكذا روي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: وقال بعضهم كان مذهبهم مذهب جهم في أنهم لا يرون الخلود في النار.
قال الله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، قال الزجاج: معناه أعهد إليكم ألا يعذبكم إلا هذا المقدار، إن كان لكم عهد؟ فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أي وعده. ويقال: أعقدتم عند الله عقداً؟ وهو عقد التوحيد فلن يخلف الله عهده أي وعده. وقد قيل: هل أنزل عليكم بذلك آية؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لاَ تَعْلَمُونَ، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون. وروي في الخبر أنَّهُمْ إذا مضت عليهم في النار تلك المدة، قالت لهم الخزنة: يا أعداء الله ذهب الأجل وبقي الأبد، فأيقنوا بالخلود.
[سورة البقرة (2) : الآيات 81 الى 82]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
قال الله تعالى بَلى، أي يخلد فيها مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، يعني الشرك وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، أي مات على الشرك. وقال بعضهم: السيئة الشرك، والخطيئة الكبائر. وهو قول المعتزلة: إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار. وقال الربيع بن خثيم: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الذين يموتون على الشرك. قرأ نافع خطاياه وهو جمع خطيئة. والباقون خَطِيئَتُهُ وهي خطيئة واحدة والمراد به الشرك. فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون لا يخرجون منها أبداً.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، معناه والذين صدقوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم، يعني أدوا الفرائض وانتهوا عن المعاصي، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون.
[سورة البقرة (2) : آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)(1/68)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، أي وقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة، يعني بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: الميثاق الأول حين أخرجهم من صلب آدم- عليه السلام-.
قوله: لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، قرأ حمزة والكسائي وابن كثير لا يعبدون بالياء، وقرأ الباقون بالتاء بلفظ المخاطبة فمن قرأ بالياء، معناه وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا الله ومن قرأ بالتاء فمعناه: وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وقلنا لهم: لا تعبدوا إلا الله، يعني أخذنا عليهم الميثاق بأن لا يعبدوا إلا الله، يعني لا توحدوا إلا الله. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً
، نصب إحساناً على معنى أحسنوا إحساناً فيكون إحساناً بدلاً من اللفظ، أي أحسنوا إلى الوالدين برا بهما وعطفاً عليهما. وفي هذه الآية بيان حرمة الوالدين، لأنه قرن حق الوالدين بعبادة نفسه.
ويقال: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا يقبل إحداها بغير قرينتها. إحداها: قوله عز وجل:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة: 92] ، والثانية: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ [لقمان: 14] ، والثالثة: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43 وغيرها] .
وقوله تعالى: وَذِي الْقُرْبى، يعني أحسنوا إلى ذي القربى وَالْيَتامى، يعني أحسنوا إلى اليتامى وَإلى الْمَساكِينِ والإحسان إلى اليتامى والمساكين أن يحسن إليهم بالصدقة وحسن القول. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، قرأ حمزة والكسائي بنصب الحاء والسين، وقرأ الباقون برفع الحاء وسكون السين. فمن قرأ بالنصب فمعناه: قولوا للناس حَسَناً يعني قولوا لهم قولاً صدقاً في نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته كما بيّن في كتابكم. ونظيرها في سورة طه أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه: 86] ، أي وعداً صدقاً. ومن قرأ بالرفع، فمعناه قولوا لجميع الناس حَسَناً يعني: خالقوا الناس بالخُلُق الحسن، فكأنه يأمر بحسن المعاشرة وحسن الخلق مع الناس. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، يعني أقروا بها وأدوها في مواقيتها. وَآتُوا الزَّكاةَ، المفروضة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، يعني أعرضتم عن الإيمان والميثاق، إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، أي تاركون لما أخذ عليكم من المواثيق.
[سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)(1/69)
ثم قال عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ، أي إقراركم لاَ تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ، أي بأن لا تسفكوا دماءكم، يعني لا يهرق بعضكم دماء بعض، وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي لا يخرج بعضكم بعضاً مِنْ دِيارِكُمْ. فجملة ما أخذ عليهم من الميثاق أَلا يعبدوا إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ويقولوا للناس حسناً، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ولا يسفكوا دماءهم، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وأن يفادوا أسراهم. فذكر المفاداة بعد هذا حيث قال تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ على وجه التقديم والتأخير. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، يعني بني قريظة والنضير، يعني أقررتم بهذا كله، وأنتم تشهدون أن هذا في التوراة، فنقضوا العهد فعيّرهم الله تعالى بذلك حيث قال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، يعني يا هؤلاء ويقال معناه، ثم أنتم هؤلاء يا معشر اليهود تقتلون أنفسكم أي يقتل بعضكم بعضاً، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ، أي بعضكم بعضاً، لأنه كان بين الأوس والخزرج عداوة وكان بنو النضير وقريظة: إحدى القبيلتين كانت معينة للأوس، والأخرى كانت معينة للخزرج، فإذا غلبت إحداهما على الأخرى كانت تقتلهم وتخرجهم من ديارهم. وفي الآية دليل أن الإخراج من الدار ينزل منزلة القتل، لأن الله تعالى قرن الإخراج من الديار بالقتل حيث قال تعالى: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ.
تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ، قرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد لأن أصله تتظاهرون، فأدغم إحدى التاءين في الظاء وأقيم التشديد مقامه، معناه: تتعاونون عليهم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، يعني بالمعصية والظلم. قال الزجاج: العدوان هو الإفراط في الظلم. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، قرأ عاصم والكسائي ونافع أُسارى تُفادُوهُمْ كلاهما بالألف، وقرأ حمزة أسرى تفادوهم بغير ألف فيهما، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أُسارى تُفادُوهُمْ الأول بالألف والثاني بغير ألف. وهذا من الميثاق الذي أخذ عليهم بأن يفادوا الأسارى. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ هذا انصرف إلى ما سبق ذكره من الإخراج، فكأنه يقول: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن ديارهم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ، يعني ذلك الإخراج كان محرماً، ثم بيَّن الإخراج مرة أخرى لتراخي الكلام، فقال وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ.
ثم قال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، لأنهم كانوا إذا أسروا من غيرهم(1/70)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
قتلوا الأسرى ولا يفادوهم، وإن أسر منهم أحد يأخذوهم بالفداء، فهذا معنى قوله تعالى:
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، أي عقوبة مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ خِزْىٌ فِي الحياة الدنيا، وهو إخراج بني النضير إلى الشام وقتل بني قريظة، وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم. ثم أخبر بأن الذي أصابهم في الدنيا من الخزي والعقوبة لم يكن كفارة لذنوبهم ولكنهم: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ، أي في الآخرة إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ. ويقال: الخزي في الدنيا الجزية.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أي لا يخفى على الله تعالى من أعمالهم شيء، فيجازون بأعمالهم. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ، يعني اختاروا الدنيا على الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، أي ليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله تعالى في الآخرة.
[سورة البقرة (2) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي أعطينا موسى التوراة جملة واحدة ويقال: الألواح وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ، أي أتبعنا وأردفنا، معناه: أرسلنا رسولاً على أثر رسول. يقال:
قفوت الرجل إذا ذهبت في أثره. وَآتَيْنا أي أعطينا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ، أي الآيات والعلامات مثل: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. قرأ ابن كثير الْقُدُسِ بسكون الدال، وقرأ الباقون الْقُدُسِ برفع الدال ومعناهما واحد، أي إغاثة بجبريل حين أرادوا قتله فرفعه إلى السماء. وقال بعضهم: أيدناه أي قويناه وأعناه باسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى.
أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ يقول: بما لا يوافق هواكم اسْتَكْبَرْتُمْ، تعظمتم عن الإيمان. قال الزجاج: معناه أنفتم أن تكونوا له أتباعاً. لأنهم كانت لهم رئاسة وكانوا متبوعين، فلم يؤمنوا مخافة أن تذهب عنهم الرياسة. فقال تعالى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ، مثل عيسى ابن مريم ومحمد- صلى الله عليهم وعلى جميع الأنبياء وسلم- وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ، مثل يحيى وزكريا عليهما السلام.
[سورة البقرة (2) : الآيات 88 الى 90]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)(1/71)
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ، قرأ ابن عباس غُلْفٌ بضم اللام وهي قراءة شاذة. والباقون بسكون اللام، أي ذو (غلْف) يعني ذو غلاف، والواحد أغلف مثل: أحمر وحمر. ومعناه:
أنهم يقولون قلوبنا في غطاء من قولك ولا نفقه حديثك. وهذا كما قال في آية أخرى وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] . وأما من قرأ غُلْفٌ فهو جماعة الغلاف على ميزان حمار وحمر. يعنون أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك، فلو كنت نبياً لفهمنا قولك. قال الله تعالى رداً لقولهم: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي خذلهم الله وطردهم مجازاة لكفرهم. فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ، صار نصباً لأنه قدم المفعول. وقال بعضهم: معناه لا يؤمنون إلا القليل منهم، مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال بعضهم: إيمانهم بالله قليلاً، لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. وقال بعضهم: معناه أنهم لا يؤمنون، كما قال: فلان قليل الخير يعني لا خير فيه.
ثم قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي حين جاءهم القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، أي موافقاً للتوراة في التوحيد، وفي بعض الشرائع. ويقال: مصدق لما معهم، يعني يدعوهم إلى تصديق ما معهم، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بالتوراة. وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أي من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يستنصرون على المشركين، لأن بني قريظة والنضير قد وجدوا نعته في كتبهم فخرجوا من الشام إلى المدينة، ونزلوا بقربها ينتظرون خروجه. وكانوا إذا قاتلوا من يلونهم من المشركين- مشركي العرب- يستفتحون عليهم، أي يستنصرون ويقولون: اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا- وكانوا يرجون أن يكون منهم- فينصروا على عدوهم، فذلك قوله تعالى:
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أي باسم النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَلَمَّا جاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا، أي محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوه كَفَرُوا بِهِ وغيّروا نعته مخافة أن تزول عنهم منفعة الدنيا.
كما قال تعالى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ، أي سخط الله وعذابه على الجاحدين محمدا صلى الله عليه وسلم بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. قال الكلبي: بئسما باعوا به أنفسهم من الهدايا بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: بئسما صنعوا بأنفسهم حيث كفروا بما أنزل الله عليهم، بعد ما كانوا(1/72)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
خرجوا من الشام على أن ينصروا محمدا صلى الله عليه وسلم. ويقال: بئس ما صنعوا بأنفسهم حسداً منهم، فذلك قوله تعالى: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً، أي حسداً منهم.
ومعنى قوله: أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ، أي كفروا مما ينزل الله. مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ، أي لم يؤمنوا لأجل أن الله تعالى ينزل من فضله النبوة والكتاب على من يشاء مِنْ عِبادِهِ، من كان أهلاً لذلك وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ بالتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي وعصام وابن عامر بالتشديد أَنْ يُنَزِّلَ ونزل ينزل بمعنى واحد فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي استوجبوا اللعنة على أثر اللعنة. قال مقاتل: الغضب الأول حين كفروا بعيسى صلى الله عليه وسلم، ثم استوجبوا الغضب الآخر حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويقال: الغضب الأول حين عبدوا العجل، والغضب الثاني حين استحلوا السمك في يوم السبت.
قوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي يهانون فيه.
[سورة البقرة (2) : آية 91]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، أيّ صدِّقوا بالقرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهم يهود أهل المدينة ومن حولها. قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا في التوراة وبموسى- عليه السلام- وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ، يعني بما سواه وهو القرآن. وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ، أي القرآن هو الصدق، وهو منزل من الله تعالى موافق لما معهم، يعني أنهم إذا جحدوا بالقرآن صار جحوداً لما معهم، لأنهم جحدوا بما هو مصدق لما معهم فقالوا له: إنك لم تأتنا بمثل الذي أتانا به أنبياؤنا، ولم يكن لنا نبي إلا كان يأتينا بقربان تأكله النار.
قال الله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ وقد جاءوا بالقربان والبينات أي بالعلامات إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي إن كنتم مصدقين بالأنبياء. فهذا اللفظ للمستأنف وهو قوله فَلِمَ تَقْتُلُونَ، ولكن المراد منه الماضي وإنما خاطبهم وأراد به آباءهم. وفي الآية دليل أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها، لأنهم كانوا راضين بقتل آباءهم الأنبياء، فسماهم الله تعالى قاتلين. وفي الآية دليل أن من ادعى أنه مؤمن، ينبغي أن تكون أفعاله مصدقة لقوله، لأنهم كانوا يدعون أنهم مؤمنون بما معهم. قال الله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ، يعني أي كتاب يجوِّز قتل نبي من الأنبياء- عليهم السلام- وأي دين وإيمان جوَّز فيه ذلك يعني قتل الأنبياء.(1/73)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
[سورة البقرة (2) : آية 92]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، أي بالآيات والعلامات. ويقال: بالحلال والحرام والحدود والفرائض. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ، أي عبدتم العجل مِنْ بَعْدِهِ، يعني بعد انطلاق موسى إلى الجبل. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ، أي كافرون بعبادتكم العجل.
[سورة البقرة (2) : آية 93]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، أي بجد ومواظبة في طاعة الله تعالى وَاسْمَعُوا، أي قيل لهم اسمعوا، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا. قال في رواية الكلبي: قالوا: سمعنا قولك وعصينا أمرك، ولولا مخافة الجبل ما قبلنا. ويقال:
إنهم يقولون في الظاهر: سمعنا، ويضمرون في أنفسهم: وعصينا أمرك. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ، أي جعل حلاوة عبادة العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم. ويقال: حب عبادة العجل فحذف الحب، وأقيم العجل مقامه ومثل هذا يجري في كلام العرب. كما قال في آية أخرى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، أي أهل القرية، ثم قال تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ، أي بئس الإيمان الذي يأمركم بالكفر. وقال مقاتل: معناه إن كان حب عبادة العجل في قلوبكم يعدل حب عبادة خالقكم، فبئس ما يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كما تزعمون.
[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ أي الجنة. وذلك أن(1/74)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
اليهود كانوا يقولون: إن الجنة لنا خاصة من دون سائر الناس. قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كان الأمر كما يقولون إن الجنة لكم خالصة خاصة. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، أي سلوا الله الموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن الجنة لكم. فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «قُولُوا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ:
اللهمّ أمتنا، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلاّ غَصَّ بِرِيقِهِ» ، يعني يموت مكانه. فأبوا أن يقولوا ذلك، فنزل قوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني بما عملوا من المعاصي. قال الزجاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة رسالته صلى الله عليه وسلم، لأنه قال لهم: فتمنوا الموت، وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً فلم يتمنه واحد منهم. وفي هذه الآية دليل أن «لن» لا تدل على التأبيد، لأنهم يتمنون الموت في الآخرة خلافاً لقول المعتزلة في قولهم: لن تراني ويقال: إن قوله (لن) إنما يقع على الحياة الدنيا خاصة، ولم يقع على الآخرة لأنهم يتمنون الموت في النار إذا كانوا في جهنم، ولو أنهم سألوا الموت في الدنيا ولم يموتوا، وكان في ذلك تكذيباً لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وكان في ذلك أيضاً ذهاب معجزته. فلما لم يتمنوا الموت، ثبت بذلك عندهم أنه رسول الله وظهر عندهم معجزته، وظهر أن الأمر كما قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، فهو عليم بهم وبغيرهم من الظالمين وإنما الفائدة هاهنا أنه عليم بمجازاتهم.
ثم قال عز وجل: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ، يعني أن اليهود أحرص الناس على البقاء. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يعني أحرص من الذين أشركوا. قال الكلبي: الذين أشركوا يعني المجوس. وقال مقاتل: أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا يعني مشركي العرب. فإن قيل: كيف يصح تفسير الكلبي والمجوس لا يسمون مشركين؟ قيل له: المجوس مشركون في الحقيقة، لأنهم قالوا بإلهين اثنين: النور والظلمة.
قوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، يعني المجوس يقولون لملوكهم في تحيتهم: عش عشرة آلاف سنة وكل ألف نيروز. وقال مقاتل: يود أحدهم- يعني اليهود- لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، ثم قال: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ، يعني طول حياته لا يبعده ولا يمنعه من العذاب وإن عاش ألف كما تمنى. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي عالم بمجازاتهم بأعمالهم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ، وذلك أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-(1/75)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
قال لليهود: ما لكم لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لأن جبريل هو الذي ينزل عليه بالوحي، فلو نزل عليه ميكائيل بالوحي لآمنا به، لأن ميكائيل ملك الرحمة وجبريل ملك العذاب. وهو عدونا فأطلع محمداً على سرنا، فنزلت هذه الآية. ويقال: إنهم يقولون: إن النبوة كانت فينا، فجبريل صرف النبوة عنا إلى غيرنا لعداوته معنا فنزلت هذه الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.
قال بعضهم: في الآية مضمر، ومعناه: قل من كان عدوا لجبريل ويبغضه جبريل هو الذي نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، ينزل بالقرآن فيقرأه عليك فتحفظه في قلبك بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة. ويقال: هذا على وجه الترغيم، فكأنه يقول: قل من كان عدواً لجبريل، فإن جبريل هو الذي ينزل عليك رغماً لهم بهذا القرآن عليك، ليثبت به فؤادك. وَهُدىً وهذا القرآن هدى من الضلالة وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. أي لمن آمن به من المؤمنين مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ، معناه من كان عدوا لجبريل فإنه عدو الله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، يعني اليهود.
ويقال: إن عبد الله بن صوريا هو الذي قال لعمر: إن جبريل عدونا لأنه ينزل بالشدة والخوف، وميكائيل ينزل بالرخاء، فنزلت هذه الآية مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ. قرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية أبي بكر جَبْرَئِيلَ بفتح الجيم والراء والهمزة، وميكائيل. بالياء مع الهمزة.
وقرأ نافع جِبرِيل بكسر الجيم والراء بغير همزة ومِكَالَ بالهمزة بغير ياء. وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص بغير همزة بكسر الجيم والراء وميكال بغير همز وياء. وقرأ ابن كثير جبريل بنصب الجيم بغير همزة وميكايل بهمز مع الياء. وقرأ ابن عامر جبريل بكسر الجيم مثل قراءة نافع وميكائيل بالياء مع المد والهمز مثل حمزة وإنما لا ينصرف لأنه اسم أعجمي، فوقع ذلك في لسان العرب واختلفوا فيه لاختلاف ألفاظهم ولغاتهم. ويقال: إن جبريل وميكائيل معناه عبد الله وعبد الرحمن أي بلغتهم سوى العربية.
[سورة البقرة (2) : آية 99]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات. ويقال: مبينات للحلال والحرام. وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ، يعني وما يجحد بالآيات إلاَّ الكَافِرُونَ والْفَاسِقُونَ واليهود ومشركو العرب.
[سورة البقرة (2) : الآيات 100 الى 101]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)(1/76)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً، وهو العهد الذي بُيِّن لهم في التوراة ويوم الميثاق نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، أي تركه ولم يعمل به فريق منهم، أي طائفة منهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وقد ذكرناه. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أي محمد صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، أي يدعوهم إلى تصديق ما معهم، نَبَذَ فَرِيقٌ، أي طرح فريق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ ولم يؤمنوا به، كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ في كتابهم بأن محمداً رسول الله.
[سورة البقرة (2) : آية 102]
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ، أي ما كتبت الشياطين ويقال: ما ألقت الشياطين ويقال: ما افتعلته الشياطين عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي على عهد ملك سليمان. ويقال: على بمعنى في، أي في ملك سليمان. ويقال: في وقت ذهاب ملك سليمان. ويقال: هذا منسوق على الأول، فكأنّه قال: نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلو الشياطين، أي تركوا سنة أنبياء الله واتبعوا السحر. ويقال: تركوا شيئين واتبعوا شيئين: تركوا اتباع الكتب واتباع الرسل والعمل بذلك، واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ترويه الشياطين وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ.
واختلفوا في سبب ذلك، فقال بعضهم أن سليمان- عليه السلام- أمر بأن لا يتزوج المرأة من غير بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل يقال لها: ضبنة بنت صابورا، فعاقبه الله تعالى بأن أجلس مكانه شيطاناً وكان الناس يظنون أنه سليمان وأشكل عليهم أمره، فجاؤوا إلى آصف بن برخيا، وكان معلم سليمان بن داود في حال صغره وكان وزيره في حال كبره وملكه فقالوا له: إن قضاياه لا تشبه قضايا سليمان. فقام آصف ودخل على نساء سليمان فسألهن عن ذلك فقلن: إن كان هذا سليمان فقد هلكتم والله ما يعتزل منا حائضاً، وما يغتسل من جنابة. هكذا ذكر في رواية الكلبي.(1/77)
وقال بعضهم: هذا خطأ لأن نساء الأنبياء معافيات معصومات عن الفواحش، فلا يجوز أن يظن بهن أن الشيطان يقربهن. وقال بعضهم: كان هذا على وجه الخيال لا على وجه الحقيقة، لأن الشيطان روحاني وليس له جسم، فلا يجوز أن تقع بينه وبين آدمي شهوة ولكن كان يريهن ذلك على وجه الخيال. فلما عرف الشيطان أن الناس علموا بحاله، كتب سحراً كثيراً وجعله تحت كرسيه وألقى خاتم سليمان في البحر وهرب. وكان سليمان- عليه السلام- خرج إلى ساحل البحر وأجَّر نفسه للملاحين كل يوم بسمكتين، فلما أعطوه أجره، باع إحداهما واشترى به الخبز وشق بطن الأخرى، فوجد الخاتم في بطنها فرجع إلى ملكه فلما توفي سليمان جاء الشيطان على صورة آدمي وقال: إن أردتم أن تعلموا علم سليمان بن داود- عليهما السلام- فانظروا تحت كرسيه. فنظروا وحفروا ذلك الموضع وأخرجوا كتباً كثيرة فوجدوا فيها السحر والكفر، فقال العلماء منهم: لا يجوز أن يكون هذا من علم سليمان، وقال السفهاء منهم: بل هذا من علم سليمان واتبعوه، فنزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء عذراً لسليمان- عليه السلام.
ثم قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، أي ما كان ساحراً. وفي الآية دليل أن الساحر كافر لأنه سمى السحر كفراً. وروي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى جزء بن معاوية وهو عم الأحنف بن قيس، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. ثم قال تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا، أي هم الذين كتبوا السحر. قرأ حمزة والكسائي وَلكِنَّ الشَّياطِينَ بكسر النون من غير تشديد ورفع الشياطينُ، وقرأ الباقون بتشديد النون مع النصب وبفتح النون في الشَّياطِينُ. وهذا هو الأصل في اللغة، أن كلمتي إن ولكن إذا كانا مشددين ينصب ما بعدهما، وإن لم يكونا مشددين يرفع ما بعدهما.
وقال بعضهم لنزول هذه الآية سبب آخر، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويعلمون الناس السحر والنيرنجات، فكان سليمان يأخذ ذلك منهم ويدفنه تحت الأرض، فلما مات سليمان قالت الشياطين للناس: إن علم سليمان مدفون في موضع كذا وكذا، فحفروا ذلك الموضع وأخرجوا منه كتباً كثيرة. وقال بعضهم: معناه أن سليمان كان إذا أصبح كل يوم، رأى نباتاً بين يديه فيقول له: لأي دواء أنت؟ فيقول: إني دواء لكذا وكذا، وإن اسمي كذا كذا. فكان سليمان يكتب ذلك ويدفنه، فنبت يوماً من الأيام نبات بين يديه فقال له سليمان: ما اسمك؟ فقال: خرنوب. فقال له: لأي دواء أنت؟ فقال: إني لخراب المسجد. فعلم سليمان أنه قد جاء أجله، لأنه علم أن المسجد لا يخرب في حياته، وكان له صحيفة فيها يكتب أسماء الأدوية ويضعها في الخزانة، فكتبت الشياطين سحراً ووضعوه في ذلك الموضع، فلما مات سليمان وجدوا ذلك في كتبه فاتبعه بعض الناس فذلك قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.(1/78)
ثم قال: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أي واتبعوا الذي أنزل على الملكين بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ. وقال القاضي الخليل بن أحمد قال: حدثنا الماسرجي فقال: حدثنا إسحاق قال:
حدثنا حكام بن سلم الرازي قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ. قال: إن الناس بعد آدم وقعوا في الشرك، واتخذوا هذه الأصنام، وعبدوا غير الله تعالى، فجعلت الملائكة يدعون عليهم ويقولون: ربنا خلقت عبادك فأحسنت خلقهم، ورزقتهم فأحسنت رزقهم، فعصوك وعبدوا غيرك. فقال لهم الرب عز وجل: إنهم في عذر، وقيل: في عيب فجعلوا لا يعذرونهم ولا يقبلون ويدعون عليهم. فقال لهم الرب: اختاروا منكم اثنين.
فأهبطهما إلى الأرض فآمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطهما الله تعالى إلى الأرض فأمرهما ونهاهما عن الزنى وقتل النفس وشرب الخمر، فمكثا زماناً في الأرض يحكمان بالحق. وكان في ذلك الزمان امرأة فضِّلت بالحسن على سائر النساء، فأتيا عليها فخضعا لها بالقول وراوداها عن نفسها فقالت: لا حتى تصليا لهذا الصنم، أو تقتلا هذه النفس، أو تشربا هذه الخمر. فقالا: أهون الثلاثة شرب الخمر. فلما شربا الخمر سجدا للصنم وفعلا بالمرأة وقتلا النفس، فكشف الغطاء فيما بينهما وبين الملائكة، فنظروا إليهما وما يفعلان، فجعلت الملائكة يعذرون بني آدم أهل الأرض ويستغفرون لمن فيها فقيل لهاروت وماروت: اختارا إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة. فقالا: عذاب الدنيا يذهب وينقطع وعذاب الآخرة لا انقطاع له ثم اختاروا عذاب الدنيا. فهما يعذبان إلى يوم القيامة.
وروي في الخبر أن المرأة تعلمت منهما اسم الله الأعظم، فصعدت به إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكباً. ويقال: هو الكوكب الذي يقال له الزهرة. وروي عن ابن عمر أنه كان إذا نظر إلى الزهرة لعنها ويقول: هي التي فتنت هاروت وماروت. وروي عن علي رضي الله عنه هذا. وقال بعضهم: هذا لا يصح، لأن هذا الكوكب قد كان خلقه في الأصل حين خلق النجوم، وجعل مقادير الأشياء على سبع من الكواكب، وجعل لكل كوكب سلطاناً، وجعل سلطان الزهرة الرطوبة. وقال بعضهم: إن كوكب الزهرة قد كان، ولكن الله تعالى مسخ هذه المرأة على شبه الكوكب فهي تعذب هناك. وقال بعضهم: قد صارت إلى النار، كما أن سائر الأشياء التي مسخت لم يبق منها أثر فذلك قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، يعني اليهود اتبعوا ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى، قال بعضهم: هذا الحرف أعني مَا للنفي، فكأنه يقول: ولم ينزل على الملكين السحر. وقال بعضهم: إن إبليس لعنه الله قد جاء بالسحر ووضعه عند أقدامهما، وهما معلقان بالسلة فتذهب اليهود تتعلم السحر من تلك الكتب والملكين. يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، أي فلا تتعلم السحر، لأنه لا يجوز للملكين أن(1/79)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
يعلِّما الكفر. وقال بعضهم: ويبينان أن عمل السحر كفر، وينهيان عن التعلم ويبيِّنان كيفية السحر وهو بمنزلة رجل قال لآخر: علِّمني ما الزنى أو علمني ما السرقة فيقول: إن الزنى كذا وكذا، وهو حرام فلا تفعل وإن السرقة كذا وكذا هي حرام فلا تفعل. كذلك هاهنا الملكان يقولان: السحر كذا وكذا، وهو كفر فلا تكفر. وقرأ بعضهم وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام وهي قراءة شاذة، يعني كانا ملكين في بني إسرائيل فمسخهما الله تعالى. وقوله: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي اختبار وابتلاء. وأصل الفتنة الاختبار.
قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما أي من الملكين: مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، أي فيتعلمون منهما من السحر ما يفرقون به بين الرجل وزوجته، يؤخذ الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على الجماع. ثم قال تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أي بإرادة الله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، أي ما يضر في الدنيا ولا ينفعهم في الآخرة، يعني السحر. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، يعني اليهود علموا في التوراة أن من اختار السحر ما لَهُ فِى الاخرة مِن خلاق يعني نصيب. والخلاق في اللغة: هو النصيب الوافر. وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، أي باعوا به، يعني بئسما باعوا به أنفسهم. ويقال: بئس ما اختاروا لأنفسهم السحر على كتاب الله تعالى وسنن أنبيائه لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، ولكنهم لا يعلمون. فإن قيل: ذكر في الآية الأولى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ وفي هذه الآية يقول: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فمرة يقول: يعلمون، ومرة يقول: لا يعلمون.
فالجواب أن يقال: إنهم يعلمون ولكن لا منفعة لهم في علمهم، وكل عالم لا يعمل بعلمه فليس بعالم، لأنه يتعلم العلم لكي ينتفع به، فإذا لم ينتفع به فكأنه لم يتعلم، فكذلك هاهنا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، لو كانوا يعرفون للعلم حقه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 103 الى 104]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا، يعني اليهود لو صدقوا بثواب الله واتقوا السحر، لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ يعني كان ثواب الله تعالى خيراً لهم من السحر والمثوبة والثواب بمعنى واحد وهو الجزاء على العمل وكذلك الأجر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فهذا نداء المدح، يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد، لاَ تَقُولُوا راعِنا. وذلك أن المسلمين كانوا يأتون رسول الله- عليه السلام- ويقولون: يا رسول الله راعنا، وهو بلغة العرب: أرعني سمعك. وأصله في اللغة:
راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله. وكان هذا اللفظ بلغة اليهود سباً بالرعونة، فلما(1/80)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
سمعت اليهود ذلك من المسلمين، أعجبهم ذلك وقالوا فيما بينهم: كنا نسب محمد سراً فالآن نسبه علانية، فكانوا يأتونه ويقولون له: راعنا يا محمد، ويريدون به السب.
وقال بعضهم: كان في لغتهم معناه اسمع لا سمعت، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا راعِنا. نهى المسلمين أن لا يقولوا بهذا اللفظ، وأمرهم أن يقولوا بلفظ أحسن منه. قال الله تعالى: وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به. ثم ذكر الوعيد للكفار فقال تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ، يعني اليهود. وقرأ الحسن راعِنا بالتنوين. وقال القتبي:
من قرأ راعِنا بالتنوين جعله اسماً منه، مثاله: أن تقول: لا تقولوا حمقا.
[سورة البقرة (2) : آية 105]
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قوله تعالى: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، يعني يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران. وَلَا الْمُشْرِكِينَ، يعني مشركي العرب أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، يعني أن ينزل على رسولكم من الوحي وشرائع الإسلام لأنهم كانوا كفاراً، فيحبون أن يكون الناس كلهم كفاراً مثلهم. وهذا كما قال في آية أخرى وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً [النساء: 89] . فأخبر الله تعالى أن الأمر ليس على مرادهم حيث قال وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، أي يختار للنبوة من يشاء، من كان أهلاً لذلك ويكرم بدينه الإسلام مَن يَشَآءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، أي ذو المنّ العظيم لمن اختصه بالنبوة والإسلام. وقال مقاتل: كان قوم من الأنصار يدعون حلفاءهم ومواليهم من اليهود إلى الإسلام. فقالوا للمسلمين: إن الذين تدعوننا إليه هو خير مما نحن فيه وعليه، وددنا لو أنكم على هذا، فنزل قوله وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي بدينه- الإسلام- من يشاء. ونظيرهما في سورة هل أتى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الشورى: 8] ، أي في دين الإسلام.
[سورة البقرة (2) : آية 106]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
ثم قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، قرأ ابن عامر مَا نَنْسَخْ برفع النون وكسر السين، وقرأ الباقون مَا نَنْسَخْ بالنصب ومعناهما واحد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير أَوْ ننسأها بنصب النون والسين والهمزة، وقرأ الباقون أَوْ نُنْسِها برفع النون وكسر السين بغير همز. فمن قرأ نَنْسَأهَا أي نؤخرها، ومنه النسيئة في البيع وهو التأخير. ومن قرأ نُنْسِها(1/81)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
أي نتركها مثل قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] أي تركهم في النار، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح في قوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ما ننسخ من آية فلا نعمل بها أَوْ نُنْسِها ندعها غير منسوخة والنسخ رفع الشيء وإقامة غيره مقامه، وفي الشرع رفع كل حكم قبل فعله أو بعده إذا كان مؤقتاً. ثم قال تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها، يعني أهون وألين منها على الناس أَوْ مِثْلِها في المنفعة.
وقال الزجاج: النسخ في اللغة، هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه، والعرب تقول:
نسخت الشمس الظل إذا أزالته. أَوْ نُنْسِها أي نتركها، معناه أي نأمركم بتركها. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: النسخ له ثلاثة مواضع ولكل منها شواهد ودلائل، فأحدها: ما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي نبدلها ونوضحها، وما روي عن مجاهد أنه قال: نثبت خطها، ونبدل حكمها. فهذا هو المعروف عند الناس. الثاني:
أن ترفع الآية المنسوخة بعد نزولها ولهذا دلائل جاءت فيه، من ذلك ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه صلى ذات يوم صلاة الغداة، فترك آية، فلما فرغ من صلاته قال: «هَلْ فِيكُمْ أُبَيٌّ» ؟ قالوا:
نعم. قال: «هَلْ تَرَكْتُ مِنْ آيَة» ؟ قالوا: نعم تركت آية كذا، أنسخت أم نسيت قال: «لا، ولكن نَسِيتُ» . وجاءت الآثار في نحو هذا، لأن الآية قد تنسخ بعد نزولها وترفع. والنسخ الثالث: تحويله من كتاب إلى كتاب، وهو ما نسخ من أم الكتاب، فأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أَوْ نُنْسِها أي نتركها في اللوح المحفوظ.
وقال بعضهم: لا يجوز النسخ فيما يرفع كله بعد نزوله، لأن الله تعالى قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وقال: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: 17] ولكن أكثر أهل العلم قالوا: يجوز ذلك. والنسخ يجوز في الأمر والنهي والوعد والوعيد ولا يجوز في القصص والأخبار، لأنه لو جاز ذلك يكون كذباً، والكذب في القرآن لا يجوز. ثم قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الناسخ والمنسوخ.
[سورة البقرة (2) : آية 107]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يحكم فيهما ما يشاء بأمره ثم يأمر بغيره. قال الزجاج: الملك في اللغة: هو تمام القدرة، وأصل هذا من قولهم: ملكت العجين إذا بالغت في عجنه. ومعنى الآية إن الله يملك السموات والأرض وما فيهما، فهو أعلم لما يصلحهم فيما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغير متروك. وكان اليهود أعداء الله ينكرون النسخ، وكانوا يقولون حين تحولت القبلة إلى الكعبة: لو كنتم على الحق(1/82)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
فلم رجعتم؟ ولو كان هذا الثاني حقاً، فقد كنتم على الباطل، وكانوا لا يرون النسخ في الشرائع، لأن ذلك حال البداء والندامة. ولا يجوز ذلك على الله. ولكن الجواب أن يقال:
إن الله تعالى يدبر في أمره ما يشاء، كما أنه خلق الخلق ولم يكونوا، ثم يميتهم بعد ذلك ثم يحييهم كذلك يجوز أن يأمر بأمر ثم يأمر بغير ذلك الأمر كما أن شريعة موسى- عليه السلام- لم تكن من قبل، فأمره بذلك. والمعنى في ذلك: أنه حين أمرهم بالأمر الأول كان الصلاح في ذلك الوقت في هذا الأمر ثم إذا أمر بأمر آخر كان الصلاح في ذلك الوقت في الأمر الثاني، وهذا المعنى قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يعني هو أعلم بأمر الخلق، وبما يصلحهم في كل وقت. ثم بين الوعيد لمن لم يؤمن بالناسخ والمنسوخ فقال: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، أي من قريب ينفعكم وَلاَ نصير، أي ولا مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى.
[سورة البقرة (2) : آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ، قال مقاتل: معناه أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل؟ أي كما سألت بنو إسرائيل موسى- عليه السلام- حيث قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] . ويقال: إن اليهود سألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطلبوا القربان كما كان لموسى، عليه السلام. وروي عن الضحاك أنه قال: دخل جماعة من كفار قريش فيهم أبو جهل وغيره، فقالوا لرسول الله: إن كنت نبياً فاكشف عنا الغطاء، حتى نرى الله جهرة، فنزلت الآية أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ حيث قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ثم قال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ، أي يختار الكفر على الإيمان، فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ، أي أخطأ قصد السبيل وهو طريق الهدى.
[سورة البقرة (2) : آية 109]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وذلك أن المسلمين لما أصابتهم المحنة يوم أحد، قالت اليهود لعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان: قد أصابكم ما أصابكم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم، فنزلت هذه الآية وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي يريد ويتمنى كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ(1/83)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ، أي يصدونكم ويردونكم عن التوحيد مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً إلى الكفر.
ثم أخبر أن هذا القول لم يكن منهم على وجه النصيحة، ولكن ذلك القول كان حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ما في التوراة أَنَّهُ الْحَقُّ، يعني إن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا، أي: اتركوهم وأعرضوا عنهم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، يعني الأمر بالقتال وكان ذلك قبل أن يؤمر بقتال أهل الكتاب، ثم أمرهم بعد ذلك بالقتال، وهو قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ- إلى قوله- مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [التوبة: 29] . إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من النصرة للمسلمين على الكفار. ويقال: هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير.
[سورة البقرة (2) : آية 110]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، أي أقروا بالصلاة وأدوها في مواقيتها بركوعها وسجودها وخشوعها، وَآتُوا الزَّكاةَ، أي وأعطوا الزكاة المفروضة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، أي ما تصدقتم من صدقة وعملتم من العمل الصالح، تجدوه عند الله محفوظاً يجزيكم به. ونظير هذا ما قال في آية أخرى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: 30] ، وقال في آية أخرى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] . وروي أنه مكتوب في بعض الكتب: يا بني آدم، ضع كنزك عندي لا سرق ولا حرق ولا فساد، تجده حين تكون أحوج إليه. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، يعني عالم بأعمالكم يجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً.
[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
وَقالُوا، يعني اليهود والنصارى وهم يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران. لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى واليهود جماعة الهائد، وإنما أراد به اليهود. وهذا من جوامع الكلم وهذا كلام على وجه الاختصار، فكأنه يقول: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة(1/84)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
إلا من كان يهودياً. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً. قال الله تعالى رداً لقولهم: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ، أي ظنهم وأباطيلهم. وهذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن عليه:
إنما أنت متمن، وإنما يراد به: إنك مبطل في قولك.
ثم قال تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ، أي حجتكم من التوراة أو من الإنجيل. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أي بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً أو نصرانياً. بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، معناه بل يدخل الجنة غيركم، من أسلم وجهه لله، أي من أخلص دينه لله وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، أي ثوابه في الجنة. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب حين يخاف أهل النار، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن أهل النار. ويقال:
ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمر الدنيا. ويقال: الخوف إنما يستعمل في المستأنف، والحزن في الماضي، كما قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ [الحديد: 23] ويقال:
الخوف ثلاثة: خوف الأبد، وخوف العذاب على الانقطاع، وخوف الحشر والحساب. فأما خوف الأبد فيكون أمناً للمسلمين، وخوف العذاب على الانقطاع يكون أمناً للتائبين، وخوف الحشر والحساب يكون أمناً للمحسنين. والمحسنون يكونون آمنين من ذلك.
[سورة البقرة (2) : آية 113]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ من أمر الدين. وروي عن ابن عباس أنه قال: صدقوا ولو حلفوا على ذلك ما حنثوا، لأن كل فريق منهم ليس على شيء. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، أي عندهم ما يخرجهم من ذلك الاختلاف أن لو نظروا فيه. وقال الزجاج: معناه، كلا الفريقين يتلون الكتاب وبينهم هذا الاختلاف، فدلّ ذلك على ضلالتهم. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، أي الذين ليسوا من أهل الكتاب قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، يعني أنه يريهم من يدخل الجنة عياناً ومن يدخل النار عياناً ويبيّن لهم الصواب فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، أي في الدنيا.(1/85)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
[سورة البقرة (2) : آية 114]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ، قال في رواية الكلبي معناه ومن أكفر. وقال بعضهم: هذا التفسير غير سديد، لأن الكفر كله سواء. ولكن معنى قول الكلبي ومن أكفر يعني من أشد في كفره، لأن الكفار وإن كانوا كلهم في الكفر سواء، فربما يكون بعضهم في كفره أشد شراً من غيره. قال الكلبي: نزلت هذه الآية في شأن ططوس بن أسفيانوس الرومي، حيث خرب بيت المقدس وألقى فيه الجيفة، فكان خراباً إلى زمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وذلك قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ
، فلم يدخلها بعد عمارتها رومي إلا خائفاً ومستخفياً لو علم أنه رومي قتل. قال قتادة: هم النصارى. وقال مجاهد: هم اليهود والنصارى ويقال: من أراد أن يكون ملكاً عليهم، لا يمكنه ذلك ما لم يكن دخل مسجد بيت المقدس، فيجيء ويدخله مستخفياً.
ثم قال عز وجل: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، أي بفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينة وعمورية وأرمينية. وقال بعضهم: لنزول هذه الآية سبب آخر، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما خرج عام الحديبية إلى مكة، ومنعه أهل مكة فرجع، ولم يدخلها في تلك السنة، فنزلت هذه الآية:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها، أي سعى ومنع المسلمين عن الصلاة، وذكر الله فيها لأن عمارة المسجد بالصلاة، وذكر الله فيها وخرابها في ترك ذلك. أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ بعد فتح مكة، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا خائفين، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وهو فتح مكة، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لمن مات على كفره وقتل. وروى الزجاج عن بعض أهل العلم قال: نزلت في شأن جميع الكفار، لأن الكفار كانوا يقاتلون المسلمين ويمنعونهم من الصلاة، فقد منعوا المسلمين من الصلاة في جميع المساجد، لأن الأرض كلها جعلت مسجداً وطهوراً. ومعناه ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام؟ قال: ومعنى قوله أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ، يعني دار الإسلام ولهم في الدنيا خزي وظهور الإسلام على سائر الأديان لقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 23 وغيرها] .
[سورة البقرة (2) : آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قوله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قد اختلفوا في سبب نزول هذه الآية. روي عن ابن عباس أنه قال: خرج رهط في سفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم الضباب، فمنهم من صلى إلى المشرق، ومنهم من صلى إلى المغرب، فلما طلعت(1/86)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
الشمس وذهب الضباب، استبان لهم ذلك، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فنزلت هذه الآية وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، يعني أينما تولوا وجوهكم في الصلاة فثم وجه الله قال بعضهم: فثم قبلة الله. ويقال يعني: فثم رضا الله.
ويقال: فثم ملك الله. وروى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن قوماً خرجوا إلى السفر وذكر القصة نحو هذا.
وقال بعضهم: المراد به الصلاة على الدابة. قال الفقيه: حدثنا محمد بن سعيد المروزي قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدّثنا علي بن شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون قال:
حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته التطوع، حيث ما توجهت به وهو جاءٍ من مكة، ثم قرأ ابن عمر: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. قال ابن عمر: في هذا نزلت هذه الآية.
وقال بعضهم: لنزول هذه الآية سبب آخر، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس، فَلَمَّا أمر بالتحول إلى الكعبة، قالت اليهود: مرة تصلون هكذا، ومرة تصلون هكذا، فنزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم قال: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ، أي الواسع الجواد المحسن الذي يقبل اليسير، ويعطي الجزيل عليم بصلواتكم.
ويقال: الواسع الغني عن صلاة الخلق وإنما يطلب منهم النية الخالصة ويقال: واسع يعني يوسع عليكم أمر الشرائع، ولم يضيق عليكم الأمر. ويقال: واسع، يعني واسع الفضل. وقال الزجاج: معنى قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، أي اقصدوا وجه الله بنيتكم القبلة، كقوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144 و 150] .
[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قوله: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام قالُوا بغير واو. وقرأ الباقون بالواو، ومعناهما واحد إلا أن الواو للعطف وذلك أن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعض المشركين: الملائكة بنات الله. قال الله تعالى: سُبْحانَهُ، نزه نفسه عن الولد. بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلهم عبيده كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ، يعني به المؤمنين خاصة، أي مطيعين مقرين بالعبودية له موحدين مجيبين للطاعة.
وقد قيل: إن لفظ الآية عام والمراد به الخاص. قوله تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ يعني به المؤمنين خاصة. ويقال معناه: أثر صنعه وشواهد توحيده ودلائل ربوبيته في جميع ما في(1/87)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
السموات والأرض موجود. ويقال: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي لا يستطيع كل خلق أن يغير نفسه عن خلقته، فأخبر الله تعالى أن جميع ما في السَّموات والأرض له وهو خالق الأشياء، وهو المستغني عن الولد سبحانه وتعالى.
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي خالقهما. والإبداع في اللغة: إنشاء شيء لم يُسْبَقْ إليه على غير مثال ولا مشورة. وإنما قيل لمن خالف السنة: مبتدع، لأنه أتى بشيء لم يسبقه إليه الصحابة ولا التابعون. ومعناه هو خالق السموات والأرض. وَإِذا قَضى أَمْراً، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. ويقال: هذه الآية نزلت في شأن وفد نجران السيد والعاقب وغيرهما. وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت خلقاً من غير أب؟ فنزلت هذه الآية: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كما كان آدم من غير أب وأم، كذا عيسى ابن مريم خلقه بغير أب. فإن قيل: قوله: كُنْ هذا الخطاب للموجود أو للمعدوم؟ فإن قال: للمعدوم. قيل له: كيف يصح الخطاب لشيء معدوم؟ وكيف يصح الإشارة إليه بقوله:
كُنْ؟ فإن قال: الخطاب للموجود. قيل له: كيف يأمر الشيء الكائن بالكون فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الأشياء كلها كانت موجودة في علم الله تعالى قبل كونها، فكان الخطاب للموجود في علمه. وجواب آخر: أن معناه إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يقول له: كن فيكون، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً يخلقه، والقول فيه على وجه المجاز. قرأ ابن عامر فَيَكُونُ بالنصب، لأن جواب الأمر بالفاء، وقرأ الباقون بالرفع على معنى الاستئناف بمعنى فهو يكون.
[سورة البقرة (2) : آية 118]
وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ، أي لا يعلمون توحيد الله تعالى، ومعناه: وقال الجهال من الناس- وهم الكفار-: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ، أي هلا يكلمنا الله فيخبرنا بأنك رسوله، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، أي علامة لنبوتك. قال الله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، أي قال اليهود لموسى- عليه السلام-: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] . تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، أي في القسوة والكفر. ويقال: تشابهت كلمتهم كما تشابهت قلوبهم. قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ، يعني أمرك في التوراة أي العلامات لنبوتك إنك نبي مرسل الصفة والنعت. ويقال:
قد بينا العلامات لنبوتك. ويقال: لم يكن لنبي من الأنبياء معجزة وعلامة إلاّ وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مثلها. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، يعني مؤمني أهل التوراة. ويقال: من كان له عقل وتمييز.
[سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 120]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)(1/88)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً، أي بالقرآن. ويقال بالحق يعني بالدعوة إلى الحق. ويقال: بالحق أي لأجل الحق. ويقال: أي بالدعوة إلى الحق. ويقال: ببيان الحق. بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ قرأ نافع وَلا تُسْئَلُ بنصب التاء وجزم اللام، والباقون بضم التاء واللام. فمن قرأ بالرفع، فمعناه أنك إذا بلغت الرسالة، فإنك قد فعلت ما عليك، ولا تُسْأَلُ عن أصحاب الجحيم فيما فعلوا، وهذا كما قال في آية أخرى:
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: 4] وأما ومن قرأ بالنصب، فهو على معنى النهي، أي لا تسأل عن أصحاب الجحيم أي عما فعلوا. قال القاضي الخليل بن أحمد: أخبرنا الديلمي قال: أخبرنا أبو عبيد الله قال: حدثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْتَ شِعْرِي مَا فُعِلَ بأَبَوَيَّ» . فنزلت هذه الآية إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ الآية.
قوله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى، يعني أهل المدينة ونصارى أهل نجران حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، أي تصلي إلى قبلتهم. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، يعني إن قبلة الله هي الكعبة- وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، أي صليت إلى قبلتهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أي من بعد ما ظهر لك: أن القبلة هي الكعبة، مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ينفعك وَلا نَصِيرٍ، أي مانعاً يمنعك. ويقال: معناه وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، أي حتى تدخل في دينهم، وذلك أن الكفار كانوا يطلبون الصلح، وكان يرى أنهم يسلمون، فأخبره الله تعالى أنهم لا يسلمون، ولن يرضوا عنه، حتى يتبع ملتهم فنهاه الله عن الركون إلى شيء مما يدعونه إليه. فقال تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، يعني دين الله هو دين الإسلام. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمته، أي لئن اتبعت دينهم بعد ما جاءك من العلم، أي بعد ما ظهر أن دين الإسلام هو الحق مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ، أي من عذاب الله مِنْ وَلِيٍّ ينفعك وَلا نَصِيرٍ، أي مانع يمنعك منه.
[سورة البقرة (2) : آية 121]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، يعني مؤمني أهل الكتاب(1/89)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم. قال مجاهد: يتبعونه حق اتباعه. وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال: والله إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأ حق قراءته كما أنزل الله تعالى، ولا يحرَّف عن مواضعه. ويقال: يقرءونه حق قراءته. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقونه. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال: بالقرآن، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، وهو كعب بن الأشرف وأصحابه. ويقال: نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب، وهم اثنان وثلاثون رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، وكانوا يتبعون القرآن حق اتباعه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ قد ذكرناها من قبل.
[سورة البقرة (2) : آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، قرأ ابن عامر أبرَاهَامَ، وروي عنه أنه قرأ أَبْرَهَمَ وهي لغة بعض العرب، وقرأ غيره إِبْراهِيمَ في جميع القرآن. وهي اللغة المعروفة وهو اسم أعجمي ولهذا لا ينصرف. وروي عن ابن عباس أنه قال: أمر الله تعالى إبراهيم بعشر خصال من السنن خمس في الرأس، وخمس في الجسد، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا. حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن الفضل البلخي قال: حدثنا أبو بشر محمود بن مهدي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن الحجاج بن أرطأة، عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَشْرٌ مِمَّا عَلِمَهُنَّ وَعَمِلَ بِهِنَّ أَبُوكُمْ إبْرَاهِيمُ- عليه السلام- خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ، وَخَمْسٌ فِي الجَسَدِ فَأَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ: فَالسِّوَاكُ وَالمَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَأَمَّا الَّتِي في الجَسَدِ فَالخِتَانُ وَالاسْتِحْدَادُ وَالاسْتِنْجَاءُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ» ويقال: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، أي اختبره. والاختبار من الله تعالى أن يظهر حاله ليستوجب الثواب، لأن الله تعالى لا يعطي الثواب والعقاب بما يعلم ما لم يظهر منه ما يستوجب الثواب والعقاب، كما علم من إبليس الكفر، ولم يلعنه ما لم يختبره ويظهر منه ما يستوجب به اللعنة والعقوبة.(1/90)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
وقوله عز وجل: فَأَتَمَّهُنَّ، يعني عمل بهن. ويقال: كان إبراهيم أفضل الناس في زمانه، وكرم على الله تعالى فابتلاه الله عز وجل بخصال لم يبتل بها غيره، فكان من الابتلاء أن أمه ولدته في غار. ومن الابتلاء حيث نظر إلى الكوكب فقال: هذا ربي. وروى الحسن أنه قال: كان الابتلاء بثلاثة أشياء أولها: الابتلاء بالكوكب والشمس والقمر، والثاني: بالنار، والثالث: بأمر سارة. ويقال: كل من كان أكرم على الله كان ابتلاؤه أشد، لكي يتبين فضله ويستوجب الثواب. كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني الذهب والفضة يختبران بالنار، والمؤمن يختبر بالبلايا. فَأَتَمَّهُنَّ، أيّ عمل بهن. ويقال: فَأَتَمَّهُنَّ أي وفى بهن، فلما وفّى الأمر جعله الله تعالى إماماً للناس ليقتدوا به. وفي هذا دليل: أن الإنسان لا يبلغ درجة الأخيار إلا بالتعب وجهد النفس، فلما جعله الله تعالى إماماً، قالَ له: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً والإمام الذي يؤتم به فأعجبه ذلك، وتمنى أن يكون ذلك لذريته بعده مثل ذلك، ف قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، يعني اجعلهم أئمة يقتدى بهم. قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، يعني الكافرين، يعني لا يصلح أن يكون الكافر إماماً للناس. ويقال: لا تصيب رحمتي الكافرين.
فالله تعالى أخبره أنه يكون في ذريته كفار، وأخبره أنه لا ينال عهده من كان كافراً.
قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص: لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أي الكافرين يعني لا يصلح أن يكون الكافر إماماً للناس. ويقال: لا تصيب الرحمة الكافر. فالله تعالى أخبره أنه يكون في ذنبه وأخبره أنه لا ينال عهده من كفر وكان كافراً. قرأ حمزة وعاصم رواية حفص لاَ يَنالُ عَهْدِي بسكون الياء. وقرأ الباقون بنصب الياء عَهْدِي الظَّالِمِينَ وهما لغتان ومعناهما واحد.
[سورة البقرة (2) : آية 125]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً، يقول: وضعنا البيت، يعني الكعبة معاداً لهم، يعودون إليه مرة بعد مرة. وقال قتادة: مجمعاً للناس يثوبون إليه من كل جهة، وفي كل سنة فلا يقضون منها وطراً. وَأَمْناً، أي جعلناه أمناً لمن التجأ إليه، يعني من وجب عليه القصاص. ولهذا قالوا: لو أن رجلاً وجب عليه القصاص فدخل الحرم، لا يقتص منه في الحرم. وهكذا روي عن ابن عمر أنه قال: لو وجدت قاتل عمر في الحرم، ما هيجته، أي ما أزعجته ولكن يمنع منه المنافع، حتى يضطر ويخرج فيقتص منه. ويقال: آمناً لغير الممتحنين، وهي الصيود إذا دخلت الحرم أمنت. ويقال: آمناً من الجذام.
ثم قال تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، قرأ نافع وابن عامر وَاتَّخِذُوا(1/91)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
بفتح الخاء على وجه الخبر، معناه: جعلنا البيت مثابة للناس فاتخذوه مصلى. وقرأ الباقون بكسر الخاء على معنى الأمر. قال: حدّثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا الديلمي قال: حدّثنا أبو عبيد الله قال: حدّثنا سفيان، عن زكريا بن زائدة، عمن حدثه، عن عمر بن الخطاب قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت يوم الفتح، فلما فرغ من طوافه أتى المقام فقال: «هذا مَقَامُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ» ، فقال عمر: أفلا تتخذه مصلى يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ويقال: المسجد الحرام كله مقام إبراهيم- عليه السلام- هكذا روي عن مجاهد وعطاء.
وقوله تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ، أي أمرنا إبراهيم وإسماعيل: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ، أي مسجدي من الأوثان، ويقال: من جميع النجاسات، ثم قال: لِلطَّائِفِينَ، أي طهرا المسجد من الأوثان والنجاسات، لأجل الطائفين الذين يطوفون بالبيت وهم الغرباء، وَالْعاكِفِينَ وهم أهل الحرم المقيمون بمكة من أهله وغيرهم وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، أي أهل الصلاة من كل جهة من الآفاق. قرأ نافع وعاصم في رواية حفص طَهِّرا بَيْتِيَ بنصب الياء وقرأ الباقون بسكون الياء.
[سورة البقرة (2) : آية 126]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، يعني الحرم. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ، فاستجاب الله تعالى دعاءه، فتحمل الثمار إلى مكة من كل جهة، فيوجد فيها في كل وقت من كل نوع واشترط إبراهيم في دعائه فقال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وإنما اشترط هذا الشرط، لأنه قد سأل ربه الإمامة لذريته، فلم يستجب له في الظالمين، فخشي إبراهيم أن يكون أمر الرزق هكذا، فسأل الرزق للمؤمنين خاصة، فأخبره الله تعالى: أنه يرزق الكافر والمؤمن، وأن أمر الرزق ليس كأمر الإمامة. قالوا: لأن الأمامة فضل، والرزق عدل، فالله تعالى يعطي بفضله من يشاء من عباده من كان أهلاً لذلك، وعدله لجميع الناس لأنهم عباده، وإن كانوا كفاراً. فذلك قوله تعالى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام «فَأُمَّتِعَهُ» بالتخفيف من أمتعت، وقرأ الباقون بالتشديد من متَّعت، يعني سأرزقه في الدنيا يسيراً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي مصيره، ويقال: ملجأه إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ صاروا إليه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)(1/92)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، يعني يبني إبراهيم القواعد، يعني أساس البيت، أي الكعبة. والقواعد جماعة واحدها قاعدة. وَإِسْماعِيلَ، يعني إِسماعيل يعينه. قال مقاتل:
وفي الآية تقديم وتأخير، معناه وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت. ويقال: إن إبراهيم كان يبني البيت وإسماعيل يعينه، والملائكة يناولون الحجر من إسماعيل، وكانوا ينقلون الحجر من خمسة أجبل: طور سيناء وطور زيتاء والجودي ولبنان وحراء فلما فرغا من البناء، قالا رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا يعني أعمالنا. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أي السميع لدعائنا بنياتنا.
وفي الآية دليل: أن الإنسان إذا عمل خيراً ينبغي أن يدعو الله بالقبول، ويقال: ينبغي أن يكون خوف الإنسان على قبول العمل بعد الفراغ أشد من شغله بالعمل، لأن الله تعالى قال:
إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] . وروي في الخبر أن إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- لما فرغا من البناء، جثيا على الركب وتضرعا وسألا القبول، فقال جبريل لإبراهيم:
قد أجيب لك، فاسأل شيئاً آخر، فقالا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، أي مخلصين لك، ويقال: واجعلنا مثبتين على الإسلام، ويقال: مطيعين لك، ويقال: أمتنا على الإسلام.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، أي اجعل بعض ذريتنا من يخلص لك، ويثبت على الإسلام. ثم قال: وَأَرِنا مَناسِكَنا. أي علمنا أمور مناسكنا. وقال القتبي: الرؤية المعاينة كقوله عز وجل: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] ، وقوله:
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ [الإنسان: 20] . ويقال: تذكر الرؤية ويراد بها العلم كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: 30] وكقوله: أَرِنا مَناسِكَنا، أي عملنا. وكقوله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. قرأ ابن كثير ومن تابعه من أهل مكة وَأَرِنا بجزم الراء في جميع القرآن، والباقون بكسر الراء، وهما لغتان والكسر أظهر وأفصح. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح:
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ- أي مطيعين وموحدين وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، أي جماعة موحدة مطيعة لك. ويقال: أشكل عليهما موضع البيت، فبعث الله تعالى سحابة فقالت له: ابن بخيالي، فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت بخيال السحابة. ثم قال تعالى وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا أي تجاوز عنا الزلة، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ بعبادك.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ. قال مقاتل: لأن إبراهيم علم أن في(1/93)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
ذريته من يكون كفاراً، فسأل الله تعالى أن يبعث فيهم رسولاً فقال: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، يعني القرآن. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، أي القرآن وَالْحِكْمَةَ
، أي مواعظ القرآن من الحلال والحرام. ويقال: علم التفسير. وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الكفر والشرك. ويقال: يأمرهم بالزكاة ليطهر أموالهم. قال مقاتل: استجاب الله دعاءه في سورة الجمعة. وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة: 2] وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَنَا دَعْوَةُ أبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى عليهما السلام» . وهي قوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6]- ثم قال تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أي المنيع الذي لا يغلبه شيء، ويقال: العزيز الذي لا يعجزه شيء عما أراد. ويقال: العزيز بالنقمة، ينتقم ممن عصاه متى شاء، الحكيم في أمره الذي يكون عمله موافقا للعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 130]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ، يقول: عن سنته ودينه وهو الإسلام. ويقال لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التقريع والتوبيخ، وَمَنْ هاهنا بمعنى (ما) ، فكأنه يقول:
وما يرغب عن دين إبراهيم إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. قال أبو عبيدة: إلا من أهلك نفسه. وقال الأخفش: معناه إلا من سفه من نفسه. هذا كما قال في آية أخرى وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة: 235] أي على عقدة النكاح. ويقال: إلا من جهل أمر نفسه، فلا يتفكر فيه، كما قال في آية أخرى وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] ، قال الكلبي: ومن يرغب عن دين إبراهيم الإسلام والحج والطواف، إلا من خسر نفسه.
ثم: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا، يقول: اخترناه في الدنيا للنبوة والرسالة والإسلام والخلة. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، أي في الجنة. ويقال: مع الصالحين في الجنة وهو أفضل الصالحين ما خلا محمدا صلى الله عليه وسلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 131 الى 132]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، قال ابن عباس: يعني أخلص. ويقال: معناه قُلْ لا إله إِلا الله.
ويقال: معناه استقم على ما أنت عليه. ويقال: حين خرج من السرب، نظر إلى الكوكب(1/94)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
والقمر والشمس، فابتلي بذلك فألهمه الله تعالى الإخلاص، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79] الآية. فهذا معنى قوله أَسْلِمْ أي أخلص دينك لله ف قالَ إبراهيم عليه السلام: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، أي أخلصت ديني لرب العالمين.
ويقال: فوّض أمرك إلى الله فقال فوضت أمري إلى الله.
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ، أي بشهادة أن لا إله إلا الله. قرأ نافع وابن عامر وَأَوْصَى وقرأ الباقون وَوَصَّى وهو أبلغ من أوصى، لأنه لا يكون إلا لمرات كثيرة.
وقوله بِها، يرجع إلى الملة، والملة هي السنة والمذهب. ويقال: إنه جمع بنيه عند موته، لأنه خشي عليهم كيد إبليس فجمعهم وأوصاهم بأن يثبتوا على الإسلام. قال مقاتل: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ الأربعة: إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين، ثم أوصى بها يعقوب بنيه، وهم اثني عشر ابناً، وذلك حين دخل مصر فرآهم يعبدون الأصنام، فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإسلام وكانوا اثنا عشر ابناً: روبيل وشمعون ويهوذا ولاوي ونفتال وريالون ويشجر ودان واشترفياحان وحان ويوسف وبنيامين.
قال الله تعالى: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، أي اختار لكم دين الإسلام فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، يعني اثبتوا على الإسلام وكونوا بحال لو أدرككم الموت يدرككم على الإسلام، وأنتم مخلصون بالتوحيد. فقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب عليه السلام يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية؟.
[سورة البقرة (2) : آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
فأنزل الله تعالى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ، يقول: أكنتم حضوراً إِذْ حين حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ معناه إنكم تدعون ذلك، كأنكم كنتم حضوراً في ذلك الوقت، يعني أنكم تقولون ما لا علم لكم بذلك، والله تعالى يخبر ويبين أن وصيته كانت بخلاف ما قالت اليهود وإنما لم ينصرف شُهَداءَ لمكان ألف التأنيث في آخره، وإذا دخلت ألف التأنيث أو هاء التأنيث في آخر الكلام فإنه لا ينصرف.
ثم قال تعالى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي، أي من تعبدون بعد موتي؟ قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ. روي عن الحسن البصري أنه قرأ قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ. وقرأ غيره قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. وإسماعيل(1/95)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
كان عم يعقوب، ولكن العم بمنزلة الأب بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» . ثم قال: إِلهاً واحِداً، أي نعبد إلهاً واحداً. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مخلصون له بالتوحيد.
[سورة البقرة (2) : آية 134]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أي جماعة قد مضت. لَها مَا كَسَبَتْ، أي جزاء ما عملت من خير أو شر. وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون:
نحن على دينهم، فقال لهم: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لا تقدرون عليهم فيشهدوا لكم، فلهم ما عملوا وإنما لكم ما تعملون، وإنما ينظر اليوم إلى أعمالكم، ولا ينفعكم من أعمالهم شيء.
[سورة البقرة (2) : آية 135]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا، وذلك أن يهود المدينة ونصارى أهل نجران اختصموا، فقال كل فريق: ديننا أصوب، ونبينا أفضل. فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أينا أفضل؟ فقال لهم: «كُلُّكُمْ عَلَى البَاطِلِ» . فأعرضوا عنه فنزلت هذه الآية: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى يعني اليهود قالوا: كونوا على دين اليهود والنصارى قالوا: كونوا على دين النصرانية تهتدوا من الضلالة.
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وإنما نصب الملة على معنى: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً. ويقال: معناه واتبعوا ملة إبراهيم. وقال مقاتل: بل الدين ملة إبراهيم حنيفا، أي مخلصاً. وقال القتبي: حنيفاً أي مستقيماً. ويقال للأعرج حنيف نظراً إلى السلامة، كما يقال للديغ: سليم، وللجبانة مفازة، وإن كانت مهلكة.
وقال الزجاج: أصل الحنف إذا كان أصابع الرجل مقبلاً بعضها إلى بعض إقبالاً لا تنصرف عن ذلك أبداً، فكذلك كان إبراهيم عليه السلام مقبلاً على دين الإسلام، مائلاً عن الأديان كلها وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ولكن كان على دين الإسلام. فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كيف نقول حتى لا نكذب أحداً من الأنبياء؟.
[سورة البقرة (2) : الآيات 136 الى 137]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)(1/96)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
فعلمهم الله عز وجل بقوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ، أي صدقنا بأنه واحد لا شريك له.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، يقول: صدقنا بما أنزل إلينا، أي بما أنزل على نبينا من القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ، يقول صدقنا بما أنزل على إبراهيم من الصحف. وَما أنزل إلى إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب، كان له اثنا عشر ابناً، فصار أولاد كل واحد منهم سبطاً، والسبط بلغتهم بمنزلة القبيلة للعرب. وإنما أنزل على أنبيائهم وكانوا يعملون به، فأضاف إليهم، كما أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فأضاف إلى أمته فقال: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا فكذلك الأسباط أنزل على أنبيائهم فأضاف إليهم، لأنهم كانوا يعملون به. ثم قال تعالى: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، يعني التوراة والإنجيل. وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، يعني وما أنزل على الأنبياء من الله تعالى وقد آمنا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أي من رسله كما فرقت اليهود والنصارى، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، أي مخلصون له بالتوحيد.
ثم قال تعالى للمؤمنين فَإِنْ آمَنُوا، يعني اليهود والنصارى بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ، يعني به يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فَقَدِ اهْتَدَوْا من الضلالة. وَإِنْ تَوَلَّوْا، أي: أعرضوا عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء- عليهم السلام- فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ، يقول إنهم في خلاف من الدين. ويقال: في ضلال. والشقاق في اللغة: له ثلاثة معان، أحدها: العداوة مثل قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي [هود: 89] ، والثاني: الخلاف مثل قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما [النساء: 35] ، والثالث: الضلالة مثل قوله: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [الحج: 53] ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، أي يدفع الله عنكم مؤنتهم. وقال الزجاج: هذا ضمان من الله تعالى النصر لنبيه، أنه سيكفيه إياهم بإظهاره على كل دين سواه، كقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] يعني أن عاقبة الأمر كانت لهم. قال مقاتل: يعني قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بقولهم للمؤمنين حيث قالوا: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، العليم بعقوبتهم. ثم فضل دين محمد صلى الله عليه وسلم على كل دين فقال تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
صِبْغَةَ اللَّهِ، أي: اتبعوا دين الله والزموه، لا دين اليهود والنصارى. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً، أي دين أحسن من دين الله تعالى، وهو دين الإسلام. وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ، أي موحدون مقرون، وذلك أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد غمروه في اليوم السابع في ماء لهم،(1/97)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
ليطهروه بذلك ويقولون: هذا طهور مكان الختان، وهم صنف من النصارى يقال لهم:
المعمودية.
قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ، أي مطيعون، ولنا الختان طهور، طهَّر الله به إبراهيم- عليه السلام- وروى سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: ختن إبراهيم- عليه السلام- نفسه بالقدوم وهو ابن مائة وعشرين سنة. والقدوم موضع بالشام. ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة. وقال القتبي: هذا من الاستعارة حيث سمى الختان صبغة، لأنهم كانوا يصبغون أولادهم في ماء. قال الله تعالى: صبغة الله لا صبغة النصارى، يعني اتبعوا دين الله والزموا دين الله.
[سورة البقرة (2) : آية 139]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
ثم قال الله تعالى: قُلْ يا محمد ليهود أهل المدينة والنصارى أهل نجران:
أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ، يعني أتخاصموننا في دين الله، ونحن نوحد الله. وقال الزجاج: نزلت هذه الآية في اليهود والذين كانوا يظاهرون المشركين، فقال: أنتم تقولون: أنكم توحدون الله ونحن نوحد الله تعالى، فلم تظاهرون علينا من لا يوحد الله تعالى؟ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا، أي ثواب أعمالنا وَلَكُمْ ثواب أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ، أي مقرُّون له بالوحدانية مخلصون له بالعبادة.
[سورة البقرة (2) : آية 140]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
أَمْ تَقُولُونَ، قرأ الكسائي وعاصم وحمزة في رواية حفص أَمْ تَقُولُونَ بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ الباقون: بالياء «أمْ يَقُولُونَ» على معنى المغايبة. إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى، يعني إن تعلقتم أيضاً بدين الأنبياء فنحن على دينهم، وقد آمنا بجميع الأنبياء، فإن ادعيتم أن الأنبياء كانوا على دين اليهودية أو النصرانيّة وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هوداً أو نصارى، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ. فالله تعالى أخبر أنهم كانوا على دين الإسلام، وقد بيَّن ذلك في كتبهم حيث قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً(1/98)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ
، لأن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق بأن يبيِّنوه فكتموه. قال الله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أي لا يخفى على الله من عملهم شيء فيجازيهم بذلك. ويقال: هذا القول وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.
[سورة البقرة (2) : آية 141]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ، وقد ذكرنا تفسيرها.
[سورة البقرة (2) : آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
قوله: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ، يعني الجهال وهم اليهود والمنافقون. ويقال: هم أهل مكة: مَا وَلَّاهُمْ؟ أي يقولوا: ما الذي صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟ يعني التي صلوا إليها من قبل وذلك أن الأنصار قبل قدوم النبيّ صلّى الله عليه وسلم بسنتين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فَلَمَّا قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلم المدينة، صلى إلى بيت المقدس ثمانية عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم أمر بالتحويل إلى مكة. فقال أهل مكة: رجع محمد إلى قبلتنا، فعن قريب يرجع إلى ديننا فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يقول: إن الصلاة إلى بيت المقدس والصلاة إلى الكعبة لله إذا كان بأمر الله.
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، أي يرشد من يشاء إلى قبلة الكعبة إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي ديناً يرضاه. روي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: رأيت مسجد صالح النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقبلته إلى الكعبة.
قال: وكان موسى- عليه السلام- يصلي من الصخرة إلى الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم.
[سورة البقرة (2) : آية 143]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)(1/99)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً والوسط هو العدل، كما قال تعالى في آية أخرى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: 28] ، أي أخيرهم وأعدلهم. والعرب تقول: فلان من أوسط قومه، أي خيارهم وأعدلهم، ومنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هو أوسط قريش حسباً. أي جعلناكم عدلاً للخلائق. لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، يعني للنبيين. وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً بالتصديق لكم وذلك أن الله تعالى إذا جمع الخلق يوم القيامة فيسأل الأنبياء- عليهم السلام- عن تبليغ الرسالة كقوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8] فيقولون: قد بلغنا الرسالة، فتنكر أممهم تبليغ رسالته، فتشهد لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة فتطعن الأمم في شهادتهم، فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم فذلك معنى قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمعنى قوله وَكَذلِكَ أي وكما هديناكم للإسلام والقبلة الكعبة فكذلك جعلناكم أمة عدلاً لتكونوا شهداء على الناس.
وللآية تأويل آخر: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي عدلاً، لتكونوا شهداء على الناس. يقول: إنكم حجة على جميع من خلقنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حجة عليكم. والشهادة في اللغة: هي البيان، فلهذا يسمى الشاهد بيِّنة، لأنه بيَّن حق المدعي، يعني أنكم تبيِّنون لمن بعدكم، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين لكم.
قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها، أي ما أمرناك بالصلاة إلى القبلة الأولى، ويقال: ما حولنا القبلة التى كنت عليها، إِلَّا لِنَعْلَمَ. يقول: إلا لنختبر ونبيِّن مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ، يطيع الرسول في تحويل القبلة، مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، أي يرجع إلى دينه بعد تحويل الله القبلة. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً، أي وقد كانت لثقيلة وهو صرف القبلة. إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، أي حفظ الله قلوبهم على الإسلام وأكرمهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم في تحويل القبلة، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله فإخواننا الذين ماتوا ما صنع الله بصلاتهم التي صلوا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، يعني لم يبطل إيمانكم وإنما تحولت قبلتكم. ويقال: يعني صلاتهم إلى بيت المقدس، التي صلوا إليها وماتوا عليها لأن اليهود قالوا: قد بطل إيمانكم حين تركتم القبلة، فنزل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني يبطل إيمانكم.
قال الضحاك: يعني لم يبطل تصديقكم بالقبلتين. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، يعني بالمؤمنين رحيم حين قبلها منهم ولم يضيع إيمانهم. قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: لَرَؤُفٌ بالهمزة على وزن رعف، وقرأ الباقون: رؤف على وزن فعول في جميع القرآن، وهما لغتان ومعناهما واحد.
[سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 145]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)(1/100)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، أي رفع بصرك إلى السماء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «وَدِدْتُ لَوْ أنَّ الله تَعَالى صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُودِ إلَى غَيْرِهَا» وإنما أراد الكعبة لأنها قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء- عليهم السلام- وذلك لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام فقال له جبريل: إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئاً فاسأل ربك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، أي رفع بصرك إلى السماء. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ، أي فلنحولنك ولنوجهنك في الصلاة قِبْلَةً تَرْضاها، يعني تهواها أي تميل نفسك إليها. فأمره الله تعالى بالتوجه فقال: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، يعني نحوه وتلقاءه وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي إلى الكعبة.
ثم قال: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، يعني أن القبلة إلى الكعبة هي الحق وهي قبلة إبراهيم عليه السلام. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، يعني جحودهم القبلة إلى الكعبة فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بعلامة على تصديق مقالتك وهم اليهود والنصارى، فنزل قوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم اليهود والنصارى بِكُلِّ آيَةٍ، أي بكل علامة مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، أي ما صلوا إلى قبلتك. وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ، أي بمصل إلى قبلتهم، وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ- يقال: معناه كيف ترجو أن يتبعوك ويصلوا إلى قبلتك وهم لا يتبعون بعضهم بعضاً.
ثم قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمته، يعني: لئن صليت إلى قبلتهم أو اتبعت مذهبهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أي البيان أن دين الإسلام هو الحق والكعبة هي القبلة. إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ، أي الضارين بنفسك.
[سورة البقرة (2) : الآيات 146 الى 147]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، وهم مؤمنو أهل الكتاب يَعْرِفُونَهُ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم بنعته(1/101)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
وصفته كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ بين الغلمان. قال عبد الله بن سلام: والله إني لأنا كنت أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني، فقال له عمر- رضي الله عنه-: وكيف ذلك يا ابن سلام؟
فقال: لأني أشهد أنه رسول الله حقاً وصدقاً ويقيناً، وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري ما أحدثت النساء بعدي فقال له: والله يا ابن سلام لقد صدقت أو أصبت.
ثم قال تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ، يعني طائفة من اليهود لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ في كتابهم، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه نبي مرسل. قال مقاتل: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم تطوفون بالبيت المبني بالحجارة؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ حَقٌّ وَإِنَّهُ هُوَ القِبْلَةُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ» فجحدوا ذلك فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، يعني التوراة يعرفون أن البيت قبلة كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ذلك في أمر القبلة. ثم قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
يا محمد، أن الكعبة قبلة إبراهيم. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، أي من الشاكين. إنهم يعرفون أنها قبلة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام.
[سورة البقرة (2) : آية 148]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
، أي قبلة. والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد. أي لكل ذي ملة قبلةوَ مُوَلِّيها
، أي مستقبلها. وقيل: لكل دين وملة قبلة هو مولها. قرأ ابن عامر: «وَهُوَ مُوَلاَّهَا» والباقون بالكسر أي هو بنفسه موليها يعني الله مولاها وقال مقاتل: لكل أهل ملة قبلة هم مستقبلوها يريدون بها وجه الله تعالى. اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
، أي قال لهذا الأمة: استبقوا بالطاعات. وهذا كما قال في آية أخرى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] ، أي جعلنا لكل قوم شريعة وسبيلاً، فإذا أخذوا بالسنة والمنهاج رضي عنهم. فأمر الله تعالى أهل هذه الشرائع أن يستبقوا الخيرات في الأعمال الصالحة، فقال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا في الأرض أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
، يعني يقبض أرواحكم ويجمعكم يوم القيامة.
وقال مجاهد لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
أمر كل قوم بأن يحولوا وجوههم إلى الكعبة.
ويقال: ولكل أمة قبلكم قبلة أمرتهم بأن يستقبلوها فاستبقوا الخيرات، يقول: بادروا الأمم بالطاعات. ثم قال تعالى: يْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ
، يعني يقبض أرواحكم ويجمعكم يوم القيامة. نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
، أي هو قادر على جمعكم يوم القيامة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 149 الى 150]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)(1/102)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
ثم قال عز وجل: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ بالصلاة شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه وتلقاءه. وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، يعني التوجه إلى الكعبة بالصلاة هُوَ الحق مِن رَّبّكَ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أي يجازيكم بأعمالكم، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ، أي لكي لا يكون لليهود عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، لأنهم يعلمون أن الكعبة هي القبلة فلا حجة لهم عليكم، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، أي إلا من ظلم باحتجاجه فيما وضح له كما يقول الرجل لصاحبه:
مالك على الحجة إلا أن تظلمني. وقال بعضهم: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا، يعني ولا الذين ظلموا لا حجة لهم عليكم. وذكر عن أبي عبيدة أنه قال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا الذين ظلموا فهذا موضع واو العطف، فكأنه قال: ليس للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا منهم، أي لا حجة لهم عليكم.
فَلا تَخْشَوْهُمْ، أي بانصرافكم إلى الكعبة، وَاخْشَوْنِي في تركها. قرأ نافع في رواية ورش: لِئَلَّا بغير همز. والباقون: لِئَلَّا بالهمز لأن أصله (لأن لا) ، وإنما أسقط نافع الهمزة للتخفيف. ثم قال تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بتحويل القبلة وبإرسال الرسول، وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا من الضلالة.
[سورة البقرة (2) : آية 151]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أي القرآن وقوله: مِنْكُمْ أي من العرب. ويقال: آدمي مثلكم لأنه لو كان من الملائكة لا يستطيعون النظر إليه، فأرسل آدمياً مثلكم يتلو عليكم القرآن وَيُزَكِّيكُمْ. قال الكلبي:
ويصلحكم بالزكاة. وقال مقاتل: يطهركم من الشرك والكفر. وقال الزجاج: خاطب به العرب أنه بعث رسولاً منكم، وأنتم كنتم أهل الجاهلية لا تعلمون الكتاب والحكمة، فكما أنعمت عليكم بالرسالة فاذكروني بالتوحيد. ويقال قوله: كما وصل بما قبله ومعناه: ولأتم نعمتي(1/103)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
عليكم كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم. ويقال: وصل بما بعده، ومعناه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ. وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فاعرفوا هذه النعمة.
[سورة البقرة (2) : آية 152]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
فَاذْكُرُونِي بالتوحيد أَذْكُرْكُمْ يقول: اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة، فحق على الله أن يذكر من ذكره، فمن ذكره في طاعته، ذكره الله تعالى بخير ومن ذكر الله من أهل المعصية في معصية ذكره الله باللعنة وسوء الدار. ويقال: اذكروني في الرخاء، أذكركم عند البلاء. ويقال: اذكروني في الضيق أذكركم بالمخرج. ويقال: اذكروني في الخلاء، أذكركم في الملأ. ويقال: اذكروني في ملأ من الناس، أذكركم في ملأ من الملائكة. قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا محمد بن الفضيل الضبي، عن الحصين، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
ما اجتمع قوم يذكرون الله تعالى، إلا ذكرهم الله في ملأ أعز منهم وأكرم، وما تفرق قوم من مجلس لا يذكرون الله في مجلسهم، إلا كانت حسرة عليهم يوم القيامة. ويقال: اذكروني بالشكر، أذكركم بالزيادة. ويقال: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ويقال: اذكروني في الدنيا بالإخلاص أذكركم في الآخرة بالخلاص.
ثم قال تعالى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ يعني اشكروا نعمتي التي أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا، ولا تجحدوا هذه النعمة. ويقال: النعمة في الحقيقة هي العلم وما سوى ذلك، فهو تحويل من راحة إلى راحة وليس الطّعام بنعمة، لأن الطعام إذا أكله الإنسان فبعد ساعة يطلب منه الفرج، والثوب الحسن ربما يمل منه إذا كان يؤذيه الحر أو البرد والعلم لا يمل منه صاحبه، بل ربما يطلب له الزيادة. فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة التي بعث رسولاً ليعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.
[سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 154]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، يعني صدّقوا بتوحيد الله تعالى. وهذا نداء المدح، وقد ذكرنا قبل هذا أن النداء على ست مراتب. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا سمعت الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَارْعَ له بسمعك فإنه أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه.(1/104)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ على أداء الفرائض وبالصلاة خاصة. قال الزجاج: استعينوا بالصبر على ما أنتم عليه وإن أصابكم مكروه. وقال مجاهد: استعينوا بالصبر أي بالصوم والصلاة. وقال الضحاك: استعينوا بالصبر على صوم شهر رمضان وعلى الصلوات الخمس.
ويقال: الصبر هو الصبر بعينه. ذكر في هذه الآية الطاعة الظاهرة والطاعة الباطنة، فأمر بالصبر والصلاة، لأنه ليس شيء من الطاعة الظاهرة أشد من الصلاة على البدن، لأنه يجتمع فيها أنواع الطاعات: الخضوع والإقبال والسكون والتسبيح والقراءة فإذا تيسر عليه الصلاة تيسر عليه ما سوى ذلك. وليس شيء من الطاعات الباطنة أشد من الصبر على البدن، فأمر الله بالصبر والصلاة لأنه حسن. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، فالله تعالى مع كل أحد، ولكن خصّ الصابرين لكي يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يفرج عنهم.
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ.
قال الضحاك: هم النفر الذين قتلوا عند بئر معونة. وقال الكلبي: هم الذين قتلوا ببدر إذ قتل من المسلمين يومئذٍ أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وكان الناس يقولون: مات فلان ومات فلان، فأنزل الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ لأنهم في الحكم كالأحياء، لأنه يجري ثوابهم إلى يوم القيامة، ولأنهم يسرحون في الجنة حيث شاؤوا. كما قال في آية أخرى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ [آل عمران: 169] وَلكِنْ لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة: 154] .
[سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 157]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ، يعني المؤمنين بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. يقول: لنختبرنكم بخوف العدو، وهو الخوف الذي أصابهم يوم الخندق، حتى بلغت القلوب الحناجر والجوع وهو القحط الذي أصابهم، فكان يمضي على أحدهم أياماً لا يجد طعاماً. وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ، يعني ذهاب أموالهم، ويقال موت الماشية. وَالْأَنْفُسِ، يعني الموت والقتل والأمراض.
وَالثَّمَراتِ نقصان الثمرات، فلا تخرج الثمرات كما كانت تخرج أو تصيبها الآفة. ويقال:
موت الثمرات هو موت الولد وهو ثمرة القلب. ثم قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، يعني الذين يصبرون على هذه المصائب والشدائد التي ذكرنا.
ثم وصفهم فقال تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ صبروا ولم يجزعوا، وقالُوا إِنَّا(1/105)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
، يعني يقولون: نحن عبيد الله وفي ملكه إن عشنا فعليه أرزاقنا، وإن متنا فإليه مردنا وإليه راجعون بعد الموت، ونحن راضون بحكمه. أُولئِكَ، يعني أهل هذه الصفة عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ. والصلاة من الله تعالى على ثلاثة أشياء: توفيق الطاعة والعصمة عن المعصية ومغفرة الذنوب جميعاً، فبالصلاة الواحدة تتكون لهم هذه الأشياء الثلاثة، فقد وعد لهم الصلوات الكثيرة، ومقدار ذلك لا يعلمه إلا الله.
ثم قال: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، أي الموفقون للاسترجاع. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يكن الاسترجاع إلا لهذه الأمة، ألا ترى أن يعقوب- عليه السلام- قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف: 84] فلو كان له الاسترجاع، لقال ذلك وروي عن عثمان بن عطاء، عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَكَرَ مُصِيبَةً أَوْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَرْجَعَ، جَدَّدَ الله ثَوَابَهُ كَيَوْمِ أُصِيبَ بِهَا» . وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَلْيَتَذَكَّرْ مُصِيبَتَهُ فِيَّ، فَإِنَّهَا مِنْ أعْظَمِ المَصَائِبِ» . وروي هذان الحديثان، عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً. وروي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال: نعم العدلان ونعم العلاوة فالعدلان قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، والعلاوة قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
[سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، قال أهل اللغة: الصفا الحجارة الصلبة التي لا تنبت بها شيء. والواحدة: صفاة. يقال: حصى وحصاة. والمروة: الحجارة اللينة.
والشعائر: علامة متعبداته. واحدها شعيرة. يعني أن الطواف بالصفا والمروة من أمور المناسك، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. روي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: فَلاَ جناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. وروي عن ابن عباس، وأنس بن مالك أنهما كانا يقرآن كذلك. ومعنى ذلك، أن من حج البيت أو اعتمر فترك السعي، لا يفسد حجه ولا عمرته، ولكن يجب عليه جبر النقصان وهو إراقة الدم، وفي مصحف الإمام فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما بحذف كلمة (لا) . وذلك أن أهل الجاهلية كان لهم صنمان على الصفا والمروة: أحدهما يقال له (اساف) والآخر (نائلة) ، وكان المشركون يطوفون بين الصفا والمروة ويستلمون الصنمين. فلما قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعمرة القضاء، كان الأنصار لا يسعون فيما بين الصفا والمروة ويقولون: السعي فيما بينهما من أمر المشركين فنزلت هذه الآية. ويقال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما فتح مكة، طاف بالبيت والمسلمون معه، فلما سعى بين الصفا والمروة، رفع المسلمون(1/106)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
أزرهم، وشمروا قمصهم كيلا يصيب ثيابهم ذينك الصنمين، فنزل قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ يعني من أمور المناسك. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، يعني لو أصاب ثيابه من ذلك لا يضره ولا إثم عليه فخرج عمر فتناول المعول وكسر الصنمين.
قال الفقيه: حدّثنا الفقيه أبو جعفر قال: حدّثنا علي بن أحمد قال: حدثنا محمد بن الفضل، عن يعلى بن منبه، عن صالح بن حيان، عن أبي بريدة، عن أبيه قال: دخل جبريل- عليه السلام- المسجد، فبصر بالنبي صلى الله عليه وسلم نائماً في ظل الكعبة فأيقظه فقام وهو ينفض رأسه ولحيته من التراب، فانطلق به نحو باب بني شيبة فلقيهما ميكائيل. فقال جبريل لميكائيل: ما يمنعك أن تصافح النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أجد من يده ريح نحاس. فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم أفعلت ذلك؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم نسي ذلك ثم ذكر فقال: «صَدَقَ أَخِي، مَرَرْتُ أوَلَ أَمْسٍ عَلَى إِساف وَنَائِلَةَ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى أَحَدِهِما وَقُلْتُ: إنَّ قَوْماً رَضُوا بِكُمَا آلِهَةً مَعَ الله هُمْ قَوْمُ سُوءٍ» .
قال صالح: قلت لأبي بريدة: وما أساف ونائلة؟ قال: كانا إنسانين من قريش يطوفان بالكعبة، فوجدا فيها خلوة فراود أحدهما صاحبه، فمسخهما الله تعالى نحاساً، فجاءت بهما قريش وقالوا: لولا أن الله رضي بأن نعبد هذين الإنسانين ما مسخهما نحاساً. وأساف كان رجلاً ونائلة كانت امرأة. قال الزجاج: الجناح في اللغة: أخذ من جنح إذا مال وعدل عن المقصد. وأصل ذلك من جناح الطير.
قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً. قرأ حمزة والكسائي يَطَوَّعْ بالياء وجزم العين، لأن الأصل يتطوع فأدغمت التاء في الطاء وشددت. وقرأ الباقون تَطَوَّعَ على معنى الماضي والمراد به الاستقبال، يعني إذا زاد في الطواف حول البيت على ما هو واجب عليه، فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ يقبل منهم، عَلِيمٌ بنياتهم وبما نووا وقال القتبي: يطوف أصله يتطوف فأدغمت التاء في الطاء. ويقال: الجناح: الإثم. ويقال إن الله شاكر عليم يقبل اليسير ويعطي الجزيل ويقال:
إن الله شاكر بقبول أعمالكم عليم بالثواب. ويقال: الطواف للغرباء أفضل من الصلاة، لأنهم يقدرون على الصلاة إذا رجعوا إلى منازلهم، ولا يمكنهم الطواف إلا في ذلك الوقت، فالله تعالى قد حثّ على الطواف بقوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 160]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مآ أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)(1/107)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مآ أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ نزلت في شأن رؤساء اليهود، منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وابن صوريا، يقول: يكتمون ما أنزلنا في التوراة من البينات:
الحلال والحرام وآية الرجم. وَالْهُدى، يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ، أي في التوراة. ويقال: في القرآن أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، أي يخذلهم الله ويلعنهم اللاعنون قال ابن عباس: وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره، سئل من ربك وما دينك؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: ما دريت فهكذا كنت في الدنيا، ثم يضربه ضربة يصيح منها صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، فلا يسمع صوته شيء إلا يلعنه. فذلك قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا تلاعن اثنان، فإن كان أحدهما مستحقاً للعنة رجعت اللعنة إليه، وإن لم يكن يستحق أحدهما اللعنة ارتفعت اللعنة إلى السماء، فلم تجد هناك موضعاً فتنحدر فترجع إلى الذي تكلم بها إن كان أهلاً لذلك وَإِنَّ لم يكن أهلاً لذلك رجعت إلى الكفار، وفي بعض الروايات إلى اليهود. فذلك قوله تعالى:
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
ثم استثنى التائبين من اللعنة، فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِن الكفر واليهودية وَأَصْلَحُوا أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم. ويقال: معناه وأصلحوا لمن أفسد من السفلة، وبينوا صفته في كتبهم. قوله: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ، أي أتجاوز عنهم. وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ المتجاوز لمن تاب ورجع فتقبل توبته.
[سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، أي ثبتوا على كفرهم حتى ماتوا على ذلك.
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قال الكلبي: يعني لعنة المؤمنين خاصة.
وقال بعضهم: يلعنهم لعنة جميع الناس، لأن من يخالف دينهم يلعنهم في الدنيا، وأهل دينهم يلعنونهم في الآخرة، كما قال في آية أخرى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] ثم قال: خالِدِينَ فِيها، أي في اللعنة. ولعنته: عذاب النار أي ما توجبه اللعنة. لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ، يعني لا يهون عليهم طرفة عين. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، يعني لا يؤجلون.
[سورة البقرة (2) : آية 163]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قال مقاتل: يعني ربكم رب واحد. وقال الضحاك: كان لمشركي(1/108)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
العرب ثلاثمائة وستون صنماً يعبدونها من دون الله تعالى، فدعاهم الله إلى التوحيد والإخلاص لعبادته فقال: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. ويقال: نزلت هذه الآية في صنف من المجوس يقال لهم: المانوية فكان رئيسهم يقال له: ماني، فقال لهم أرى الأشياء زوجين وضدين، مثل الليل والنهار والنور والظلمة والحر والبرد والخير والشر والسرور والحزن والذي يصلح للشيء لا يصلح لضده، فمن كان خالق النور والخيرات لا يكون خالق الشر والظلمات فهما اثنان:
أحدهما يخلق الشر والآخر يخلق الخير، فنزلت هذه الآية وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، أي خالقكم خالق واحد هو خالق الأشياء كلها.
وقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، قال بعض الناس: هذا الكلام نصفه كفر، وهو قوله: لاَ إله، ونصفه إيمان وهو قوله: إِلَّا هُوَ. ولكن هذا الكلام ليس بسديد، لأن الله تعالى أمر رسوله بأن يأمرهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فلا يجوز أن يأمرهم بالكفر.
وقال بعضهم: النصف الأول منسوخ والنصف الثاني ناسخ. وهذا أيضاً لا يصح، لأن المنسوخ هو الذي كان مباحاً قبل النسخ والكفر لم يكن مباحاً أبداً. وأحسن ما قيل فيه: إن قوله: لا إِلهَ نفي معبود الكفار، وقوله: إِلَّا هُوَ إثبات معبود المؤمنين. أو نقول: لا إِلهَ نفي الألوهية عمن لا يستحق الألوهية، وقوله إِلَّا هُوَ إثبات الألوهية لمن يستحق الألوهية.
[سورة البقرة (2) : آية 164]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
لما نزلت هذه الآية، أنكر المشركون توحيد الله تعالى، وطلبوا منه دليلاً على إثبات وحدانيته فنزلت هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يعني في خلق السموات والأرض دليل على وحدانية الله في أنه خلقها بغير عمد ترونها وزينها بمصابيح، والأرض بسطها أيضاً وجعل لها أوتاداً وهي الجبال وفجر فيها الأنهار وجعل فيها البحار. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، يعني في مجيء الليل وذهاب النهار، ومجيء النهار وذهاب الليل. ويقال:
اختلافهما في الكون. ويقال: نقصان الليل وتمام النهار، ونقصان النهار وتمام الليل. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ. يعني السفن. ويقال للسفينة الواحدة: الفلك ولجماعة السفن: الفلك.
يعني السفن التي تسير في البحر، فتقبل مرة وتدبر مرة بريح واحدة فتسير في البحر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من الكسب والتجارة وغير ذلك.(1/109)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
وقوله: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ، يعني المطر الذي ينزل من السماء، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي اخضرت الأرض بعد يبسها وَبَثَّ فِيها، يقول: خلق في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ قرأ حمزة والكسائي: الريح بغير ألف والباقون:
الرِّياحِ بالألف. واختار أبو عبيدة في قراءته: أن كلّ ما في القرآن من ذكر العذاب الريح بغير ألف، وكل ما في القرآن من ذكر الرحمة: الرياح بالألف، واحتج بما روى أنس- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا هاجت الريح قال: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا ولا تجعلها ريحا» .
ومعنى قوله تعالى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي هبوب الريح مرة جنوباً ومرة شمالاً ومرة صباً ومرة دبوراً.
قوله تعالى: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ، أي المذلل والمطوع، بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، أي في هذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية، آيات لوحدانيته لمن كان له عقل وتمييز. ويقال: هذه الآية تجمع أصول التوحيد، وقد بيّن فيها دلائل وحدانيته، لأن الأمر لو كان بتدبير اثنين مختلفين في التدبير، لفسد الأمر باختلافهما. كما قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] .
[سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، يعني بعض الناس وصفوا لله شركاء وأعدالاً وهي الأوثان. يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، قال بعضهم: معناه يحبون الأوثان كحبهم لله تعالى، لأنهم كانوا يقرون بالله تعالى. وقال بعضهم: معناه، يحبون الأوثان كحب المؤمنين لله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، لأن الكفار يعبدون أوثانهم في حال الرخاء، فإذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها والمؤمنون يعبدون الله تعالى في حال الرخاء والشدة، فهذا معنى قوله تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. فإن قيل: إذا كان المؤمنون أشد حباً لله فما معنى قوله:
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ؟ قيل له: يحتمل أن بعض المؤمنين حبهم مثل حبهم وبعضهم أشد حباً، وفي أول الآية ذكر بعض المؤمنين، وفي آخر الآية ذكر المؤمنين الذين هم أشد حباً لله.(1/110)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
والحب لله أن يطيعوه في أمره وينتهوا عن نهيه، فكل من كان أطوع لله فهو أشد حباً له. كما قال القائل:
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صادقا لأطعته ... إن المحب لِمَنْ يُحْبُّ مُطِيعُ
ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يا محمد. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ، يعني حين يرون العذاب. أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، وفي الآية مضمر ومعناه: يا محمد لو رأيت الذين ظلموا في العذاب، لرأيت أمراً عظيماً كما تقول: لو رأيت فلاناً تحت السياط فيستغني عن الجواب، لأن معناه مفهوم. فكذلك هاهنا لم يذكر الجواب، لأن المعنى معلوم. قرأ نافع وابن عامر: وَلَوْ تَرَى بالتاء على معنى المخاطب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الباقون: بالياء ومعناه ولو يرى عبدة الأوثان اليوم ما يرون يوم القيامة، أن الأوثان لا تنفعهم شيئاً وأن القوة لله جميعاً، تركوا عبادتها. وقرأ ابن عامر إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ بضم الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الياء على معنى الخبر عنهم. وقرأ الحسن وقتادة: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً على معنى الابتداء، وقرأ العامة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ بالنصب على معنى البناء، يعني بأن القوة لله جميعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ، يعني للرؤساء والاتباع من أهل الأوثان.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا، يعني القادة مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وهم السفلة وَرَأَوُا الْعَذابَ، يقال حين يروا العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، أي العهود والحلف التي كانت بينهم في الدنيا. وقال القتبي: الأسباب يعني الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا. وقال بعضهم وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، أي الخلة والمواصلة، كما قال في آية أخرى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ويقال: الأرحام والمودة التي كانوا يتواصلون بها فيما بينهم.
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، أي السفلة: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً، أي رجعة إلى الدنيا وذلك أن الرؤساء لما تبرؤوا منهم ولا ينفعونهم شيئاً، ندمت السفلة على اتباعهم في الدنيا ويقولون في أنفسهم: لو أن لنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، أي من القادة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا القادة. قال الله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ لأنهم يرون أعمالهم غير مقبولة، لأنها كانت لغير وجه الله تعالى فيكون ذلك حسرة عليهم. وقوله تعالى:
وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ، يعني التابع والمتبوع والعابد والمعبود.
[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)(1/111)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، وذلك أن قوماً من العرب مثل بني عامر وبني مدلج وخزاعة وغيرهم، حرموا على أنفسهم أشياء مما أحل الله من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة وغير ذلك، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً من الحرث والأنعام، وحلالاً نصب على الحال. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، يعني طاعات الشيطان. وقال مقاتل: يعني تزيين الشيطان. ويقال: وساوس الشيطان. وقال القتبي: الخطوات جمع الخطوة. وقال الزجاج: خطواته أي طرقه، ومعناه: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، أي ظاهر العداوة.
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ، يعني بالإثم والقبيح من العمل. ويقال: السوء الذي يجب به الحبس والحساب، والفحشاء: التي يستوجب بها العقوبة في النار. ويقال: السوء الذي يجب به التعزير في الدنيا، والفحشاء التي يجب بها الحد. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، يعني أن الشيطان يأمركم بأن تكذبوا على الله، لأنهم كانوا يقولون هذه الأشياء حرم الله علينا.
[سورة البقرة (2) : آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أي اعملوا بما أنزل الله في القرآن من تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله. قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، يعني ما وجدنا عليه آباءنا. قال الله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ، معناه أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالاً فيتابعوهم بغير حجة؟ فكأنه نهاهم عن التقليد وأمرهم بالتمسك بالحجة. وهذه الواو مفتوحة وهي واو: أَوَلَو لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف التوبيخ وهي ألف الاستفهام.
قرأ أبو عمرو ومن تابعه من أهل البصرة: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ [البقرة: 167] بكسر الهاء والميم، وكذلك في كل موضع تكون الهاء والميم بعدهما ألف ولام. مثل قوله تعالى:
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: 61] وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ [الحجر: 3] . وكان عاصم وابن عامر ونافع يقرءون بكسر الهاء وضم الميم. وكان حمزة والكسائي يقرآن: بضم الهاء والميم. وكان ابن كثير يقرأ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ بضم الميم، وكذلك إِنَّما يَأْمُرُكُمْ وكذلك كل ميم نحو هذا مثل: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] ، عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة: 7] . وكان نافع في رواية ورش عنه يقرأ: سكون الميم، إلا أن يستقبله ألف أصلية فيضم الميم مثل قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: 6 ويس: 10] إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف: 21] ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: 14] . وكان حمزة والكسائي يقرءون بسكون الميم، إلا أن يستقبله ألف ولام مثل قوله: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: 61] .(1/112)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
وأما قوله: خُطُواتِ الشَّيْطانِ [البقرة: 168 وغيرها] كان نافع وأبو عمرو وحمزة وعصام في رواية أبي بكر يقرءون خُطُواتِ بجزم الطاء. وقرأ الكسائي وابن كثير وعاصم في رواية حفص: خُطُواتِ بضم الطاء وهما لغتان ومعناهما واحد.
[سورة البقرة (2) : آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
ثم قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً. فهذا مثل ضربه الله تعالى لأهل الكفر، إنهم مثل البهائم لا يعقلون شيئاً سوى ما يسمعون من النداء.
وفي الآية إضمار ومعناه: مثلك يا محمد مع الكفار، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً. وهذا قول الزجاج. وقال القتبي: قال الفراء: ومثل واعظ الذين كفروا فحذف ذكر الواعظ. كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . وقال القتبي أيضاً: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني ومثلنا في وعظهم، فحذف اختصاراً إذ كان في الكلام ما يدل عليه، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ، يعني الراعي إذا صاح في الغنم لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فحسب، ولا تفهم قولاً ولا تحسن جواباً، فكذلك الكافر لا يعقل المواعظ. صُمٌّ عن الخبر فهم لا يسمعون بُكْمٌ، أي خرس لا يتكلمون بالحق عُمْيٌ لا يبصرون الهدى. ويقال: كأنّهم صم، لأنهم يتصاممون عن سماع الحق. فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ الهدى.
[سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ، يعني من الحلال من الحرث والأنعام. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، يعني إن كنتم تريدون بترك أكله رضاء الله تعالى فكلوه، فإن رضي الله تعالى أن تحلوا حلاله وتحرموا حرامه. ويقال: إن محرم ما أحل الله مثل محل ما حرم الله. ويقال: في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة، لأنه تعالى خاطبهم بما خاطب به أنبياءه- عليهم الصلاة والسلام- لأنه قال لأنبيائه: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] ، وقال لهذه الأمة كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وقال في أول الآية: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [البقرة: 168] . فلما أمر الله تعالى بأكل هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها على أنفسهم. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرمات ما هي؟ فبيّن الله(1/113)
تعالى المحرمات، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. والميتة سوى السمك والجراد، والدم يعني الدم المسفوح أي الجاري. كما قال في آية أخرى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام: 145] ، يعني حرم عليكم، ولحم الخنزير فذكر اللحم خاصة والمراد به اللحم والشحم وجميع أجزائه. وهذا شيء قد أجمع المسلمون على تحريمه فقد ذكر الميتة وإنما انصرف إلى بعض منها وأحل البعض منها وهو السمك والجراد وذكر الدم وإنما المراد به بعض الدم، لأنه لم يدخل فيه الكبد والطحال وذكر لحم الخنزير فانصرف النهي إلى اللحم وغيره. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، يعني ما ذبح بغير اسم الله تعالى. والإهلال في اللغة: هو رفع الصوت. وكان أهل الجاهلية إذا ذبحوا، رفعوا الصوت بذكر آلهتهم فحرم الله تعالى على المؤمنين أكل ما ذبح لغير اسم الله تعالى. وفي الآية دليل: أنه إذا ترك التسمية عمداً لا يؤكل، لأنه قد ذبح بغير اسم الله تعالى.
ثم إن الله تعالى علم أن بعض الناس يبتلون بأكل الميتة عند الضرورة، فرخص لهم في ذلك بقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ. قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو: فَمَنِ اضْطُرَّ بكسر النون وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد. يقول: فمن أجهد إلى شيء مما حرم الله إلى أكل الميتة غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، يعني غير مفارق الجماعة ولا عاد على المسلمين بالسيف فمن خرج لقطع الطريق، أو خرج على إمام المسلمين فلا رخصة له عند بعضهم.
وقال بعضهم: من خرج في معصية فلا رخصة له. وقال بعضهم: كل من اضطر إلى أكل الميتة رخص له أن يأكل سواء أخرج للمعصية أو غيرها. وهذا قول أصحابنا. ومعنى قوله:
غَيْرَ باغٍ، أي غير طالب للحرام ولا راض بأكله. وَلا عادٍ، يعني لا يعود إلى أكله بعد أكل مقدار ما يسد به الرمق.
وروي عن ابن عباس نحو هذا. قال: حدّثنا محمد بن سعيد الترمذي قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال: من أكل شيئاً من هذه الأشياء وهو مضطر، فلا حرج عليه ومن أكله وهو غير مضطر، فقد بغى واعتدى.
ثم اختلفوا في حد الاضطرار الذي يحل له أكل الميتة. قال بعضهم: إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف وهو قول الشافعي. وروي عن ابن المبارك أنه قال: إذا كان بحال لو دخل السوق لا ينظر إلى شيء سوى الخبز. وقال بعضهم: إذا كان بحال يضعفه عن أداء الفرائض.
وقد اختلفوا أيضاً في أكله: قال بعضهم: أكله حرام إلا أنه لا إثم عليه، ألا ترى أنه قال(1/114)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
في سياق الآية: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقال بعضهم: هو حلال ولا يسعه تركه، لأنه قال في آية أخرى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: 119] ، فلما استثني منه ثبت أنه حلال. وروي عن مسروق أنه قال: من اضطر إلى ميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار.
[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ، نزلت في رؤساء اليهود كانوا يرجون أن يكون النبي- عليه السلام- منهم، فلما كان من غيرهم خشوا بأن تذهب منافعهم من السفلة، فعمدوا إلى صفة النبي صلى الله عليه وسلم فغيّروها. ويقال: غيروا تأويلها فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ، يعني في التوراة بكتمان صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، يعني يختارون به عرضاً يسيراً من منافع الدنيا. أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، يعني يأكلون الحرام. وإنما سمي الحرام ناراً، لأنه يستوجب به النار، كما قال في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] .
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أي لا يكلمهم بكلام الخير، لأنه يكلمهم بكلام العذاب حيث قال تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، أي ولا يطهرهم من الأعمال الخبيثة السيئة. وقال الزجاج: ولا يزكيهم أي لا يثني عليهم خيراً، ومن لا يثني عليه فهو معذب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، أي وجيع يعني الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، وكذلك كل من كان عنده علم فاحتاج الناس إلى ذلك فكتمه، فهو من أهل هذه الآية. وهذا كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كَتَمَ عِلْماً، أَلْجَمَهُ الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» .
ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ، يعني رؤساء اليهود الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، يعني اختاروا الكفر على الإيمان وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ، يعني اختاروا النار على الجنة فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، يقول: فما الذي أجرأهم على فعل أهل النار؟ ويقال: معناه فما أبقاهم(1/115)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
في النار؟ كما يقال: فما أصبر فلاناً على الحبس: أي أبقاه؟ ذلِكَ، أي ذلك العذاب بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، أي القرآن بِالْحَقِّ، أي بالعدل. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ، أي في القرآن لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ، أي في ضلالة بيِّنة. ويقال: معناه أن الله تعالى أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالعدل، فتركوا اتباعه وخالفوه فاستوجبوا بذلك العذاب. ويقال:
لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ، أي في خلاف بعيد من الحق. وذكر عن قتادة أنه قال: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، أي فما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار. وروي عن مجاهد أنه قال: ما أعلمهم بعمل أهل النار. ويريد ما أدومهم على عمل أهل النار. وقال أبو عبيدة: ما الذي صيرهم ودعاهم إلى النار؟
ثم قال:
[سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ. قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص: لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء على معنى خبر ليس. وقرأ الباقون: بالرفع على معنى اسم ليس. من قرأ بالرفع فهو الظاهر في العربية، لأن ليس يرفع الاسم الذي بعده بمنزلة كان وأما من قرأ بالنصب، فإنه يجعل الاسم ما بعده ويجعل (البر) خبره. وتفسير الآية قال مقاتل: في قوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ، أي ليس البر أن تحولوا وجوهكم في الصلاة قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا تعملوا غير ذلك، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، يعني صدق بالله بأنه واحد لا شريك له. قرأ نافع وابن عامر وَلكِنَّ الْبِرَّ بكسر النون وضم الراء ... وقرأ الباقون: وَلكِنَّ الْبِرَّ بنصب النون مشددة وبنصب الراء. ويقال: معناه ليس البر كله في الصلاة ولكن البر ما ذكر في هذه الآية من العبادات. ثم اختلفوا في معنى قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. قال بعضهم: معناه ولكن ذو البر من آمن بالله. وقال بعضهم: معناه ولكن البر بر من آمن بالله وكلا المعنيين ذكرها الزجاج في كتابه. وقال بعضهم ليس البار من يولي وجهه إلى المشرق والمغرب، ولكن البار من آمن بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ.(1/116)
ثم ذكر في هذه الآية خمسة أشياء من الإيمان، فمن لم يقر بواحدة منها فقد كفر.
أحدها: الإيمان بالله تعالى أنه واحد لا شريك له والتصديق باليوم الآخر وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال وأنه كائن، وأن أهل الثواب يصلون إلى الثواب وأهل العقاب يصلون إلى العقاب والتصديق بالكتاب أنه منزل من الله تعالى القرآن وسائر الكتب: التوراة والإنجيل والزبور، ويقر بالملائكة أنهم عبيده ويقر بالنبيين أنهم رسله وأنبياؤه فهذه الخمس من الإيمان فمن جحد واحدة منها فقد كفر. ثم ذكر الفضائل فقال تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، يعني يعطي المال على شهوته وجوعه وهو شحيح يخشى الفقر، ويأمل العيش. ويقال: على حبه الإعطاء بطيبة من نفسه، يعطي ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، يعني الضيف النازل وَالسَّائِلِينَ الذين يسألون الناس وَفِي الرِّقابِ، يعني المكاتبين. وقد قيل: (ابن السبيل) هو المنقطع من ماله.
ثم ذكر الفرائض فقال تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ المكتوبة، وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة.
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا فيما عاهدوا فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس. وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. أي بالبأساء وهي شدة الفقر البأس قال القتبي: يعني الفقر وهو من البؤس والضراء المرض والزمانة. وَحِينَ الْبَأْسِ، يعني يصبرون عند الحرب. وقال القتبي: البأس: الشدة ومنه يقال: لا بأس عليك يعني لا شدة عليك، فلهذا سمي الحرب البأس، لأن فيه شدة. ثم قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني صدقوا في إيمانهم، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن نقض العهد.
فإن قيل: أيش معنى قوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وموضعه موضع رفع ولم يقل: والصابرون؟ قيل له: قد قال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط الكاتب حين كتبوا مصحف الإمام والدليل على ذلك ما روي عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أنه نظر في المصحف وقال: أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها وهكذا قال في سورة النساء:
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] وفي سورة المائدة وَالصَّابِئُونَ. لكن الجواب عند أهل العلم أن يقال: إنما صار نصباً للمدح والكلام يصير نصباً للمدح أو للذم. ألا ترى إلى قول القائل:
نَحْنُ بَنِي ضَبَّةَ أَصْحَابُ الجَمَلِ وإنما جعله نصباً للمدح. وروي عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن البر فنزلت هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الآية. وقال الضحاك أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم بأعمالهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، يعني المطيعون لله تعالى. ثم قال تعالى:(1/117)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى، يعني فرض عليكم وأوجب عليكم القصاص. فإن قيل: الفرض على من يكون؟ على الولي أو على غيره؟ قيل له: الفرض على القاضي إذا اختصموا إليه، بأن يقتضي على القاتل بالقصاص إذا طلب الولي، لأن الله تعالى قد خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص، فخاطب الولي بالقصاص وخاطب غيره بأن يعين الولي على ذلك. وهو قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ، أي فرض عليكم إذا كان في القتل عمداً.
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. قال بعضهم: كان في أول الشريعة أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد، ولا يقتل الحر بالعبد ولا العبد بالحر، ولا الذكر بالأنثى ثم نسخ بقوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] . وقال بعضهم هي غير منسوخة، لأنه قد ذكر هذه الآية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ولم يذكر في هذه الآية: أن العبد لو قتل حراً ما حكمه، فبيّن في آية أخرى وهو قوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية، فكان بينهم قتلى وجراحات وكان لأحدهما طول على الأخرى فقالوا: لنقتلن بالعبد منا الحر منكم، وبالمرأة الرجل منكم، وبالرجل منا الرجلين منكم فلما جاء الإسلام طلب بعضهم من بعض ذلك، فنزلت هذه الآية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى.
ثم قال تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، أي ترك ولي المقتول من أخيه: أي القاتل ولم يقتله وأخذ الدية. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ، يعني يطلب الدية بالرفق ولا يعسر عليه، وأمر بالمطلوب بأن يؤدي الدية إلى الطالب لقوله: وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. وقال القتبي فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ قال: قبول الدية في العمد والعفو عن الدم. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ، أي مطالبة جميلة وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ لا يبخسه ولا يمطله، معناه ولا يدفعه إذا عفا أحد ولي القصاص صار نصيب الآخر ملأ فيتبعه بالمعروف، والقاتل يؤدي إليه نصيبه بإحسان.(1/118)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو وليس لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى القصاص والدية والعفو تخفيفاً لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا. وقال بعض الناس: إن الولي إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل، وهو قول الشافعي، وقال أصحابنا: ليس له أن يأخذ الدية إلا برضا القاتل. وليس في هذه الآية دليل، أن له أن يأخذ الدية بكره منه، وفيها دليل أن له أن يقبل الدية وإذا رضي القاتل وَاصْطَلَحَا على ذلك.
ثم قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ، يعني أن يقتل بعد ما يأخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجع. وقال قتادة: يقتل ولا يتقبل منه الدية إذا اعتدى، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أَعْفِي عَنْ أحَدٍ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ» . ولكن معناه عندنا: أنه إذا طلب الولي القتل، فأما إذا عفا عنه الثاني وتركه جاز عفوه، لأنه قتل بغير حق فصار حكمه حكم القاتل الأول، لأنه لو عفي عنه لجاز ذلك فكذلك الثاني. ثم قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بقاء، لأن الناس يعتبرون بالقصاص فيمتنعون عن القتل. وهذا كما قال القائل:
أَبْلِغْ أَبَا مَاِلكٍ عَنِّي مُغَلْغَلَة ... وَفِي العِقَابِ حَيَاةٌ بَيْنَ أَقْوَام
وهذا معنى قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ، يعني يا ذوي العقول. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل مخافة القصاص.
[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ، أي فرض عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً، أي مالاً.
الخير في القرآن على وجوه، أحدها: المال كقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وقوله: مآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 215] ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 272] أي المال. والثاني: الإيمان كقوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً [الأنفال: 23] أي إيماناً، وكقوله تعالى: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [هود: 31] . والثالث الخير: الفضل كقوله تعالى: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 109 و 118] . والرابع: العافية كقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ [الأنعام: 17] وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ [يونس: 107] . والخامس: الأجر كقوله: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ [الحج: 36] أي أجر.(1/119)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وقال بعضهم: الوصية واجبة على كل مسلم، لأن الله تعالى قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ، أي فرض عليكم الوصية. وروي عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا حَقُّ امرئ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَةً وَعِنْدَهُ مَالٌ يُوَصِي بِهِ، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَه» وقال بعضهم: هي مباحة وليست بواجبة. وقد روي عن الشعبي أنه قال: الوصية ليست بواجبة فمن شاء أوصى ومن شاء لم يوص. وقال إبراهيم النخعي: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر- رضي الله عنه- فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فليس عليه شيء. وقال بعضهم: إن كان عليه حج أو كفارة أي شيء من الكفارات فالوصية واجبة، وإن لم يكن عليه شيء من الواجبات فهو بالخيار إن شاء أوصى وإن شاء لم يوص. وبهذا القول نأخذ.
ثم بيّن مواضع الوصية فقال تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ. قال مجاهد: كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين، فصارت الوصية للوالدين منسوخة.
وروى جويبر، عن الضحاك أنه قال: نسخت الوصية للوالدين والأقربين ممن يرث، وثبتت الوصية لمن لا يرث من القرابة. ويقال: في الآية تقديم وتأخير، معناه كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت وكانوا يوصون للأجنبيين ولم يوصوا للقرابة شيئاً، فأمرهم الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين. ثم نسخت الوصية للوالدين بآية الميراث في قوله: بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، أي واجباً عليهم.
وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ، أي غيّره بعد ما سمع الوصية فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ، أي وزره على الذين يبدلونه ويغيرونه لا على الموصي، لأن الموصي قد فعل ما عليه. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بالوصية عَلِيمٌ بثوابها وبجزاء من غيّر الوصية. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً، أي علم من الموصي الجنف وهو الميل عن الحق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، إذا غيّر وصيَّته فردها إلى الحق، لأن تبديله كان للإصلاح ولم يكن للجور. وقال الكلبي: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً، أي علم من الميت الخطأ في الوصية، أَوْ إِثْماً، يعني تعمداً للجور في وصيته فزاد على الثلث فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، أي رد ما زاد على الثلث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. هكذا قال مقاتل: وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الإضرار في الوصية من الكبائر.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: «فَمَنْ خَافَ مِنْ موَصّ» بنصب الواو وتشديد الصاد، وقرأ الباقون: بسكون الواو وتخفيف الصاد فمن قرأ بالنصب والتشديد، فهو من وصّى يوصي ومن قرأ بالتخفيف، فهو من أوصى يوصي. وهما لغتان ومعناهما واحد ف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، معناه غفور لمن جنف رحيم لمن أصلح.
[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 187]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)(1/120)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، يعني فرض عليكم صيام رمضان، كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أي فرض على الذين من قبلكم من أهل الملل كلها. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء الآخرة وبعد النوم. ويقال:
كما كتب في الذين من قبلكم في الفرض. ويقال: كما كتب على الذين من قبلكم في العدد أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، أي معلومات وإنما صارت الأيام نصباً لنزع الخافض، ومعناه في أيام معدودات. وقال مقاتل: كل شيء في القرآن معدودة أو معدودات فهو دون الأربعين، وما زاد على ذلك لا يقال معدودة.
ثم قال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً، فلم يقدر على الصوم أَوْ عَلى سَفَرٍ، فلم يصم. فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، أي فعليه أن يقضيها بعد مضي الشهر مثل عدد الأيام التي فاتته.
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ، أي يطيقون الصوم فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، أي يدفع لكل مسكين(1/121)
مقدار نصف صاع من حنطة ويفطر ذلك اليوم. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً، أي تصدق على مسكينين مكان كل يوم أفطره، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ من أن يطعم مسكيناً واحداً. والصيام خير له من الإفطار وهو قوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من أن تفطروا وتطعموا. قال الكلبي:
كان هذا في أول الإسلام ثم نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها، وهكذا قال القتبي، وهكذا روي، عن سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، كان من أراد أن يفطر ويفدي فعل، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وهو قوله:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. وقال الشعبي: لما نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، كان الأغنياء يطعمون ويفطرون ويفتدون ولا يصومون، فصار الصوم على الفقراء، فنسختها هذه الآية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فوجب الصوم على الغني والفقير، وقال بعضهم: ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في الشيخ الكبير. وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ: «وَعَلَى الَّذِينَ يَطُوقُونَهُ» ، يعني يكلفونه فلا يطيقونه. وروي عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: ليست بمنسوخة وإنما هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان كل يوم مسكيناً. قرأ نافع وابن عامر «فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ» بضم الهاء وكسر الميم بالألف على الإضافة. وقرأ الباقون بتنوين الهاء فِدْيَةٌ طَعامُ بضم الميم مّسْكِينٌ بغير ألف.
قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ، قرأ عاصم في رواية حفص: شَهْرُ بفتح الراء والباقون: بالضم. وإنما صار رفعاً لمعنيين: أحدهما أنه مفعول ما لم يسم فاعله، يقول: كتب عليكم شهر رمضان ومعنى آخر: أنه خبر مبتدأ يعني هذا شهر رمضان. ومن قرأ بالنصب احتمل أنه صار نصباً لوقوع الفعل عليه، أي صوموا شهر رمضان ويقال: صار نصباً لنزع الخافض، أي: في شهر رمضان. ويحتمل: عليكم شهر رمضان. كقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] يعني الزموا.
قوله: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قرأ ابن كثير الْقُرْآنُ بالتخفيف وقرأ الباقون: بالهمز.
وقال ابن عباس في معنى قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، يعني أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في السماء الدنيا، ثم أنزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً، أي الآية والآيتين في أوقات مختلفة أنزل عليه في إحدى وعشرين سنة. وقال مقاتل: أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين سنة.
حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضيل العابد قال: حدثنا الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال:(1/122)
أنزلت التوراة في ثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان، والإنجيل في ثمانية عشرة ليلة، والقرآن في أربعة وعشرين ليلة. قال الفقيه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم القطان قال: حدثنا محمد بن صالح الترمذي قال: حدثنا سويد بن نصر قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن جريح قال: قال ابن عباس في قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال: أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر. قال ابن جريج: كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل في تلك السنة. فينزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا، ولا ينزل جبريل من ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم إلا كلما أمر به تعالى.
قوله عز وجل: هُدىً لِلنَّاسِ أي القرآن هدى للناس من الضلالة وبياناً لهم. وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى، يعني بيان الحلال والحرام وَالْفُرْقانِ، أي المخرج من الشبهات فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، أي من كان منكم شاهداً ولم يكن مريضاً ولا مسافراً فليصم الشهر.
وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فأفطر، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يقضيه بعد ذلك. روي عن عبد الله بن عمر: أنه كان يكره قضاء رمضان متفرقاً. وعن علي بن أبي طالب مثله. وقال معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الصحابة: أحصِ العدد وصم كيف شئت.
واختلفوا في حدّ المريض الذي يجوز له الإفطار. قال بعضهم: إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف. وقال بعضهم: إذا استحق اسم المريض جاز له أن يفطر. وقال بعضهم: إذا كان بحال يخاف أن يزيد الصوم في مرضه جاز له أن يفطر. وهو قول أصحابنا.
ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ في الإفطار في حال المرض والسفر، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ بالصوم في المرض والسفر. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قال الكلبي: يعني لتتموا عدة ما أفطرتم من الصوم في السفر أو في المرض. وقال الضحاك: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، يعني إذا غمّ عليكم هلال شوال فأكملوا الشهر ثلاثين يوماً. قرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية هارون: «وَلِتُكَمِّلُوا» بنصب الكاف وتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف وسكون الكاف وهما لغتان يقال: كملت الشيء وأكملته مثل وصَّيت وأوصيت ثم قال: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ، أي لتعظموا الله على مَا هداكم لشرائعه وسننه وأمر دينه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أي لتشكروا الله تعالى على هذه النعمة حيث رخص لكم الفطر في المرض والسفر. وقال مقاتل: لعلكم تشكرون في هذه النعم أن هداكم لأمر دينه.
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي وذلك أنه لما نزلت هذه الآية: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] ، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله في أي وقت ندعو الله حتى يستجاب دعاؤنا؟ فنزلت هذه الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ، يعني أجيبكم في أي وقت تدعونني. وقال بعضهم: سأله بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله،(1/123)
أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.
وقال مقاتل: إن عمر واقع امرأته بعد ما صلى العشاء، فندم على ذلك وبكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع من عنده مغتماً، وكان ذلك قبل الرخصة، فنزلت هذه الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.
قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في إحدى الروايتين: «دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي» بالياء والباقون كلهم بحذف الياء. وأصله بالياء إلا أن الكسر يقوم مقام الياء. ويقال فإني قريب في الإجابة، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بالطاعة، وَلْيُؤْمِنُوا بِي وليصدقوا بوعدي. قال ابن عباس في رواية الكلبي: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي الاستجابة أن تقولوا بعد صلاتكم: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وَلْيُؤْمِنُوا بِي والإيمان أن تقول: آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، وأن وعدك حق وأن لقاءك حق، وأشهد أنك أحد فرد صمد، لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفواً أحد، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنك باعث من في القبور. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما تَرَكْتُ هذه الكلمات دبر كل صلاة منذ نزلت هذه الآية. وروي عن الكلبي أنه قال: ما تركتها منذ أربعين سنة. ويقال: معناه أجيبوا لي بالطاعة إذا دعاكم رسول الله- وَلْيُؤْمِنُوا بِي، أي ليصدقوا بتوحيدي. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، أي يهتدون من الضلالة.
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، يعني الجماع. وروى بكر، عن عبد الله المزني، عن ابن عباس أنه قال: الغشيان واللمس والإفضاء والمباشرة والرفث هو الجماع، ولكن الله حيي كريم يكني بما شاء. وسبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- واقع امرأته بعد صلاة العشاء في شهر رمضان بعد النوم، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا كُنْتَ جَدِيراً بذلك» . فرجع مغتماً فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، أي رخص لكم الجماع مع نسائكم. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ، أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. ويقال: هن ستر لكم من النار وأنتم ستر لهن من النار. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي تظلمون أنفسكم.
قال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. وقد سمى الله تعالى هذا الفعل خيانة، لأن الإنسان قد اؤتمن على دينه فإذا فعل بخلاف ما أمر الله به ولم يؤد الأمانة فيه، فقد خانه بمعصيته. فَتابَ عَلَيْكُمْ، أي فتجاوز عنكم وَعَفا عَنْكُمْ ولم يعاقبكم بما فعلتم.
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، أي جامعوهن وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يعني اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد الصالح. وقال الزجاج: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، أي اتبعوا القرآن فيما أبيح(1/124)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
لكم فيه وأمرتم به. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، نزلت في شأن صرمة بن قيس عمل في النخيل بالنهار، فلما رجع منزله غلب عليه النوم قبل أن يأكل شيئاً، فأصبح صائماً فأجهده الصوم، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر النهار فقال له: «مَا لَكَ يَا ابْنَ قَيْسٍ أَمْسَيْتَ طَليحاً؟» فقال: ظللت أمس في النخيل نهاري كله أجر بالجرين، حتى أمسيت فأتيت أهلي، فأرادت أن تطعمني شيئاً سخناً فأبطأت علي فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الطعام والشراب، فلم آكل فأصبحت صائماً فأمسيت وقد أجهدني الصوم. فنزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ، وهذا أمر أباحه الله وليس بأمر حتم. كقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] وكقوله: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] . فلفظه لفظ الأمر والمراد به الإباحة. وقد أباح الله الأكل والشرب والجماع إلى وقت طلوع الفجر بقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، أي يستبين لكم بياض النهار من سواد الليل.
ويقال: في الابتداء لما نزل قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، كان بعضهم يأخذ خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود يجعل ينظر إليهما ويأكل ويشرب، حتى يتبين له الأسود من الأبيض. وذكر عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال:
أخذت خيطين، فجعلت أنظر إليهما، فلم يتبين الأسود من الأبيض ما لم يسفر الفجر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتبسم وقال: «إِنّكَ لَعَرِيضُ القَفَا إِنَّما هُوَ سَوادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» ، فنزل قوله: مِنَ الْفَجْرِ فارتفع الاشتباه. ثم قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي إلى أول الليل وهو غروب الشمس.
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ، يقول: ولا تجامعوهن وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، يقول: ولا تجامعوهن وأنتم معتكفون فيها، وذلك أنه لما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام، فكان الرجل إذا كان معتكفاً فإذا بدا له، خرج بالليل إلى أهله فتغشاها ثم يغسل ويرجع إلى المسجد، فنزلت هذه الآية: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ، أي لا تجامعوهن ليلاً ولا نهاراً وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قال الكلبي: يعني المباشرة في الاعتكاف معصية الله فَلا تَقْرَبُوها في الاعتكاف. وقال الزجاج: الحد في اللغة هو المنع، فكل من منع فهو حداد.
ولهذا سمي حد الدار حداً، لأنه يمنع الغير عن دخولها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ، يعني النهي عن الجماع لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الجماع حتى يفرغوا من الاعتكاف. ويقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي جميع ما ذكر الله تعالى من أول الآية إلى آخرها في أمر الصيام وغيره، ونبين لهم الآيات لعلهم يتقون، فينتهون عما نهاهم ويتبعون ما أمرهم.
[سورة البقرة (2) : آية 188]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)(1/125)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ، أي بالظلم وشهادة الزور. وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ، يقول تلجؤوا بالخصومة إلى الحكام. وقال الزجاج: تعملون بما يوجبه ظاهر الحكم، وتتركون ما علمتم أنه الحق. لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً، يعني طائفة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ، أي باليمين الكاذبة وشهادة الزور. ويقال: بالإثم أي بالجور. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه جور. ويقال: إنكم تعلمون أنكم تأخذون بالباطل.
وهذه الآية نزلت في شأن امرئ القيس بن عباس الكندي وعيدان بن أشوع الحضرمي، اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على صاحبه شيئاً، فأراد الآخر أن يحلف بالكذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ وَأَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَأَنَّهُ لا يَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ فَإِنَّما أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنَ النَّارِ» .
فنزلت هذه الآية فيهما، وصارت عامة لجميع الناس. وروى سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «شَاهِدُ الزُّورِ إِذَا شَهِدَ لا يَرْفَعُ قَدَمِيْهِ مِنْ مَكانِهِمَا، حَتَّى يَلْعَنُهُ الله مِنْ فَوْقِ عرشه» .
[سورة البقرة (2) : آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ. الأهلة: جمع هلال واشتقاقه من قولهم: استهل الصبي إذا صاح وأهلّ بالحج: أي رفع صوته بالتلبية. وكذلك الهلال يسمى هلالاً، لأنه يهل الناس بذكره أي يرفعون الصوت عند رؤيته وإنما سمي الشهر شهراً لشهرته. وقال الضحاك في معنى الآية: إن المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خرص النخيل والتصرف في زيادة الشهر ونقصانه، فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ.
قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، أي التصرف في حال زيادته ونقصانه سواء. قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت هذه الآية في شأن معاذ بن جبل، وثعلبة بن عنمة الأنصاري، لأنهما قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم ينقص؟! فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ أي هي: علامات للناس في حل ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم ووقت الحج.
ثم قال تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى قال(1/126)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
الضحاك: وذلك أن الكفار كانوا لا يدخلون البيت في أشهر الحج من بابه، وكانوا يدخلونه من أعلاه، فنزلت هذه الآية. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: وذلك أن الناس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا أحرم رجل منهم قبل الحج، فإن كان من أهل المدن يعني من أهل البيوت، ثقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلماً فيصعد منه وينحدر عليه وإن كان من أهل الوبر يعني من أهل الخيام، يدخل من خلف الخيمة إلا من الحمس.
وإنما سموا الحمس، لأنهم يحمسون في دينهم، أي شددوا على أنفسهم، فحرموا أشياء أحلها الله لهم، وحللوا أشياء كانت حراماً على غيرهم وهو الدخول من الباب. فنزلت هذه الآية:
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها، يعني ليس التقوى بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم. وَلكِنَّ الْبِرَّ، يعني التقوى مَنِ اتَّقى، أي أطاع الله واتبع أمره. ويقال: ولكن ذو البر من اتقى الشرك والمعاصي.
ثم قال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، يعني ادخلوها محلين ومحرمين. وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تقتلوا الصيد في إحرامكم وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: واتقوا الله ولا تعصوه.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، أي تنجون من العقوبة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 194]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فنزل بالحديبية بقرب مكة، والحديبية: اسم بئر فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر، فصده المشركون عن البيت، فأقام بالحديبية شهراً، فصالحه المشركون على أن يرجع من عامه كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على أن لا يكون بينهم قتال إلى عشر سنين، فرجع إلى المدينة وخرج في العام الثاني للقضاء، فخاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم المشركون وكرهوا القتال في(1/127)
الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي في طاعة الله الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، يعني في الحرم أو في الشهر الحرام، وَلا تَعْتَدُوا بأن تنقضوا العهد وتبدؤوهم بالقتال في الشهر الحرام أو في الحرم. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، يعني من يبدأ بالظلم.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، أي حيث وجدتموهم في الحل والحرم، والشهر الحرام.
فأمرهم الله تعالى بقتل المشركين الذين ينقضون العهد وقوله: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ من مكة وَالْفِتْنَةُ، أي الشرك بالله أَشَدُّ، أي أعظم عند الله مِنَ الْقَتْلِ في الشهر الحرام. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، أي في الحرم، حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، أي يبدؤوكم بالقتال. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ، أي بدءوكم بالقتال فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، أي هكذا جزاؤهم القتل في الحرم وغيره. قرأ حمزة والكسائي: وَلا تُقاتِلُوهُمْ بغير ألف حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ وقرأ الباقون في هذه المواضع الثلاثة: بالألف. فمن قرأ بالألف فهو من المقاتلة ومن قرأ بغير ألف فمعناه لا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم. فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إذا أسلموا. وهذا كقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] . وَقاتِلُوهُمْ، يعني أهل مكة حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ، يعني الشرك بالله، وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ، يعني الإسلام. فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم وتركوا الشرك فَلا عُدْوانَ، يقول لا سبيل ولا حجة عليهم في القتل، إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ الذين بدءوكم بالقتال. وقال القتبي: أصل العدوان الظلم، يعني لا جزاء للظلم إلا على الظالمين.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة، وطافوا بالبيت، ونحروا الهدي، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم انصرفوا فنزلت هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، يعني الشهر الحرام الذي دخلت فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم عنه العام الأول وهو ذو القعدة وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي ما اقتصصت لكم في ذي القعدة كما صدوكم. ويقال: إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، يعني قتالكم يكون لِقتالهم قصاصاً، فكما تركوا الحرمة فأنتم تتركون أيضاً ذلك.
ويقال: إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين سألوا المسلمين فقالوا: في أي شهر يحرم عليكم القتال؟ وأرادوا أن يقفوا على ذلك، حتى يقاتلوهم في الشهر الذي حرم القتال على المؤمنين، فنزل قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، أي في وقت قاتلكم المشركون حل لكم قتالهم. ثم قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ، أي قاتلكم في الشهر الحرام فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، أي قاتلوهم فيه وإنما سمي الثاني اعتداء، لأنه مجازاة الاعتداء فسمي بمثل اسمه. وهذا كقوله عز وجل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ(1/128)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
[النحل: 126] ثم صارت هذه الآية حكماً في جميع الجنايات. إن من جنى على إنسان أو في ماله، فله أن يجازيه بمثل ذلك بظاهر هذه الآية: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. ثم قال وَاتَّقُوا اللَّهَ عن الاعتداء قبل أن يعتدوا عليكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، يعني يعين من اتقى الاعتداء.
[سورة البقرة (2) : آية 195]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي في طاعة الله. قال ابن عباس: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد، قام إليه ناس من الأعراب حاضري المدينة فقالوا: بماذا نجهز؟ فو الله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد. فنزل قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يعني تصدقوا يا أهل الميسرة فِى سَبِيلِ الله أي في طاعة الله. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا وهكذا قال مقاتل. ومعنى قول ابن عباس ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة والعون للضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلب عليكم العدو فتهلكوا. ومعنى آخر: ولا تمسكوا، فيرث منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. معنى آخر: ولا تمسكوا، فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة.
ويقال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، يعني لا تنفقوا من حرام، فيرد عليكم فتهلكوا. وقال الزجاج: التهلكة: معناه الهلاك. يقال: هلك يهلك هلاكاً وتهلكة. معناه إن لم تنفقوا عصيتم الله فهلكتم. وروي عن البراء بن عازب، أن رجلاً سأله عن التهلكة فقال: أهو الرجل إذا التقى الجمعان، فحمل فيقاتل حتى يقتل؟ قال: لا ولكن الرجل يذنب ثم لا يتوب.
وقال قتادة قيل لأبي هريرة: ألم تر سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل، ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال أبو هريرة: كلا والله ولكنه تأويل آية من كتاب الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: 207] وقال أبو عبيدة السلماني: التهلكة أن يذنب الرجل فيقنط من رحمة الله فيهلك.
وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثرنا قلنا فيما بيننا: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها وأصلحنا منها ما ضاع فأنزل الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها، فأمرنا بالغزو. ثم قال تعالى: وَأَحْسِنُوا، أي أحسنوا النفقة من الصدقة. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في النفقة ويقال: وأحسنوا في النفقة، أي أخلصوا النية في النفقة. ويقال: أحسنوا الظن بالله تعالى فيما أنفقتم، إنه يخلف عليكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة.(1/129)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
[سورة البقرة (2) : الآيات 196 الى 202]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)
قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، قرأ الشعبي: وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بالضم على معنى الابتداء، وقرأ العامة وَالْعُمْرَةَ بالنصب على معنى البناء. قال ابن عباس: تمام العمرة إلى البيت، وتمام الحج إلى آخر الحج. وقال مقاتل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم. ومعنى قول مقاتل: أنهم كانوا يشركون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فقال: وأتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً آخر. ثم خوَّفهم فقال:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، فيما تعديتم.(1/130)
ثم قال عز وجل: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ، أي حبستم عن البيت بعد ما أحرمتم. وقال القتبي:
الإحصار هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو. وقال الفراء:
الإحصار ما ابتلي به الرجل في إحرامه من المرض أو العدو وغيره. وقال بعضهم: لا يكون الإحصار إلا من العدو. وقال بعضهم: يكون من العدو وغيره، وبه قال علماؤنا رحمهم الله.
ثم قال: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، أي ابعثوا إلى البيت ما استيسر من الهدي، والله تعالى رخص لمن عجز عن الوصول إلى البيت بالعدو أن يبعث الهدي، فينزع عنه بمكة، ويحل الرجل من إحرامه إذا ذبح هديه، ويرجع إلى أهله، ثم يقضي حجه وعمرته بعد ذلك.
ثم قال تَعَالَيْ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، يعني المحصر إذا بعث بالهدي، لا يجوز له أن يحل من إحرامه ما لم يذبح هديه. يقول: لا يحلق رأسه، حتى يكون اليوم الذي واعده فيه، ويعلم أن هديه قد ذبح. ثم صار هذا أصلاً لجميع الحجاج من كان قارناً أو متمتعاً، لا يجوز له أن يحلق رأسه إلا بعد أن يذبح هديه وإن لم يكن محصراً.
ثم قال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ، يعني إذا حلق رأسه على وجه الإضمار مثل قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] يعني إذا كان أفطر. وروي عن كعب بن عجرة أنه قال: فيَّ نزلت هذه الآية. وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم مر بي والقمل يتناثر على وجهي، فقال: «أيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» فقلت: نعم. فأمر بي بأن أحلق رأسي فقال: «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِين، لِكُلِّ مسكين نصف صاع من حِنْطَةٍ، أَوْ صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَنْسِكْ نَسِيكَةً» يعني اذبح شاة، فنزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، أي شاة يذبحها حتى يبلغ الهدي محله. ويروى عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأها: بتشديد الياء.
وواحدها هدية. وقرأ الباقون: بالتخفيف يقال للواحدة: هدي وهدية.
ثم قال: فَإِذا أَمِنْتُمْ وهذا على سبيل الاختصار والإضمار. ومعناه فإذا أمنتم من العدو، فاقضوا ما وجب عليكم من الحج والعمرة. ويقال: إذا أمنتم من العدو وبرأتم من المرض، فحجوا واعتمروا. فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، يعني فعليه ما تيسر من الهدي وللمتمتع أن يحج ويعتمر في سفرة واحدة من أشهر الحج.
والمحرمون أربعة: مفرد بالحج ومفرد بالعمرة والمتمتع والقارن، فأما المفرد بالحج أن يحج ويعتمر والمفرد بالعمرة أن يعتمر ولا يحج، وأما المتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ويمكث بمكة حتى يحج بعد ما فرغ من عمرته، وأما القارن فهو الذي يحرم بالحج والعمرة جميعاً.
فمن كان مفرداً بالحج أو بالعمرة، فلا يجب عليه الهدي ومن كان متمتعاً أو قارناً، فعليه الهدي. وقال عبد الله بن عمر أنه قال: الهدي: الجزور. وقال ابن عباس: أقله شاة وبه قال علماؤنا.(1/131)
ثم قال فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ. قال ابن عباس: آخرها يوم عرفة. وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ. قال بعضهم: إذا رجعتم إلى أهليكم. وقال بعضهم: إذا رجعتم من منى. وقال بعضهم: إذا رجعتم إلى الأمر الأول، يعني إذا فرغتم من أمر الحج وبهذا القول نقول. ثم قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، في البدل يعني العشرة الكاملة كلها بدل من الهدي، يعني ذلِكَ الفداء لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، أي ذلك الفداء لمن لم يكن منزله في الحرم. وقال قتادة ومقاتل: ذلك يعني التمتع لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام يعني الحرم. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ إن خالفتم.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، أي وقت الحج أشهر معلومات وهو: شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ قال القتبي: الفرض وجوب الشيء، يقال: فرضت عليك كذا، أي أوجبته. قال الله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، أي ما ألزمتم أنفسكم، وقال: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ [الأحزاب: 50] ، وقال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، أي فمن أحرم في هذه الأشهر بالحج، فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «فَلاَ رِفْثٌ وَلاَ فُسُوقٌ» بالرفع مع التنوين، والباقون بالنصب بغير تنوين. واتفقوا في قوله: وَلا جِدالَ بالنصب غير أبي جعفر المدني فإنه قرأ بالرفع.
وهذا يقال له: لا التبرية فكل موضع يدخل فيه لا التبرية، فصاحبه بالخيار إن شاء نصبه بغير تنوين، وإن شاء ضمه بالتنوين مثل قوله: وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [البقرة: 254] .
وتفسير الرفث هو الجماع كقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: 187] وقال بعضهم: الرفث: التعرض بذكر النساء، والفسوق: هو السباب، والجدال:
أن تماري صاحبك حتى تغيظه. أي من كان محرماً لا يجامع في إحرامه ولا يسب ولا يماري.
ويقال: الفسوق الذبح للأصنام. كقوله تعالى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: 145] ، والجدال هو أن قريشاً كانت تقف بالمزدلفة وكانوا يجادلون كل فريق يقولون: نحن أصوب سبيلاً. وروي عن مجاهد أنه قال: قد استقر الحج في ذي الحجة، فلا جدال فيه وذلك أن المشركين كانوا يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث أبا بكر ليحج بالناس فوافق ذلك آخر عام ذي القعدة فلما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وافق ذلك أول عام في ذي الحجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الزمان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالأَرْضَ» . يعني رجع أمر الحج إلى ذي الحجة كما كان، فنزل: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ.
ثم قال: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ، يعني من ترك الفسوق والمرأة والجدال. يَعْلَمْهُ(1/132)
اللَّهُ
، أي يقبله الله فيجازيكم به. وَتَزَوَّدُوا في سفركم للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة. فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. قال مقاتل وذلك أن أناساً من أهل اليمن كانوا يخرجون بغير زاد، ويصيبون من أهل الطريق ظلماً، فنزلت في شأنهم وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. وقال بعضهم: تزودوا لسفر الدنيا بالطعام، وتزودوا لسفر الآخرة بالتقوى فإن خير الزاد التقوى. ويقال خير الزاد التقوى، هو التوكل على الله وأن لا يؤذي أحدٌ لأجل الزاد والطعام. ثم قال: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ، يعني اطيعوني يا ذوي الألباب أي العقول فيما أمرتكم به.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وذلك أنهم كانوا إذا حجوا، كفوا عن التجارة وطلب المعيشة في الحج، فلم يشتروا ولم يبيعوا حتى تمضي أيام حجهم، فجعل الله تعالى لهم رخصة في ذلك فقال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، أي لا مأثم عليكم أن تطلبوا رزقاً من ربكم من التجارة في أيام الحج. وقال مقاتل: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كنا نقوم في التجارة قبل الحج وبعد الحج، فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا؟ فنزلت هذه الآية. ومعنى آخر: ما روي عن عبد الله بن عمر: أن رجلاً سأله فقال: إني رجل أكري الإبل إلى مكة أفيجزيني عن حجي؟ فقال: أولست تلبي، وتقف بعرفات وترمي الجمار؟ فقال: بلى فقال:
سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني، فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. وروي عن ابن عباس نحوه.
ثم قال تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ، يقول إذا رجعتم من عرفات بعد غروب الشمس فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، يعني بالمزدلفة. وقال عطاء: إنما سميت عرفات، لأن جبريل كان يعلَّم إبراهيم- عليه السلام- أمور المناسك فكان يقول له: عرفت؟
فيقول: عرفت. فسميت عرفات. وقال ابن عباس: إنما سميت منى، لأن جبريل قال لآدم- عليهما السلام-: تمنَّ. قال: أتمنى الجنة. فسميت منى. قال: وإنما سمي الجمع جمعاً، لأنه اجتمع فيه آدم وحواء والجمع أيضاً: هو المزدلفة وهو المشعر الحرام.
ثم قال: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ، يقول: اشكروا الله كما هداكم لدين الإسلام وَإِنْ كُنْتُمْ، أي وقد كنتم مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ عن الهدى، وكانت قريش لا تخرج من الحرم إلى عرفات، وكان الناس يقفن خارج الحرم من كان من أهل اليمن وغيرهم بعرفات، ويفيضون منها فأمر الله تعالى قريشاً أن يقفوا من حيث وقف الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس فقال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ تعالى لذنوبكم في الموقف. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ متجاوز عن ذنوبكم. فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يخرج بالناس جميعاً(1/133)
إلى عرفات فيقف بها. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تَعَالَى يُبَاهِي مَلائِكَتَهُ بِأَهْلِ عَرَفَات وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلى عبادي جاءوا مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ شُعْثاً غُبْراً. اشْهَدُوا، أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ» .
ثم قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ، أي فرغتم من أمر حجكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ باللسان كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ في ذلك الموقف أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً يقول: أو أكثر ذكراً، وذلك أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم، وقفوا بين المسجد الذي بمنى وبين الجبل، ثم ذكر كل واحد منهم أباه بما كان يعلم منه من الخير ثم يتفرقون، قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي بالخير كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ بالخير، فإن ذلك الخير مني. وقال عطاء بن أبي رباح: قوله: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ هو كقول الصبي: أبه أبه، يعني أن الصبي إذا كان أول ما يتكلم فإن أكثر قوله: أب أب. ويقال فاذكروا الله كذكركم آباءكم لأبيكم آدم، لأنه لا أب له، بل أشد ذكراً، لأني خلقته من غير أب ولا أم وخلقتكم من الآباء والأمهات.
ثم قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا، وهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماءً وأموالاً، ولم يكونوا يسألون لأنفسهم التوبة ولا المغفرة، فأنزل الله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، أي من نصيب. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قال ابن عباس: يعني الشهادة والمغفرة والغنيمة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، أي الجنة. وقال القتبي:
الحسنة النعمة كقوله: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة: 50] ، أي نعمة. وقال الحسن البصري: آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، أي العلم والعبادة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، أي الجنة قال الإمام: حسنة الدنيا، ثوابك، وقوت من الحلال يكفيك، وزوجة صالحة ترضيك، وعلم إلى الحق يهديك، وعمل صالح ينجيك. وأما حسنة الآخرة فإرضاء الخصومات، وعفو السيئات، وقبول الطاعات والنجاة من الدركات، والفوز بالدرجات وَقِنا عَذابَ النَّارِ، أي ادفع عنا عذاب النار.
أُولئِكَ، يعني المؤمنين الذين يدعون بهذا الدعاء لَهُمْ نَصِيبٌ، أي حظ مِمَّا كَسَبُوا من حجهم. ويقال: لهم ثواب مما عملوا. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة، فعجِّله لي في الدنيا فأضني الرجل في مرضه حتى نحل جسمه، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فأخبره بأنه كان يدعو بكذا وكذا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِعُقُوبَةِ الله تَعَالَى ولكن قل:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. فدعا بها الرجل فبرأ.
ثم قال: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ قال الكلبي: إذا حاسب فحسابه سريع. ويقال: والله سريع الحفظ. وقال الضحاك: يعني لا يخالطه العباد فِي الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولا يشغله ذلك.(1/134)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
ويقال: يحاسب كل إنسان فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة. وقوله تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 203]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ، أي معروفات وهي أيام التشريق. وقال القتبي: أيام التشريق. والمعلومات أيام العشر. وقال يحيى بن سعيد: سألت عطاء عن الأيام المعدودات وعن المعلومات، قال: الأيام المعدودة: أيام النحر، والمعلومات: أيام العشر. وقال بعضهم الأيام المعدودات أيام التشريق بدليل ما سبق في سياق الآية: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، والمعلومات: أيام النحر بدليل قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: 203] فذكر النحر في تلك الأيام. وقال الضحاك: معنى قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ، أي معروفات وهي أيام التشريق، أي كبروا دبر كل صلاة من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق ويقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ، يعني التكبير عند رمي الجمار.
قوله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أي رجع إلى أهله، بعد ما رمى في يومين وترك الرمي في اليوم الثالث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تعجيله، وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى آخر النفر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تأخيره. لِمَنِ اتَّقى، يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم. وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال: إنما جعلت المغفرة لمن اتقى في حجه. ويقال: لمن اتقى بعد انصرافه من حجه عن جميع المعاصي وإنما حذرهم الله تعالى، لأنهم إذا رجعوا من حجهم، يجترءون على الله تعالى بالمعاصي، فحذرهم عن ذلك فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، فيجازيكم بأعمالكم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 206]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ، يعني كلامه وحديثه، وهو أخنس بن شريق، كان حلو الكلام، حلو المنظر، فاجر السريرة. وروى أسباط عن السدي قال: أقبل أخنس بن شريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال: إنما جئت أريد الإسلام وقال: الله يعلم أني صادق، فأعجب(1/135)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
النبيّ صلّى الله عليه وسلم بقوله ثم خرج من عنده، فمر بزرع للمسلمين فأحرقه، ومر بحمار للمسلمين فعقره، فنزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، أي يعجبك كلامه وحديثه. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ من الضمير أنه يحبه وهو يريد الإسلام وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، أي شديد الخصومة. قال القتبي: أي أشدهم خصومة. يقال: رجل ألد بين اللّد واللدد، وقوم لد. كما قال في آية أخرى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم: 97] .
ثم قال: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ، يقول: إذا فارقك رجع عنك، سعى في الأرض، أي مضى في الأرض بالمعاصي. لِيُفْسِدَ فِيها، أي يعصي الله في الأرض وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، أي يحرق الكدس ويعقر الدواب. وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسادَ، أي لا يرضى بعمل المعاصي.
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في صنعك، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، أي الحمية بِالْإِثْمِ، يعني الحمية في الإثم، يعني تكبراً. يقول الله تعالى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ، أي ولبئس الفراش ولبئس القرار. فهذه الآية نزلت في شأن أخنس بن شريق، ولكنها صارت عامة لجميع الناس فمن عمل مثل عمله، استوجب تلك العقوبة. وقال بعض الحكماء، إن من يقتل حماراً ويحرق كدساً، استوجب الملامة ولحقه الشين إلى يوم القيامة فالذي يسعى بقتل مسلم كيف يكون حاله؟ وذكر أن يهودياً كانت له حاجة إلى هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم تنقض حاجته فوقف يوماً على الباب، فلما خرج هارون الرشيد سعى ووقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين. فنزل هارون عن دابته وخرّ ساجداً لله تعالى، فلما رفع رأسه أمر به، فقضيت حاجته. فلما رجع قيل: يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي؟ قال: لا ولكن تذكرت قول الله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ إلى آخره. وقال قتادة: ذكر لنا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دُعِيْتُمْ إلى الله فَأَجِيبُوا، وإِذَا سُئِلْتُم بالله فَأَعْطُوا فإِنَّ المُؤْمِنِينَ كانوا كذلك» .
[سورة البقرة (2) : آية 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
ثم قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن صهيب بن سنان الرومي، مولى عبد الله بن جدعان، وفي نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ياسر أبو عمار بن ياسر، وسمية أم عمار، وخباب بن الأرت وغيرهم أخذهم المشركون فعذبوهم. فأما صهيب فإنه كان شيخاً كبيراً وله مال ومتاع، فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير، وإني لا أضركم إن كنت معكم أو مع عدوكم، فأنا أعطيكم مالي ومتاعي وذروني وديني، أشتريه منكم بمالي. ففعلوا ذلك، فأعطاهم ماله إلا مقدار راحلته، وتوجه إلى(1/136)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
المدينة، فلما دخل المدينة لقيه أبو بكر فقال له: ربح البيع يا صهيب. فقال له: وبيعك فلا يخسر. فقال: وما ذلك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب. وقتل ياسر أبو عمار وأم عمار سمية، فنزلت هذه الآية في شأن صهيب وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، أي يشري نفسه ودينه. وهذا من أسماء الأضداد، يقال: شرى واشترى وباع وابتاع.
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، أي طلب يشتري نفسه ودينه رضاء الله. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ، أي رحيم بهم. ثم صارت هذه الآية عامة لجميع الناس من بذل ماله ليصون به نفسه ودينه، فهو من أهل هذه الآية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 209]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. قرأ نافع وابن كثير والكسائي: السّلم بنصب السين وقرأ الباقون: بالكسر. والسّلم بالكسر هو الإسلام والسَّلم بالنصب هو المسالمة والصلح. ويقال: السَّلم والسَّلم في اللغة: هو الصلح. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية فيمن أسلم من أهل الكتاب، كانوا يتقون السبت، ويحرمون أكل لحوم الجمال فنزلت:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، أي في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، يعني طاعات الشيطان.
قال مقاتل: استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرءوا التوراة في الصلاة وأن يعملوا ببعض ما في التوراة فنزل قوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فإن اتباع السنة الأولى- بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم- من خطوات الشيطان. وقال بعضهم: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، أي اثبتوا على شرائع محمد صلى الله عليه وسلم ولا تخرجوا منها.
وقوله: كَافَّةً أي عبارة عن الجميع، فيجوز أن يكون معناه: ادخلوا جميعاً ويجوز أن يكون معناه: ادخلوا في جميع شرائعه ولا تتبعوا خطوات الشيطان، أي لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشيطان. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، أي ظاهر العداوة فَإِنْ زَلَلْتُمْ، أي ملتم عن شرائع محمد صلى الله عليه وسلم. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وشرائعه، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عزيز بالنعمة حكيم في أمره، وقال مقاتل أي حكيم حكم عليهم بالعذاب الشديد.(1/137)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
[سورة البقرة (2) : آية 210]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
هَلْ يَنْظُرُونَ هل في القرآن على سبعة أوجه في موضع يراد بها (قد) ، كقوله: هَلْ أَتاكَ [الغاشية: 1] أي قد أتاك. ومرة يراد بها (الاستفهام) ، كقوله هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 44] ومرة يراد بها (السؤال) ، كقوله: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف: 44] .
ومرة يراد بها (التفهيم) ، كقوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصف: 10] ومرة يراد بها (التوبيخ) ، كقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشعراء: 221] . ومرة يراد بها (الأمر) ، كقوله:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] ، أي انتهوا، ومرة يراد بها (الجحد) ، كقوله في هذا الموضع:
هَلْ يَنْظُرُونَ. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، أي ما ينظرون. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح:
هذا من المكتوم الذي لا يفسر ... وروى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري قال: قال ابن عباس: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير تعرفه العرب، وتفسير لا يقدر أحد عليه لجهالته، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن ادعى علمه فهو كاذب. وهذا موافق لقوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] وكذلك هذه الآية سكت بعضهم عن تأويلها وقالوا: لا يعلم تأويلها إلا الله. وبعضهم تأولها فقال: هذا وعيد للكفار، فقال:
هَلْ يَنْظُرُونَ، أي ما ينتظرون ولا يؤمنون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ يعني أمر الله تعالى، كما قال في موضع آخر: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] ، يعني أمر الله. وقال بعضهم:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، يعني بما وعد لهم مِنْ العذاب. فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ.
يعني في غمام فيه ظلمة. وقيل في ظلل يعني بظلل. وقال: على غمام فيه ظلمة.
وَالْمَلائِكَةُ قرأ أبو جعفر بكسر الهاء، يعني فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام وفي الملائكة. قال قتادة: وهي قراءة شاذة والقراءة المعروفة بالضم يعني تأتيهم الملائكة. وقال قتادة وَالْمَلائِكَةُ، يعني تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم. ويقال: يوم القيامة. وَقُضِيَ الْأَمْرُ، أي فرغ مما يوعدون، يعني دخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يعني عواقب الأمور. قرأ حمزة والكسائي وابن عامر تُرْجَعُ بنصب التّاء ويكون الفعل للأمور. وقرأ الباقون: بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله.
[سورة البقرة (2) : آية 211]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)(1/138)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ. قال مقاتل: معناه سل علماء بني إسرائيل كما أعطيناهم. مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ حين فرق لهم البحر وأغرق عدوهم وأنزل عليهم المن والسلوى. ويقال: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ، أي يغيّر نعمة الله تعالى. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، يعني يقول إذا لم يشكر نعمة الله، تزول عنهم النعم ويستوجبوا العقوبة.
[سورة البقرة (2) : آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا، قال الكلبي: نزلت في شأن رؤساء قريش، زين لهم ما بسط لهم في الدنيا من الخير. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا في أمر المعيشة، لأنهم كانوا فقراء.
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا، أي أطاعوا الله وهم فقراء المؤمنين. فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أي فوق المشركين في الجنة والحجة في الدنيا. وقد اختلفوا في قوله: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا. قال بعضهم: يعني زينها لهم إبليس، لأن الله تعالى قد زهد فيها وأعلم أنها متاع الغرور، ولكن الشيطان زيَّن لهم الأشياء، كما قال في آية أخرى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] وقال في آية أخرى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل: 4] ، فكان ذلك مجازاة لكفرهم. وقال بعضهم:
معناه أن الله تعالى زين لهم، لأنه خلق فيهم الأشياء العجيبة، فنظر إليها الذين كفروا فاغتروا بها.
وروي، عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يَقُولُ الله تعالى لملائكته: لَوْلا أَنْ يَحْزَنَ عَبْدِي المُؤْمِنُ، لَعَصَبْتُ الكَافِرَ بِعِصَابَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَلَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الدُّنْيَا صَبّاً» . ومصداق ذلك في القرآن وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: 33] الآية. وقال عليه الصلاة والسلام: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ما سَقَى الكافِرَ مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» .
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، أي يرزق من يشاء رزقاً كثيراً لا يعرف حسابه. ويقال: أي يرزقه ولا يطلب منه حسابه بما يرزقه. ويقال: بغير حساب أي ليس له أحد يحاسبه منه بما يرزقه ويقال: بغير حساب أي بغير احتساب. كما قال في آية أخرى وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق: 3] . وكل ما في القرآن: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فهو على هذه الوجوه الأربعة.(1/139)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
[سورة البقرة (2) : آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قوله: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً. قال الزجاج: الأمة على وجوه منها القرن من الناس، كما يقال: مضت أمم أي قرون، والأمة: الرجل الذي لا نظير له. ومنه قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] والأمة: الدين وهو الذي قال هاهنا: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، أي على دين واحد وعلى ملة واحدة. وقال بعضهم: كان الناس كلهم على دين الإسلام، جميع من كان مع نوح في السفينة ثم تفرقوا. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ. وقال بعضهم:
كان الناس كلهم كفاراً في عهد نوح وعهد إبراهيم- عليهما السلام- فبعث الله للناس النبيين إبراهيم وإسماعيل، ولوطاً وموسى ومن بعدهم مُبَشِّرِينَ بالجنة لمن أطاع الله، وَمُنْذِرِينَ بالنار لمن عصى الله وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، يقول: بالعدل لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ، أي يقضي بينهم فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من أمور الدين. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ، أي في الدين. إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، يعني أعطوا الكتاب. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ، أي البيان من الله. بَغْياً بَيْنَهُمْ، يعني اختلفوا فيه حسداً بينهم. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، أي هداهم ووفقهم حتى أبصروا الحق من الباطل بِإِذْنِهِ بتوفيقه ويقال: برحمته.
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، يعني الإسلام. وقال بعضهم: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه أي بعصمته وَاللَّهُ يَهْدِي أي يوفق مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مستقيم.
[سورة البقرة (2) : آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ يقول: ظننتم أَن تَدْخُلُواْ الجنة. وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ من أتباع الرسل من قبلكم، أي لم يأتكم صفة الذين مضوا من قبلكم، يعني لم يصبكم مثل الذي أصاب من قبلكم. ويقال: لم تبتلوا بمثل الذي ابتلي مِن قَبْلِكُم. مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ. البأساء: الشدة والبؤس، والضراء: الأمراض والبلاء. وَزُلْزِلُوا، أي(1/140)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
حركوا وأجهدوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قال مقاتل: يعني شعيب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو اليسع. وقال الكلبي: هذا في كل رسول بعث إلى أمته، واجتهد في ذلك حتى قال:
مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ قال الله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
روي عن الضحاك أنه قال: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا كما ابتلي الذين مِن قَبْلِكُم، مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضراء وزلزلوا فيصيبكم مثل ذلك، حتى يقول: محمد صلى الله عليه وسلم: مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، يعني فتح الله تعالى قريب، أي فتح الله تعالى إلى مكة عاجلٌ. وإنما ظهر لهم ذلك في يوم الأحزاب، فأصابهم خوف شديد وكانوا كما قال الله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] ، فصدق الله وعده وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً، وهزم الكفار. فذلك قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ قرأ نافع: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ بالرفع على معنى المستأنف. وقرأ الباقون:
بالنصب على معنى الماضي.
[سورة البقرة (2) : آية 215]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حثهم على الصدقة، قال عمرو بن الجموح: يا رسول الله، كم ننفق وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، أي ماذا يتصدقون من أموالهم؟ قُلْ مآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ، أي من مال فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، يعني أنفقوا على الوالدين والقرابة وعلى جميع المساكين. فهذا جواب لقولهم: على من ننفق؟ ونزل في جواب قولهم: ماذا ننفق؟ قوله تعالى: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] ، أي الفضل من المال ثم نسخ ذلك بآية الزكاة. وقال بعضهم: آية الزكاة نسخت كل صدقة كانت قبلها. وقال بعضهم: هذه الآية ليست بمنسوخة وإنما فيها بر الوالدين وصلة الأرحام. ثم قال تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، أي يجازيكم به.
[سورة البقرة (2) : الآيات 216 الى 217]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)(1/141)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، أي فرض عليكم القتال. وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، أي شاق عليكم.
وذلك أن الله تعالى، لما أمرهم بالجهاد، كرهوا الخروج. وإنما كانت كراهيتهم له، لأنه كان في الخروج عليهم مشقة، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى: ثم قال: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، يعني الجهاد. وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لأن فيه فتحاً وغنيمة وشهادة وفيه إظهار الإسلام.
وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وهو الجلوس عن الجهاد، لأنه يسلط عليكم عدوكم.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن الجهاد خير لكم. وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أن ذلك خير، حين أحببتم القعود عن الجهاد. ويقال: والله يعلم ما كان فيه صلاحكم وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. ذلك قوله تعالى.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش مع تسعة رهط، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين إلى عير لقريش، فلقوا العير. وكان ذلك في آخر الشهر، فأمر عبد الله بن جحش بعض أصحابه، فحلق رأسه. فلما رآهم المشركون آمنوا وظنوا أنه دخل رجب، فقاتلهم المسلمون وأخذوا أموالهم، فعيَّرهم المشركون بذلك، فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. قال الزجاج: معناه يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وقال القتبي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالاً من الشهر الحرام. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، أي عظيم عند الله. ثم قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، يقول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها. وَكُفْرٌ بِهِ، أي بالله تعالى ويقال: وَكُفْرٌ بِهِ أي بالحج.
قوله: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وإنما صار خفضاً، لأنه عطف على سبيل الله، كأنه قال:
وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفر بالله تعالى. وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ. أي من المسجد أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام. وَالْفِتْنَةُ، يعني الشرك أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أعظم عقوبة من القتل في الشهر الحرام.
ثم قال: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ الإسلام إلى دينهم الكفر. إِنِ اسْتَطاعُوا، يعني إن قدروا على ذلك ولكنهم لا يقدرون عليه. ثم هدد المسلمين ليثبتوا على دينهم الإسلام، فقال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الإسلام. فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بالله(1/142)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
تعالى فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، أي بطلت حسناتهم. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، يعني لا يكون لأعمالهم التي عملوا ثواب، كما قال في آية أخرى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] ، وقال تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: 105] . وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، أي دائمون.
قال الفقيه: حدّثنا أبو إبراهيم محمد بن سعيد قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال:
حدثنا إبراهيم بن داود قال: حدثنا المقدمي، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: حدثنا الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عبد الله بن جحش وكتب له كتاباً، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال:
«لَا تُكْرِه أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى المَسِيرِ» . فلما بلغ المكان، قرأ الكتاب فاسترجع ثم قال:
السمع والطاعة لله ولرسوله، فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب فقال المشركون: قتلهم محمد في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ.... فقال المشركون: إن لم يكن عليهم وزر فليس لهم أجر.
[سورة البقرة (2) : آية 218]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
فنزل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا من مكة وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي في طاعة الله بقتل ابن الحضرمي. أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، أي ينالون جنة الله. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بقتالهم في الشهر الحرام، ثم نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام وصار مباحا بقوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 136] فنهاهم الله عن ظلم أنفسهم بالسيئات والخطايا، وأمرهم بالقتال عاماً. وروى أبو يوسف عن الكلبي أن القتال في الشهر الحرام لا يجوز. وقال أبو جعفر الطحاوي: لا نعلم أن أهل العلم اختلفوا أن قتال المشركين في الشهر الحرام غير جائز. وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن قتال الكفار في الشهر الحرام، فقال: لا بأس به، وكذلك قال سليمان بن يسار وغيره.
[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)(1/143)
ثم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قال بعض المفسرين: إن الله لم يدع شيئاً من الكرامة والبر، إلا وقد أعطى هذه الأمة. ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب لهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة فكذلك في تحريم الخمر، كانوا مولعين على شربها، فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، أي عن شرب الخمر والميسر هو القمار. قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ في تجارتهم. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها. ثم نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] ، فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يمنعنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] الآية. فصارت حراماً عليهم حتى كان بعضهم يقول: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر. وقيل: إثم كبير في أخذها ومنافع في تركها.
وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم، فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له:
أين تذهب؟ فأخبرهم أنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. فقالوا: لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة. فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا له: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: إن اصطناع المعروف واجب. فقيل له إنه ينهى عن الزنى. فقال: إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخاً، فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. قال: أما هذا فإني لا أصبر عنه فرجع.
وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يبلغ إلى منزله، حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات. وقال بعضهم: في هذه الآية ما يدل على تحريمه، لأنه سماها إثماً، وقد حرم الإثم في آية أُخرى وهي قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ [الأعراف: 33] . وقال بعضهم: أراد بالإثم، الخمر بدليل قول الشاعر:
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضل عقلي ... كذاك الإثم يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية، وكان يقول: الناس يطلبون زيادة العقل، فأنا لا أنقص عقلي. وأما الميسر، فكانوا يشترون جزوراً ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه أولاً، يأخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخراً، فكان عليه ثمن الجزور كله وليس له من اللحم شيئاً. وقال عطاء ومجاهد:(1/144)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
الميسر القمار كله، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب. قرأ حمزة والكسائي: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ بالثاء من الكثرة، والباقون (بالياء) كبير أي ذنب عظم.
قوله: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، أي ماذا يتصدقون؟ قُلِ الْعَفْوَ، أي الفضل من المال، يريد أن يعطي ما فضل من قوته وقوت عياله، ثم نسخ بآية الزكاة. وقرأ أبو عمرو:
«قُلِ العَفْوُ» بالرفع، يعني الإنفاق وهو الزكاة. وقرأ الباقون: بالنصب، يعني أنفقوا الفضل.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، يعني أمره ونهيه كما يبين لكم أمر الصدقة. لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، يعني في الدنيا أنها لا تبقى ولا تدوم، ولا يدوم إلا العمل الصالح وفي الآخرة أنها تدوم وتبقى ولا تزول. وقال بعضهم: معناه كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا، لعلكم تتفكرون في الآخرة.
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، يقول: عن مخالطة اليتامى وذلك أنه لما نزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] ، تركوا مخالطتهم فشق عليهم ذلك. وكان عند الرجل منهم يتيم، فجعل له بيتاً على حدة وطعاماً على حدة، ولا يخالطه بشيء من ماله. فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، قد أنزل الله آية في أموال اليتامى، ما قد أنزل من الشدة فعزلناهم على حدة. أفيصلح لنا أن نخالطهم؟ فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، أي عن مخالطة اليتامى. قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ. يقول: أي لمالهم خير من ترك مخالطتهم. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ، أي تشاركوهم في النفقة والخدمة والدابة، فَإِخْوانُكُمْ في الدين. ويقال: الامتناع منه خير وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ لمال اليتيم مِنَ الْمُصْلِحِ بماله، يعني لا بأس بالخلطة، وإذا قصدت به الإصلاح ولم تقصد به الإضرار به.
ثم قال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. قال القتبي: ولو شاء الله، لضيق عليكم ولشدد عليكم، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم. وقال الزجاج: لَأَعْنَتَكُمْ، معناه لأهلككم. وأصل العنت في اللغة من قول العرب: عنت البعير، إذا انكسرت رجله وحقيقته ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم. وقال الكلبي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ في مخالطتهم فجعلها حراماً. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وقد ذكرناها.
[سورة البقرة (2) : آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)(1/145)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان يأتي مكة ويخرج منها أناساً من المسلمين كانوا بها سراً من أهل مكة فلما قدم مكة، جاءته امرأة يقال لها عناق، كانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت له: هل لك أن تخلو بي؟ فقال لها: يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك، وقد حرمت علينا. ولكني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتزوجك إن شئت. فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن ذلك، فنزلت هذه الآية: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ، يقول: نكاح أمة مؤمنة خَيْرٌ مِنْ نكاح حرة مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، أي أعجبكم نكاحها.
وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ، يقول: لا تنكحوا نساءكم المشركين، حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ تزويج مُشْرِكٍ حر. وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، يعني إلى عمل أهل النار. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ، يعني إلى التوحيد والتوبة بِإِذْنِهِ، أي بأمره ويقال: يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين، لأن ذلك أوصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه، أي بعلمه الذي يعلم أنه أوصل لكم إليها وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ، أي أمره ونهيه في أمر التزويج. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، ينتهون عن المعاصي والنكاح الحرام. ويقال: إن رجلا من الأنصار أعتق جارية له، فأراد رجل من قريش أن يتزوجها فعيّروه بذلك، فنزلت هذه الآية وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
ثم قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. قال ابن عباس: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له: عمرو بن الدحداح، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ أنقربهن أم لا؟ فنزل قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ يقول عن النساء إذا حضن. ويقال: ويسألونك عن مجامعة النساء في المحيض. قُلْ هُوَ أَذىً، يعني الدم هو قذر نجس. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، أي لا تجامعوهن في حال الحيض. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ، يعني لا تجامعوهن وهن حيض، حَتَّى يَطْهُرْنَ. قرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية أبي بكر: حَتَّى يَطْهُرْنَ بتشديد الطاء والهاء والنصب، والباقون بالتخفيف أي(1/146)
يغتسلن وأصله يتطهرون، فأدغمت التاء في الطاء فصار يَطْهُرْنَ. فمن قرأ يَطْهُرْنَ أي يغتسلن، ومن قرأ يَطْهُرْنَ أي حتى يطهرن من الحيض.
قال الفقيه الزاهد نعمل بالقراءتين جميعاً فإن كانت المرأة أيام حيضها أقل من عشرة أيام فلا يجوز أن يقربها ما لم تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة وإن كانت أيام حيضها عشرة، فإذا انقطع عنها الدم وتمت العشرة، جاز له أن يقربها بغير غسل. ثم قال تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ، يعني أي اغتسلن من الحيض، فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، أي جامعوهن من حيث رخص لكم الله في موضع الجماع.
ويقال: لما نزلت هذه الآية فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، اعتزلوا النساء في أيام الحيض وأخرجوهن من البيوت فقدم أناس من الأعراب وقالوا: يا رسول الله البرد شديد وقد اعتزلنا النساء، وليس كلنا يجد سعة لذلك فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوا النِّسَاءَ عَنْ مُجَامَعَتِهِنَّ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ أَنْ تُخْرِجُوهُنَّ مِنَ البُيُوتِ كَمَا تَفْعَلُ الأعَاجِمُ» .
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، يعني التوابين من الشرك والذنوب. وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، أي من الجنابة والأحداث. ويقال: ويحب المتطهرين من إتيانهن في المحيض، في أدبارهن يتنزهون عن ذلك. ويقال: ويحب التّوابين من الذنوب والمتطهرين الذين لم يذنبوا. فإن قيل: كيف قدَّم بالذكر الذي تاب من الذنوب على الذي لم يذنب؟ قيل له: إنما قدمهم لكيلا يقنط التائب من الرحمة، ولا يعجب المتطهر بنفسه كما ذكر في آية أخرى:
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] .
ثم قال عز وجل: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. يقول: مزرعة لكم للولد، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ.
والحرث في اللغة هو الزرع، فسمى النساء حرثاً على وجه الكناية، أي هن للولد كالأرض للزراعة. قوله: أَنَّى شِئْتُمْ، أي كيف شئتم إن شئتم مستقبلين، وإن شئتم مستدبرين، إذا كان في صمام واحد. وذلك أن اليهود كانوا يقولون: لا يجوز إتيان النساء إلا مستلقياً، وكانوا يقولون: إذا أتاها من خلفها، يكون الولد أحول، فنزل قوله تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لا يَنْظُرُ الله عَزَّ وَجَلَّ إلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أوِ امْرَأةً فِي دبرها» . وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبرِهَا» .
ثم قال تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من الولد الصالح. ويقال قدموا لأنفسكم من العمل الصالح. ويقال: سموا الله أي قولوا بسم الله الرحمن الرحيم عند ذلك. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ، أي اخشوا الله ولا تقربوهن في حال الحيض ولا في أدبارهن. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ، أي تصيرون إليه يوم القيامة، فيجزيكم بأعمالكم. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الذين يحافظون على حدود الله ويصدقون بوعده.(1/147)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 226]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
ثم قال عز وجل: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، أي علة. وأصل العرضة في اللغة: هو الاعتراض، فكأنه يعترض باليمين في كل وقت، فيكون كناية عن العلة. وقيل:
العرضة أن يحلف الرجل في كل شيء، فمُنِعوا من ذلك. أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا، يعني لكي تبروا وتتقوا، لأنهم إذا أكثروا اليمين لم يبروا. وبهذا أمر أهل الإيمان. وقال الفراء: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً. الحلف بالله متعرضاً، أي مانعاً لكم دون البر. والمعترض بين الشيئين: المانع.
وقال القتبي: لا تجعلوا الله بالحلف مانعاً لكم أن تبروا وتتقوا، ولكن إذا حلفتم على أن لا تصلوا رحماً، ولا تتصدقوا، ولا تصلحوا، أو على شبه ذلك من أبواب البر، فكفِّروا اليمين.
وقال الكلبي: هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة الأنصاري. حين حلف أن لا يدخل على ختنه بشير بن النعمان ولا يكلمه، فجعل يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، ولا يحل لي أن لا أبر في يميني. فنزل قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ.
يقول: علة لأيمانكم أَنْ تَبَرُّوا، يعني تصلوا قرابتكم، وتتقوا اليمين في المعصية، وترجعوا إلى ما هو خير لكم منها وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، أي بين إخوانكم. وروي عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول: لا تحلفوا أن لا تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فمن حلف على شيء منه، فعلى الذي حلف عليه أن يفعل ويكفِّر عن يمينه. وقال الزجاج: معنى الآية بأنهم كانوا يقبلون في البر بأنهم قد حلفوا، فأعلم الله تعالى أن الإثم إنما هو في الإقامة في ترك البر، واليمين إذا كفَّرت، فالذنب فيها مغفور.
ثم قال: لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ أي بالإثم في الحلف إذا كفرتم، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ بعزمكم على أن لا تبروا ولا تتقوا. قال ابن عباس: لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، وهو أن يحلف الرجل بالله في شيء يرى أنه فيه صادق، ويرى أنه كذلك، وليس كذلك، فيكذب فيها. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يعني هو أن يحلف على شيء ويعلم أنه فيها كاذب. ويقال: لا يؤاخذكم الله باللغو في اليمين، إذا حلفتم وكفرتم، إذا كان الحنث خيراً ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، أي أثمتم بغير كفارة.
وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن حنث وكفر بيمينه. حَلِيمٌ حيث رخص لكم في ذلك ولم(1/148)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
يعاقبكم. لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ، يعني الذين يحلفون أن لا يجامعوا نساءهم، تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، يعني لهم أجل أربعة أشهر بعد اليمين، فَإِنْ فاؤُ، يعني إن رجعوا عن اليمين وجامعوا نساءهم من قبل أن تمضي أربعة أشهر بعد اليمين، وكفَّروا عن أيمانهم ولا تبين المرأة عن الزوج فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 227 الى 232]
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)
قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع، حتى مضت أربعة أشهر وقعت عليها تطليقة بمضي أربعة أشهر. وقال بعضهم: لا يقع الطلاق، ولكن يؤمر(1/149)
الزوج بعد مضي أربعة أشهر أن يجامعها أو يطلقها. وقال بعضهم يقع الطلاق بمضي أربعة.
أشهر وهو قول علمائنا. وروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود أنهما قالا:
عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، أي أوجبوا الطلاق بترك الجماع فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالتهم بكلمة الإيلاء عَلِيمٌ بهم.
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، يعني وجب عليهن العدة ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، أي ثلاث حيض. وقال بعضهم: ثلاثة أطهار. وقال أكثر أهل العلم: المراد به الحيض. وأصل القرء:
الوقت. وظاهر الآية عام في إيجاب العدة على جميع المطلقات، ولكن المراد به الخصوص، لأنه لم يدخل في الآية خمس من المطلقات: الأمة والصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخولة. ثم قال: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، يعني الحمل والحيض، لا يحل لها أن تقول: إني حامل وليست بحامل أو إني حائض وليست بحائض إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يقول إن كن يصدقن بالله واليوم الاخر.
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً، يعني للنساء على الأزواج من الحقوق مثل ما للرجال على النساء، يعني في حال التربص إذا كان الطلاق رجعياً. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، يقول بما عرف شرعاً، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، أي فضيلة في النفقة والمهر. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيما حكم من الرجعة في الطلاق الذي يملك فيه الرجعة.
ثم بيّن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة، فقال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ، يعني يقول:
الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، يعني إذا راجعها، يمسكها بمعروف، ينفق عليها، ويكسوها، ولا يؤذيها، ويحسن معاشرتها أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، يعني يؤدي حقها، ويخلي سبيلها. ويقال: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، يعني يطلقها التطليقة الثالثة ويعطي مهرها. ويقال: يتركها حتى تنقضي عدتها. ويقال يؤتي حقها ويخلي سبيلها ويقال: أو تسرح بإحسان. قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلق تطليقة أو تطليقتين، كان الزوج أحق بها وإذا طلقها الثالثة، كانت المرأة أحق بنفسها واحتج بقول الأعشى وكانت امرأته من بني مروان، فأخذه بنو مروان حتى يطلق امرأته، فلما طلقها واحدة قالوا له: عد فطلقها الثانية، فلما طلقها الثانية قالوا له: عد فطلقها الثالثة، فعرف أنها بانت منه ولا تحل له، فقال عند ذلك:
أَيَا جَارتِي بِينِي فإِنَّكِ طَالِقَه ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَه
وبَيِنِي فَإِنَّ البَيْنَ خَيْرٌ مِنَ العَصَا ... وَأَنْ لاَ تَزَالُ فَوْقَ رَأْسِكِ بَارِقَه
وَذُوقِي قَنَى الحَيِّ إنِّي ذَائِق ... قَنَاة أُنَاسٍ مِثْلَ ما أنت ذائقة(1/150)
ثم قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً. نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، وزوجها ثابت بن قيس وكانت تبغضه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنا ولا ثابت فقال لها: «أَتُرَدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فقالت: نعم وزيادة. فقال: «أَمَّا الزِّيَادَة، فلا» . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها وخلعها من زوجها، فذلك قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً من المهر إِلَّا أَنْ يَخافا، يعني: يعلما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، أي أمر الله فيما أمر ونهى. قرأ حمزة يَخافا بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله، والباقون: بالنصب. وقرأ ابن مسعود: إِلا أَنْ يخافوا.
ثم قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، يقول: إن علمتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، أي لا حرج على الزوج أن يأخذ ممَّا افتدت به المرأة، إن كان النشوز من قبل المرأة. فأما إذا كان النشوز من قبل الزوج، فلا يحل له أن يأخذ، بدليل ما قاله في آية أخرى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء: 20] .
ثم قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي أحكامه وفرائضه فَلا تَعْتَدُوها، أي لا تجاوزوها. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، أي يتجاوز أحكام الله وفرائضه بترك ما أمر الله تعالى أو بعمل ما نهاه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يقول: الضارون الشاقون بأنفسهم. ويقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، يعني الطلاق مرتان، فلا تجاوزوهما إلى الثالثة. وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله بالتطليقة الثالثة، فأولئك هم الظالمون فَإِنْ طَلَّقَها الثالثة، فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الثالثة، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، أي تتزوج بزوج آخر ويدخل بها وإنما عرف الدخول بالسنة. وهو ما روي عن ابن عباس أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثاً، وكانت تدعى تميمة بنت وهب، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقالت: إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن، ولم يكن عنده إلا كهدبة الثوب فقال لها: «أَتُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟» فقالت: نعم. قال: «لَيْسَ ذلك مَا لَمْ تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ» . فذلك قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، يعني إذا طلقها الثالثة.
قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني واحدة أو اثنتين فَلا جُناحَ عَلَيْهِما، يعني المرأة والزوج أَنْ يَتَراجَعا. ويقال: فإن طلقها الزوج الثاني بعد ما دخل عليها، فلا جناح عليهما- يعني المرأة والزوج الأول- أن يتراجعا، يعني أن يتزوجها مرة أخرى. إِنْ ظَنَّا، يعني إن علما أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، أي فرائض الله يقول إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني. قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي فرائض الله وأمره ونهيه وأحكامه، يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. ويقال: إنما قال: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، لأن الجاهل إذا بيّن له، فإنه لا يحفظ ولا يتعاهد والعالم يحفظ ويتعاهد. فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال.(1/151)
ثم وقوله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، أي مضى عليهن ثلاث حيض قبل أن يغتسلن، وقبل أن يخرجن من العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، يعني يراجعها ويمسكها بالإحسان. قوله: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو لا يراجعها ويتركها حتى تخرج من العدة.
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً والضرار في ذلك أن يدعها حتى إذا حاضت ثلاث حيض، وأرادت أن تغتسل، راجعها ثم طلقها يريد بذلك أن يطول عليها عدتها. فنهى الله عن ذلك فقال تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً. لِتَعْتَدُوا، أي لتظلموهن. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإضرار، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، يقول: أضر بنفسه بمعصيته في الإضرار. وقال الزجاج: فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، يعني عرَّض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه، تعرض لعذاب الله، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
ثم قال: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً، يعني القرآن لعباً. ويقال إنهم كانوا يطلقون ولا يعدون ذلك طلاقاً، ويجعلونه لعباً، فنزل: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً. قرأ عاصم في رواية حفص: هُزُواً بغير همز، وكذلك قوله: كُفُواً أَحَدٌ [الصمد: 4] والباقون: بالهمز.
وهما لغتان، ومعناهما واحد. ثم قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، يقول: احفظوا نعمة الله عليكم بالإسلام. وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ، يقول: احفظوا ما ينزل الله عليكم في القرآن من المواعظ وَالْحِكْمَةِ يعني الفقه في القرآن يَعِظُكُمْ بِهِ، يقول:
ينهاكم عن الضرار.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في الضرار، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من أعمالكم فيجازيكم به. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يقول: انقضت عدتهن فَلا تَعْضُلُوهُنَّ، يقول:
لا تحبسوهن ولا تمنعوهن أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ بمهر ونكاح جديد وذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي الدحداح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها له وقال لها: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت هذه الآية: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ، أي يؤمر به. مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أي يصدق بالله واليوم الآخر ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ، يعني خير لكم ويقال: أصلح لكم، وَأَطْهَرُ من الريبة.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ من حب كل واحد منهما لصاحبه وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك. ويقال: ذلكم أطهر لقلوبكم من العداوة، لأن المرأة تأتي الحاكم فيزوجها، فتدخل في قلوبهم العداوة والبغضاء. وقال الضحاك: والله يعلم أن الخير في الوفاء والعدل، وأنتم لا تعلمون ما عليكم بالتفريق من العقوبة ومن العذاب. وقال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً، وقال: «إِنْ كُنْتَ(1/152)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
مُؤْمِنَاً فَلَا تَمْنَعْ أُخْتَكَ عَنْ أَبِي الدَّحْدَاحِ» ، فقال: آمنت بالله وزوجتها منه وفي هذه الآية دليل أن الولي إذا منع المرأة عن النكاح، كان للحاكم أن يزوجها.
[سورة البقرة (2) : آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ، يعني سنتين كاملتين، لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، يعني أن يكمل الرضاعة. فإن قيل: لما ذكر الحولين، فما الحاجة إلى الكاملين؟ قيل له: هذا للتأكيد، لأن بعض الحولين يسمى حولين، كما قال في آية أخرى:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] ، وإنما هي شهران وعشرة أيام. فهاهنا لما ذكر الحولين الكاملين، علم أنه أراد الحولين بغير نقصان.
ثم قال تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ، أي على الأب أجر الرضاع ونفقة الأم وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أي على قدر طاقته. لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، يعني لا يجب على الأب من النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته. لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يقول: لا ينزع الولد من الأم لكونها أحق بولدها من غيرها. قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تضارّ بضم الراء على معنى الخبر تبعاً لقوله: لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، ولفظه لفظ الخبر والمراد به النهي، وقرأ الباقون: بالنصب على صريح النهي. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ، يعني الأب لا يضار بالولد، فتطرح الأم الولد إليه بعد ما عرفت أنه لا يقبل ثدي غيرها، فلا يجوز لها أن تفعل ذلك.
ويقال: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يعني إذا كان الأب يجد ظئراً أرخص من الأم والأم أبت أن ترضع إلا بأجر كثير، فإن الأب لا يجبر على ذلك، وله أن يدفع إلى ظئر أخرى.
قال تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ، يعني إذا مات الأب وله وارث سوى الأب، فعلى وارث الصبي مثل ما على الأب. ويقال: على وارث الأب لا يضارها ولا تضاره. ويقال مثل ذلك، يعني الكسوة الرزق في رضاع الصبي ونفقته. فَإِنْ أَرادا فِصالًا، أي فطاماً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ، يعني الأب والأم دون الحولين. ويقال: بعد الحولين. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما إن لم يرضعاه سنتين، أي لا حرج عَلَيْهِمَا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ،(1/153)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
يعني أن تأخذوا ظئراً لأولادكم، إذا أرادت الأم النكاح فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما أتيتم بالمعروف، يعني لا إثم عليكم إذا أعطيتم الظئر ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، ما أعطيتم بما تعرفونه. ويقال: أعطيتم ما شرطتم لهن.
ثم خوفهما في الإضرار، فقال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ، يعني الأبوين فلا يضار واحد منهما لصاحبه. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ من الإضرار فيجازيكم به. قرأ ابن كثير:
«مَا أَتَيْتُمْ» بغير مد، يعني ما جئتم وفعلتم وقرأ الباقون بالمد، يعني ما أعطيتم.
[سورة البقرة (2) : آية 234]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، أي يموتون وَيَذَرُونَ أَزْواجاً، أي يتركون نساء من بعدهم. يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، يعني ينتظرن بأنفسهن أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، لا يتزوجن ولا يتزين ولا يخرجن من بيوتهن ولا يتزين. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يعني انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ، أي فلا إثم عليكم فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من الزينة والكحل والخضاب. وذلك أن المرأة إذا انقضت عدتها، فكان أولياؤها يمنعونها من الزينة، فأباح الله تعالى لهن الزينة بعد العدة.
ويقال: فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بِالْمَعْرُوفِ، يعني إذا تزوجن بزوج آخر، إذا كان الزوج كفواً لها، فلا يمنع من نكاحها. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من الزينة والمنع من نكاحها وغير ذلك. وهذه الآية عامة، يستوي فيها المدخولة وغير المدخولة.
ويستوي فيها الصغيرة والكبيرة في وجوب العدة من الزينة والمنع وغير ذلك.
[سورة البقرة (2) : آية 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لاَّ تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ. فقد أباح للخاطب أن يتعرض للنكاح، ونهاه عن الخطبة والعقد فقال: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ يقول: لا بأس(1/154)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
بأن يأتي الرجل المرأة المتوفى عنها زوجها، فيعرض لها ويقول: إنك لتعجبيني وإنك لموافقة لي، فأرجو أن يكون بيننا اجتماع، ونحو ذلك من الكلام. فهذا هو التعريض من خطبة النسآء أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، يعني أضمرتم في أنفسكم. قال الزجاج: كل شيء سترته فقد أكننته وكننته فهو مكنون، فلذلك أباح الله تعالى التعريض.
ثم قال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، يعني خافوا الله في العدة من تزويجهن. وَلكِنْ لاَّ تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا، يعني نكاحاً ويقال: جماعاً. وقال القتبي: سمي الجماع سراً، لأنه يكون في السر فيكنى عنه. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً، يعني عدة حسنة، نحو إنك لجميلة وإني فيك لراغب.
وقوله تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ، يقول: ولا تحققوا عقدة النكاح، يعني لا تتزوجوهن في العدة. حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، يعني حتى تنقضي عدتها. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ، يعني ما فى قلوبكم من الوفاء وغيره. فَاحْذَرُوهُ، يعني أن تخالفوه فيما أوجب عليكم. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ، أي غفور ذو تجاوز، حليم حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237]
لاَّ جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
لاَّ جُناحَ عَلَيْكُمْ، أي لا حرج عليكم إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ قرأ حمزة والكسائي تَمَاسُّوهُنَّ بالألف من المفاعلة، وهو فعل بين اثنين وقرأ الباقون بغير ألف، لأن الفعل للرجال خاصة. وقال بعضهم: المس هو الجماع خاصة، فما لم يجامعها لا يجب عليه تمام المهر. وقال بعضهم: إذا جامعها أو خلا بها، وجب عليه جميع الصداق إذا كان سمى لها مهراً وإن لم يكن سمى لها مهراً، فلها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. فذلك قوله تعالى: لاَ جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، يعني إذا تزوج الرجل امرأة ثم لم يعجبه المقام معها، فلا بأس بأن يطلقها قبل أن يمسها.(1/155)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
قوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، يعني لا حرج عليكم أن تتزوجوا النساء ولم تسموا لهن مهراً وَمَتِّعُوهُنَّ، يعني إذا طلقها قبل أن يدخل بها، فعلى الزوج أن يمتعها عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص: «قَدَرَهُ» بنصب الدال، وقرأ الباقون بالجزم ومعناهما واحد.
قوله: وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ قال ابن عباس في رواية الكلبي: أدنى ما يكون من المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وهكذا قال في رواية الضحاك حَقًّا، أي واجباً عَلَى الْمُحْسِنِينَ أن يمنعوا النساء على قدر طاقتهم.
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، يعني من قبل أن تجامعوهن وقبل أن تخلوا بهن، هكذا قال في رواية الضحاك، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، يعني على الزوج نصف ما فرض لها من المهر. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ، يعني إلا أن تترك المرأة فلا تأخذ شيئاً، أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ، يعني الزوج يكمل لها جميع الصداق. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، يقول: أن تعفو بعضكم بعضاً كان أقرب إلى البر، فأيهما ترك لصاحبه فقد أخذ بالفضل. ويقال: إن الله تعالى ندب إلى الإنسانية، فأمر كل واحد منهما بالعفو، ثم قال تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، يعني لا تتركوا الفضل والإنسانية فيما بينكم في إتمام المهر أو في الترك. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم بذلك.
[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال ابن عباس: أي حافظوا على الصلوات المكتوبات الخمس في مواقيتها بوضوئها وركوعها وسجودها وَالصَّلاةِ الْوُسْطى، يعني الصلاة الوسطى خاصة حافظوا عليها. ويقال: هي صلاة العصر. ويقال هي صلاة الصبح ويقال: هي صلاة الظهر.
حدثنا القاسم بن محمد بن روزبه قال: حدّثنا عيسى بن خشنام قال: حدثنا سويد بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن داود بن الحصين أنه بلغه، عن رجل، عن زيد بن ثابت أنه بلغه، عن علي وابن عباس أنهما كانا يقولان: صلاة الوسطى صلاة الصبح.
قال مالك: وذلك رأي. أخبرني القاسم بن محمد قال: حدّثنا عيسى بن خنشام قال:
حدثنا سويد بن سعيد بن مالك بن أنس، عن داود بن الحصين، عن رجل، عن زيد بن ثابت أنه قال: صلاة الوسطى: صلاة الظهر.(1/156)
وبهذا الإسناد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن الحكم، عن أبي يونس مولى عائشة- رضي الله عنها- أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى:
صلاة العصر.
قال الفقيه: حدّثنا أبو إبراهيم الترمذي، عن أبي إسحاق، عن أبي جعفر الطحاوي قال:
حدّثنا علي بن معبد قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبي إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي، عن عمرو بن رافع، مولى عمر وكان يكتب المصاحف أنه قال: اكتتبتني حفصة ابنة عمر مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها، حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتها أتيتها بالورقة فقالت: اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. ويقال: هي قراءة عبد الله بن مسعود.
وروي عن أبي هريرة وابن عمر أنهما قالا: صلاة الوسطى العصر وروي عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عليّ أنه قال: كنت ظننت أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق وقد شغلوه عن صلاة العصر، قال: «مَلأَ الله بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً، شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطَى، صَلاةِ العَصْرِ» . وإنما كان فائدة التخصيص بصلاة العصر، لأن ذلك وقت الشغل ويخاف فوتها ما لا يخاف لسائر الصلوات. وقد أكد بالذكر قال:
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى خاصة. ومن طريق المعقول يدل أيضاً على أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر، لأن قبلها صلاتي النهار وبعدها صلاتي الليل.
ثم قال تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، أي قوموا لله طائعين في الصلاة مطيعين. ويقال:
صلوا لله قائمين، فكأنه أمر بطول القيام في الصلاة. كما قال في آية أخرى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران: 43] . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الصلاة فقال: «التِي يُطِيلُ القُنُوتَ فِيهَا» ، يعني القيام. ويقال: قانتين، يعني ساكتين، كما روي عن زيد بن أرقم أنه قال:
كنا نتكلم في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وقال الزجاج: المشهور في اللغة الدعاء في القيام، وحقيقة القانت القائم بأمر الله تعالى.
ثم قال: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، يعني إذا خفتم العدو فصلوا قياماً، فإن لم تستطيعوا فصلوا ركباناً على الدواب، حيث ما توجهت بكم بالإيماء. وهذا موافق لما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه ذكر صلاة الخوف، ثم قال في آخره «فَإنْ كانَ الخَوْفُ أَشَدَّ مِنْ ذِّلِكَ، صَلُّوا عَلَى أَقْدَامِكُمْ أَوْ رُكْبَاناً مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا» . فَإِذا أَمِنْتُمْ، يعني العدو والخوف، فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ، يعني صلوا كما علمكم أربعاً أو اثنتين. وعلمكم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، يعني علمكم الصلاة ولم تكونوا تعلمون من قبل.(1/157)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً، أي يموتون ويتركون نساءهم من بعدهم وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ، أي يوصون لنسائهم. قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم «وَصِيَّةٌ» بالضم، يعني عليهم وصية وقرأ الباقون: بالنصب، يعني يوصون وصية لأزواجهم. مَتاعاً، أي نفقة وكسوة إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ، يقول: لا يخرجن من بيوت أزواجهن. وهذا في أول الشريعة كانت العدة حولاً وهكذا كان في الجاهلية. ألا ترى إلى قول لبيد:
وَهُمُ رَبِيعٌ لِلمُجَاوِرِ فِيهِم ... وَالمُرْمِلاتِ إِذَا تَطَاوَلَ عَامُهَا
ثم نسخ ما زاد على الأربعة أشهر وعشراً، ونسخت الوصية للأزواج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . ويقال: نسخ بآية الميراث. ثم قال تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ، يعني من الزينة يحتمل أنه أراد به الخروج بعد مضي السنة، ويحتمل الخروج في السنة إذا خرجت بعذر في أمر لا بدلها منه. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقد ذكرناها.
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ. والمطلقات أربع: مطلقة يسمى لها مهراً، ومطلقة لم يسم لها مهراً، ومطلقة دخل بها، ومطلقة لم يدخل بها، فالمتعة لا تكون واجبة إلا لمطلقة واحدة وهي التي لم يسم لها مهراً وطلقها قبل الدخول. كما ذكر في الآية التي سبق ذكرها وفي سائر المطلقات المتعة مستحبة وليست بواجبة. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، أي واجباً على المتقين، وذلك فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يجب عليه إلا في المطلقة التي ذكرنا. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، يعني أمره ونهيه، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما أمرتم به. ويقال: آياته يعني دلائله. ويقال: آيات القرآن.
[سورة البقرة (2) : آية 243]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243)(1/158)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، يقول: ألم تخبر: وهذا على سبيل التعجب، كما يقال: ألا ترى إلى ما صنع فلان؟! ويقال: ألم تر، يعني ألم تعلم؟ ويقال: ألم ينته إليك خبرهم؟ يعني الآن نخبرك عنهم. قال ابن عباس: وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر الناس بالخروج إلى الغزو فخرجوا، فبلغهم أن في ذلك الموضع طاعوناً، فامتنعوا عن الخروج إلى هناك، ونزلوا في موضعهم، فهلكوا كلهم فبلغ خبرهم إلى بني إسرائيل، فخرجوا ليدفنوهم، فعجزوا عن ذلك لكثرتهم، فحظروا عليهم الحظائر. ثم أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وبقيت منهم بقايا من البحر ومعهم النتن إلى اليوم وقال بعضهم: بلغهم أن هناك للعدو شوكة وقسوة، فامتنعوا عن الخروج إليهم فأهلكهم الله تعالى.
وقال بعضهم: إن أرضاً وقع بها الوباء فخرج الناس منها هاربين، فنزلوا منزلاً فماتوا كلهم فمر بهم نبي يقال له حزقيل- عليه السلام- فقال: الحمد لله القادر الذي يحيي هذه النفوس البالية ليعبدوه. فدعا لهم فأحياهم الله تعالى فذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ. قال ابن عباس في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك: ثمانية آلاف، ويقال: سبعون ألفاً، ويقال: ثمانية عشر ألفاً. وقال بعضهم: هم ألوف كما قال الله تعالى، ولا يعرف كم عددهم إلا الله. حَذَرَ الْمَوْتِ، أي خرجوا من ديارهم مخافة الموت.
فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا، أي أماتهم الله ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، يعني على أولئك الكفار حين أحياهم. يقال: هو ذو منَ على جميع الناس. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ رب هذه النعمة، يعني الكفار. ويقال: على الذي أحياهم.
وفي هذه الآية: دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عمن قبله ولم يكن قرأ الكتب، فظهر ذلك عند اليهود والنصارى وعرفوا أنه حق. وفي هذه الآية إبطال قول من يقول: إن الإحياء بعد الموت لا يجوز، وينكر عذاب القبر لأن الله تعالى يخبر أنه قد أماتهم ثم أحياهم.
[سورة البقرة (2) : آية 244]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما أحياهم الله قال لهم: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ويقال: هذا أمر بالجهاد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قال لهم: قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، أي سميع لمقالتهم، عليم بالأرض التي وقع فيها الوباء.
[سورة البقرة (2) : آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)(1/159)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
قوله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. نزلت في شأن أبي الدحداح، قال: يا رسول الله، إن لي حديقتين لو تصدقت بواحدة منهما، أيكون لي مثلها في الجنة؟ قال «نَعَمْ» . قال: وأم الدحداح معي؟ يعني امرأته. قال: «نَعَمْ» . قال: والدحداح معي؟ يعني ابنه.
فقال: «نَعَمْ» . قال: أشهدك أني قد جعلت حديقتي لله تعالى. ثم جاء إلى الحديقة، فقام على الباب وتحرج الدخول فيها، بعد ما جعلها لله تعالى ونادى: يا أم الدحداح اخرجي، فإني جعلت حديقتي لله تعالى، فخرجت وتحولت إلى حديقة أخرى، وقالت له: هنيئاً لك بما فعلت أو كما فعلت، فنزل قوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً يعني ألفي ألف ضعف.
قال الفقيه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدّثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدثنا المعلى بن منصور قال: حدثنا جعفر قال: حدّثنا علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال: إن الله تعالى يكتب للعبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام لألقى أبا هريرة، فأكلمه في هذا الحديث فلقيته فأخبرته فقال: ليس كذا قلت، ولم يحفظ الذي حدثك عني. وإنما قلت: ألفي ألف حسنة. ثم قال أبو هريرة: أو لستم تجدون في كتاب الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. فقوله: كَثِيرَةً أكثر من ألف ألف ومن ألفي ألف.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ، أي يقتر الرزق على من يشاء وَيَبْصُطُ، أي يوسع على من يشاء من عباده. ويقال: يقبض الصدقات ويخلفها الثواب في الدنيا والآخرة. وقال بعضهم يسلب قوماً ما أنعم عليهم ويوسع على آخرين. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة قرأ حمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو: فَيُضاعِفَهُ بالألف وبضم الفاء، وقرأ عاصم فَيُضاعِفَهُ بالألف وبنصب الفاء، وقرأ ابن كثير فَيُضْعِفُهُ بغير ألف وبضم الفاء، وقرأ ابن عامر:
فَيُضْعِفُهُ بغير ألف وبنصب الفاء. فأما من قرأ: فَيُضاعِفَهُ بالألف والضم، يضعفه فهما لغتان بمعنى واحد. يقال: ضاعفت الشيء وضعفته. ومن قرأ بضم الفاء عطفه على قوله:
يُقْرِضُ اللَّهَ. ومن نصبه فعلى جواب الاستفهام. وقرأ نافع يَبْصُطُ بالصاد، وقرأ الباقون:
بالسين وهو أظهر عند أهل اللغة. وفي كل موضع يكون الصاد قريباً من الطاء، جاز أن يقرأ بالسين وبالصاد مثل المصيطرون ومثل: الصراط، لأنه يشتد فرق الصاد عند ذلك فيجوز القراءة بالسين.
[سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 252]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لاَ طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)(1/160)
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، يعني الرؤساء والقادة. وقال بعضهم: اشتقاق الملأ في اللغة من الملأ وهم الجماعة التي تملأ باديتهم. وقال بعضهم: الناظر إذا نظر إليهم، امتلأ عينه هيبة منهم وذلك أن كفار بني إسرائيل قهروا(1/161)
مؤمنيهم فقتلوهم، وسبوهم، وأخرجوهم من ديارهم. وكان رئيسهم جالوت، فلما اضطر المسلمون في ذلك جاءوا إلى نبي لهم يقال له: أشمويل بن هلقانا- عليه السلام- بلغة العبرانية وبالعربية إسماعيل بن هلقان، إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ، يعني أشمويل: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً، يعني ادع لنا الله تعالى أن يجعل لنا ملكاً، يعني رجلاً ينتظم به أمرنا. نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ف قالَ لهم أشمويل: هَلْ عَسَيْتُمْ. قرأ نافع: هَلْ عَسَيْتُمْ بكسر السين، وقرأ الباقون: بالنصب، وهي اللغة المعروفة. والأول لغة لبعض العرب هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا، يعني إذا بعث الله لكم ملكاً وفرض عليكم القتال، لعلكم لا تقاتلون وتجبنون عن القتال. قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يقول: كيف لا نقاتل في سبيل الله وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا، يعني أخذوا ديارنا وسبوا أبنائنا.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ، أي فرض عليهم القتال. تَوَلَّوْا وتركوا القتال ولم يثبتوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، يعني إن الله تعالى يعلم جزاء من تولى عن القتال.
ثم بيّن لهم القصة بقوله: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، يعني قال: أجابكم ربكم إلى ما سألتم من بعث ملك تقاتلون في سبيل الله معه، وقد جعل لكم طالوت ملكاً وكان طالوت فيهم حقير الشأن، وكانت النبوة في بني لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهوذا. ولم يكن طالوت من أهل بيت النبوة ولا من أهل بيت الملك.
ويقال: كان رجلاً يبيع الخمر، ويقال: كان بقاراً، ويقال: كان دباغاً، ولكنه كان عالماً فرفعه الله بعلمه. قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا، يعني المسلمون قالوا لنبيهم: من أين يكون له الملك عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ؟ لأن منا الملوك. وَلَمْ يُؤْتَ طالوت سَعَةً مِنَ الْمالِ ينفق علينا. والملك يحتاج إلى مال ينفق على جنوده وأعوانه.
قالَ لهم نبيهم- عليه السلام-: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ، يعني اختاره عليكم وَزادَهُ بَسْطَةً، أي فضيلة فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وكان رجلاً جسيماً وكان عالماً. ويقال:
كان عالماً بأمر الحرب. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. والواسع في اللغة: هو الغني. ويقال: واسع بعطية الملك، عالم لمن يعطيه. ويقال: واسع يعني باسط الرزق، عليم بمن يصلح له الملك. فظنوا أنه يقول لهم من ذات نفسه. وقالوا له: إن كان الله تعالى أمرك بذلك، فأتنا بآية قال الله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وذلك أن الكفار كانوا أخذوا التابوت، وكان التابوت للمسلمين، فإذا خرجوا للغزو والتابوت معهم كانوا يرجون الظفر. فأخذ الكفار التابوت ووضعوه في مزبلة- أي في مخرأة لهم- فابتلاهم الله(1/162)
تعالى بالباسور. ويقال إن أصل الباسور من ذلك الوقت، وأصل الجذام من وقت أيوب- عليه السلام- وتغير الطعام من قبل بني إسرائيل. فجعل الله تعالى آية ملك طالوت رد التابوت إليهم، فذلك قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ يعني علامة ملكة أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. قال الكلبي: سكينة أي: طمأنينة، إذا كان التابوت في مكان اطمأنت قلوبهم بالظفر. وقال مقاتل: السكينة كانت دابة ورأسها كرأس الهرة ولها جناحان، فإذا صوَّتت، عرفوا أن النصر لهم. ويقال: كانت جوهراً أحمر يسمع منه الصوت. ويقال:
كانت ريحاً تهب فيها لها صوت يعرفون أن النصرة لهم عند الصوت.
قوله تعالى: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ، يعني الرضاض من الألواح، وقفيز من منّ في طست من ذهب، وعصا موسى، وعمامة هارون قال الكلبي: وكان التابوت من عود الشمشار الذي يتخذ منه الأمشاط، فلما ابتلاهم الله تعالى بالباسور، عرفوا أن ذلك من التابوت، فقالوا: لعل إله بني إسرائيل الذي فينا، يعنون التابوت، هو الذي يفعل بنا هذا الفعل، فأخرجوا بقرتين من المدينة وتركوا أولادها في المدينة، وربطوا التابوت على عجلة ثم ربطوا العجلة بالبقرتين، ثم وجهوهما نحو بني إسرائيل فضربت الملائكة جنوبهما، وساقوهما حتى هجموا بهما على أرض بني إسرائيل، فأصبحوا والتابوت بين أظهرهم. وذلك قوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ، يعني الملائكة ساقوا العجلة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، يعني إن في رد التابوت علامة لملك طالوت إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي مصدقين بأن ملكه من الله تعالى فعرفوا وأطاعوه.
قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ، يعني فتجهز طالوت وخرج بالجنود وهم سبعون ألفاً، فصاروا في حر شديد، فأصابهم عطش شديد، فسألوا طالوت الماء. ف قالَ لهم طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ وهو بين الأردن وفلسطين وإنما كان الابتلاء ليظهر عند طالوت من كان مخلصاً في نيته من غيره وأراد أن يميز عنهم من لا يريد القتال، لأن من لا يريد القتال إذا خالط العسكر، يدخل الضعف والوهن في العسكر، لأنه إذا انهزم وهرب ضعف الباقون. ويقال: إن أشمويل هو الذي أخبر طالوت بالوحي، حتى أخبر طالوت قومه حيث قال: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، يعني ليس معي على عدوي، إذا شرب بغير غرفة. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، يعني لم يشرب منه يعني غرفة. فَإِنَّهُ مِنِّي، أي معي على عدوي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: غُرْفَةً بنصب الغين، وقرأ الباقون برفع الغين. فمن قرأ بالنصب، يكون مصدر غرفة، أي مرة واحدة باليد. ومن قرأ بالضم، هو ملء الكف وهو اسم الماء مثل: الخَطوة والخُطوة. قال بعض المفسرين: الغَرفة بكف واحدة والغُرفة بالكفين. وقال بعضهم: كلاهما لغتان ومعناهما واحد.(1/163)
فلما خرجوا من المفازة وقد أصابهم العطش، وقفوا في النهر، فَشَرِبُوا مِنْهُ بغير غرفة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر: «أَنْتُمْ عَلَى عَدَدِ المُرْسَلِينَ وَعَدَدِ قَوْمِ طَالوتَ ثَلاثمائةٍ وثلاثة عشر» ، فأمر من شرب بغير غرفة أن يرجعوا. ويقال: قد ظهر على شفاههم علامة، عرف بها من شرب من الذي لم يشرب، فردهم وأمسك المخلصين منهم.
فَلَمَّا جاوَزَهُ، يعني جاوز النهر. هُوَ، يعني طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ودنوا إلى عسكر جالوت، وكان معه مائة ألف فارس كلهم شاكون في السلاح. قالُوا، أي المؤمنون:
لاَ طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ، لما رأوا من كثرتهم. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، يعني أيقنوا بالموت لما رأوا من كثرة العدو فأيقنوا بهلاك أنفسهم. ويقال: أيقنوا بالبعث بعد الموت وهو قوله: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، وهم أهل العلم منهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ، يعني كم من جند قليل، غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً عدتهم بِإِذْنِ اللَّهِ، أي بنصر الله وأمره، إذا خلصت نيتهم، وطابت أنفسهم بالموت في طاعة الله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصرة على عدوهم أي معينهم.
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ، يقول: خرجوا واصطفوا لجالوت. دعوا الله تعالى، قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، أي أصبب علينا صبراً، معناه ارزقنا الصبر على القتال، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا عند القتال وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
قال وكان داود- عليه السلام- راعياً، وكان له سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم- وكان اسمه إيشا- أرسل إليهم ابنه داود ينظر إليهم ما أمرهم ويأتيه بخبرهم فلما خرج، مرَّ على حجر فقال له الحجر: خذني فإني حجر إبراهيم قتل بي عدوه، فأخذه وجعله في مخلاته ثم مرَّ بآخر فقال له: خذني فإني حجر موسى الذي قتل بي كذا كذا، ثم مرَّ بثالث فقال له: خذني فأنا الذي أقتل جالوت، فأخذه وجعله في مخلاته فأتاهم وهم بالصفوف وقد برز جالوت وقال: من يبارزني؟ فلم يخرج إليه أحد. ثم قال: يا بني إسرائيل لو كنتم على حق، لخرج إلي بعضكم. فقال داود لإخوته: أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف؟
فقالوا له: اسكت. فذهب داود إلى ناحية من الصف ليس فيها أحد من إخوته، فمر طالوت به وهو يحرض الناس، فقال له داود: وما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت: أنكحه ابنتي واجعل له نصف ملكي. قال داود: فأنا أخرج إليه. فأعطاه طالوت درعه وسيفه، فلما خرج في الدرع جرها، لأن طالوت كان أطول الناس، فرجع داود إلى طالوت وقال: إني لم أتعود القتال في الدرع، فرد الدرع إليه. فقال له طالوت: فهل جربت نفسك؟ قال: نعم وقع ذئب في غنمي فضربته بالسيف فقطعته نصفين. فقال له طالوت: إن الذئب ضعيف، فهل(1/164)
جربت نفسك في غير هذا؟ قال: نعم دخل أسد في غنمي فضربته، ثم أخذت بلحييه فشققتها، فقال له: هذا أشد، ثم قال لَّهُ مَا اسمك؟ قال: داود بن إيشا. فعرفه. فرأى أنه أجلد إخوته، فأخذ قذافته وخرج. فلما رآه جالوت قال: خرجت إليّ لتقتلني بالقذافة كما تقتل الكلاب؟
فقال له داود: وهل أنت إلا مثل الكلاب؟ قال الكلبي: وكان على رأس جالوت بيضة ثلاثمائة رطل، فقال له جالوت: إما أن ترميني وإما أن أرميك. فقال له داود: بل أنا أرميك. ثم أخذ واحداً من الأحجار الثلاثة فرماه، فوقع في صدره ونفذ من صدره فقتل خلفه خلقاً كثيراً. وقال بعضهم: صارت الأحجار كلها واحداً فلما رماها تفرقت في عسكره فقتلت خلقاً كثيراً. وقال بعضهم: رمى واحداً بعد واحد، فقتل جالوت وخلقاً كثيراً وهزمهم الله بإذنه، فذلك قوله عز وجل: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ.
ثم إن طالوت زوج داود ابنته وأراد أن يدفع إليه نصف ملكه، فقال له وزراؤه: إن دفعت إليه نصف ملكك، فيصير منازعاً لك في ملكك، ويفسد عليك الملك. فامتنع من ذلك وأراد قتل داود- عليه السلام- وكان في ذلك ما شاء الله حتى دفع إليه النصف، ثم خرج طالوت إلى بعض المغازي فقتل هناك، فتحول الملك كله إلى داود. ولم يجتمع بنو إسرائيل كلهم على ملك واحد إلا على داود. فذلك قوله عز وجل: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، يعني ملك اثني عشر سبطاً وَالْحِكْمَةَ، يعني النبوة، وأنزل عليه الزبور أربعمائة وعشرين سورة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، أي علم داود من صنع الدروع وكلام الطيور وتسبيح الجبال معه وكلام الدواب.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، أي يدفع البلاء عن المؤمنين بالنبيين- عليهم السلام- ويدفع بالمؤمنين عن الكفار، لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، أي هلك أهلها. ويقال: ولولا دفع الله جالوت بطالوت، لهلكت بنو إسرائيل كلهم. ويقال: ولولا دفع الله البلايا بسبب المطيعين، لهلك الناس كما جاء في الأثر: لولا رجال خشع وصبيان رضع وبهائم رتع، لصببت عليكم العذاب صباً. وروي عن الحسن أنه قال: لولا الصالحون لهلك الطالحون.
ويقال: لولا ما أمر الله المؤمنين بحرب الكفار، لفسدت الأرض بغلبة الكفار. ويقال لولا ما ينتفع بعض الناس ببعض، لأن في كل أرض بلدة يتولد فيها شيء لا يوجد ذلك في سائر البلدان، فينتفع بها أهل سائر البلدان وينتفع بعضهم ببعض، فيكون في ذلك صلاح أهل الأرض.
قرأ نافع هاهنا وَلَوْلاَ دِفَاع الله وفي الحج: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف في كلا الموضعين، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بغير ألف، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ [الحج: 38] بالألف. وتفسير القراءتين واحد وهما لغتان معروفتان.
ثم قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ، أي ذو منّ عليهم بالدفع عنهم.(1/165)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ وهو ما قصّ عليه من أخبار الأمم. نَتْلُوها عَلَيْكَ، أي ننزلها بقراءة جبريل عليك بِالْحَقِّ، أي بالصدق. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، يعني إنك لمن جملة المرسلين الذين ذكرناهم. وقال الزجاج تلك آيات الله، أي هذه الآيات التي أنبئت، أي العلامات التي تدل على توحيده وتثبت رسالته، إذ كان يعجز عن إتيان مثلها المخلوقون وإنك من هؤلاء المرسلين، لأنك قد أتيتهم بالعلامات.
[سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
تِلْكَ الرُّسُلُ، الذين أنزلنا عليك خبرهم في القرآن، فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الدنيا. ويقال: التفضيل يكون على ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون دلالة نبوته أكثر. والثاني: أن تكون أمته أكثر. والثالث: أن يكون بنفسه أفضل. ثم بيّن تفضيلهم فقال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، مثل موسى- عليه السلام- وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ، يعني إدريس- عليه السلام- كما قال تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] . وقال الزجاج: جاء في التفسير أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنه أرسله إلى الناس كافة. وليس شيء من الآيات التي أعطاها الله الأنبياء- عليهم السلام- إلا والذي أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر، لأنه قد كلمته الشجرة، وأطعم من كف من التمر خلقاً كثيراً، وأمرَّ يده على شاة أم معبد فدرت لبناً كثيراً بعد الجفاف، ومنها انشقاق القمر فذلك قوله: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف: 32] ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ، يعني العجائب والدلائل وهو: أن يحيي الموتى بإذنه، ويبرئ الأكمه والأبرص وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، يعني أعناه بجبريل حين أرادوا قتله.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ التي أتاهم بها موسى وعيسى- عليهما السلام- وقال الزجاج: يحتمل وجهين: ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة ويحتمل ولو شاء الله اضطرهم إلى أن يكونوا مؤمنين، كما قال تعالى:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35] ولكن اختلفوا في الدين فصاروا فريقين فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بالكتاب والرسل. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وجعلهم على أمر واحد. وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، أي يعصم من يشاء من الاختلاف، ويخذل من يشاء فلا مرد لأمره، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.(1/166)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ، أي تصدقوا. قال بعضهم: أراد به الزكاة المفروضة. وقال بعضهم: صدقة التطوع. ثم بيّن لهم أن الدنيا فانية وأنه في الآخرة لا ينفعهم شيء إلا ما قدموه. قال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ، يقول: لا فداء فيه وَلا خُلَّةٌ يعني الصدقة وهذا كما قال في آية أخرى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] . وَلا شَفاعَةٌ للكافرين كما يكون في الدنيا.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ بالنصب وكذلك في سورة إبراهيم: «لاَ بَيْعَ فِيهِ وَلاَ خِلاَلَ» وقرأ الباقون بالضم مع التنوين. ثم قال تعالى عز وجل:
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أنفسهم. والظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه. وكان المشركون يقولون: الأصنام شركاؤه وهم شفعاؤنا عند الله فوحد الله نفسه.
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
فقال عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يقول: لا خالق ولا رازق ولا معبود إلا هو. ويقال: الإثبات إذا كان بعد النفي، فإنه يكون أبلغ في الإثبات، فلهذا قال: اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فبدأ بالنفي ثم استثنى الإثبات، فيكون ذلك أبلغ في الإثبات. الْحَيُّ الْقَيُّومُ، يقول: الحي الذي لا يموت، ويقال: الحي الذي لا بدئ له، يعني لا ابتداء له الْقَيُّومُ، يعني القائم على كل نفس بما كسبت، ويقال: القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم ورزقهم ومعنى القائم: هو الدائم.
لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ روي عن علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- أنه قال:
السنة والنوم، كلاهما واحد، ولكنه أول ما يدخل في الرأس يقال له: سنة ويكون بين النائم واليقظان، فإذا وصل إلى القلب صار نوماً. ويقال: معناه: أنه ليس بغافل عن أمور الخلق، فيكون النوم على وجه الكناية. وقال بعضهم هو على ظاهره أنه مستغن عن النوم.(1/167)
وروي في بعض الأخبار أن موسى بن عمران- عليه السلام- حين رفع إلى السماء، سأل بعض الملائكة أينام ربنا؟ وقال بعضهم: خطر ذلك بقلبه، ولم يتكلم به فأمره الله تعالى أن يأخذ زجاجتين، وأمره بأن يحفظهما، ثم ألقى عليه النوم فلم يملك نفسه حتى نام، فانكسرت الزجاجتان في يده فقال له: يا موسى لو كان لي نوم، لهلكت السموات والأرض أسرع من كسر الزجاجتين في يدك فذلك قوله تعالى: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ.
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. كلهم عبيده وإماؤه وهو مستغن عن الشريك، ويقال: معناه أن كل ما فى السموات والارض يدل على وحدانيته. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ، يقول: من ذا الذي يجترئ أن يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ دون أمره، رداً لقولهم حيث قالوا: هم شفعاؤنا عند الله. وفي الآية دليل على إثبات الشفاعة لأنه قال: إِلَّا بِإِذْنِهِ ففيه دليل على أن الشفاعة قد تكون بإذنه للأنبياء والصالحين.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يعني الله لا إله إلا هو الحي القيوم، هو الذي يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا، يعني يعلم أن الأصنام لا يدعون الألوهية. وَما خَلْفَهُمْ، يعني يعلم أنه لا شفاعة لهم. وقال مقاتل: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يعني ما كان قبل خلق الملائكة وَما خَلْفَهُمْ، أي ما يكون بعد خلقهم. وقال الزجاج: يعني يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم. وقال الكلبي: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الآخرة وَمَا خَلْفَهُمْ من أمر الدنيا.
ثم قال: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، يعني الملائكة لا يعلمون الغيب، لأن بعض الناس يعبدون الملائكة ويرجون شفاعتهم. فأخبر أنهم لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يعلمون مما تقدمهم ولا مما بعدهم، إلا بما أنبأهم الله تعالى. ويقال: لا يدركون جميع علمه. والإحاطة في اللغة: إدراك الشيء بكماله إِلَّا بِما شاءَ فيعلمهم.
ثم أخبر عن عظمته فقال تعالى: إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، أي ملأ كرسيه السموات والأرض.
وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: السموات السبع والأرضون السبع تحت جنب الكرسي كحلقة بأرض فلاة. وهكذا قال الكلبي ومقاتل: وقال بعضهم: الكرسي هو المكان الذي خلق الله فيه السَّموات والأرض. وقال بعضهم: الكرسي والعرش واحد، ولكنه مرة ذكر بلفظ العرش ومرة ذكر بلفظ الكرسي. وقال بعضهم: الكرسي غير العرش.
قال الفقيه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدّثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدّثنا أبو مطيع، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة- وهو(1/168)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
عاصم بن أبي النجود- عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش- أي بالعلو والقدرة- يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ.
وقال الزجاج: قال ابن عباس: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، يعني علمه وقال قوم: كرسيه، قدرته التي يمسك بها السموات والأرض وهذا قريب من قول ابن عباس. ثم أخبر عن قدرته فقال: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما، يقول: ولا يثقله حفظهما أي حفظ السموات والأرض.
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، أي الرفيع تعالى فوق خلقه، العظيم يعني أعلى وأعظم من أن يتخذ شريكا. ويقال: يحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة أوجه: وجه إنسان ووجه ثور ووجه أسد ووجه نسر أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرضين هكذا قال الكلبي ومقاتل. ويقال: يدعو بالوجه الذي كوجه الإنسان لبني آدم، ويسأل الله تعالى لهم الرزق والرحمة والمغفرة وبالوجه الذي كوجه الثور يدعو للأنعام والرزق وبالوجه الذي كوجه الأسد يدعو للوحوش وبالوجه الذي كوجه النسر يدعو للطيور.
وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي، خرّ كل صنم في دار الدنيا، وخرّ كل ملك في الدنيا على وجهه، وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين فضرب بعضهم بعضا، فاجتمعوا إلى إبليس وأخبروه بذلك، فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاؤوا إلى المدينة، فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ آية الكرسي خلف كلّ صلاة، أعطاه الله تعالى صلاة الشّاكرين وصلاة المطيعين وصلاة الصّابرين، ولا يمنعهم دخول الجنّة إلّا الموت» .
[سورة البقرة (2) : آية 256]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، يعني لا تكرهوا في الدين أحداً، بعد فتح مكة وبعد إسلام العرب. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، أي قد تبين الهدى من الضلالة. ويقال: قد تبين الإسلام من الكفر، فمن أسلم وإلا وضعت عليه الجزية ولا يكره على الإسلام.
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، يعني بالشيطان ويقال: الصنم. ويقال: هو كعب بن الأشرف، وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، يقول: بالثقة يعني بالإسلام. ويقال:
فقد تمسك بلا إله إلا الله. لَا انْفِصامَ لَها، يعني لا انقطاع لها ولا زوال لها ولا هلاك لها.(1/169)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
ويقال: قد استمسك بالدين الذي لا انقطاع له من الجنة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ بقولهم، عَلِيمٌ بهم.
[سورة البقرة (2) : آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، أي حافظهم ومعينهم وناصرهم. يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، يعني من الكفر إلى الإيمان. واللفظ لفظ المستقبل والمراد به الماضي، يعني أخرجهم. ويقال: ثبتهم على الاستقامة كما أخرجهم من الظلمات. ويقال: يخرجهم من الظلمات، أي من ظلمة الدنيا ومن ظلمة القبر ومن ظلمة الصراط إلى الجنة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، يعني اليهود أولياؤهم كعب بن الأشرف وأصحابه. ويقال: المشركون أولياؤهم الشياطين. يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ، يعني يدعونهم إلى الكفر، كما قال في آية أخرى: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ [إبراهيم: 5] ، يعني ادع قومك. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، يعني أهل النار هُمْ فِيهَا خالدون أي دائمون.
[سورة البقرة (2) : آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، يقول: ألم تخبر بقصة الذي خاصم إبراهيم في توحيد ربه. أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، وهو النمرود بن كنعان، وهو أول من ملك الدنيا كلها.
وكانوا خرجوا إلى عيد لهم، فدخل إبراهيم- عليه السلام- على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا، قال لهم: أتعبدون ما تنحتون؟ فقالوا له: من تعبد أنت؟ قال: أعبد ربي الذي يحيي ويميت. وقال بعضهم: كان النمرود يحتكر الطعام، وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترون منه، وإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل عليه إبراهيم ولم يسجد له، فقال له النمرود: ما لك لم تسجد؟ فقال: أنا لا أسجد إلا لربي. فقال النمرود: من ربك؟ فقال له إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ له النمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قال إبراهيم كيف تحيي وتميت؟
فجاءه برجلين فقتل أحدهما وخلى سبيل الآخر، ثم قال: قد أمت أحدهما وأحييت الآخر.(1/170)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قالَ له إِبْراهِيمَ: إنك أحييت الحي ولم تحيي الميت وإن ربي يحيي الميت.
فخشي إبراهيم أن يلبس النمرود على قومه، فيظنون أنه أحيا الميت كما وصف لهم النمرود، فجاءه بحجة أظهر من ذلك حيث قال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فإن قيل: لِمَ لَمْ يثبت إبراهيم على الحجة الأولى؟ وانتقل إلى حجة أخرى والانتقال في المناظرة من حجة إلى حجة غير محمود. قيل له: الانتقال على ضربين: انتقال محمود إذا كان بعد الإلزام، وانتقال مذموم إذا كان قبل الإلزام. وإبراهيم- عليه السلام- انتقل بعد الإلزام، لأنه قد تبين له فساد قوله، حيث قال له: إنك قد أحييت الحي ولم تحيي الميت. وجواب آخر: إن قصد إبراهيم- عليه السلام- لم يكن للمناظرة، وإنما كان قصده إظهار الحجة، فترك مناظرته في الإحياء والإماتة على ترك الإطالة، وأخذ بالاحتجاج بالحجة المسكنة، ولأن الكافر هو الذي ترك حدّ النظر، حيث لم يسأل عما قال له إبراهيم، ولكنه اشتغل بالجواب عن ذات نفسه، حيث قال: أنا أحيي وأميت.
وقوله تعالى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، أي انقطع وسكت متحيراً. يقال: بهت الرجل إذا تحير. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أي لا يرشدهم إلى الحجة والبيان. وروي في الخبر أن الله عز وجل قال: وعزتي وجلالي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى آتي بالشمس من المغرب، ليعلم أني أنا القادر على ذلك ثم أمر النمرود بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة أنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة، اشتغلوا بالعقوبة فأنجاه الله من النار وسنذكر قصة ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
ثم قال عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قال بعضهم: معناه إحيائي ليس كإحياء النمرود، ولكن إحيائي كإحياء عزير- عليه السلام- أحييته بعد مائة عام. وقال بعضهم هو معطوف على ما سبق من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [البقرة: 243] وإِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة: 258] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ. قال مقاتل: والذي(1/171)
مرَّ على قرية هو عزير بن شرخيا، وكان من علماء بني إسرائيل، فمرَّ بدير هرقل بين واسط والمدائن على حمار فمرَّ بها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها. وقال الضحاك بن مزاحم: هو عزير النبي- عليه السلام- مرَّ ببيت المقدس، وقد خربها بخت نصر، وقتل منهم سبعين ألفاً، وأسر منهم سبعين ألفاً، أي من بني إسرائيل فمرَّ عزير فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن بخت نصر غزا بني إسرائيل، فسبى منهم ناساً كثيرةً، فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل، فجاء بهم إلى بابل.
فخرج ذات يوم لحاجة له إلى دير هرقل على شاطئ دجلة، فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط حماره تحت ظل شجرة، ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكناً وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، يقول: ساقطة على سقوفها، وذلك أن السقف يقع قبل الحيطان ثم الحيطان على السقف، فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا. قال بعض أهل اللغة: الخاوية، الخالية. وقال بعضهم:
بقيت حيطانها لا سقوف عليها. وقال الزجاج: عروشها هي الخيام وهي بيوت الأعراب.
فتناول من الفاكهة والتين والعنب، ثم رجع إلى حماره فجلس يأكل من تلك الفاكهة، ثم عصر من العنب فشربه، ثم جعل فضل التين والعنب في سلة، وفضل العصير في الزق ثم نظر إلى القرى فتعجب من كثرة ثمرها وفناء أهلها ف قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فلم يشك في البعث، ولكن أحب أن يريه الله كيف يحيي الموتى. فلما تكلم عزير بذلك، نام في ذلك الموضع.
فَأَماتَهُ اللَّهُ في منامه مِائَةَ عامٍ، وأمات حماره، ثُمَّ بَعَثَهُ الله تعالى في آخر النهار، ومنعه الله تعالى- في حال موته- عن أبصار الناس والسباع والطير. فلما بعثه الله تعالى، سمع صوتاً قالَ له: كَمْ لَبِثْتَ، أي كم مكثت في نومك يا عزير؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً ثم نظر إلى الشمس، وقد بقي منها شيء لم تغرب فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قالَ له: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ، يعني كنت ميتاً مائة عام، ثم أخبره ليعتبر. فقال: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ، يعني الفاكهة وَشَرابِكَ، يعني العصير. لَمْ يَتَسَنَّهْ، يعني لم يتغير، كقوله:
مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: 15] ، أي غير متغير. ويقال: لم يتسنّه، كأنه لم تأت عليه السنون.
قرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو: كَمْ لَبِثْتَ بإدغام الثاء والتاء. وقرأ الباقون بإظهارها. وقرأ الكسائي: لم يتسنّ بغير هاء عند الوصل وأثبتت عند القطع. وقرأ حمزة:
بحذف الهاء عند الوصل والقطع جميعاً. وقرأ الباقون بإثبات الهاء عند الوصل والقطع. وقرأ نافع: أَنَا أُحْيِي بمد الألف، وكذلك في جميع القرآن نحو هذا، إلا في قوله: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ [الأعراف: 188] وقرأ الباقون بغير مد ومعنى القراءتين في هذا كله واحد.(1/172)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
ثم نظر عزير- عليه السلام- إلى حماره وقد بلي فنودي: انظر إلى حمارك، فإذا هو عظم أبيض يلوح، وقد تفرقت أوصاله. ثم سمع صوتاً قال: أيتها العظام البالية، إني جاعل فيكن روحاً فاجتمعن، فسعى بعضها إلى بعض حتى استقر كل شيء في موضعه، ثم بسط عليه الجلد ونفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق. فخرَّ عزير ساجداً لله تعالى وقال عند ذلك: أعلم إن الله على كل شىء قدير فذلك قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، أي عبرة للناس، لأن أولاده قد صاروا شيوخاً وقد كان شاباً. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالزاي، وقرأ الباقون بالراء. فمن قرأ بالراء، فمعناه كيف نحييها. ونظيرها أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [الأنبياء: 21] ، أي يبعثون الموتى. ومن قرأ بالزاي: أي كيف يضم بعضها إلى بعض. النشز: ما ارتفع من الأرض.
وهذا كما جاء في الأثر: الرضاع ما أنبت اللحم، وأنشز العظم. وقال أهل اللغة: أصل النشز الحركة يقال: نشز الشيء إذا تحرك، ونشزت المرأة عن زوجها والمراد هاهنا تضمنها.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ، قرأ حمزة والكسائي: أَعْلَمُ بالجزم على مضي الأمر، وقرأ الباقون: قالَ أَعْلَمُ على معنى الخبر عن نفسه ومعناه علمت بالمعاينة ما كنت أعلمه قبل ذلك غيباً. أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحياء وغيره. وقال بعضهم: أن عزيراً لما أحياه الله تعالى قال في نفسه: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم. فلما رجع إلى منزله ولقيه أقرباؤه وحسبوا غيبته، فقالوا له: بل لبثت مائة عام وهذا قول من قال: إن هذا لم يكن عزيراً النبي- عليه السلام- بل رجل آخر سوى عزير النبي- عليه السلام-.
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، وذلك أن النمرود لما قال له: أنا أحيي وأميت. ووصف لهم ذلك، فسألوا إبراهيم فقالوا له: كيف يحيي ربك الموتى؟ فأراد إبراهيم أن يرى ذلك بالمعاينة، حتى يخبرهم بما يرى من المعاينة، فسأل ربه فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى.
وقال مقاتل: مرَّ إِبراهيم فرأى جيفة على ساحل البحر، يأكل منها دواب البحر والطيور، وبعضها يصير مستهلك في الأرض، فوقع في قلبه أن الذي تفرق في البحر وفي بطون الطير، كيف يجمعها الله تعالى، فأراد أن يعاين ذلك فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى.(1/173)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
ف قالَ له ربه: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ يعني أو لم تصدق بأني أحيي الموتى؟ قالَ بَلى قد صدقت وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، أي ليسكن قلبي. ويقال: إنما قال له: أو لم تؤمن؟ لكي يظهر إقراره، لكي لا يظن أحد بعده أنه لم يكن مقراً بذلك في ذلك الوقت، فظهر إقراره بقوله: بلى. وقال سعيد بن جبير: ليسكن قلبي أنك اتخذتني خليلاً.
قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، فأخذ ديكا وحمامة وطاوسا وغراباً وفي بعض الروايات أخذ طاوسا وثلاثة من الطيور مختلفة ألوانها وأسماؤها وريشها. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، أي فقطعهن وقال السدي: يعني فدقهن، وقال الأخفش: يعني اضممهن إليك. وذكر مقاتل بإسناده عن الأعمش قال: فيه تقديم وتأخير، فخذ إليك أربعة من الطيور فقطعهن واخلط بعضهن ببعض، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ فرقهن في أربعة أجبل. ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً. ففعل ذلك ودعاهن، فسعين على أرجلهن.
ويقال: إنه لما وضعهن على الجبال، هبت الرياح الأربعة التي تقوم يوم القيامة فواحدة من قبل المشرق، والأخرى من قبل المغرب، وواحدة من قبل اليمين، والأخرى من قبل الشمال فرفعت الأعضاء المتفرقة عن مواضعها وحملتها إلى المواضع الأخرى، حتى اجتمع أعضاء كل طير في موضعها: فجعل إبراهيم ينظر ويتعجب حيث ينضم بعضها إلى بعض. فقال عند ذلك قوله: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ في ملكه، حَكِيمٌ حكم بالبعث ولم أسأله لريب كان في قلبي، ولكن سألته ليسكن قلبي في الخلة. قرأ ابن كثير أرْني بجزم الراء، وقرأ الباقون بالكسر وقرأ حمزة فصرهن بكسر الصاد، والباقون بالضم. فمن قرأ بالكسر يعني قطعهن، ومن قرأ بالضم يعني فضمهن إليك ويقال هما لغتان ومعناهما وتفسيرهما واحد.
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 262]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما حثّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم فضة وقال: يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم(1/174)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أَمْسَكْتَ وَفِيْمَا أَعْطَيْتَ» . وقال عثمان بن عفان: يا رسول الله، علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي الآية مضمر، ومعناه مثل النفقة التي تنفق فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ. وطريق آخر مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم، كمثل زارع زرع في الأرض حبة ف أَنْبَتَتْ الحبة سَبْعَ سَنابِلَ، أي أخرجت سَبْعَ سَنَابِلَ. فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، فيكون جملتها سبعمائة. فشبه المتصدق بالزارع، وشبه الصدقة بالبذر، فيعطيه الله بكل صدقة سبعمائة حسنة.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، أي يزيد على سبع مائة لمن يشاء، فيكون مثل المتصدق كمثل الزارع إذا كان الزارع حاذقاً في عمله، ويكون البذر جيداً، وتكون الأرض عامرة، يكون الزرع مخصباً طيباً فكذلك المتصدق، إذا كان صالحاً، والمال طيباً ويوضع في موضعه، فيصير الثواب أكثر.
وَاللَّهُ واسِعٌ، أي واسع الفضل لتلك الأضعاف، عَلِيمٌ بما ينفقون وبما نووا فيها.
قرأ ابن كثير وابن عامر: والله يضعّف بتشديد العين وحذف الألف، وقرأ الباقون يُضاعِفُ بالألف ومعناهما واحد. فالذي قرأ يضعّف من التضعيف، والذي قرأ يُضاعِفُ من المضاعفة.
ثم قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي يتصدقون بأموالهم ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً، أي لا يمنون عليهم بما تصدقوا عليهم ولا يؤذونهم ولا يعيرونهم بذلك، ومعنى الأذى والتعيير هو أن يقع بينه وبين الفقير خصومة، فيقول له: إني أعطيتك كذا وكذا. وقال بعضهم: المنَّ يشبَّه بالنفاق، والأذى يشبّه بالرياء. ثم تكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم: إذا فعل ذلك، لا أجر له في صدقته وعليه وزرٌ فيما منَّ على الفقير به.
وقال بعضهم: ذهب أجره فلا أجر له ولا وزر عليه. وقال بعضهم له أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمنِّ.
ثم قال تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، أي ثوابه في الآخرة. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من أمر الدنيا. ويقال: الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان، حين اشترى بئر رومة، ثم جعلها سبيلاً على المسلمين.
[سورة البقرة (2) : آية 263]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي دعاء الرجل لأخيه بظهر الغيب. وَمَغْفِرَةٌ أي يعفو ويتجاوز عمن ظلمه خير من صدقة يعطيها، ثم يمن على من تصدق عليه. ويقال: قول معروف للفقير، يعني(1/175)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
إذا أتاه سائل سأله، ولم يكن عنده شيء يعطيه، فيدعو له بالجنة والمغفرة. خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يعطيها له، ويَتْبَعُها أَذىً. ويقال: وعد المعطي خير من صدقة يتبعها أذى. ويقال: وعد الكريم خير من نقد اللئيم. ويقال: دعاء الفقير إذا دعا لصاحب الصدقة، ومغفرة الله خير من الصدقة التي يتبعها أذى. ويقال: قول معروف أن يتجاوز عمن أساء إليه، ويحسن له القول خير له من صدقة يتبعها أذى ويقال: الأمر بالمعروف، والصبر على ما أصابه، والتجاوز عن الذي أضرّ به، خير من صدقة يتبعها أذى. ثم قال: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ أي غني عما عندكم من الصدقة حليم، حيث لم يعجل العقوبة على من يمن بالصدقة.
[سورة البقرة (2) : آية 264]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فالله تعالى أمر عباده برأفته أن لا يمنوا بصدقاتهم، لكي لا يذهب أجرهم، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
يعني المشرك إذا تصدق، فأبطل الشرك صدقته، كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن، ثم ضرب لهما مثلاً جميعاً لصدقة المؤمن الذي يمن وبصدقة المشرك. فقال تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ.
قال القتبي: الصفوان الحجر الذي لا ينبت عليه شيء، يعني كمثل حجر صلب عليه تراب. فَأَصابَهُ وابِلٌ يعني المطر الشديد فَتَرَكَهُ صَلْداً يعني المطر ترك الصفا نقياً أجرد أملس ليس عليه شيء من تراب فكذلك نفقة صاحب الرياء، ونفقة المشرك لم يبق لهما ثواب.
ثم قال تعالى: لاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا والله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين. أي لا يجدون للصدقة ثواباً في الآخرة، وهذا كما قال في آية أخرى: ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إبراهيم: 18] . وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني لا يرشدهم إلى الإسلام والإخلاص، ولا يوفقهم الله بل يخذلهم مجازاة لكفرهم، ثم ضرب مثلاً لنفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه الله تعالى، ولا يمن بها فقال عز وجل:(1/176)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
[سورة البقرة (2) : آية 265]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ يعني يتصدقون طلب رضاء الله تعالى بصدقاتهم وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني وتصديقاً من قلوبهم، يعني يصدقون الله تعالى بالثواب في الآخرة، والخلف في الدنيا. ويقال: وتثبيتا من أنفسهم، يعني وتحقيقاً من قلوبهم يقصدون بها وجه الله. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ يعني بستاناً في مكان مستو مرتفع. أَصابَها وابِلٌ يعني البستان أصابه المطر الشديد فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: أكلها بجزم الكاف، ونصب اللام. وقرأ الباقون بالضم أكلها، وتفسير القراءتين واحد، وقرأ عاصم وأبو عمرو بربوة بنصب الراء، وقرأ الباقون بالضم، وقرأ ابن سيرين بكسر الراء، وفيه ثلاث لغات: رَبْوَة وَرِبْوَةَ وَرَبْوة. وتفسير القراءات واحد.
وفي الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ فأتت أكلها ضعفين، يعني البستان إذا أصابه المطر أو الطل، والطل البطيء من المطر، وهو مثل الندى، فأتت أكلها ضعفين، يعني اخضرت أوراق البستان، وأخرجت ثمرها ضعفين، فكذلك الذي يتصدق به لوجه الله تعالى يكون له الثواب ضعفين، يعني للواحد عشرة إلى سبعمائة إلى ما لا نهاية له وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ثم ضرب مثلاً آخر، لعمل الكافر والمنافق فقال تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 266]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ يقول: مثل الكافر كمثل شيخ كبير، له بستان، وله أولاد صغار ضعفاء عجزة، لا حيلة لهم، ومعيشته ومعيشة ذريته من بستانه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ يعني ريحاً بها نار، أي فأتته السموم الحارة، فأحرقت بستانه، ولم يكن له قوة أن يغرس مثل بستانه، ولم يكن عند ذريته خير يعينونه، فيبقى متحيراً، فكذلك الكافر إذا(1/177)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
لقي ربه أحوج ما كان، فلا يجد خيراً، ولا يدفع عن نفسه، ولا يكون له معين، ولا يعود إلى الدنيا، كما لا يعود الشيخ الكبير شاباً، وكان أحوج إليه قوله تعالى كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في أمثاله فتعتبرون.
[سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ يقول: من حلالات مَّا كَسَبْتُمْ في الآية أمر بالصدقة من الحلال، وفيها دليل: أن من تصدق من الحرام لا يقبل، لأن الواجب عليه أن يردها إلى موضعها.
ويقال: أنفقوا من طيبات، يعني من مال اللذيذ، والشهي عندكم مما كسبتم. يقول: مما جمعتم من الذهب والفضة قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي من الثمار والحبوب. وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ أي لا تعمدوا إلى رديء المال فتصدقوا منه، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما حثّ الناس على الصدقة، فجعل الناس يأتون بالصدقة، ويجمعون في المسجد، فجاء رجل بعذق من تمر عامته حَشَفٌ فنزلت هذه الآية: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ، يعني لا تعمدوا إلى الخشف فتتصدقوا منه وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ بل الطيب إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يعني إلا أن يهضم أحدكم، فيأخذ دون حقه مخافة أن يذهب جميع حقه، فيأخذ ذلك للضرورة مخافة موت حقه، والله تعالى غني عن ذلك، فلا يقبل إلا الطيب، ويقال: إلا أن تغمضوا، يعني إلا أن يضطر أحدكم، فمسته الحاجة فرضي بذلك. قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي غني عما عندكم من الصدقات، حميد في أفعاله.
ويقال: حميد بمعنى محمود ويقال: حميد من أهل أن يحمد ويقال: حميد يقبل القليل، ويعطي الجزيل.
[سورة البقرة (2) : آية 268]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ يقول الشيطان يأمركم بشيئين، والله تعالى يأمركم بشيئين: أما الشيطان، فإنه يأمركم بالفقر، ويقول: لا تنفقوا ولا تتصدقوا، فإنكم تحتاجون إلى ذلك.(1/178)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ قال الكلبي: يعني يمنع الزكاة. ويقال: جميع الفواحش مثل الزنى وقول الزور وغير ذلك وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ لذنوبكم يعني المغفرة من الله. وَفَضْلًا يعني خلفاً في الدنيا وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ بما تنفقون. ويقال: عليم بمواضع الصدقات.
[سورة البقرة (2) : آية 269]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس: يعني النبوة. وقال الكلبي: يعني الفقه. وقال مقاتل: يعني علم القرآن. ويقال: الإصابة في القول. ويقال: المعرفة بمكائد الشيطان ووساوسه. وقال مجاهد: الإصابة في القوم والفهم والفقه. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً يقول من يعط علم القرآن، فقد أعطي خَيْرًا كَثِيرًا. وَما يَذَّكَّرُ أي ما يتفكر. ويقال:
ما يتعظ بما في القرآن إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ يعني ذوو العقول. ويقال: إن من أعطي الحكمة والقرآن، فقد أعطي أفضل مما أعطي من جميع كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه تعالى قال لأولئك وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، وسمي لهذا خيراً كثيراً، لأن هذا جوامع الكلم.
وقال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن، ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأصحاب الدنيا لأجل دنياهم، لأن ما أعطي أفضل مما أعطوا أصحاب الدنيا، لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعاً قليلاً. وقال: قل متاع الدنيا قليل، وسمى العلم خيراً كثيراً.
[سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
لقوله وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ يقول ما تصدقتم من صدقة. أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فوفيتم بنذوركم فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ أي يحصيه ويقبله منكم، وهذا وعد من الله تعالى، فكأنه يقول: إنه لا ينسى بل يعطي ثوابكم. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يعني ليس للمشركين من مانع في الآخرة يمنعهم من العذاب إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ وذلك أن الله تعالى لما حثهم على الصدقة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزل قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ، يعني إن تعلنوا الصدقات المفروضة. فَنِعِمَّا هِيَ قرأ حمزة والكسائي وابن عامر، فنعما هي بنصب النون وكسر العين، وقرأ عاصم في رواية حفص ونافع في رواية(1/179)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
ورش، وابن كثير بكسر النون وكسر العين، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، فنعما بكسر النون وجزم العين، وكل ذلك جائز وفيه ثلاث لغات نِعِم نَعِم ونِعْم، وما زيدت فيها للصلة.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص، ويكفر بالياء وضم الراء. وقرأ حمزة ونافع والكسائي ونكفر بالنون وجزم الراء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونكفر بالنون وضم الراء، فمن قرأ بالجزم، فهو جزاء الصدقة، ومن قرأ بالضم فهي على المستقبل، يعني إن تعلنوا الصدقات فحسن وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من صدقة العلانية.
فأما صدقة التطوع فقد اتفقوا أن الصدقة في السر أفضل، وأما الزكاة المفروضة قال بعضهم: السر أفضل، لأنه أبعد من الرياء وقال بعضهم: العلانية أفضل، لأن الزكاة من شعائر الدين، فكل ما كان أظهر، كان أفضل كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين، ولأن في ذلك زيادة رغبة لغيره في أداء الزكاة ثم قال تعالى: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني فيما تصدقتم في السر والعلانية يتقبل منكم، ويكون في ذلك كفارة سيئاتكم، ويعطي ثوابكم في الآخرة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 274]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما قدم مكة لعمرة القضاء، وخرجت معه أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمها قتيلة، وجدها أبو قحافة، فسألا منها حاجة فقالت: لا أعطيكما شيئاً حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكما لستما على ديني، فاستأمرت(1/180)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، أي يوفق من يشاء لدينه. فإن قيل قد قال في آية أخرى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] وقال هاهنا: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي يوفق.
قيل ما يشاء إنما أراد به هناك الدعوة. وهاهنا أراد به الهدى خاصة، وهو التوفيق إلى الهدى.
ثم قال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ يعني ما تنفقوا من مال، فثوابه لأنفسكم إذا تصدقتم على الكفار، أو على المسلمين.
وروي عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلاً من أهل الذمة، يسأل على أبواب المسلمين فقال: ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شابا، ثم ضيعناك بعد ما كبرت وضعفت، فأمر بأن يجري عليه قوته من بيت المال.
ثم قال تعالى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ يعني لا تنفقوا إلا ابتغاء ثواب الله وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوف ثوابه إليكم. وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم وصدقاتكم، فيكون ما الأولى بمعنى الشرط، وما الثانية للجحود وما الثالثة للخير.
ثم بيّن موضع الصدقة فقال تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني النفقة والصدقة للفقراء الذين حبسوا أنفسهم في طاعة الله، وهم أصحاب الصفة كانوا نحواً من أربعمائة رجل، جعلوا أنفسهم للطاعة، وتركوا الكسب والتجارة. قوله: لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي لا يستطيعون الخروج إلى السفر في التجارة. قوله: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ قرأ حمزة وعاصم وابن عامر: يحسبهم بنصب السين في جميع القرآن، وقرأ الباقون: بالكسر وتفسير القراءتين واحد، يعني يظن الجاهل بأمرهم وشأنهم أنهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ لأنهم يظهرون أنفسهم للناس باللباس وغيره، كأنهم أغنياء ويتعففون عن المسألة. قوله تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً يعني إلحاحاً قال ابن عباس رضي الله عنه: لا يسألون الناس إلحاحاً ولا غير إلحاح، ويقال: أصله من اللحاف، لأن السائل إذا كان ملحاً، فكأنه يلصق بالمسؤول فيصير كاللحاف يلتصق، وجعل ذلك كناية عنه. ثم قال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعني عليم بما أنفقتم ويقال هذا على معنى التحريض، فكأنه يقول عليكم بالفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. وقال بعضهم:
هذا على معنى التعجب، فكأنه يقول عجباً للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله ويقال: إنه رد إلى أول الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا ثم قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ قال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في شأن علي بن أبي طالب،(1/181)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
كانت له أربعة دراهم لم يملك غيرها، فلما نزل التحريض على الصدقة تصدق بدرهم بالليل، وبدرهم بالنهار، وبدرهم في السر، وبدرهم في العلانية، فنزلت هذه الآية الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ. سِرًّا وَعَلانِيَةً يعني خفية وظاهراً.
ويقال: هذا حثّ لجميع الناس على الصدقة يتصدقون في الأحوال كلها وفي الأوقات كلها فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا يعني يأكلون الربا استحلالاً لاَ يَقُومُونَ يوم القيامة من قبورهم إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أي يتخبطه الشيطان مِنَ الْمَسِّ أي من الجنون.
ويقال: أنهم يبعثون يوم القيامة، وقد انتفخت بطونهم كالحباب، وكلما قاموا سقطوا، والناس يمشون عليهم، فيكون ذلك علامة آكل الربا ويقال يكون بمنزلة المجنون ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني الذي نزل بهم لأنهم قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا معناه استحلوا الرِّبا، وكان الرجل إذا حل أجل ماله طالبه فيقول له المطلوب: زدني في الأجل، وأزيدك في مالك فيفعلان ذلك.
فإذا قيل لهما: إن هذا رباً قالا: الزيادة في أول البيع، وعند حلول الأجل سواء.(1/182)
ويقال: إنهم استحلوا الربا وقالوا: الربا والبيع في الحل سواء، فالله تعالى أبطل قولهم فقال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ولم يقل جاءته، لأن التأنيث ليس بحقيقي، ويجوز أن يذكر ويؤنث، لأنه انصرف إلى المعنى، يعني فمن جاءه نهي مِنْ رَبِّهِ في القرآن في بيان تحريم الربا فَانْتَهى عن أكل الربا فَلَهُ مَا سَلَفَ يعني ليس عليه إثم فيما مضى قبل النهي، لأن الحجة لم تقم عليهم، ولم يعلموا بحرمته، وأما اليوم فمن تاب عن الربا، فلا بدَّ له من أن يرد الفضل، ولا يكون له ما سلف، لأن حرمة الربا ظاهرة بين المسلمين، لأن كتاب الله تعالى فيهم.
ثم قال عز وجل: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ في المستأنف إن شاء عصمه، وإن شاء لم يعصمه وَمَنْ عادَ إلى استحلال الرِّبا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «سَيَأْتِي عَلَى الَّناسِ زَمَانٌ لا يبقى أحد إلا أَكَلَ الرِّبا، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلِ الرِّبا أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرِّبا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَاباً، أدْنَاها كَإِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ» ، يعني كالزاني بأمه.
ثم قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يبطله، ويذهب ببركته وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يقول:
يقبلها ويضاعفها. ويقال: إن مال آكل الربا لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة، إما أن يذهب عنه أم عن ولده، أو ينفقه فيما لا يصلح وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ يعني جاحد بتحريم الرِّبا أَثِيمٍ يعني عاص بأكله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني الصلوات الخمس وَآتَوُا الزَّكاةَ يعني أعطوا الزَّكاة المفروضة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وقد ذكرناه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي أطيعوا الله ولا تعصوه فيما نهاكم من أمر الرِّبا وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين بتحريمه. وقال أهل اللغة: إن الحقيقة على ثلاثة أوجه: إن بمعنى ما، كقوله: إِنِ الْكافِرُونَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] . وإن بمعنى لقد، كقوله إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الإسراء: 108] . وتَاللَّهِ إِنْ كُنَّا، قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات: 56] ، إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ [يونس: 29] ، وإن بمعنى إذ كقوله: وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] ، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278] نزلت هذه الآية في نفر من بني ثقيف، وفي بني المغيرة من قريش، وكانت ثقيف يربون لبني المغيرة في الجاهلية، وكانوا أربعة أخوة منهم مسعود وعبد ياليل وأخواهما يربون لبني المغيرة، فلما ظهر النبيّ صلّى الله عليه وسلم على أهل مكة، وضع الرِّبا كله، وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم على الناس يأخذونه، وما كان عليهم من رباً للناس، فهو موضوع عنهم لا يؤخذ(1/183)
منهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتاباً، وكتب في أسفله إنَّ لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم، فلما حلّ الأجل طلب ثقيف رباهم، فاختصموا إلى أمير مكة، وهو عتاب بن أسيد، فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولا تستحلوا الرِّبا وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مصدقين بتحريم الرِّبا. ثم خوفهم فقال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تقروا بتحريم الربا ولم تتركوه فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر فآذِنوا بمد الألف وكسر الذال، وقرأ أبو عمرو وورش عن نافع، فأْذَنُوا بترك الهمزة ونصب الذال، وقرأ الباقون بجزم الألف ونصب الذال، فمن قرأ فَأْذَنُوا بالجزم معناه: فاعلموا بِحَرْبٍ مِّنَ الله، يعني بإهلاك من الله. ويقال معناه:
فاعلموا بأنكم كفار بالله وَرَسُولِهِ ومن قرأ فآذنوا بالمد يقول: اعلموا بعضكم بعضاً بحرب، أي بإهلاك من الله تعالى ورسوله. فقالوا: ما لنا بحرب من الله ورسوله طاقة فما توبتنا؟؟
فقال تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ التي أسلفتم. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ رِباً كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رباً وُضِعَ رِبَا العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وكُلُّ دَمٍ كانَ في الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ وُضِعَ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الحارث بن عبد المطلب» . ثم قال: لاَ تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ يعني الطالب لا يظلم بطلب الزيادة، ويرضى برأس المال، ولا يظلم المطلوب، فينتقص عن رأس المال، وذلك أنهم طلبوا رؤوس أموالهم من بني المغيرة، فشكوا العسرة يعني بني المغيرة وقالوا: ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت إدراك ثمارهم، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ يعني إن كان المطلوب ذو شدة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ يقول:
أجله أن يتيسر عليه بإدراك ثماره وَأَنْ تَصَدَّقُوا يقول: لو تصدقتم ولا تأخذونه فهو خَيْرٌ لَكُمْ ويقال: لئن تصدقتم بالتأخير فهو خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الصدقة خير لكم.
قرأ نافع إلى ميسرة بضم السين. وقرأ الباقون والنصب، وهما لغتان ومعناهما واحد.
وقرأ عطاء فناظرة بالألف. وقرأ العامة بغير ألف، ومعناها واحد. وقرأ عاصم وأن تصدقوا بتخفيف الصاد. وقرأ الباقون بالتشديد، لأن التاء أدغم في الصاد، وأصله تتصدقوا. ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ يقول اجتنبوا عذاب يوم ترجعون فِيهِ إِلَى اللَّهِ يعني في يوم القيامة ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ من خير أو شر وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
يقول: وهم لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال آخر آية نزلت من القرآن وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قرأ أبو عمرو تُرْجَعُونَ بنصب التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون بالضم ونصب الجيم قوله تعالى:(1/184)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ روي عن ابن عباس أنه قال: الآية نزلت في السلم. ويقال كل دين إلى أجل سلماً كان أو غيره. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى أجل معلوم.
وفي الآية دليل أن المداينة لا تجوز إلا بأجل معلوم فَاكْتُبُوهُ يعني الدين والأجل.
ويقال: أمر بالكتابة، ولكن المراد به الكتابة والإشهاد، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة.
ويقال: أمر بالكتابة لكي لا ينسى. ويقال: من أدان ديناً، ولم يكتب، فإذا نسي ودعى الله تعالى بأن يظهره يقول الله تعالى: أمرتك بالكتابة فعصيت أمري، وإذا دعى بالنجاة من الزوجة يقول الله تعالى جعلت الطلاق بيدك إن شئت طلقها، وإن شئت فأمسكها.
ثم قال تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ يعني يكتب الكاتب عن البائع والمشتري يعدل بينهما في كتابته، ولا يزاد على المطلوب على حقه، ولا ينقص من حق الطالب.(1/185)
ويقال: إن هذا أمر للكاتب بالكتابة، وكانت المكاتبة واجبة في ذلك الوقت على الكاتب، لأن الكتبة كانوا قليلاً ثم نسخ بقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282] وقال بعضهم: الكتابة لم تكن واجبة، ولكن الأمر على معنى الاستحباب ثم قال: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ يقول ولا يمتنع الكاتب عن الكتابة أَن يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ يعني يكتب شكراً لما أنعم الله عليه حيث علمه الكتابة، واحتاج غيره إليه، فكما أكرمه الله تعالى بالكتابة وفضله بذلك، فيعرف شكره، ولا يمتنع عن الكتابة لمن طلب منه. ثم قال: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يعني المطلوب هو الذي يملي على الكاتب حتى يكتب الكتابة، لأن قول المطلوب حجة على نفسه، فإذا أملى على الكاتب يكون ذلك إقراراً منه بوجوب الحق عليه.
ثم خوف المطلوب لكيلا ينقص شيئاً من حق الطالب. فقال تعالى: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ يعني المطلوب وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً يقول: لا ينقص مِنَ الحق شَيْئاً، يعني المطلوب.
ويقال: يعني الكاتب، ولا يبخس في الكتابة شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يعني إذا كان المطلوب سَفِيهاً أي جاهلاً بالإملاء، ويقال أحمق أَوْ ضَعِيفاً يعني صبيّاً عاجزاً عن الإملاء. ويقال: أخرس أو مجنون أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ يعني لا يحسن أَنْ يُمِلَّ هُوَ على الكاتب فيرجع الإملاء على الطالب فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ يعني: ولي الحق أي الطالب هكذا قال في رواية الكلبي. وقال في رواية الضحاك. يعني ولي المدين يعني إذا كان للصبي وصي أو ولي يرجع الإملاء عليه فليملل وليه بِالْعَدْلِ أي بالحق.
ثم أمر بالإشهاد فقال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا على حقكم شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ يعني من أهل دينكم من الأحرار البالغين فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ فليكن رجلاً وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ يعني من العدول أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما يعني إذا نسيت إحدى المرأتين.
فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى يعني: إذا حفظت إحداهما الشهادة فتذكر صاحبتها ويقال: إذا امتنعت إحداهما عن أداء الشهادة، فتعظها الأُخرى حتى تشهد. قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف ونصب التاء وجزم اللام، وإنما كسر الألف على معنى الابتداء والشرط، وجزم اللام لحرف الشرط، فَتُذْكِرُ بضم الراء. وقرأ الباقون بنصب الألف، ومعناه لأن تضل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، فتذكر بالتخفيف. وقرأ الباقون بنصب الذال وتشديد الكاف، وهما لغتان أذكرته وذكرته.
ثم قال: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا يعني: الشاهد إذا دعي إلى الحاكم ليشهد، فلا يمتنع عن أداء الشهادة والإباء عن الشهادة حرام، لأن الله تعالى نهى عن الإباء عن الشهادة.
ويقال: إباء الشهادة على ثلاثة أوجه: أحدهما أن يمتنع عن أدائه. والثاني أن يشهد ويقصر في أدائه، لكيلا تقبل شهادته. والثالث بأن لا يصون نفسه عن المعاصي، فيصير منهما لا تقبل(1/186)
شهادته، فكأنه وهو الذي أبطل حق المدعي، وخانه حيث عصى الله تعالى حتى ردت شهادته بمعصيته. ثم قال تعالى وَلا تَسْئَمُوا يقول ولا تملوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً يعني قليل الحق أو كثيره إِلى أَجَلِهِ لأن الكتابة أحصى للأجل وأحفظ للمال ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ أي أعدل وَأَقْوَمُ وأصوب لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى يقول: أحرى وأجدر أَلَّا تَرْتابُوا يعني: لا تشكوا في شيء من حقوقكم.
ثم استثنى الله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً قرأ عاصم تجارة حاضرة بالنصب وقرأ الباقون بالرفع، فمن قرأ بالنصب جعله خبر تكون، والاسم مضمر معناه إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة. ومن قرأ بالرفع جعله اسمه يعني إذا كان البيع بالنقد تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ يعني تداولونها أيديكم، ولم يكن المال مؤجلاً فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج أَلَّا تَكْتُبُوها يعني التجارة. ثم قال وَأَشْهِدُوا على حقكم إِذا تَبايَعْتُمْ على كل حال، نقداً كان أو مؤجلاً، وهذا أمر استحباب، ولو ترك الإشهاد جاز البيع. ثم قال تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يقال لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد، فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة، ولهما حاجة مهمة، فيمنعهما عن حاجتهما، وليتركهما حتى يفرغا من حاجتهما، أو يطلب غيرهما وَإِنْ تَفْعَلُوا يقول: إن تضاروا الكاتب والشاهد فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ يقول معصية منكم وترك الأدب قوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ في الضرر ويقال: واتقوا الله ولا تعصوه فيما أمركم من أمر الكتابة والإشهاد وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ في أمر الكتابة، ويقال: ويؤدبكم الله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من أعمالكم عَلِيمٌ.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي كنتم مسافرين وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يعني لم تجدوا من يكتب الكتاب وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ، ولم تجدوا كاتباً، يعني الكاتب والصحيفة فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن، والباقون فرهان، فمن قرأ فرهان، فهو جمع الرهن، ومن قرأ فرهن فهو جمع الرهان، وهو جمع الجمع. ويقال: كلاهما واحد، وهو جمع الرهن، يعني إذا كنتم في السفر، ولم تجدوا من يكتب، ولم تجدوا الصحيفة والدواة، فاقبضوا الرهن. وفي الآية دليل أن الرهن لا يصح إلا بالقبض لأنه جعل الرهن بالقبض.
ثم قال تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يعني إذا كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق أميناً عند الطلب، ولم يطلب منه الرهن، ورضي بدينه بغير رهن قوله: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يعني أن المطلوب يقضي دينه حيث ائتمنه الطالب، ولم يرتهن منه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يمنع حقه، ثم رجع إلى الشهود فقال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ عند الحاكم يقول: من كانت عنده شهادة، فليؤدها على وجهها ولا يكتمها وَمَنْ يَكْتُمْها يعني الشهادة فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ يعني فاجر قلبه.
قوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ من كتمان الشهادة وإقامتها، فهذا وعيد للشاهد على كتمان شهادته لكيلا يكتمها.(1/187)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
قرأ حمزة وعاصم فليؤد الذي اؤتمن، بضم الألف، والباقون يقرءون بسكون الألف وكلاهما واحد.
[سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق كلهم عبيده وإماؤه، وهو خالقهم ورازقهم، وحكمه نافذ فيهم، معناه لا تعبدوا أحداً سواه، لأنه هو الذي خلق المسيح والملائكة والأصنام، ويقال: لله ما فى السموات وما في الارض، يعني في كل شيء دلالة ربوبيته ووحدانيته، ثم قال: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يعني إن تظهروا ما في قلوبكم أو تضمروه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي يجازيكم به الله. وقال بعضهم: يعني في كتمان الشهادة أن تعلنوا الشهادة أو تخفوها يحاسبكم به الله، أي يجازيكم به الله.
وقال الكلبي: وإن تعلنوا ما في أنفسكم من المعصية أو تسروها، ولا تظهروها يجازيكم. قال: لما نزلت هذه الآية شقّ على المسلمين، وقالوا: يا رسول الله إنا لنحدث أنفسنا بالأمر المعصية، ثم لا نعملها، أو نعملها فهو سواء، فشق ذلك على المؤمنين مشقة شديدة، فلما علم الله مشقة ذلك على المؤمنين، أنزل على نبيه ما هو أهون عليه منه فقال:
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] .
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الدبيلي، قال حدّثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» .
قال سفيان: بلغني أن الأنبياء كانوا يأتون قومهم بهذه الآية وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فيقولون: لا نطيق هذا، ولا نحتمله، فأعقبهم الله المؤاخذة، فلما عرض على هذه الأمة قبلوا، فأعقبهم الله تعالى أن وضعها عنهم، فأنزل الله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] الآية.
ثم قال عز وجل: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أي لمن تاب عن الذنوب وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أي من أقام على ذلك، وأصر عليه. ويقال: فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم، لمن انتزع عنه، ويعذب من يشاء بالذنب الصغير إذا أصر عليه. ويقال: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. قرأ عاصم وابن عامر، فيغفر بضم الراء على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالجزم على جواب الشرط، وكذلك في قوله: وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ثم قال: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.(1/188)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ روي عن الحسن وعن مجاهد: أن هذه الآية نزلت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن عبد الله بن عباس.
وقال بعضهم جميع القرآن نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلم سمعها ليلة المعراج. وقال بعضهم: لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة، وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال: إنها كانت في ليلة المعراج. قال: لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ فوق السموات في مكان مرتفع، ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى. فقال له جبريل: إني لم أجاوز هذا الموضع، ولم يؤمر أحد بالمجاوزة عن هذا الموضع غيرك، فجاوز النبيّ صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن يسلم على ربه. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «التَّحِيَّاتُ لله وَالصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ» . فقال الله تعالى: السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال: «السَّلامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ» . فقال جبريل: وأهل السموات كلهم، أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قال الله تعالى على معنى الشكر آمن الرسول، أي: صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أنزل إليه من ربه، فأراد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الفضيلة فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ يعني: يقولون آمنا بجميع الرسل، ولا نكفر بواحد منهم، ولا نفرق بينهم، كما فرقت اليهود والنصارى.
فقال له ربه عز وجل: كيف قبولهم للآي التي أنزلتها؟ وهي قوله: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: 284] ، فقال: رسول الله: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا أي أطعنا مغفرتك يا ربنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي: المرجع قال الله تعالى عند ذلك: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها.(1/189)
ويقال: إلا دون طاقتها ويقال لا يكلف الصلاة قائماً لمن لا يقدر عليها لَها مَا كَسَبَتْ من الخير وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الشر فقال له جبريل عند ذلك: سل تعط فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«ربنا لا تؤاخذنآ إن نَّسِينَا» يعني: إن جهلنا أَوْ أَخْطَأْنا يعني: إن تعمدنا، ويقال إن عملنا بالنسيان، أو أخطأنا يعني عملنا بالخطأ، فقال له جبريل: قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان شيئاً آخر، فقال عند ذلك: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً يعني ثقلاً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل، وجدوه مكتوباً على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخففت عن هذه الأمة، وحطّ عنهم بعد ما فرض عليهم إلى خمس صلوات ثم قال: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ يقول: لا تكلفنا من العمل ما لا نطيق، فتعذبنا. ويقال: ما يشق ذلك علينا، لأنه لو أمر بخمسين صلاة، لكانوا يطيقون ذلك، ولكنه يشقّ عليهم، ولا يطيقون الإدامة على ذلك وَاعْفُ عَنَّا من ذلك كله وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أي: تجاوز عنا ويقال: واعف عنا من المسخ، واغفر لنا من الخسف، وارحمنا من القذف، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ، وبعضهم أصابهم الخسف، وبعضهم القذف ثم قال: أَنْتَ مَوْلانا أي: أنت ولينا وحافظنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فاستجيب دعاؤه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» . ويقال: إن الغزاة إذا خرجوا من بلادهم بالنية الخالصة، وضربوا الطبل، وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما رجع، أوحى الله تعالى إليه هذه الآيات، ليعلم أمته بذلك. ولهذه الآية تفسير آخر قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى فرض الصلاة والزكاة في هذه السورة، وبيّن أحكام الحج، وحكم الحيض، والطلاق والإيلاء، وأقاصيص الأنبياء، وبيّن حكم الربا والدين، ثم ذكر تعظيمه بقوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [لقمان: 26] الآية.
ثم ذكر تصديق جميع ذلك حيث قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، أي صدق الرسل بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، وكذلك المؤمنون. كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
قرأ حمزة والكسائي وكتابه على معنى الوحدان. وقرأ الباقون وكتبه على معنى الجمع.
ثم قال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، فأخبر عن المؤمنين بأنهم يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله.
قرأ الحضرمي لا يفرق بالياء، ومعنا كل آمن بالله، وكل لا يفرق.
وقرأ ابن مسعود لا يفرقون بين أحد من رسله. وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، أي قبلنا ما سمعنا، لأن من سمع ولم يقبل قيل له: أصم، لأنه لم ينتفع بسماعه.(1/190)
وقرأ أبو عمرو من رسله، برفع السين، وكذلك في جميع القرآن غير هذه الحروف الأربعة، مثل رسلنا ورسلهم يقرأ بالسكون، وقرأ الباقون برفع السين في جميع القرآن. ومعنى قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا، أي اغفر غفرانك، وهو من أسماء المصادر كالكفران والشكران وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. يعني نحن مقرون بالبعث.
ثم قال: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يعني: طاقتها قال الفقيه: حدّثنا أبو الحسين قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا مروان عن عطاء بن عجلان عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تَجَاوَزَ عَنْ هذه الأُمَّةِ ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها، أَوْ هَمَّتْ بِهِ مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ، أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ» ثم قال لَها مَا كَسَبَتْ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، رَبَّنا لاَ تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا، أي لا تؤاخذ أحداً بذنوب غيره، كما قال في آية أخرى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] وقوله: إن نسينا أي إن تركنا أو أخطأنا، يعني إن كسبنا خطيئة، فأخبر الله تعالى بهذا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وعن المؤمنين، وجعله في كتابه ليكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم دعوة يدعون بها من بعده، لأن هذا الدعاء قد استجيب له، فينبغي أن يحفظ، ويدعى به كثيراً.
قال الفقيه: حدثنا القاضي الخليل قال: حدثنا السراج قال: حدثنا أحمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا سهل بن بكار قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاثِ خِصَالٍ: جُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِداً، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلاَئِكَةِ، وَأُوتِيتُ هذه الآياتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلِي، ولا تُعْطَى أَحَداً بَعْدِي» .
وروى أبو أمامة الباهلي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فإنَّهُمَا تَجِيئَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَالغَمَامَتَيْنِ- أوْ كَالغَيَايَتَيْنِ، أوْ كَفِرْقَتَيْنِ- مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، وَيُحَاجَّانَ عَنْ صَاحِبِهِمَا» . ثم قال: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ» ، يعني السَّحَرَةَ.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه نزل عليه ملك فقال له: إن الله يبشرك بنورين، لم يعطهما نبياً قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لا يقرأ بحرف منهما إلا أعطيته نوراً. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَوْ بَلَغَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ ثلاثمائةِ آيةٍ، لَتَكَلَّمَتْ» يعني: لصارت بحال تتكلم، لأنه لا يبقى شيء، إلا اجتمع فيها من كثرة ما فيها من العجائب. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد.(1/191)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
سورة آل عمران
مائتا آية وهي مدنية
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
الم قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا الله أعلم اللَّهُ يعني، هو الله الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الذي لا يموت ولا يزول أبداً.
ويقال الحي الذي لا بادئ له الْقَيُّومُ يعني القائم على كل نفس بما كسبت. ويقال:
القائم بتدبير الخلق.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحي قبل كل حي، والحي بعد كل حي، الدائم الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه، والقائم على العباد بأرزاقهم وآجالهم. ويقال: الحي القيوم هو اسم الله الأعظم. ويقال: أن عيسى ابن مريم عليهما السلام، كان إذا أراد أن يُحيي الموتى، يدعو بهذا الاسم يا حي يا قيوم. ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان- عليه السلام- دعا بقوله يا حي يا قيوم- ويقال: إن بني إسرائيل، سألوا موسى- عليه السلام- عن اسم الله الأعظم فقال لهم: قولوا اهيا- يعني يا حي- شراهيا- يعني يا قيوم- ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به، ثم قال تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 3 الى 5]
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن بِالْحَقِّ أي بالعدل ويقال لبيان الحق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني موافقاً للكتب المتقدمة في التوحيد، وفي بعض الشرائع(1/192)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ يعني أنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى من قبل هذا الكتاب.
وروي عن الفراء أنه قال: اشتقاق التوراة من وري الزند وهو ما يظهر من النور والضياء، فسمي التوراة بها، لأنه ظهر بها النور والضياء لبني إسرائيل، ومن تابعهم، وإنما سمي الإنجيل، لأنه أظهر الدين بعد ما درس، وقد سمي القرآن إنجيلاً أيضاً لما روي في قصة مناجاة موسى- عليه السلام- أنه قال: يا رب أرى في الألواح أقواماً أناجيلُهم في صدورهم، فاجعلهم أمتي قال الله تعالى: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما أراد بالأناجيل القرآن.
قرأ حمزة والكسائي، وابن عامر التوراة بكسر الراء، والباقون بالفتح ثم قال تعالى:
هُدىً لِلنَّاسِ معناه: وأنزل التَّورَاة على موسى، والإنجيل على عيسى عليهما السلام، بياناً لبني إسرائيل من الضلالة وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ على محمد صلى الله عليه وسلم بعد التوراة والإنجيل.
وقال الكلبي الفرقان هو الحلال والحرام، يعني بيان الحلال والحرام. ويقال: المخرج من الشبهات إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن، وما أوتي من آيات نبوته لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة.
قال الكلبي: نزلت هذه الآية في وفد نجران، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجادلوه بالباطل. ويقال: في شأن اليهود. ويقال: في شأن مشركي العرب. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أي منيع بالنقمة ينتقم ممن عصاه إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ لا يذهب ولا يغيب عليه شيء فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ معناه أنه لا يخفى عليه قول الكفار وعملهم، فيجازيهم يوم القيامة، وهم وفد نجران، وسائر المشركين.
[سورة آل عمران (3) : آية 6]
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
ثم أخبر عن صنعه، ليعتبروا بذلك فقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أي يخلقكم كيف يشاء قصيراً أو طويلاً، حسناً أو ذميماً، ذكراً أو أنثى.
ويقال: شقيّاً أو سعيداً. وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سعد في بطن أمه ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوَلَدُ يَكُونُ في بَطْنِ أُمِّهِ، يكونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يُكْتَبُ شَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ» .
وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه، ليسألوا ما عنده من الحديث. فقال لهم: إني مشغول بأربعة أشياء، فلا أتفرغ لرواية الحديث فقيل له: وما ذاك الشغل؟ فقال(1/193)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
أحدها: إني أتفكر في يوم الميثاق. حيث قال: هؤلاء في الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت. والثاني حيث صوّرني في رحم أمي فقال الملك الموكل على الأرحام: يا رب شقي أم سعيد؟ فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت. والثالث حيث يقبض روحي ملك الموت فيقول: يا رب أمع الكفار أم مع المؤمنين؟ فلا أدري كيف يخرج الجواب. والرابع حيث يقول: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] ، فلا أدري من أي الفريقين أكون. ثم قال تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني لا خالق ولا مصور إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ يعني المنيع بالنقمة لمن جحده الْحَكِيمُ يحكم تصوير الخلق على ما يشاء.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعني من القرآن آيات واضحات ويقال مبينات بالحلال والحرام. ويقال: ناسخات لم تنسخ قط هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعني أصل كل كتاب، وهي ثلاث آيات من سورة الأنعام وهو قوله تعالى:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 151] وروي عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول: فاتحة الكتاب أم الكتاب؟ فقال له ابن عباس: بل أم الكتاب قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 151] إلى آخر ثلاث آيات الآية.
ثم قال تعالى وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ قال الضحاك أي منسوخات وقال الكلبي يعني ما اشتبه على اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ألم، والمص ويقال المحكم ما كان واضحاً لا يحتمل التأويل، والمتشابه الذي يكون اللفظ يشبه اللفظ، والمعنى مختلف.
ويقال: المحكم الذي هو حقيقة اللغة، والمتشابه ما كان مجاوزاً. ويقال: المحكمات التي فيها دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والمتشابه الذي اشتبهت الدلالة فيه، فإن قيل: إذا أنزل القرآن للبيان، فكيف لم يجعل كله، واضحاً؟ قيل: الحكمة في ذلك، والله أعلم أن يظهر فضل العلماء، لأنه لو كان الكل واضحاً، لم يظهر فضل العلماء بعضهم على بعض. وهكذا يفعل(1/194)
كل من يصنف تصنيفاً يجعل بعضه واضحاً، وبعضه مشكلاً، ويترك للحيرة موضعاً، لأن ما هان وجوده، قل بهاؤه.
ثم قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني مَيْل عن الحق وهم اليهود فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قال الضحاك: يعني ما نسخ منه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الشرك واستبقاؤه ما هم عليه وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي طلب ثناء هذه الأمة. ويقال: طلب وقت قيام الساعة وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يعني منتهى ملك هذه الأمة، وذلك أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم حيي بن أخطب وغيره، فقالوا: بلغنا أنه نزل عليك ألم، فإن كنت صادقاً في مقالتك، فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة، لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، يعني: منتهى ملك هذه الأمة، ثم قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال الكلبي ومقاتل: استأنف الكلام يعني لما قال وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فقد تم الكلام ثم استأنف فقال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي البالغون العلم في كتبهم التوراة والإنجيل يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يعني القرآن كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال بعضهم:
هو معطوف عليه. يقول: وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يعني يعلمون تأويله.
ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
وروى ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه كان يقرأ، وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم: آمنا به، وهذا يوافق قول الكلبي ومقاتل. وقال عامر الشعبي: لو كان ابن عباس بين أظهرنا ما سألته عن آية من التفسير، لأني أحلُّ حلاله، وأحرّم حرامه، وأو من بمتشابهه، وأكل ما لم أعلم منه إلى عالمه.
ثم قال تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ يعني ما يتعظ بما أنزل من القرآن إلا ذوو العقول من الناس. ثم قال عبد الله بن سلام وأصحابه، حين سمعوا قول اليهود وتكذيبهم:
رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا يعني لا تُحَوّل قلوبنا عن الهدى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا يعني بعد ما أكرمتنا بالإسلام، وهديتنا لدينك وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يني ثَبِّتْنا على الهدى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ أي المعطي المثبت للمؤمنين رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ بعد الموت لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ أي في يوم لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائنٌ لا محالة.
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ في البعث ويقال معناه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ في إجابة الدعاء يعني يوم يجمع الناس في الآخرة.(1/195)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود ويقال جميع الكفار لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ كثرة أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شيئا يعني من عذاب الله شَيْئاً في الدنيا إذا نزل بهم شدة أو مرض، ولا في الآخرة عند نزول العذاب. ويقال: كل ما لم ينفق في طاعة الله، فهو حسرة له يوم القيامة. ويقال: إنما ذكر الأموال والأولاد، لأن أكثر الناس يدخلون النار، لأجل الأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في الآخرة، لكيلا يفني الناس أعمارهم، لأجل المال والولد، وإنما ذكر الله تعالى الكفار، لكي يعتبر بذلك المؤمنون ثم قال تعالى: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ أي حطب النار.
قرأ بعضهم وُقُودُ النار بضم الواو، يعني إيقاد النار كما قال في آية أخرى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] قالوا: معناه إذا أرادت النار أن تنطفئ، بدلهم الله جلوداً غيرها لتتقد النار كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يعني أن صنيع الكفار معك، كصنيع آل فرعون مع موسى.
وقال مقاتل: كأشباه آل فرعون بالتكذيب بالعذاب في الدنيا. ويقال: إهلاك الله إياهم بالقتل، كإهلاك آل فرعون بالغرق.
ويقال تعاونُهم وتظاهرهم فيما بينهم عليك، كتظاهُر آل فرعون على موسى وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل آل فرعون، مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا وعجائبنا ويقال بكتبي ورسلي كما كذبك قومك يا محمد فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي أهلكهم وعاقبهم بشركهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ للكافرين.
[سورة آل عمران (3) : آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)
قوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قال الضحاك: يعني كفار مكة لما ظهروا يوم أحد، فرحوا بذلك، فنزل قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة سَتُغْلَبُونَ بعد هذا وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وقال الكلبي نزلت في شأن بني قريظة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم المشركين يوم بدر، قالت اليهود هذا النبي الأمّي الذي بشرنا به موسى الذي نجده في التوراة، فأرادوا تصديقه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى له، فلما كان يوم أحد، ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما هو إياه، فقد تغيّرت صفته وحاله، فشكوا فيه ولم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة، فنقضوا(1/196)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
ذلك العهد، فأنزل الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وقال عكرمة عن عبد الله بن عباس أنه قال، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقَدِم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: «يا مَعْشَر اليَهُودِ، أَسْلِمَوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ الله بِمِثْلِ مَا أَصَابَ قُرَيْشاً» . قالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك. إنك قتلت نفراً من قريش كانوا أَغماراً لا يعرفون القتال فإنك لو قاتلنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ يعني تُهْزمون وتُقْهَرون وتُحْشرون بعد القتل إلى جهنم وَبِئْسَ الْمِهادُ يعني لبئس موضع القرار جهنم. قرأ حمزة والكسائي سَيُغْلبونَ وَيُحشرُون بالياء على معنى الخبر والباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
[سورة آل عمران (3) : آية 13]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
ثم قال: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ يعني عبرة فِي فِئَتَيْنِ أي جَمْعَيْن، يعني جَمْع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجمع كفار أهل مكة الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرأ نافع ترونهم على معنى المخاطبة، والباقون بالياء على معنى الخبر، وذكر عن الفراء أنه قال كان الكفار ثلاثة أمثال المسلمين، لأن المسلمين كانوا ثلاثمائة ونيفاً، وكان الكفار تسعمائة ونيّفاً. وقوله: مثليهم أي ثلاثة أمثالهم، والمعنى في ذلك عن طريق اللغة أن الإنسان إذا كان عنده ألف درهم يقول احتاج إلى مثليها، فإنه يحتاج إلى ثلاثة آلاف. وقال الزجاج: هذا القول لا يصح في اللغة، ولا في المعنى، ولكن المسلمين يرونهم مثليهم في العدد، لكي لا يجبنوا، لأنه أعلمهم أن المائة تغلب المائتين، فأراهم في رَأْيَ الْعَيْنِ أن المشركين مثليهم في العدد، لكي لا يجبنوا، وهذا كما قال في آية أخرى، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: 44] ، وذلك أن المشركين كانوا تسع مائة، فأرى الله المسلمين أنهم ستمائة، لكي لا يجبنوا، وأرى الكفار أن المسلمين أقل من ثلاثمائة، ثم ألقى مع ذلك في قلوبهم الرعب حتى انهزموا، فكان في ذلك دلالة من الدلالات، فمن قرأ بالتاء على معنى المخاطبة لليهود إن لكم آية وعلامة حيث رأيتم غلبة المسلمين على الكفار مع قلة المسلمين، وكثرة الكفار، فإن قيل: إن اليهود لم يكونوا حضوراً في ذلك الوقت، فكيف يرون ذلك؟ قيل له: إذا انتشر الخبر فهموا، وعلموا ذلك صار كالمعاينة، ولأن لهم جواسيس عند المسلمين يخبرون اليهود بذلك، فصار كأن كلهم رأى ذلك، ومن قرأ بالياء معناه أن المسلمين يرون الكفار مثليهم.(1/197)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
ويقال إن المشركين حين خرجوا من مكة، كانوا ألفاً وثلاثمائة رجل، فلما وجدوا العير سالمة رجع مع العير ثلاثمائة وخمسون، وتخلف تسعمائة وخمسون للحرب، وكان أبو سفيان بن حرب في تلك العير، فرجع إلى مكة، وحثّهم على المسير، ولم يكن حاضراً وقت الحرب، وإنما قال الكلبي في كتابه: نزلت في جمع أبي سفيان وأصحابه، لأن أبا سفيان هو الذي حثهم على الخروج، ولم يخرج معهم ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أي يقوي بنصرته، وهم أهل بدر، فأرسل إليهم الملائكة، وهزم المشركين إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ يعني من ينصر الحق.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ حُسِّن وحُبِّب إليهم، وقد يكون التزيين من الله تعالى. كما قال في آية أخرى زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل: 4] كما قال في آية أخرى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] فأما التزيين من الله تعالى، فهو على وجهين: يكون على جهة الامتحان للمؤمنين مع العصمة، وقد يكون للكفار على جهة العقوبة مع الخذلان، وأما التزيين من الشيطان، فهو على جهة الوسوسة. فقال: زين للناس حب الشهوات مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ بدأ بالنساء، لأن فتنة النساء أشد من فتنة جميع الأشياء.
كما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تَرَكْتُ لأُمَّتِي فِتْنَةً أَشَدَّ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ» ، ولأن النساء فتنتهن ظاهرة من وقت آدم- عليه السلام- إلى يومنا هذا.
ويقال: في النساء فتنتان، وفي الأولاد فتنة واحدة: إحداهما أنها تؤدي إلى قطيعة الرحم، لأن المرأة تأمر زوجها بقطيعة الرحم عن الأمهات والأخوات. والثانية يبتلي بجمع المال من الحلال والحرام، وأما البنون، فإن الفتنة فيهم واحدة، وهي ما ابتلي به من جمع المال لأجلهم. فذكر البنين وأراد به الذكور والإناث.(1/198)
وقال بعض الحكماء: أولادنا فتنة إن عاشوا فتنونا، وإن ماتوا أحزنونا.
ثم قال تعالى وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ روي عن الفراء أنه قال: القناطير جمع قنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسع قناطير.
وروي عن أبي عبيدة أنه قال: المقنطرة مُفَعَّلة من الورق. كما يقال: ألف مؤلفة، وبذر مبذرة. ويقال: المقنطرة هي المكيلة، ثم اختلفوا في مقدار القنطار، فروي عن مجاهد أنه قال: القنطار سبعون ألف دينار. وقال أبو هريرة: القنطار اثني عشر ألف أوقية. وقال معاذ بن جبل: ألف ومائتا أوقية. وقال بعضهم: مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ من ذهب. حكاه الكلبي، وقال: هو لغة رومية.
وروي عن الحسن البصري أنه سئل عن القنطار ما هو؟ فقال: هو مثل دية أحدكم.
ثم قال تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ يعني الراعية كما قال في آية أخرى فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون. وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل.
وقال يحيى بن كثير: هي السمينة المصورة. وقال أبو عبيدة المُعْلَمة. وَالْأَنْعامِ يعني الإبل والبقر والغنم وَالْحَرْثِ يعني الزرع، ذكر أربعة أصناف كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس، أما الذهب والفضة، فيتمول به التجار، وأما الخيل المُسَوَّمة، فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام، فيتمول بها أهل البوادي وأما الحرث فيتمول به أهل الرساتيق، فيكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول به، وأما النساء والبنين فهي فتنة للجميع.
ثم زهد في ذلك كله، ورغب في الآخرة فقال تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي منفعة الحياة الدنيا تذهب، ولا تبقى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع في الآخرة الجنة، لا تزول. ولا تفنى. ثم بَيّن أن الذي وعد المؤمنين في الآخرة، خير مما زين للكفار فقال تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي من الذي زين للناس في الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والفواحش والكبائر. ويقال للذين اتقوا الزينة، فلا تشغلهم عن طاعة الله عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني البساتين تجري من تحت شجرها، ومساكنها الأنهار، فهو خير من الزينة الدنيوية وما فيها.
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَشِبْرٌ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . قال: خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين فيها أبداً وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ معناه في الخلق والخلق، فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يتمخطن، ولا يأتين الخلاء، وأما الخُلُق، فإنهن لا يَغِرْن ولا يحسدن، ولا ينظرن إلى غير أزواجهن وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أي مع هذه النعم لهم رضوان من الله، وهو من أعظم النعم كما قال في آية أخرى وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ(1/199)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
أَكْبَرُ
[التوبة: 72] قرأ عاصم في رواية أبي بكر وَرُضْوَان بضم الراء، والباقون بالكسر، وهما لغتان، وتفسيرهما واحد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي عالم بأعمالهم وثوابهم.
ثم وصفهم فقال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا أي صَدَّقْنَا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي: خطايانا التي كانت في الشرك وفي الإسلام وَقِنا عَذابَ النَّارِ يعني ادفع عنا عذاب النار الصَّابِرِينَ يعني الجنة التي ذكر للذين اتقوا الشرك، وللصابرين الذين يصبرون على طاعة الله، ويصبرون على المعاصي، ويصبرون على ما أصابهم من الشدة والمصيبة. وَالصَّادِقِينَ يعني الصادقين في إيمانهم، وفي قلوبهم، وفي وعدهم بينهم وبين الناس، وبينهم وبين الله تعالى. ثم قال: وَالْقانِتِينَ يعني المطيعين لله تعالى وَالْمُنْفِقِينَ
الذي يتصدقون من أموالهم فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يعني يصلون لله عند الأسحار. ويقال: يصلون لله بالليل، ويستغفرون عند السحر.
[سورة آل عمران (3) : آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني أن الله تعالى قَبْل أن يخلق الخلق شهد أن لا إله إلا هو وَالْمَلائِكَةُ ولما خلق الملائكة شهدوا بذلك، ثم لما خلق الله المؤمنين شهدوا بمثل ذلك وهم أُولُوا الْعِلْمِ يعني المؤمنين شهدوا بذلك قائِماً بِالْقِسْطِ يعني الله قائماً بالعَدْل على كل نفس. ويقال: من أقرّ بهذه الشهادة على عقد قلبه، فقد قام بالعدل. وقال مقاتل: سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا لرؤساء اليهود اتبعوا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
فقالت اليهود: ديننا أفضل من دينكم. فقال الله عز وجلّ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ يشهدون بذلك، وأولو العلم بالتوراة يشهدون بذلك، ويشهدون إن الله قائم بالقسط، أي بالعدل، وأن الدين عند الله الإسلام.
قال الكلبي: وفيه وجه آخر وذلك أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، قدم عليه حَبْران من أحبار الشام، فلما نظرا إلى المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا عليه قالا له: أنت محمد؟ قال: «نَعَمْ» . قالا:
وأنت أحمد؟ قال: «أَنا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ» . قالا: أَخْبِرْنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى، فنزلت هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ ... الخ. فأسلم الرجلان وصدَّقا أن الدين عند الله الإسلام.
وروي عن أبي عبيدة أنه قال: شَهِدَ الله يعني عَلِم الله وبيّن الله، فالله عز وجل دَلَّ على توحيده بجميع ما خلق، فبيّن أنه لا يقدر أحد أن ينشئ شيئاً واحداً مما أنشأ الله تعالى،(1/200)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
وشَهِدت الملائكة بما علمت من عظيم قدرته، وشهد أولو العلم بما ثبت عندهم، وتبين من خلقه الذي لا يقدر غيره عليه، وفي هذه الآية بيان فضل أهل العلم، لأنه ذكر شهادة نفسه، ثم ذكر شهادة الملائكة، ثم ذكر شهادة أهل العلم. ثم قال تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فشهد بمثل ما شهد من قبل، لتأكيد الكلام.
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، لكل حي من العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذه الآية، أصبحت تلك الأصنام كلها قد خرت ساجدة.
[سورة آل عمران (3) : آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
ثم قال عز وجل إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قرأ الكسائي إنَّ الدين بالنصب على معنى البناء يعني شهدوا أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام، والباقون بالكسر على معنى الابتداء، ومعناه إن الدين المرضيَّ عند الله الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في هذا الدين إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى، فلما بعث الله تعالى محمداً، كفروا حسداً منهم، هكذا قال مقاتل. ويقال: إنهم كانوا مسلمين، وكانا يسمّون بذلك، وكان عيسى- عليه السلام- سمى أصحابه مسلمين، فحسدتهم اليهود لمشاركتهم في الاسم فغيَّروا ذلك الاسم، وسُمُّوا يهوداً، وأما النصارى فغيرهم عن ذلك الاسم بولس، وسماهم نصارى، فذلك قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني غَيّروا الاسم حسداً منهم ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه قد جاء في آية أخرى وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: 77] وقوله: سَرِيعُ الْحِسابِ يعني سريع المجازاة ويقال سريع التعريف للعامل عمله، لأنه عالم بجميع ما عملوا، لا يحتاج إلى إثبات شيء، وتذكر شيء. ويقال: إذا حاسب، فحسابه سريع يحاسب جميع الخلق في وقت واحد، كل واحد منهم يظن أنه يحاسبه خاصة.
[سورة آل عمران (3) : آية 20]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
ثم قال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أي خاصموك وجادلوك في الدين فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي أخلصت ديني لله. وقال الزجاج: أن الله تعالى أمر نبيه أن يحتج على أهل الكتاب(1/201)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
والمشركين، بأنه اتبع أمر الله الذي هم أجمعون مقرون. أنه خالقهم ورازقهم، فأراهم الآيات والدلالات بأنه رسوله. وقوله: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي قصدت بعبادتي الله، وأقررت بأنه لا إله غيره وَكذلك مَنِ اتَّبَعَنِ وقال القتبي: معنى أسلمت وجهي لله، يعني أسلمت لله، والوجه زيادة كما قال: كل شىء هالك إلا وجهه، يعني إلا هو وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أُعْطُوا التَّوْرَاة والإنْجيل وَالْأُمِّيِّينَ يعني مشركي العرب أَأَسْلَمْتُمْ يعني أخلصتم بالتوحيد. ويقال: اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر، فكأنه يقول أَسْلِمُوا، كما قال في آية أخرى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ يعني انتهوا. وقال في آية أخرى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ [المائدة: 74] ، أي توبوا إلى الله. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا يعني أخلصوا بالتوحيد وأسلموا وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب، فقد اهتدوا من الضلالة وَإِنْ تَوَلَّوْا يقول إن أَبَوا أن يُسلموا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ بالرسالة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني بأعمالهم، ومعناه ليس عليك من عملهم شيء وإنما عليك التبليغ، وقد فَعلتَ ما أُمرت به.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني يجحدون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعني يتولون آباءهم بالقتل، ويرضون بذلك.
قرأ حمزة يقاتلون بألف من المقاتلة، والباقون بغير ألف، وقرأ نافع النبيئين بالهمزة.
وقرأ الباقون بغير همز وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ يعني بالعدل، وهم مؤمنو بني إسرائيل يأمرونهم بالمعروف، فكانوا يقتلونهم، فعَيَّرهم الله بذلك، وأوعدهم النار فقال:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي وجيع ويقال: أليم يعني مؤلم أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني بطل ثواب حسناتهم، فلا ثواب لهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانعين يمنعونهم من النار.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 24]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)(1/202)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني أعطوا حظا من علم التوراة قال مقاتل: نزلت في كعب بن الأشرف، وجماعة منهم حين قالوا نحن أَهْدَى سبيلاً، وما بعث الله رسولاً بعد موسى- عليه السلام- فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَقْولُ لَكُمْ حَقٌّ فأَخْرِجُوا التَّورَاةَ» ، فأَبَوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ وقال الكلبي: نزلت في يهوديين من أهل خيبر زنيا، وكان الحكم في كتابهم الرجم، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى عليهما بالرجم فقالوا: ليس هذا بحكم الله فدعا بالتوراة، ودعا بابن صوريا، وكان يسكن فَدَك، وكان أعور، فحلَّفه بالله، فأقرّ بالقصة، فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الآية. ثم قال: ذلِكَ أي ذلك الجزاء. قال مقاتل فيها تقديم وتأخير، ومعناه فبشرهم بعذاب أليم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ويقال: إنما جزاؤهم خلاف الكتاب، لأنهم قالوا لن تمسنا النار إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ يعني أربعين يوماً على عدد أيام عبادة العجل ويقال على عدد أيام الدنيا.
ويقال: إن مذهبهم كان مذهب جَهْم، لأنهم لا يرون الخلود في النار وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ عَفْوُ الله عنهم بتأخير العذاب مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يكذبون على الله، وهو قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 181] ، فذلك قولهم الذي غرهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 25]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
ثم خوفهم فقال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ فقال فكيف يصنعون وكيف يحتالون إذا جمعناهم؟ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ يعني يوم القيامة، لا شك فيه عند المؤمنين، بأنه كائن وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ أي وفيت وأُعْطِيَتْ كل نفس ثواب ما عملت وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيء.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)(1/203)
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في شأن المنافقين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين: إن محمداً يتمنى أن ينال ملك فارس والروم وأنَّى له ذلك؟ فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه، أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله بأن يدعو بهذا الدعاء، وهو قول مقاتل وقال بعضهم: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما أمر بحفر الخندق، فظهر في الخندق صخرة عجزوا عن حفرها، فأخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلم المعول، وضرب ضربة، فظهر من تلك الصخرة نور فقال له سلمان: رأيت شيئاً عجيباً. فقال له النبي: «هَلْ رَأَيْتَ ذلك» ؟
قال: نعم. فقال: رأيت في ذلك النور قصور أهل الشام، ثم ضرب ضربة أخرى، فظهر أيضاً كذلك. فقال: رأيت قصور أهل فارس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَظْهَرُ لأُمَّتِي مُلْكُ الشَّامِ، وَمُلْكُ فَارِسَ» . فقال المنافقون: إن محمداً لا يأمن على نفسه، واضطر إلى حفر الخندق، فكيف يتمنى ملك الشام وفارس، فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم إن مشركي مكة قالوا: إن فارس والروم يبيتان في الحرير والديباج، فلو كان هو نبياً، كيف ينام على الحصير؟ فنزلت هذه الآية قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وأصل اللهم في اللغة يا الله أمنا بخير، أي اقْصِدْنا بالرحمة، ولكن لما كثر استعمال هذا اللفظ في الناس صارت الكلمتان ككلمة واحدة. فقال: اللَّهُمَّ، يعني اللهم يا مالك الملك، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ يعني تؤتي محمدا صلى الله عليه وسلم ومن تبعه وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ من فارس والروم وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ يعني أهل الإسلام وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ يعني أهل الشرك والطغيان بِيَدِكَ الْخَيْرُ يعني النصرة والغنيمة والعز إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الذل والعز وقال الضحاك: تؤتي الملك من تشاء، يعني الإسلام، وتعز من تشاء بالإسلام، وتذل من تشاء بالشرك، بيدك الخير، يعني الهداية والسعادة، إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قدير.
وقال الزَّجَّاج: تؤتى الملك من تشاء، معناه تولي الملك من تشاء أن تؤتيه، وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه، إلا أنه حذف الهاء، لأن في الكلام دليلاً عليه. قال مقاتل: وقد قيل في الملك قولان: أحدهما هو المال والعبيد، والآخر من جهة الغلبة بالدين ثم قال تعالى تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يعني ما نقص من الليل دخل في النهار، حتى يبلغ خمسة عشرة ساعة هو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات، وهو أقصر ما يكون وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعني أن ما نقص من النهار دخل في الليل، حتى يصير الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات.
وهو قول الكلبي. ويقال: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي تذهب بالليل، وتجيء بالنهار، وتذهب بالنهار، وتجيء بالليل، هكذا إلى أن تقوم الساعة. ثم قال وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص المَيِّت بالتشديد، والباقون المَيْت بالتخفيف، وهما لغتان ومعناهما واحد.(1/204)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
قال الكلبي: يعني تخرج البيضة، وهي ميتة من الطير، وهو حي، وتخرج الطير الحي من البيضة الميتة، وتخرج النطفة، وهي ميتة من الإنسان الحي، وتخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وتخرج الحبة من السنبلة إلى آخره. وقال الحسن البصري: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. ويقال: يخرج الجاهل من العالم، ويخرج العالم من الجاهل. وروى معمر عن الزهري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة فقال: «مَنْ هذه؟» قالوا إحدى خالاتك. قال: «وَمَنْ هِيَ؟» قالوا هي خالدة بنت الأَسْوَد بن عَبْد يغوث. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ» ، وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً. ثم قال تعالى: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يعني من غير أن تحاسب في الإعطاء، فكأنه يقول: ليس فوقه من يحاسبه في الإعطاء. كما قال تعالى: لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] ويقال: من غير أن يحاسبه في الإعطاء. ويقال:
بغير تقتير. ويقال: بغير حساب كما قال وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحتسب.
[سورة آل عمران (3) : آية 28]
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
ثم قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في شأن المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من أهل النفاق، وكانوا قد أظهروا الإيمان، وكانوا يتولون اليهود في العون والنصرة، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم ظفر على محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وقال مقاتل: نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وغيره، ممن كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ، فهذا نهي بلفظ المغايبة، يعني لا يتخذونهم أولياء في العون والنصرة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ يعني ليس في ولاية الله من شيء. ويقال: ليس في دين الله مِن شيء، لأن ولي الكافر يكون راضياً بكفره، ومن كان راضياً بكفره، فهو كافر مثله كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] .
ثم استثنى لما علم أن بعض المسلمين، ربما يُبْتَلون في أيدي الكفار فقال تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً. قرأ يعقوب الحضرمي تقية، وقراءة العامة تقاة، ومعناهما واحد، يعني يرضيهم بلسانه، وقلبه مطمئن الإيمان، فلا إثم عليه كما قال الله تعالى في آية أخرى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] قرأ حمزة والكسائي تُقاةً بالإمالة. وقرأ الباقون بتفخيم الألف ثم قال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يعني يخوّفكم الله بعقوبته، أي الذي يتخذ الكافر وليّاً بغير ضرورة، وهذا وعيد لهم. ويقال: إذا كان الوعيد مبهماً، فهو أشد ثم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي مرجعكم في الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم.(1/205)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 29 الى 30]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ يقول: إن تسروا ما فى قلوبكم من النكوث، وولاية الكفار أَوْ تُبْدُوهُ يعني تعلنوه للمؤمنين يَعْلَمْهُ اللَّهُ لأن الله عليم وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من عمل، فليس يخفى عليه شيء وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من السر والعلانية، والعذاب والمغفرة قدير يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً يعني تجد ثوابه حاضراً، ولا ينقص من ثواب عمله شيء وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ يعني من شر في الدنيا تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً يعني تتمنى النفس أن تكون بينها، وبين ذلك العمل أجلاً بعيداً، كما بين المشرق والمغرب، ولم تعمل ذلك العمل قط ثم قال:
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي عقوبته في عمل السوء وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قال ابن عباس: يعني بالمؤمنين خاصة، وهو رحيم بهم.
ويقال: رؤوف بالذين يعملون السوء، حيث لم يعجل بعقوبتهم. ويقال: ذكر في أول هذه الآية عدله عز وجل في قوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وفي وسطها تخويف وتهديد وهو قوله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وفي آخرها ذكر رأفته ورحمته وهو قوله وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
ثم قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا كعب بن الأشرف وأصحابه إلى الإسلام، قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، يعني نحن في المنزلة بمنزلة الأبناء، ولنحن أشدّ حباً لله. فقال الله لنبيه: قل إن كنتم تحبون الله تعالى: فَاتَّبِعُونِي على ديني، فإني رسول الله أؤدي رسالته يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.
قال الزجاج: تحبون الله، أي تقصدون طاعته، فافعلوا ما أمركم الله عز وجل، لأن محبة الإنسان لله وللرسول طاعته له، ورضاه بما أمر، والمحبة من الله عفوه عنهم، وإنعامه عليهم برحمته. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ويقال: الحب من الله عصمته وتوفيقه، والحب من العباد طاعة كما قال القائل:(1/206)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
تَعْصي الإله وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّه ... هَذَا لَعَمْرِي في القِيَاسِ بديعُ
لَوْ كَانَ حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
فلما نزلت هذه الآية قالوا: إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً، كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فنزلت هذه الآية: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فقرن طاعته بطاعة رسوله رغماً لهم، ويقال: أطيعوا الله فيما أنزل، والرسول فيما بَيّن فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني إن أعرضوا عن طاعتهما فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي لا يغفر لهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 33]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ يعني اختاره ويقال: اختار دينه، وهو دين الإسلام.
ويقال: قد اختاره لخمسة أشياء: أولها أنه خلقه بأحسن صورة بقدرته. والثاني أنه علّمه الأسماء كلها. والثالث أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له. والرابع أسكنه الجنة. والخامس جعله أباً للبشر، واختار نوحاً- عليه السلام- بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أباً للبشر، لأن الناس كلهم غرقوا، فصارت ذريته هم الباقين. والثاني أنه أطال عمره. ويقال: طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمرهُ، وحَسُن عَمَلُهُ. والثالث أنه استجاب دعاءه على الكفار والمؤمنين. والرابع أنه حمله على السفينة. والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يحرم تزوج الخالات والأخوات والعمات، واختار آل إبراهيم- عليه السلام- بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أبا الأنبياء، لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمان النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثاني أنه اتخذه خليلاً، والثالث أنه أنجاه من النار والرابع أنه جعله للناس إماماً، والخامس أنه ابتلاه الله بخمس كلمات، بكلمات، فوفقه حتى أتمَّهن ثم قال: وَآلَ عِمْرانَ قال مقاتل: يعني به أبا موسى وهارون. وقال الكلبي: هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان النبي- عليه السلام- فإنه أراد به آل موسى وهارون، إنما كان اختارهما على العالمين، حيث بعث على قومه المن والسلوى، ولم يكن ذلك لأحد من الأنبياء في العالم، وإن أراد به أبا مريم، فإنه اصطفى آله، يعني مريم بولادة عيسى- عليه السلام- بغير أب، ولم يكن ذلك لأحد في العالم. وقال الكلبي: يعني اختار هؤلاء الذين ذكروا في هذه الآية عَلَى الْعالَمِينَ يعني عالمي زمانهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 34 الى 37]
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)(1/207)
ثم قال تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي بعضهم على إثر بعض. ويقال: بعضهم على دين بعض. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عليم بهم وبدينهم. ويقال: قوله وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، انصرف إلى ما بعده، أي سميع بقول امرأة عمران إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وهي حنة أم مريم امرأة عمران بن ماثان، وذلك أنها لما حبلت، قالت: لئن نجَّانِي الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرَّراً، والمحرر من لا يعمل للدنيا، ولا يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة، ويلزم المحراب، فيعبد الله تعالى فيه، وهذا قول مقاتل.
وقال الكلبي: محرراً، أي خادماً لبيت المقدس، ولم يكن محرراً إلا الغلمان. فقال لها زوجها: إن كان الذي في بطنك أنثى، والأنثى عورة، فكيف تصنعين؟ فاهتمت بذلك وقالت:
يا رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ وأنت تعلم مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ السميع لدعائي العليم بنيتي، وما في بطني فَلَمَّا وَضَعَتْها أي ولدت فإذا هي أنثى قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى يعني ولدتها جارية وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، والله أعلم بما وَضَعْتُ، بجزم العين، وضم التاء، يعني أن المرأة قالت: والله أعلم بما وَضَعْتُ، والباقون بنصب العين وسكون التاء، فيكون هذا قول الله إنه يعلم بما وضعت تلك المرأة. ثم قال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى في الخدمة.
قال بعضهم: هذا قول الله لمحمد صلّى الله عليه وسلم، وليس الذكر كالأنثى يا محمد. وقال بعضهم:
هي كلمة المرأة، أنها قالت: وليس الذكر كالانثى في الخدمة. وقال مقاتل: فيها تقديم، فكأنه يقول: قالت رب إنى وضعتها أنثى، وليس الذكر كالأنثى، والله أعلم بما وضعت، ثم قالت:
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ يعني خادم الرب بلغتهم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ يعني أعصمها وأمنعها بك وَذُرِّيَّتَها إن كان لها ذرية مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ يعني الملعون. ويقال: المطرود من رحمة الله. ويقال: الرجيم بمعنى المرجوم كما قال: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] .
حدّثنا أبو الليث، قال: حدثنا الخليل بن أحمد القاضي. قال: حدثنا أبو العباس قال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مَوُلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَنْخَسُهُ حِينَ يُولَدُ،(1/208)
فَيَسْتَهِلُّ صَارِخَاً مِنْ الشَّيْطَانِ، إلاَّ مَرْيَمَ وَاْبْنَها عِيسَى عَلَيْهِما السَّلامُ» ، قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وقال الزجاج: معنى قوله إِذْ يعني إن الله اختار آل عمران، إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ: واصطفاهم، إذ قالت الملائكة. وقال أبو عبيدة: معناه قالت امرأة عمران، وقالت الملائكة و «إذ زيادة. وقال الأخفش: معناه واذكر إذ قالت امرأة عمران، واذكر إذ قالت الملائكة، وقال أهل اللغة: المحرر والعتيق في اللغة بمعنى واحد، ثم إن حنة لفتها في خرق، ثم وضعتها في بيت المقدس عند المحراب، فاجتمعت القراء، أي الزهاد فقال زكريا: أنا أحق بها، لأن خالتها عندي. فقال القُرّاء: إن هذه محررة، فلو تركت لخالتها، فكانت أمها أحق بها، ولكن نتساهم، فخرجوا إلى عين سلوان، فأَلْقَوْا أقلامهم في النهر. قال بعضهم: كانت أقلامهم من الشَّبَّة، فغابت أقلامهم في الماء، وبقي قلم زكريا على وجه الماء. وقال بعضهم كانت أقلامهم من قَصَب، فبقيت أقلامهم على وجه الماء، وغاب قلم زكريا في الماء. وقال بعضهم: أَلْقَوْا أَقلامهم في النهر، فسال الماء بأقلامهم إلا قلم زكريا، فإنه جرى من الجانب الأعلى، فعلموا أن الحق له، فضمّها إلى نفسه فذلك قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي تقبل منها نَذْرها وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وقال مجاهد غذاها غذاء حسناً، ورباها تربية حسنة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتشديد، أي كفلها الله إلى زكريا. وقرأ الباقون بالتخفيف، أي ضمها زكريا إلى نفسه، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية حفص زكريا بغير إعراب، وجزم الألف. وقرأ الباقون بالإعراب والمد، وهما لغتان معروفتان عند العرب، فمن قرأ كفلها بالتشديد، قرأ زكريا بنصب الألف، لأنه يصير مفعولاً، ومن قرأ كفلها بالتخفيف قرأ زكريا برفع الألف على معنى الفاعل.
وذكر في الخبر أن زكريا بنى لها محراباً في غرفة، وجعل باب الغرفة في وسط الحائط، لا يصعد إليها إلا بسلم، واستأجر ظئراً، فكان يغلق عليها الباب، وكان لا يدخل عليها أحد إلا زكريا حتى كبرت، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله، فتكون عند خالتها، وكانت خالتها امرأة زكريا. وهذا قول الكلبي.
وقال مقاتل: كانت أختها امرأة زكريا، وكانت إذا طهرت من حيضها، واغتسلت ردها إلى المحراب. وقال بعضهم: كانت لا تحيض، وكانت مطهرة من الحيض، وكان زكريا إذا دخل عليها في أيام الشتاء، رأى عندها فاكهة الصيف، وإذا دخل عليها في أيام الصيف، وجد عندها فاكهة الشتاء، وكانت الحكمة في ذلك أن لا يدخل في قلب زكريا شيء من الريبة، إذا رأى الفاكهة في غير أوانها، وعلم أنه لم يدخل عليها أحد من الآدميين، فذلك قوله تعالى:
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ويقال: المحراب في اللغة أشرف المجالس، وهو المكان العالي، وقد قيل: إن مساجدهم كانت تسمى المحاريب ف قالَ لها زكريا يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا يعني: من أين لك هذا؟ فإنه لا يدخل عليك أحد غيري(1/209)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
فَقالَتْ مريم هُوَ أي هذا الرزق مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من فضل الله إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ في غير حينه. ويقال: من حيث لا يحتسب.
[سورة آل عمران (3) : آية 38]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ يقول عند ذلك طمع في الولد، وكان آيساً من ذلك، وكان مفاتيح بيت القربان عند آبائه، وقد صار ذلك بيده، وكان يخشى أن يخرج من أهل بيته إذا مات. فقال عند ذلك: إن الله قادر على أن يأتيها برزق الشتاء في الصيف، وبرزق الصيف في الشتاء، فهو قادر أن يرزق لي الولد بعد الكبر فذلك قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي من عندك تقية مهذبة. ويقال:
مستوي الخلق. ويقال: مسلمة مطيعة. ويقال: تقية إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيب له.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 39 الى 40]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (40)
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ قرأ حمزة والكسائي بالياء، أي جبريل- عليه السلام- وإنما صار مذكراً على معنى الجنس، كما يقال: فلان ركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وقرأ الباقون، فنادته على معنى التأنيث، لأن اللفظ لفظ الجماعة، والمراد به أيضاً جبريل أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى قرأ حمزة وابن عامر: إن الله يبشرك، بكسر الألف، ومعناه: فنادته الملائكة. وقالوا له: إن الله يبشرك. وقرأ الباقون بالنصب، ومعناه:
فنادته الملائكة، بأن الله يبشرك بيحيى قال مقاتل: اشتق اسمه من اسم الله تعالى، والله تعالى حي، فسماه الله تعالى يحيى، ويقال: لأنه أحيا به رحم أمه. ويقال: لأنه حي به المجالس. ويقال غير ذلك بِيَحْيى، بأن الله يحييه، فيكون حياً عند الله أبداً، لأنه شهيد قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آل عمران: 169] ثم قال تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعني بعيسى- عليه السلام- وكان يحيى أول من صدق بعيسى عليهما السلام، وهو ابن ثلاث سنين، فشهد له أنه كلمة الله وروحه، فلما شهد بذلك يحيى، عجب بنو إسرائيل لصغره، فلما شهد سمع زكريا شهادته، فقام إلى عيسى، فضمه إليه، وهو في خرقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين. وقال بعضهم صدقه وهو في بطن أمه، كانت أم يحيى عند مريم، إذ سجد يحيى بالتحية لعيسى، وكل واحد منهما كان(1/210)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
في بطن أمه، وذلك قوله مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً يعني حكيماً وَحَصُوراً يعني لا يأتي النساء، وهو قول الكلبي. وقال سعيد بن جبير: السيد الذي يملك غضبه، والحصور الذي لا يأتي النساء.
وقال مقاتل: يعني لا ماء له، يعني أن يحيى لم يكن له ماء في الصلب. وقال بعضهم: هذا لا يصح، لأن العنة عيب بالرجال، والنبي لا يكن معيباً، ولكن معناه أنه كان مانعاً نفسه من الشهوات، لأن الذي يمنع نفسه من الشهوات مع قدرته، كانت فضيلته أكثر من الذي لا قدرة له، ثم قال تعالى: وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ يعني أن يحيى كان نبياً من الصالحين، فلما بشره جبريل بذلك قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ قال ذلك على وجه التعجب، لا على وجه الشك، قال لجبريل: رب أي يا سيِّدي من أين يكون لي غلام؟ يعني ولد، وهذا قول الكلبي.
وقال بعضهم قوله رب، يعني قال: يا الله على وجه الدعاء، يا رب من أين يكون لي ولد؟ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ قال القتبي: هذا من المقلوب، يعني بلغت الكبر. وقال الكلبي:
كان يوم بشر ابن تسعين سنة، وامرأته قريبة في السن منه. وقال الضحاك: كان ابن مائة وعشرين سنة، فذلك قوله، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي الهرم وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد قالَ كَذلِكَ قال بعضهم: تم الكلام عند قوله كذلك، يعني هكذا كما قلت: إنه قد بلغك الكبر، وامرأتك عاقر ثم قال تعالى: اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ وقال بعضهم: معناه. قال: كذلك يعني الله تعالى هكذا قال: إِنَّهُ يكون لك ولد، والله يفعل ما يشاء، إن شاء أعطاك الولد في حال الصغر، وإن شاء في حال الكبر.
[سورة آل عمران (3) : آية 41]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)
ثم قال تعالى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً يعني اجعل لي علامة حين حملت امرأتي أعرف قالَ آيَتُكَ يعني علامة الحبل أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ يعني أنك تصبح، فلا تطيق الكلام ثلاثة أيام إِلَّا رَمْزاً أي كلاماً خَفِيّاً. ويقال: الرمز بالشفتين والحاجبين، والإيماء باليد والرأس.
قال بعضهم: كان منع الكلام عقوبة له، لأنه بُشِّر بالولد، فسأل آية فحبس الله لسانه عن الناس ثلاثة أيام، ولم يحسبه عن ذكر الله، وعن الصلاة. وقال بعضهم: لم يكن عقوبة، ولكن كانت كرامة له، حين جعلت له علامة لظهور الحبل، ومعجزة له. وروى أسباط عن السدي أنه(1/211)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قال: لما بُشِّر بيحيى قال له الشيطان: إن النداء الذي سمعت بالبشارة من الشيطان، ولو كان من الله، لأوحى إليك، كما أوحى إلى سائر الأنبياء. فقال عند ذلك: اجْعَل لي آية، حتى أعلم أن هذه البشارة منك. قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ.
وقال في آية أخرى: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم: 10] ، يعني أنك مستوي الخَلْق، ولا علة بك، ثم أمره بذكر ربه، لأن لسانه لم يمنع عن ذكر الله تعالى فقال:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ يعني بالغداة والعَشِيِّ ويقال بالليل والنهار.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ يعني اختارك بالإسلام وَطَهَّرَكِ من الذنوب والفواحش. ويقال: من دم الحيض والنفاس وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يعني بولادة عيسى بغير أب.
وقال بعضهم: اصطفاك أي فضلك على نساء العالمين يعني عالمي زمانها يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ يعني أطيعي. ويقال: أطيلي القيام في الصلاة. وقال مجاهد: قامت في الصلاة حتى تورَّمَتْ قدماها، ونحل جسمها. ثم قال تعالى: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي مع المسلمين، يعني مع قراء بيت المقدس.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 51]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)(1/212)
قوله ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ يعني الذي ذكر في هذه الآية من قصة زكريا ومريم من أخبار الغيب، مما غاب عنك خبره، ولم تكن حاضراً، وفي الآية دليل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم، ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر عن ذلك، وصدقه أهل الكتاب بذلك، فذلك قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يعني لم تكن عندهم، وإنما تخبر عن الوحي. فقال: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ يعني يطرحون أقلامهم في النهر بالقرعة وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في أمر مريم إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ يعني جبريل- عليه السلام- وحده إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ قرأ نافع وعاصم وابن عامر يُبَشِّرُكِ بالتشديد في جميع القرآن.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتشديد في جميع القرآن إلا في حم، عسق ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ [الشورى: 23] بالتخفيف، وقرأ حمزة بالتخفيف إلا في قوله فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: 54] ووافقه الكسائي في بعضها، فمن قرأ بالتشديد، فهو من المباشرة، ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه يفرحك، وكانت قصة البشارة أن مريم لما طهرت من الحيض، ودخلت المغتسل كما قال في سورة مَرْيَمَ، إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
[مريم: 16] ، يعني أرادت أن تغتسل في جنب المشرفة، فلما دخلت المغتسل، رأت بشراً كهيئة الإنسان كما قال فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مريم: 17] ، فخافت مريم، ثم قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
[مريم: 18] ، لأن التقي يخاف الرحمن. فقال لها جبريل: قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم: 19] ، وذكرها هنا بلفظ آخر. ومعناه واحد قال: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران: 45] ، أي بولد بغير أب يصير مخلوقاً بكلمة من الله، وهو قوله كن فكان اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ويقال إنما سمي المسيح، لأنه يسيح في الأرض. ويقال:
المسيح بمعنى الماسح، كان يمسح وجه الأعمى فيبصر.
وقال الكلبي: المسيح الملك. ثم قال وَجِيهاً أي ذا جاه فِي الدُّنْيا وَله منزلة فِى الْآخِرَةِ وقال مقاتل: فيها تقديم يعني وجيهاً في الدنيا وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ في الآخرة عند ربه. وقال الكلبي: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا يعني في أهل الدنيا بالمنزلة، وَالْآخِرَةِ وَمِنَ(1/213)
الْمُقَرَّبِينَ
في جنة عدن وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي في حال صغره، وهو طفل في حجر أمه طفلاً وكهلاً، يعني إذا اجتمع عقله وكبر، فإن قيل: ما معنى قوله كهلاً؟ والكلام من الكهل لا يكون عجباً. قيل له: المراد منه كلام الحكمة والعبرة. ويقال: كهلاً بعد نزوله من السماء، وهو قول الكلبي وَمِنَ الصَّالِحِينَ مع آبائه في الجنة قالَتْ مريم رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ يعني من أين يكون لي ولد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وهو كناية عن الجماع ف قالَ جبريل كَذلِكِ يعني هكذا كما قلت إنه لم يمسسك بشر ولكن اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً يعني إذا أراد أن يخلق خلقا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فنفخ جبريل في جيبها، يعني في نفسها قال بعضهم: وقع نفخ جبريل في رحمها، فعلقت بذلك. وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل، لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة، وبعضه من الإنس، ولكن سبب ذلك إن الله تعالى لما خلق آدم- عليه السلام- وأخذ الميثاق من ذريته، فجعل بعضهم في أصلاب الآباء، وبعضهم في أرحام الأمهات، فإذا اجتمع الماءان صار ولداً، وإن الله تعالى جعل المَاءَيْن جميعاً في مريم، بعضه في رحمها، وبعضه في صلبها، فنفخ فيها جبريل لتهيج شهوتها، لأن المرأة ما لم تهج شهوتها، لا تحبل، فلما هاجت شهوتها بنفخة جبريل، وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها، فاختلط الماءان فعلقت بذلك، فذلك قوله: إِذا قَضى أَمْراً، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً سبحانه، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بغير أب، ثم قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قرأ نافع وعاصم وَيُعَلِّمُهُ بالياء يعني أن الله يعلمه، وقرأ الباقون بالنون، ومعناه أن الله يقول ونعلمه الْكِتابَ يعني كتب الأنبياء. وهذا قول الكلبي.
وقال مقاتل: يعني الخط والكتابة، فعلّمه الله بالوحي والإلهام وَالْحِكْمَةَ يعني الفقه وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعني يحفظ التوراة عن ظهر قلبه. وقال بعضهم: وهو عالم بالتوراة.
وقال بعضهم: ألهمه الله بعد ما كبر حتى تعلم في مدة يسيرة.
ثم قال: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ نصب رسولاً لمعنيين: أحدهما يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، والثاني ويكلم الناس ورسولاً. أي في حال رسالته إلى بني إسرائيل دليله أنه قال: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وذكر الزجاج- فالمعنى والله أعلم- ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم. ثم أخبر عن أداء رسالته بعد ما أوحى إليه في حال الكبر، حيث قال لقومه: أنى قد جئتكم بآية من ربكم، يعني علامة لنبوتي، ثم بيّن العلامة فقال: أَنِّي أَخْلُقُ أي أقدر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ ويقال: إن الناس سألوه عنه على وجه التعنت فقالوا له: اخلق لنا خفَّاشاً، واجعل فيه روحاً إن كنت صادقاً في مقالتك، فأخذ طيناً، وجعل منه خفاشاً، ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، فكأن تسوية الطين، والنفخ من عيسى- عليه السلام- والخلق من الله- عز وجل- كما أن النفخ من جبريل- عليه السلام- والخلق من الله- عَزَّ وَجَلَّ- ويقال: إنما طلبوا منه خلق خفاش، لأنه(1/214)
أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم، يطير بغير ريش، ويلد كما يلد الحيوان، ولا يبيض كما تبيض سائر الطيور، ويكون له ضرع يخرج منه لبن، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة، فلما أن رأوا ذلك منه ضحكوا. وقالوا: هذا سِحْر.
ثم قال تعالى: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ الأكمه الذي ولد أعمى فقالوا: إن لنا أطباء يفعلون مثل هذا، فذهبوا إلى جالينوس، وأخبروه بذلك فقال جالينوس: إذا ولد أعمى، لا يبصر بالعلاج، والأبرص إذا كان بحال إذا غرزت الإبرة فيه لا يخرج الدم منه لا يبرأ بالعلاج، فرجعوا إلى عيسى- عليه السلام- وجاءوا بالأكمه والأبرص، فمسح يده عليهما، فأبصر الأعمى، وبرأ الأبرص، فآمن به بعضهم، وجَحَد بعضهم. وقالوا: هذا سِحْر. ثم قال تعالى: وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فأَخْبَروا بذلك جالينوس. فقال: الميت لا يعيش، ولا يحيى بالعلاج، فإن كان هو يحيي الموتى، فهو نبي، وليس بطبيب، فطلبوا منه أن يحيي الموتى، فأحيا أربعة نفر، أحدهم عازر، وكان صديقاً له، فبلغه أنه مات، فذهب مع أصحابه، وقد دفن، وأتى عليه أيام، فدعا الله، فقام بإذن الله تعالى وَوَدَكُه يقطر، فعاش وَوُلد له. والثاني ابن العجوز، مَرّ به وهو يحمل على سرير، فدعا الله، فقام بإذن الله تعالى، ولبس ثيابه، وحمل السرير على عنقه، ورجع إلى أهله. والثالث ابنة من بنات العاشر ماتت، وأتى عليها ليلة، فدعا الله تعالى، فعاشت بعد ذلك، وولد لها. والرابع سام بن نوح، لأن القوم قالوا له: إنك تحيي من كان موته قريباً، فلعلهم لم يموتوا، وأصابتهم سكتة، فأحيي لنا سام بن نوح. فقال: دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهوا إلى قبره، فدعا الله تعالى، فأحياه وخرج من قبره قد شابت رأسه. فقال له عيسى: كيف شابت رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال: يا روح الله إنك لما دعوتني، سمعت صوتاً يقول أَجِبْ روحَ الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن ذلك الهول شابت رأسي، فسأله عن النَّزْع. فقال له: يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، ثم قال للقوم: صدقوه فإنه نبي الله، فآمن به بعضهم، وكذب به بعضهم. وقالوا: هذا ساحر، فأرنا آية نعلم أنك صادق، فأخبرنا بما نأكل في بيوتنا، وما نَدَّخر للغد، فأخبرهم. فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا، وادّخرت كذا وكذا، فذلك قوله عز وجل: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر.
ويقال إن الله بعث كل نبي إلى قومه، وأظهر لهم نوع ما كانوا يعرفونه، فكان في زمن موسى- عليه السلام- الغالب عليهم السحر، فبيَّن لهم من جنس ذلك، ليعرفوا أن ذلك ليس(1/215)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
بِسِحْر، وأنه من الله تعالى، وكان الغالب في زمن عيسى- عليه السلام- علم الطب، فجاءهم عيسى بما عجز الأطباء عنه، فعرف الأطباء أن ذلك ليس من الطب، وكان في زمن نبينا- عليه السلام- الفصاحة والشعر، فجاءهم بقرآن عجز الفصحاء والشعراء عن إتيان مثله.
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ يعني فيما صنع عيسى- عليه السلام- علامة لنبوته إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين أنه نبي، قرأ نافع: فيكون طائراً، وكذلك في سورة المائدة. وقرأ الباقون بغير ألف، ومعناهما واحد. ويقال: الطائر واحد، والطير جماعة. ثم قال: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومعناه جئتكم مصدقاً، يعني الكتاب الذي أنزل عليّ، وهو الإنجيل مُصَدِّقاً، أي موافقاً لما بين يدي من التوراة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ يعني أرخص لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مثل الشحوم، ولحوم الإبل، ولحم كل ذي ظفر، وأما الميت، ولحم الخنزير، فهو حرام أبداً. قوله: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني أني لم أحل لكم شيئاً بغير برهان، فحقيق عليكم اتباعي، لأني أتيتكم ببرهان، وأتيتكم بتحليل الطيبات فَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم ونهاكم وَأَطِيعُونِ فيما آمركم وأنهاكم، وأنصح لكم إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ هذا تكذيب لقول النصارى حيث قالوا: إن الله هو المسيح. وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فاعترف عيسى أنه عبد الله، وهو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ أي خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم، فاعبدوه، أي وحدوه ولا تشركوا به شيئا هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني هذا التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم، لا عوج فيه، وهو طريق الجنة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 53]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قال الكلبي: فلما عرف منهم الكفر بالله. ويقال: فلما سمع منهم كلمة الكفر. وقال الزجاج: أحس في اللغة علم، ووجد. ويقال هل أحسست الخبر؟ أي هل عرفته وعلمته؟.
وقال مقاتل: فلما رأى من بني إسرائيل الكفر. كقوله عز وجل: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم: 98] يعني هل ترى؟ ويقال: إنه لما علم عيسى أنهم أرادوا قتله قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ يقول: من أعواني مع الله؟ قال القتبي: إلى هاهنا بمعنى مع مثل قوله، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 2] ، أي مع أموالكم، كما يقال: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود.
فقال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ أي مع الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ قال الكلبي:(1/216)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
الحواريون هم أصفياء عيسى- عليه السلام- وكانوا اثني عشر رجلاً. وقال مقاتل: كانوا قَصَّارين، فمر بهم عيسى- عليه السلام- وقال: مَنْ أنصارى إِلَى الله؟ قالوا: نحن أنصار الله.
ويقال: إنه مر بهم، وهم يغسلون الثياب. فقال لهم: إيش تصنعون قالوا: نطهر الثياب.
فقال: ألا أدلكم بطهارة أنفع من هذا؟ قالوا: نعم. فقال: تَعَالَوْا حتى نطهرَ أنفسنا من الذنوب، فبايعوه. ويقال: إنهم كانوا صيادين، فمرَّ بهم. وقال: ألا أدلُّكم على اصطياد أنفعَ لكم من هذا؟ قالوا: نعم. فقال: تَعَالَوْا حتى نصطاد أنفسنا من شر إبليس، فبايعوه. وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: إنما سُمُّوا حواريين لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي وَحَوارِيَّ من أُمَّتِي» ، يعني به الخالص، فهذا يكون دليلاً لقول الكلبي: إنهم خواصه وأصفياؤه، ومعنى آخر نَحْنُ أَنْصَارُ الله، يعني أنصار دين الله آمَنَّا بِاللَّهِ أي صدقنا بتوحيد الله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يعني أشهدنا، على ذلك، فاشهد يا عيسى بأنا مسلمون ثم قالوا: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ من الإنجيل على عيسى وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي عيسى- عليه السلام- عَلَى دينه فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني اجعلنا مع من أسلم قبلنا، وشهدوا بوحدانيتك.
[سورة آل عمران (3) : آية 54]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
ثم قال تعالى حكاية عن كفار قومه: وَمَكَرُوا يعني أرادوا قتل عيسى- عليه السلام- وَمَكَرَ اللَّهُ تعالى، أي جازاهم جزاء المكر وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ لأن مكرهم جَوْرٌ ومكر الله عَدْل. قال الكلبي: وذلك أن اليهود اجتمعوا على قتل عيسى، فدخل عيسى- عليه السلام- البيت هارباً منهم، فرفعه جبريل من الكوَّة إلى السماء. كما قال في آية أخرى، وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 87، 253] فقال ملكهم لرجل خبيث يقال له يهوذا: ادخل عليه، فاقتله، فدخل الرجل الخوخة، فلم يجد هناك عيسى، وألقى الله عليه شبه عيسى- عليه السلام- فلما خرج رأوه على شبه عيسى، فأخذوه وقتلوه وصلبوه، ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى، فوقع بينهم قتال، فقتل بعضهم بعضاً، فلما خرجوا رأوه على بيت، فذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ قال الضحاك: وكانت القصة أن اليهود خذلهم الله تعالى لما أرادوا قتل عيسى- عليه السلام- اجتمع الحواريون في غرفة، وهم اثنا عشر رجلاً، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر إبليس جميع اليهود، فركب منهم أربعة آلاف رجل، فأحدقوا بالغرفة. فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج فَيُقْتَلُ وهو معي في الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا يا نبي الله، فألقى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوف، وناوله عكازه، فألقي عليه شبه عيسى- عليه السلام- فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، وأما المسيح، فكساه الله الريش، وألبسه النور،(1/217)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 57]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ ففي الآية تقديم وتأخير، ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء، ومتوفّيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال ويقال: إنه ينزل ويتزوج امرأة من العرب بعد ما يقتل الدجال، وتلد له ابنة، فتموت ابنته، ثم يموت هو بعد ما يعيش سنين، لأنه قد سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة، فاستجاب الله دعاه.
وروي عن أبي هريرة أنه جاء إلى الكتاب، وقال للمعلم: قل للصبيان حتى يسكتوا، فلما سكتوا قال لهم: أيها الصبيان من عاش منكم إلى وقت نزول عيسى- عليه السلام- فليقرئه مني السلام، وإني كنت أرجو أن لا أخرج من الدنيا حتى أراه هذا كناية عن قرب الساعة.
ثم قال: وَمُطَهِّرُكَ أي منجيك مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ على دينك فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحجة والغلبة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال: الذين اتبعوه هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنهم هم الذين صدّقوه.
ثم قال ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ يعني الذين اتبعوك، والذين كفروا كلهم مرجعهم إلي.
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يعني بين المؤمنين والكفار فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الدين، ثم أخبر عن حال الفريقين في الآخرة فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ في الدنيا بالقتل والجزية، وفي الآخرة بالنار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانع يمنعهم من عذاب الله وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال مقاتل هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلم «فَيوفيهم أجورهم» .
قرأ عاصم في رواية حفص، فيوفيهم بالياء، يعني يوفيهم أجورهم، وأما الباقون بالنون، يعني أن الله قال فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وهذا لفظ الملوك، إنهم يتكلمون بلفظ الجماعة، ويقولون: نحن نفعل كذا وكذا، ونكتب إلى فلان، ونأمر بكذا، فالله تعالى خاطب العرب بما يفهمون فيما بينهم كما قال في سائر المواضع إِنَّا أُرْسِلْنا [القمر: 19] إِنَّا أَنْزَلْنا [النساء: 105](1/218)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
وكذلك هاهنا قال: «فنوفيهم أجورهم» أي نعطيهم ثواب عملهم وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي لا يرضى دين الكافرين.
[سورة آل عمران (3) : آية 58]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ يقول هذه الآيات، وهذه القصص بينات في القرآن.
وأنزلنا عليك جبريل، ليقرأ عليك من الآيات يعني من البيان وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ يعني القرآن كله. وقال الكلبي: الذكر الحكيم الذي عند رب العالمين في درة بيضاء، وهو اللوح المحفوظ. ويقال هو القرآن، لأنه محكم ليس فيه تناقص، ولا يقدر أحد أن يأتي بمثله.
ويقال: هو الشرف كقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] .
[سورة آل عمران (3) : آية 59]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
ثم قال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ نزلت في وفد نجران، السيد والعاقب، والأسقف، وجماعة من علمائهم وأحبارهم، قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وناظروه في أمر عيسى- عليه السلام- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هُوَ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ» ، فقالوا: أرنا خلقاً من خلق الله تعالى بغير أب، وَكَانَ يُحيي الموتى، وكان فيه دليل على ما قلنا، وكانوا يقولون: إنه اتخذه ابناً، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم: «أسْلِمُوا» فقالوا: قد أسلمنا قبلك، فقال لهم: «كَذَبْتُمْ، إنَّمَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإسْلامِ ثَلاثٌ، أَكْلُ لَحْمِ الخَنْزِيرِ، وَعِبَادَةُ الصَّلِيبِ، وَقَوْلُكُمْ: لله وَلَدٌ» ، فقالوا له: من أبو عيسى؟ فنزل قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ يعني: شبه خلق عيسى عند الله كشبه خلق آدم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يعني: صوّره من غير أب ولا أم ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فكان بشراً بغير أب، كذلك عيسى كان بشراً بغير أب، وفي هذه الآية دليل علمي أن الشيء يشبه بالشيء، وإن كان بينهما فرق كبير، بعد أن يجتمعا في وصف واحد، كما أن هاهنا خلق آدم من تراب، ولم يخلق عيسى من تراب، وكان بينهما فرق من هذا الوجه، ولكن الشبه بينهما أنه خلقهما من غير أب، ولأن أصل خلقهما جميعاً كان من تراب، لأن آدم لم يخلق من نفس التراب، ولكنه جعل التراب طيناً، ثم جعله صلصالاً، ثم خلقه منه، فكذلك عيسى- عليه السلام- حوله من حال إلى حال، ثم خلقه بشراً من غير أب.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 60 الى 61]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)(1/219)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
ثم قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يعني خبر عيسى، كما أخبرتك وأنبأتك في القرآن فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين. ويقال: المثل الذي ذكر في عيسى، هُوَ الحق مِن رَّبّكَ، وهذا الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، والمراد منه جميع من اتبعه، ومعناه فلا تكونوا من الممترين، أي من المشركين، يعني أن مثله كمثل آدم- عليهما السلام- فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ وذلك أن النصارى لما أخبرهم بالمثل في حق عيسى- عليه السلام- قالوا ليس كما تقول، وهذا ليس بمثل، فنزلت هذه الآية فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ يعني خاصمك في أمر عيسى- عليه السلام- مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من البيان في أمره فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ أي نخرج أبناءنا وأبناءكم وَنخرج نِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ يعني نحن بأنفسنا، ويقال:
إخواننا ونجتمع في موضع ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نلتعن. وقال مقاتل: يعني نخلص في الدعاء.
ويقال: هي المبالغة في الدعاء والتضرع فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ فواعدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن يخرجوا للملاعنة، فجعلوا وقتاً للخروج، وتفرقوا على ذلك، ثم ندموا، فلما كان ذلك اليوم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأخذ بيد الحسن والحسين، وخرج معه علي بن أبي طالب، وفاطمة، فلما اجتمعوا في الموضع الذي واعدهم، طلب منهم الملاعنة، فقالوا نعوذ بالله، فقال لهم: «إِمَّا أَنْ تُلْعَنُوا، وَإِمَّا أَنْ تُسْلِمُوا، وَإِمَّا أَنْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ» ، فقبلوا الجزية، وصالحوه بأن يؤدوا كل سنة ألفي حلة، ألف حلة في المُحَرَّم، وألف حلة في رجب، وأَمَّرَ عليهم أبا عبيدة بن الجراح، ورجعوا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّهُمُ الْتَعَنُوا لَهَلَكُوا كُلُّهُمْ حَتَّى العَصَافِيرُ فِي سقوف الحيطان» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 66]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (66)
ثم قال الله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ يعني ما أُخْبِرُوا من أمر عيسى- عليه السلام- هو الخبر الحق يعني أنه كان عبد الله ورسوله. ويقال: هذا القرآن هو الحق وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ لا شريك له وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ العزيز في ملكه، الحكيم في أمره حكم(1/220)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
بخلق عيسى في بطن أمه من غير أب. فَإِنْ تَوَلَّوْا يقول: أَبَوْا، ولم يسْلموا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ يجازيهم بذلك، وهذه كلمة تهديد قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ يعني كلمة عدل بيننا وبينكم.. ويقال في قراءة عبد الله بن مسعود: إلى كلمة عدل بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ، يعني لا إله إِلاَّ الله، وهي كلمة الإخلاص ويقال إلى كلمة تسوي بيننا وبينكم، فتصير دماؤكم كدمائنا، وأموالكم كأموالنا أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ يعني ألا نُوَحِّد إِلا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من خلقه وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ لأنهم اتخذوا عيسى رباً مِن دُونِ الله.
ويقال: لا يطيع بعضنا بعضاً في المعصية. كما قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة التوبة: 31] أي أطاعوهم في المعصية. ويقال: لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا. كما قالت النصارى: إن الله ثالثُ ثلاثة فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني أبوا عن التوحيد فَقُولُوا لهم يا معشر المسلمين اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي مخلصون لله بالعبادة والتوحيد يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وذلك أن اليهود والنصارى كانوا اجتمعوا في بيت مدرسة اليهود، وكل فريق يقول كان إبراهيم منا، وكان على ديننا فنزل يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي لِمَ تخاصمون في دين إبراهيم وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد إبراهيم- عليه السلام- ولكن اليهودية والنصرانية إنما سميت بهذا الاسم بعد نزول التوراة والإنجيل. وقال الكلبي: نزلت في شأن النفر الذين كانوا بالحبشة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فهم جعفر الطيار وغيره. كما قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً أي أطاعوهم في المعصية، وكانت بينهم، وبين أحبار الحبشة مناظرة في ذلك الوقت، فنزلت هذه الآية.
وقال الزجاج: هذه الآية أبين الحجج على اليهود والنصارى، بأن التوراة والإنجيل أنزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب، وهو قوله: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ يقول: أليس لكم ذهن الإنسانية أن تنظروا فيما تقولون ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ يقول أنتم يا هؤلاء خاصمتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ في صفة محمد صلّى الله عليه وسلم- فتجدونه في كتبكم- فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يقول: ما ليس في كتابكم، وهو أمر إبراهيم- عليه السلام- اللَّهُ يَعْلَمُ أن إبراهيم كان على دين الإسلام وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك.
[سورة آل عمران (3) : آية 67]
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا يقول: لم يكن إبراهيم- عليه السلام- على دين(1/221)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
اليهودية ولا النصرانية وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً أي مخلصاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني ما كان أي لم يكن على دينهم. وقال الزجاج: الحنف في اللغة إقبال صدر القدمين إقبالاً لا رجوع فيها أبداً، فمعنى الحنيفية في الإسلام، الإقبال والميل إليه، والإقامة على ذلك.
[سورة آل عمران (3) : آية 68]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
ثم قال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ يقول: أحق الناس بدين إبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ واقتدوا به وآمنوا به وَهذَا النَّبِيُّ يعني هو على دينه ومنهاجه وَالَّذِينَ آمَنُوا هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم على دينه، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ في العَوْن والنُّصرة.
[سورة آل عمران (3) : آية 69]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني أرادت، وتمنت جماعة مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أي يصرفونكم عن دين الإسلام وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي وَبَالُ ذلك يرجع إلى أنفسهم. ويقال: وما يضلون إلا أنفسهم، أمثالهم كقوله عزّ وجلّ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة: 54] أي بعضكم بعضاً وَما يَشْعُرُونَ قال مقاتل: أي وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم.
وقال الكلبي: وما يشعرون أن الله يَدُلُّ نبيَّه- عليه السلام- على ضلالتهم أي يطلعه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 70 الى 71]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
ثم قال: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يقول لم تجحدون بالقرآن وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنه نبيّ الله، لأنهم كانوا يخبرون بأمره قبل مبعثه ويقال: بآيات الله، يعني بعجائبه ودلائله. ويقال: بآية الرجم ثم قال: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ يقول لِمَ تخلطون الكفر بالإيمان؟ لأنهم آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعني بعث محمد صلّى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه حق، وأنه في التوراة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)(1/222)
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ قال الكلبي: وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قَدِمَ المدينة، صلى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً، أو ثمانية عشر شهراً، فلما صرف الله نبيّه إلى الكعبة عند صلاة الظهر، وقد كان صلى صلاة الصبح إلى بيت المقدس، وصلّى صلاة الظهر والعصر إلى الكعبة. فقال رؤساء اليهود منهم:
كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وغيرهما للسفلة منهم، آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، صدقوه بالقبلة التي صلّى صلاة الصبح في أول النهار وآمنوا به، وإنه الحق، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعني اكفروا بالقبلة التي صلى إليها آخر النهار لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى قبلتكم ودينكم. وقال مقاتل: معناه أنهم جاءوا إلى محمد صلّى الله عليه وسلم أول النهار، ورجعوا من عنده، وقالوا للسفلة: هو حق فاتبعوه، ثم قالوا: حتى ننظر في التوراة، ثم رجعوا في آخر النهار. فقالوا:
قد نظرنا في التوراة، فليس هو إياه، يعنون أنه ليس بحق، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة، وأن يشككوا فيه فذلك قوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ يعني قالوا: لهم في أول النهار آمنوا به وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعني قالوا: في آخر النهار، واكفروا به لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي يشكون فيه فيرجعون.
ثم قال للسفلة: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه ولا تؤمنوا، أي لا تصدقوا، إلا لمن تبع دينكم، فإنه لن يؤتى أحد مثل ما أُوتيتُمْ من التوراة، والمَنّ والسَّلوى، ولا تخبروهم بأمر محمد صلّى الله عليه وسلم، فيحاجوكم عند ربكم، أي يخاصموكم، ويجعلوه حجة عليكم. فقالوا ذلك حسداً حيث كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم من غيرهم قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله، وهو قول مقاتل.
وقال الكلبي: بغير تقديم وتأخير، يقول: وَلا تُؤْمِنُوا، أي ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية، وصلى إلى قبلتكم، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ يقول: دين الله هو الإسلام.
أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يقول لن يعطى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام، والقرآن الذي فيه الحلال والحرام أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي: لن يخاصمكم اليهود عند ربكم يوم القيامة، ثم قال قُلْ يا محمد إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يعني النبوة، والكتاب والهدى، بيد الله، أي: بتوفيق الله، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني يوفق من يَشَآءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يقول: واسع الفضل عَلِيمٌ بمن يؤتيه الفضل يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ يعني بدينه يعطيه من يشاء من عباده وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي ذو المنّ العظيم، لمن اختصه بالإسلام.(1/223)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 76]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ قرأ أبو عمرو وحمزة يُؤَدِّهْ بجزم الهاء، وهي لغة لبعض العرب، واللغة المعروفة هي بإظهار الكسرة. قال مقاتل: يعني عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح إن الله تعالى ذكر أن أهل الكتاب فيهم أمانة، وفيهم خيانة وقال الضحاك: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يعني به عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقيّة من الذهب، فأداها إليه، فمدحه الله تعالى ويقال: إن نعت محمد صلّى الله عليه وسلم أمانة، فمن كتمه، دخل تحت قوله لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، ومن لم يكتمه دخل تحت قوله يُؤَدِّهِ، ثم قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وهو فنْخاص بن عازورا اليهودي، أودعه رجل ديناراً، فخانه. ويقال: يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، يعني النصارى كانوا أَلْيَنَ قُلوباً، يؤدون الأمانة، واليهود لا يؤدون الأمانة، فكانوا إذا أخذوا أمانات الناس، أو مال اليتامى، فكانوا يغتنمون ذلك، كما يفعل بعض أهل الإسلام إذا وقع في يده شيء من أموال المسلمين جعله كالغنيمة.
ثم قال تعالى: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أي ملحّا متقاضيا وذلِكَ يعني الاستحلال بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ يعني يقولون ليس علينا في مال العرب مأثم.
ويقال: من لم يكن على ديننا، فَمَالُه لنا حلال، بمنزلة مذهب الخوارج أنهم يستحلون مال من كان على خلاف مذهبهم وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهم يعلمون، لأنهم كانوا يقولون إن ذلك حلال في التوراة، فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون على الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الله أمرهم بأداء الأمانة، وأخذ على ذلك ميثاقهم، فهذا قوله تعالى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ أي بعهد الله الذي أخذ عليهم بأداء الأمانة، وهي نعت محمد صلّى الله عليه وسلم وَاتَّقى محارمه، هذا قول مقاتل وقال الكلبي: واتقى ظلم الناس فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ عن نقض العهد.(1/224)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 77 الى 78]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في شأن عبدان بن الأشوع، وامرئ القيس بن عابس، ادّعى أحدهما على صاحبه حقاً، فأراد المدَّعى عليه أن يحلف بالكذب، فنزلت هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في شأن رؤساء اليهود، كتموا نعت محمد صلّى الله عليه وسلم، لأجل منافع الدنيا. ويقال: إن جماعة من علماء اليهود، قَدِموا المدينة من الشام ليُسلموا، فلقيهم كَعْب بن الأشرف فقال لهم: تعلمون أنه نبي؟ قالوا: نعم. فقال لهم كعب: حَرَّمْتُمْ على أنفسكم خيراً كثيراً، لأني كنت أردت أن أَبْعث لكم الهدايا. فقالوا: حتى ننظر في ذلك، فنظروا ثم رجعوا. فقالوا: ليس هو الذي وجدنا صفته، فأخذ منهم إقرارهم وخطوطهم وأَيْمَانهم على ذلك، ثم بعث إلى كل واحد منهم ثمانية أذرع من الكرباس، وخمسة أصوع من الشعير، فنزل في شأنهم إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أي عرضا يسيراً أُولئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم في الآخرة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وقال الزجاج: قوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، يحتمل معنيين أحدهما إسماع كلام الله تعالى أولياءه، خصوصاً لهم، كما كلم موسى خصوصية له دون البشر، ويجوز أن يكون تأويله للغضب عليهم، كما يقال: فلان لا يكلم فلاناً، ولا ينظر إليه، أي هو غضبان عليه، وإن كان هو يكلمه بكلام السوء، فذلك معنى قوله لا يكلمهم، أي بكلام الرحمة وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالرحمة وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
ثم قال وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يعني طائفة من اليهود، وهذه اللام لزيادة تأكيد على تأكيد يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي يحرفون ألسنتهم بالكتاب، يعني بنعت محمد صلّى الله عليه وسلم ويغيرونه، ويقال: يغيرونه في التلاوة فيقرؤونه على خلاف ما في التوراة. ويقال: يحرفون تأويله على خلاف ما فيه لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أي من التوراة وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ أي من التوراة، بل هم كتبوا وهم تأوَّلوا وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ليس هو من عند الله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه كذب.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ أي التوراة والإنجيل وَالْحُكْمَ يعني الفهم(1/225)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
وَالنُّبُوَّةَ وهو عيسى ابن مريم- عليهما السلام- ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ ما جاز له أن يقول للناس: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ويقال: إن اليهودَ والنصارى اختلفوا فيما بينهم، فجاء الفريقان جميعاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال كل فريق: نحن أولى بإبراهيم- عليه السلام- فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ عَلَى الخَطَأ» فغضبوا. وقالوا: والله ما تريد إِلاَّ أَن نتخذك حَنَّاناً، أي معبوداً، فأنزل الله تعالى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ، يعني القرآن والحكم، يعني الحلال والحرام والنبوة، ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله وَلكِنْ يقول لهم كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي متعبدين ويقال كونوا علماء فقهاء.
قال الزجاج: الربانيون أرباب العلم، والبيان، أي كانوا علماء بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ أي كونوا عاملين بما كنتم تعلمون، لأن العالم إنما يقال له عالم إذا عمل بما علم، وإن لم يعمل بعلمه، فليس بعالم، لأن من ليس له من علمه منفعة، فهو والجاهل سواء ثم قال: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ يقول بما كنتم تقرؤون يعني كونوا علماء بذلك عاملين به. قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو «بما كنتم تَعْلَمُون» بنصب التاء والتخفيف، يعني يُعَلِّمكم الكتاب ودراستكم والباقون بضم التاء والتشديد يعني تُعَلِّمُون غيركم فإنما يأمركم بذلك وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً يعني عيسى وعُزَيراً والملائكة- صلوات الله عليهم-، ولو أمركم بذلك لَكَفَر، وتنزع النبوة منه أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ يعني بعبادة الملائكة بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون بالتوحيد لله. قرأ عاصم وحمزة وابن عامر: ولا يَأْمُرَ بنصب الراء ينصرف إلى قوله مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ، فيصير نصباً بأن، والباقون ولا يأمرُكم بضم الراء على معنى الابتداء.
[سورة آل عمران (3) : آية 81]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
ثم قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ يعني الميثاق حيث أخرجهم من صلب آدم- عليه السلام- وَأَخَذَ عليهم الميثاق العهد أن يبلغ الأول الآخر، وأن يصدق الآخر الأول، فذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ يعني إقرار النَّبِيِّين لَما آتَيْتُكُمْ قرأ حمزة لِمَا آتيتكم بكسر اللام والتخفيف، يعني بما آتيتكم، والباقون بنصب اللام، ومعناه فما آتيتكم يعني، أي كتاب آتيتكم لتؤمنوا به. وقرأ بعضهم بنصب اللام والتشديد، أي حين آتيتكم مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ يعني بيان الحلال والحرام. وقرأ نافع آتيناكم بلفظ الجماعة، وهو لفظ(1/226)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
الملوك، والباقون آتيتكم بلفظ الوحدان. ويقال: أخذ الميثاق بالوحي، فلم يبعث نبيّاً، إلا ذكر له محمداً صلّى الله عليه وسلم ونعته، وأخذ عليه ميثاقه أن يبينه لقومه، وأن يأخذ منهم ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم، ولا يكتمونه ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ يعني به أهل الكتاب، الذين كانوا في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلم مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ في التوحيد وبعض الشرائع، وذلك أن الله تعالى لما أخذ ميثاق الأنبياء، وأخذ الأنبياء الميثاق من قومهم بأن يبينوه، فلما قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلم المدينة، فكذبوه فذكرهم الله تعالى ما أتاهم به أنبياؤهم فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ يعني محمد صلّى الله عليه وسلم مصدق لما معكم من التوراة لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ يعني قال لهم في الميثاق: لتؤمنن به أي لتصدقنه إذا بُعث وَلَتَنْصُرُنَّهُ إذا خرج قالَ لهم أَأَقْرَرْتُمْ بتصديقه، يعني: هل أقررتم بما أخذ عليكم من الميثاق بتصديقه ونصره؟ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي يعني: هل قبلتم على ذلك عهدي الذي أخذت عليكم على إيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلم؟
قالُوا أَقْرَرْنا قالَ الله تعالى فَاشْهَدُوا بعضكم على بعض بأني قد أخذت عليكم العهد وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ على إقراركم.
قال الزجاج: قوله فاشهدوا، أي فاثبتوا، لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وشهادة الله للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآيات المعجزات. وقال القتبي: أصل الإصر الثقل، فسمي العهد إصراً، لأنه يمنع صاحبه عن مخالفة الأمر الذي أخذ عليه فثقل.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 82 الى 83]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قوله تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أي أعرض عن الإيمان، وعن البيان بعد ذلك الإقرار والعهد قوله: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الناقضون للعهد، ويقال: هم العاصون، وأصل الفسق الخروج من الطاعة كقوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف: 59] أي خرج عن طاعة ربه وقوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ قال الكلبي: وذلك أن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم. فقالوا: أينا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «كِلاَ الفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِ» فقالوا: ما نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزل قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ أي يطلبون، قرأ عاصم في رواية حفص يَبْغُونَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ كلاهما بالياء. وقرأ أبو عمرو يبغون بالياء، وإليه ترجعون بالتاء، وقرأ الباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة، فمن قرأ بالياء، يعني أفغير دين الله يطلبون من عندك، ومن قرأ بالتاء يعني أفغير دين الله تطلبون، وَلَهُ أَسْلَمَ، أي أخلص وخضع مَنْ فِي السَّماواتِ(1/227)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً.
قال الكلبي: أما أهل السموات، فأسلموا لله طائعين، وأما أهل الأرض، فمن ولد في الإسلام أسلم طوعاً، ومن أبى قُوتِل حتى دخل في الإسلام كرهاً، وما أفاء الله عليهم مما يسبون، فيجاء بهم في السلاسل، فيكرهون على الإسلام. وقال مجاهد: يسجد ظل المسلم ووجهه طائع، ويسجد ظل الكافر، وهو كاره. وقال مقاتل: وله أسلم من في السموات، يعني الملائكة والأرض، يعني المؤمنين طوعاً وكرهاً، يعني أهل الأديان يقولون الله ربكم وخالقكم، فذلك إسلامهم، وهم مشركون معنى قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم، لا يمتنع ممتنع من جبلة ما جبل عليها، ولا يقدر على تغيير ما خلق عليها طوعاً وكرهاً. ثم قال: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ كما خلقكم، أي كما بدأكم فلا تقدرون على الامتناع، كذلك يبعثكم كما بدأكم. قرأ عاصم في رواية حفص يرجعون، وقرأ الباقون بالتاء.
[سورة آل عمران (3) : آية 84]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
ثم قال: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأراد به أمته فقال: قل للمؤمنين إن لم يؤمن أهل الكتاب فقولوا أنتم آمنا بالله وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وقد ذكرناه في سورة البقرة.
[سورة آل عمران (3) : آية 85]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
قوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً قال الكلبي: نزلت في شأن مرثد بن أبي مرثد، وطُعْمَة بن أَبَيْرق، ومقيس بن صبابة، والحارث بن سُوَيد، وكانوا عشرة. وقال مقاتل: كانوا اثني عشر. وقال الضحاك: يعني لا يقبل من جميع الخلق من أهل الأديان ديناً غير دين الإسلام، ومن يتدين غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي من المغبونين، لأنه ترك منزله في الجنة، واختار منزله في النار.(1/228)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 91]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي بعد ما ظهر لهم العلامات وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فإن قيل في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه، لا يهديه الله، ومن كان ظالماً لا يهديه الله، وقد رأينا كثيراً من المرتدين، أسلموا وهداهم الله، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم. قيل له: لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم، ولا يُقْبِلُون إلى الإسلام، فأما إذا جاهدوا، وقصدوا الرجوع، وفقهم الله لذلك لقوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت: 69] وتأويل آخر: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ يقول: كيف يرشدهم إلى الجنة؟ كما قال في آية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [سورة النساء: 168، 169] ويقال: كيف يرحمهم الله وينجيهم من العقوبة؟ ويقال: كيف يغفر الله لهم؟ وقالت المعتزلة: كَيْفَ يَهْدِي الله؟ معناه: كيف يكونون مهتدين، لأنهم لا يرون الهداية، والاهتداء في الابتداء إلا على سبيل الجزاء، ويرون ذلك من كسب العبد. ثم قال: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ يعني أهل هذه الصفة التي ذكر أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
أي سخط الله. ويقال: الطرد والتبعيد من رحمة الله والخذلان.
ويقال: يلعنهم بالقول: وَالْمَلائِكَةِ يعني عليهم لعنة الله والملائكة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إذا لعن رجل رجلاً، فإن لم يكن أهلاً لذلك، رجعت اللعنة إلى الكفار، ويقال: من لم يكن على دينهم، يلعنهم في الدنيا، ومن كان على دينهم، يلعنهم في الآخرة. لقوله تعالى: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [سورة العنكبوت: 25] فذلك قوله تعالى:
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
ثم قال تعالى: خالِدِينَ فِيها يعني في اللعنة فيما توجبه اللعنة، وهو عذاب النار خالدين فيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لا يهون عليهم العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤجلون. ثم استثنى التوبة فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا يقول: من(1/229)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
بعد الكفر، وأصلحوا أعمالهم بالتوبة. ويقال: أصلحوا لمن أفسدوا من الناس فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لما كان منهم في الكفر رَّحِيمٌ بهم بعد التوبة. قال الكلبي ومقاتل لما نزلت هذه الآية، أي الرخصة بالتوبة، كتب أخو الحارث بن سُوَيْد، إلى الحارث: إن الله قد عرض عليكم التوبة، فرجع وتاب. وبلغ ذلك إلى أصحابه الذين بمكة، فقالوا: إن محمداً تتربص به ريب المنون. فقالوا: نقيم بمكة على الكفر، متى بدا لنا الرجعة رجعنا، فينزل فينا ما نزل في الحارث، فتقبل توبتنا فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي ثبتوا على كفرهم بقولهم: نقيم بمكة ما بدا لنا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ما أقاموا على الكفر.
قال الزجاج: كانوا كلما نزلت آية كفروا بها، فكان ذلك زيادة كفرهم. وقوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، أي توبتهم الأولى، وحبط أجر عملهم. ويقال: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، معناه أنهم لن يتوبوا. كما قال: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [سورة البقرة: 48] ، أي لا يشفع لها أحد، ثم قال تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ عن الإسلام، وهم الذين لم يتوبوا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال الكلبي: يعني وزن الأرض ذهباً.
وقال مقاتل: إن الكافر إذا عاين النار في الآخرة، يتمنى أن يكون له الأرض ذهباً، فيقدر على أن يفتدي به نفسه من العذاب، لافتدى به ولو افتدى به ما تقبل منه، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، ونظيرها في سورة المائدة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ [المائدة: 36] .
قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ الآية.
[سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه قال لن تنالوا ما عند الله من ثوابه في الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، أي حتى تخرجوا أموالكم طيبة بها أنفسكم. وقال مقاتل: يعني لن تنالوا التقوى، حتى تنفقوا مما تحبون من الصدقة، أي بعض ما تحبون من الأموال وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ يعني الصدقة وصلة الرحم فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي لا يخفى عليه، فيثيبكم عليه. ويقال: لن تنالوا البر حتى تستكملوا التقوى. ويقال:
لا تكونوا بارين، حتى تنفقوا مما تحبون، أي من الصدقة، أي بعض ما تحبون من الأموال.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يشتري أعدالاً من السُّكَّر، ويتصدق بها. فقيل له: هلا تصدقت بثمنه؟ فقال: لأنَّ السُّكَّر أَحبّ إِليَّ، فأردت أن أتصدق مما أحب.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه اشترى جارية جميلة، وكان يحبها، فمكثت عنده أياماً، ثم أعتقها وزوجها من رجل، فَوُلِد لها ولد، فكان يأخذ ولدها، ويضمّه إلى نفسه. ويقول:
أشم منك ريح أمك. فقيل له: قد رزقك الله من حلال، وأنت تحبها، فلم تركتها؟ فقال: ألم(1/230)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
تسمع هذه الآية: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ في مصحف مذهب، فلما انتهت إلى هذه الآية باعته، وتصدقت بثمنه.
[سورة آل عمران (3) : آية 93]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)
قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ قال في رواية الكلبي: خرج يعقوب إلى بيت المقدس، فلقيه ملك في الطريق، فظن يعقوب أنه لص، فعالجه، فغمز الملك رجل يعقوب، فهاج به عرق النساء، فنذر أن يحرم أحب الطعام إليه إن برأ من ذلك لما رأى فيه من الجهد. فلما برأ كان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها، فحرمها على نفسه. فقالت اليهود:
هذا التحريم من الله تعالى في التوراة، فنزل قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي كان حلالاً، إلا الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير ثم قال: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ وليس تحريمها في التوراة ثم قال لمحمد صلّى الله عليه وسلم: قُلْ لليهود فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها يعني اقرءوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأن تحريمها في التوراة، لأنهم كانوا يقولون: إن ذلك حرام من وقت نوح، وأنت وأصحابك تستحلونها. وقال الضحاك: إن يعقوب لما أصابه عرق النساء، أمره الأطباء أن يتجنب لحوم الإبل، فحرم على نفسه لحوم الإبل. فقالت اليهود: حرَّمْناها على أنفسنا، لأن يعقوب حرّمها على نفسه، فنزل تحريمها في التوراة، فنزلت الآية ويقال معناه كل طعام هو حلال لأمتك، مثل ما كان حلالاً لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، وبعضها حُرّم عليهم بذنوبهم. وقال الزجاج: هذه الآية أعظم دليل لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه أخبرهم بأنه ليس في كتابهم، وأمرهم بأن يأتوا بالتوراة، فأبوا وعرفوا أنه قال ذلك بالوحي.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 94 الى 95]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
ثم قال تعالى: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
يعني اختلق على الله الكذب مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
البيان في كتابهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
يعني يظلمون أنفسهم قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أن تحريمه ليس في التوراة. ويقال: قُلْ صَدَقَ الله، حين قال: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا [آل عمران: 67] فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مخلصا مستقيماً، وكلوا لحوم الإبل وألبانها، كما أكلها إبراهيم، ولا تحرموا على أنفسكم شيئاً بأهوائكم وَما كانَ إبراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني على دينهم.(1/231)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قال مقاتل يعني أول مسجد وضع للناس، أي للمؤمنين.
ويقال: أول موضع خلق، هو موضع الكعبة للناس، أي قبلة للناس لَلَّذِي بِبَكَّةَ قال الكلبي: إنما سمي بكة، لأن الناس يبك بعضهم بعضاً، أي يزدحم.
وقال الزجاج: بكة موضع البيت، وسائر ما حواليه مكة. وقال القتبي: بكة ومكة شيء واحد، والباء تبدل من الميم. كما يقال سمد رأسه وسبده إذا استأصله، أي قلع بأصله.
ويقال: بكة موضع المسجد، ومكة البلد حوله. ثم قال تعالى: مُبارَكاً أي فيها بركة ومغفرة للذنوب وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يعني قبلة لمن صلّى إليها، وذلك أن اليهود قالوا للمؤمنين: لم عمدتم إلى الحجارة تطوفون بها وتصلون إليها؟ وجعلوا يعظمون بيت المقدس، فنزلت هذه الآية.
وروى الكلبي إن آدم- عليه السلام- بنى البيت، فلما كان زمان الطوفان، رفع إلى السماء السادسة بحيال الكعبة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لم يدخلوه قط قبله. ويقال:
أنزل من السماء، وهو من ياقوتة حمراء، فلما كان زمان الطوفان، رفع إلى السماء الرابعة. ثم قال تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يعني علامات واضحات كالحجر الأسود والحطيم مَقامُ إِبْراهِيمَ.
وروي عن عبد الله بن عباس أنه كان يقرأ فيه آية بينة مقام إبراهيم. وقرأ غيره آيات بينات مقام إبراهيم، ومعناه من تلك الآيات مقام إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ يعني الحرم كانَ آمِناً يعني أن من دخل فيه، فإنه لا يهاج منه إذا وجب عليه القتل خارج الحرم وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص حِجُّ بكسر الحاء، والباقون بالنصب، وهما لغتان ومعناهما واحد. مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي بلاغاً والاستطاعة هي الزاد والراحلة وتخلية الطريق. ويقال: ولله على الناس فريضة حج البيت. ثم قال: وَمَنْ كَفَرَ يعني ومن لم يرَ الحج واجباً فقد كفر، فذلك قوله وَمَنْ كَفَرَ. فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يعني غني عمن حج، وعمن لم يحج.
قال الفقيه: حدّثني أبي قال: حدّثني أبو بكر المعلم قال: حدثنا أبو عمران الفارابي قال:
حدّثنا عبد الرحمن بن حبيب قال: حدثنا داود بن المحبر قال: حدّثنا عباد بن كثير عن عبد خير عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته: «أَيُّها النَّاسُ إنَّ الله تَعَالَى فَرَضَ(1/232)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
الحَجَّ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سَبِيلاً، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالِ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً أوْ مَجُوسِيّاً، إلاَّ أنْ يَكُونَ بهِ مَرَضٌ أوْ مَنْعٌ مِنْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، ألا لا نَصِيبَ لَهُ مِنْ شَفَاعَتِي، وَلا يَرِدُ حَوْضِي» .
وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «السَّبِيلُ الزَّادُ والرَّاحِلَةُ» . وكذلك روي عن ابن عباس. وقال مجاهد: مقام إبراهيم أثر قدميه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
ثم قال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني لم تكفرون بالحج والقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ من الجحود والكفر قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ يقول: لم تصرفون الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين الله الإسلام والحج تَبْغُونَها عِوَجاً أي تطلبونها تغيراً وزيناً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أن ذلك في التوراة وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من كتمان صفة محمد صلّى الله عليه وسلم ونعته. ويقال في اللغة ما كان ينتصب انتصاب العود والحائط يقال: عوج بالنصب، وما لم ينتصب مثل الأرض والكلام. ويقال:
عوج كما قال تعالى: لاَّ تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 107] وقال تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الكهف: 1، 2] .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 101]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً يقول طائفة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم رؤساء اليهود يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن، لأنهم كانوا يدعون إلى الكفر، واتباع مذهبهم، وكان يتبعهم بعض المنافقين، فنهى الله تعالى المؤمنين عن متابعتهم. ثم قال تعالى على وجه التعجب: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ يقول: كيف تجحدون بوحدانية الله تعالى وبمحمد صلّى الله عليه وسلم والقرآن؟ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ يقول: يُقْرَأُ عَليكم القرآن، وفيه دلائله وعجائبه، وَفِيكُمْ رَسُولُهُ يعني معكم محمد صلّى الله عليه وسلم.(1/233)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
قال الزَّجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم خاصة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فيهم، وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة، لأن آثاره وعلاماته، والقرآن الذي أتى به فينا فكأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فينا، وإن لم نشاهده. ثم قال عز وجل: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ يقول: يتمسك بدين الله فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول وفق وأرشد من الضلالة إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني الطريق الذي يسلك به إلى الجنة، وهو دين الإسلام.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 107]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ يقول: أطيعوا الله حق طاعته، وحق طاعته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر طرفة عين، وأن يذكر فلا ينسى طرفة عين، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] فنسخت هذه الآية. هكذا قال الكلبي والضحاك ومقاتل، وغيرهم من المفسرين: أن هذه الآية منسوخة.
وقال بعضهم: لا يجوز أن يقال هذه الآية منسوخة، لأنه لا يجوز أن يأمرهم بشيء لا يطيقونه، ولكن الجواب أن يقال عن هذا إنهم يطيقونه، ولكن تلحقهم مشقة شديدة، ولأن ذلك مجهود الطاقة، ولا يستطيعون الدوام عليه، والله تعالى لا يكلف عباده إلا دون ما يطيقون، فخفَّف عنهم بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ولم ينسخ آخر الآية أولها، وهو قوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعني اثبتوا على الإسلام، وكونوا بحال يلحقكم الموت، وأنتم على الإسلام وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً يقول: تمسَّكوا بدين الله وبالقرآن.(1/234)
ويقال: تمسكوا بسبيل السنة والهدى، وَلا تَفَرَّقُوا. يقول: ولا تختلفوا في الدين، كاختلاف اليهود والنصارى. ويقال: لا تختلفوا فيما بينكم بالعداوة والبغضاء ويقال وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً يعني: اطلبوا النصرة من الله لا من القبائل والعشيرة. ويقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً، يعني ما اشتبه عليكم، فردوه إلى كتاب الله كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] وقال بعض الحكماء: إن مثل من في الدنيا، كمثل من وقع في بئر، فيها من كل نوع من الآفات، فلا يمكنه أن يخرج منها والنجاة من آفاتها إلا بحبل وثيق، فكذلك الدنيا دار محنة، وفيها كل نوع من الآفات، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق، وهو كتاب الله تعالى.
ثم ذكَّرهُم نعمته فقال تعالى: اذْكُرُوا نعمتي واحفظوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الإسلام إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً في الجاهلية فَأَلَّفَ الله بَيْنَ قُلُوبِكُمْ يعني جمع بين قلوبكم بالإسلام تودُّداً فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً يقول: فصرتم بنعمة الإسلام إِخْواناً في الدين، وكل ما ذكر في القرآن أصبحتم، معناه صِرْتم، كقوله: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً [الكهف: 41] أي صار ماؤكم غوراً، وهذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، كان بينهم قتال قبل الإسلام بأربعين عاماً، حتى كادوا أن يتفانوا، فلما بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم بمكة آمن به الأوس والخزرج، وهم بالمدينة، ثم خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، قبل أن يهاجر منهم سبعون رجلاً، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومعه عمه العباس حتى أتى إلى العقبة إلى سبعين رجلاً من الأنصار فعاهدوه ثم رجعوا إلى المدينة، وهاجر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليهم بعد الحولين، فوقعت بين الأوس والخزرج أُلْفَةٌ، وزالت عنهم العداوة التي كانت بينهم في الجاهلية بالإسلام، وهذا كما ذكر في آية أخرى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63] .
وروي عن جابر بن عبد الله أن رجلين من الأنصار: أحدهما من الأوس، والآخر من الخزرج، تفاخرا فيما بينهما، واقتتلا، فاستعان كل واحد منهما بقومه، فاجتمعت الأوس والخزرج، وأخذوا السلاح، وخرجوا للحرب، فبلغ الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرج إليهم في ثلاثين من المهاجرين، وهو راكب على حمار له قال جابر: فما كان من طالع يومئذ أكرم إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا، فأومأ إلينا بيده، فكففنا، ووقف بيننا على حمار له فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ إلى قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. إلى قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ فَأَلْقوا السلاح وأطفؤوا الحرب التي كانت بينهم، وعاتق بعضهم بعضاً يبكون، فما رأيت الناس أكثر باكياً من يومئذ، فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية.(1/235)
ثم قال تعالى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ قال القتبي: أشفى على كذا إذا أشرف عليه شَفا حُفْرَةٍ، أي حرف حفرة، ومعناه وكنتم في الجاهلية على هلاك بالشرك من مات في الجاهلية كان في النار فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بعد ما كنتم على حرف من النار كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ يعني علاماته حيث كنتم أعداء في الجاهلية إخواناً في الإسلام لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا من الضلالة، وتعرفوا علامته بهذه النعمة وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ فهذه لام الأمر كقوله: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً [الكهف: 110] يعني لتكن منكم أمة.
قال الكلبي: يعني جماعة. وقال مقاتل: يعني عصبة وقال الزجاج ولتكونوا كلكم أمة واحدة تدعون إلى الخير ومن هاهنا لتخص المخاطبين من بين سائر الأجناس، وهي مؤكدة كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وقوله: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ يعني إلى الإسلام. ويقال: إلى جميع الخيرات وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ قال الكلبي: يعني باتباع محمد صلّى الله عليه وسلم وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني الجبت والطاغوت. ويقال: المنكر، يعني العمل الذي بخلاف الكتاب والسنة. ويقال: ما لا يصلح في العقل.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال إنما يجب النهي عن المنكر إذا فعل فعلاً يخرج عن الاختلاف، أي اختلاف العلماء. ويقال: إنما أمر بعض الناس بقوله، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ، ولم يأمر جميع الناس، لأن كل واحد من الناس لا يحسن الأمر بالمعروف، وإنما يجب على من يعلم. ويقال: إن الأمراء، يجب عليهم الأمر والنهي باليد، والعلماء باللسان، والعوام بالقلب، وهنا كما قال عليه الصلاة والسلام: «إذا رَأَى أَحَدٌ مُنْكَراً، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ» .
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: بحسب امرئ إذا رأى منكراً، لا يستطيع النكير أن يعلم الله من قلبه أنه كاره. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: أن الرجل إذا رأى منكراً، لا يستطيع النكير عليه، فليقل ثلاث مرات: اللهم إِنَّ هذا منكر، فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه.
ثم قال تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم الناجون. ويقال: فازوا بالنعيم. ثم قال: وَلا تَكُونُوا في الاختلاف كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وهم اليهود والنصارى وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ فافترقت اليهود فرقاً والنصارى فرقاً، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، ثم خوفهم فقال: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني دائم لا يرفع عنهم أبداً، يعني الذين اختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات، أي العلامات في أمر محمد صلّى الله عليه وسلم، وبيان الطريق.
ثم بَيَّن منازل الذين تفرقوا، والذين لم يتفرقوا فقال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم. ويقال: إن ذلك عند قوله تعالى: وَامْتازُوا(1/236)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ
[يس، 59] تكون وجوه المؤمنين مُبْيَضّة، ووجوه الكفار مُسْوَدَّة.
ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذا قرأ المؤمن كتابه، فرأى في كتابه حسناته، استبشر وابيضّ وجهه، وإذا قرأ المنافق والكافر كتابه، فرأى فيه سيئاته، اسودّ وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان، إذا رجحت حسناته ابيضّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسودّ وجهه. ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل قوم بأن يجتمعوا إلى معبودهم، فإذا انتهوا إليه حزنوا، واسودّت وجوههم، فيبقى المؤمنون، وأهل الكتاب والمنافقون، فيقول الله تعالى للمؤمنين: من ربكم؟
فيقولون: ربنا الله عزّ وجلّ. فيقول لهم: أتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: سبحانه إذا عرفنا، عرفناه فيرونه كما شاء الله، فيخر المؤمنون سجداً لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضاً، وبقي المنافقون وأهل الكتاب، لا يقدرون على السجود، فحزنوا واسودّت وجوههم، فذلك قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يعني يقال لهم: أكفرتم؟ ولكن حُذِفَ القول، لأن في الكلام دليلاً عليه بعد إيمانكم، يعني يوم الميثاق. قالوا: بَلَى، يعني المرتدين والمنافقين. ويقال هذا لليهود، وكانوا مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلم، قبل أن يُبْعث، فلما بُعث كفروا به. وقال أبو العالية: هذا للمنافقين خاصة.
يقول: أكفرتم في السرّ بعد إيمانكم، أي مع إقراركم في العلانية فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن. حدثنا الخليل بن أحمد. قال:
حدّثنا عباد بن الوليد قال: حدّثنا محمد بن عباد البنائي قال: حدّثنا حميد بن الخياط قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فقال: حدّثنا أبو أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّهُمُ الخَوَارِجُ» وسألته عن قوله: لاَ تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118] قال: إنهم الخوارج قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي في جنة الله قال الزجاج: يعني في الجنة التي صاروا إليها برحمة الله تعالى، لأن الجنة تُنَالُ برحمته، ولا تُنَال بالجهد، وإن اجتهد المجتهد، لأن نعمة الله تعالى لا يكافئها عمل، ففي رحمة الله أي في ثواب الله وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعني القرآن نَتْلُوها عَلَيْكَ يعني ننزل جبريل فيقرأ عليك بِالْحَقِّ أي بالصدق. وقال الزجاج: تلك آيات الله أي تلك التي جرى ذكرها، حجج الله وعلاماته نَتْلُوها عَلَيْكَ، أي نعرّفك إياها وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ يعني لا يعذبهم بغير ذنب وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قال بعضهم: هذا معطوف على الأول، كأنه يقول: وَمَا اللَّهُ(1/237)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ
لأنهم كلهم عبيده ومخلوقه ومرزوقه، فلا يريد ظلمهم. وقال بعضهم:
هذا ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السَّموات وَمَا فِي الارض لَهُ، حتى يسألوه ويعبدوه، ولا يعبدوا غيره. ثم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يقول: تصير أمور العباد إلى الله في الآخرة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 111]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال الكلبي: أخبر الله تعالى أن خير الدين عند الله دين أهل الإسلام، ووصفهم بالوفاء فقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... يقول: كنتم خير أهل دين كان الناس لا يظلمون من خالطهم منهم، أو من غيرهم، فجعلهم الله خير الناس للناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويقال: خير أمة أُخْرِجَت للناس، تأمرون بالمعروف، فتقاتلون الكفار ليسلموا، فترجع منفعتهم إلى غيرهم.
كما قال صلّى الله عليه وسلم: «خيرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاس» . ويقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ يعني: كنتم عند الله في اللوح المحفوظ. ويقال: كنتم مذ أنتم خير أُمَّة. ويقال: هذا الخطاب لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، يعني أنتم خير الأمة. كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خير القرون أصحابي، ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ثُمَّ وَصَفَهُمْ، فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتوحيد والإسلام. وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي تصدقون بتوحيد الله، وتثبتون على ذلك. وقال الزجاج:
تؤمنون بالله، معناه تقرون أن محمدا صلّى الله عليه وسلم نبيّ الله، لأن من كفر بمحمد صلّى الله عليه وسلم لم يوحد الله، لأنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها من ذات نفسه.
ثم قال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ وهم اليهود والنصارى لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من الإقامة على دينهم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وهم مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه، ومن آمن من اليهود والنصارى وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ وهم كعب بن الأشرف وأصحابه، والذين لم يؤمنوا منهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً يعني باللسان بالسب وغيره، وليس لهم قوة القتال وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يعني إن أعانوكم في القتال، فلا منفعة لكم منهم لأنهم يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ وينهزمون ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ يقول لا يُمْنَعون من الهزيمة، فكأنه يحكي ضعفهم عن القتال.
يقول: لو كانوا عليكم لا يضرونكم، ولو كانوا معكم لا ينفعونكم، وهذا حالهم إلى يوم القيامة وَهُمْ اليهود ليس لهم شوكة، ولا قوة القتال في موضع من المواضع. ويقال: وَإِنْ(1/238)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ
يعني إن خرجوا إلى قتالكم، وأرادوا قتالكم يولون الأدبار، أي ينهزمون منكم. ويقال: يُوَلُّوكم الأَدْبَار، يعني منهزمين، ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ يقول: لا يُمْنَعون منكم، وهو قول الكلبي.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 112 الى 115]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
ثم قال ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ يقول جُعِلَتْ عليهم الجزية ويقال أَلْزِم عليهم القتال أَيْنَما ثُقِفُوا أي وُجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أي بعهد من الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يعني تحت قوم يؤدون إليهم الجزية، فإن لم يكن لهم عهد قتلوا وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يقول:
استوجبوا الغضب من الله تعالى. ويقال: رجعوا بغضب من الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ يعني جعل عليهم زي الفقر.
قال الكلبي: فترى الرجل منهم غنياً، وعليه من البؤس والفقر والمسكنة. ويقال: إنهم يظهرون من أنفسهم الفقر، لكيلا تضاعف عليهم الجزية ذلِكَ الذي يصيبهم بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ومحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعني رضوا بما فعل آباؤهم، فكأنهم قتلوهم ذلِكَ الغضب بِما عَصَوْا الله وَكانُوا يَعْتَدُونَ بأفعالهم كلما ذكر الله عقوبة قوم في كتابه بيّن المعنى الذي يعاقبهم لذلك، لكيلا يظن أحد أنه عذَّبهم بغير جُرْم. ثم بيَّن فضيلة من آمن من أهل الكتاب على من لم يؤمن فقال تعالى: لَيْسُوا سَواءً قال بعضهم: هذا معطوف على الأول منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون، ليسوا سواء في الثواب، فيكون هاهنا وقف. وقال بعضهم: هذا ابتداء، ويكون فيه مضمر، فكأنه يقول: ليس من آمن منهم ويتلون آيات الله كمن هو كافر. كقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: 9] معناه: ليس كالذي هو من أهل النار، فكذلك هاهنا قال: ليس من آمن مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ كمن لم يؤمن، فبين الذين آمنوا فقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يعني مُهَذَّبة عاملة بكتاب الله تعالى. ويقال: مستقيمة.(1/239)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
وروى الزجاج عن الأخفش قال: ذو أمة قائمة، يعني ذو طريقة قائمة يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن في الصلاة آناءَ اللَّيْلِ يعني في ساعات الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يصلون لله.
قوله: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني يقرون بالله وبمحمد صلّى الله عليه وسلم وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي باتباعه وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى الطاعات، والأعمال الصالحة وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم في الجنة. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ يعني لن تجحدوه ولن تنسوه يقول تجزون به، وتثابون عليه في الآخرة، وهذا كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «البرُّ لا يَبْلَى وَالإثْمُ لا يُنْسَى» .
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي عليم بثوابهم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، ومن كان بمثل حالهم. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ كلاهما بالياء، والباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ قال مقاتل: ذكر قبل هذا مؤمني أهل الكتاب، ثم ذكر كفار أهل الكتاب، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...
وأما الكلبي فقال: هذا ابتداء إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ كثرة أَمْوالُهُمْ وَلا كثرة أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى، وجميع الكفار، وكل من خالف دين الإسلام، وذلك أنهم تفاخروا بالأموال والأولاد وَقَالُواْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا، وَمَا نَحْنُ بمعذَّبين، فأخبر الله تعالى أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من عذاب الله شيئا وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
َلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
قال الكلبي: يعني ما ينفقون في غير طاعة الله مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
أي برد شديدصابَتْ
الريح الباردةرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بمنع حق الله تعالى منه أَهْلَكَتْهُ
يقول: أحرقته، فلم ينتفعوا منه بشيء، فكذلك نفقة من أنفق في غير طاعة الله، لا تنفعه في الآخرة، كما لا ينفع هذا الزرع في الدنيا. وقال مقاتل:
يعني نفقة السفلة على رؤساء اليهود. وقال الضحاك: مثل نفقة الكفار من أموالهم في أعيادهم(1/240)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
وعلى أضيافهم وما يعطي بعضهم بعضا على الضلالةمَثَلِ رِيحٍ
الآية، ثم قال ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
يعني أصحاب الزرع هم ظلموا أنفسهم بمنع حق الله تعالى، فكذلك الكفار أبطلوا ثواب أعمالهم بالشرك بالله تعالى.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 119]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ يعني خلّة وصداقة من غير أهل دينكم، وإنما سميت بطانةً لقربها من البدن مِنْ دُونِكُمْ، أي من دون المؤمنين نزلت الآية في شأن جماعة من الأنصار، كانت بينهم وبين اليهود مواصلة وخاصية، وكانوا على ذلك بعد الإسلام، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك. ويقال: كل من كان على خلاف مذهبه ودينه لا ينبغي له أن يحادثه، لأنه يقال في المثل:
عن المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قرينه ... فَإِنَّ القَرِينَ بالمقارن يَقْتَدِي
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» . وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بأخدانهم. ثم بيّن الله المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال تعالى: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي فساداً، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم لا يتركون- وإن لم يقاتلوكم في الظاهر- فإنهم لا يتركون جهدهم في المكر والخديعة وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ما أَثِمْتُم بربكم. وقال الزّجاج: الخَبَالُ في اللغة ذِهَابُ الشيء، والعَنَتُ في الأصل المشقة. وقال القتبي: الخَبَال الفساد. وقال أيضاً: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ، أي ما أعنتكم وهو ما نزل بكم من مكروه.
ثم قال: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ أي ظهرت العداوة والتكذيب لكم مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ أي والذي في صدورهم من العداوة أكثر مما أظهروا بأفواههم. ويقال: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، أي قصدهم قتل محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يضمرون ذلك قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ يعني أخبرناكم بما أخفوا، وبما أبدوا بالدلالات والعلامات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتصدقون ها أَنْتُمْ أُولاءِ يعني ها أنتم يا هؤلاء تُحِبُّونَهُمْ لمظاهرتكم إياهم وَلا يُحِبُّونَكُمْ لأنهم ليسوا على دينكم.(1/241)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
وقال الضحاك: معناه كيف تحبون الكفار وهم لا يحبونكم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يعني بالتوراة والإنجيل وسائر الكتب، ولا يؤمنون بذلك كله، وقد فضلكم الله عليهم بذلك، لأنهم لا يؤمنون إلا بكتابهم وَإِذا لَقُوكُمْ يعني المنافقين منهم قالُوا آمَنَّا بمحمد صلّى الله عليه وسلم إنه رسول الله وَإِذا خَلَوْا فيما بينهم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ يعني أطراف الأصابع مِنَ الْغَيْظِ والحنق عليكم فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هؤلاء قد ظهروا وكثروا. قال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: قُلْ لهم يا محمد مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ يقول موتوا بحنقكم على وجه الدعاء، والطرد واللعن، لا على وجه الأمر والإيجاب، لأنه لو كان على وجه الإيجاب، لماتوا من ساعتهم. كما قال في موضع آخر: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة: 243] ، فماتوا من ساعتهم، فهاهنا لم يرد به الإيجاب.
وقال الضحاك: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، يعني أنكم تخرجون من الدنيا بهذه الحسرة، والغيظ يعني اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الخبر، يعني أنكم تموتون بغيظكم ثم قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني بما في قلوبكم من العداوة للمؤمنين، إن الله يجازيكم بذلك.
[سورة آل عمران (3) : آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
ثم قال للمؤمنين: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ يعني الظفر والغنيمة، كما أصابكم يوم بدر تَسُؤْهُمْ أي يسوؤهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يعني الهزيمة، كما أصابكم يوم أحد، ويقال:
الشدة في العيش والقحط يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذى المنافقين واليهود وَتَتَّقُوا المعصية والشرك. وهذا قول الكلبي.
وقال مقاتل وَإِنْ تَصْبِرُوا على أمر الله وَتَتَّقُوا معاصيه. لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً يقول: لا تضركم عداوتهم شيئاً. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: لاَ يَضِرْكُمْ بكسر الضاد وجزم الراء، وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء، ومعناهما قريب في التفسير، يعني لا ضير عليكم من كيدهم إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يعني أحاط علمه بأعمالهم، والإحاطة هي إدراك الشيء بكماله.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)(1/242)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ يعني خرجت من منزلك بالصباح. ويقال: من عند أهلك، وهي عائشة رضي الله عنه تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ يعني تهيء للمؤمنين مَقاعِدَ لِلْقِتالِ يعني مواضع للحرب. قال الكلبي: هو يوم أحد. وقال مقاتل: هو يوم الخندق وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائك عَلِيمٌ بأمر الكفار إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ يعني أرادت وأضمرت طائفتان من المسلمين. وهما: حيا بني حارثة، وبني سلمة من الأنصار أَنْ تَفْشَلا يعني أن تَجْبُنَا عن القتال مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم وترجعا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي ناصرهما وحافظهما حيث لم يرجعا، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خرج من المدينة يوم أُحد، ومعه ألف رجل، فرجع عبد الله بن أبي ابن سلول مع ثلاثمائة من المنافقين، ومن تابعهم، فدخل الفشل في قبيلتين من الأنصار، وهم المؤمنون، فأرادوا أن يرجعوا، فحفظ الله تعالى قلوبهم، فلم يرجعوا، فذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي حافظ قلوبهما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله وهذه كلها مِنَنٌ ذكرها الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلم، ليعرف ويشكر الله تعالى، ويصبر على ما يصيبه من الأذى.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 125]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
ثم ذكَّرهم أمر بَدْر فقال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ أي أعانكم الله ببدر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ يعني قليلة، فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني: اعرفوا هذه النعمة، واتقوا الله ولا تعصوه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا الله. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني يوم أُحد أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ من السماء. يقول الله تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا مع نبيّكم، وَتَتَّقُوا معصيته بالهزيمة وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يعني العدو، يأتوكم من وجوههم يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ يعني مُعلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيل، وفي أذنابها عليهم البياض، قد أَرْخَوْا أطراف العمائم بين أكتفهم فأنزل الله تعالى عليهم يوم بدر ثلاثة آلاف، ووعد لهم يوم أُحد خمسة آلاف. ولكنهم لما عصوا وتركوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجعوا عنهم، ولو أنهم صبروا لنزلت عليهم.
قرأ عاصم، وابن كثير، وأبو عمرو: مُسَوِّمِينَ بكسر الواو والباقون بالنصب ومعناهم قريب. وهو: إرخاء أطراف العمائم بين الأكتاف وهذا كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: «تَسَوّمُوا فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ قَدْ تسوّمت» .(1/243)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
[سورة آل عمران (3) : آية 126]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
ثم قال تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ يعني: المدد من الملائكة. قال بعضهم:
إن الملائكة لم تقاتل، وإنما بعثهم للبشارة وتسكين قلوب المؤمنين، لأن في قتال الملائكة لم يكن للمؤمنين فضيلة، وإنما كانت الفضيلة للمؤمنين إذ كانوا هم الذين يقاتلون ويهزمون الكفار، ولو كان ذلك لأجل الإعانة لكان ملك واحد يكفيهم كما فعل بقوم لوط. ألا ترى أنه قال تعالى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: 44] فجعل الفضيلة في قلتهم في أعين الكفار ونصرتهم بالغلبة، وهذا معنى قوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ.
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ يعني تطمئن إليه قلوبكم. وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون، وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة، لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى أن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت ما قتلتني، إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنْبك فرسه وإن اجتهدت. وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكن قلوب المؤمنين، ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة، وكل عسكر من المسلمين صبروا واحتسبوا تأتيهم تلك الملائكة ويقاتلون معهم ويقال: الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون، وثواب ذلك للذين يقاتلون يومئذ. وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى. ثم قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يعني.
ليس بكثرة العدد ولا بقلته، ولكن النصر من الله تعالى كما قال في آية أخرى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً [التوبة: 25] .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 127 الى 128]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)
ثم قال: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أرسل الملائكة ونصر المؤمنين لكي يقطع طرفاً، أي يستأصل جماعة من الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ قال الكلبي: أي يهزمهم. وقال مقاتل: يعني يخزيهم كقوله كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: 5] ويقال: يقنطهم فَيَنْقَلِبُوا إلى مكة خائِبِينَ لم يصيبوا ظفراً ولا خيراً، وقد قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون. ويقال معناه وما جعله الله إلا بشرى لكم، ولتطمئن قلوبكم به، وليقطع طرفاً من الذين كفروا.(1/244)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
ثم قال عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ روى جويبر عن الضحاك قال: لما كان يوم أحد، كسرت رباعية النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأدمي ساقه، وقتل سبعون رجلاً من الصحابة، فَهَمَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أي ليس لك من الحكم شيء، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يعني كفار قريش يهديهم إلى الإسلام. وقال الكلبي: فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يلعن الذين انهزموا من الصحابة يوم أحد، فنزل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يعني الذين انهزموا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ قال: فلما نزلت هذه الآية، كفّ ولم يلعن المشركين، ولا الذين انهزموا من الصحابة، لعلم الله فيهم أنهم سيتوبون، وأن المشركين سيؤمن كثير منهم. وقد آمن كثير منهم فمنهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم.
قال مقاتل: وكان سبعون رجلاً من أصحاب الصُّفَّة، خرجوا إلى الغزو محتسبين، فقتل السبعون جميعاً، فشقّ ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلم، فدعا الله عليهم أربعين يوماً في صلاة الغداة، فنزل قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ويقال: معنى قوله أو يتوب عليهم، أو يعذبهم إن لم يكونوا من أهل التوبة.
[سورة آل عمران (3) : آية 129]
وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
ثم عظم نفسه فقال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني: إن جميع الخلق في ملكه وعبيده يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وقال الضحاك: يغفر لمن يشاء الذنب العظيم، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ على الذنب الصغير إذا أصرَّ على ذلك وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ في تأخير العذاب عنهم، حيث لم يعاقبهم قبل توبتهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 131]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً قال الزَّجاج: يعني لا تضاعفوا أموالكم بالربا. وقال القتبي: هو ما يضاعف منها شيء بعد شيء، ويقال أضعافاً مضاعفة عند البيع، ببيعه بأكثر من قيمته مضاعفة بعد العقد، أن يزيده في الأجل ويزيد في المال. ويقال:
المضاعفة هي نعت الأضعاف كما قال تعالى: حَلالًا طَيِّباً [البقرة: 168 وغيرها] والطيب هو نعت الحلال.(1/245)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ في الربا فلا تستحلوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تنجوا من العذاب. ثم خَوّفهم فقال: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يعني خُلقت وهيئت للكافرين.
وقالت المعتزلة: من أتى بالكبيرة ومات عليها فإنه يخلد في النار كالكافر، فإنه وعد لأكل الربا النار كما وعد الكفار. وقال أكثر أهل العلم والتفسير: هذا الوعيد لمن استحل الربا ومن استحل الربا فإنه يكفر ويصير إلى النار. ويقال: معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبوا النار، لأن من الذنوب ما يستوجب به نزع الإيمان ويخاف عليه، فمن ذلك عقوق الوالدين. وقد جاء في ذلك أثر أن رجلاً كان عاقاً لوالدته يقال له علقمة، فقيل له عند الموت:
قُلْ لا إله إِلا الله فلم يقدر على ذلك، حتى جاءت أمه فرضيت منه. ومن ذلك قطيعة الرحم، وأكل الربا، والخيانة في الأمانة. وذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة أنه قال: أكبر ما في الذنوب الذي ينزع الإيمان من العبد عند الموت. ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان من العبد، فلم نجد شيئاً أسرع نزعاً للإيمان من ظلم العباد.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 132 الى 133]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
ثم قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ يعني أطيعوا الله في الفرائض، والرسول في السنن. ويقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ في تحريم الربا، وَالرَّسُولَ فيما بلغكم من التحريم لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولا تُعَذَّبُونَ وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة، وابن عامر ومن تابعه من أهل الشام: سارعوا بغير الواو على معنى الابتداء. وقرأ الباقون بالواو على معنى العطف. قال الكلبي: معناه وسارعوا إلى التوبة من الربا. وقال مقاتل: وسارعوا بالأعمال الصالحة التي هي مغفرة لذنوبكم وإلى الجنة. وقال الضحاك: يعني سارعوا إلى النجاء الأكبر إلى الصف المقدم في الصلاة، وإلى الصف المقدم في القتال. ويقال: وسارعوا حتى لا تفوتكم تكبيرة الافتتاح.
ثم قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قال القتبي: أي سعتها، ولم يرد به العَرْض الذي هو خلاف الطول. والعرب تقول: بلاد عريضة أي واسعة. ويقال: عَرْضُ الجنة كعرض سبع سموات، وكعرض سبع أرضين، لو ألزق بعضها إلى بعض. وإنما ذكر العرض ولم يذكر الطول، لأن طولها لا يعرف ولا يدرك. وقال الكلبي: الجنان أربع: جنة عدن وهي الدرجة العليا، وجنة المأوى، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. كل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها إلى بعض. ويقال: لم يرد بهذا التقدير، ولكنه أراد بذلك إنها أوسع شيء رأيتموه. وقال السدي: لو كسرت السموات وصرن خردلاً، فبكل خردلة لله جنة عرضها كعرض السموات والأرض.(1/246)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
حدثنا محمد بن داود، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد، قال:
حدثنا يعقوب عن أبي حازم قال أخبرني سهل بن سعد قال إن أدنى أهل الجنة يقال له: تَمَنَّ.
فيقول: أعطني كذا أعطني كذا، حتى إذا لم يجد شيئاً يتمنى لُقِّن فيقال له: تَمَنَّ، قل كذا قل كذا، فيقول. فيقال له: هو لك ولك مثله معه. وفي رواية أبي سعيد الخدري لك هذا وعشرة أمثاله معه. ثم قال تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ يعني الجنة.
[سورة آل عمران (3) : آية 134]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
ثم نَعَتَ المتقين فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ الخ الآية. نعت للمتقين.
ويقال إن كل نعت من ذلك هو نعت على حدة، فكأنه يقول: أعدت للمتقين الذين ينفقون من السراء ... الخ. قوله: فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي ينفقون أموالهم في حال اليسر وفي حال العسر، وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل والضحاك: في حال السعة والشدة. ويقال: في حال الصحة والمرض. ويقال: فِي السَّرَّاءِ، يعني في حال الحياة. وفي الضراء، يعني بعد الموت. ويقال في سراء المسلمين في عرسهم وولائمهم، والضراء في نوائبهم ومآتمهم.
ويقال فِي السَّرَّاءِ يعني النفقة التي تسرّكم، مثل النفقة التي على الأولاد والأقربين وَالضَّرَّاءِ النفقة على الأعداء والكاشحين. ويقال فِي السَّرَّاءِ يعني على الأنبياء يضيفهم ويهدي إليهم وَالضَّرَّاءِ يعني على أهل الضر يتصدق عليهم.
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يعني المرددين الغيظ في أجوافهم، وأصله في اللغة: كظم البعير إذا رَدَّد جِرَّتَه. ومعناه: الذين إذا أصابهم الغيظ تجاوزوا ولم يعاقبوا. وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال الكلبي: يعني عن المملوكين. ويقال: والعافين عن الناس بعد قدرتهم عليهم فيعفوا عنهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ من الأحرار والمملوكين، ويقال: الذين يحسنون بعد العفو ويزيدون عليه إحساناً وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ ينفذَهُ ثُمَّ لَمْ يُنفِذْهُ زَوَّجَهُ الله مِنَ الحُورِ العينِ حَيْثُ يَشَاءُ» ، وفي خبر آخر: عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «مَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلمَةٍ قَطّ إِلاّ زَادَهُ الله بِهَا عزّا» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 137]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)(1/247)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً نزلت في شأن رجل تَمَّار، جاءت امرأة تشتري منه تمراً، فأدخلها في حانوته وقبلها ثم ندم على ذلك، فنزلت هذه الآية. ويقال: نزلت هذه الآية في رجل مَسّ امرأة أخيه في الله، وكان أخوه خرج غازياً، ثم ندم وتاب. ويقال: إنها نزلت في شأن بهلول النباش، تاب عن صنيعه فنزلت هذه الآية. فقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني الزّنى. أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني القُبْلَة واللمس. ويقال: الفاحشة كل فعل يستوجب به الحد في الدنيا أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ما دون ذلك. ويقال: الفاحشة ما استوجب به النار، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ما استوجب به الحساب والحبس. وقال إبراهيم النخعي: الظلم هاهنا تفسير الفاحشة فكأنه يقول: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ أي خافوا الله، ويقال ذكروا مقامهم بين يدي الله. ويقال: ذكروا عذاب الله.
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يعني الاستغفار باللسان والندامة بالقلب. ويقال: الاستغفار باللسان بغير ندامة القلب توبة الكذابين. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار الكثير.
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ يعني لا يغفر الذنوب إلا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا يعني: لم يقيموا على ما فعلوا من المعصية وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنها معصية فلا يرجعون. ويقال: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه يقول: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة جَزاؤُهُمْ يعني ثوابهم مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ يعني: نعم ثواب العاملين الجنة، وهو قول الكلبي. وقال مقاتل: نعم ثواب التائبين من الذنوب الجنة قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي قد مضت لكل أمة سنة ومنهاج، فإذا اتبعوها رضي الله عنهم. قال الكلبي:
قد مضت سنة بالهلاك فيمن كان قبلكم، فَانْظُروا: أي فاعتبروا كَيْفَ كان جزاء المكذبين.
وقال مقاتل نحو هذا، وقال: يخوف الله هذه الأمة بمثل عذاب الأمم السابقة. وقال السدي:
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي اقرءوا القرآن فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأن من لم يسافر فإنه لا يعرف ذلك، وأما من قرأ القرآن فإنه يعرف ذلك. وقال الحسن: اقرءوا القرآن وتدبروا فيه، فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 138 الى 140]
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)(1/248)
ثم قال: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ يعني القرآن، بيان للناس من الضلالة وَهُدىً من العمى وَمَوْعِظَةٌ من الجهل، ويقال: هُدىً وَمَوْعِظَةٌ أي كرامة ورحمة لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا أي لا تضعفوا ولا تجبنوا، ويقال: ولا تَعْجزوا عن عدوكم وَلا تَحْزَنُوا على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يعني: الغالبون يقول آخر الأمر لكم. ويقال:
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في الجنة. ويقال: هذا وعد لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم في المستأنف وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي الغالبون على الأعداء بعد أحد، فلم يخرجوا بعد ذلك في عسكر إلا ظفروا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذا كان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم، فهذه البلدان كلها إنما فتحت في عهد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم بعد انقراضهم ما فتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتحون في ذلك الوقت. ويقال: في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه لأنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام:
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] وقال لهذه الأمة: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ويقال اشتُقَّت هذه اللفظة من اسم الله تعالى، لأن اسمه العلي الأعلى. وقال للمؤمنين: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: إن كنتم مصدقين بوعد الله. ويقال: معناه إذ كنتم مؤمنين. ويقال: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه قال: ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون.
ويقال: إن هذا وعد لهم بأنهم غالبون إن ثبتوا وصدقوا، فلو أنهم ثبتوا وصدقوا لغَلَبُوا كما غَلَبوا يوم بدر، ولكنهم تركوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرجع الأمر عليهم. وكانت القصة في ذلك أنهم لما غَلَبُوا المشركين يوم بدر، وأصابوا منهم ما أصابوا- وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى- فرجع أبو سفيان بن حرب إلى مكة بالعير، وانهزم المشركون، وذهب عكرمة بن أبي جهل، ورجال أُصِيب أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ببدر إلى أبي سفيان بن حرب- وهو رئيس مكة- فكلموه، وأتاه كل من كان له في ذلك العير مال، فقالوا: إن محمداً قد قتل خياركم، فاستعينوا بهذه الأموال على حربه ففعلوا. قال الضحاك: فأعانهم أبو سفيان بمائة راحلة وما يصلحها من الزاد والسلاح، فسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل، وعليهم أبو سفيان بن حرب، وكان في القوم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وذلك قبل دخولهم في الإسلام، فلم يبق أحد من قريش إلا وخرج أهله معه وولده يجعلهم خلف ظهره ليقاتل عنهم.(1/249)
فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب الناس، وقال في خطبته: «إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ فِي سَيْفِي ثلمَةُ فَأَوَّلْتُهَا مصِيبَةً فِي نَفْسِي، وَرَأَيْتُ بُقُوراً قَدْ ذُبِحَتْ، فَأَوَّلْتُهَا قَتْلَى فِي أَصْحَابِي، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلْتُهَا المَدِينَةَ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ» . وكره الخروج إليهم، فكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن لا يخرج إليهم، ولكنه كان منافقاً فقال: يا رسول الله لا تخرج إليهم فأنا ما خرجنا إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه. فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم الله بالشهادة وغيرهم ممن فاتته بدر: اخرج لهم يا رسول الله، لكي لا يرى أعداء الله أنا قد جَبُنَّا عنهم وضعفنا عن قتالهم. فلم يزالوا به حتى دخل ولبس لأمته، ثم خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم إليهم وقد خرج الناس فقالوا: استكرهنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: قد استكرهناك وما كان لنا ذلك، فإن شئت فاخرج، وإن شئت فاقعد. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَا يَنْبَغِي لِلنَّبِيِّ أَنْ يَضَعَ سِلاَحَهُ إِذَا لَبِسَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ» . فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسار إلى أُحدٍ، فانخذل عبد الله بن أبي ابن سلول. قال في رواية الكلبي: فرجع معه ثلاثمائة من الناس، وبقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحو سبعمائة رجل.
وقال في رواية الضحاك: فانخذل في ستمائة رجل من اليهود، وبقي مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم ألف رجل من المؤمنين الطيبين. ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى نزل بالشِّعب من أحد، وأمر عبد الله بن جبير على الرُّمَاة وقال لهم: «لاَ تَبْرَحُوا مِنْ هَذَا المَوْضِعِ، وَاثْبُتُوا هاهنا إِنْ كَانَ الأَمْرُ عَلَيْنَا أَوْ لَنَا» . وقال في رواية الكلبي: كان الرماةُ خمسين رجلاً. وقَال في رواية الضحاك: كانوا سبعين رجلاً. فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ظهره إلى أُحد، ودنا المشركون وأخذوا في الحرب، فقامت هند امرأة أبي سفيان وصواحبتها حين حميت الحرب، يضربن بالدُّفوف خلف قريش ويقلن:
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِق ... نَمْشِي على النَّمَارق
إِن تُقْبِلُوا نُعَانِق ... أَو تُدْبِرُوا نفارق
فِرَاقَ غَيْرَ وَامِق فقاتل أبو دجانة في نفر من المسلمين قتالاً شديداً، وقاتل علي بن أبي طالب حتى انكسر سيفه، وقاتل سعد بن أبي وقاص، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول لسعد: «ارْمِ فَداكَ أَبِي وَأُمِّي» فقتلوا جماعة من المشركين، وَصَدَقَهم الله وعده وأنزل نصره، حتى كانت هزيمة القوم لا شكّ.
فكشفوهم عن عسكرهم قال الزبير: رأيت هنداً وصواحبتها هوارب، فلما نظر الرماة إلى القوم وانهزموا، أقبلوا على النهب فقال لهم عبد الله بن جُبَيْر: لا تَبْرحوا عن هذا الموضع، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد عَهِدَ إليكم. فلم يلتفتوا إلى قوله، وظنوا أن المشركين قد انهزموا فبقي عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر، فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من قِبَل الشِّعب، فقتلوا من بقي من الرماة، ودخلوا خلف أقفية المسلمين، وتفرق المسلمون ورجع(1/250)
المشركون، وحملوا حملةً واحدة، فصار المسلمون ثلاثة أنواع: بعضهم جريح، وبعضهم قتيل، وبعضهم منهزم.
وكان مصعب بن عمير يَذُبُّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ دونه، ثم قاد زياد بن السكن فقاتل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ، وخلص الحرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقذف بالحجارة حتى وقع بشفتيه، وأصيبت رباعيَتُه، وكُلِمَتْ شفته، وأدمي ساقه. فقال سفيان بن عيينة: لقد أصيب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحو ثلاثين رجلاً، كلهم جثوا بين يديه. أو قال: كلهم يتقدم بين يديه. ثم يقول: وجهي لوجهك الوفاء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك سلام الله غير مودع.
فرجع الذي قتل مصعب بن عمير، فظن أنه قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال للمشركين: قتلت محمداً. فصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قُتل. ويقال: كان ذلك إبليس لعنه الله، فولى المسلمون هاربين متحيّرين، وجاء إبليس لعنه الله ونادى بأعلى صوته في المدينة: ألا إن محمداً قد قتل وأَخَذَت النسوة في البكاء في البيوت، فأقبل أَنَس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله في رِجَالٍ من المهاجرين والأنصار، فقال: ما يُجْلسكم؟ قالوا: قتل محمد. فقال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا كراماً عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ نبيُّكم. ثم أقبل نحو العدو، فقاتل حتى قتل.
قال كعب بن مالك: فأوّل من كنت عرفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المسلمين، عرفت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فأشار إليَّ أَن اسكت. وقال أنس بن مالك: قد شجّ وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلم بِالدَّمِ» وهو يدعوهم إلى ربهم. ويقال: إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا: يا رسول الله، لو دعوت الله على هؤلاء الذين صنعوا بك؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَمْ أُبْعَثْ طَعَّاناً وَلاَ لَعَّاناً، وَلَكِن بُعِثْتُ دَاعِياً وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» فجاءه أبي بن خلف الجمحي، فقال: يا محمد لا نَجوتُ إن نجوتَ مني. فهمَّ المسلمون بقتله، فقال لهم. «دَعُوهُ» حتى دنا منه، فتناول رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ورماه بها، فخدشه في عنقه خدشاً غير كبير، وقد كان ذلك لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة وقال: عندي فرس أعلفه كل يوم فرق ذرة، أقتلك عليه. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ الله» . فلما خدشه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عنقه رجع إلى قريش وهو يقول: قتلني محمد. فقالوا له: ما بك من طعن. فقال: بلى، لقد قال لي أنا أقتلك، والله لو بصق علي بعد تلك المقالة لقتلني. فمات قبل أن يصل إلى مكة في طريقها.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم واقفاً عند أحد، وقد اجتمع عليه بعض أصحابه، فعلت عليه فرقة من قريش في الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا» . فأقبل عمر ورهط من(1/251)
المهاجرين، فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل. وقد كان جبير بن مطعم قال لمملوك له- يقال له وحشي-: إن أنت قتلت محمداً جعلت لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلت لك مائة ناقة كلها سود الحدقة، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حرٌّ. فقال وَحْشي:
أما محمد فعليه حافظ من الله تعالى لا يخلص إليه أحد، وأما عَلَيُّ فما برز إليه رجل إلا قتله وأما حمزة فرجل شجاع، فعسى أن أُصَادفه في غِرَّته فاقتله مكانه. وكانت هند كلما مرّ بها وَحْشي أو مرّت به هند قالت له: إيهاً أبا دسمة اشف واستشف. فكمن وحشي خلف صخرة، وكان حمزة حمل على قوم من المشركين، فلما رجع من حملته مرّ بوحشي وهو خلف الصخرة، فزرقه بمزراق فأصابه فسقط، فذهبت هند ابنة عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنوف، وشَقَّت هند بطن حمزة وأخذت كبده ومضغته، ثم صعدت هند على صخرة وهي تنادي بأعلى صوتها: نَحْنُ جَزَيْنَاكم بيوم بَدْر. وأقبل أبو سفيان وهو يصرخ بأعلى صوته: اعلُ هبل يوماً بيوم بدر. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم لعمر: «أَجِبْهُ يَا عُمَرَ» . فأجابه عمر: الله أعلى وأجل لا سواه، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم ركب النبيّ صلّى الله عليه وسلم بغلته، وظاهر بين درعيه، وأخرج يده من جيب الدرع، وسلّ سيفه ذا الفقار، وباشر القتال بنفسه، وحمل على المشركين والتأم إليه المسلمون فأعانوه، وهزم الله جمع المشركين، وقُتل يومئذ من المسلمين سبعون رجلاً: أربعة نفر من المهاجرين، وستة وستون من الأنصار. وقتل يومئذ من المشركين تسعة عشر رجلاً أو أكثر، وكثرت القروح في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعزَّاهم الله تعالى: في ذلك بقوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ قرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي وحمزة: قُرْحٌ بضم القاف والباقون بالنصب. قال الفراء:
القَرْح والقُرْح واحد. ويقال: القَرْح بالنصب مصدر، والقُرح بالضم اسم. ويقال: القَرْحُ بالنصب الجراحة، وبالضم ألم الجراحة. يعني إن أصابكم الجراحات يوم أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يقول: قد أصاب المشركين جراحات مثلها يوم بدر. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ يقول: يوم لكم ويوم عليكم، وهذا كما يقال في الأمثال: الأيام دُوَل والحرب سِجَال.
ثم بين المعنى الذي تداول مرة لهم ومرة عليهم، فقال تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني يتبين المؤمن من المنافق أنهم يشكون في دينهم أم لا، لأن المؤمن المخلص يتبين حالُه عند الشدة والبلايا. وهذا كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: إن الذهب والفضة يختبران بالنار، والمؤمن يختبر بالبلايا، والاختبار من الله تعالى إظهار ما علم منه من قبل فذلك قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني ليبين لهم الله الذي يعلم إيمانه، لأنه يعطى الثواب بما يظهر منه لا بما يعلم منه، وكذلك العقوبة. أَلاَ ترى أنه عَلِم من إبليس المعصية في المستقبل ثم لم يلعنه ما لم يظهر منه. ثم قال تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يعني لكي يتخذ(1/252)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
منكم شهداء، وإنما كان لأجل ذلك لا لأجل حب الكفار وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي الجاحدين.
[سورة آل عمران (3) : آية 141]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي: لكي يُظْهر المؤمنين ويكفر ذنوبهم. والتمحيص في اللغة الاختبار والتطهير. والله بَيّن أنه يُداول الأيام بين الناس لكي يَظْهر المؤمن من المنافق، ويكرم بعض المؤمنين بالشهادة لينالوا ثواب الشهداء، وقد ذكر ثوابهم بعد هذا في هذه الصورة وليكفر ذنوبهم وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أي يهلكهم ويستأصلهم لأنهم يجترءون فيخرجون مرة أخرى فيستأصلهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ قال مقاتل: بيّن للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء في ذات الله لكي يصبروا ويحتسبوا. فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ يقول: أَظننتم أن تدخلوا الجنة بغير شيء قبل أن يصيبكم من الشدة في ذات الله، فذلك قوله تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ قال مقاتل: أي ولما يرى الله الذين جاهدوا مِنكُمْ. ويقال: ولما يظهر جهاد الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ الذين يصبرون عند البلاء. ويقال: ويعلم الكارّين أي غير الفارين عن القتال.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وذلك أنه لما وصف الله لهم ما نزل بشهداء بدر من الكرامة، فقالوا: ليتنا نجد قتالاً فنقتل فيه لكي نصيب مثل ما أصابوا، فلما لقوا القتال يوم أُحد هربوا، فعاقبهم الله تعالى بقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي القتال والشهادة من قبل أن تلقوه، لأن القتال سبب الموت فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يوم أحد وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى السيوف فيها الموت. وقال الزجاج: معناه ولقد كنتم تمنون القتال لأن القتال سبب الموت، فقد رأيتموه، يعني وأنتم بصراء كقولك: رأيت كذا وكذا ولم يكن في عينيك علّة.
ويقال: وأنتم تنظرون إلى محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال القتبي: فقد رأيتموه، يعني أسبابه وهو السيف.
[سورة آل عمران (3) : آية 144]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)(1/253)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
ثم قال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ لأنهم هربوا حيث سمعوا بقتله، فقال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ كسائر الرسل أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي رجعتم إلى دينكم الشرك. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرجع إلى الشرك بعد الإسلام فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً يقول: لن ينتقص من ملكه وسلطانه شيئاً، وإنما يضرّ نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ يعني الموحدين الله تعالى في الآخرة الجنة. ويقال: وسيجزي الله المؤمنين المجاهدين الجنة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 145 الى 147]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ قبل أجلها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا يقول: في موتها كتاباً مؤجلاً في اللوح، فلا يسبق أجله. وقال الزجاج: قوله كتاباً مؤجلاً، أي كتب كتاباً ذا أجل، وهو الوقت المعلوم، وذكر الكتاب على معنى التأكيد كقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] أي أن المحرمات مفروضة عليكم على معنى التأكيد. وفي هذه الآية إبطال قول المعتزلة، لأنهم يقولون: إن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكل ما ذبح من الحيوان كان هالكاً قبل أجله، لأنه يجب على القاتل الضمان والدية. وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها قال الكلبي: يعني يرد ثواب الدنيا بالعمل الذي افترض الله عليه نُؤْتِهِ مِنْها يعني أعطاه الله ما يحب، وَمَا لَهُ فِى الاخرة من نصيب وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ في الآخرة. ومن الناس من قال: إن الرياء يدخل في النوافل، ولا يدخل في الفرائض، لأن الفرائض واجبة على جميع الناس. وقال بعضهم:
يدخل في الفرائض ولا يدخل في النوافل، لأنه لو لم يأتِ بها لا يؤاخذ بها، فإذا أتى بهذا القدر ليس عليه غير ذلك. وقال بعضهم: كلاهما سواء، فالرياء يدخل في الفرائض والنوافل جميعاً. وهذا القول أصح لقوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ
[النساء: 142] .
ثم إن الله تعالى أخبرهم بما لَقِيَتِ الأنبياءُ والمؤمنون قبلهم فعزَّاهم ليصبروا فقال تعالى(1/254)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قرأ ابن كثير وَكَأَيِّنْ بعد الألف والهمزة، وقرأ الباقون بغير مد، ومعناهما واحد. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: وكأيِّن من نبي قُتِل، بضم القاف وكسر التاء. وقرأ الباقون: قاتَلَ، فمن قرأ قاتل فمعناه كم من نبيّ قاتل معه جموع كثيرة. ومن قرأ قتل معناه: وكم من نبي قتل مَعَهُ جماعة كثيرة. وقوله: رِبِّيُّونَ قال الكلبي: الربية الواحدة من عشرة آلاف. وقال الزجاج: هاهنا قراءتان رُبِّيُّون بضم الراء، ورِبِّيّون بكسرها، فأما بالضم فهي الجماعة الكثيرة عشرة آلاف، وأما الرِّبّيُّون بالكسر العلماء الأتقياء الصبراء على ما يصيبهم في الله تعالى. ويقال: وكأين من نبي قتل يعني: كم من نبيّ قتل وكان معه ربيون كثير. فَما وَهَنُوا بعد قَتْلِهِ عن القتال، وما عجزوا بما نزل بهم من قتل أنبيائهم وأنفسهم لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا لَعدُوِّهم، ويقال: وما جبنوا.
ثم قال وَمَا اسْتَكانُوا يقول: وما خضعوا لعدوهم ولكنهم صبروا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ فكأنه يقول للمؤمنين: فهلا قاتلتم مع نبيكم صلّى الله عليه وسلم وبعد قتله وإن قتل، كما قاتلت القرون الماضية من قبلكم إذا أصيبت أنبياؤهم. ثم أخبر عن قول الذين قاتلوا مع النبيين فقال تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ عند قتل أنبيائهم إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي هي دون الكبائر وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي العظائم من الذنوب وَثَبِّتْ أَقْدامَنا عند القتال وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ معناه: هلاّ قلتم كما قالوا وقاتلتم كما قاتلوا. وقرأ بعضهم قولهم بالضم، والمعنى في ذلك أنه جعل القول اسم كان، فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا. ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان، وجعل الاسم ما بعده.
[سورة آل عمران (3) : آية 148]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
قوله تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا أي أعطاهم الله ثواب الدنيا بالغنيمة والنصرة وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ أي الجنة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المؤمنين المجاهدين.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 150]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ كفاراً بعد إيمانكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ إلى دينكم الأول بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي أطيعوا الله فيما يأمركم، هو مولاكم يعني: وليكم وناصركم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ أي المانعين من كفار مكة.(1/255)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
[سورة آل عمران (3) : آية 151]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة: الرعب بتسكين العين. وقرأ ابن عامر، والكسائي: الرعب بالضم. وأصله الضم، إلا أنه إذا اجتمع ضمتان حذفت إحداهما عند من قرأ بالجزم. ومعنى الآية سنلقي الهيبة في قلوب المشركين، وذلك بعد هزيمة المؤمنين، قذف الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فانهزموا إلى مكة. ويقال: حين صعد خالد بن الوليد الجبل، قصد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرجع خالد منهزماً. ويقال: عنى به يوم الأحزاب، ألقي في قلوبهم الرعب فانهزموا بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ يعني بأنهم أشركوا بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني كتاباً فيه عذر وحجة لهم بالشرك وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي: مصيرهم إلى النار في الآخرة وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ يعني أن مثوى المشركين النار.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 154]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)(1/256)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وذلك أنهم لما أخذوا في الحرب انهزم المشركون، فلما أَخَذَ بعض المسلمين في النهب والغارة رجع الأمر عليهم وانهزم المسلمون، فذلك قوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ. إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ يقول: تقتلونهم بأمره. وقال القتبي: تحسونهم يعني تستأصلونهم بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد. حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ يعني: جَبُنْتُمْ من عدوكم، واختلفتم في الأمر وَعَصَيْتُمْ أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ يعني أراكم الله مَّا تُحِبُّونَ يعني من النصر على عدوكم، وهزيمة الكفار والغنيمة.
ثم قال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أي يطلب الغنيمة وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا عند المشركين حتى قتلوا. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: كنا لا نعرف أن أحداً منا يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية، فَعَلِمْنا أن فينا من يريد الدنيا ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بالهزيمة من بعد أن أَظْفَركم عليهم لِيَبْتَلِيَكُمْ بمعصية الرسول بالقتل والهزيمة وَلَقَدْ عَفا الله عَنْكُمْ ولم يعاقبكم عند ذلك، فلم تقتلوا جميعاً وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ في عفوه وإنعامه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بالعفو والإنعام إِذْ تُصْعِدُونَ يعني: إلى الجبل هاربين، حيث صعدوا الجبل منهزمين من العدو، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعوهم: «يَا معْشرَ المُسْلِمينَ أَنَا رَسُولُ الله» فلم يلتفت إليه أحد، حتى أتوا على الجبل. فذلك قوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ يعني الجبل.
وهذا قول الكلبي وقال الضحاك: إذ تصعدون في الوادي منهزمين. وقال القتبي: يعني تبعدون في الهزيمة، يقال: أصعد في الأرض إذا أمعن في الهزيمة. وقرأ الحسن: تَصْعَدُون بنصب التاء، أي تَصْعَدُون الجبل. وقرأ العامة بالضم وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ يقول: ولا تقيمون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويقال: لا يقيم بعضكم على بعض وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ يقول:
مِنْ خَلْفِكم فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ يقول: جعل ثوابكم غماً على أثر الغم، ويقال: جزاكم غماً على أثر الغم، ويقال غماً متصلاً بالغم. فأما الغم الأول: فإشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين وهم في ذلك الجبل قاله الكلبي. وقال مقاتل: الغم الأول ما فاتهم من الفتح والغنيمة، فاجتمعوا وكانوا يذكرون فيما بينهم ما أصابهم في ذلك اليوم. والغم الثاني: إذ صعد خالد بن الوليد، فلما عاينوه أَذْعَرهُم ذلك أي خوفهم، فأنساهم ما كانوا فيه من الحزن، فذلك قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا مَا أَصابَكُمْ من القتل والهزيمة. ويقال: الغم الأول الجُرح والقتل، والغم الثاني أنهم سمعوا بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد قتل فأنساهم الغم الأول. قال: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فيجازيكم بها.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الأمنة في اللغة الأمن. قال الكلبي: إذا أَمِنَ القوم نعسوا. وقال الضحاك: النعاس عند القتال أمنة من الله تعالى. ويقال: الذي يصيبه الغم(1/257)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
والهزيمة لا يكون له شيء أحسن من النعاس، فيذهب عنه همه، فأصاب القومَ النعاسُ فذهب عنهم الغم وأمنوا. قوله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ يعني النعاسَ يغشى ويعلو طائفة منكم، من كان من أهل الصدق واليقين. قرأ حمزة والكسائي: تغشى بالتاء. وقرأ الباقون بالياء. فمن قرأ بالتاء انصرف إلى قوله أمنة، ومن قرأ بالياء يكون نعتاً للنعاس.
ثم قال: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني أهل النفاق. وقال الكلبي: هو معتب بن قُشَيْر وأصحابه يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يعني: أنهم يظنون أن لن ينصر الله محمداً وأصحابه ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ قال الكلبي: يعني كظنهم في الجاهلية. وقال مقاتل: ظن الجاهلية كظن الجهال المشركين، مثل أبي سفيان وأصحابه يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ يعني:
النصرة والفتح قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني النصرة والغنيمة كله من الله يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي يُسِرُّونَ في أنفسهم ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي يقولون ما لا يظهرون لك يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنا أي يقولون لو كان ديننا حقا ما قتلنا هاهُنا قال الكلبي: وفي الآية تقديم وتأخير، ومعناه يقولون: هل لنا من الامر من شيء، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، يقولون: لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا هاهنا قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وقال الضحاك:
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ يعني القدر خيره وشره من الله. قرأ أبو عمرو: قل إن الامر كله لله بضم اللام، والباقون بالنصب. فمن قرأ بالرفع جعله اسماً مستأنفاً، ومن نصب جعله نعتاً للأمر.
ثم قال تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ يقول: لظهر. ويقال: لخرج الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ أي قُضِيَ عَلَيهم القتل إِلى مَضاجِعِهِمْ أي إلى مواضع مصارعهم.
معناه: أنهم وإن لم يخرجوا إلى العدو وقد قضى الله عليهم بالقتل، لخرجوا إلى مواضع قتلهم لا محالة، حتى ينفذ فيهم القضاء. قال تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ يعني ليختبر ويظهر ما في قلوبكم وَلِيُمَحِّصَ يعني: ليظهر ويكفر مَا فِي قُلُوبِكُمْ من الذنوب وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني: بما في القلوب من الخير والشر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 155 الى 159]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)(1/258)
ثم نزل في المنهزمين قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ أي الذين انهزموا منكم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني جمع المسلمين، وجمع المشركين إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ قال القتبي:
استزلهم أي طلب زلتهم، كما يقال: استعجلت فلاناً أي طلبت عجلته واستعملته أي طلبت عمله. ويقال: زَيَّنَ لهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا يعني: الذي أصابهم كان بأعمالهم كما قال في آية أخرى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] . وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ حيث لم يستأصلهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم حَلِيمٌ إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة.
قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو بكر عن غيلان بن جرير، أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال له عبد الرحمن: أتسبُّني وقد شهدت بدراً ولم تشهدها؟ وبايعتُ تحت الشجرة ولم تُبَايع؟ وقد كنت توليت فيمن تولى يوم الجمع- أي يوم أحد- فردّ عليه عثمان وقال: أما قولك إنك شهدت بدراً ولم أشهدها، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلا أن ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت مريضة فكنت معها أُمرِّضها، وضرب لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسهم في سهام المسلمين. وأما بيعة الشجرة، فبعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم رداً على المشركين بمكة فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمينه على شماله قال: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» فيمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليّ خير من يميني وشمالي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ فكنت فيمن عفى الله عنهم. فخصم عثمان عبد الرحمن بن عوف.
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني منافقي أهل الكتاب وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ من المنافقين: إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ يعني إذا ساروا في الأرض تجاراً مسافرين، فماتوا في سفرهم أَوْ كانُوا غُزًّى يعني: خرجوا في الغزو فقتلوا. قال القتبي:
غزّاً جمع غاز، مثل صائم وصُوَّم، ونائم ونوم لَوْ كانُوا عِنْدَنا بالمدينة مَا ماتُوا في سفرهم وَما قُتِلُوا في الغزو لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ الظن حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ويقال: جعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم لأنه ظهر نفاقهم. وقال الضحاك: ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين، لأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في أشجار الجنان حيث شاءت. وأرواح قتلى المنافقين في حواصل طير سُودٍ تسرح في الجحيم.(1/259)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يحيي في السفر ويميت في الحضر، ويحيي في الحضر ويميت في السفر. ويقال: والله يحيي قلوب المؤمنين ويميت قلوب الكافرين، يحيي قلوب المؤمنين بالنصرة والخروج إلى الغزو، ويميت قلوب المنافقين بالتخلف وظن السوء. وقال الضحاك: يعني يحيي من أحيى من نطفة بقدرته، ويميت من أمات بعزته وسلطانه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قرأ عبد الله بن كثير وحمزة والكسائي: يَعْمَلُونَ بالياء على معنى المغايبة. وقرأ الباقون: بالتاء. ومعناه قل لهم: والله بما تعملون بصير وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ يعني: إن متم في إقامتكم، أو قتلتم في سبيل الله وأنتُم مُؤْمنون لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ لذنوبكم وَرَحْمَةٌ يعني: ونعمة وجنة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ في الدنيا من الأموال يا معشر المنافقين. قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم: متم بضم الميم في جميع القرآن، والباقون بكسرها. وهما لغتان ومعناهما واحد.
ثم قال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ في الغزو لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ بعد الموت. قرأ عاصم في رواية حفص: خير مما يَجْمَعون بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يقول: فبرحمة من الله وما صلة، فالله ذكر منه أن جعل رسوله رحيماً رؤوفاً بالمؤمنين، حيث قال: فبرحمة مِّنَ الله لِنْتَ لَهُمْ يا محمد أني لينت لهم جانبك، وكنت رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ أي خشناً في القول غليظ القول لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لتفرقوا من عندك، ولكن الله جعلك سهلاً سَمْحاً طلقاً ليناً لطيفاً باراً رحيماً، وهكذا قال الضحاك.
ثم قال: فَاعْفُ عَنْهُمْ أي: فتجاوز عنهم، ولا تعاقبهم بما يكون منهم من الزلة والذنب وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ من ذلك الذنب وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ يقول: إذا أردت أن تعمل عملاً فاعمل بتدبيرهم ومشاورتهم، ويقال: ناظرهم في الأمر. ويقال: ناظرهم عند القتال.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: وشاوِرْهُمْ في بَعْضِ الأمر، لأنه كان يشاورهم فيما لم ينزل عليه الوحي فيه، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم عاقلاً ذا رأي، ولكنه أمر بالمشورة ليَقْتَدي به غيره، ولأن في المشاورة تودُّداً لأصحابه، لأنه إذا شَاوَرهم تَوَدَّد قلوبهم. وفي المشورة أيضاً ترك الملامة، لأنه يقال: فعلت كذا بمشاورتكم. وروى سهل بن سعيد الساعدي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا شَقِيَ عَبْدٌ قَطّ بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ عَبْدٌ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ» . ثم قال تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي لا تتوكل على المشورة، ولكن توكل على الله بعد المشورة لا على الأصحاب إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ الذين يتوكلون على الله.
[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)(1/260)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
ثم أخبر عزّ وجلّ أن النصرة من عند الله كلها، فقال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يقول إن يمنعكم الله فَلا غالِبَ لَكُمْ من العدو يعني يوم بدر وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ يعني يوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي: يمنعكم من عدوكم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: فليتّق الواثقون في النصرة ويقال: على المؤمنين أن يتوكلوا على الله، لأنهم عرفوا أنه لا ناصر لهم غيره.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 163]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
قوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: يَغُل بنصب الياء. وقرأ الباقون: يُغَل بضم الياء ونصب الغين. فمن قرأ بالنصب معناه: وما كان لنبي أن يخون في الغنيمة، ومن قرأ بالضم فمعناه: لا ينسب إلى الغلول. وذلك أنه لما كان يوم أحد أخذوا في النهب والغارة وتركوا القتال، وخافوا أن تفوتهم الغنيمة، وظنوا أن من أخذ شيئاً يكون له، وأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لا يقسم لهم، فنزلت هذه الآية: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يقول: ما جاز لنبيّ أن يخون في الغنيمة، وما جاز لأصحابه أن ينسبوه إلى الخيانة وَمَنْ يَغْلُلْ أي يخن في الغنيمة يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني يحمله على ظهره. وهذا كما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لأَعرِفَنّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى عُنقِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شَيْئاً» يريد أن من غل شاة أو بقرة، أتى بها يوم القيامة يحملها.
ويقال: من غلّ شيئاً في الدنيا، يمثل له يوم القيامة في النار، ثم يقال له: انزل إليه فَخُذْه، فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله، فكلما انتهى به إلى الباب سقط منه إلى أسفل جهنم، فيرجع فيأخذه فلا يزال كذلك ما شاء الله. ويقال: يَأْتِ بِما غَلَّ يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول، ويقال هذا على سبيل التمثيل يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بوباله، فيكون وباله على عنقه كما قال في آية أخرى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الأنعام: 31] .
ثم قال تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي توفى وتجازى كل نفس ما عملت من خير أو شر وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ قال الكلبي: يعني أفمن أخذ الحلال من الغنيمة كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ يعني: كمن استوجب سخطاً من الله بأخذ الغلول من الغنائم. ثم بيّن مستقر كل من غل يوم القيامة ومن أخذ من الحلال، فقال لمن غل: وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الذي صاروا إليه يعني النار.(1/261)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
وقال في حق من أخذ الحلال: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يعني لهم درجات في الجنة عند الله، ويقال: هم ذوو درجات عند الله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بمن غلّ وبمن لم يغل. وقال القتبي: هي طبقات عند الله في الفضل، فبعضهم أرفع من بعض. وقال أبو عبيدة والكسائي:
لهم درجات عند الله، ويقال لمن لم يغل درجات في الجنة، ولمن غل درجات في النار.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 168]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنعم الله عليهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: من أصلهم ونسبهم من العرب، يعرفون نسبه. ويقال: من أنفسهم، يعني من جنسهم من بني آدم، ولم يجعله من الملائكة. وإنما خاطب بذلك المؤمنين خاصة لأن المؤمنين هم الذين صدقوه فكأنه منهم. وقرئ في الشاذ: من أَنفسكم بنصب الفاء، أي من أشرفهم. وقد كانت له فضيلة في ثلاثة أشياء: أحدها: أنه كان من نسب شريف لأنهم اتفقوا أن العرب أفضل، ثم من العرب قريش، ثم من قريش بنو هاشم، فجعله من بني هاشم. والثاني: إنه كان أميناً فيهم قبل الوحي. والثالث: أنه كان أمياً لكي لا يرتاب فيه الافتعال.
ثم قال: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يعرض عليهم القرآن وَيُزَكِّيهِمْ يعني يأخذ منهم الزكاة ليطهر أموالهم، ويقال: ويزكيهم يعني يطهرهم من الذنوب والشرك. ويقال: ويزكيهم أي يأمرهم بكلمة الإخلاص، وهي قول لا إله إلا الله، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعني القرآن، والحكمة أي الفقه وبيان الحلال والحرام وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: وقد كانوا مِن قَبْلُ مجيء محمد صلّى الله عليه وسلم لفي خطأ بَيِّن.(1/262)
ثم رجع إلى قصة أُحد وذكر التعزية للمؤمنين بما أصابهم من الجراحات، فقال:
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعني يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر، لأن المسلمين يوم بدر قتلوا سبعين نفساً من صناديد قريش وأسروا سبعين، وقتل من المسلمين يوم أُحد سبعين ولم يؤسر منهم أحد، فذلك قوله تعالى: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها وقوله: أَوَلَمَّا فالألف للاستفهام والواو للعطف وما صلة، فكأنه قال: ولئن متم أو قتلتم أو أصابتكم مصيبة يوم أحد، قد أصبتم مثليها يوم بدر قُلْتُمْ أَنَّى هذا يعني قلتم: فمن أين لنا هذا؟ وكيف أصابنا هذا ونحن مسلمون؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي من عند قومكم بمعصية الرماة، بتركهم ما أمرهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال الضحاك: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، يعني بذنوبكم التي سلفت منكم قبل القتال، يعني إن في ذلك تطهيراً لما سلف من ذنوبكم وهو قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] . إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من النصرة والهزيمة وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فبإذن الله، أي جمع المسلمين وجمع المشركين فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فبإرادة الله أصابكم وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا يعني أصابتكم المصيبة لكي يظهر المؤمن من المنافق.
ثم بيّن أمر المنافقين وصنيعهم وقلة حسبتهم في أمر الجهاد، فقال: وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا يعني: إن لم تقاتلوا لوجه الله، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وحريمكم. قال الكلبي: ويقال ادفعوا يعني: كثروا. وقال القتبي: ادفعوا، أي كثروا لأنكم إذا كثرتم ثم دفعتم القوم بكثرتكم قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يعني: أن ميلهم إلى الكفر أقرب من ميلهم إلى الإيمان. وقوله: لَاتَّبَعْناكُمْ أي لجئنا معكم. قال الضحاك: وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما خرج يوم أحد، أبصر كتيبة خثناء وفيها كبكبة من الناس، فقال: «مَنْ هَؤُلاءِ» ؟ فقيل: يا نبيّ الله، هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي. فقال:
«إِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِالكُفَّارِ» فرجع عبد الله مع حلفائه من اليهود. فقال له عمر: أقم مع المؤمنين.
فقال: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ. ويقال: إن عونهم للكفار أكثر من عونهم للمؤمنين يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ذكر الأفواه على معنى التأكيد، لأن الرجل يقول بالمجاز بالإشارة، وهذا كما قال: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] ويَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق والكفر.
ونزل فيهم أيضاً: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ من المنافقين وَقَعَدُوا عن الجهاد لَوْ أَطاعُونا في القعود عن الجهاد مَا قُتِلُوا في الغزو قُلْ لهم يا محمد فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ في حال حضور الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالتكم. قال الفقيه: سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول: لما نزلت هذه الآية: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ مات يومئذ سبعون نفساً من المنافقين.(1/263)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 170]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
ثم نزل في شأن الشهداء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ من التحف وذلك أن المسلمين كانوا يقولون مات فلان ومات فلان، فنزلت هذه الآية: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وهذا قول الكلبي. ويقال: ولا تظنن الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتاً كسائر الأموات بل أحياء، يعني: هم كالأحياء عند ربهم، لأنه يُكْتب لهم أجرهم إلى يوم القيامة، فكأنهم أحياء في الآخرة. ويقال: لا تظن كما يظن الكفار بهم أنهم لا يبعثون، بل يبعثهم الله ويقال: أرواحهم في المنزلة والكرامة بمنزلة الشهداء الأحياء وروي عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، جَعَلَ الله أَرْوَاحَهُم فِي أَجْوَافِ طَيْرِ خُضْرٍ، تَردُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ العَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مُنْقَلَبِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ، وَرَأَوْا مَا عِنْدَ الله لَهُمْ مِنَ الكَرَامَةِ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، قَالُوا: يَا لَيْتَ إخْوَانِنَا عَلِمُوا مَا أَعدَّ الله لَنَا مِنَ الكَرَامَةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، فَلَمْ يَنكلُوا عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَمْ يَجْبُنُوا عِنْدَ القِتَالِ، فَقَالَ الله تَعَالَى أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ أي معجبين بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من رزقه في الجنة وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ من إخوانهم من بعدهم أن يأتوهم.
ثم رجع إلى الشهداء فقال تعالى: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من الدنيا. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: ولا تَحْسَبَنَّ بنصب السين في جميع القرآن. وقرأ الباقون: بالكسر. وقرأ ابن عامر: قُتِّلُوا بتشديد التاء على معنى التكثير، يعني أنهم يقتلون واحداً فواحداً. وقرأ الباقون بالتخفيف.
[سورة آل عمران (3) : آية 171]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قوله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ يقول: بجنة من الله، ويقال: بمغفرة من الله وَفَضْلٍ يعني: الكرامات في الجنة. وروي عن مجاهد أنه كان يقول: السيوف مفاتيح الجنة. وروت عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشَّهِيدُ يَشفعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ» قال الفقيه: أروي هذا الحديث بمعناه لا بلفظه، إن الله تعالى أكرم الشهداء بخمس(1/264)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
كرامات، لم يكرم بها أحد من الأنبياء ولا أنا، إحداها: أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي، وأما الشهداء فالله تعالى هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء، ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت. والثانية: أن جميع الأنبياء قد غُسِّلوا بعد الموت، وأنا أَغسَّل بعد الموت، وأما الشهداء فلا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا.
والثالثة: أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن أيضاً، والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم.
والرابعة: أن جميع الأنبياء لما ماتوا فقد سُمُّوا أمواتاً، وإذا مت أنا يقال: قد مات والشهداء لا يُسمون موتى. والخامسة: أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة، وشفاعتي أيضاً يوم القيامة، وأما الشهداء فيشفع لهم في كل يوم فيمن يستشفعون.
ثم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قرأ الكسائي: وإنَّ بكسر الألف، والباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله، ويستبشرون بأن الله لا يضيع ثواب المؤمنين الموحدين. ومن قرأ بالكسر على معنى الابتداء: إن الله لا يبطل ثواب عمل الموحدين، وهذا الخبر للترغيب في الجهاد. وأما الشهداء والأولياء، فيشفع لهم لا يبلغون إلى درجة الأنبياء. ومن قال: إنهم يبلغون إلى درجة الإباحة، ومن أنكر كرامات الأولياء فهو معتزلي.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 172 الى 175]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قال في رواية الكلبي: وذلك أن أبا سفيان حين رجع من أُحد، نادى فقال: يا محمد، إن الموعد بيننا وبينك موسم بدر الصغرى.
فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: «قُلْ لَهُ ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى» . ثم ندم أبو سفيان، فقال لنعيم بن مسعود- وكان يخرج إلى المدينة للتجارة-: إذا أتيت المدينة، فخوّفهم لكيلا يخرجوا. فلما قدم نعيم المدينة قال: إن أبا سفيان قد جمع خلقاً كثيرة، فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وتثاقلوا، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي مِنْكُمْ أَحَدٌ» قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للميعاد، ومعه نحواً من(1/265)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
سبعين رجلاً، حتى انتهوا إلى ذلك الموضع، وكان هنالك سوق فلم يخرج أحد من أهل مكة، فتسوقوا من السوق حاجتهم وانصرفوا، فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ يعني أصابتهم الجراحات يوم أُحد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ أي الذين أوفوا الميعاد وَاتَّقَوْا السخط في معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أَجْرٌ عَظِيمٌ أي ثواب كثير الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني نعيم بن مسعود، وإنما أراد به جنس الناس وكان رجلاً واحداً إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني أبا سفيان وأصحابه فَاخْشَوْهُمْ ولا تخرجوا إليهم فَزادَهُمْ إِيماناً أي تصديقاً، ويقيناً، وجرأة على القتال وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي ثقتنا بالله، وأيقنوا أن الله لا يخذل محمدا صلى الله عليه وسلم وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي نعم الثقة لنا.
فَانْقَلَبُوا انصرفوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بأجر من الله وَفَضْلٍ يعني ما تسوقوا به من السوق، واشتروا الأشياء بسعر رخيص لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ يعني قتال وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ أي ذو مَنِّ عظيم. وقال في رواية الضحاك: كان ذلك يوم أُحد، لما انهزمت قريش، ونزلت في مواضع، وكثرت الجراحات في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إليهم فأجابه سبعون رجلاً، فنزلت هذه الآية قوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يعني نعيم بن مسعود، لأن كل عات متمرد شيطان يخوف أولياءه، يعني بأوليائه الكفار. ويقال: يخوف أشكاله. وقال الزجاج: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ أي ذلك التخويف عمل الشيطان، يخوفكم من أوليائه. وقال القتبي: يخوف أولياءه أي بأوليائه، أي كما.
قال تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: 2] يعني لينذركم ببأس شديد.
ثم قال تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ في الخروج وَخافُونِ في القعود إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين. قال الزجاج: معناه إن كنتم مصدقين، فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 176]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ قال الكلبي: يعني به المنافقين ورؤساء اليهود، كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب فنزل: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. ويقال: إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا، شقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون:
إنهم أهل الكتاب، فلو كان قوله حقاً لا تبعوه. فنزلت هذه الآية. ويقال: نزلت في مشركي قريش، لأنهم كانوا أقرباءه، والناس يقولون: لو كان قوله حقا لا تبعه أقرباؤه، فشق ذلك عليه(1/266)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
فنزلت وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يبادرون في الكفر ولا يصدقونك إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي لا ينقصوا من ملك الله شيئاً وسلطانه شيئاً بكفرهم وهذا كما روى أبو ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَالَ الله لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذلك فِي مُلْكِ الله شَيْئاً وَلَوْ كَانَ أوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ وَجِنُّكُمْ وَإنْسُكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ مِنْ مُلْكِ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» .
ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أي نصيباً في الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة. قرأ نافع: ولا يُحْزِنْك بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك ما كان نحو هذا في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الزاي، وهما لغتان وتفسيرهما واحد.
[سورة آل عمران (3) : آية 177]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا يعني اختاروا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يقول لن ينقصوا من ملك الله شيئاً، وإنما أضروا بأنفسهم حيث استوجبوا لأنفسهم العذاب، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
[سورة آل عمران (3) : آية 178]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ يعني: لا يظن الكفار أن الذي نملي لهم ونمهلهم خير لهم، ويقال: ما نعطيهم من المال والولد لا يظنن أن ذلك خير لهم في الآخرة، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ في الآخرة إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي نعطي لهم المال والولد، يهانون به من العذاب. ويقال: إنما نملي لهم، أي بما أصابوا من الظفر يوم أُحد لم يكن ذلك خيراً لأنفسهم، وإنما كان ليزدادوا عقوبة. ويقال: إنما نملي لهم ونؤخر العذاب عنهم ليزدادوا إثماً، أي جرأة على المعاصي. وإنما كان ذلك مجازاة لكفرهم وخبث نياتهم. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من بر وفاجر إلا والموت خير له، لأنه إن كان براً فقد قال الله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران: 198] وإن كان فاجراً فقد قال الله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً قرأ ابن عامر وعاصم: لا يَحْسَبَنَّ بالياء ونصب السين. قرأ الباقون بالتاء وكسر السين، وكذلك الذي بعد هذا.(1/267)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
[سورة آل عمران (3) : آية 179]
مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
ثم قال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قال الكلبي: وذلك أن قريشاً من أهل مكة قالوا: يا رسول الله إنك تزعم أن الرجل منا في النار، وإذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، فأخبرنا عن هذا من أين هو؟ وأخبرنا مَن يأتيك منا ومن لا يأتيك؟ فأنزل الله تعالى: مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الكفر والنفاق.
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ يقول: حتى يخلص الكافر من المؤمن وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي ليبين لكم المؤمن من الكافر قبل أن يؤمن. وقال الفراء: لم يكن الله ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي يقول يصطفي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ للنبوة والرسالة من خلقه، فيوحي إليه بإذنه. قال في رواية الضحاك: إن المنافقين أعلنوا الإسلام وأسروا الكفر، وصلوا وجاهدوا مع المؤمنين، فأحب الله أن يميز بين الفريقين، وأن يدل رسوله على سرائر المنافقين فقال تعالى: مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ يعني المنافق من المؤمن وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله، يعني: أن المؤمنين لا يعلمون سر المنافقين، ولكن الله يبين ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. ويقال: مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ، أي ليترك من علم أنه من أهل الإيمان على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ من الكفر حتى يوفقه للإيمان، وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله بالوحي، حتى يكون ذلك علامة لنبوتهم.
ثم قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا بالله ورسله وَتَتَّقُوا الشرك والمعصية فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي ثواب عظيم في الجنة. ويقال: إن الكفار لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيّن لهم من يؤمن منهم، فنزل قوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني ولا تشتغلوا بما لا يعنيكم، واشتغلوا بما يعنيكم، فآمنوا بالله ورسله فإنكم إن فعلتم ذلك فلكم أجر عظيم. قرأ حمزة والكسائي: حتى يُميز مع التشديد بضم الياء ونصب الميم. وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الميم بغير تشديد، وتفسيرهما واحد إلا انك إذا قرأت بالتشديد قد يكون عبارة عن الكثرة والمبالغة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 181]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)(1/268)
ثم قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي بما أعطاهم الله من المال، يبخلون ويمنعون الزكاة والصدقة وصلة الأرحام، فلا يظنوا أن ذلك هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ يعني: أن البخل شر لهم. ويقال: الفضل شر لهم سَيُطَوَّقُونَ يقول سيوثقون مَا بَخِلُوا بِهِ من الزكاة كهيئة الطوق. وروي عن ابن عباس أنه قال: يأتي كنز أحدهم، شجاع أقرع له زبيبتان طوقاً في عنقه، يلدغ خديه ويقول: أنا الزكاة التي بخلت بي في الدنيا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا فذلك قوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويقال: هو طوق من نار في عنقه. ويقال: هو على وجه المثل، يعني وبال ذلك في عنقهم كما قال في آية أخرى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] .
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني إذا هلك الخلق كلهم أهل السموات من الملائكة، وأهل الأرض من الإنس والجن وسائر الخلق، ويبقى رب العالمين ثم يقول:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] . فلا يجيب أحد فيرد على نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [يوسف: 39 وغيرها] فذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني يهلك أهل السموات والأرض ولم يبق لأحد ملك. وإنما سمي ميراثاً على وجه المجاز، لأن القرآن بلغة العرب، وكانوا يعرفون أن من رجع الملك إليه يكون ميراثاً على وجه المجاز، وأما في الحقيقة فليس بميراث، لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن يملكه من قبل، والله عز وجل مالكهما، وكانت السموات وما فيها والأرض وما فيها له، وإنما كانت الأموال عارية عند أربابها، فإذا ماتوا رجعت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل. ومعنى الآية أن الله تعالى أمر عباده أن ينفقوا ولا يبخلوا، قبل أن يموتوا ويتركوا المال ميراث الله لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عالم بمن يؤدي الزكاة وبمن يمنعها، فيجازي كل نفس بما عملت. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بِمَا يَعْمَلُونَ بالياء، والباقون بالتاء على وجه المخاطبة لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. وقال في رواية الضحاك: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245 والحديد: 11] قالت الفجرة من كفرة اليهود: أفقير ربنا فيستقرضنا؟ قالوا ذلك على وجه الاستهزاء، فنزلت هذه الآية. ويقال إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى اليهود ليأمرهم بالإسلام، وأن يعطوا الصدقة ويؤمنوا، فلما انتهى إليهم أبو بكر قال فنحاص بن عازورا: أيسأل الله منا(1/269)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
الصدقة؟ فهو فقير ونحن أغنياء. فنزلت هذه الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا أي حفظ قولهم ونجازيهم ويقال: سنكتب ما قالوا، يعني:
يكتب عليهم الكرام الكاتبون ويؤاخذون به في الآخرة وَقَتْلَهُمُ أي ونكتب قتلهم الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعني بلا جرم وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي تقول لهم خزنة جهنم في الآخرة ذلك. قرأ حمزة: سيُكتَب بضم الياء ونصب التاء، وقتلُهم الأنبياء بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله، يعني يكتب قتلهم الأنبياء، ويقول بالياء. والباقون سنكتب بالنون، وقتلهم بنصب اللام، ونقول بالنون. وقوله: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن شَرَارَةً وَقَعَتْ بِالمَشْرِقِ لَغَلَتْ مِنْهَا جَمَاجِمُ قَوْمٍ بِالمَغْرِبِ، وَلَوْ أنَّ حَلقَةً مِنْ سَلاَسِلِ النَّارِ وُضِعَتْ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لاحْتَرَقَ إلى سَبْعِ أَرَضِين» فهذا معنى قوله: عَذابَ الْحَرِيقِ.
[سورة آل عمران (3) : آية 182]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
ثم قال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يعني يقال لهم: ذلك العذاب بما قدمت أَيْدِيكُمْ من الكفر والتكذيب، أي بما قدمتم. وذكر الأيدي على معنى الكتابة وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي لا يعذب أحداً بغير ذنب.
[سورة آل عمران (3) : آية 183]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا يعني كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف وغيرهما من رؤساء اليهود: قالوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا يعني أمرنا في التوراة أَلَّا نُؤْمِنَ يعني أن لا نصدق لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ يعني تجيء نار من السماء فتأكل القربان بالبينات، فإن جئتنا بها صدقناك قال الله تعالى: قُلْ يا محمد قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ يعني: بالآيات والعلامات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ يعني قد جاءكم الرسل بالذي قلتم من أمر القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ يعني زكريا ويحيى وغيرهما إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تقولون.
[سورة آل عمران (3) : آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)(1/270)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ بما تقول لهم فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فالله تعالى يعزي نبيه ليصبر على تكذيبهم، فقد جاؤُ بِالْبَيِّناتِ يعني الرسل جاءوا بالبينات، أي من قبلك، وقد جاءوا بالآيات والعلامات وَالزُّبُرِ قال الكلبي: يعني بأحاديث الأنبياء من قبلهم بالنبوة على ما يكون وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ يعني: الحلال والحرام. وقال الزجاج: الزبر جماعة الزبور وهو الكتاب يقال: زَبَرْتُ أي كتبت، ويقال: زَبَرْتُ أي قرأت، والكتاب المنير يعني المعنيّ بالحلال والحرام. قرأ أبو عمرو بالزبر مع الباء، وقرأ الباقون والزبر بالواو.
[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
ثم قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قال الكلبي: لما نزل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] قالت الملائكة هلك أهل الأرض، فلما نزل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أيقنت الملائكة أنها هلكت معهم. ثم قال وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ أي توفون ثواب أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ يقول بَعُد وَنُحِّي عنها وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ يعني: نجا وسعد في الجنة. حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا المسيب عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْيَأت إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْه» . وقوله: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال ابن عباس: متاع الغرور مثل القدر والقارورة والسكرجة ونحو ذلك، لأن ذلك لا يدوم، وكذلك الدنيا تزول وتفنى ولا تبقى. ويقال: هو مثل الزجاج الذي يسرع إليه الكسر، ولا يصلحه الجبر. ويقال: كزاد المسافر، يسرع إليه الفناء فكذلك الدنيا.
[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ يقول: لتختبرن في أموالكم بالنقصان والذهاب، ويقال بوجوب الحقوق فيها وفي أنفسكم، بالأمراض والأوجاع والقتل وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ حين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي العرب أَذىً كَثِيراً باللسان والفعل، ويقال: نزلت الآية(1/271)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
في شأن أبي بكر رضي الله عنه، كانوا أهل الجاهلية يهددونه ويشتمونه ويقولون: إن ما يفعله محمد صلى الله عليه وسلم بمشاورته، فأمره الله تعالى بأن يصبر على أذاهم. فقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا المكافأة ويقال وتتقوا معاصيه فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني من حقائق الأمور. ويقال: إن ذلك الصبر من خير الأمور.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 195]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني: أخذ عليهم الميثاق حين أخذ ذرية آدم من ظهورهم. ويقال: أخذ عليهم الميثاق بالوحي في كتب الأنبياء لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ يعني: نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وَلا تَكْتُمُونَهُ عنهم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: ليبيننه للناس ولا يكتمونه، كلاهما بالياء. وقرأ الباقون بالتاء، فمن قرأ بالياء(1/272)
فمعناه أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، ومن قرأ بالتاء فمعناه أخذ عليهم الميثاق، وقال لهم: لتبيننه للناس ولا تكتمونه. ثم أخبر عن سوء معاملتهم ونقضهم الميثاق فقال تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي طرحوه خلف ظهورهم، يعني أنهم تركوا الميثاق ولم يعملوا به وَاشْتَرَوْا بِهِ أي بكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ثَمَناً قَلِيلًا أي عَرضاً يسيراً من متاع الدنيا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ يعني: بئس ما يختارون لأنفسهم الدنيا على الآخرة لاَ تَحْسَبَنَّ يقول: لا تظنن يا محمد الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا يقول: يعجبون بما أوتوا، يعني بما غيرّوا من نعته وصفته، وهذا قول الكلبي. وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك:
إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبياً في آخر الزمان يختم به النبوة، فلما بعثه الله سألهم الملوك:
أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقالت اليهود طمعاً في أموال الملوك: هو غير هذا.
فأعطاهم الملوك مالاً فقال الله تعالى: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي بما أعطاهم الملوك وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا لأنهم كانوا يقولون: نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه. ويقال: كانوا يقولون نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب، ويريدون أن يحمدوا بذلك. قال الله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ يقول فلا تظنهم بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ
معناه لا تظنن أنهم ينجون من العذاب بذلك وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي دائم لا يخرجون منه أبدا.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات.
ويقال: جميع من فى السموات والارض عبيده وفي ملكه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من النبات وغيره. ويقال: هذا معطوف على أول الكلام أنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء لأنه على كل شىء قدير إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية لصحة دعواه، لأنه كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فنزل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خلقين عظيمين. ويقال: فيما خلق في السموات من الشمس والقمر والنجوم، وما خلق في الأرض من الجبال والبحار والأشجار وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يقول: وذهاب الليل ومجيء النهار، ويقال اختلاف لونيهما لَآياتٍ أي لعبرات لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي العقول الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً أي يصلون لله قياماً إن استطاعوا على القيام، وقعوداً إن لم يستطيعوا القيام وَعَلى جُنُوبِهِمْ إن لم يستطيعوا القعود لزمانة.
ويقال: معناه الذين يذكرون الله في الأحوال كلها في حال القيام والقعود والاضطجاع، كما قال في آية أخرى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41] ثم قال: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يعتبرون في خلقهما. قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال:
حدثنا قتيبة، قال: حدثنا ابن زرارة الحلبي، عن أبي حباب، عن عطاء بن أبي رباح قال:
دخلت مع ابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة، فسلمنا عليها فقالت: من هؤلاء؟ فقلت:
عبد الله بن عمر، وعبيد بن عمير. فقالت: مرحباً بك يا عبيد بن عمير، ما لك لا تزورنا؟(1/273)
فقال عبيد: زر غبّاً تَزْدَدْ حُبّاً فقال ابن عمر: دعونا من هذا، حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت بكاء شديداً ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في فراشي حتى ألصق جلده بجلدي، فقال: «يَا عَائِشَةُ أَتَأْذَنِينَ لِي أنْ أَعْبُدَ رَبِّي» فقلت: والله إني لأحب قربك، والله إني لأحب هواك. فقام إلى قربة ماء فتوضأ، ثم قام فبكى وهو قائم حتى روت الدموع حجره، ثم اتكأ على شقه الأيمن، ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، فبكى حتى روت الدموع الأرض. ثم أتاه بلال بعد ما أذن للفجر، فلما رآه يبكي قال: أتبكي يا رسول الله وقد غفر الله لك مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وما تأخر؟ فقال: «يَا بِلالُ أفَلا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً، وَمَا لِي لا أبْكِي وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... - إِلَى قَوْلُهُ- فَقِنا عَذابَ النَّارِ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَها وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ وَلا تَتَفَكَّرُوا فِي الخالق» . وقال صلى الله عليه وسلم: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» .
ثم قال تعالى عز وجل: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي يتفكرون ويقولون: ربنا ما خلقت هذا باطلاً عبثاً بغير شيء، ولكن خلقتهما لأمر هو كائن سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ يعني ادفع عذاب النار. وقال الزجاج: معنى سُبْحانَكَ أي تنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما باطلاً فَقِنا عَذابَ النَّارِ أي صدَّقْنا رسلك، وسلَّمنا أن لك جنة وناراً فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وفضحته وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يعني: ما للمشركين من مانع من العذاب إذ نزل بهم، ويقولون أيضاً: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ يعني محمداً يدعو إلى التصديق أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ أي صدقوا بتوحيد ربكم، فآمنا أي صدقنا بتوحيد ربنا. وقال محمد بن كعب القرظي: ليس كل الناس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المنادي هو كتاب الله يدعو إلى الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن آمنوا بربكم فآمنا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وقال الكلبي: الذنوب الكبائر ودون الكبائر، والسيئات الشرك. وقال الضحاك: ذنوبنا يعني ما عملوا في حال الجاهلية، وكفر عنا سيئاتنا، يعني: ما عملوا في حال الإسلام. ويقال: الذنوب والسيئات بمعنى واحد. ويقال: الذنوب هي الكبائر، والسيئات ما دون الكبائر التي تكفر من الصلاة إلى الصلاة وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي مع المطيعين، ويقال: اجعل أرواحنا مع أرواح المطيعين والصالحين. ويقولون أيضا: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ يعني أعطنا ما وعدتنا من الخير والجنة على لسان رسلك. ويقال: هو ما ذكر من استغفار الملائكة والأنبياء للمؤمنين، وهو قوله: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] وما ذكر من دعاء نوح وإبراهيم- عليهم السلام- للمؤمنين.
ثم قال تعالى: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني لا تعذبنا، ويقال: لا تخذلنا إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ يعني ما وعدت من الخير والثواب للمؤمنين فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فأخبر الله(1/274)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
عن فعلهم، وذكر ما أجابهم به وأنجز لهم موعده، وبيّن لهم ثوابه وهو قوله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ. روي عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال من دعا بهذه الدعوات فإنه يستجاب له، لأنه قال تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ يعني ثواب عمل عامل في طاعتي مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى يعني رجلاً أو امرأة. قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الديبلي، قال: حدّثنا أبو عبيد الله، قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلمة يقال له سلمة بن الأكوع، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إني أسمع الله ذكر الهجرة، فذكر فيها الرجال ولم يذكر فيها النَّسَاءِ فأنزل الله تعالى: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قال الكلبي: أي بعضكم أولياء بعض في الدين. وقال الضحاك: يعني يشبه بعضكم بعضاً في الطاعة. ويقال: بعضكم على إثر بعض، ويقال بعضكم على دين بعض. فَالَّذِينَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: إن أهل مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي عُذّبوا في طاعتي وَقاتَلُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين وَقُتِلُوا أي قتلهم المشركون. قرأ حمزة والكسائي: وقتلوا وقاتلوا على معنى التقديم والتأخير كقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ [آل عمران: 55] وقرأ الباقون: وقاتلوا وقتلوا، إلا ابن كثير وابن عامر قرءا وقتّلوا بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة، فذكر الله فعلهم، ثم ذكر ثوابهم فقال: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي لأمحون عنهم ذنوبهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار أي تجري يعني من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني أن الجنات جزاء لأعمالهم من عند الله.
وقال الزجاج: إنما صار نصباً لأنه مصدر مؤكد، معناه: لأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ولأثيبنهم ثواباً. وروي عن الفراء أنه قال: إنما صار نصباً على التفسير. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي حسن الجزاء وهو الجنة. ويقال: حسن المرجع في الآخرة خير من الدنيا.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ يقول: لا يحزنك يا محمد ذهابهم ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض. ويقال: هذا الخطاب للمؤمنين، ومعناه: لا يغرنكم تجارات الكفار وتصرفهم في أموالهم في البلاد، لأن ذلك مَتاعٌ قَلِيلٌ لأن الكفار كانوا في رخاء وعيش، وكانت لهم رحلة الشتاء والصيف، وكان المؤمنون في ضيق وشدة، فأخبر الله تعالى بمرجع الكفار في الآخرة، وبمرجع المؤمنين فقال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ما هم فيه من العيش والسعة، فإنما هو متاع أي يفنى بعد وقت قريب. قوله: ثُمَّ(1/275)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ
أي مصيرهم إلى جهنم وَبِئْسَ الْمِهادُ بئس موضع القراء في النار، وبئس المصير إليها، فما ينفعهم تجاراتهم وأموالهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 198 الى 200]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
ثم ذكر مرجع المؤمنين ومصيرهم فقال: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ أي اتقوا الشرك والفواحش، ووحّدوا ربهم لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تحتها الانهار خالدين فيها أبداً لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها أبداً نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يقول: ثواباً من عند الله للمؤمنين الموحدين خاصة وَما عِنْدَ اللَّهِ الجنة خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ من الدنيا للمؤمنين المطيعين وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يعني مؤمني أهل الكتاب، معناه مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن آمن بالله فصدق بقوله وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن وصدق وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة والإنجيل، يعني على أنبيائهم، فذكر حالهم وبيّن ثوابهم لكي يرغب غيرهم من أهل الكتاب ليؤمنوا إذا علموا بثوابهم.
ثم نعتهم فقال تعالى: خاشِعِينَ لِلَّهِ أي متواضعين لله، والخشوع أصله التذلل وكذلك الخضوع، وقد فرّق بعض أهل اللغة بين الخشوع والخضوع، فقال الخضوع في البدن خاصة، والخشوع يكون في البدن والبصر والصوت والقلب. كما قال الله تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ [طه: 108] وقال: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ [القلم: 43 المعارج: 44] .
ثم قال تعالى: لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني عرضاً يسيراً كفعل اليهود أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ أي ثوابهم عِنْدَ رَبِّهِمْ الجنة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي شديد العقوبة، ويقال: سريع الحفظ والتعريف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا أي اصبروا على البلاء والجهاد وأداء الفرائض، وعن المعاصي وَصابِرُوا مع نبيكم صلى الله عليه وسلم على عدوكم حتى يدعوا دينهم إلى دينكم، يعني يتركوا الشرك ويدخلوا في الإيمان وَرابِطُوا مع عدوكم ما أقاموا، وهذا قول الكلبي. وقال عكرمة: اصبروا على البلاء وعلى طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا الخيول. وقال الزجاج: اصبروا على دينكم وصابروا على عدوكم، ورابطوا أي أقيموا(1/276)
على جهادكم بالحرب وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع ما أمركم ونهاكم. وقال القتبي: أصل المرابطة أن يربطوا خيولهم في الثغر لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يقول: تفوزون وتأمنون النار وتنجون منها.
ويقال: أصل الفلاح البقاء بالنعمة، ويقال: الفلاح أن يبلغ الإنسان نهاية ما يؤمل، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين آمين.(1/277)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
سورة النساء
وهي مائة وستة وسبعون آية مكية
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قال: الناس عامة، وقد يكون يا أَيُّهَا النَّاسُ خاصة وعامة، يعني خاصة لأهل مكة، وفي هذا الموضع عام لجميع الناس اتَّقُوا رَبَّكُمُ يعني اخشوا ربكم ويقال أطيعوا ربكم احذروا المعاصي لكي تنجوا من عقوبة ربكم. وقال: وحّدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا، ثم دل على وحدانية نفسه بصنيعه فقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعني خلق من نفس آدم زوجها حواء، وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم، فكان آدم بين النائم واليقظان، فخلق من ضلع من أضلاعه اليسرى حواء، فلما استيقظ قيل له من هذه يا آدم؟ قال امرأة لأنها خلقت من المرء، فقيل: ما اسمها؟ قال: حواء لأنها خلقت من حي. وقد قيل: إنما سميت حواء لأنه كان على شفتيها حوة وقيل لأن لونها كان يضرب إلى السمرة فسميت حواء من قولك أحوى كقوله تعالى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: 5] .
ثم قال تعالى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً يعني: خلق منهما يعني من آدم وحواء، ونشر منهما رجالا كثيرا ونساء، يعني خلق منهما رجالاً كثيراً ونساءً. قال مقاتل: أي خلق منهما ألف ذرية من الناس. ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي أطيعوا الله الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، وأبو عمرو في رواية هارون: «تسألون» بغير تشديد.
وقرأ الباقون بالتشديد، فأما من قرأ بالتشديد لأن أصله تتساءلون فأدغم إحدى التاءين في السين وأقيم التشديد مقامه، ومن قرأ بالتخفيف فالأصل أيضاً تتساءلون، فحذف إحدى التاءين لاجتماع الحرفين من جنس واحد للتخفيف. ثم قال: وَالْأَرْحامَ قرأ حمزة: وَالْأَرْحامَ(1/278)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
بكسر الميم، والباقون بنصب الميم، ومعناه واتقوا الله الذي تسألون به الحاجات، يعني الذي يسأل الناس بعضهم بعضاً، فيقول الرجل للرجل: أسألك بالله وأنشدك بالله والأرحام. يقول:
واتقوا اللَّهَ في ذوي الأرحام، فصلوها ولا تقطعوها. وأما من قرأ بالكسر معناه: أسألك بالله وبالرحم أن تعطيني شيئاً. وقال الزجاج: من قرأ بالخفض فخطأ في العربية وفي أمر الدين، أما الخطأ في العربية لأن الاسم يعطف على الاسم المفصح به ولا يعطف على المكنى به إلا في اضطرار الشعر، كقول الشاعر:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فما لنا بك والأيام من عجب
وأما في غير الشعر فلا يستعمل، وأما الخطأ الذي في الدين لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ» . فالسؤال بالأرحام أمر عظيم. ولكن روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقرأ بالخفض أيضاً. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً أي حفيظا لأعمالكم يسألكم عنها فيما أمركم به. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عمل حسنة أسرع ثوابا من صلة الرّحم، وما من عمل سيّئة أسرع عقوبة من البغي، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لمّا خلق الرّحم قال له: صل من وصلك واقطع من قطعك» . ويقال: الرحم مشتق من الرحمة، فمن قطعها فليس له من رحمة الله تعالى نصيب.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الرّحم معلّق بالعرش، فمن قطعها قطعني، ومن وصلها وصلني»
[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 3]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
ثم قال وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ يقول للأولياء آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ التي عندكم إذا بلغوا النكاح، يعني الحلم وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ يعني الحرام بِالطَّيِّبِ يعني بالحلال من أموالكم يقول: لا تذروا أموالكم الحلال، وتأكلوا الحرام من أموال اليتامى. ويقال: لا تخلطوا الخبيث بالطيب. ويقال: لا تخلطوا من مالكم الرديء، وتأخذوا الجيد من مال اليتيم. يعني أن يرسل شاة عجفاء في غنمه ويأخذ مكانها شاة سمينة، وفي الحبوب كذلك. ويقال: لا تجعلوا أموالهم وقاية لأموالكم.
ثم قال تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يعني مع أموالكم إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً يعني: إثماً عظيماً قرأ الحسن «حوباً» بنصب الحاء. قال مقاتل: هو بلغة الحبش. قال القتبي:
الحُوب والحَوْب واحد، وهو الإثم. وقال مقاتل: نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير(1/279)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
لابن أخيه، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه العم، فنزلت الآية فقرأها عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال الرجل: أطعنا الله ورسوله، ونعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله، فلما قبض الفتى ماله أنفقه فِى سَبِيلِ الله. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أصَابَ الأَجْرَ وَبَقِيَ الوِزْرُ» فقالوا كيف بقي الوزر وقد أنفقه فِى سَبِيلِ الله؟ فقال: «أصَابَ الغُلامُ الأجْرَ وَبَقِيَ الوِزْرُ عَلَى وَالِدِهِ» .
قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يعني: ألا تعدلوا في أموال اليتامى، يقال في اللغة: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار. وقال صلى الله عليه وسلم: «المُقْسِطُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . يعني العادلون. قال الله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: 15] يعني الجائرون. ثم قال تعالى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ
وذلك أنهم كانوا يسألون عن أمر اليتامى ويخافون ألا يعدلوا، وكانوا يتزوجون من النساء ما شاؤوا، فنزلت هذه الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يعني فكما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى، فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا بينهن. وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان الناس يتزوجون اليتامى ولا يعدلون بينهن، ولم يكن لهم أحد يخاصم عنهن، فنهى الله المؤمنين عن ذلك فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى الآية. ويقال: إنهم كانوا يتزوجون امرأة لها أولاد أيتام، وكانوا لا يحسنون النظر إليهم، فنزل وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ يعني بغير ولد مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.
ثم قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا في القسم والنفقة فَواحِدَةً يقول: تزوجوا امرأة واحدة، وإن خفتم ألا تعدلوا في الواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني الإماء، ويقال إن خفتم ألا تعدلوا في القسم بين النساء فواحدة، أي واشتروا الإماء لأن الواحدة لا تحتاج إلى القسمة، والإماء لا يحتاج فيهن إلى القسمة. وقال بعض الروافض بظاهر هذه الآية أنه يجوز نكاح تسع نسوة، لأنه قال مثنى وثلاث وَرُبَاعَ، فيكون ذلك تسعاً. ولكن أجمع المفسرون أن المراد به التفصيل لا الاجتماع، ومعناه مثنى أو ثلاث أو رباع، وبذلك جاءت الآثار، وهو حديث غيلان بن سلمة أنه أسلم ومعه عشر نسوة، فخيّره النبيّ صلّى الله عليه وسلم فاختار أربعاً وفارق البواقي. وروي عن الكلبي ومقاتل أن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر، فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعاً ويمسك أربعاً. وروى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير، أن ذلك كان الحارث بن قيس الأسدي، وهذا هو المعروف عند الفقهاء.
ثم قال تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أي أحرى ألا تميلوا ولا تجوروا ولا تظلموا.
[سورة النساء (4) : الآيات 4 الى 6]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)(1/280)
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً يعني أعطوا النساء مهورهن فريضة. ويقال: ديانة كما يقال: فلان ينتحل إلى مذهب كذا، أي يدين بكذا. ويقال نحلة أي صدقة وهبة، لأن المهر نحلة من الله تعالى للنساء حيث لم يوجب عليهن وأوجب لهن. وقال في رواية الكلبي: إن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلاً ولا كثيراً، وإن كانت غريبة حملوها على بعير إلى زوجها، ولا يعطوها مهرها غير ذلك البعير شيئاً، فنزل قوله تعالى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً يعني به الأولياء، يعني أعطوهن مهورهن نحلة. يقول: عطية لهن. وقال في رواية مقاتل: كان الرجل يتزوج بغير مهر، ويقول: أرثك وترثيني، فنزلت الآية وَآتُوا النِّساءَ يعني الأزواج صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي مهور النساء نحلة يعني فريضة فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ يا معشر الأزواج أي أحللن لكم ووهبن لكم، قال في رواية الكلبي: يعني الأولياء إذا وهبت المرأة المهر للولي فذلك قوله فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً أي طيباً لا إثم فيه مَرِيئاً أي لا داء فيه، ويقال: هنيئاً مريئاً يعني حلالاً طيباً. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا كان أحدكم مريضاً فليسأل من امرأته درهمين من مهرها، حتى تهب له بطيبة نفسها، فيشتري بذلك عسلاً فيشربه مع ماء المطر، فحينئذٍ قد اجتمع الهنيء والمريء، والشفاء والماء المبارك، يعني أن الله سبحانه تعالى سمى المهر هنيئاً مريئاً إذا وهبت، وسمى العسل شفاء، وسمى ماء المطر مباركاً، فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء.
ثم قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ يعني النساء والأولاد الصغار، يعني لا يجعل الرجل ماله في يدي امرأته وأولاده، ثم يجعل نفسه محتاجاً إليهم فلا يدفع إليه عند حاجته. ويقال: لا تدفعوا أموالكم مضاربة، ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: مَنْ لَمْ يتفقه فلا يتجر في سوقنا. فذلك قوله تعالى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ يعني الجهال بالأحكام. ويقال: لا تدفعوا إلى الكفار، ولهذا كره علماؤنا أن يوكل المسلم ذمياً بالبيع والشراء، أو يدفع إليه مضاربة ثم قال تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً يعني الأموال التي جعل الله قواماً لمعاشكم. ثم قال: وَارْزُقُوهُمْ فِيها يعني الأولاد(1/281)
الصغار أطعموهم وَاكْسُوهُمْ من أموالكم، وكونوا أنتم القوام على أموالكم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً يعني إذا طلبوا منكم النفقة ولم يكن عندكم في ذلك الوقت شيء، فعدوا لهم عدة حسنة، أي سأفعل ذلك. ثم قال: وَابْتَلُوا الْيَتامى يعني اختبروا اليتامى وجربوا عقولهم، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ يعني الحلم ويقال: مبلغ الرجال فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً يقول: إذا رأيتم منهم رشداً، وصلاحاً في دينهم، وحفظاً لأموالهم فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ التي معكم وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً في غير حق وَبِداراً يعني مبادرة في أكله أَنْ يَكْبَرُوا يعني مخافة أن يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم.
ثم قال: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ أي ليحفظ نفسه عن مال اليتيم وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وقد اختلف الناس في تأويل هذه الآية، وقالوا فيها ثلاثة أقوال. قال بعضهم: يجوز للمعسر أن يأكل على قدر قيامه عليه. وقال بعضهم: لا يجوز أن يأكل إلا على وجه القرض، ويرد عليه إذا كبر. وقال بعضهم: لا يجوز في الأحوال كلها. فأما من قال إنه يجوز أكله على قدر قيامه فإنه احتج بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم- المراد منه بيت المال- فمن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه إن رجلاً سأله فقال: يا ابن عباس أتي إليّ بمواشي أيتام فهل عليَّ جناح إن أصبت من رسل مواشيهم؟ قال ابن عباس:
إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حياضها ولا تفرط لها يوم وردها، فلا جناح عليك إن أصبت من رسلها. وقال مجاهد: كان يقول من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للوصي أن يأكل بالمعروف مع اليتيم، فإنه يحلب غنمه ويقوم على ماله ويحفظه، وأما من قال إنه يجوز أكله على وجه القرض احتج بما روي عن محمد بن سيرين أنه قال: سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال: هو قرض ثم يرد عليه إذا كبر. فقال: ألا ترى أنه قال في سياق الآية فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ؟ وقال أبو العالية: ما أكل فهو دين عليه. وقال الشعبي: مثله. وأما من قال إنه لا يجوز أكله، فلأن الله تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] وتلك الآية محكمة وهذه من المتشابهة، لأنه يحتمل التأويل أنهم يأكلون على وجه القرض أو على وجه الإباحة، فيرد حكم المتشابه إلى المحكم. وقد قيل أن هذه الآية منسوخة بتلك الآية. قال الفقيه رحمه الله: إذا كان الوصي فقيراً، فأكل من مال اليتيم مقدار قيامه عليه، أرجو أن لا بأس به، لأن كثيراً من العلماء أجازوا ذلك والاحتراز عنه أفضل.
قرأ نافع وابن عامر الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً بكسر القاف ونصب الياء بغير ألف، والباقون بالألف ومعناهما قريب. وقال أهل اللغة: قياماً وقواماً وقيماً بمعنى واحد. وقوله تعالى فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ يعني إذا أدرك اليتامى ودفعتم إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُوا(1/282)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
عَلَيْهِمْ
على ذلك، وإنما الإشهاد على معنى الاستحباب لنفي التهمة عن نفسه، ولو لم يشهد على ذلك لجاز كقوله تعالى وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ثم قال: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي شهيداً في أمر الآخرة، وأما في أمر الدنيا ينبغي أن يشهد العدول على ذلك لدفع القال عن نفسه، لأن الله تعالى لا يشهد له في الدنيا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء، وإنما يورثون الرجال من كان يقاتل ويحوز الغنيمة، حتى مات أوس بن ثابت الأنصاري، وترك ثلاث بنات وترك امرأة يقال لها: أم كجة، فقام ابن عمه وأخذ ماله، فجاءت المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له القصة. ويقال: مات رفاعة وترك ابنه وابنته، فأخذ الابن ميراثه كله فجاءت امرأته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فنزل قوله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ أي حظ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ أي حظ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ يعني إن قل المال أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي حظاً معلوماً لكل واحد من الميراث، فبيّن في هذه الآية أن للرجال نصيباً وللنساء نصيباً، ولكن لم يبين مقدار نصيب كل واحد منهم. ثم بيّن في الآية التي بعدها فقال: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ قال مقاتل:
فيها تقديم وتأخير، ومعناه إذا حضر أولو القربى قسمة الميراث فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ يعني فأعطوهم من الميراث. قال مقاتل: وهذا كان قبل قسمة الميراث.
ثم قال تعالى: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً يعني إذا كان الورثة كباراً يعطون من الميراث لذوي القربى، وإن كانت الورثة صغاراً ليقل لهم الأولياء قولاً معروفاً، أي عدوا لهم عدة حسنة. يقول لهم: إذا أدرك الصغار أمرناهم يعطوكم شيئاً ويعرفون حقكم. وقال القتبي: إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ فيه قولان: أحدهما أن تكون قسمة الوصية إذا حضرها أقرباؤكم، فاجعلوا لهم حظاً من الثلث. ووجه آخر: أن يكون قسمة الميراث فارضخوا لهم منها.(1/283)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
ثم قال: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ يقول: وليخش على أولاد الميت الضياع، كما أنكم لو تركتم أولاداً ذُرِّيَّةً ضِعافاً يقول: عجزة صغار، يعني الذي يحضره الموت لا يقال له قدم لنفسك وأوص بكذا وكذا حتى يوصي بعامة ماله، فليخش على ذرية الميت كما يخشى على ذرية نفسه. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا حضر الرجل الوصية، فلا ينبغي أن يقول له أوص بمالك فإن الله تعالى رازق أولادك ولكن يقول: له قدم لنفسك واترك لولدك فذلك قوله تعالى: خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يعني: يقول للميت قولاً عدلاً، وهو أن يلقنه لا إله إلا الله ولا يأمره بذلك، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمعه منه ويتلقن. وهكذا قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إله إلاَّ الله» . ولم يقل مروهم بذلك، لأنه لو أمر بذلك فلعله يغضب ويجحد. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً يعني بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً أي حراماً، لأن الحرام يوجب النار، فسماه الله باسمها ويقال: إنه يلقم من النار إذا صار إلى جهنم، فذلك قوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً. وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض قصة المعراج أنه قال: «رَأَيْتُ أَقْوَاماً بُطُونُهُمْ كَالحُبَالَى فِيهَا الحَيَّاتُ وَالعَقَارِبُ، فَقُلْتُ: مَنْ هؤلاء يَا جِبْرِيلُ؟
قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أي سيدخلونها في الآخرة. قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (وسيصلون) بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون النصب، وهذا كقوله: سيدخلون. وسيدخلون وقال القتبي في قوله: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ معناه: وليخش الذين يكفلون اليتامى، وليفعل بهم ما يحب أن يفعل بولده من بعده.
[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)(1/284)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي يبين الله لكم ميراث أولادكم كما بيّن قسمة المواريث، يعني: إذا مات الرجل أو المرأة وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً، يكون لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني لكل ابن سهمان، ولكل بنت سهم. وروى ابن أبي نجيح عن عطاء قال: كان ابن عباس يقول: كان الميراث للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس، وللمرأة الثمن أو الربع، وللزوج النصف أو الربع. ثم قال تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يعني إذا ترك الميت بناتاً ولم يترك أبناء، فللبنات إن كن اثنتين فصاعداً فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ من الميراث، ولم يذكر في الآية حكم البنتين، ولكن أجمع المسلمون ما خلا رواية عن ابن عباس أنه قال:
للاثنتين النصف، كما كان للواحدة وللثلاث بنات الثلثان وأما سائر الصحابة فقد قالوا: إن للاثنتين الثلثين، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاتان ابنتا سعد وقد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَقْضِي الله ذلك» فأنزل الله تعالى آية الميراث، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى عمهما وقال: «أَعْطِ لابْنَتَيْ سَعْدٍ الثّلثَيْنِ وَأَعْطِ أمَّهُمَا الثُّمُنَ وَالبَاقِي لَكَ» .
ثم قال تعالى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ يعني: إن ترك الميت بنتاً واحدة فلها النصف من الميراث، والباقي للعصبة بالخبر. قرأ نافع: (وإن كانت واحدة) بالرفع على اسم كانت وقرأ الباقون بالنصب على معنى الخبر ويكون الاسم فيه مضمراً. ثم قال تعالى:
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ الميت من المال وإِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر أو أنثى(1/285)
أو ولد الابن فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ للميت وَلَدٌ ولا ولد ابن وَوَرِثَهُ أَبَواهُ يعني: إن لم يكن للميت وارث سوى الأبوين فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ يعني للأم ثلث المال والباقي للأب. قرأ حمزة والكسائي: (فلإمه) بكسر الألف لكسر ما قبله، وقرأ الباقون بالضم. ثم قال تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ يعني: إذا كان للميت إخوة، وقد اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اسم الإخوة يقع على الاثنين فصاعداً، إلا في قول ابن عباس ثلاثة فصاعداً، واتفقوا أن الذكور والإناث فيه سواء، فيكون للأم السدس والباقي للأب مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يعني: أن قسمة المواريث من بعد وصية يُوصِي بِها الميت أَوْ دَيْنٍ يعني بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية.
وروى الحارث عن علي رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرؤون مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ يعني أن في الآية تقديماً وتأخيراً، وروي عن ابن عباس هكذا. قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم (يوصى بها) على فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون يُوصِي بِها يعني الميت إن كان يوصي بها أو عليه دين.
ثم قال تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً يعني في الآخرة، إذا كان أحدهما أرفع درجة من الآخر يسأل الله تعالى حتى يرفع إليه الآخر لتقر عينه به فقال: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً يعني أيهم أرفع درجة، فيلتحق به صاحبه. ويقال: معناه أن الله علمكم قسمة المواريث، وأنكم لا تدرون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً حتى تعطوه حصته، ويقال لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ موتاً فيرث منه الآخر. ثم قال تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ يعني بيان قسمة المواريث من الله تعالى، ويقال: القسمة فريضة من الله تعالى، لا يجوز تغييرها عما أمر الله به.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمواريث حَكِيماً حكم قسمتها وبيّنها لأهلها. وقال الزجاج: معناه وكان الله عليماً بالأشياء قبل خلقها، حكيماً فيما يقرر بتدبيره منها. وقال بعضهم:
لأن الله تعالى لم يزل، ولا يزال فالخبر منه بالماضي كالخبر منه بالاستقبال. وقال سيبويه: كأن القوم شاهدوا علماً وحكماً، فقيل لهم: إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً كذلك، لم يزل على ما شاهدتم.
ثم قال تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إذا ماتت المرأة فتركت زوجاً، فللزوج النصف إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكراً أو أنثى أو ولد ابن فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ أو ولد ابن فللزوج الربع فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مما تركت المرأة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
ثم قال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ يعني إذا مات الزوج وترك امرأة فللمرأة الربع إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ولا ولد ابن فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فإن كان للميت ولد وولد ابن فَلَهُنَّ الثُّمُنُ سواء كان له امرأة واحدة أو أربع نسوة فلهن الربع بغير ولد، والثمن مع الولد أو مع ولد الابن، لأنه قال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ فجعل حصتهن الربع أو الثمن. ثم قال: مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.(1/286)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
ثم قال: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً والكلالة ما خلا الوالد والولد، ويقال: هو اسم الميت الذي ليس له ولد ولا والد. قال أبو عبيدة: هو مصدر من تكله النسب أي أحاط به، والأب والابن طرفا الرجل فيسمى لذهاب طرفيه كلالة. وقرأ بعضهم: (يورث) بكسر الراء.
قال أبو عبيدة: من قرأ (يورث) بكسر الراء جعل الكلالة الورثة، ومن قرأ بنصب الراء جعل الكلالة الميت. وروى الشعبي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا: الكلالة من لا ولد ولا والد.
وروي عنهما أيضاً أنهما قالا: الكلالة ما سوى الولد والوالد. قوله تعالى: أَوِ امْرَأَةٌ يعني إن كانت الكلالة هي امرأة. ثم قال تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ من الميراث فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ يعني: الإخوة من الأم، وقد أجمع المسلمون أن المراد هاهنا الإخوة من الأم، لأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين، ففهموا أن المراد هاهنا الإخوة من الأم. ثم قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وقد ذكرناه غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ يعني: غير مضار للورثة، فيوصي بأكثر من الثلث وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ يعني أن تلك القسمة فريضة من الله وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني علم بأمر الميراث حَلِيمٌ على أهل الجهل منكم. وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَطَعَ مِيْرَاثاً فَرَضَهُ الله قَطَعَ الله مَيرَاثَهُ مِنَ الجَنَّةِ» . وقرأ بعض المتقدمين: (والله عليم حكيم) ، يعني حكم بقسمة الميراث والوصية.
ثم قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني هذه فرائض الله مما أمركم به من قسمة المواريث، ويقال: تلك أحكام الله، وتلك بمعنى هذه، يعني هذه أحكام الله قد بيّنها لكم لتعرفوا وتعملوا. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث فيقر بها، ويعمل بها كما أمره الله يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ذلك الثواب هو الفوز العظيم إلى النجاة الوافرة. قوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث، فلم يقسمها ولم يعمل بها وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أي خالف أمره يُدْخِلْهُ نَاراً خالِداً فِيها لأنه إذا جحد صار كافراً وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ يهان فيه. قرأ نافع وابن عامر: (ندخله) كلاهما بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه، وقرأ الباقون كلاهما بالياء لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 18]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)(1/287)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ يعني الزنى وهي المرأة الثيب إذا زنت فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أي اطلبوا عليهن أَرْبَعَةً من الشهود مِنْكُمْ أي من أحراركم المسلمين عدولاً فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بالزنى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ يعني: احبسوهن في السجن حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي حتى يمتن في السجن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا يعني مخرجاً من الحبس، ثم نسخ فصار حدهن الرجم لما روي عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ بِالحِجَارَةِ» . ثم ذكر في الآية حد البكر فقال: وَالَّذانِ لم يحصنا يَأْتِيانِها يعني الفاحشة مِنْكُمْ يعني من الأحرار المسلمين فَآذُوهُما باللسان، يعني بالتعيير بما فعلا ليندما على ما فعلا فَإِنْ تَابَا من بعد الزنى وَأَصْلَحا العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً أي متجاوزاً رَحِيماً بهما. ثم نسخ الحبس والأذى بالرجم والجلد، وإنما كان التعيير في ذلك الزمان لأن التعيير حل محل الجلد، وأما اليوم فلا ينفعهم التعيير. وروي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: واللاتى يأتين الفاحشة (من نسائكم) واللذان يأتيانها منكم كان ذلك في أول الأمر، ثم نسخ بالآية التي في سورة النور. قرأ ابن كثير: (واللذان) بتشديد النون، لأن الأصل (اللذيان) . فحذف الياء وأقيم التشديد مقامه، وقرأ الباقون بالتخفيف.
ثم قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ يعني قبول التوبة على الله ويقال: توفيقه على الله، ويقال: إنما التجاوز من الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال ابن عباس رضي الله عنه: كل مؤمن يذنب فهو جاهل في فعله، ويقال: إنما الجهالة أنهم يختارون اللذة الفانية على اللذة الباقية، وذلك الجهل لا يسقط عنهم العذاب إلا أن يتوبوا. قوله ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قال ابن عباس: كل من تاب قبل موته فهو قريب فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي يقبل توبتهم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً يعني عليماً بأهل التوبة حكيماً حكم بالتوبة. وقال مقاتل: نزلت(1/288)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
الآية في رجل من قريش، سكر وذكر شعراً ذكر فيه اللات والعزى وأنكر البعث، فلما أصبح أخبر بذلك فندم على ذلك واسترجع، فنزلت الآية ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ يعني قبل الموت.
قال: حدثنا محمد بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا أبو حفص، عن صالح المري، عن الحسن قال: مَنْ عيّر أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يغَرْغِرْ» . وقال الحسن: إن إبليس لما أهبط من الجنة، قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قال الله تعالى: فبعزتي فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم يغرغر بنفسه. قال أبو العالية الرياحي: نزلت أول الآية في المؤمنين، والوسطى في المنافقين، والأخرى في الكافرين. فأما توبة المؤمنين فذكرها قد مضى. وأما ذكر توبة المنافقين فقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الآية. يعني ليس قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي الشرق والنزع وعاينه ملك الموت قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فليس لهذا توبة.
ثم ذكر توبة الكفار وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي وجيعاً دائما.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات الرجل وله امرأة وله ولد من غيرها، أو له وارث غير الابن فألقى ثوبه عليها ورث نكاحها بالصداق الأول. ويقول: أنا ولي زوجك فورثتك. فإن كانت جميلة أمسكها، وإن لم تكن جميلة طول عليها لتفتدي منه، فنزلت هذه الآية. وقال في رواية الضحاك: كان الرجل عنده عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز لمالها،(1/289)
فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت، فيرث مالها، فنزلت هذه الآية، وأمر الزوج بأن يطلقها إن كره صحبتها فلا يمسكها كرهاً. فذلك قوله تعالى: لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قرأ عاصم وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ونافع: (كَرهاً) بنصب الكاف.
وقرأ حمزة والكسائي: (كُرها) بالضم. قال القتبي: (الكَره) بالنصب بمعنى الإكراه، (والكُره) بالرفع المشقة، ويقال: ليفعل ذلك طوعا أو كرها، يعني طائعاً أو مكرهاً.
ثم قال تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي لا تمنعوهن من الأزواج لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من المهر وغيره إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وهي المعصية في النشوز على زوجها، فيحل له ما أخذ منها. ويقال: إلا أن تزني فيحل له أن يفتدي منها، يعني إذا كانت بطيبة نفسها. قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر (بفاحشة مبيَنة) بنصب الياء، وقرأ الباقون (مبِّيِنة) بكسر الياء. فمن قرأ بالكسر يعني الفعل الفاحشة يعني فاحشة ظاهرة تبين منها نفسها.
ومن قرأ بالنصب يكون بمعنى المفعول. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في محصن بن أبي قيس، وامرأته هند بنت المغيرة وفي جماعة. وقال الكلبي: نزلت في حصن بن أبي قيس وامرأته كبشة بنت معن.
ثم قال تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي صاحبوهن بالجميل فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أي كرهتم صحبتهن فَعَسى يقول فلعل أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً من صحبتكم إياهن وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً يعني في صحبتهم يرزق لكم ولداً صالحاً، وهذا كقوله عز وجل وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ويقال وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً لعله إن أمسكها فيعطفه الله عليها من بعد ذلك، وأما أن يخلي سبيلها فيزوجها الله زوجاً غيره، فيرزقها الله منه الولد. ثم قال: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ يعني تغيير زوج مَكانَ زَوْجٍ يعني إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته ولم يكن منها نشوز، وأراد أن يتزوج غيرها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً من الذهب في المهر. قال مجاهد: القنطار سبعون ألف دينار. وقال عطاء: سبعة آلاف دينار. وقال الحسن:
ألف دينار أو اثني عشرة ألف درهم. وقال قتادة: كان يقال القنطار مائة رطل من الذهب، أو ثمانون ألفاً من ورق. وروي عن عبد الوهاب بن عطاء عن الكلبي قال: كل ما لم أسنده لكم فهو كله عن أبي صالح عن ابن عباس. قال: القنطار ألف مثقال مما كان من ذهب أو فضة.
ثم قال تعالى فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي فلا تستحلوا أن تأخذوا مما أعطيتم شيئاً إذا لم يكن النشوز من قبلها. ثم قال: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً يقول: أتستحلون أخذه ظلماً وَإِثْماً مُبِيناً أي ذنباً ظاهراً. ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ يقول: كيف تستحلون أخذه، يعني أخذ مهورهن وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ يقول: قد اجتمعا في لحاف واحد. قال الفراء:
الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة إن لم يجامعها، أو جامعها وقد وجب المهر. وقال الكلبي:(1/290)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، فقد وجب المهر. وروى عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق باباً وأرخى ستراً، فقد وجب المهر والعدة. وقال مقاتل: الإفضاء الجماع. وبهذا القول قال بعض الناس: وأما علماؤنا رحمهم الله قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة، دخل بها أو لم يدخل بها. ثم قال: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً يقول: أوجبن عليكم عقداً وثيقاً بالنكاح. وهو قوله تعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] فصار ذلك على الرجال ميثاقاً غليظاً من النساء ثم بيّن ما يحل للرجال من النساء وما لا يحل فقال:
[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
فقال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ يعني: لا تتزوجوا من قد تزوج آباؤكم من النساء، ويقال: اسم النكاح يقع على الجماع والتزوج، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح، حرمت على ابنه. وقوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ يقول: لا تفعلوا ما قد فعلتم في الجاهلية، وكان الناس يتزوج الرجل منهم امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً حتى نزلت هذه الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ الآية. فصار حراماً في الأحوال كلها. ويقال: إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ، يعني ولا ما قد سلف كقوله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: 92] ولا خطأ. وقد قيل: إن في الآية تقديماً وتأخيراً، ومعناه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء، فإنكم إن فعلتم تؤاخذون وتعاقبون إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ، إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ. وقد قيل: إن في الآية إضماراً تقول: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ من النساء، فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ. ثم قال: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي معصية وَمَقْتاً أي بغضاً وَساءَ سَبِيلًا أي بئس(1/291)
المسلك حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ أي نكاح أمهاتكم، فذكر الأمهات والمراد منه الأمهات والجدات وَبَناتُكُمْ ذكر البنات، والمراد به البنات والحفيدات أي بنات الأولاد.
ثم قال تعالى: وَأَخَواتُكُمْ يعني من النسب وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ. ثم قال تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ يعني أن نكاح أمهات نسائكم حرام عليكم، سواء دخل بالابنة أو لم يدخل بها.
هكذا روي عن ابن عباس وعن جماعة من الصحابة أنهم قالوا ذلك. ثم قال: وَرَبائِبُكُمُ يعني حرام عليكم نكاح بنات نسائكم اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ يعني التي يربيها في حجره، حرام عليه إذا دخل بأمها مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يعني: إن لم يكن دخل بأمها فهي حلال له أن يتزوجها، وقد اتفقوا على أن كونها في الحجر ليس بشرط، غير قول روي عن بعض المتقدمين، وإنما ذكر الحجر لتعارفهم فيما بينهم، وتسميتهم بذلك الاسم.
ثم قال تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ يعني حرام عليكم نساء أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ يقال: إنما اشترط الذين من الأصلاب لزوال الاشتباه، لأن القوم كانوا يتبنون في ذلك الوقت ويجعلون الابن المتبنى بمنزلة ابن الصلب في الميراث والحرمة. وتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فتزوج زيد بن حارثة امرأة ثم طلقها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعيّره المشركون بذلك وقالوا: تزوج امرأة ابنه، فنزل قوله تعالى مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: 40] وذكر في هذه الآية فقال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لكي لا يظن أحد أن امرأة الابن المتبنى تحرم عليه.
ثم قال تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين في النكاح في حالة واحدة، ثم قال تعالى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ يقول: إلا ما قد مضى في الجاهلية. وروى هشام بن عبيد الله، عن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكر في هذه الآية، إلا اثنتين أحدهما نكاح امرأة الأب، والثانية الجمع بين الأختين. ألا ترى أنه قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ولم يذكر في سائر المحرمات إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ. ويقال: إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ، يعني: دع ما قد مضى إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لما كان في الجاهلية، رَحِيماً بما كان في الإسلام إن تاب من ذلك. ثم قال تعالى:(1/292)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
[سورة النساء (4) : الآيات 24 الى 25]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ قال في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك، يعني ذوات الأزواج حرام عليكم إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من سبايا، فإذا ملك الرجل امرأة لها زوج في دار الحرب واستبرأ رحمها بحيضة، فهي حلال له. وهذا موافق لما روي عن أبي سعيد الخدري أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون منهن وقالوا:
لهن أزواج، فأنزل الله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يقول: ما أفاء الله عليكم من ذلك، وإن كان لهن أزواج من المشركين، فلا بأس بأن يأتيها الرجل إذا استبرأ رحمها. وقال في رواية مقاتل: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يعني كل امرأة ليست تحتكم، فهي حرام عليكم. ثم استثنى من المحصنات فقال: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني إلا ما قد تزوجتم مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع. قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي هذا ما حرم عليكم في الكتاب، ويقال: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ معناه: هذا الذي يقرأ عليكم هو كتاب الله تعالى، فاتبعوه ولا تخالفوه. وقال الزجاج: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ منصوب على التأكيد، محمول على المعنى، لأن معناه حرمت عليكم أمهاتكم، كتب الله عليكم هذا كتاباً. ويجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر، كأنه قال: الزموا كتاب الله فيكون عليكم مفسراً له. ثم قال تعالى:
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يقول: رخص لكم ما سوى ذلكم، فالله تعالى قد ذكر ما حرم في هذه الآية من قوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ أربع عشرة من المحرمات، سبع بالنسب وسبع بالسبب.
ثم بيّن المحللات فقال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يعني ما سوى هذه الأربع عشرة التي ذكر في هذه الآية، فلو كان الأمر على ظاهر هذه الآية، لكان يجوز ما سوى ذلك إلا أنه(1/293)
قد جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وقال: «لا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا عَلَى خَالَتِها» . فوجب اتباعه لأن الله تعالى قال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص:
وَأُحِلَّ لَكُمْ بضم الألف وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم لأنه عطف على قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ. ومن قرأ بالنصب لأنه نسق على قوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
ثم قال تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يعني أن تتزوجوا بأموالكم، ويقال: تشتروا بأموالكم الجواري مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يقول: كونوا متعففين من الزنى غير زانين فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال مقاتل: يعني به المتعة، أي فما استمتعتم منهن إلى أجل مسمى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي أعطوهن ما شرطتم لهن من المال وإنما كانت إباحة المتعة في بعض المغازي، ثم نهي عن ذلك. وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة، ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إنما رخص في المتعة في بعض المغازي، ثم نسختها آية الطلاق والميراث والعدة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال النكاح فآتوهن أجورهن، يعني مهورهن.
وقال في رواية الكلبي: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ بعد النكاح فآتوهن أجورهن، أي مهورهن فَرِيضَةً لهن عليكم. وقال الضحاك: فما استمتعتم به منهن أي فما تزوجتم بهن فأعطوهن مهورهن وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ قال بعضهم: يعني المتعة قبل أن تنسخ، أجاز لهما أن يتراضيا على زيادة الأجل والمال. وقال بعضهم: يعني المهر، لا جناح على الزوجين أن يتراضيا بعد النكاح على زيادة المهر إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً فيما رخّص لكم من نكاح الأجانب حَكِيماً فيما حرم عليكم من ذوات المحارم.
ثم قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أي غنى، يقول: من لم يجد منكم سعة في المال أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ يعني الحرائر، فليتزوج الإماء فذلك قوله: فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الإماء. ويقال: من لم يستطع منكم طولا، يعني من لم يكن له منكم مقدرة على الحرة، فليتزوج الأمة، يعني: إذا لم يكن له امرأة حرة. وقد قال بعض الناس: إذا كان للرجل من المال مقدار ما يمكنه أن يتزوج بالحرة، لا يجوز أن يتزوج الأمة. وفي قول علمائنا: يجوز إذا لم يكن عنده امرأة حرة، لأنه لو صرف إلى ذلك الوجه لا يضر، لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة، ولكن معناه كون الحرة عنده أفضل.
ثم قال: تعالى مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ يعني يتزوج الأمة المسلمة. وقال بعض الناس: لا يجوز أن يتزوج أمة يهودية أو نصرانية، لأن الله تعالى قال مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وفي قول علمائنا: يجوز نكاح الأمة اليهودية والنصرانية، وذكر المؤمنات ليس بشرط أنه لا يجوز غيرها،(1/294)
وهذا بمنزلة قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء: 3] فإن خاف ألا يعدل فيتزوج أكثر من واحدة جاز، ولكن الأفضل أن لا يتزوج، فكذلك هاهنا الأفضل أن يتزوج الأمة إلا المؤمنة ولو تزوج غير المؤمنة جاز.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يقول: والله أعلم بإيمانكم في الحقيقة، وأنتم تعرفون الظاهر وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن. وقال مقاتل: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه فما ملكت أيمانكم بعضكم من بعض يعني يتزوج هذا وليدة هذا، وهذا وليدة هذا. ثم قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ من غيره. ويقال: معناه والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض، يعني بعضكم من بعض في النسب، يعني محلكم ولد آدم ولا فخر فيما بينكم. ويقال: دينكم واحد أي بعضكم على دين بعض. ثم قال تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يعني الولاية بإذن أربابهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ يقول: أعطوهن مهورهن بالمعروف، يعني بإذن أهلهن، لأنه إذا أعطى الأمة مهرها بغير إذن مولاها واستهلكت، ضمن الزوج للمولى. ويقال: مهراً غير مهر البغي، يعني بعد ما أطلق ذلك. ثم قال: مُحْصَناتٍ أي عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي زواني، ويقال: غير معلنات بالزنى وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ يعني أخلاء في السر، لأن أهل الجاهلية كان فيهن زواني في العلانية، ولهن رايات منصوبة وبعضهن اتخذن أخداناً يعني أخلاء في السر، ولا يفعلن بالعلانية فنهى الله عن نكاح الفريقين جميعاً. فقال: تزوجوا محصنات غير معلنات بالزنى ولا في السر. قرأ الكسائي: محصنات بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وقرأ الباقون في جميع القرآن بالنصب.
ثم قال تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ يعني أسلمن. ويقال: إذا أعففن. قرأ عاصم وحمزة والكسائي: فَإِذا أُحْصِنَّ بالنصب. وقرأ الباقون بالضم. وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بالنصب، ومعناه إذا أسلمن. وقرأ ابن عباس بالضم، يعني أحصن بالأزواج. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ يعني الزنى فَعَلَيْهِنَّ أي وجب عليهن نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني إذا زنت الأمة فحدّها نصف حدّ الحرة، خمسون جلدة. والفائدة في نقصان حدهن والله أعلم أنهن أضعف من الحرائر، فجعل عقوبتهن أقل. ويقال لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر إلى مرادهن. ويقال: لأن العقوبة تجب على قدر النعمة، ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [سورة الأحزاب: 32] فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد، فكذلك الأمة لما كانت نعمتها أقل كانت عقوبتها أدنى. وذكر في الآية حدّ الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد، ولكن حد العبيد والإماء سواء، خمسون جلدة في الزنى، وفي حد القذف وشرب الخمر أربعون جلدة، لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق، وذلك في العبد موجود. وروي عن(1/295)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قالا: حدّ العبد نصف حد الحر.
ثم قال تعالى: ذلِكَ يعني هذا الذي ذكر في الآية، وهو رخصة نكاح الأمة لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ يعني الإثم في دينه. ويقال: الزنى والفجور. قال القتبي: أصله المضرور الإفساد. قال تعالى وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء خَيْرٌ لَكُمْ من تزوجهن، لأنه لو تزوج الأمة يصير ولده عبداً. وروي عن عمر أنه قال: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه، أي يصير ولده رقيقاً، فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق ولده. وقال مجاهد: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ يقول: وإن تصبروا على نكاح الأمة خير لكم من أن تقعوا في الفجور. وَاللَّهُ غَفُورٌ لما أصبتم منهن قبل تحليله رَحِيمٌ حين رخص في نكاح الإماء. ويقال: رحيم إذ لم يعجل العقوبة.
[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 31]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي بيّن لكم أن الصبر خير لكم من نكاح الإماء، ويقال: يبين لكم إباحة نكاح الأمة عند العذر. ثم قال تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي شرائع الذين من قبلكم بأنه لم يحل لهم تزوج الإماء، وقد أحل لكم ذلك. وقال مقاتل: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ حكم حلاله وحرامه من النساء، وَيَهْدِيَكُمْ أي يبين لكم شرائع من كان قبلكم.
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يتجاوز عنكم ما كان منكم قبل التحريم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن فعله منكم بعد التحريم حَكِيمٌ فيما نهاكم عن نكاح الاماء إن لم يجد طولاً. والنهي نهي استحباب لا نهي وجوب. ويقال: إن هذا ابتداء القصة، يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته وَيَهْدِيَكُمْ يعني يعرفكم سنن الذين من قبلكم، يعني أنهم لما تركوا أمري فكيف عاقبتهم؟ وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم، ولكني أتوب عليكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن تاب حَكِيمٌ حكم بقبول التوبة.(1/296)
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يتجاوز عنكم ما كان منكم من قبل التحريم، ويقال: يتجاوز عنكم الزلل والخطايا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً يعني اليهود والنصارى، ويقال: المجوس. أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً يعني أن تخطئوا خطأً عظيماً، لأن بعض الكفار كانوا يجيزون نكاح الأخت من الأب، وَبَنَاتُ الاخ، وَبَنَاتُ الاخت، فلما حرم الله تعالى ذلك قالوا للمسلمين: إنكم تنكحون ابنة الخالة والعمة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ويقال: ويريدون الذين يتبعون الشهوات، ويقال: إن اليهود يريدون أن يقفوا منكم على الزلل والخطايا، يعني: أن الله تعالى قد بين لكم لكي لا يقفوا منكم على الزلل والخطايا. ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يقول: يهون عليكم الأمر إذ رخص لكم في نكاح الإماء، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي لا يصبر على النكاح. وقال الضحاك:
يخفف عنكم أي يريد أن يضع عنكم أوزاركم، ويضع عنكم آثامكم.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يعني بالظلم باليمين الكاذبة ليقطع بها مال أخيه. ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه في تجارته أنه لا بأس به فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ويقال: إلا ما كان بينهما تجارة، وهو أن يكون مضارباً له، فله أن يأكل من مال المضاربة إذا خرج إلى السفر. ويقال: إلا ما يأكل الرجل شيئاً عند اشترائه ليذوقه. قرأ حمزة والكسائي وعاصم: تِجارَةً بنصب الهاء على معنى خبر تكون. وقرأ الباقون بالضم على معنى الاسم. ثم قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضاً، فإنكم أهل دين واحد. ويقال وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني أن يوجب الرجل على نفسه قتل نفسه، فإيجابه باطل. وقال القتبي: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ يعني لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، ولا يقتل بعضكم بعضاً كقوله: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة الحجرات: 11] أي لا تعيبوا إخوانكم. ويقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تقتلوها بالكسل والبخل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً إذ نهى عن القتل وعن أخذ الأموال.
قوله تعالى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً يعني اعتداء ويقال: مستحلاً وَظُلْماً أي وجوراً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً هذا وعيد لهم من الله تعالى، يعني يدخله في الآخرة النار وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي عذابه هين عليه. قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ قال مقاتل: يعني ما نهي عنه من أول هذه السورة إلى هذه الآية وقال في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الكبائر كل شيء سمى الله تعالى فيه النار لمن عمل بها، أو شيء نزل فيه حدّ في الدنيا، فمن اجتنب من هذا وهو مؤمن كفر الله عنه ما سواه من الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، وشهر رمضان إلى شهر رمضان إن شاء الله تعالى. قال: حدثنا محمد بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحاك، عن(1/297)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
مسروق، عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول السورة إلى قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: الْكَبَائِرُ أَرْبَعَةٌ: الإياس مِنْ رَوْحِ الله، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله، وَالأَمْنُ من مكر الله، والشرك بالله. وروى عامر الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أُنْبِئَكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ» . وقال ابن عمر الكبائر تسعة: الشرك بالله، وقتل المؤمن متعمداً، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والسحر، وعقوق الوالدين، واستحلال حرمة البيت الحرام. ويقال: الكبيرة ما أصر عليها صاحبها. ويقال: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
ثم قال تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يقول: نمحو عنكم ذنوبكم ما دون الكبائر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً في الآخرة وهي الجنة. قرأ نافع: مدخلاً بنصب الميم، والباقون بالضم. فمن قرأ بالنصب فهو اسم الموضع وهو الجنة، ومن قرأ بالضم فهو المصدر والموضع جميعاً.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 32 الى 35]
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قال ابن عباس: يعني لا يتمنى الرجل مال أخيه، ولا امرأته، ولا دابته، ولكن ليقل: اللهم ارزقني مثله. وقال الكلبي مثله. وفيها(1/298)
وجه آخر وهو أن الرجال قالوا: إن الله فضلنا على النساء، فلنا سهمان ولهن سهم، ونرجو أن يكون لنا أجران في الأعمال. وقالت أم سلمة: ليت الجهاد كتب على النساء. فنزلت هذه الآية وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ويقال: إن النساء قلن: كما نقص سهمنا في الميراث، كذلك ينقص من أوزارنا، ويكون الإثم علينا أقل من الرجال، فنزلت الآية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ولا يتمنى أحدكم أكثر مما عمل وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ من الشر ولا ينقص منهن شيء مما عملن من الإثم. وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ جميعاً الرجال والنساء مِنْ فَضْلِهِ أي من رزقه إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيما يصلح لكل واحد منهم من السهام، وبمن يصلح للجهاد. قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا الله بغير همز في جميع القرآن. وقرأ الباقون واسألوا الله بالهمز وأصله الهمز، إلا أنه حذف الهمز للتخفيف.
قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ أي بينا موالي يعني الورثة من الولد والإخوة وابن العم. ويقال: الموالي العصبة: العم، وابن العم، وذوي القربى كقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [سورة مريم: 5] معناه: ولكل واحد منكم جعلنا الورثة لكي يرث مِمَّا تَرَكَ وهم الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. ثم قال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قال الكلبي ومقاتل: كان الرجل يرغب في الرجل، فيحالفه ويعاقده على أن يكون في ميراثه كبعض ولده ثم قال: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي أعطوهم حظهم الذي سميتم لهم من الميراث هكذا قال مجاهد ثم نسخ بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [سورة الأنفال: 75] ويقال: إنهم كانوا يوصون لهم بشيء من المال، فأمرهم بأن يؤتوا نصيبهم من الثلث. ويقال: أراد به مولى الموالاة كانوا يرثون السدس.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي شاهد إن أعطيتموهم أو لم تعطوهم. قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم: والذين عقدت أيمانكم بغير ألف، والباقون بالألف. قال أبو عبيدة: والاختيار عاقدت بالألف لأنه من معاقدة الحلف، فلا يكون إلا بين اثنين. ومن قرأ عقدت معناه عقدت لهم أيمانكم فأضمر فيها لهم. ثم قال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ نزل في سعد بن الربيع، لطم امرأته بنت محمد بن مسلمة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فنزل جبريل من ساعته بهذه الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يعني مسلطون في أمور النساء وتأديبهم بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وذلك أن الرجل له الفضل على امرأته في إنفاقه عليها، ودفع الحق إليها. ويقال: إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيام عليهن بما لهم من زيادة عقل ليس ذلك للنساء. ويقال: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة(1/299)
والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك. ثم قال:
وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي فضلوا على النساء بما أنفقوا من أموالهم عليهن من المهر والنفقة. ثم قال: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ يعني المحصنات من النساء في الدين، قانتات مطيعات لله تعالى ولأزواجهن. ويقال: الصالحات يعني المحسنات إلى أزواجهن من النساء في الدين قانِتاتٌ أي مطيعات لله ولأزواجهن. ويقال: الصالحات يعني الموحدات قانِتاتٌ يعني قائمات بأمور أزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي لغيب أزواجهن في فروجهن، وفي أموال الأزواج بِما حَفِظَ اللَّهُ يقول: أي يحفظ الله إياهن. قال مقاتل: وما صلة، يعني يحفظ الله لهن. ثم قال عز وجل: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي تعلمون عصيانهن فَعِظُوهُنَّ بالله، أي يقول لها: اتق الله، فإن حق الزوج عليك واجب، فإن لم تقبل ذلك.
قوله تعالى وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ قال الكلبي: أي ينسها وهو الهجر، ويقال: لا يقرب فراشها، لأن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج يشق عليها فترجع إلى الصلاح، وإن كانت مبغضة فتظهر السرور فيها، فيتبين أن النشوز من قبلها. وقال الضحاك:
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي يعرض عنها، فإن ذلك يغيظها، فإن لم ينفعها ذلك وَاضْرِبُوهُنَّ يعني ضرباً غير مبرح فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا يقول: لا تطلبوا عليهن غللا، ولا تكلفوهن الحب لكم، فإن الحب أمر القلب وليس لها ذلك بيدها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً أي رفيعاً علا فوق كل كبير، فلا يطلب من عباده الحب، ولا يكلفهم ما لا يطيقونه، ويطلب منهم الطاعة، فأنتم أيضاً لا تكلفوهن. ويقال: إن الله مع علوه يتجاوز عن عباده، فأنتم أيضاً تجاوزوا ولا تطلبوا العلل.
ثم قال تعالى للأولياء وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما يقول: إن علمتم خلافاً بين الزوجين، ويقال: إن خفتم الفراق بينهما ولا تدرون من أيهما يقع النشوز فيقول: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها يعني رجلاً عدلاً من أهل الزوج له عقل وتمييز، يذهب إلى الرجل ويخلو به، ويقول له: أخبرني ما في نفسك أتهواها أم لا؟ حتى أعلم بمرادك، فإن قال: لا حاجة لي بها خذ مني لها ما استطعت وفرق بيني وبينها، فيعرف أن من قبله جاء النشوز. وإن قال: فإني أهواها فأرضيها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها، فيعرف أنه ليس بناشز. ويخلو ولي المرأة بها ويقول: أتهوين زوجك أم لا؟ فإن قالت: فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد، علم أن النشوز من قبلها. وإن قالت: لا تفرق بيننا ولكن حثّه حتى يزيد في نفقتي ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها. فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي، وذلك قوله تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يعني عدلاً فينظران في أمرهما بالنصيحة والموعظة يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بالصلاح ويقال: كل اثنين يقومان في الإصلاح بين اثنين بالنصيحة، يقع الصلح بينهما لقوله تعالى إِنْ(1/300)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً أي عليماً بهما خبيراً بنصيحتهما. وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم، وليس كما يقول الخوارج إنه ليس الحكم لأحد سوى الله تعالى، فهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 38]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ قال بعضهم: هذا الخطاب للكفار، واعبدوا الله يعني وحدوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي لا تثبتوا على الشرك. ويقال: الخطاب للمؤمنين اعبدوا الله، يعني اثبتوا على التوحيد ولا تشركوا به. ويقال: اعبدوا الله يعني أطيعوا الله فيما أمركم به، وأخلصوا له بالأعمال، ولا تشركوا به شيئا. ويقال: هذا الخطاب للمؤمنين وللمنافقين وللكفار، فأمر المؤمنين بالطاعة، والمنافقين بالإخلاص، والكفار بالتوحيد. وروى عكرمة عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: كل عبادة في القرآن إنما يعني بها التوحيد. ويقال: هذه الآيات محكمات في جميع الكتب، وذكر فيها أحكاماً كانت تعرف تلك من طريق العقل، وإن لم ينزل به القرآن وهو قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يعني أحسنوا إلى الوالدين وَبِذِي الْقُرْبى يعني صلوا القرابات. قوله: وَالْيَتامى يعني أحسنوا إلى اليتامى. ويقال: هذا أمر للأوصياء بالقيام على أموالهم. ثم قال تعالى: وَالْمَساكِينِ أي عليكم بإطعام المساكين. ثم قال: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أي عليكم بالإحسان إلى الجار الذي بينك وبينه قرابة، فله ثلاث حقوق. هكذا روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ: جَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ حَقُّ وَاحِدٌ. فَأَمَّا الجَارُ الَّذِي لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ فَالجَارُ القَرِيبُ المُسْلِمُ، فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ، وَحَقُّ القَرَابَةِ، وَحَقُّ الإِسْلامِ. وَالجَارُ الَّذِي لَهُ حَقَّانِ: وَهُوَ الجَارُ المُسْلِمُ، فَلَهُ حَقُّ الإِسلامِ، وَحَقُّ الجِوَارِ. وَالجَارُ الَّذِي لَهُ حَقُّ وَاحِدٌ هُوَ الجَارُ الكَافِرُ لَهُ حَقُّ الجِوَارِ» .(1/301)
ثم قال تعالى: وَالْجارِ الْجُنُبِ يعني الجار الذي لا قرابة بينهما، وهو من قوم آخرين وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ أي الرفيق في السفر. وروي عن معاذ بن جبل أنه قال: الصاحب بالجنب يعني المرأة. ثم قال: وَابْنِ السَّبِيلِ يعني الضيف، ينزل عليكم فأحسنوا إليه، وحقه ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة. ثم قال: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الخدم أحسنوا إليهم. وقد روي في الخبر «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لا يُطِيقُونَ، فَإنَّهم لَحْمٌ وَدَمٌ وَخَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ» . رواه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«الله الله فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . وذكر الحديث. وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما زال جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالنِّساءِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُحَرِّمُ طَلاَقَهُنَّ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالمَمَالِيكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مُدَّةً إذَا انْتَهَوْا إِلَيْها أُعْتِقُوا، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَن يُحْفِي فَمِي، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ خِيَارَ أُمَّتِي لَمْ يَنَامُوا لَيْلاً» .
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً يعني من كان مختالاً في مشيه فخوراً على الناس وهذا قول الكلبي. وقال القتبي: المختال ذو الخيلاء والكبر، وهذا قريب من الأول. ويقال: فخوراً في نعم الله، لا يشكرها ويتكبر على الناس. ثم قال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ قال مجاهد ومقاتل: نزلت في اليهود، يبخلون بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يعني: أمروا قومهم أن يكتموا صفته صلى الله عليه وسلم وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ في التوراة. ويقال: أبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بعلمه. ويقال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يعني في المال، لأن رؤساءهم كانوا لا يعطون أحداً من أموالهم شيئاً، لأن عادتهم كان الأخذ والمنع، وكانوا أيضاً يأمرون بالبخل، لأن من كان في معصية فإنه يأمر غيره بذلك لكي لا يظهر عيبه وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني: لا يشكرون على ما أعطاهم الله من نعمته، ولا يخرجون الزكاة.
ثم قال تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي عذاباً شديداً. قرأ حمزة والكسائي:
بالبخل بنصب الباء والخاء، وقرأ الباقون بالبُخْل بضم الباء وجزم الخاء. وقال بعض أهل اللغة: ها هنا أربع لغات وهي لغة الأنصار: بخل، وبخل، وبخل، وبخل إلا أنه قرأ بحرفين ولا يقرأ بالحرفين الآخرين. ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ قال مقاتل:
يعني اليهود. وقال الضحاك: يعني المنافقين، ينفقون أموالهم مراءاة للناس وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني: ولا يصدقون في السر. ويقال: نزلت في مطعمي يوم بدر وهم رؤساء مكة، أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر. ثم قال تعالى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً ففي الآية مضمر فكأنه قال: ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر فقرينهم الشيطان، ومن(1/302)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
يكن الشيطان له قرينا فَساءَ قَرِيناً أي قرينهم الشيطان في الدنيا، يأمرهم بالبخل. ويقال:
قرينه في النار في السلسلة.
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 39 الى 42]
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
وَماذا عَلَيْهِمْ أي وما كان عليهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ مكان الكفر وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مكان البخل في غير رياء. ويقال: وَماذا عَلَيْهِمْ أي لم يكن عليهم شيء من العذاب لو آمنوا بالله واليوم الاخر، وأنفقوا مما رزقهم الله من الأموال، وهي الصدقة وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً أنهم لم يؤمنوا. ويقال: إن الله عليم بثواب أعمالهم، ولا يظلمهم شيئاً من ثواب أعمالهم. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم وزن الذرة. قال الكلبي: وهي النملة الحميراء الصغيرة. ويقال: هو الذي يظهر في شعاع الشمس، ويقال: لا يظلم مثقال ذرة يعني لا يزيد عقوبة الكافر مثقال ذرة، ولا ينقص من ثواب المؤمنين مثقال ذرة.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها قرأ نافع وابن كثير: وإن تك حسنة بضم الهاء لأن اسم تك بمنزلة اسم كان. قرأ الباقون: حسنة بالنصب، وجعلوه خبر تك والاسم فيه مضمر معناه: وإن تكن الفعل حسنة يضاعفها، يعني: إذا زاد على حسناته مثقال ذرة من حسنة يضاعفها الله تعالى حتى يجعلها مثل أحد ويوجب له الجنة، فذلك قوله تعالى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً يعني الجنة. وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: خمس آيات في سورة النساء أحب إلي من الدنيا وما فيها: قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [سورة النساء: 31] الآية. وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [سورة النساء: 64] الآية. وقوله:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [سورة النساء: 48] الآية. وقوله: ومَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء: 123] الآية.
وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ أي فكيف يصنعون؟ وكيف يكون حالهم؟
إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمة بشهيد، يعني بنبيها هو شاهد بتبليغ الرسالة من ربهم وَجِئْنا بِكَ يا(1/303)
محمد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يعني على أمتك شهيداً بالتصديق لهم، لأن أمته يشهدون على الأمم المكذبة للرسالة، وذلك أنه إذا كان يَوْمُ الْقِيَامَةِ يقولُ الله تعالى للأمم الخالية: هل بلغتكم الرسل رسالاتي؟ فيقولون: لا. فقالت الرسل: قد بلغنا ولنا شهود، فيقول عز وجل: ومن شهودكم؟ فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون بتبليغ الرسالة، بما أوحي إليهم من ربهم في كتابهم في قصة الأمم الخالية. فتقول الأمم الماضية: إن فيهم زواني وشارب الخمر، فلا يقبل شهادتهم، فيزكيهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم فيقول المشركون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام: 23] فيختم على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، فذلك قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي تخسف بهم الأرض. ويقال: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ الرسل يشهدون على قومهم بتبليغ الرسالة، ويشهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم على أمته بتبليغ الرسالة من قبل ومن لم يقبل.
حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا أبو منيع، قال: حدّثنا أبو كامل، قال: حدّثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم من بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر، ومعه ابن مسعود، ومعاذ وناس من الصحابة، فأمر قارئاً فقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه فقال: «يَا رَبّ هذا عِلْمِي بِمَنْ أَنَا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ أَرَهُمْ؟» .
ثم قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: يتمنى الذين كفروا يعني الكفار وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يكونوا تراباً يمشي عليهم أهل الجمع وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وهو قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. قال الزجاج: قال بعضهم:
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً مستأنف، لأن ما عملوا ظاهر عند الله تعالى لا يقدرون على كتمانه.
وقال بعضهم: هو كلام بناء يعني يودون أن الأرض سويت بهم، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً لأنه مظهر كذبهم. قرأ حمزة والكسائي تُسَوَّى بنصب التاء وتخفيف السين وتشديد الواو يعني يخسف بهم، وقرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو تُسَوَّى بضم التاء فأدغم إحدى التاءين في الأخرى على فعل لم يسم فاعله، أي يصيروا تراباً وتسوى بهم الأرض. وقرأ نافع وابن عامر: تُسَوَّى بنصب التاء وتشديد السين والواو، لأن أصله تتسوى فأدغم إحدى التاءين في السين.
ثم قال تعالى:(1/304)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مآء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال مقاتل: وذلك أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً، فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وسعدا رضي الله عنهم، فأكلوا وسقاهم خمراً، فحضرت صلاة المغرب فأمهم علي فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [سورة الكافرون: 1] على غير الوجه، فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وكان ذلك قبل تحريم الخمر. وقال لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى يعني موضع الصلاة، وهو المسجد حتى تعلموا ما تقولون. ويقال: حتى تصيروا بحال تعلمون ما تقولون، فحينئذٍ تقربوا المسجد لأنهم إذا لم يعلموا ما يقولون فلا يعرفون الحرمة. ثم قال تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقول: ولا تقربوا الصلاة جنبا إلا عابرى سبيل، يعني إلا أن يكون مسافراً فلا يجد الماء، فيتيمم ويصلي إذا كان جنباً. وقال الزجاج:
وحقيقته ألا تصلوا إذا كنتم جنباً حَتَّى تَغْتَسِلُوا إلا أن لا تقدروا على الماء. وقال القتبي: لا تقربوا الصلاة، يعني لا تقربوا المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين. وقال بعضهم: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى من النوم. وروى السدي عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قال: في السفر يتيمم ويصلي. ويقال: إلا أن تكون في المسجد عين، فيدخل ليغترف الماء.
ثم قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى نزلت في عبد الرحمن بن عوف، أصابته جنابة وهو جريح، فرخص له بأن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس. وروي عن عبد الله بن عباس وجابر بن سمرة وغيرهما من الصحابة، أن رجلاً كان به جدري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابته جنابة فغسلوه فمات من ذلك، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله فَهَلاَّ يَمَّمُوهُ» . وروي عن ابن عباس أنه قال: وإن كنتم مرضى قال: فإنما هو المجذوم، والمجدور، والمقروح. ثم قال تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ أي إذا كنتم مسافرين أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ والغائط في اللغة اسم المكان المطمئن من الأرض، وإنما هو كناية عن قضاء الحاجة. ثم قال تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرأ حمزة والكسائي: أَوْ لامَسْتُمُ وقرأ الباقون لامَسْتُمُ من الملامسة. قال ابن عباس: يعني الجماع. وقال بعضهم: هو المس باليد فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً يعني: إذا أصابكم الحدث أو الجنابة، ولم تجدوا ماءً، فتيمموا صعيداً طيباً أي تراباً نظيفاً. ويقال: الصعيد هو ما علا وجه الأرض(1/305)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ قال بعضهم: الوجه والكفين، وهو قول الأعمش والأوزاعي.
وقال بعضهم: إلى المنكبين، وهو قول الزهري. وقال عامة أهل العلم: الوجه واليدين إلى المرفقين، وبذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عامة الصحابة اعتباراً بالوضوء. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً أي ذو الفضل والعفو حين أجاز لكم التراب مكان الماء، غفوراً لتقصيركم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 48]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني: أعطوا حظا من علم التوراة يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يعني: يختارون الكفر على الإسلام. قال القتبي: وهذا من الاختصار، ومعناه يشترون الضلالة بالهدى، أي يستبدلون هذا بهذا، كقوله: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [سورة الإسراء: 34] أي مسؤولاً عنه. ثم قال تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أي تتركوا طريق الهدى، وهو طريق الإسلام وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أي علم بعداوتهم إياكم، يعني هو يعلم بالحقيقة وأنتم تعلمون الظاهر. ويقال: هذا وعيد لهم، فكأنه يقول: هو أعلم بعذابهم كما قال في آية أخرى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [سورة الأنعام: 58] يعني عليم بعقوبتهم ومجازاتهم. ثم قال تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا أي ناصراً لكم، ومعيناً لكم وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يعني مانعاً لكم.
قوله تعالى مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي مالوا عن الهدى. قال الزجاج: مِنَ الَّذِينَ هادُوا فيه قولان: فجائز أن يكون من صلة، والمعنى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من(1/306)
الذين هادوا، ويجوز أن يكون معناه من الذين هادوا قوم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي يحرفون نعته عن مواضعه، وهو نعت محمد صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ منك وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أي يلوون لسانهم بالسب وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي في دين الإسلام. قال القتبي: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثهم وأمرهم سمعنا، ويقولون في أنفسهم وعصينا. وإذا أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا: اسمع يا أبا القاسم. ويقولون في أنفسهم: لا سمعت. ويقولون: راعنا يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انظرنا حتى نكلمك بما تريد، ويريدون به السب بالرعونة لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أي قلباً للكلام بها وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان سمعنا وعصينا وَاسْمَعْ مكان اسمع لا سمعت وَانْظُرْنا مكان قولهم راعنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أي وأصوب من التحريف والطعن. ثم قال تعالى:
وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي خذلهم الله وطردهم، مجازاة لهم بكفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يعني: لا يؤمنون، إلا بالقليل، لأنهم لا يؤمنون بالقرآن، ولا يؤمنون بجميع ما عندهم، ولا بسائر الكتب، وإنما يصدقون ببعض ما عندهم. ويقال: لا يؤمنون إلا القليل منهم، وهم مؤمنو أهل الكتاب. ويقال: إنهم لا يؤمنون وهم بمنزلة رجل يقول: فلان قليل الخير، يعني لا خير فيه.
ثم خوفهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا أي صدقوا بالقرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي موافقاً للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها وطمسها أن يردها على بصائر الهدى، ويقال طمسها أن يحول الوجوه إلى الأقفية. ويقال: يخسف الأنف والعين فيجعلها طمساً. ويقال: من قبل أن يطمس أي تسود الوجوه. قال بعضهم: يعني به في الآخرة. ويقال: هذا تهديد لهم في الدنيا. وذكر أن عبد الله بن سلام قدم من الشام، فلم يأتِ أهله حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. ويقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً يعني وجه القلب، وهو كناية عن القسوة. وقال مقاتل: يعني من قبل أن تحول القبلة كقوله لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[سورة البقرة: 148] ثم قال تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت القردة. ثم قال وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي كائناً، وهذا وعيد من الله تعالى لهم ليعتبروا ويرجعوا.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ أي دون الشرك لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن مات موحداً نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة، وذلك أن الناس لما التقوا يوم أحد وقد جعل لوحشي جزاء إن قتل حمزة فقتله، لم يوف له، فلما قدم مكة ندم على صنعه الذي صنع هو وأصحابه معه، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إنا قد ندمنا على ما صنعنا، وإنه ليس يمنعنا من الدخول معك إلا أنا سمعناك تقول: إذ كنت عندنا بمكة وَالَّذِينَ لاَ(1/307)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ
[سورة الفرقان: 68] إلى قوله يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة الفرقان: 69] وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس، وزنينا، فلولا هذه الآيات لا تبعناك، فنزل إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [سورة مريم: 60] فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات إلى وحشي وأصحابه، فلما قرءوا كتبوا إليه أن هذا شرط شديد، فنخاف ألا نعمل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية. فنزل إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فبعث إليهم فقرؤوها، فبعثوا إليه فقالوا: إن في هذه الآية شرطاً أيضاً نخاف ألا نكون من أهل مشيئته، فنزل قوله قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر: 53] فبعثها إليهم، فلما قرءوها وجدوها أوسع مما كان قبلها، فدخل هو وأصحابه في الإسلام. وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا إذا مات الرجل منا على كبيرة، شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فأمسكنا عن الشهادة. وهذه الآية رد على من يقول: إن من مات على كبيرة يخلد في النار، لأن الله تعالى قد ذكر في آية أخرى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود: 114] يعني ما دون الكبائر، فلم يبق لهذه المشيئة موضع سوى الكبائر. ثم قال تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً يعني اختلق على الله كذباً عظيماً. ويقال: فقد أذنب ذنباً عظيماً.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 55]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يقول: يبرئون أنفسهم من الذنوب بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وذلك لأن رؤساء اليهود كانوا يقولون: هل على أولادنا من ذنب؟ فما نحن إلا كهيئتهم. فهذا الذي زكوا به أنفسهم، قال الله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يصلح(1/308)
ويبرئ من يشاء من الذنوب. ويقال: يكرم من يشاء بالإسلام وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا قال الكلبي ومقاتل: الفتيل الذي يكون في شق النواة وهو الأبيض، ويقال: هو ما فتلته بين أصبعيك من الوسخ، إذا مسحت إحداهما بالأخرى، يعني: لا ينقصون من ثواب أعمالهم بذلك المقدار.
ثم قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يختلقون على الله الكذب وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي ذنباً مبيناً. روى مقاتل عن الضحاك قال: الفتيل، والنقير، والقطمير كلها في النواة. ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني أعطوا حظاً من علم التوراة يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف.
وقال القتبي: كل معبود من حجر أو صورة أو شيطان فهو جبت وطاغوت. قال: ويقال:
الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. ويقال: في هذه السورة رجلان من اليهود، وإيمانهم بهما تصديقاً لهما وطاعتهم إياهما.
ثم قال تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني لمشركي مكة هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا وذلك أن رؤساء اليهود قدموا مكة بعد قتال أُحد، ونقضوا العهد، وبايعوا المشركين وقالوا: أنتم أهدى سبيلاً من المسلمين. حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الديبلي، قال: حدّثنا أبو عبيد الله، قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة، قال:
جاء كعب بن الأشرف وفي رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب إلى مكة، فأتيا قريشاً فقالت لهما قريش أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، ديننا القديم ودين محمد الحديث، ونحن نصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونفك العناة، ومحمد صلى الله عليه وسلم صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن أهدى أم هو؟ قالا: بل أنتم أهدى سبيلاً منهم. فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ الآية إلى قوله وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا يعني أهدى ديناً من المهاجرين والأنصار.
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي خذلهم وطردهم الله من رحمته، ويقال:
عذبهم الله بالجزية وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أي مانعاً. قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ يقول: لو كان لهم، يعني لليهود حظ من الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أي لا يعطون أحداً من بخلهم وحسدهم نقيراً، والنقير: النقطة التي على ظهر النواة أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ أي أيحسدون الناس. ويقال: بل يحسدون الناس يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من النبوة وكثرة تزوجه النساء، ويقولون: لو كان نبياً لشغلته النبوة عن كثرة النساء، فيحسدونه بذلك.
قال الله تعالى فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني النبوة والعلم والفهم(1/309)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فكان يوسف عليه السلام ملكاً على مصر، وكان سليمان بن داود عليهما السلام ملكاً، وكانت له ثلاثمائة امرأة حرّة سوى السرية، قال مقاتل هكذا. وقال الكلبي: كانت له سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، وكان لداود عليه السلام مائة امرأة، فلم يكن تمنعهم النبوة عن ذلك. ويقال: إن الفائدة في كثرة تزوجه أنه كانت له قوة أربعين نبياً، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحاً. ويقال: إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة، لأن لكل امرأة قبيلتين، قبيلة من قبل الأب، وقبيلة من قبل الأم، فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه، فيكونون عوناً له على أعدائه. ويقال: إن كل من كان أتقى كانت شهوته أشد، لأن الذي لا يكون تقياً إنما ينفرج بالنظر واللمس، ألا ترى إلى ما روي في الخبر «العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَاليَدَانِ تَزْنِيَانِ» . فإذا كان في النظر وفي المس نوع من قضاء الشهوة، فلا ينظر التقي ولا يمس، فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه، فيكون أكثر جماعاً. وقال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع، فإنه يصفي القلب، ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام يفعلون ذلك.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني من اليهود من آمن به، بالكتاب الذي أنزل على إبراهيم، وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ يعني أعرض عنه مكذباً، وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني من آل إبراهيم مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بالكتاب الذي جاء به وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ لم يؤمن به. وقال الضحاك: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني اليهود كانوا يحسدون قريشاً لأن النبوة فيهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ يعني إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط. الْكِتابَ يعني التنزيل وَالْحِكْمَةَ يعني السنة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً يعني قريشاً وبني هاشم مُلْكاً عَظِيماً يعني الخلافة لا تصلح إلا لقريش فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي كفر به. ثم قال تعالى: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي وقوداً لمن كفر به. ثم بيّن مصير من كذب به، وموضع من آمن به، فقال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً أي ندخلهم ناراً في الآخرة. ويقال: صَلِيَ إذا دخل النار لأجل شيء، وأصلاه إذا أدخله للاحتراق.(1/310)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
والاصطلاء بالنار الاستدفاء. ثم قال تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ يقول: كلما احترقت جلودهم بَدَّلْناهُمْ يعني: جددنا لهم جُلُوداً غَيْرَها لأنهم إذا احترقوا خبت عنهم النار ساعة فبدلوا خلقاً جديداً، ثم عادت تحرقهم، فهذا دأبهم فيها. وقال مقاتل: تجدد في كل يوم سبع مرات. وقال الحسن: بلغني أنه ينضج كل يوم سبعين ألف مرة. وقال الضحاك: سبعين جلداً في كل يوم. وقد طعنت الزنادقة في هذا وقالوا: إن الجلد الذي تبدل لم يذنب، فكيف يستحق العقوبة والعذاب؟ وقيل لهم: إن ذلك الجلد هو الجلد الأول، ولكنه إذا أحرق أعيد إلى الحال الأول، كالنفس إذا صارت تراباً وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى، فكذلك هاهنا. وقوله تعالى جُلُوداً غَيْرَها على وجه المجاز، كما قال في آية أخرى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [سورة إبراهيم: 48] قال ابن عباس رضي الله عنه يعني يزاد في سعتها، وتسوى جبالها وأوديتها.
ثم قال تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي لكي يجدوا مس العذاب إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً في نقمته حَكِيماً في أمره، حكم لهم بالنار، ثم بيّن مصير الذين صدقوا به فقال عز وجل:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني الطاعات التي أمرهم الله تعالى بها سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي مقيمين فيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ في الخلق والخلق وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قال الضحاك: يعني ظلال أشجار الجنة، وظلال قصورها. وقال الكلبي: يعني ظِلًّا ظَلِيلًا أي دائما. وقال مقاتل: يعني أكنان القصور ظَلِيلًا يعني لا خلل فيها.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وذلك أن مفتاح الكعبة كان في يد بني شيبة، وكانت السقاية في يد بني هاشم، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة وقال له: هات المفتاح. فخشي عثمان أن يعطيه إلى عمه العباس، فجاء بالمفتاح وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذه بأمانة الله: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فإذا فيه تمثال إبراهيم عليه(1/311)
السلام مصور على الحائط، وبيده قداح، وعنده إسماعيل والكبش مصوران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَاتَلَ الله الكُفَّارَ مَا لإبْرَاهِيمَ والقِدَاحِ» فأمر بالصور فمحيت، فقضى حاجته من البيت ثم خرج، فطلب منه العباس بأن يدفع إليه المفتاح، فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ثم صارت الآية عامة لجميع الناس برد الأمانات إلى أهلها. ويقال: نزلت في شأن اليهود، حيث كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت أمانة عندهم فمنعوها. ويقال: هذا أمر لجميع المسلمين بأداء الفرائض وجميع الطاعات، لأنها أمانة عندهم كقوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ- إِلَى قَوْلُهُ- وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ.
ثم قال تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ يقول: بالحق، وقال الضحاك: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أي بين القوم أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أي بالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ يعني يأمركم بالعدل والنصيحة، والاستقامة، وأداء الأمانة إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بمقالة العباس بَصِيراً بردِّ المفتاح إلى أهله.
قرأ ابن عامر والكسائي وحمزة نِعِمَّا بنصب النون وكسر العين والاختلاف فيه كالاختلاف الذي في سورة البقرة، وذلك قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ أي في الفرائض وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي في السنن. ويقال: أطيعوا الله فيما فرض، وأطيعوا الرسول فيما بيّن. ويقال أَطِيعُوا اللَّهَ بقول لا إله إلا الله، وأطيعوا الرسول بقول محمد رسول الله وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. يعني: أطيعوا أولي الأمر منكم. قال الكلبي ومقاتل: يعني: أمراء السرايا. وقال الضحاك: يعني: الفقهاء والعلماء في الدين.
ويقال: الخلفاء والأمراء. ويجب طاعتهم ما لم يأمروا بالمعصية. قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ من الحلال والحرام والشرائع فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يعني إلى أمر الله فيما يأمر بالوحي، وإلى أمر الرسول فيما يخبر عن الوحي، ثم بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما انقطع الوحي يرد إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة رسول عليه الصلاة والسلام. ويقال: معناه إذا أشكل عليكم شيء، فقولوا: الله ورسوله أعلم. وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وقال الخليل بن أحمد البصري: الناس أربعة: رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فهذا أحمق فاجتنبوه. ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهل فعلِّموه. ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فهذا نائم فأيقظوه. ورجل يدري وهو يدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعوه.
ثم قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني إن كنتم تصدقون بالله واليوم الآخر ثم قال: ذلِكَ خَيْرٌ أي الرد إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله خير من الاختلاف وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي وأحسن عاقبة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة إلى أهلها، فإذا فعل ذلك وجب على(1/312)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
المسلمين أن يطيعوه، فإن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمرنا بطاعتهم. وقال مجاهد: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ العلماء والفقهاء، وهكذا روي عن جابر. وقوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وذلك أنَّ منافقاً يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكانت تلك الخصومة في حكم الإسلام على المنافق، وفي حكم اليهود على اليهودي. فقال اليهودي: نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم يحكم بيننا. وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف حتى يحكم بيننا. فكانا في ذلك إذ سمع عمر بن الخطاب قولهما، فقال: ما شأنكما؟ فأخبراه بالقصة. فقال عمر: أنا أحكم بينكما.
فأجلسهما، ثم دخل البيت وخرج بالسيف، وقتل المنافق، فنزلت هذه الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني سائر الكتب المنزلة يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وهو كعب بن الأشرف وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ يعني أمروا بتكذيبه. وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن المنافقين، لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، وركنوا إلى قول اليهود ومالوا إلى خلاف النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فذلك قوله:
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا يعني: إلى كهنة اليهود وسحرتهم.
ثم قال: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ عَنِ الهدى وَعَن الحق ضَلالًا بَعِيداً ثم قال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ يعني: إلى ما أمر الله في كتابه، وإلى ما أمر الرسول، وإلى ما أنزل إلى الرسول رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً أي يعرضون عنك إعراضاً. ويقال: صدّ يصد يكون لازماً ويكون متعدياً، وإنما يتبين ذلك بالمصدر. ويقال:
صدّ يصدّ صدّاً إذا صرف غيره. كقوله تعالى فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وصدّ يصدّ صدوداً، إذا(1/313)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
أعرض بنفسه كقوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وكقوله رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ يقول: فكيف يصنعون إذا أصابتهم عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما عملت أيديهم ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ قال في رواية الكلبي: نزلت في شأن ثعلبة بن حاطب، كانت بينه وبين الزبير بن العوام خصومة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير، فخرجا من عنده فمرا على المقدام بن الأسود، فقال المقدام لمن كان القضاء يا ثعلبة؟ فقال ثعلبة: قضى لابن عمته الزبير ولوى شدقه على وجه الاستهزاء، فنزلت هذه الآية فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بليه شدقه، فلما نزلت هذه الآية أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه ويحلف. وذلك قوله: ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً أي ما أردنا إلا الإحسان في المقالة وَتَوْفِيقاً يقول: صواباً. وقال الضحاك ومقاتل: نزلت في شأن الذين بنوا مسجد ضرار، فلما أظهر الله نفاقهم وأمر بهدم المسجد، حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفعاً عن أنفسهم: ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب.
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الضمير. وقال الزجاج: معناه قد علم الله أنهم منافقون، والفائدة لنا أن اعلموا أنهم منافقون. قال: ومعنى قوله: وَتَوْفِيقاً أي طلباً لما وافق الحق. ثم قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تعاقبهم وَعِظْهُمْ بلسانك وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً يقول: خوفهم وهددهم إن فعلتم الثاني عاقبتكم. قال مقاتل: تقدم إليه تقدماً وثيقاً ثم نسخ بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة: 73] . وقوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 68]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ ومن صلة فكأنه يقول: وما أرسلنا رسولاً إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ(1/314)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
أي لكي يطاع بأمر الله. ثم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بصنعهم جاؤُكَ بالتوبة فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لذنوبهم وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي متجاوزاً.
قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ كقول القائل: لا والله لا يؤمنون حَتَّى يُحَكِّمُوكَ حتى يقروا ويرضوا بحكمك يا محمد فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما اختلفوا فيه. ويقال: تشاجرا أي اختلفا. ويقال: فيما التبس عليهم. قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الديبلي، قال: حدّثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن عمرو، عن رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة أنها قالت: كان بين الزبير بن العوام وبين رجل خصومة، فقضى النبيّ صلّى الله عليه وسلم للزبير، فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته. فأنزل الله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي في قلوبهم حَرَجاً أي شكّاً مِمَّا قَضَيْتَ أنه الحق وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي ويخضعوا لأمرك في القضاء خضوعاً. وقال الزجاج: تسليماً مصدر مؤكد، فإذا قلت ضربه ضرباً فكأنك قلت: لا شك فيه، كذلك وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي ويسلمون لحكمك تسليماً، لا يدخلون على أنفسهم شكّاً.
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني: لو فرضنا عليهم القتل أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ والقليل منهم: عمار بن ياسر، وابن مسعود، وثابت بن قيس، قالوا: لو أن الله تعالى أمرنا بأن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنَ الجِبالِ الرَّوَاسِي» قرأ ابن عامر إلا قليلاً منهم بالألف وهكذا في مصاحف أهل الشام. وقرأ الباقون بغير الألف بالضم. فمن قرأ بالضم فمعناه ما فعلوه، ويفعله قليل منهم على معنى الاستئناف. ومن قرأ بالنصب على معنى أنه على خلاف الأول للاستثناء. كقوله تعالى إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ [النساء: 98] .
ثم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ أي ما يؤمرون به لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي الثواب في الآخرة وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي تحقيقاً في الدنيا. قوله تعالى وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ يقول:
حينئذٍ لأعطيناهم مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا أَجْراً عَظِيماً في الآخرة يعني الجنة وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ديناً قيماً يرضاه لهم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 73]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)(1/315)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ قال في رواية الكلبي: نزلت الآية في شأن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب له، وكان قليل الصبر عنه حتى تغير لونه ونحل جسمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ» ؟ فقال: ما بي من مرض، ولكني إذا لم أرك استوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، وأذكر الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك. فنزل قوله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ في الجنة. وقال في رواية الضحاك: وذلك أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبيَّ الله، وإن صرنا إلى الجنة فإنك تفضلنا في الدرجات، كما أنك تفضلنا بدرجات النبوة، فلا نراك. فنزل فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية.
حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا أبو العباس، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا جهضم، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي أن رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي وولدي وأهلي، فلولا أني آتيك فأراك لا ريب- أي لا شك- أني سوف أموت. قال: وبكى الأنصاري. فقال: «مَا أَبْكَاكَ؟» قال: ذكرت أنك تموت ونموت وترفع مع النبيين، ونكون نحن وإن دخلنا الجنة دونك، فلم يجبه بشيء، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ أي من المسلمين. ثم قال: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً في الجنة، أي رفقاء كقوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] أي أطفالاً، وكقوله كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: 4] أي الأعداء ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ أي المنّ والعطية من فضل الله وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالثواب في الآخرة.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي عدتكم من السلاح فَانْفِرُوا ثُباتٍ يعني عصباً سرايا أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بأجمعكم. وقال عز وجل: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فاللام الأولى زيادة للتأكيد، واللام الثانية للقسم. أي وإن منكم من يتثاقل ويتخلف عن الجهاد، يعني المنافقين، فهذا الخطاب للمؤمنين، فكأنه يقول: إن فيكم منافقين يتثاقلون ويتخلفون عن الجهاد فَإِنْ أَصابَتْكُمْ معشر المسلمين مُصِيبَةٌ يعني نكبة وشدة وهزيمة من العدو قالَ ذلك المنافق الذي فيكم وتخلف عن الجهاد: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ(1/316)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
بالجلوس إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي حاضراً في تلك الغزوة. قوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ يعني الفتح والغنيمة لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، أي معرفة ووداً في الدين يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزوة فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فأصيب غنائم كثيرة. وقال مقاتل: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه: فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة في الدين ولا ولاية. قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بالتاء لأن المودة مؤنثة، وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي.
ثم أمر المنافقين بأن يقاتلوا لوجه الله تعالى، فقال عز وجل:
[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني فليقاتل الذين معكم في طاعة الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي يختارون الدنيا على الآخرة. ويقال: هذا الخطاب للمؤمنين، فكأنه يقول: فليقاتل في سبيل الله الكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بِالْآخِرَةِ. ثم قال تعالى: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله فَيُقْتَلْ يقول فيستشهد: أَوْ يَغْلِبْ أي يقتل العدو ويهزمهم فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي ثواباً عظيماً في الجنة، فجعل ثوابهما واحداً، يعني: إذ غلب أو غلب يستوجب الثواب في الوجهين جميعاً، وقال الضحاك في قوله: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قال: ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة، غفرت له ذنوبه ووجبت له الجنة. والفواق بالرفع: ما بين الحلبتين. والفواق: بالنصب الراحة. وذلك قوله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي ثواباً عظيماً في الجنة.
ثم حث المؤمنين على القتال فقال تعالى: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ أي وعن المستضعفين مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ويقال: وما لكم لا(1/317)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
تقاتلون في سبيل الله وسبيل المستضعفين. ويقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي خلاص المستضعفين. وقال الضحاك: وذلك أن كفار قريش أسروا سبعة نفر من المسلمين وكانوا يعذبونهم، فأمر الله تعالى بقتال الكفار ليستنقذوا الأسرى من أيديهم الَّذِينَ يَقُولُونَ يعني المستضعفين بمكة، يدعون الله تعالى ويقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها بالشرك وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي من عندك حافظاً يحفظنا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً أي مانعاً يمنعنا منهم. قال الكلبي: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، جعل الله لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم ولياً، وعتاب بن أسيد نصيراً، وكان عتاب بن أسيد ينصف الضعيف من الشديد، فنصرهم الله به وأعانهم، وكانوا أعز من بمكة من الظلمة قبل ذلك، فصار المسلمون الضعفاء أعزاء كما كان الكفار قبل ذلك.
ثم مدح الله المؤمنين بقتالهم لوجه الله تعالى، فقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وإعزاز الدين وذم المنافقين، وبيّن أن قتالهم للشيطان، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أي في طاعة الشيطان. ثم حرض المؤمنين على القتال فقال: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي جند الشيطان وهم المشركون إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ أي مكر الشيطان كانَ ضَعِيفاً أي واهياً. ويقال: أراد به يوم بدر حيث قال لهم الشيطان أي الكفار: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه.
ويقال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي مكره ضعيف لا يدوم، وهذا كما يقال للحق دولة وللباطل جولة أي ما له ري.
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 78]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ يعني ألم تخبر عنهم، ويقال: إن معناه ألا(1/318)
ترى إلى هؤلاء، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانوا بمكة استأذنوا في قتل كفار مكة سراً، لما كانوا يلقون منهم من الأذى، فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: مهلاً كفوا أيديكم عن قتالهم وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فإني لم أؤمر بقتالهم، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله تعالى بالقتال، فكره بعضهم فنزلت هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن القتل وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أتموها وَآتُوا الزَّكاةَ يعني: أقروا بها وأعطوها إذا وجبت عليكم فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي فرض عليهم القتال بالمدينة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي يخشون عذاب الكفار كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كخشيتهم من عذاب الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أي بل أشد خشية، ويقال: معناه أو أشد خشية يعني أكثر خوفاً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي لم فرضت علينا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنا أي يقولوا هلاّ أجلتنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الموت، فبيّن الله تعالى لهم أن الدنيا فانية فقال: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ أي منفعة الدنيا قليلة لأنها لا تدوم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» .
ثم قال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى يقول: ثواب الآخرة أفضل لمن اتقى الشرك والمعاصي وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا وقد ذكرناه. قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: (ولا تظلمون) بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر يعني المتقين. قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي في الأرض يأتيكم الموت وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي في القصور الطوال المشيدة المبنية إلى السماء، حتى لا يخلص إليه أحد من بني آدم. وقال القتبي: «البروج» : الحصون، و «المشيدة» : المطولة وذلك أنهم لما تثاقلوا عن الخروج إلى الجهاد مخافة الموت، فأخبرهم الله تعالى أنهم لا يموتون قبل الأجل، إذا جاء أجلهم لا ينجون من الموت، وإن كانوا في موضع حصين. وهذا قوله تعالى: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 168] .
ثم أخبر عن المنافقين فقال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا أي الفتح والغنيمة والخصب يقولوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي نكبة وهزيمة يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي من شؤمك، يعني: أصابتنا بسببك، أنت الذي حملتنا على هذا. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يقال:
الرخاء والشدة، ويقال: القدر خيره وشره من الله تعالى. ثم قال تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ يعني المنافقين لا يكادون يفقهون حَدِيثاً أي لا يفهمون قولاً أن الشدة والرخاء من الله تعالى، أي لا يسمعون ولا يفهمون ما يحدثهم ربهم في القرآن.
قوله تعالى:(1/319)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
[سورة النساء (4) : الآيات 79 الى 81]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني: النعمة وهو الفتح والغنيمة فَمِنَ اللَّهِ أي: وبفضله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يعني: البلاء والشدة من العدو أو الشدة في العيش فَمِنْ نَفْسِكَ أي فبذنبك، وأنا قضيته عليك. ويقال: ما أصابك من حسنة يوم بدر فمن الله، وما أصابك من سيئة يوم أحد فمن نفسك، أي بذنب أصحابك، يعني بتركهم المركز. ويقال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني الدلائل والعلامات لنبوتك فمن الله، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يعني انقطاع الوحي فمن نفسك يعني بترك الاستثناء، حيث انقطع عنك جبريل أياماً بترك استثنائك به. ويقال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني تكثير الأمة فمن الله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ من أذى الكفار فبتعجيلك كقوله تعالى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا ويقال: فيه تقديم وتأخير ومعناه فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً بقولهم مَّا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ قل: كلٌّ من عند الله.
ثُمَّ قال تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي ليس عليك سوى تبليغ الرسالة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على مقالتهم وفعلهم. ثم قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ يعني من يطع الرسول فيما أمره فقد أطاع الله، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يدعوهم بأمر الله تعالى، وفي طاعة الله تعالى، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أحَبّنِي فَقَدْ أحَبَّ الله وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله» «1» فقال المنافقون: إن هذا الرجل يريد أن نتخذه حناناً، فأنزل الله تعالى تصديقاً لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ثم قال تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن طاعة الله وطاعة رسوله فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي رقيباً، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال.
ثم أخبر عن أمر المنافقين فقال: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي يقولون بحضرتك: قولك طاعة.
وأمرك معروف، فمرنا بما شئت فنحن لأمرك نتبع فَإِذا بَرَزُوا أي خرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ
__________
(1) لم أجد الحديث في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ولم أجده في صحيح البخاري ولا في مسند الإمام أحمد. وإنما ورد في صحيح البخاري (56) كتاب الجهاد والسير (109) باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به رقم الحديث (2957) «من أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، ومن عصاني فقد عصى الله ... إلخ» .(1/320)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
أي ألغت ويقال غيرت طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وقال الزجاج: لكل أمر قضي بليل قد بيت، قرأ أبو عمرو وحمزة بَيَّتَ طائِفَةٌ بالإدغام لقرب مخرج التاء من الطاء، وقرأ الباقون بالإظهار لأنهما كلمتان. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ يعني: يحفظ عليهم ما يغيرون. وقال الزجاج: وَاللَّهُ يَكْتُبُ له وجهان، يجوز أن يكون ينزله إليك في كتابه، وجائز أن يكون: يحفظ ما جاءوا به. ثم قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي اتركهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي شهيداً. ويقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ثق بالله وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي شهيداً. أو يقال: وتوكل على الله ثقة لك. ثم نسخ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73، والتحريم: 9] .
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 84]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يعني أفلا يتفكرون في مواعظ القرآن ليعتبروا بها، ويقال: أفلا يتفكرون في معاني القرآن فيعلمون أنه من عند الله تعالى؟ لأنه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أي تناقضاً كثيراً، ويقال: أباطيل وكذباً كثيراً لأن الاختلاف في قول الناس، وقول الله تعالى لا اختلاف فيه، فلهذا قال أهل النظر: إن الإجماع حجة، لأن الإجماع من الله تعالى، ولو لم يكن من الله تعالى لوقع فيه الاختلاف. ولهذا قالوا: إن القياس إذا انتقض سقط الاحتجاج به لأنه لو كان حكم الله تعالى لم يرد عليه النقض. قوله تعالى:
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ يعني المنافقين إذا جاءهم خبر من أمر السرية بالفتح والغلبة على العدو، سكتوا وقصروا عما جاءهم من الخبر أو الخوف، أي وإن جاءهم خبر من السرية ببلاء وشدة نزلت بالمؤمنين أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ قال الكلبي: يقول لو سكتوا عن إفشائه حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يفشيه وأولو الأمر منهم مثل أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ يقول: يبتغونه مِنْهُمْ فيكون هؤلاء الذين يستمعونه ويفشونه ويعلمونه إلا قليلاً منهم.(1/321)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
يقول الله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لولا منُّ الله عليكم ورحمته ونعمته لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيه تقديم وتأخير. وقال مقاتل: أذاعوا به أي أفشوه إِلَّا قَلِيلًا منهم لا يفشون الخبر. وقال الزجاج: أَذاعُوا بِهِ أي أظهروه. ومعنى يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجونه، وأصله من النبط وهو أول الماء الذي يخرج من البئر إذا حفرت، ولو ردوا ذلك إلى أن يأخذوا من قبل الرسول ومن قبل أولي الأمر منهم، لعلمه هؤلاء الذين أذاعوا به من ضعف المسلمين وعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم وذوي العلم، وكانوا يعلمون مع ذلك. وقال عكرمة لعلمه الذين يخوضون فيه ويسألون عنه. وقال أبو العالية: يعني الذين يستحسنونه منهم. وقال الضحاك: ولو ردوا أمرهم في الحلال والحرام إلى الرسول في التصديق به والقبول منه، وإلى أولى الامر منهم، يعني حملة الفقه والحكمة، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، يعني يتفحصون عن العلم. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالقرآن لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا وهم الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى. وفي هذه الآية دليل على جواز الاستنباط من الخبر والكتاب، لأن الله تعالى قد أجاز الاستنباط من قبل الرسول وأهل العلم.
ثم قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله لاَ تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ قال مقاتل:
يعني ليس عليك ذنب غيرك. وقال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصر. وقال أبو بكر في أهل الردة: لو خالفتني يميني لجاهدت بشمالي. ويقال: واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بأن يخرج إلى بدر الصغرى، فكره المسلمون الخروج فأمره الله تعالى بأن يخرج وإن كان وحده. فقال: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي على القتال، يعني على الجهاد بقتال أعداء الله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يمنع قتال الذين كفروا. والبأس هو القتال، كما قال في آية أخرى وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة: 177] ثم قال تعالى: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أي عذاباً. ويقال: وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي أشد عقوبة في الآخرة عن عقوبة الكفار في الدنيا.
[سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 87]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها قال الضحاك: يعني مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً في الإسلام، فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.(1/322)
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي من سنّ في الإسلام سنة قبيحة محدثة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وقال الكلبي:
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يعني: يصلح بين اثنين يكن له أجر منها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يمشي بالنميمة والغيبة، يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها يعني إثم منها. وقال مجاهد: إنما هي شفاعة في الناس بعضهم لبعض، يعني يشفع لأخيه المسلم في دفع المظلمة عنه. وروى سفيان عن عمرو بن دينار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «اشْفَعُوا إِلَيَّ تُؤْجَرُوا فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي الأمْرَ فَأَمْنَعُهُ كَيْ مَا تَشْفَعُوا فَتُؤْجَرُوا» . وقال الحسن: الشفاعة تجري أجرها لصاحبها ما جرت منفعتها، والكفل في اللغة النصيب. كقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28] ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً والمقيت المقتدر. يقال: أقات على الشيء يعني اقتدر. ويقال:
المقيت الشاهد على الشيء، الحافظ له، ويقال: مقيتاً يعني: بيده الرزق وعليه قوت كل دابة، كقوله تعالى وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: 10] .
قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ يعني إذا سلم عليكم فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أي ردوا جوابها بأحسن منها أَوْ رُدُّوها أي مثلها، فأمر الله تعالى المسلمين برد السلام، بأن يردوا بأحسن منها، وهو أن يقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أو يرد مثله، فيقول:
وعليكم السلام، وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها للمسلمين، أو ردوها لأهل الذمة، فيقول لهم: وعليكم، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً دخل عليه، وقال: السلام عليكم، فقال له: «وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» . ودخل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فقال: «لَكَ عِشْرُونَ حَسَنَةً» . ودخل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فقال: «لَكَ ثَلاثُونَ حَسَنَةً» . وروي عنه أنه نهى أن ينقص الرجل من سلامه أو من ردّه، وهو أن يقول: السلام عليك، ولكن ليقل: السلام عليكم. ويقال: إنما ذلك للمؤمنين، لأن المؤمن لا يكون وحده ولكن يكون معه الملائكة. وفي هذه الآية دليل أن السلام سنة، والرد واجب لأن الله تعالى أمر بالرد، والأمر من الله تعالى واجب ويقال: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها يعني إذا أهدي إليكم بهدية، فكافئوا بأفضل منها أو مثلها. وهذا التأويل ذكر عن أبي حنيفة.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أي مجازياً.
قوله تعالى: اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ نزلت في شأن الذين شكوا في البعث، فأقسم الله تعالى بنفسه لَيَجْمَعَنَّكُمْ وهذه لام القسم، وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم. وقوله:
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قال بعضهم: إلى صلة في الكلام، معناه ليجمعنكم يوم القيامة. ويقال:
ليجمعنكم في الموت وفي قبوركم إلى يوم القيامة، ثم يبعثكم لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه،(1/323)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
وهو البعث. يعني: لا شك فيه عند المؤمنين، ويقال: يعني لا ينبغي أن يشك فِيهِ. ثم قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أي من أوفى من الله قولاً وعهداً. قرأ حمزة والكسائي:
(وَمِنْ أزدق) بالزاي. وقرأ الباقون: أَصْدَقُ وأصله الصاد، إلا أنه لقرب مخرجيهما يجعل مكانه زاي.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ نزلت في تسعة نفر ارتدوا عن الإسلام، فخرجوا من أموالهم. ويقال: كان قوم من المنافقين بمكة، خرجوا إلى الشام، فاختلف المسلمون في أمرهم، فبيّن الله تعالى للمسلمين نفاقهم، فقال تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ يعني صرتم في المنافقين فئتين، أي فريقين تختصمون في أمرهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي أذلهم.
ويقال: أهلكهم. ويقال: أركسهم أي ردهم إلى كفرهم. ويقال: ركست الشيء وأركسته إذا رددته إلى الحال الأول.
ثم قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ يعني: أترشدون إلى الهدى من أضله الله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يعني ديناً. ويقال: مخرجاً. ثم قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي ترجعون عن هجرتكم كَما كَفَرُوا أي كما رجعوا(1/324)
فَتَكُونُونَ أنتم وهم على الكفر سَواءً ومن هذا يقال في المثل: إن من أحرق يوماً كدسه يتمنى حرق أكداس الأمم. فكذلك الكفار كانوا يتمنون أن يكون الناس كلهم كفاراً، حتى يحترقوا معهم. قال الله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ في الدين والنصرة حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دار الهجرة بالمدينة فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني: أبوا الهجرة فَخُذُوهُمْ يعني: فأسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يعني: أين وجدتموهم من الأرض وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً في العون. ثم استثنى الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد فقال: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وهم خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة، وهلال بن عويمر الأسلمي وأصحابه، صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل من أتاهم من المسلمين فهو آمن، ومن جاء منهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فهو آمن. وفي هذه الآية إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام، إذا كانت في الموادعة مصلحة للمسلمين.
ثم قال تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت قلوبهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ من قبل العهد أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ معكم من قبل القرابة. ثم قال تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ذكر منته على المؤمنين أنه يدفع عنهم البلاء ومنعهم عن قتالهم، ثم قال تعالى فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ في القتال فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الصلح، معناه أنهم لو ثبتوا على صلحهم فلا تقاتلوهم، فذلك قوله: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي حجة وسلطاناً في قتالهم.
ثم قال عز وجل: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ وهم أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقولون: آمنا بك. وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا: آمنا بالعقرب والخنفساء. يقول: إنهم لم يريدوا بذلك تصديق النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وإنما أرادوا به الاستهزاء. وقال مجاهد: هم ناس من أهل مكة، كانوا يأتون النبيّ صلّى الله عليه وسلم ويسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون بالأوثان، ويريدون أن يأمنوا هاهنا وهاهنا. فذلك قوله تعالى:
كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ يقول: كلما دعوا إلى الشرك أُرْكِسُوا فِيها يقول: عادوا إليه ودخلوا فيه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ في القتال وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي لم يلقوا إليكم الصلح وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم، يعني إن لم يكفوا أيديهم فَخُذُوهُمْ يعني أسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يعني: حيث أدركتموهم ووجدتموهم وَأُولئِكُمْ يعني أهل هذه الصفة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً يعني: حجة مُبِيناً أي حجة مبينة في القتال.
وقوله تعالى:(1/325)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
[سورة النساء (4) : آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً يقول: وما جاز لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً متعمداً إلا خطأ، بغير قصد منه. ويقال: معناه: ولا خطأ أي ما جاز له يقتل عمداً ولا خطأ. ثم قال تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً نزلت الآية في شأن عياش بن أبي ربيعة، حين قتل الحارث بن زيد، وذلك أن عياشاً هاجر إلى المدينة مؤمناً، فجاءه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، وهما أخواه لأمه، ومعهما الحارث بن زيد فقالوا له: إن أمك تناشدك بحقها ورحمها أن ترجع إليها وإنك أحب الأولاد إليها، وقد حلفت ألا يظلها بيت ولا تأكل طعاماً، ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها، فارجع إليها وكن على دينك. فخرج معهم، فلما خرج من المدينة أوثقوه بحبل وضربوه، وحملوه إلى مكة، وألقوه في الشمس، وحلفت أمه بأن لا يحله أحد ما لم يكفر بالله، فتركوه على حاله حتى أعطاهم الذي أرادوه، فحلُّوه من الوثاق فقال له الحارث بن زيد: إن كان الذي كنت عليه هدى فقد تركته، وإن كان ضلالة، فقد كنت في ضلالة، فحلف عياش بأن يقتل الحارث بن زيد إذا لقيه خالياً. ثم إن عياشاً خرج إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم الحارث بن زيد بعد ذلك، فلقيه عياش في بعض سكك المدينة ولم يعلم بإسلامه فقتله، ثم علم بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالأمر الذي كان منه، فنزلت هذه الآية فيه، وصارت الآية عامة لجميع الناس. وهو قوله: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعليه عتق رقبة مؤمنة، ولو أعتق رقبة كافرة لم يجز بالإجماع وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي وعليه دية مسلمة إلى أهل القتيل، والدية مائة من الإبل إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا وأصله يتصدقوا، فأدغم التاء في الصاد، وأقيم التشديد مقامه. ومعناه: إلا أن يعفو عنه أولياء القتيل، ولا يأخذوا منه شيئاً.
ثم قال: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ يعني إن كان القتيل من أهل الحرب وقد أسلم في دار الحرب، فقتله رجل في دار الحرب، فعلى القاتل الكفارة عتق رقبة مؤمنة، ولا دية عليه. وهذا بالإجماع. وقد نزلت في شأن أسامة بن زيد، قتل رجلاً يقال له مرداس وكان مسلماً، فنزلت هذه الآية. وروى عن عطاء بن السائب عن ابن عباس أنه قال: كان الرجل يأتي فيسلم، ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم، فتغزوهم جيوش من جيوش(1/326)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل الرجل، فنزلت هذه الآية فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وليس عليه دية. ثم قال: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يعني إن كان المقتول من أهل الذمة فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ أي فعليه دية مسلمة إِلى أَهْلِهِ وَعليه أيضاً تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن مستأمنين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكساهما وحملهما، فلما خرجا من عنده لقيهما عمرو بن أمية الضمري فقتلهما، ولم يعلم أنهما مستأمنان، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حرّين مسلمين، فنزلت هذه الآية وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله: إن دية الذمي والمسلم سواء. وهكذا روي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان- رضي الله عنهم- إن دية الذمي والمسلم سواء، مائة من الإبل. ثم قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي قاتل الخطأ، إذا لم يجد رقبة مؤمنة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي تلك الكفارة توبة للقاتل من الله تعالى، ويقال سبب التجاوز من الله. ثم قال: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني عليماً بالقاتل حَكِيماً حكم بالكفارة على من قتل خطأ
[سورة النساء (4) : آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ روي عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند عبد الله بن عباس بعد ما كفّ بصره، فجاءه رجل فناداه: ما تقول فيمن قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً فيها. وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً فقال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال: وأنى له الهدى، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «يَأَتِي قَاتِلُ المُؤْمِنِ مُتَعَمِّداً وَيَتَعَلَّقُ بِهِ المَقْتُولُ عِنْدَ عَرْشِ الرحمن، فَيَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هذا فيم قتلني؟» فو الذي نفسي بيده في هذا أنزلت هذه الآية، فما نسختها آية بعد نبيكم، وما نزل بعده من برهان. وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما قالا: لا توبة له. وقال غيرهم: له التوبة لأن الله تعالى ذكر الشرك والقتل والزنى ثم قال: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ- إلى قوله- فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70] ويقال: معناه فجزاؤه جهنم خالداً فيها، أي داخلاً فيها لأنه لم يذكر فيها الأبد، كما أن الرجل يقول: خلدت فلاناً في السجن أي أدخلته.
ويقال فجزاؤه جهنم أي إن جازاه. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا وَعَدَ الله لِعَبْدِهِ ثَوَاباً فَهُوَ مُنْجِزُهُ، وَإِنْ أَوْعَدَ لَهُ العقوبة فله المشيئة إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْه» . ويقال: معناه من يقتل مؤمناً متعمداً يعني مستحّلاً لقتله، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، لأنه كفر باستحلاله. ويقال:(1/327)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً يعني يقتله متعمداً لأجل إيمانه، كما روي في الأثر أن بغض الأنصار كفر إن كان بغضهم لأجل نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك هاهنا إذا قتله لأجل إيمانه صار كافراً. ويقال هو منسوخ بقوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] ويقال: معناه فجزاؤهم جهنم بقتله خالداً فيها بارتداده، لأن الآية نزلت في شأن رجل قتل مؤمناً متعمداً ثم ارتد عن الإسلام، وهو مقيس بن ضبابة، وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلاً في بني النجار، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر إلى بني النجار، وأمره بأن يقرئهم السلام ويأمرهم بأن يطلبوا قاتله، فإن وجدوه قتلوه، وإن لم يجدوه حلفوا خمسين يميناً وغرموا الدية، فلما أتاهم مقيس بن ضبابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم الرسالة، فقالوا سمعاً وطاعة لأمر الله ورسوله. وقالوا: ما نعرف قاتله، فحلفوا وغرموا الدية. فلما رجع مقيس بن ضبابة قال في نفسه: إني بعت دم أخي بمائة من الإبل. ودخلت فيه حمية الجاهلية، وقال: أقتل هذا الفهري مكان أخي، وتكون الدية فضلاً لي. فقتله وتوجه إلى مكة وقال في ذلك شعراً.
قتلت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
فأدركت ثأري واضطجعت موسدا ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت هذه الآية في شأنه إن جزاؤه جهنم خالداً فيها وكل من يعمل مثل عمله.
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي يقول إذا خرجتم وصرتم في الجهاد فَتَبَيَّنُوا نزلت الآية في شأن أسامة بن زيد، لقي رجلاً يقال له مرداس فقال له مرداس: لا إله إلا الله. وسلم عليهم وقال: السلام عليكم إني مؤمن، فقتله أسامة ولم يصدقه بأنه مسلم، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقَتَلْتَ رَجُلاً يَقُولُ لا إله إلا الله» ؟ فقال أسامة: إنه قال بلسانه دون قلبه فقال صلى الله عليه وسلم: «هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» فقال أسامة: استغفر لي فقال له: «فَكَيْفَ لَكَ بلا إله إلا الله» . ثلاث مرات. ثم استغفر له الرابعة، وأمره بأن يعتق رقبة.(1/328)
وروى شهر بن حوشب عن جندب بن سفيان، عن رجل من بجيلة قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه بشير من السرية فأخبره بالفتح وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما نحن نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى، فقصدت رجلاً بالسيف، فلما أحس أن السيف واقع به فقال إني مسلم فقتلته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقَتَلْتَ مُسْلِماً!» فقال: يا رسول الله أنه قال متعوّذا فقال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ!» فقال يا رسول الله: استغفر لي فقال: «لاَ أَسْتَغْفِرُ لَكَ» .
فمات الرجل فدفنوه، ثم أصبح على وجه الأرض ثم دفنوه، ثم أصبح على وجه الأرض ثلاث مرات، فلما رأى ذلك قومه استحيوا وحزنوا، فحملوه وألقوه في شعب من تلك الشعاب فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا أي قفوا وانظروا من تقتلون. قرأ حمزة والكسائي فَتَثَبَّتُوا بالثاء، وقرأ الباقون فَتَبَيَّنُوا بالباء، فمن قرأ بالثاء فهو من التثبت يقول: قفوا ولا تعجلوا في الأمر حتى يتبين لكم الكافر من المسلم. ومن قرأ بالباء فهو من التبين ومعناهما قريب.
ثم قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير والكسائي: السَّلامَ بالألف. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة السلم بغير ألف.
وأما من قرأ السَّلامَ فلأن مرداساً قال لهم: السلام عليكم. وأما من قرأ السلم فهو الدخول والانقياد والمتابعة، يعني إن انقاد لكم وتابعكم فلا تقولوا له لست مؤمناً، وأسلم واستسلم بمعنى واحد، أي دخل في الانقياد. كما تقول: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأربع إذا دخل في الربيع. ثم قال: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وذلك أن الرجل كانت معه غنيمة حين قتلوه، وأخذوا ما كان معه من الغنيمة، فعيّرهم الله تعالى بطمعهم في المال. ثم قال: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي عند الله ثواب كثير في الآخرة لمن اتقى، ويقال: غنائم كثيرة في الدنيا، فاطلبوا من حيث أذن لكم وأبيح لكم.
ثم قال تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي هكذا كنتم من قبل الهجرة بمنزلة مرداس، تأمنون في قومكم بالتوحيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تخيفوا أحداً، وكنتم تأمنون بمثله قبل هجرتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالهجرة ويقال: هكذا كنتم يعني كنتم تكتمون إيمانكم من قبل، ويقال: أي كنتم كفاراً، فمنَّ الله عليكم بالإسلام. ثم قال تعالى: فَتَبَيَّنُوا أي قفوا وانظروا في أمركم لكي لا تقتلوا مؤمناً، فصارت الآية عامة لجميع السرايا إذا دخلوا دار الحرب ينبغي أن يتبينوا لكي لا يقتلوا مؤمناً. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي عالماً بكم وبأعمالكم.
ثم قال تعالى:(1/329)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني القاعدين عن الجهاد لا يكون حالهم مثل حال الذين يجاهدون في الثواب والأجر غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ أي القاعدين الذين لا عذر لهم، ومن كان له عذر فهو خارج من هذا. قال ابن عباس: يعني ابن أم مكتوم ومحمد بن جحش.
ويقال: عبد الله بن جحش. فقال: إنا عميان فهل لنا من رخصة فنزلت غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن داود، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأوسي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي قال: رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ، فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت. وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتى خفت أن يرضَّ فخذي، ثم سري عنه أي زال عنه التغير فأنزل الله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ يعني: إلا أن يكون أولي الضرر.
قرأ نافع والكسائي وابن عامر: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بنصب الراء، وقرأ حمزة وعاصم وابن كثير وأبو عمرو غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالضم. وقرأ بعضهم غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالكسر.
فمن قرأ بالضم جعله نعتاً للقاعدين، أي يعني لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر. ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الاستثناء، ويقال: هو نصب على الحال. ومن قرأ بالكسر فلحرف الكسر وهو من قوله تعالى: وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ أي بغير عذر دَرَجَةً أي فضيلة في الآخرة وَكُلًّا يعني:
المجاهدين والقاعدين والمعذورين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي وعد الله لهم الثواب وهو الجنة.
ثم قال تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً أي بغير عذر، ثم بيّن الأجر فقال: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً أي فضائل من الله في الجنة أي سبعين درجة. روى هشام بن حسان، عن جبلة بن عطية، عن ابن محيريز قال: ما بين الدرجتين حضر الفرس أو الجواد سبعين عاماً. ثم قال تعالى: وَمَغْفِرَةً يعني مغفرة لذنوبهم وَرَحْمَةً نعمة في الجنة(1/330)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن جاهد رَحِيماً إذ سوّى بين من له عذر بالفضل مع غيره.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني ملك الموت يقبض أرواحهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ يعني الذين أسلموا بمكة، وتخلفوا عن الهجرة، وخرجوا مع المشركين إلى بدر، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا وكفروا، فقتل بعضهم، فأخبر الله تعالى عن حالهم فقال تعالى: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ يعني الملائكة تقول لهم: في أي شيء كنتم؟ ويقال: أين كنتم عن الهجرة؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أي يقولون: كنا مقهورين في أرض مكة، لا نقدر أن نظهر الإيمان قالُوا أي: قالت الملائكة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً يعني المدينة مطمئنة آمنة فَتُهاجِرُوا يعني: تهاجروا إليها. فقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي منزلهم ومصيرهم إلى النار وَساءَتْ مَصِيراً أي بئس المصير صاروا إليها. حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص، قال: حدّثنا الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدّثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن حيوة بن شريح، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إن ناساً من المسلمين مع المشركين، يكثرون سواد المشركين يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الاْيَةَ.
ثم استثنى أهل العذر فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ أي المقهورين مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ فليس مأواهم جهنم وهم الذين لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أي لا يجدون سعة الخروج عنهم إلى المدينة، ولا يعرفون طريقاً إلى المدينة فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ أي يتجاوز عنهم، وعسى من الله واجب وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا عنهم غَفُوراً لهم فلا يعاقبهم، فقال عبد الله بن عباس: أنا ممن استثنى الله يومئذٍ وكنت غلاماً صغيراً وكان ذلك قبل نسخ الهجرة، ثم نسخت الهجرة بعد فتح مكة. حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص، قال: حدّثنا الطحاوي، قال: حدّثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم، قال: حدّثنا عبيد الله بن(1/331)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
موسى، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، خطب الناس فقال في خطبته:
«وَلاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ» وروى طاوس عن ابن عباس، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «إِنَّهُ لاَ هِجْرَةَ ولكن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» .
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 100 الى 101]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يقول: في طاعة الله إلى المدينة يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً يقول: ملجأ ومحولاً من الكفر إلى الإيمان وَسَعَةً من الرزق. وقال القتبي: المراغم والمهاجر واحد. ويقال: راغمت وهاجرت، لأنه إذا أسلم خرج مراغماً لأهله أي مغايظاً لهم، والمهاجر المنقطع. وقيل للذاهب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم هجرة مراغم، لأنه إذا خرج هجر قومه.
وروي عن معمر عن قتادة قال: لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية.
فقال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي عذر إني أجد الدليل في الطريق وإني لموسر فاحملوني فحملوه فأدركه الموت في الطريق، فقال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: لو بلغ إلينا لتمّ أجره وقد مات بالتنعيم، وجاء بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة، فنزلت هذه الآية: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ يعني في الطريق فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثوابه على الله الجنة وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما كان منه في الشرك رَحِيماً حين قبل توبته، وكان اسمه جندع بن ضمرة.
قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني إذا خرجتم إلى السفر فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ويقول: لا مأثم ولا حرج عليكم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني يقتلكم. والفتنة في أصل اللغة الاختبار، ثم سمي القتل فتنة لأن معنى الاختبار كما قال عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83] أي يقتلهم. فالله تعالى قد أباح قصر الصلاة عند الخوف، ثم صار ذلك عاماً لجميع المسافرين أن يقصروا من الصلاة خافوا أو لم يخافوا. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال(1/332)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . ثم قال تعالى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة، ومعناه كونوا بالحذر منهم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ يعني بالمؤمنين، ومعناه: إذا كنت بحضرة العدو وحضرت الصلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي جماعة منهم مَعَكَ في الصلاة وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ يعني الذين يصلون معك، ويقال: وليأخذوا أسلحتهم الذين هم بإزاء العدو فَإِذا سَجَدُوا يعني: إذ صلوا الذين خلف الإمام ركعة واحدة فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي ينصرفون إلى موضع العدو، ويقفون هناك وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا كانوا بإزاء العدو فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ركعة أخرى، ولم يذكر في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة ولكن ذكر في الخبر عن عبد الله بن عمر وغيره، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الأخرى ركعة كما ذكر في الآية ثم جاءت الطائفة الأولى، وذهبت هذه الطائفة إلى موضع العدو، حتى قضت الطائفة الأولى الركعة الأخرى وسلموا، ثم جاءت الطائفة الأخرى، وقضوا الركعة الأولى وسلموا، حتى صارت لكل طائفة ركعتان. وهذا اختيار أصحابنا في صلاة الخوف ثم قال تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يقول: تمنى الذين كفروا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ يعني أمتعة الحرب فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً يعني: يحملون عليكم حملة واحدة، وإنما حذرهم لكي يكونوا بالحذر منهم.
ثم قال تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان في غزوة أنمار، فهزمهم وسبى ذريتهم، فلما رجعوا أصابهم المطر، فنزلوا وادياً تحت الأشجار، فوضع النبيّ صلّى الله عليه وسلم سلاحه وذهب إلى الجانب الآخر من الوادي وحده، فجاء السيل فحال بينه وبين أصحابه. وكان بعض المشركين على ذلك الجبل، فرآه حين حال السيل بينه وبين أصحابه، فجاءه واحد منهم يقال له(1/333)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
حويرث بن الحارث، وقال: أنا أقتله، فأتاه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: «الله عزَّ وَجَلَّ» فسلَّ سيفه وأراد أن يضربه، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم الكافر في صدره دفعة، فسقط السيف من يده. فوثب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ سيفه وقال: «مَنْ يُخَلِّصُكَ مِنِّي؟» فقال: لا أحد. فقال له: «إِنْ أَسْلَمْتَ حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكَ سَيْفَكَ» فقال: لا أسلم. ولكن أعاهد الله تعالى ألا أكون لك ولا عليك أبداً، فرد عليه سيفه فقال الرجل: يا محمد أنت خير مني، لأنك قدرت على قتلي فلم تقتلني، فرجع الكافر إلى أصحابه، فأخبرهم بالقصة فآمن بعضهم ثم انقطع السيل. وجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالقصة، وقرأ عليهم هذه الآية وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أي أصابتكم الجراحات أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ من العدو يعني كونوا بالحذر منهم. وقال الضحاك: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أي تقلدوا سيوفكم، فإنما ذلك هيبة الغزاة. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ في الآخرة عَذاباً مُهِيناً يهانون فيه.
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ قال بعضهم: فإذا فرغتم من الصلاة فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالقلب واللسان على أي حال كنتم قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ إن لم تستطيعوا القيام، ويقال: فإذا قضيتم الصلاة، أي إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدوابّ، أو قياماً أو قعوداً أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام، إذا كان خوفاً أو مرضاً. وهذا كما قال في آية أخرى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: 239] يقال: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء: 103] أي فرغتم من صلاة الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا لله، وصلاة الصحيح قياماً والمريض قاعداً، أو على جنوبكم إن كان المرض أشد من ذلك. ثم قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يقول: أمنتم ورجعتم إلى منازلكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني: فأتموا الصلاة أربعاً. وهذا كقوله يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي مطمئنين.
ثم قال: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً يعني فرضاً مفروضاً معلوماً،(1/334)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
للمسافر ركعتان، وللمقيم أربع. وقال مقاتل: كِتاباً مَوْقُوتاً يعني فريضة معلومة كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ [البقرة: 178 وغيرها] أي فرض عليكم. وقال الزجاج: كِتاباً مَوْقُوتاً أي مفروضاً موقتاً فرضه.
قوله تعالى وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ يقول: لا تضعفوا في ابتغاء القوم، أي في طلب المشركين أبي سفيان وأصحابه بعد يوم أحد، وذلك أن المسلمين لما أصابتهم الجراحات يوم أحد، وكانوا يضعفون عن الخروج إلى الجهاد، فأمرهم الله تعالى بأن يظهروا من أنفسهم الجد والقوة، وهذا الخطاب لهم، ولجميع المسلمين الغزاة إلى يوم القيامة. قوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ قال عكرمة: الألم الوجع، وكذلك قال الضحاك والسدي: إن أصابكم الوجع والجراحات في الحرب فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أي يصيبهم الوجع مثل ما يصيبكم، ولكم زيادة ليست للمشركين، وذلك قوله تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ يعني الثواب في الآخرة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بما كان حَكِيماً بما يكون. ثم قال:
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 109]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ يعني: أنزلنا عليك جبريل عليه السلام، ليقرأ عليك القرآن بالعدل والأمر والنهي لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما أعلمك الله وألهمك، وبما أوحي إليك وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ولا تكن للسارقين معيناً. وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر، عن جده قتادة بن النعمان، قال: كان بنو أبيرق وكانوا ثلاثة:
بشر، وبشير، ومبشر. فكان بشر يكنى أبا طعمة، وكان شاعراً، وكان منافقاً، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم يقول: قال فلان وكان لعمي رفاعة بن زيد علية «1» فيها
__________
(1) علية: غرفة.(1/335)
طعام وسلاح، فطرقه بشر من الليل، فأخذ ما فيها من الطعام والسلاح، فلما أصبح عمي دعاني وقال لي: إنه أغير علينا الليلة فقلت: من فعله؟ فقال: بشير وأخوه. فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن بشيراً قد سرق من عمي الطعام والسلاح، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، وأما السلاح فليردوه علينا، فجاء قومه وكانوا أهل لسان وبيان فقالوا: إن رفاعة وابن أخيه عمدوا إلى أهل بيت منا يتهمونهم بالسرقة، فوقع قولهم عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم موقعاً، فبين الله خيانتهم فنزل: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وهو ابن طعمة. وقال الضحاك: سرق طعمة بن أبيرق اليهودي درعاً للزبير بن العوام، فاختصما إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال للزبير: «لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ عَلَى ذلك بِحُجَّةٍ قَيِّمَةٍ وَشَهَادَةٍ صَحِيحَةٍ» . فأنزل الله تعالى تصديقاً لقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. وقال مقاتل: سرق طعمة بن أبيرق المنافق درعاً من يهودي، فلما جاءوا إلى بيته بالأثر، رمى الدرع في دار رجل من الأنصار وأنكر، فجاء قومه ليبرئوه من السرقة فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: سرق طعمة بن أبيرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان، فوضعه عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين، وأنكر السرقة فجاء قومه يخاصمون عنه، فنزلت هذه الآية وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً.
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ عن جدالك عن طعمة حين جادلت عنه إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ثم قال تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يقول: ولا تخاصم عن الذين يضرون أنفسهم بالسرقة إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
أي خائناً بالسرقة فاجراً برميه على غيره. ثم قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
قال الضحاك: لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته، وجعل الدرع تحت التراب فنزل يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
بالتراب وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
يقول: لا يخفى مكان الدرع على الله وَهُوَ مَعَهُمْ
أي رقيب حفيظ عليهم. ويقال:
يستخفون يعني يستترون من الناس وهم قوم طعمة، ولا يستخفون من الله يقال: ولا يقدرون أن يستتروا من الله وَهُوَ مَعَهُمْ
يعني عالماً بهم وبخيانتهم إِذْ يُبَيِّتُونَ
يقول: إذ يؤلفون ويغيرون مَا لاَ يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
يقول: ما لا يرضو لأنفسهم من القول وهم سرقوا، ويقال:
ما لا يرضى الله ولا يحبه. ثم قال: وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
أي عالماً بهم وبخيانتهم، ثم أقبل على قوم طعمة فقال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
يقول: ها أنتم هؤلاء جادَلْتُمْ
أي خاصمتم عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
يقول: فمن يخاصم الله عنهم يوم القيامة أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
أي كفيلاً، ويقال خصيماً.
وقال الضحاك: أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يقيم الحد على طعمة بن أبيرق، وكان طعمة مطاعاً في اليهود، فجاءت اليهود شاكين في السلاح، وهربوا بطعمة وجادلوا عنه، فنزل ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
يعني اليهود الآية.(1/336)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
ثم قال:
[سورة النساء (4) : الآيات 110 الى 113]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
قال الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشيّ قاتل حمزة رضي الله عنه، أشرك بالله وقتل، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لنادم فهل لي من توبة؟ فنزل وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
الآية. وقال الكلبي: نزلت في شأن طعمة وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
بسرقة الدرع أو يظلم نفسه برميه غيره وجحوده، ثم يستغفر الله أي يتوب إلى الله يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
متجاوزاً رَحِيماً
لمن اتقى الشرك. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته. وحدثني أبو بكر الصديق، وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال: ما من عبد يذنب ذنباً ثم يتوضأ ويصلي ركعتين، ويستغفر الله تعالى إلا غفر الله له. وتلا هذه الآية وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية.
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
يعني الشرك بالله تعالى فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
أي يضر بنفسه وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
ثم قال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
يعني عمل بالمعصية ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
قال مقاتل: وهو طعمة حين رمى بالدرع في دار الأنصاري واتهمه به، وهو قوله ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
. وقال الضحاك: يعني به المنافقين حيث قالوا في عائشة رضي الله عنها قولاً عظيماً، فقال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
بالمعاصي ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
يعني عائشة وصفوان. ثم قال تعالى: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
يقول: فقد قال كذباً وَإِثْماً مُبِيناً
ذنباً طاهراً. قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
يعني فضل الله عليك بالنبوة، ورحمته بالوحي لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
أي جماعة أَنْ يُضِلُّوكَ
أي يخطئون في الحكم وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أي وما يرجع وبال ذلك إلا على أنفسهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ(1/337)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
شَيْءٍ
وإنما يضرون بأنفسهم. قال الضحاك: نزلت الآية في وفد ثقيف، قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: جئناك لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا، فلم يجبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
وقال الكلبي: يعني قوم طعمة. ثم قال:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
يعني القرآن وَالْحِكْمَةَ
يعني يعني القضاء والمواعظ وَعَلَّمَكَ
بالوحي مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
قبل الوحي وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
بالنبوة. ثم قال:
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]
لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ وهو ما يتناجون فيما بينهم، ويقال: في كثير من أحاديثهم، وهم وفد ثقيف أو قوم طعمة إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ يقول: إلا نجوى من أمر بصدقة أَوْ مَعْرُوفٍ يعني لقرض، كقوله فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] ويقال: المعروف يعني القول بالمعروف والنهي عن المنكر أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ يعني: يذهب فيما بين اثنين ليصلح بينهما وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الذي ذكرنا ابْتِغاءَ يعني طلباً مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ يعني في الآخرة أَجْراً عَظِيماً قرأ حمزة وأبو عمرو نُؤْتِيهِ بالياء، أي يؤتيه الله تعالى. وقرأ الباقون نُؤْتِيهِ بالنون، أي نحن نعطيه في الآخرة أجرا عظيما أي ثواباً عظيماً.
قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ يعني يخالفه في التوحيد مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي من بعد ما تبين لهم التوحيد وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي يتبع ديناً غير دين المؤمنين، ويقال: يتبع طريقاً أو مذهباً غير طريق المؤمنين. وفي الآية دليل إن الإجماع حجة، لأن من خالف الإجماع فقد خالف سبيل المؤمنين. وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا، ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين، فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي دين الإسلام وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ المسلمين نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى نكله إلى الأصنام يوم القيامة، وهم لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ولا ينجونهم من عذاب الله تعالى.
وقال مقاتل: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى أي نتركه وما اختار لنفسه. وقال الكلبي: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى يعني نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا، وهذا كما قال بعض الحكماء: من أراد أن يعلم كيف يعامل معه في الآخرة، فلينظر كيف يعامل هو في الدنيا. وقال الكلبي: نزلت الآية في شأن طعمة، لما ظهر حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد، فنقب بمكة حائطاً لرجل، فسقط حجر فبقي في(1/338)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
النقب حتى وجدوه على حاله، فأخرجوه من مكة فخرج إلى الشام، فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه، فنزل قوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى. وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو نُوَلّهِ وَنُصْلِهِ بجزم الهاء، وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان.
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 121]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قال الضحاك: وذلك أن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه ولياً، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله، ولا مكابرة له، وإني لنادم وتائب مستغفر، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ويقال: نزل في شأن وحشيّ، وقد ذكرناه من قبل. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي من يعبد غير الله فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يعني فقد ضل عن الهدى ضلالا بعيدا عن الحق. ثم قال تعالى في ذم الكفار وبيّن جهلهم فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً يقول: ما يعبدون مِن دُونِ الله إلا أصناماً أمواتاً، وهذا قول ابن العباس. وعن الحسن أنه قال: الإناث الشيء الميت الذي ليس فيه روح. وقال السدي: سموها إناثاً: اللات والعزى ومناة. ثم قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وذلك أن الشيطان كان يدخل في الصنم ويكلمهم، وهم يعبدون الصنم وفيه الشيطان. ويقال: إبليس زين لهم عبادة الأصنام، وإذا عبدوا بإذنه فكأنهم عبدوا الشيطان. ثم قال: مريداً أي مارداً مثل قدير وقادر، والمارد العاتي. ويقال: كل فاسد مفسد يكون مريداً، أي يكون فاسداً لنفسه ويفسد غيره.(1/339)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
ثم قال تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ يعني طرده الله من رحمته وهو إبليس، حيث لم يسجد لآدم فلما لعنه وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي حظاً معلوماً، قال مقاتل: يعني من كل ألف واحد في الجنة وسائرهم في النار، فهذا نصيب مفروض. ثم قال: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ يعني عن الهدى والحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ يعني لأخبرنهم بالباطل أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وهي البحيرة، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشقون آذان الأنعام ويسمونها بحيرة، وذكر قصتهم في سورة المائدة. ثم قال: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قال عكرمة:
هو الخصاء، وهكذا روي عن ابن عباس وأنس بن مالك. وروي عن سعيد بن جبير قال: هو دين الله، وهكذا قال الضحاك ومجاهد. وقيل لمجاهد: إن عكرمة يقول: هو الخصاء فقال:
ما له لعنه الله وهو يعلم أنه غير الخصاء. فبلغ ذلك عكرمة، فقال: هو فطرة الله. وقال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم، وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا خلق الله عز وجل. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا أي يعبد الشيطان ويطيعه مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني ترك أمر الله تعالى وطاعته فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي ضلّ ضلالاً مبيناً بيناً عن الحق. ثم قال تعالى: يَعِدُهُمْ يعني الشيطان، يخوفهم بالفقر حتى لا يصلوا رحماً ولا ينفقوا في خير وَيُمَنِّيهِمْ أي يخبرهم بالباطل أنه لا ثواب لهم في ذلك العمل وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي باطلاً. قوله تعالى: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعني الذين يطيعون الشيطان مصيرهم إلى جهنم وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي مفرّاً ومهربا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 122 الى 124]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي صدقوا بالله تعالى والرسول والقرآن، وأدوا الفرائض، وانتهوا عن المحارم سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ وهي البساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهي أربعة أنهار: نهر من ماء غير آسن، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل مصفى. خالِدِينَ فِيها أَبَداً يعني مطمئنين فيها، لا يتغير بهم الحال. فهذا وعد من الله(1/340)
تعالى. ثم قال: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي صدقاً وكائناً، أنجز لهم ما وعد لهم من الجنة وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي قولاً ووعداً، قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ وذلك أن أهل الكتاب قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. وقال المؤمنون: إنا أسلمنا لا تضرنا الذنوب فنزل: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ يقول: ليس لكم يا معشر المسلمين ما تمنيتم، ولا أهل الكتاب ما تمنوا مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أي من يعمل معصية دون الشرك يعاقب به. وقال الزجاج: معناه ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب، وقد جرى ما يدل على إضمار الثواب وهو قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي إنما يدخل الجنة من آمن وعمل صالحاً، ليس كما تمنيتم ومَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أي لا ينفعه تمنيه.
ويقال: لما نزلت هذه الآية مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين. وقال أبو بكر رضي الله عنه: كيف الفلاح بعد هذه الآية يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟
أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللأواءُ؟ أي الشدة فذَلِكَ كُلُّهُ جَزَاؤُهُ» . حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا العباسي، قال: حدّثنا الحسن بن صباح، قال: حدّثنا عبد الوهاب الخفاف، عن زياد، عن علي بن زيد، عن مجاهد قال: مرّ ابن عمر على ابن الزبير وهو مصلوب، فنظر إليه فقال:
يغفر الله لك ثلاثاً، والله ما علمتك إلا كنت صواماً قواماً وصّالاً للرحم، أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها أبداً، ثم التفت فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا» وروى محمد بن قيس، عن أبي هريرة قال: لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَكُلُّ مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةُ تُشَاكُهُ والنَّكْبَةُ تَنْكُبُهُ» . وقال الضحاك: السوء الكفر. وقال مجاهد: قالت قريش: لن نبعث ولن نعذب، فنزلت: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ أي أماني كفار قريش ولا أمانى أهل الكتاب مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أي يعاقب عليه.
ثم قال تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يعني الكافر لا يجد لنفسه مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من عذاب الله ولياً يمنعه وَلا نَصِيراً ينفعه ويمنعه من العذاب. ثم قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ يعني يؤدي الفرائض وينتهي عن المحارم مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أي من رجل أو امرأة وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي مصدق بالثواب والعقاب فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لا شك فيها وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم نَقِيراً وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة. قرأ أبو عمرو وابن كثير فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بضم الياء ونصب الخاء، على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الخاء، أي يدخلون الجنة بأعمالهم.(1/341)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
ثم فضل دين الإسلام على سائر الأديان فقال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 125 الى 127]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي أخلص دينه لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله ويقال: وهو موحد وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مستقيما، ويقال: مائلاً إلى دين الإسلام.
ثم قال تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان يوسع على الضعفاء الطعام، واحتاج في بعض الأوقات إلى الطعام، فبعث غلمانه مع الجمال إلى خليل له بمصر ليقرضه شيئاً من الطعام فيرد عليه إذا أدرك إنزاله، فلما انتهوا إليه قال: إِنّى أَخَافُ أَن أحتاج قبل إدراك الإنزال، فلم يدفع إليهم ورجعوا، فاستحيا الغلامان أن يدخلوا في قرية إبراهيم والناس ينظرون إليهم وليس معهم شيء، فجعلوا الرحل في الجواليق وحملوا على الجمال، وجاءوا إلى منزل إبراهيم عليه السلام وألقوا الأحمال وتفرقوا، وجاء واحد منهم وأخبر إبراهيم بالقصة فاغتمّ لذلك ودخل البيت ونام، فخرجت جواريه ونظرن إلى الأحمال فإذا الجواليق دقيق، فرفعن منها وجعلن يخبزن خبزاً، حتى إذا استيقظ إبراهيم عليه السلام وخرج وقال: من أين هذا الدقيق؟ فقلن: من عند خليلك المصري. فقال إبراهيم:
ليس هذا من عند خليلي المصري ولكن من عند خليل السماء. فاتخذه الله تعالى خليلاً بذلك.
ويقال: لما دخلت عليه الملائكة في شبه الآدميين، وجاءهم بعجل سمين فلم يأكلوا منه، وقالوا: إنا لا نأكل شيئاً بغير ثمن. فقال لهم: أعطوني ثمنه وكلوه. قالوا: وما ثمنه؟
قال: أن تقولوا في أوله بسم الله وفي آخره الحمد لله. فقالوا فيما بينهم: حقاً على الله أن يتخذه خليلاً فاتخذه الله خليلاً.
ويقال: إنه أضاف رؤساء الكفار، وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن تسجدوا لله سجدة، فسجدوا. فدعا الله تعالى وقال: اللهم إني قد فعلت ما أمكنني، فافعل أنت ما أنت أهل لذلك. فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلاً لذلك.(1/342)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتَّخَذَ الله إِبْراهِيمَ خَلِيلاً لإطْعَامِهِ الطَّعَامَ وَإِفْشَائِهِ السَّلاَمَ وَصَلاَتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» . ثم قال عز وجل: وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كلهم عبيده وفي ملكه وحكمه نافذ فيهم وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أحاط علمه بكل شيء.
قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يسألونك عن ميراث النساء، نزلت في أم كجة التي ذكرنا في أول السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم ما لهن من الميراث وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي وكتاب الله يفتيكم بذلك فِي يَتامَى النِّساءِ يعني في ميراث يتامى النساء اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ لا تعطونهن مَا كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهن من الميراث وَتَرْغَبُونَ أي وتزهدون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لدمامتهن. وروى معمر عن إبراهيم قال: كان الرجل يكون عنده اليتيمة الدميمة ولها مال، ويكره أن يزوجها من غيره من أجل مالها. قال إبراهيم: وكان عمر يأمر الرجل إذا كانت عنده اليتيمة الدميمة ولها مال، أن يتزوجها. وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت يتيمة في حجر رجل، فأراد أن يتزوجها ولم يكمل صداق نصابها، فأمروا بإكمال الصداق. وقال مجاهد: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئاً، ويقولون: لا يغزون، ففرض الله لهم الميراث وأمر لليتيم بالقسط. ثم قال تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ يقول: يسألونك عن ميراث المستضعفين مِنَ الْوِلْدانِ ويقال:
يفتيكم في المستضعفين من الولدان وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً يجازيكم. وفي هذه الآية دليل على أن ما سوى الأب والجد إذا زوج اليتيمة جاز، وفيه أنه إذا زوج من نفسه جاز إذا كانت غير ذي رحم محرم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 128 الى 130]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ أي علمت مِنْ بَعْلِها يعني زوجها نُشُوزاً يعني عصياناً في الأثرة أَوْ إِعْراضاً عنها وترك محادثتها، نزلت في رافع بن خديج تزوج امرأة أشبّ من(1/343)
امرأته خولة بنت محمد بن مسلمة. وقال في رواية الكلبي: نزلت في ابنة محمد بن مسلمة، وفي زوجها أسعد بن الزبير تزوجها وهي شابة، فلما أدبرت وعلاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة وآثرها عليها، وجفا بنت محمد بن مسلمة، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً يعني ترك مجامعتها أَوْ إِعْراضاً يعني يعرض بوجهه ويقل مجالستها ومحادثتها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي لا إثم على الزوج والمرأة أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما بضم الياء والتخفيف، وهو من الصلح. وقرأ الباقون أن يصالحا بالألف وتشديد الصاد، لأن أصله وتصالحا فأدغمت التاء في الصاد، وأقيم التشديد مكانه، ثم قال: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يعني الصلح خير من الفرقة. ويقال: الصلح خير من النشوز، ويقال: الصلح خير من الخصومة والخلاف. وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً قال: قول الرجل لامرأته أنت كبيرة، وإني أريد أن أستبدل بك شابة، فقري على ولدك ولا أقسم لك من نفسي شيئاً ورضيت بذلك، فذلك الصلح بينهما. قال: وهذا قول أبي السنابل بن بعكك حين جرى بينهما هذا الصلح، ثم صارت الآية عامة في جواز الصلح الذي يجري فيما بين الناس، لقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ. ثم قال تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ يعني الشح حملها على أن تدع نصيبها، ويقال: شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى، وشحّ الرجل بنصيبه من الأخرى.
وقال مقاتل: طمعها وحرصها يجرها إلى أن ترضى. ثم قال تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا يقول تحسنوا إليهن وَتَتَّقُوا الميل والجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً في الإحسان والجور.
قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يقول: لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب بين الشابة والكبيرة وَلَوْ حَرَصْتُمْ أي ولو جهدتم، ولكن اعدلوا في القسمة والنفقة فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ بالنفقة والقسمة إلى الشابة فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بغير قسمة كالمسجونة لا أيم ولا ذات بعل. وروي عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» . وفي رواية أخرى «وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ» . وروى أبو أيوب عن أبي قلابة قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل في القسمة ويقول: «اللَّهُمَ هذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ» . يعني الحب والجماع.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا يعني تصلحوا بينهما بالسوية وَتَتَّقُوا الجور والميل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً حيث رخص لكم في الصلح. ثم قال عز وجل: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يعني الزوج والمرأة يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ يعني من رزقه. وقال مجاهد: يعني الطلاق.
وروي عن جعفر بن محمد أن رجلاً شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج ثم(1/344)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
جاء إليه فشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق، فسئل عن ذلك فقال: أمرته بالنكاح. وقلت: لعله من أهل هذه الآية إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 32] فلما لم يكن من أهل هذه الآية. قلت: فلعله من أهل هذه الآية (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كلاًّ من سعته) وروي عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ فَتَذَرُوهَا كَأَنَّهَا مسجونة ثم قال: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً يعني واسع الفضل حَكِيماً حكم بفرقتهما وتسويتهما.
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا أي أمرنا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني أهل التوراة والإنجيل وَإِيَّاكُمْ يعني أمرناكم يا أمة محمد عليه السلام في كتابكم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أوصاكم به في كتابكم من التوحيد، ثم بعد التوحيد بالشرائع وَإِنْ تَكْفُرُوا يقول: تجحدوا بما أوصاكم وبوحدانية الله تعالى فَإِنَّ لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
يعني هو غني عن عبادتكم وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن إيمان الخلق وطاعتهم حَمِيداً محموداً في أفعاله. وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني كلهم عبيده وإماؤه، ويقال: هذا موصولاً بالأول، وكان الله غنياً حميداً في أفعاله، لأن له ما في السموات وَمَا فِي الارض، وَهُوَ رازقهم والمدبر في أمورهم. ثم قال: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي حفيظاً وربّاً، ثم ذكر التهديد لمن رجع عن عبادته فقال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أي يهلككم إذا عصيتموه وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي يخلق خلقاً جديداً غيركم من هو أطوع لله منكم، وهذا كما قال في آية أخرى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] .
ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أي يذهبكم ويأتِ بغيركم. ويقال: في الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية أو إمارة أو رئاسة، فلا يعدل في رعيته أو كان عالماً، فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس أن يذهبه ويأتي بغيره.(1/345)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا يعني من كان يطلب الدنيا بعمله الذي يعمل ولا يريد به وجه الله، فليعمل لآخرته كما قال: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعني الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة، وهو الجنة. ويقال: في الآية مضمر فكأنه يقول: من كان يريد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يريد ثواب الاخرة نؤته منها، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: كان المشركون مقرين بأن الله خالقهم، وأنه يعطيهم خير الدنيا، فأخبر الله تعالى أن خير الدنيا والآخرة إليه. وروي عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: أنتم لا تريدون الدنيا ولا الآخرة، لأن الدنيا والآخرة لله تعالى، فاعبدوه إما لأجل الدنيا وإما لأجل الآخرة. وروي في بعض الأخبار أن في جهنم وادياً تتعوذ منه جهنم، أعد للقراء المرائين. ثم قال: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يعني عالماً بنية كل واحد منهم. وروى سهل بن سعد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«نِيَّةُ المُؤمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَعَمَلُ المُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ» . وكان يعمل على نيته.
[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 137]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ أي كونوا قوامين بالعدل، وأقيموا الشهادة لله بالعدل، ومعناه قولوا الحق وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي وإذا كانت عندكم شهادة، فأدوا الشهادة ولو كانت الشهادة على أنفسكم أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ثم قال:
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً أي أدوا الشهادة لا تكتموها، سواء كان لغني أو لفقير، ولا تميلوا إلى الغني لأجل غناه، ولا تكتموا الشهادة على الفقير لأجل فقره. ويقال: اشهدوا على الوالدين كانا غنيين أو فقيرين فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي بالغني وبالفقير. ويقال: أولى بالوالدين وأرحم بهما إن كانا غنيين أو فقيرين. ثم قال: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أي لا تشهدوا بهواكم، ولكن اشهدوا على ما شهدتم عليه.
ثم قال تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا يعني أولى بهما أن تعدلوا على وجه التقديم والتأخير.(1/346)
ويقال: فلا تتبعوا الهوى أن لا تعدلوا. وقال مقاتل: يعني فلا تتبعوا الهوى للقرابة، واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق إلى الهوى.
وقال تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أي تحرفوا الشهادة وتلجلجوا بها ألسنتكم، فلا تقيموها على الوجه لتبطل به الشهادة أَوْ تُعْرِضُوا عنها فلا تشهدوا بها عند الحاكم. قرأ حمزة وابن عامر:
وَأَنْ تلوا بواو واحدة يعني من الولاية، يعني أقيموا الشهادة إذا وليتم. وقرأ الباقون:
تَلْوُوا بواوين من التحريف فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من كتمان الشهادة وإقامتها خَبِيراً يعني عالماً. فهذا تهديد للشاهد لكيلا لا يقصروا في أداء الشهادة ولا يكتموها. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم «مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُقِمْ شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخِرِ فَلا يَجْحَد لِحَقَ هُوَ عَلَيْهِ بَلْ يُؤَدِّهِ، وَلاَ يُلْجِئْهُ إِلَى السُّلْطَانِ والخصومة» .
قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال الضحاك: يعني أخبار أهل الكتابين الذين آمنوا بموسى وعيسى، آمنوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال في رواية الكلبي:
نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد وأسد ابني كعب، وثعلبة بن قيس وغيرهم، قالوا: يا رسول الله نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وبعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل. فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «بَلْ آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم وَكِتَابِهِ القُرْآنِ، وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ مِنْ قَبْلُ» .
فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ويقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خاطب به جميع المؤمنين، آمنوا بالله يعني اثبتوا على الإيمان. وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني يوم الميثاق آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ويقال: نزلت في شأن أهل الكتاب لأنه علم أن فيهم من يؤمن، فلقربهم من الإيمان سماهم مؤمنين كما قال: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدخان: 24] وكانوا لم يغرقوا بعد. ويقال: إنهم كانوا يقولون نحن مؤمنون فقال لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي بزعمهم كما قال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] أي بزعمه. قرأ نافع وعاصم عن حمزة والكسائي وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ بنصب النون والزاي وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ
بنصب الألف. وقرأ الباقون (نزل) بضم النون وكسر الزاي، ونزل وأنزل بضم الألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله.
ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي من يجحد بوحدانية الله تعالى وملائكته أنهم عبيده، وبرسله أنهم أنبياؤه وعبيده، وبالبعث بعد الموت فَقَدْ ضَلَّ عن الهدى ضَلالًا بَعِيداً عن الحق. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا قال مقاتل: يعني آمنوا بالتوراة وبموسى عليه السلام، ثم كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى عليه السلام والإنجيل، ثم كفروا من بعده ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن. ويقال: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى، ثم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم مِن قَبْلُ أن(1/347)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
يبعث، ثم كفروا به بعد ما بعث، ثم ازدادوا كفراً يعني ثبتوا على كفرهم. وقال في رواية الكلبي: آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا به بعده، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلم. وقال في رواية الضحاك: نزلت في شأن أبي عامر الراهب، وهو الذي بنى مسجد الضرار، آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم ثم كفر، ثم آمن ثم كفر ومات على كفره. وقال الزجاج: يجوز أن يكون محارباً آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر، ويجوز أن يكون منافقاً أظهر الإيمان وأبطن الكفر، ثم آمن ثم كفر، ثم ازداد كفراً بإقامته على النفاق. فإن قيل: إن الله تعالى لا يغفر كفراً مرة واحدة فأيش الفائدة في قوله آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا؟ قيل له: لأن الكافر إذا أسلم فقد غفر له ما قد سلف من ذنبه، فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر الله له الكفر الأول، فهو مطالب بجميع ما فعل في كفره الأول، فذلك قوله عز وجل: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يعني إذا ماتوا على كفرهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي يوفقهم طريقاً.
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 140]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ وذلك أنه لما نزل قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] فقال المؤمنون هذا لك فما لنا؟ فنزل قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] فقال المنافقون: فما لنا؟ فنزل قوله تعالى بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً في الآخرة. ثم نعت المنافقين فقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ يعني اليهود أَوْلِياءَ في العون والنصرة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ثم عيّرهم بذلك فقال أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ يعني يطلبون عندهم المنعة والظفر على محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، العزة في اللغة المنفعة والغلبة كما يقال: من عزَّ بزَّ، أي من غلب سلب. ويقال: عز الشيء إذا اشتد وجوده، ثم ذكر أنه لا نصرة لهم من الكفار، والنصرة من الله تعالى، فقال: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعني الظفر والنصر كله من الله تعالى، وهذا كما قال في آية أخرى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] .(1/348)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
ثم قال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ وذلك أن المشركين بمكة كانوا يستهزئون بالقرآن، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم، وهو قوله وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ- إلى قوله- فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] فامتنع المسلمون عن القعود معهم، فلما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن، فنزلت هذه الآية وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها أي يجحد بها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي حتى يأخذوا في كلام أحسن. ثم قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني: لو جلستم معهم كنتم معهم في الوزر، وفي هذه الآية دليل أن من جلس في مجلس المعصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر بأن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وروى جويبر عن الضحاك أنه قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة. قرأ عاصم وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ بنصب النون والزاي، وقرأ الباقون بضم النون وكسر الزاي على فعل ما لم يسم فاعله.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً يعني إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم، فبدأ بالمنافقين لأنهم شر من الكفار، وجعل مأواهم جميعاً النار. وقال في رواية الكلبي: قوله تعالى فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ نسخ بقوله عز وجل وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 69] وقال عامة المفسرين: إنها محكمة وليست بمنسوخة.
ثم أخبر عن المنافقين، فقال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 141 الى 144]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)(1/349)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ يعني ينتظرون بكم الدوائر، وهو تغيير الحال عليكم فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ يعني النصرة والغلبة على العدو قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فأعطونا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ يعني الظفر والغلبة على المؤمنين قالُوا للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ يعني: ألم نخبركم بصورة المسلمين ونطلعكم على سرهم، ونخبركم عن حالهم.
ويقال: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ يعني: ألم نغلب عليكم بالمودة لكم. والاستحواذ هو الاستيلاء على الشيء، كقوله تعالى اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: 19] ثم قال: وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني نجادل المؤمنين عنكم ونجنبهم عنكم. قال الله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بين المؤمنين والمنافقين والكافرين وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي الحجة، ويقال: دولة دائمة أي لا تدوم دولتهم. وروي عن علي كرم الله وجهه، أنه سئل عن قوله عز وجل إن الله تعالى يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وهم يسلطون علينا ويغلبوننا، فقال: لا يسلط الكافر على المؤمن في الآخرة يوم القيامة.
ثم بين حال المنافقين في الدنيا وخداعهم، فقال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
أي يظنون أنهم يخادعون الله وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي يجازيهم جزاء خداعهم، وهو أنهم يمشون مع المؤمنين على الصراط يوم القيامة، ثم يسلبهم النور فيبكون في ظلمة. ثم قال تعالى:
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ
يعني المنافقين قامُوا كُسالى
أي متثاقلين يُراؤُنَ النَّاسَ
أي لا يرونها حقاً، ويصلون مراءاة للناس وسمعة وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
قال ابن عباس: لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيراً وتقبل منهم، ولكن لن يريدوا به وجه الله تعالى. ثم قال:
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مترددين. ويقال: منفضحين بين ذلك لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ يعني ليسوا مع المؤمنين في التصديق، ولا مع اليهود في الظاهر وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي من يخذله الله عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي مخرجا. ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا. قال مقاتل: الذين آمنوا بزعمهم وهم المنافقون لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ويقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر وأسروا النفاق. ويقال: يعني المؤمنين المخلصين، كانت بينهم وبين اليهود صداقة، وكانوا يأتونهم فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
فقال: لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. ثم قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً يعني حجة مبينة في الآخرة.
ثم بين مأوى المنافقين في الآخرة فقال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 145 الى 147]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)(1/350)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ المنافق في اللغة اشتقاقه من نافقاء اليربوع، ويقال: لليربوع جحران أحدهما نافقاء، والآخر قاصعاء، فيظهر نفسه في أحدهما ويخرج من الآخر، ولهذا يسمى المنافق منافقاً لأنه يظهر من نفسه أنه مسلم، ويخرج عن الإسلام إلى الكفر. قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم الدرك بجزم الراء، وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان: الدرك والدرك، وجماعتهما أدراك وهي المنازل بعضها أسفل من بعض، فأعد للمنافقين الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية.
ثم قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً أي مانعاً يمنعهم من العذاب. ثم قال تعالى:
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِن النفاق وَأَصْلَحُوا أعمالهم وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي تمسكوا بدين الله وبتوحيده وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أي بتوحيدهم لله بالإخلاص، فإن فعلوا ذلك فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين على دينهم لهم، ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. ثم قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أي يعطي الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً يعني ثواباً عظيماً في الآخرة. وفي هذه الآية دليل أن المنافقين هم شر خلق الله، لأنه أوعدهم الدرك الأسفل من النار. ثم استثنى لهم أربعة أشياء التوبة والإخلاص والإصلاح والاعتصام. ثم قال بعد هذا كله: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل هم المؤمنون. ثم قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل: سوف يؤتيهم الله بغضاً لهم وإعراضاً عنهم، والمنافقون هم الزنادقة والقرامطة الذين هم بين المؤمنين، يظهرون من أنفسهم الإسلام وإذا اجتمعوا فيما بينهم يسخرون بالإسلام وأهله، فهم من أهل هذه الآية ومأواهم الهاوية. قوله تعالى: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أي ما يصنع الله بعذابكم إِنْ شَكَرْتُمْ يعني إن آمنتم بالله تعالى ووحدتموه، ويقال: معناه ما حاجة الله إلى تعذيبكم لو كنتم موحدين شاكرين له وَآمَنْتُمْ به وصدقتم رسله. ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً أي شاكراً للقليل من أعمالكم، عليماً بأعمالكم وثوابكم. ويقال: شاكراً يقبل اليسير ويعطي الجزيل، عليماً بما في صدوركم. ويقال: بمن شكر وآمن فلا يعذب شاكراً ولا مؤمنا.
قوله تعالى:(1/351)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 152]
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب أن يذكر بالقول القبيح لأحد من الناس إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيقتص من القول بمثل ما ظلم، فلا جناح عليه. نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، شتمه رجل فسكت أبو بكر مراراً، ثم ردّ عليه، ويقال: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيدعو الله تعالى على ظالمه. وقال الفراء: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ يعني ولا من ظلم. وقال السدي: يقول من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح. وقال الضحاك: لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ أي لا يحب لكم أن تنزلوا برجل، فإذا ارتحلتم عنه تذمون طعامه إلا رجلاً أردتم النزول عليه عند حاجتكم فمنعكم. وقال مجاهد: هو في الضيافة إذا دخل الرجل المسافر إلى القوم، يريد أن ينزل عليهم فلم يضيفوه، فقد رخص له أن يذكر كلاماً عنهم ويقول فيهم. ويقال: يعني يسبه مثل ما سبه ما لم يكن كلاماً فيه حد أو كلمة لا تصلح، ولو لم يقل كان أفضل. وقرأ بعضهم: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ متصل بما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم، يعني من إشراك بالله، وهو شاذ من القراءة ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً أي سميعاً بدعاء المظلوم، عليماً بعقوبة الظالم.
ثم أخبر عن التجاوز أنه خير من الانتصار، فقال تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً يعني إن تظهروا حسنة أَوْ تُخْفُوهُ يعني الحسنة أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ يعني يتجاوز عن ظالمه ولا يجهر بالسوء عنه، فهو أفضل لأن الله تعالى قادر على عباده فيعفو عنهم، وذلك قوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً يعني أن الله أقدر على العقوبة لكم، فيعفو عنكم. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قال ابن عباس: نزلت الآية في أهل الكتاب، يؤمنون بموسى وعيسى ويكفرون بغيرهما، وهو قوله: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني يريدون أن يتخذوا ديناً لم يأمر به الله ورسوله وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ بموسى وعزير والتوراة وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبعيسى والإنجيل والقرآن وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا يعني بين(1/352)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
اليهودية والإسلام. قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا حين كفروا ببعض الرسل وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يهانون فيه. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني أقروا بوحدانية الله تعالى وصدقوا بجميع الرسل وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان والتصديق، يعني لم يكفروا ولم يجحدوا بأحد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، ويصدقون بجميع الكتب أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ أي سنعطيهم ثوابهم في الجنة وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لذنوبهم رَحِيماً بهم لما كان منهم في الشرك. قرأ عاصم في رواية حفص: يُؤْتِيهِمْ بالياء وقرأ الباقون نؤتيهم بالنون.
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 158]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)
قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ يعني جملة واحدة كما جاء به موسى عليه السلام. ويقال: إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وأصحابهما قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تنزل علينا كتاباً تحمله الملائكة إلينا فتقرؤه. قال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يعني إن هؤلاء من أصل أولئك القوم الذين فَقالُوا لموسى عليه السلام أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً يعني عياناً، وهم القوم الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي أحرقتهم النار بِظُلْمِهِمْ أي بقولهم وسؤالهم ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي ومع ذلك، قد عبدوا العجل وهم قوم موسى في حال غيبته مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي جاءهم موسى بالآيات والعلامات فَعَفَوْنا عَنْ(1/353)
ذلِكَ
كله ولم نستأصلهم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة بينة، وهي اليد والعصا وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ يقول: قلعنا فوقهم الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ يعني بإقرارهم بما في التوراة حين أبوا أن يتقبلوا الشرائع وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً يعني باب أريحة منحنية أصلابهم وَقُلْنا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ يقول: لا تستحلوا أخذ السمك في يوم السبت. قرأ نافع في رواية ورش لاَ تَعْدُوا بالتشديد، لأن أصله لا تعتدوا، فأدغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه.
وقرأ الباقون لاَ تَعْدُوا بالتخفيف من عدا يعدو عدواناً.
ثم قال تعالى: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً يعني إقراراً وثيقاً شديداً في التوراة، يعني تركوا هذه الأشياء كلها ونقضوا الميثاق. ثم قال عز وجل: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ولم يذكر في هذه الآية جوابهم، والجواب فيه مضمر فكأنه قال: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غليظاً، فبنقضهم الميثاق لعنهم الله تعالى وخذلهم كقوله فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء: 155] ثم قال: وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ يعني بكفرهم بآيات الله لعنهم الله وخذلهم. ثم قال تعالى: وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعني: وبقتلهم الأنبياء بغير جرم وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ يعني: ذا غلاف ولا نفقه حديثك، وقرأ بعضهم: غلف بضم اللام وجماعة الغلاف يعني أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك. قال الله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها يعني ختم الله على قلوبهم بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يؤمنون إلا قليل منهم ويقال لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال مقاتل: يعني ما أقل ما يؤمنون، يقول: بأنهم لا يؤمنون البتة.
ثم قال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً وذلك أن مريم كانت متعبدة لله تعالى ناسكة، اصطفاها الله تعالى بولد بغير أب، فعيرها اليهود واتهموها وقذفوها بيوسف بن ماثان، وكان يوسف خادم بيت المقدس ويقال: كان ابن عمها، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم وبيّن بهتانهم فقال: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً يعني لعنهم الله وخذلهم بذلك وَقَوْلِهِمْ أي وبقولهم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ هذا قول الله لا قول اليهود وقول اليهود إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مَرْيَمَ. ثم قال الله تعالى رَسُولَ اللَّهِ يعني الذي هو رسول الله وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتله هرب منهم ودخل في بيت، فأمر ملك اليهود رجلاً يدخل البيت يقال له يهوذا ويقال ططيانوس، فجاء جبريل عليه السلام ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فلما دخل الرجل إلى البيت لم يجده، فألقى الله شبه عيسى عليه، فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه. ثم قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا فيما بينهم، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم فقال: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ يعني ألقي شبه عيسى على غيره فقتلوه. ثم قال وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من قتله مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني لم يكن عندهم علم يقين أنه قتل أو لم يقتل إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ أي قالوا قولاً بالظن وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي لم(1/354)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
يستيقنوا بقتله، ويقال: يقيناً ما قتلوه بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وقال مقاتل: بل رفعه الله إلى السماء في شهر رمضان ليلة القدر. وقال الضحاك: رفعه في يوم عاشوراء بين صلاتي المغرب والعشاء. ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي منيعاً حين منع عيسى من القتل حَكِيماً حين حكم رفعه إلى السماء.
وقوله عز وجل:
[سورة النساء (4) : الآيات 159 الى 161]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يقول: وما من أهل الكتاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ يعني بعيسى عليه السلام قَبْلَ مَوْتِهِ وذلك أن اليهودي إذا حضرته الوفاة وعاين أمر الآخرة ضربته الملائكة، وقالت له: يا عدو الله أتاك عزير فكذبته، ويقال للنصراني: يا عدو الله أتاك عبد الله ورسوله، وهو عيسى، فزعمت أنه ابن الله، فيؤمن عند ذلك ويقر أنه عبد الله ورسوله، ولا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت، ويكون إيمانهم عليهم شهيداً يوم القيامة. وروي عن مجاهد أنه قال: ما من أحد من أهل الكتاب إِلاَّ ويؤمن بعيسى عليه السلام قبل موته، فقيل له: وإن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى عليه السلام؟ فقال: نعم. وروي أن الحجاج بن يوسف سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى، فآمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان، فقال له شهر بن حوشب: إنه حين يعاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه. فقال له الحجاج: من أين أخذت هذا؟ قال: أخذته من محمد بن الحنفية. فقال له الحجاج: لقد أخذت من عين صافية.
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: قَبْلَ مَوْتِهِ يعني قبل موت عيسى عليه السلام هكذا قال الحسن.
قال الفقيه: حدثنا عمر بن محمد، قال: حدّثنا أبو بكر الواسطي، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن رجل، عن الحسن في قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى، والله إنه لحي عند الله الآن، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. وروي عن ابن عباس أنه قال: يمكث عيسى عليه السلام في(1/355)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
الأرض أربعين سنة نبياً إماماً مهدياً، ثم يموت وتصلي عليه هذه الأمة. وقال الضحاك: يهبط عيسى عليه السلام من السماء إلى الارض بعد خروج الدجال، فيكون هبوطه على صخرة بيت المقدس، ثم يقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويهدم البيع والكنائس، ولا يبقى على وجه الأرض يهودي ولا نصراني إلا آمن بالمسيح ودخل في الإسلام.
ثم قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يعني يكون عليهم عيسى عليه السلام شهيداً، بأنه قد بلغهم الرسالة. قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني بشركهم حرمنا عليهم أشياء كانت حلالاً لهم، وهو كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم أحلت لهم وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي بصرفهم كثيراً من الناس عن دين الله على وجه التقديم وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا أي حرم عليهم الحلال بكفرهم، ويصرف الناس عن دين الله، وبأخذهم الربا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أي يعني عن أخذ الربا في التوراة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وهو أخذ الرشوة في الحكم وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي هيأنا لهم عذاباً وجيعاً دائماً.
[سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
وقوله: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني المبالغون في العلم الذين أدركوا علم الحقيقة، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها، ولم تكن حرمت بظلمنا، فنزل لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يصدقون بما أنزل إليك أنه الحق، ويقال: إن مؤمني أهل الكتاب يعلمون أن الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ من القرآن هو الحق، وأنك نبي مبعوث وهو مكتوب عندهم. ثم قال: وَالْمُؤْمِنُونَ يعني أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ثم قال: وَالمؤمنون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني يصدقون بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ويصدقون بما أنزل من قبلك من كتب الله.
ثم وصفهم فقال: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال بعض الجهال: هذا غلط الكاتب حيث كتب مصحف الإمام، كان ينبغي أن يكتب والمقيمون فأوهم وكتب والمقيمين. واحتج بما روي عن عائشة أنها قالت: ثلاثة أحرف في المصحف غلط من الكاتب: قوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وقوله وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى وقوله إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، ولكن هذا بعيد عند أهل العلم والخبر، لم يثبت عن عثمان ولا عن عائشة رضي الله عنهما، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا حماة الدين والقدوة في الشرائع والأحكام، فلا يظن بهم أنهم تركوا في كتاب الله تصحيفاً(1/356)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
يصلحه غيرهم، وهم أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى في قوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال بعضهم: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، يعني بالنبيين المقيمين الصلاة. وقال بعضهم: لكن الراسخون فى العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك.
ثم قال تعالى: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني الذين يعطون الزكاة المفروضة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني المقرون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت. ثم قال: أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً أي يعطيهم الله في الآخرة ثواباً عظيماً وهو الجنة. قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء وقرأ الباقون بالنون.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 164]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني أرسلنا إليك جبريل كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ يعني كما أرسلنا إلى نوح، ويقال: أوحينا إليك بأن تثبت على التوحيد وتأمر الناس بالتوحيد، كما أوحينا إلى نوح بأن يثبت على التوحيد، ويدعو الناس إلى التوحيد وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي أوحينا إليهم بذلك وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وهما ابنا إبراهيم عليهم السلام وَيَعْقُوبَ وهو ابن إسحاق وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب عليه السلام، كانوا اثني عشر سبطاً، أوحينا إلى أنبيائهم بأن يثبتوا على التوحيد، ويدعوا الناس إلى ذلك وَأوحينا إلى عِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قرأ حمزة: زَبُوراً بضم الزاي. وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن، ومعناهما واحد، وهو عبارة عن الكتاب. ثم قال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني قد سميناهم لك من قبل، يعني بمكة وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ يعني لم نسمهم لك، وقد أرسلناك كما أرسلنا هؤلاء. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف. وقال مقاتل: كان الأنبياء ألف ألف، وأربعمائة ألف، وأربعة وعشرين ألفاً. وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بُعِثْتُ عَلَى أَثَرِ ثَمَانِيَةِ آلافٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ أَرَبَعَةُ آلافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» «1» . قال الفقيه أبو الليث: حدثنا
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 162 بلفظ: «بُعِثْتُ عَلَى أَثَرِ ثَمَانِيَةِ آلاف نبي منهم أربعة آلاف نبيّ من بني إسرائيل» .(1/357)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
الفقيه أبو جعفر، قال: حدثنا أحمد بن محمد القاضي، قال: حدثنا إبراهيم بن حشيش البصري، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا نبي الله كم كانت الأنبياء؟ وكم كان المرسلون فقال صلى الله عليه وسلم: «كَانَتِ الأنْبِياءُ مِائَةَ ألْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ، وَكَانَ المُرْسَلُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ» . ثم قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً قال بعضهم: معناه إنه قد أوحى إليه، وإنما سماه كلاماً على وجه المجاز كما قال في آية أخرى أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ [الروم: 35] أي يستدلون بذلك، والعرب تقول: قال الحائط كذا. وقال عامة المفسرين وأهل العلم: إن هذا كلام حقيقة لا كلام مجاز، لأنه قد أكده بالمصدر حيث قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً والمجاز لا يؤكد لأنه لا يقال: قال الحائط قولاً، فلما أكده بالمصدر نفى عنه المجاز، وقال في موضع آخر: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] وقد أكده بالتكرار ونفى عنه المجاز. وقال في موضع آخر وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى: 51] يعني الأنبياء الذين لم يكونوا مرسلين، فأراهم في المنام أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ بكلام مثل ما كلم الله موسى، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً وهو رسالة جبريل إلى المسلمين. ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 165 الى 169]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي أرسلنا رسلاً مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار لِئَلَّا يَكُونَ يقول: لكيلا يكون لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يعني: بعد إرسال الرسل، كي لا يقولوا يوم القيامة إنك لم ترسل إلينا رسولاً. ولو إن الله تعالى لم يرسل رسولاً كان ذلك عدلاً منه إذ أعطى كل واحد من خلقه من العقل ما يعرفه، ولكن أرسل تفضلاً منه، ولكي يكون زيادة في الحجة عليهم. ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. عَزِيزاً بالنقمة لمن يجحده حَكِيماً حكم إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام. قوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ قال ابن عباس: وذلك أن رؤساء مكة أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا سألنا(1/358)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
اليهود عن صفتك ونعتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم، فأتِنا بمن يشهد لك بأنك نبي مبعوث فنزل: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ يعني إن لم يشهد لك أحد منهم، فالله تعالى أعظم شهادة من خلقه، هو يشهد لك بأنك نبيّ ويظهر نبوتك. قال القتبي: هذا من الاختصار لأنه لما نزل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [سورة النساء: 163] قال المشركون: لا نشهد لك بهذا فمن يشهد لك؟ فنزلت هذه الآية حكاية قولهم. فقال تعالى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لأن كلمة لكن إنما تجيء بعد نفي شيء، فوجب ذلك الشيء بها.
ثم قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي بأمره. ويقال: أنزل القرآن الذي فيه علمه. ثم قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضاً على شهادتك بالذي شهدت أنه الحق وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فلا أحد أفضل من الله تعالى، شهادة بأنه أنزل عليك القرآن. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني صرفوا الناس عن دين الله قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً عن الحق. ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا أي جحدوا وأشركوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أي ما داموا على كفرهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً يعني: لا يوفقهم لطريق الإسلام إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ يعني: يتركهم ويخذلهم في طريق الكفر عقوبة لكفرهم ولجحودهم وهو طريق جهنم. ويقال:
إلا العمل الذي يجبرهم إلى جهنم. وقال الضحاك: لا يهديهم طريقاً يوم القيامة، أي لا يرفع لهم إلا طريق جهنم. وذلك أن أهل الإيمان يرفع لهم في الموقف طريق تأخذ بهم إلى الجنة، ويرفع لأهل الكفر طريق ينتهي بهم إلى النار. ثم قال تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي دائمين فيها وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي خلودهم وعذابهم في النار هيّن على الله تعالى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 171]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني أهل مكة قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ(1/359)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
أي بشهادة أن لا إله إلا الله، ويقال: ببيان الحق. ويقال: للحق، يعني للعرض والحجة وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمُ على وجه المجاز، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان فيهم، ولكن معناه أنه قد ظهر فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في آية أخرى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [سورة التوبة: 128] أي ظهر فيكم ثم قال: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي صدقوا بوحدانية الله تعالى، والقرآن الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم خيراً لكم من عبادة الأوثان، لأن عبادة الأوثان لا تغنيكم شيئاً. ثم قال تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا أي إن تجحدوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الله غنيٌّ عَنكُمْ فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلهم عبيده وإماؤه وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً في أمره.
ثم قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ قال الضحاك: أي لا تكذبوا في دينكم. وقال بعض أهل اللغة: الغلو مجاوزة القدر في الظلم. ويقال: الغلو أن تجاوز ما حدَّ لك. وقال القتبي: يعني لا تفرطوا في دينكم، فإن دين الله بين المقصر والغالي. وغلا في القول إذا تجاوز المقدار. وقال ابن عباس: وذلك أن اليعقوبية وهم صنف من النصارى قالوا:
عيسى هو الله. وقالت النسطورية: هو ابن الله. وقالت المرقوسية- ويقال لهم الملكانية-: هو ثالث ثلاثة، فنزل يا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. قال مقاتل: الغلو في الدين أن يقول على الله غير الحق. ويقال: لا تتعمقوا في دينكم. ثم قال تعالى: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني: لا تصنعوا بالله بما لا يليق بصفاته، فإن الله تعالى واحد لا شريك له ولا ولد له.
ثم قال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وهو قوله كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل: 40] ثم قال: وَرُوحٌ مِنْهُ قال ابن عباس في رواية الكلبي:
يعني أمر منه فأتاها جبريل، فنفخ في جيب درعها فدخلت تلك النفخة بطنها، ثم وصل إلى عيسى ابن مريم فتحرك في بطنها وأمه أمة الله تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني: صدّقوا بوحدانية الله تعالى وبما جاءكم به الرسل من الله تعالى وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني: لا تقولوا إن الله ثالث ثلاثة انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ يقول: توبوا إلى الله تعالى من مقالتكم، فالتوبة خيرٌ لكن من الإصرار على الكفر إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ثم نزّه نفسه عما قال الكفار فقال: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. ثم قال تعالى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
من الخلق وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يعني كفيلاً ويقال شاهداً ولا شاهد أفضل منه.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 172 الى 173]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)(1/360)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
يعني: لن يتعظم ولن يأنف ولن يتكبر.
ويقال: لن يحتشم أن يكون عبدا لله. ويقال: إن وفد نجران أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناظروه في أمر عيسى عليه السلام، فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: كان عبد الله ورسوله، فقالوا: لا تقل هكذا فإن عيسى يأنف عن هذا القول، فنزل تكذيباً لقولهم نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
يعني كان عيسى مقرّاً بالعبودية. ثم قال تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
يعني حملة العرش لن يأنفوا عن الإقرار بالعبودية. وقال مقاتل: الملائكة المقربون أقرب إليه، فلم يأنفوا عن عبادته فكيف يأنف عيسى عليه السلام وهو عبد من عباده؟
ثم قال تعالى: مَنْ يَسْتَنْكِفْ
أي يتعظم نْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
والاستكبار هو الاستنكاف، يقال: استنكف واستكبر يعني استكبر عن طاعته سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
يأمر بهم إلى النار. ثم قال عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي يوفر لهم ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي من رزقه في الجنة وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادة الله تعالى فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي وجيعاً دائماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني من عذاب الله وَلِيًّا يعينهم وَلا نَصِيراً مانعاً يمنعهم.
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 176]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)(1/361)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي بياناً من ربكم وحجة من ربكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً أي بياناً من العمى وبيان الحلال من الحرام، وهو القرآن. قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ أي صدقوا بوحدانية الله تعالى وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي تمسكوا بدينه فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يعني الجنة وَفَضْلٍ أي الثواب وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي يرشدهم إلى دينه، ويوفقهم لذلك. وفي الآية تقديم وتأخير فكأنه يقول: يهديهم في الدنيا صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ديناً لا عوج فيه، ويثيبهم على ذلك ويدخلهم في الآخرة في رحمة منه وفضل وهو الجنة والكرامة.
قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ يعني يسألونك في حكم الميراث قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ روي عن قتادة أنه قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد، وكذلك قال ابن عباس:
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أنى قد رأيت رأياً فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان: الكلالة ما عدا الوالد والولد. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ثلاث لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا كان أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، وأبواب الربا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال: «أَلَمْ تَرَ الآيةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» يعني هذا تفسير الكلالة. وهذه الآية نزلت في شأن جابر بن عبد الله، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي أختاً فما لي من ميراثها؟ فنزلت هذه الآية، فبيّن ميراث جابر أولاً ثم ميراث أخته، فصارت الآية عامة لجميع الناس. قال: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني إن مات رجل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ من المال وَهُوَ يَرِثُها يعني إذا ماتت الأخت والأخ حيّ ورثها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ وقد ذكرت الآية حكم الأخ والأخت إذا لم يكن لهما ولد، ولم يبين أنه لو كان لأحدهما ولد فمات أحدهما فما حكمه؟ ولكن بيّن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن للابنة النصف، وما بقي فللأخت وإن كانت الأخت هي التي ماتت وتركت ابنة وأخاً، فللابنة النصف وما بقي فللأخ. وفي هذا إجماع وفي الأول اختلاف قال ابن عباس: لا ترث الأخت مع الابنة شيئاً، وخالفه جميع الصحابة وقالوا كلهم: الأخوات مع البنات عصبة.
ثم قال تعالى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ يعني: إذا كان للميت أختان أو أكثر فلهما الثلثان إذا كانتا اثنتين، وإن كنَّ أكثر من ذلك فلهنَّ الثلثان أيضاً بالإجماع. ثم قال:
وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً يعني إخوة وأخوات فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني لكل أخٍ سهمان ولكل أخت سهم، هذا إذا كانت الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب خاصة، فأما إذا كانوا من قبل الأم فهم شركاء في الثلث، ليس لهم أكثر من ذلك كما ذكرنا في أول السورة، وهذا بالإجماع. ثم قال عز وجل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي يبين الله لكم قسمة المواريث لكي لا تضلوا ولا تخطئوا في قسمتها. وقد يحذف لا فيراد به إثباته كقوله(1/362)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [سورة لقمان: 10] يعني أن لا تميد بكم، وقد يذكر لا ويراد حذفه كقوله قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [سورة الأعراف: 12] يعني أن تسجد وكقوله لا أُقْسِمُ [سورة القيامة: 1] أقسم ثم قال تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من قسمة المواريث وغيره، أي اتبعوا مَا أَنزَلَ الله تعالى وبيّن لكم في كتابه، والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.(1/363)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
سورة المائدة
كلها مدنية وهي مائة وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قال الفقيه رضي الله عنه حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فقالت:
هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت: نعم. قالت: فإنها من آخر ما أنزل الله على نبيه، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وقال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة غير قوله وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ [سورة المائدة: 2] الآية. وقال بعضهم:
نسخ منها قوله أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [سورة: 106] قوله تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)(1/364)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهذا نداء المدح، والنداء في القرآن على سبع مراتب: نداء المدح، مثل قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا أَيُّهَا الرُّسُلُ. ونداء الذم، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا [سورة الجمعة: 6] . ونداء التنبيه، مثل قوله يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ. ونداء الإضافة، مثل قوله يا عِبادِيَ
ونداء النسبة، مثل قوله: يا بَنِي آدَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ. ونداء الاسم: مثل قوله يا إِبْراهِيمُ يا داوُدُ. ونداء التعبير، مثل قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ فهاهنا نداء المدح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو من جوامع الكلم، لأنه قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني صدقوا، ولم يقل بأي شيء صدقوا، معناه الذين صدقوا بوحدانية الله تعالى، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وصدقوا بجميع الرسل، وبالبعث، والحساب، والجنة، والنار. وقال عبد الله بن مسعود: كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن، فإذا سمعت الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك فإنه خير مأمور به أو شر منهي عنه، ويقال: جميع ما في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزل بالمدينة، وكل ما يقال في القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ نزل أكثره بمكة، وقد قيل نزل بالمدينة أيضاً. ويقال: كلّ ما في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ذكر في مقابله في الإنجيل يا أيها المساكين.
ثم قال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني أتموا الفرائض التي ذكر الله تعالى في القرآن، وعقد على عباده ما أحل لهم وحرم عليهم أن يوفوا بها. وقال مقاتل: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني بالعهود التي بينكم وبين المشركين. ويقال: جميع العقود التي بينه وبين الناس، والتي بينه وبين الله تعالى.
وهذا من جوامع الكلم، لأنه اجتمع فيه ثلاثة أنواع من العقود أحدها: العقود التي عقد الله تعالى على عبادة من الأوامر والنواهي. والنوع الثاني: العقود التي يعقدها الإنسان بينه وبين الله تعالى من النذور والأيمان، وغير ذلك. والنوع الثالث: العقود التي بينه وبين الناس، مثل البيوع والإجارات وغير ذلك. فوجب الوفاء بهذه العقود كلها. ثم قال: أُحِلَّتْ لَكُمْ يعني رخصت لكم بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والأنعام تشتمل على الإبل والبقر والغنم والوحش، دليله على قوله تعالى وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً [سورة الأنعام: 142] ثم قال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وأما البهيمة فهي كل حيّ لا يتميز، وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت من أن تميز. ثم قال: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: رخصت لكم الأنعام كلها إلا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وغير ذلك، وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة، فأخبر الله تعالى أنهما حلالان إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني إلا ما بين في هذه السورة. ثم قال: غَيْرَ مُحِلِّي(1/365)
الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
يعني: أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يعني يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، لأنه أعرف بصلاح خلقه وما يصلحهم وما لا يصلحهم، وليس لأحد أن يدخل في حكمه. وهذا كقوله وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [سورة الكهف: 26] وقال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [سورة الأنبياء: 23] .
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر ما جعل الله علامات الطاعات، واحدها شعيرة، ومعناه لا تستحلوا شيئاً من ترك المناسك كلها مما أمر الله تعالى من أمر الحج، وهو السعي بين الصفا والمروة، والخروج إلى عرفات، ورمي الجمار، والطواف، واستلام الحجر وغير ذلك. وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات، فأمر الله تعالى في هذه السورة بأن لا يتركوا شيئاً من أمور المناسك. ثم قال: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يعني لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ يقول: لا تتعرضوا له ولا تستحلوا. وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا خرجوا إلى مكة، وكانوا إذا قلدوا الهدي أمنوا بذلك، ومن يكن له هدي جعل في عنق راحلته قلادة، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فيأمن بذلك، فإذا رجع من مكة جعل شيئاً من لحاء شجر مكة في عنق راحلته، فيأمن بذلك ليعرف أنه كان حاجاً، فأمرهم الله تعالى بأن لا يستحلوا ذلك، يعني: من فعل ذلك لا يتعرض له.
ثم قال تعالى وَلَا آمِّينَ يقول: ولا تستحلوا قاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ نزلت في «شُرَيْح بن ضُبَيْعة بن شُرَحْبِيل اليماني» دخل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج من عنده مَرَّ بسرح لأهل المدينة فساقها، وانتهى إلى اليمامة ثم خرج من هناك نحو مكة ومعه تجارة عظيمة، فهمَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا إليه ويغيروا على أمواله، فنزل وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ يعني الربح في المال وَرِضْواناً يعني يطلبون بحجهم رضوان ربهم فلا يرضى عنهم حتى يؤمنوا. ثم نسخ بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة: 5] ولم ينسخ قوله لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولكنه محكم، فوجب إتمام أمور المناسك، ولهذا قال أصحابنا: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده، فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك، ثم عليه القضاء في السنة الثانية. ونسخ قوله وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ فيجوز القتال في الشهر الحرام بقوله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [سورة التوبة: 36] وقوله تعالى وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ فهو محكم أيضاً، ولم ينسخ فكل من قلد الهدي وتوجه إلى مكة ونوى الإحرام صار محرماً، ولا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية. فهذه الأحكام معطوفة بعضها على بعض، بعضها منسوخة وبعضها محكمة، فإن قيل: قد قال: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً فأخبر أنهم يطلبون رضوان ربهم، ولم يذكر أن طلبهم كان باطلاً؟
قيل له: لأنه لم يذكر في لفظ الآية أمر الكفار، وإنما بيّن النهي عن التعرص للذين يقصدون(1/366)
البيت، فإن كان الذي قصد كافراً فقد بيّن في آية أخرى أنه لم يقبل منه، وإن لم يذكر هاهنا وهو قوله وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [سورة المائدة: 5] وقال: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا يعني إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا إن شئتم، فهذه رخصة بلفظ الأمر كقوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [سورة الجمعة: 10] وكقوله وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [سورة البقرة: 187] الآية. وقال الضحاك وَإِذا حَلَلْتُمْ يعني إذا خرجتم من إحرامكم وخرجتم من حرم الله تعالى وأمنه فاصطادوا. ثم قال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ يقول: ولا يحملنكم عداوة كفار مكة أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني عام الحديبية أَنْ تَعْتَدُوا على حجاج اليمامة من المشركين فتستحلوا منهم. وفي الآية دليل أن المكافأة لا تجوز من غير جنس الذي فعل به، وتكون تلك المكافأة اعتداء لأن الله تعالى قال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ يعني بغض قوم وعداوتهم أَنْ تَعْتَدُوا يعني تجاوزوا الحد في المكافأة. قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر شَنَآنُ بجزم النون. وقرأ الباقون شَنَآنُ بالنصب. وقال القتبي: لا يقال في المصادر فعلان، وإنما يقال ذلك في الصفات مثل عطشان وسكران، وفي المصادر يقال: فعلان مثل طيران ولهفان وشنآن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنْ صَدُّوكُمْ بكسر الألف على معنى الابتداء. وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء.
ثم قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى يعني: تعانوا على أمر الله واعملوا به.
وروى ابن عباس: البرُّ ما أمر الله تعالى به، يعني تحاثُّوا على أمر الله واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله تعالى عنه، وامتنعوا عنه. وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» . وقد قيل: الدالُّ على الشر كصانعه. ثم قال: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ قال القتبي: العدوان على وجهين: عدوان في السبيل كقوله فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة: 193] وكقوله فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ [سورة القصص: 28] والثاني عدوان في الظلم كقوله فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [سورة المجادلة: 9] وكقوله وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [سورة المائدة: 2] يعني به حجاج أهل اليمامة، وصارت الآية عامة في جميع الناس. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ يقول واخشوا الله وأطيعوه فيما يأمركم به إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ إذا عاقب.
قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ يعني حرم عليكم أكل الميتة، والميتة كل ما مات حتف أنفه بغير ذكاة فهو حرام، إلا الجراد والسمك، فقد أباحهما على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أُحِلَّتْ لَنَا السَّمَكُ والجَرَادُ وَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ» «1» ثم قال وَالدَّمُ يعني حرم عليكم أكل الدم وشربه، وهو الدم المسفوح كما قال في آية أخرى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم الحديث (5727) ج 2/ 415 بلفظ: «أحلت لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» .(1/367)
[الأنعام: 145] وأما الدم الذي بقي بعد الإنهار فهو مباح، مثل الطحال والكبد والصفرة التي بقيت في اللحم. ثم قال: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يعني أكل لحم الخنزير، فذكر اللحم والمراد به اللحم والشحم وغير ذلك، وهذا حرام بإجماع المسلمين. ثم قال: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني حرم عليكم أكل ما ذبح لغير الله، وأصل الإهلال رفع الصوت، ومنه استهلال الصبي، وإهلال الحج، وإنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا يرفعون الصوت عند الذبح بذكر آلهتهم، فحرم الله تعالى ذلك. ثم قال: وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي الشاة التي تختنق فتموت، وكان بعض أهل الجاهلية يستحلون ذلك ويأكلونها. ثم قال: وَالْمَوْقُوذَةُ يعني: حرم عليكم أكل الموقوذة وهي التي تضرب بالخشب فتموت، وأصله في اللغة هي الإشراف على الهلاك، فإذا ضرب بالخشب حتى أشرف على الموت ثم يتركه يقال: وقذه ويقال فلان وقيذ وقذته العبادة أي ضعف وأشرف على الهلاك. ثم قال: وَالْمُتَرَدِّيَةُ وهي الشاة التي تخر من الجبل، أو تتردى في بئر فتموت وَالنَّطِيحَةُ وهي الشاة التي تنطح صاحبها فيقتلها. ثم قال: وَما أَكَلَ السَّبُعُ وهي فريسة السبع، فحرم الله تعالى أكل هذه الأشياء كلها على المؤمنين، ثم استثنى فقال: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يعني إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه قبل أن يموت فلا بأس بأكله.
قال القتبي: أصل الذكاة من التوقد، يقال ذكيت النار إذا ألقيت عليها شيئاً من الحطب، وإنما سميت الذكية ذكية لأنها صارت بحال ينتفع بها. وقال الزجاج: أصل الذكاة تمام الشيء.
وقوله: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يعني ما أدركتم ذبحه على التمام. ثم قال: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال القتبي: النصب هو حجر أو صنم منصوب، كانوا يذبحون عنده وجمعه أنصاب، ويقال:
كانوا يذبحون لأعيادهم باسم آلهتهم. ثم قال: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ والأزلام القداح، واحدها زلم على ميزان قلم وأقلام، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يجتمعون عشرة أنفس ويشترون جزوراً، وجعلوا لحمه على تسعة أجزاء، وأعطى كل واحد منهم سهماً من سهامه، فجمعوا السهام عند واحد منهم أو شيء من الأحجار، ثم يخرج هذا الرجل واحداً واحداً من السهام، فكل من خرج سهمه يأخذ جزءاً من ذلك اللحم، فإذا خرج تسعة من السهام لا يبقى شيء من اللحم، ولا يكون للذي بقي اسمه آخراً شيء من اللحم، وكان ثمن الجزور كله عليه. وكان نوع آخر أنهم كانوا يجعلون عشرة من القداح، وكان لكل واحد منها سهم، ولم يكن لثلاثة منها نصيب من اللحم، وهو السفيح والمنيح والوغد، وكان للسبعة لكل سهم نصيب وهو: القذ، والتوأم، والرقيب، والمعلى، والحلس، والناقس، والمسبل. ويقال: كان إذا أراد واحد منهم السفر أخرج سهمين من القداح، في واحد منها مكتوب أمرني ربي، وفي الآخر نهاني ربي، فيخرج أحدهما، فإن خرج باسمه أمرني ربي وجب عليه الخروج ولم يجز له التخلف، وإن خرج الآخر لا يسعه الخروج، فنهى الله تعالى عن ذلك كله بقوله: ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني هذه الأفعال معصية وضلالة واستحلالها كفر.(1/368)
قم قال: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يعني كفار العرب أن تعودوا كفاراً حين حج النبيّ صلّى الله عليه وسلم حجة الوداع وليس معهم مشرك. وقال الضحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة سبع، ويقال: سنة ثمان.
ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. فانقادت قريش لأمر الله ورفعوا أيديهم وأسلموا. قال الله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ يقول: فلا تخشوا صولة المشركين فأنا معكم وناصركم وَاخْشَوْنِ في ترك أمري. ثم قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني أتممت لكم شرائع دينكم، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم حيث كان بمكة لم يكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام، فنزلت هذه الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني دينكم، حلالكم وحرامكم. وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس، أنه قرأ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال له يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال ابن عباس فإنها نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة، ويوم عرفة.
قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا ابن صاعد، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب: إنكم لتقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. فقال عمر: إني لأعلم حيث نزلت، وفي أي يوم نزلت، أنزلت بيوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة. فإن قيل: في ظاهر هذه الآية دليل أن الدّين يزيد حيث قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. قيل له: ليس فيها دليل، لأنه أخبر أنه أكمل في ذلك اليوم، وليس فيها دليل أنه لم يكمل قبل ذلك. ألا ترى أنه قال في سياق الآية وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ليس فيه دليل أنه لم يرض قبل ذلك، ولكن معناه أنه قد أظهر وقرر، كما جاء في الخبر أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين منهم يعني أظهر عتقهما، وقرر ولم يرد به الابتداء. وقال مجاهد: معناه اليوم أتممت لكم ظهور دينكم وغلبة دينكم ونصرته. وقال قتادة: معناه أخلص لكم دينكم.
ثم قال: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني منتي، فلم يحج معكم مشرك وَرَضِيتُ يعني اخترت لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وروي في الخبر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم عاش بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، ثم مضى لسبيله صلوات الله عليه. وقال الزجاج: الْيَوْمَ صار نصباً للظرف، ومعناه اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وقال معاذ بن جبل: النعمة لا تكون إلا بعد دخول الجنة، فصار كأنه قال: رضيت لكم الجنة لأنه لا تكون النعمة تماماً حتى يضع قدميه فيها. ثم رجع إلى أول الآية فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ وذلك أنه لما بيّن المحرمات علم أن بعض الناس اضطروا إلى أكله، فأباح لهم أكله عند الضرورة فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ يعني:(1/369)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
أجهد إلى شيء مما حرم الله تعالى عليه فِي مَخْمَصَةٍ يعني مجاعة، وأصل الخمص ضمور البطن ودقته، فإذا جاع فقد خمص بطنه. ثم قال: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ يعني غير متعمد المعصية لأكله فوق الشبع، وأصل الجنف الميل. وقال الزجاج: يعني غير متجاوز للحد، وغير آكل لها على وجه التلذذ فلا إثم عليه في أكله. وقال أهل المدينة: المضطر يأكل حتى يشبع. وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله: يأكل مقدار ما يأمن به الموت، وكذلك قال الشافعي. ثم قال: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني: غفور فيما أكل، رحيم حين رَخَّص له في أكله عند الاضطرار. قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو فَمَنِ اضْطُرَّ بكسر النون لاجتماع الساكنين، وقرأ الباقون بالضم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ نزلت الآية في شأن «عديّ بن حاتم الطائي» قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
«مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازِيٍّ ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ وَذَكَرْتَ اسْمَ الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكُلْ مَا أمْسَكَ عَلَيْكَ» .
فقلت: وإن قتله؟ قال: «إنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئاً فَكُلْ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ. وَإنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئاً فَلاَ تَأْكُلْ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . قال: قلت فإذا خالط كلابنا كلابٌ أخرى حين ترسلها؟ قال: «لا تَأْكُلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ كَلْبَكَ هُوَ الَّذِي أَمْسَكَ عَلَيْكَ» . ونزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ يعني ماذا رخص لهم من الصيد ويقال لما أنزل قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ قالوا: إن الله تعالى حرم هذه الأشياء، فأي شيء لنا حلال يا رسول الله؟ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني رخص لكم الحلالات من الذبائح وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ يعني وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح من الطير والكلاب الكواسب. ويقال: الجوارح الجارحات.
ثم قال: مُكَلِّبِينَ بكسر اللام، وقرأ بعضهم بالنصب، فمن قرأ بالكسر يعني به أصحاب الكلاب المعلِّمين للكلاب، ومن قرأ بالنصب أراد به الكلاب يعني الكلاب المعلَّمة.(1/370)
مُكَلِّبِينَ يعني معلمين. ثم قال: تُعَلِّمُونَهُنَّ يعني تؤدبونهن في طلب الصيد مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ يقول: كما أدبكم الله تعالى. وروي عن مجاهد أنه سئل عن الصقر والبازي والفهد، قال: هذه كلها جوارح ولا بأس بصيده إذا كان معلماً. ثم قال: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يعني: حبسن عليكم وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ إذا أرسلتم الكلاب على الصيد. وفي هذه الآية دليل أن الكلب إذا كان أكل لا يؤكل لأنه أمسك لنفسه، وفيها دليل أنه لا يجوز إلا بالتسمية لأنه قد أباح على شرط التسمية، وعلى شرط أن يمسك لصاحبه، وفيها دليل أيضاً أن الكلب إذا كان غير معلَّم لا يجوز أكلُ صيده، وفيها دليل أيضاً أن العالِم له من الفضيلة ما ليس للجاهل، لأن الكلب إذا عُلِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، وأن الإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس وهذا كما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يُحْسِن.
ثم خَوّفهم فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي اخشوا الله ولا تأكلوا الميتة، ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني سريع المجازاة، وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني المذبوحات من الحلال، يعني اليوم أظهر وبيّن حله. ثم قال: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني ذبائح أهل الكتاب حِلٌّ لَكُمْ يعني حلال لكم أكله وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني ذبائحكم وطعامكم رخص لهم أكله. وقال الزجاج: تأويله أحل لكم أن تطعموهم لأن الحلال والفرائض إنما تعتمد على أهل الشريعة. ثم قال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ يعني أحل لكم تزوج العفائف من المؤمنات وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني العفائف مِنْ أَهْلِ الكتاب مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: أعطوا الكتاب من قبل كتابكم، وهو التوراة والإنجيل، واختلفوا في نكاح الصابئة، وقد ذكرناه في سورة البقرة. ثم قال: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني أعطيتموهن مهورهن مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يقول: كونوا متعففين عن الزنى وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ يقول: لا تتخذوا خِدْناً فتزنوا بها سراً، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يعيِّرون من يزني في العلانية ولا يعيرون من يزني سراً، فحرم الله زنى السر والعلانية، فلما نزلت هذه الآية قلن نساء أهل الكتاب: لولا إن الله تعالى قد رضي بديننا لم يبح للمسلمين نكاحنا، فنزل وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قيل: نزل قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ثم رخص من حالة الاضطرار، فقال بعضهم: لا نأخذ الرخصة من الاضطرار فنزل وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ ويقال هذا ابتداء خطاب، وهو لجميع المسلمين فقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ قال ابن عباس: يعني من يكفر بالتوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله فقد حبط عمله.
وقال مجاهد: معناه ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، يعني بطل ثواب عمله. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني من المغبونين في العقوبة، ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله: إن الرجل إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في وقت تلك الصلاة، وجب عليه إعادة تلك الصلاة، ولو(1/371)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
كان حج حجة الإسلام فعليه أن يعيد الحج، لأنه قد بطل ما فعل قبل ارتداده.
[سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مآء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ يعني إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة وأنتم محدثون، ويقال: إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ
يعني: مع المرافق وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ يعني مع الكعبين. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم، وفي رواية أبي بكر وَأَرْجُلَكُمْ بكسر اللام وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالنصب فإنه جعله نصباً لوقوع الفعل عليه وهو الغسل، يعني واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين. ومن قرأ بالكسر جعله كسراً لدخول حرف الخفض وهو الباء، فكأنه قال: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، يعني إذا كان عليه خفان، وقد ثبت ذلك بالسنة. ويقال: صار كسراً بالمجاورة كما قال في آية أخرى وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة: 22] قرأ بعضهم بالكسر بالمجاورة، فهذه الأربعة التي ذكرت في الآية من فرائض الوضوء، وما سوى(1/372)
ذلك آداب وسنن. فإن قيل: الآية إذا قرئت بقراءتين فالله تعالى قال بهما جميعاً أو بإحداهما؟
قيل له: هذا على وجهين: إن كان لكل قراءة معنى غير المعنى الآخر، فالله تعالى قال بهما جميعاً، وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين، وإن كانت القراءتان معناهما واحد، فالله تعالى قال لإحداهما، ولكنه رخص بأن يقرأ بهما جميعاً.
ثم قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا قد يوصف الجمع بصفة الواحد كقوله وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً وكقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ قوله: فَاطَّهَّرُوا معناه فتطهروا إلا أن التاء أدغمت في الطاء لأنهما من مكان واحد فإذا، أدغمت فيها سكن أول الكلمة وزيدت ألف الوصل للابتداء. ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مآء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ يعني من الصعيد. ثم قال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ يقول: لا يكلفكم في دينكم من ضيق وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ يعني: يطهركم من الأحداث والجنابة وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بما أنعم من الرخص لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لكي تشكروا الله لما رخص لكم ولم يضيق عليكم.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يقول: احفظوا منن الله عليكم بإقراركم بوحدانية الله تعالى وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم- عليه السلام- وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] هكذا قال في رواية الكلبي ومقاتل والضحاك. وقال بعضهم: هو الميثاق الجبلة والإدراك، فكل من أدرك فقد أخذ عليه الميثاق، وشهدت له خلقته وجبلته فصار ذلك كالإقرار منه، ثم قال إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا يوم الميثاق، قلتم سمعنا قولك يا ربنا وأطعنا أمرك. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ في نقض العهد والميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، يعني: عالم بسرائركم. ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ يعني قوالين بالحق. ثم قال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا وذلك أن الله تعالى لما فتح على المسلمين مكة، أمر الله المسلمين أن لا يكافئوهم بما سلف، وأن يعدلوا في القول والحكم والنصفة. وذلك قوله اعْدِلُوا يعني قولوا الحق والعدل هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى يعني فإنه أقرب للطاعة. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ يقول: واخشوا الله بما أمركم به إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الطاعة وغيره.
ثم بيّن ثواب من عمل بطاعته فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني الطاعات لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ يعني ثواب عظيم في الجنة. ويقال: إن أهل مكة قالوا بعد ما أسلموا: ما لنا في الآخرة وقد أخرجناك وأصحابك. فقالوا: وعد الله الذين آمنوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات بعد الإسلام لهم مغفرة لما فعلوا في حال الشرك وأجر عظيم في الآخرة. ثم قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: جحدوا وكذبوا(1/373)
بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وماتوا على ذلك أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يعني مقيمين فيها أبداً.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وصالح بني قريظة وبني النضير، وهما قبيلتان بقرب المدينة، وأخذ منهم الميثاق بأن لا يكون بينهم القتال، وأن يتعاونوا فيما بينهم على الديات، فدخل مستأمنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجا من عنده فقتلهما «عمرو بن أمية الضمري» ، ولم يعلم بأنهما مستأمنان، فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حُرَّين مسلمين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعلي إلى بني النضير ليستعين بهم في ديتهما، فقالوا: مرحباً حتى نستأذن إخواننا من بني قريظة. وقال في رواية الكلبي: خرج إلى بني قريظة فقالوا: حتى نستأذن إخواننا من بني النضير، وأدخلوهم داراً وأجلسوهم في صفّة، وجعلوا يجمعون السلاح، وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ينتظرون كعب بن الأشرف وكان غائباً، فنزل جبريل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصة وخرج، فلما أبطأ الرجوع قام أبو بكر فخرج، ثم خرج عمر، ثم خرج علي رضي الله عنهم فنزلت هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يقول:
أرادوا وتمنوا أن يمدوا أيديهم إليكم بالقتل فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ بالمنع. قال الفقيه أبو الليث: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا علي بن أحمد، قال: حدثنا نصير بن يحيى، قال:
حدثنا أبو سليمان، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني النضير ليستعين بهم في دية الكافرَيْن اللذيْن قتلهما «عمرو بن أمية الضمري» ، فهمّ بنو النضير بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلم فسار إليهم فحاصرهم، وأمر بقطع النخيل وحاصرهم حتى قالوا: أتؤمننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الإبل إلا الحلقة يعني السلاح؟ قال: «نعم» ففتحوا الحصون، وأجلاهم إلى الشام. فهذا الخبر موافق رواية مقاتل أنه خرج إلى بني النضير. وقال الضحاك:
كان سبب نزول هذه الآية أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة إلى البقيع إلى قبور الشهداء وحده، فأتاه رجل من اليهود شديد محارب، فقال: إن كنت نبياً كما تزعم فأعطني سيفك هذا، فإن الأنبياء لا يبخلون، فأعطاه سيفه فشهر اليهودي السيف وهزه ليضربه به. فلم يجترئ للرعب الذي قذفه الله تعالى في قلبه، ثم ردّ عليه السيف فنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ففي الآية مضمر، فكأنه قال: فاتقوا الله وتوكلوا على الله، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويثقوا بالنصر لهم.
قوله تعالى:(1/374)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني في التوراة من الإيمان بالله تعالى وبأنبيائه وأن يعملوا بما في التوراة، ثم قال: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً قال مقاتل: يعني شهداء على قومهم، بعث الله تعالى من كل سِبْطٍ منهم رجلاً ليأخذ كل رجل منهم على سبطه الميثاق، يكونوا شهداء على قومهم. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجلاً، أرسلهم موسى- عليه السلام- إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبة منه خمسة أنفس أو أربعة، فرجع النقباء كلهم ينهون سبطهم عن القتال إلا يوشع بن نون، وكالب بن يافن، ويقال كالوب بن يوقنا، أمرا قومهما بالقتال. وقال القتبي: النقيب الكفيل على القوم، والنقابة والنكابة شبه العرافة. ويقال:
نقيباً يعني أميناً. وقال ابن عباس: نقيباً يعني ملكاً، حين بعثهم موسى إلى بيت المقدس جعل موسى- عليه السلام- عليهم اثني عشر ملكاً، على كل سبط منهم ملك قالَ اللَّهُ تعالى للنقباء: إِنِّي مَعَكُمْ ويقال: قال الله لبني إسرائيل حين أخذ عليهم الميثاق في التوراة: إِنِّي مَعَكُمْ أي معينكم وحافظكم وناصركم لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ يعني: ما دمتم أقمتم الصّلاة وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي يعني: صدقتم برسلي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ يعني: أعنتموهم. وقال القتبي: أي عظمتموهم والتعزير التعظيم. وقال السدي: يعني نصرتموهم بالسيف. وقال الأخفش: يعني وقَّرْتموهم وقَوَّيتموهم. وقال الضحاك: شرفتموهم بالنبوة كما شرفهم الله تعالى. ويقال: آمنتم برسلي أي أمرتم قومكم، حتى يؤمنوا برسلي ونصرتموهم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي تأمرون قومكم بذلك.(1/375)
ثم بيّن جزاءهم وثوابهم إن فعلوا ذلك فقال: لَأُكَفِّرَنَّ أي لأمحونَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني ذنوبكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثم قال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ العهد والميثاق مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ يعني أخطأ قصد الطريق. ثم قال عز وجل:
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني لما أخذ عليهم الميثاق نقضوا الميثاق، فبنقضهم ميثاقهم لَعَنَّاهُمْ أي لعنهم الله، يعني طردهم من رحمته. ويقال: لَعَنَّاهُمْ يعني عذبناهم بالمسخ.
ويقال: بالجزية. ثم قال: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يعني يابسة، ويقال: خالية عن حلاوة الإيمان. قرأ حمزة والكسائي قاسِيَةً بغير ألف، وقرأ الباقون قاسِيَةً ومعناهما واحد ويقال: قست فهي قاسية وقسية. ثم قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ والكلم جمع كلمة، يعني يغيرون صفة محمد صلى الله عليه وسلم عَنْ مَواضِعِهِ يعني في كتابهم مما وافق القرآن، يعني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ويقال: استحلوا ما حرم الله تعالى عليهم ولم يعملوا به، فكان ذلك تغيير الكلم عن مواضعه. ثم قال: وَنَسُوا حَظًّا يعني تركوا نصيباً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني مما أمروا به في كتابهم وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ يعني لا يزال يظهر لك منهم الخيانة ونقض العهد.
وقال القتبي عن أبي عبيدة: إن العرب تضع لفظ الفاعل في موضع المصدر، كقولهم للخوان مائدة، وإنما يميد بهم ما في الخوان فيجوز أن يكون الهاء صفة للخائن، كما يقال رجل طاغية وراوية للحديث. ثم قال: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ يعني: مؤمنيهم لم ينقضوا العهد فَاعْفُ عَنْهُمْ يعني اتركهم ولا تعاقبهم وَاصْفَحْ عَنْهُمْ يعني: أعرض عنهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين يعفون عن الناس، وهذا قبل الأمر بقتال أهل الكتابين. قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وذلك أن الله تعالى لما ذكر حال اليهود ونقضهم الميثاق، فقال على أثر ذلك إن النصارى لم يكونوا أحسن معاملة من اليهود، ثم بيّن معاملتهم فقال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ في الإنجيل، بأن يتبعوا قول محمد صلى الله عليه وسلم فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني تركوا نصيباً مما أمروا به في الإنجيل من اتباع قول محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال: نقضوا العهد كما نقض اليهود، ويقال إنما سموا أنفسهم النصارى لأنهم نزلوا قرية يقال لها «ناصرة» ، نزل فيها عيسى- عليه السلام- فنزلوا هناك وتواثقوا بينهم، ويقال: إنما سموا النصارى لقول عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: 52، والصف: 14] .
ثم قال: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ يعني ألقينا بينهم العداوة وَالْبَغْضاءَ ويقال: الإغراء في أصل اللغة الإلصاق، يقال: أغريت الرجل إغراءً إذا ألصقت به. ويقال: إن أصل العداوة التي كانت بينهم ألقاها إنسان يقال له «بولس» ، كان بينه وبين النصارى قتال، وكان يهودياً فقتل منهم خلقاً كثيراً، فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال ليقتل بعضهم بعضاً، فجاء إلى النصارى، وجعل نفسه، أعور وقال لهم: أتعرفوني؟ فقالوا: أنت الذي قتلت منا وفعلت ما(1/376)