[الجزء الاول]
مقدمة الناشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد النبي الأمي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سلكوا وساروا على منهاجهم إلى يوم الدين.
وبعد.. فقد رسمت دار الفكر لها منذ انطلاقتها في عالم الحرف والكتاب معالم منهج علمي في نشر وطبع كتاب التراث الذي تزخر به وبمخطوطاته كبريات المكتبات في العالم وتفخر كل مكتبة بما لديها من هذه المخطوطات التي تكتنز في طياتها تراث أمة وحضارة شعوب ومبادئ نظام متطور أودعت فيه من العقائد والعبادات والأحكام والمعاملات والتشريعات الحقوقية والعلاقات الدولية والنظرة العلمية إلى الكون والحياة والإنسان وبناء المجتمعات البشرية ما أثرى الإنسانية على مر العصور والأيام، وهو الملاذ الأخير لها في نهاية المطاف.
وكان هدفنا إحياء كتاب التراث وإيصاله إلى كل طالب افتقده وإلى كل دارس وعالم تهفو إليه نفسه لاقتنائه، وذلك بالشكل والمضمون الذي أراده له مؤلفه.
وكان سبيلنا إلى ذلك المحافظة على نص الكتاب من الأخطاء، بعيدا عن التحريف وسهو النساخ والمصححين وليكون الكتاب خاليا من الأخطاء المطبعية نجتهد في إعمال يراع التصحيح والتنقيح فيه، وبذلك يكون بين أيدينا نصا صحيحا معافى من العيوب كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ نقدمه للطالب للاستفادة منه وللعالم ليعمل فيه فكره شرحا وتعليقا واستنباطا لفوائد ومعاني ربما تكون قد فاتت مؤلفه الأول.
وهذا هو مفهومنا في التحقيق، هذه الكلمة التي فقدت معناها وأصبحت في كثير من الأحيان رمزا دعائيا يوظفها تاجر الكتاب لترويج كتابه حتى صارت كلمة تحقيق، ومحقق، وطبعة محققة، وحققه وقرأه فلان ... ألفاظا خاوية بلا حقيقة.(1/3)
فإذا صحح أحدهم تجربة مطبعة صار منقحا وإذا نقح كتابا صار محققا وإذا عزا بعض الآيات في النص سمي شارحا وإذا كتب شروح وهوامش عن كتب أخرى جمع الصفات كلها فهو محقق وموثق ومعلق وشارح ... إلخ ونسأل الله العفو والعافية.
بعد هذا، يسرنا أن نقدم للقارىء العزيز كتاب البحر المحيط في التفسير مجردا مصححا ومنقحا مع إدخال الآيات القرآنية من المصحف وعزو الآيات المستدل بها في الشرح كما وضعه مؤلفه ابي حيان رحمه الله. وذلك بعد أن ساءت الطبعات السابقة وبليت حروفها ومسحت سطورها وأصبحت مانعة من الفائدة المرجوة من هذا التفسير النفيس.
وصاحب البحر المحيط هو: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن يُوسُفُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَيَّان الْأَنْدَلُسِيُّ الْجَيَّانِيُّ الغرناطي، الإمام الكبير في العربية والبلاغة والتفسير.
ولد سنة 654 ستمائة وأربع وخمسون، ونشأ في غرناطة الأندلس، ويحدثنا هو عن نفسه فيقول: ... مِنْ لَدُنْ مَيَّزْتُ أَتَّلْمَذُ للعلماء وانحاز للفقهاء وأرغب في مجالستهم، أسلك طريقهم وأتبع فريقهم ... وما زال يتنقل بين العلماء ويقتبس من أنوارهم ويقطف من أزهارهم، ويلتقط من نثارهم، يتوسد أبواب العلماء مؤثرا الْعِلْمَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ والولد، ويرتحل مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حتى القت به بمصر عصا التسيار.
قرأ كتب النحو واللغة ودواوين مشاهير العرب فأخذ معرفة الأحكام للكلم العربية عن أبي جعفر إبراهيم الثقفي من كتاب سيبويه وغيره.
وأخذ علم البيان والبديع عن تصانيف كثيرة أجمعها كتاب أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ سليمان النقيب، وعن أبي الْحَسَنِ حَازِمُ بْنُ مُحَمَّدِ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْقَرْطَاجَنِّيُّ، مُقِيمُ تونس. وأخذ أيضا هذا الفن عن استاذه أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وسمع وروى الكتب الأمهات في الحديث والسنن وسمع من علم الكلام مسائل عَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ الأصفهاني.
أما القراءات وهو الإمام فيها، فقد تلاها إفرادا وجمعا على مشايخ الأندلس، فقرأ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَةِ السَّبْعَةِ بِجَزِيرَةِ الأندلس، وقرأ الثمان بثغر الاسكندرية، وقرأ القرآن ثانية بالقراءات السبعة بمصر، وألف في القراءات كتابة عقد اللآلئ على وزن الشاطبية وقافيتها.
ومشايخه كثير حتى قال: إن عدة من أخذ عنه أربعمائة وخمسون عالما، ومنهم الوجيه الدهان والقطب القسطلاني وابن الأنماطي، ولازم ابن النحاس.(1/4)
وأما من أجاز له فكثير جدا، قال الصفدي: لم أره قط إلا يسمع ويشتغل أو يكتب أو ينظر في كتاب ولم أره غير ذلك. وكان كثير النظم، والإمام المطلق في النحو والتصريف وله اليد الطولى في التفسير والحديث وتراجم الناس ومعرفة طبقاتهم خصوصا المغاربة. وله التصانيف التي سارت في الآفاق واشتهرت في حياته، وأخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة وصار تلاميذه أئمة وأشياخا في حياته، وهو الذي رغب الناس إلى قراءة كتب مالك وشرح لهم غامضها وألزم نفسه أن لا يقرىء أحدا إلا كتب سيبويه أو في كِتَابُ تَسْهِيلِ الْفَوَائِدِ لِأَبِي مَالِكٍ الْجَيَّانِيِّ الطَّائِيِّ مُقِيمِ دمشق.
أما مصنفاته فكثيرة في النحو والصرف واللغة والفقه والاعراب والقراءات وتاج مصنفاته البحر المحيط في التفسير.
يقول رحمه الله: ما زَال يَخْتَلِجُ فِي ذِكْرِي، ويعتلج في فكري أنه إذ أبلغ الْعِقْدُ الَّذِي يَحُلُّ عُرَى الشباب ألوذ بجنان الرَّحْمَنِ وَأَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ في تفسير القرآن ... وقد سهل له ذلك العمل الجليل بانتصابه مُدَرِّسًا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ فِي قُبَّةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ المنصور ...
وكان عمره سبع وخمسين في آخر سنة عشر وسبعمائة وعند ما عكف على تصنيف كتابه:
البحر المحيط الذي نقدم له.
منهج التفسير:
لقد اختار عالمنا الجليل اسما لتفسيره هو: البحر المحيط، فكان لفظا ومعنى ومضمونا، فالبحر معروف، وهو أيضا الرجل الكريم الجواد، والجواد الواسع الجري، وبحر الأرض أي شقها فكأنما غاص إلى أعمق المعاني في تفسيره، وأما المحيط فهو البحر المحدق، فقد أحاط بالعلوم التي تمكنه من الغوص في بحار حكم كلام الله القرآن الكريم ومن ثمّ ليحيط بكتاب العزيز العليم فهو العروة الوثقى والحبل المتين.
قال:
فَعَكَفْتُ عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَانْتِخَابِ الصَّفْوِ وَاللُّبَابِ، أُجِيلُ الْفِكْر فِيمَا وَضَع الناس في تصانيفهم، وأمعن النَّظَر فِيمَا اقْتَرَحُوهُ مِنْ تَآلِيفِهِمْ، فَأُلَخِّصُ مُطَوَّلَهَا وَأَحُلُّ مُشْكِلَهَا، وَأُقَيِّدُ مُطْلَقَهَا، وَأَفْتَحُ مغلقها، واجمع مبدّدها ... وَأُضِيفُ إِلَى ذَلِك مَا استخرجته مِنْ لَطَائِفِ عِلْمِ الْبَيَانِ الْمُطْلِعِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، العروة الوثقى والحبل المتين والصراط المستقيم.
وقد حدد لنا منهجه في التفسير، فقال:(1/5)
1- أَنِّي أَبْتَدِئُ أَوَّلًا بِالْكَلَامِ عن مفردات الآية التي أفسر لَفْظَةً لَفْظَةً فِيمَا يُحْتَاجُ فيه إلى اللُّغَةِ وَالْأَحْكَامِ النَّحْوِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ اللَّفْظَةِ قَبْلَ التَّرْكِيبِ ... فإذا كَانَ لِلْكَلِمَةِ مَعْنَيَانِ أَوْ معان ذكر ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَوْضِعٍ من تِلْكَ الْكَلِمَةُ، لِيُنْظَرَ مَا يُنَاسِبُ لَهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تقع فيه فتحمل عليه، ويحيل ما يذكره من القواعد النحوية على كتب النحو.
2- ثم يشرع فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ذَاكِرًا سَبَبَ نُزُولِهَا إِذَا كَانَ لها سبب، ونسخها ومناسباتها وارتباطها بما قبلها.
3- ولا يبخل عليها بما فيها من قراءات فيحشد منها شاذها ومستعملها، ويذكر أَقَاوِيلَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي فهم معانيها.
4- وهو العالم في العربية وخبير الاعراب، فيشرح بيان مَا فِيهَا مِنْ غَوَامِضِ الاعراب، ودقائق الآداب من بديع وبيان، محيلا في أكثر الأحيان عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُكُلِّمَ فيه عن تِلْكَ اللَّفْظَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ أو الآية مبتعدا فِي الْإِعْرَابِ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا، مبينا أنه يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى أَحْسَنِ إِعْرَابٍ وَأَحْسَنِ تَرْكِيبٍ، فكلام اللَّهِ تَعَالَى أَفْصَحُ الْكَلَامِ.
5- وينقل أَقَاوِيلَ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ في الأحكام الشرعية بما فيه تعلقه باللفظ القرآني، محيلا كل ذلك على الدلائل في كتب الفقه.
وهكذا لم يترك شاردة ولا واردة إلا بيّنها جلية واضحة ومن الصعب الإحاطة بخصائص هذا التفسير العظيم في هذه السطور المتواضعة غير أننا سنترك للقارىء العزيز أن يكتشف بنفسه خلال دراسته ومطالعته عجائب هذا التفسير وغرائبه ومصنفه العالم البحر أبي حيان رحمه الله.
عمل دار الفكر
كان اعتمادنا في إخراج هذه الطبعة للكتاب على النسخة الوحيدة المطبوعة له منذ ما يقارب المائة عام، وقد توخينا في إخراجنا لهذا التفسير البحر بثوبه الجديد، كما قدمنا، أن نضعه امام العالم والدارس والطالب صحيحا سليما سهل التناول، وقد رعينا من أجل ذلك ما يلي:
1- إدخال الآيات المفسرة من المصحف دفعا لأي خطأ في التصحيح أو التباس في النسخ، ومن ناحية ثانية يكون أمام القارئ مصحف كامل مع تفسير شامل.
2- راعينا قواعد التبويب وذلك بتحديد الفقرات والمقاطع والبدايات المناسبة لموضوع الآية أو لموضوع مجموعة الآيات المفسرة في السورة الواحدة مع التنسيق الكامل بينها وبين الشرح.(1/6)
3- ولكي نبلغ الغاية التي ننشدها التزمنا قواعد التنقيح من وضع فواصل ونقاط وإشارات.. إلخ وذلك بعد قراءة النص بكل تمعن وإتقان.
4- عزونا الآيات القرآنية المستدل بها في الشرح.
5- أثبتنا القرآن في الشرح بالرسم الإملائي في معظم الأحيان وهو جائز لأنه خارج المصحف.
6- أشرنا إلى الأحاديث النبوية التي يستشهد بها الشارح خلال تفسيره وجعلناها بحرف مميز بين هلالين صغيرين.
7- وضعنا فهرس تفصيلي للموضوعات يساعد القارئ على الوصول إلى مبتغاه بيسر وسهولة، كما وضعنا في رأس كل صفحة (ترويسة) عنوان ينبئ القارئ عن الآية التي يتناولها الشارح في تلك الصفحة.
8- صنعنا فهارس شاملة للكتاب تضمنت هذه الفهارس:
أ- فهرس للآيات القرآنية المستشهد بها.
ب- فهرس للأحاديث النبوية: القولية والفعلية والتقريرية والأوامر والنواهي النبوية التي استشهد بها الشارح في تفسيره.
ج- فهرس الأعلام.
د- فهرس الأماكن والمعالم الجغرافية.
هـ- فهرس القبائل والشعوب والمذاهب والأديان والفرق.
وفهرس الشعر والرجز والأمثال التي يذكرها الشارح ليستدل بها في معنى لفظ أو إعراب كلمة ...
وهكذا نكون قد وفينا ما وعدنا القارئ به في مطلع هذه المقدمة وهو تسهيل الفائدة من هذا التفسير القيم بإخراجه الجديد راجين من الله الثواب وحسن الجزاء ومن إخواننا المؤازرة بالإغضاء وحسن الدعاء.
بيروت يوم الأحد: 27 شعبان 1412 هـ 1 آذار 1992 م.
وكتبه الراجي عفو ربه صدقي محمد جميل غفر الله له الناشر(1/7)
[خطبة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ، الْبَحْرُ الْفَهَّامَةُ، الْمُحَقِّقُ الْمُدَقِّقُ، حُجَّةُ الْبُلَغَاءِ، وَقُدْوَةُ النُّحَاةِ وَالْأُدَبَاءِ، الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن يُوسُف بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَيَّان الْأَنْدَلُسِيُّ الْجَيَّانِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمْتَع بِعُلُومِهِ الْمُسْلِمِين آمِين.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، مبدىء صُوَرِ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي مَرَايَا الْعُقُولِ، وَمُبْرِزِهَا مِنْ مَحَالِّ الْأَفْكَارِ إِلَى مَحَالِّ الْمَقُولِ، وَحَارِسِهَا بِالْقُوَّتَيْنِ الذَّاكِرَةِ لِلْمَنْقُولِ، وَالْمُفَكِّرَةِ لِلْمَعْقُولِ، وَمُفِيضِ الْخَيْرِ عَلَيْهَا مِنْ نَتِيجَةِ مُقَدِّمَاتِ الْوُجُودِ، السَّائِرِ رُوحُ قُدُسِهِ فِي بُطُونِ التَّهَائِمِ وَظُهُورِ النُّجُودِ، الْمُبَرِّزِ فِي الِاتِّصَالَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ على كل موجود، مُحَمَّدٍ ذِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، الْمُبْتَعَثِ بِالْحَقِّ الْأَبْهَجِ لِلْأَنَامِ دَاعِيًا، وَبِالطَّرِيقِ الْأَنْهَجِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُنَادِيًا، الصَّادِعِ بِالْحَقِّ، الْهَادِي لِلْخَلْقِ، الْمَخْصُوصِ بِالْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالْكِتَابِ الْمُسْتَبِينِ، الَّذِي هُو أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَكْبَرُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، السَّائِرَةِ فِي الْآفَاقِ، الْبَاقِي بَقَاء الْأَطْوَاقِ فِي الْأَعْنَاقِ، الْجَدِيدُ عَلَى تَقَادُمِ الْأَعْصَارِ، اللَّذِيذُ عَلَى تَوَالِي التَّكْرَارِ، الْبَاسِقُ فِي الْإِعْجَازِ إِلَى الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، الْجَامِعُ لِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، الْجَالِي بِأَنْوَارِهِ ظُلَم الْإِلْحَادِ، الْحَالِي بِجَوَاهِرِ مَعَانِيهِ طَلَى الْأَجْيَادِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ أُنْزِل عَلَيْهِ، وَأَهْدَى أَرَج تَحِيَّةٍ وَأَزْكَاهَا إِلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الْمُخْتَصِّين بِالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَرَضِي اللَّهُ عَنْ صَحْبِهِ الَّذِين نَقَلُوا عَنْهُ كِتَاب اللَّهِ أَدَاءً وَعَرْضًا، وَتَلَقَّوْهُ مِنْ فِيهِ جَنِيًّا وَغَضًّا، وَأَدَّوْهُ إِلَيْنَا صَرِيحًا مَحْضًا.
وَبَعْدُ، فَإِنّ الْمَعَارِف جَمَّةٌ، وَهِي كُلُّهَا مُهِمَّةٌ، وَأَهَمُّهَا مَا بِهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَالسَّعَادَةُ السَّرْمَدِيَّةُ، وَذَلِك عِلْمُ كِتَابِ اللَّهِ هُو الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَغَيْرُهُ مِن الْعُلُومِ لَهُ كَالْأَدَوَاتِ، هُو(1/9)
الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَالْوَزَرُ الْأَقْوَى الْأَوْقَى، وَالْحَبْلُ الْمَتِينُ، وَالصِّرَاطُ الْمُبِينُ، وَمَا زَال يَخْتَلِجُ فِي ذِكْرِي، وَيَعْتَلِجُ فِي فِكْرِي، أَنِّي إِذَا بَلَغْتُ الْأَمَد الَّذِي يَتَغَضَّدُ فِيهِ الْأَدِيمُ، وَيَتَنَغَّصُ بِرُؤْيَتِي النَّدِيمُ، وَهُو الْعِقْدُ الَّذِي يَحُلُّ عُرَى الشَّبَابِ، الْمَقُولُ فِيهِ إِذَا بَلَغ الرَّجُلُ السِّتِّين، فَإِيَّاهُ وَإِيَّا الشَّوَابّ، أَلُوذُ بِجَنَابِ الرَّحْمَنِ، وَأَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَأَتَاح اللَّهُ لِي ذَلِك قَبْل بُلُوغِ ذَلِك الْعِقْدِ، وَبَلَّغَنِي مَا كُنْتُ أَرُومُ مِنْ ذَلِك الْقَصْدِ، وَذَلِك بِانْتِصَابِي مُدَرِّسًا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ فِي قُبَّةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، قَدَّس اللَّهُ مَرْقَدَهُ، وَبَلّ بِمُزْنِ الرَّحْمَةِ مَعْهَدَهُ، وَذَلِك فِي دَوْلَةِ وَلَدِهِ السُّلْطَانِ الْقَاهِرِ، الْمَلِكِ النَّاصِرِ، الَّذِي رَدّ اللَّهُ بِهِ الْحَقّ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَسْبَغ عَلَى الْعَالَمِ وَارِف ظِلِّهِ، وَاسْتَنْقَذ بِهِ الْمُلْك مِنْ غُصَّابِهِ، وَأَقَرَّهُ فِي مُنِيفِ مَحَلِّهِ وَشَرِيفِ نِصَابِهِ، وَكَان ذَلِك فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَهِي أَوَائِلُ سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِين مِنْ عُمُرِي، فَعَكَفْتُ عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ، وَانْتِخَابِ الصَّفْوِ وَاللُّبَابِ، أُجِيلُ الْفِكْر فِيمَا وَضَع النَّاسُ فِي تَصَانِيفِهِمْ، وَأُنْعِمُ النَّظَر فِيمَا اقْتَرَحُوهُ مِنْ تَآلِيفِهِمْ، فَأُلَخِّصُ مُطَوَّلَهَا، وَأَحُلُّ مُشْكِلَهَا، وَأُقَيِّدُ مُطْلَقَهَا، وَأَفْتَحُ مُغْلَقَهَا، وَأَجْمَعُ مُبَدَّدَهَا، وَأُخْلِصُ مَنْقَدَهَا، وَأُضِيفُ إِلَى ذَلِك مَا اسْتَخْرَجَتْهُ الْقُوَّةُ الْمُفَكِّرَةُ مِنْ لَطَائِفِ عِلْمِ الْبَيَانِ، الْمُطْلِعِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَمِنْ دَقَائِقِ عِلْمِ الْإِعْرَابِ، الْمُغْرِبِ فِي الْوُجُودِ أَيّ إِغْرَابٍ، الْمُقْتَنِصِ فِي الْأَعْمَارِ الطَّوِيلَةِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَبَيَانِ الْأَدَبِ، فَكَمْ حَوَى مِنْ لَطِيفَةٍ فِكْرِي مُسْتَخْرِجُهَا، وَمِنْ غَرِيبَةٍ ذِهْنِي مُنْتِجُهَا، تَحَصَّلَتْ بِالْعُكُوفِ عَلَى عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالنَّظَرِ فِي التَّرَاكِيبِ النَّحْوِيَّةِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَسَالِيبِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَالتَّقَلُّبِ فِي أَفَانِينِ الْخُطَبِ وَالشِّعْرِ، لَمْ يَهْتَدِ إِلَى إِثَارَتِهَا ذِهْنٌ، وَلَا صَاب بِرِيقِهَا مُزْنٌ، وَأَنَّى ذَلِك وَهِي أَزَاهِرُ خَمَائِل غُفْلٍ، وَمَنَاظِرُ مَا لِمُسْتَغْلَقِ أَبْوَابِهَا مِنْ قُفْلٍ. فِي إِدْرَاكِ مِثْلِهَا تَتَفَاوَتُ الْأَفْهَامُ، وَتَتَبَارَى الْأَوْهَامُ، وَلَيْس الْعِلْمُ عَلَى زَمَانٍ مَقْصُورًا، وَلَا فِي أَهْلِ زَمَانٍ مَحْصُورًا، بَلْ جَعَلَهُ اللَّهُ حَيْثُ شَاء مِن الْبِلَادِ، وَبَثَّهُ فِي التَّهَائِمِ وَالنِّجَادِ، وَأَبْرَزَهُ أَنْوَارًا تُتَوَسَّمُ، وَأَزْهَارًا تُتَنَسَّمُ، وَمَا زَال بِأُفُقِنَا الْمَغْرِبِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ، عَلَى بُعْدِهِ مِنْ مَهْبِطِ الْوَحْيِ النَّبَوِيِّ، عُلَمَاءُ بِالْعُلُومِ الإسلامية وغيرها. وَفُهَمَاءُ تَلَامِيذُ لَهُمْ دُرَاةٌ نَقَلَةٌ، يُرْوَوْن فَيَرْوُون وَيُسْقَوْن فَيَرْتَوُونَ، وَيُنْشَدُونَ فَيُنْشِدُونَ، وَيُهْدَوْنَ فَيَهْدُونَ، هَذَا وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مَدَارِكِ الْعُلُومِ، وَتَبَايَنُوا فِي الْمَفْهُومِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَزِيَّةٌ لَا يُجْهَلُ قَدْرُهَا، وَفَضِيلَةٌ لَا يُسَرُّ بَدْرُهَا.(1/10)
وَمِمَّا بَرَعُوا فِيهِ عِلْمُ الْكِتَابِ، انْفَرَدُوا بِإِقْرَائِهِ مُذْ أَعْصَارٍ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْآدَابِ، أَثَارُوا كُنُوزَهُ، وَفَكُّوا رُمُوزَهُ، وَقَرَّبُوا قَاصِيَهُ، وَرَاضُوا عَاصِيَهُ، وَفَتَحُوا مُقْفَلَهُ، وَأَوْضَحُوا مُشْكِلَهُ، وَأَنْهَجُوا شِعَابَهُ، وَذَلَّلُوا صِعَابَهُ، وَأَبْدَوْا مَعَانِيَهُ في صورة التَّمْثِيلِ، وَأَبْدَعُوهُ بِالتَّرْكِيبِ وَالتَّحْلِيلِ. فَالْكِتَابُ هُوَ الْمِرْقَاةُ إِلَى فَهْمِ الْكِتَابِ، إِذْ هُوَ الْمُطْلِعُ عَلَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ، وَالْمُبْدِي مِنْ مَعَالِمِهِ مَا دَرَسَ، وَالْمُنْطِقُ مِنْ لِسَانِهِ مَا خَرُسَ، وَالْمُحْيِي مِنْ رُفَاتِهِ مَا رَمَسَ، وَالرَّادُّ مِنْ نَظَائِرِهِ مَا طُمِسَ. فَجَدِيرٌ لِمَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَتَرَقَّتْ إِلَى التَّحْقِيقِ فِيهِ وَالتَّحْرِيرِ، أَنْ يَعْتَكِفَ عَلَى كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْفَنِّ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَنَدُ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ إِلَيْهِ. وَلَمْ أَلْقَ فِي هَذَا الْفَنِّ مَنْ يُقَارِبُ أَهْلَ قُطْرِنَا الْأَنْدَلُسِيِّ فَضْلًا عَنِ المماثلة، ولا من يناضلهم فَيُدَانِي فِي الْمُنَاضَلَةِ، وَمَا زِلْتُ مِنْ لَدُنْ مَيَّزْتُ أَتَّلْمَذُ لِلْعُلَمَاءِ، وَأَنْحَازُ لِلْفُهَمَاءِ، وَأَرْغَبُ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَأُنَافِسُ فِي نَفَائِسِهِمْ، وَأَسْلُكُ طَرِيقَهُمْ، وَأَتْبَعُ فَرِيقَهُمْ، فَلَا أَنْتَقِلُ إِلَّا مِنْ إِمَامٍ إِلَى إِمَامٍ، وَلَا أَتَوَقَّلُ إِلَّا ذِرْوَةَ عَلَّامٍ. فَكَمْ صَدْرٍ أَوْدَعْتُ عِلْمَهُ صَدْرِي، وَحَبْرٍ أَفْنَيْتُ فِي فَوَائِدِهِ حِبْرِي، وَإِمَامٍ أَكْثَرْتُ بِهِ الْإِلْمَامَ، وَعَلَّامٍ أَطَلْتُ مَعَهُ الِاسْتِعْلَامَ، أُشَنِّفُ الْمَسَامِعَ بِمَا تَحْسُدُ عَلَيْهِ الْعُيُونُ، وَأُذَيِّلُ فِي تَطْلَابِ ذَلِكَ الْمَالِ الْمَصُونِ، وَأَرْتَعُ فِي رِيَاضٍ وَارِفَةِ الظِّلَالِ، وَأَكْرَعُ فِي حِيَاضٍ صَافِيَةِ السَّلْسَالِ، وَأَقْتَبِسُ بِهَا مِنْ أَنْوَارِهِمْ، وَأَقْتَطِفُ مِنْ أَزْهَارِهِمْ، وَأَبْتَلِجُ مِنْ صَفَحَاتِهِمْ، وَأَتَأَرَّجُ مِنْ نَفَحَاتِهِمْ، وَأَلْقُطُ مِنْ نُثَارِهِمْ، وَأَضْبُطُ مِنْ فُضَالَةِ إِيثَارِهِمْ، وَأُقَيِّدُ مِنْ شَوَارِدِهِمْ، وَأَنْتَقِي مِنْ فَرَائِدِهِمْ. فَجَعَلْتُ الْعِلْمَ بِالنَّهَارِ سَحِيرِي، وَبِاللَّيْلِ سَمِيرِي، زَمَانَ غَيْرِي يَقْصُرُ سَارِيَهُ عَلَى الصِّبَا، وَيَهُبُّ لِلَّهْوِ وَلَا كَهُبُوبِ الصَّبَا، وَيَرْفُلُ فِي مَطَارِفِ اللَّهْوِ، وَيَتَقَمَّصُ أَرْدِيَةَ الزَّهْوِ، وَيُؤْثِرُ مَسَرَّاتِ الْأَشْبَاحِ، عَلَى لَذَّاتِ الْأَرْوَاحِ، وَيَقْطَعُ نَفَائِسَ الْأَوْقَاتِ، فِي خَسَائِسِ الشَّهَوَاتِ، مِنْ مَطْعَمٍ شَهِيٍّ، وَمَشْرَبٍ رَوِيٍّ، وَمَلْبَسٍ بَهِيٍّ، وَمَرْكَبٍ خَطِيٍّ، وَمَفْرَشٍ وَطِيٍّ، وَمَنْصِبٍ سَنِيٍّ، وَأَنَا أَتَوَسَّدُ أَبْوَابَ الْعُلَمَاءِ، وَأَتَقَصَّدُ أَمَاثِلَ الْفُهَمَاءِ، وأسهر فِي حَنَادِسِ الظَّلَامِ، وَأَصْبِرُ عَلَى شَظَفِ الْأَيَّامِ، وَأُوثِرُ الْعِلْمَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَأَرْتَحِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى أَلْقَيْتُ بِمِصْرَ عَصَا التَّسْيَارِ، وَقُلْتُ مَا بَعْدَ عَبَّادَانَ مِنْ دَارٍ، هَذِهِ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَبِهَا طَوَالِعُ شُمُوسِهَا وَغَوَارِبُهَا، بَيْضَةُ الْإِسْلَامِ، وَمُسْتَقَرُّ الْأَعْلَامِ، فَأَقَمْتُ بِهَا لِمَعْرِفَةٍ أُبْدِيهَا، وَعَارِفَةِ عِلْمٍ أُسْدِيهَا، وَثَأْيٍ أَرَأَبُهُ، وَفَاضِلٍ أَصْحَبُهُ، وَبِهَا صَنَّفْتُ تَصَانِيفِي، وَأَلَّفْتُ تَآلِيفِي، وَمِنْ بَرَكَاتِهَا عَلَيَّ تَصْنِيفِي لِهَذَا الْكِتَابِ، الْمُقَرِّبِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، الْمَرْجُوِّ أَنْ يَكُونَ نُورًا يَسْعَى بَيْنَ يَدَيَّ، وَسِتْرًا مِنَ النار يضفو عليّ. فما لْمَخْلُوقٍ بِتَأْلِيفِهِ قَصَدْتُ، وَلَا غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ بِهِ(1/11)
أَرَدْتُ. جَعَلْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَالتَّدْبِيرَ لِمَعَانِيهِ أَنِيسِي، إِذْ هُوَ أَفْضَلُ مُؤَانِسٍ، وَسَمِيرِي إِذَا أَخْلُو لِكُتُبٍ ظُلَمِ الْحَنَادِسِ:
نِعْمَ السَّمِيرُ كِتَابُ اللَّهِ إِنَّ لَهُ ... حَلَاوَةً هِيَ أَحْلَى مِنْ جَنَى الضَّرَبِ
بِهِ فُنُونُ الْمَعَانِي قَدْ جُمِعْنَ فَمَا ... يُفْتَنُ مِنْ عَجَبٍ إِلَّا إِلَى عَجَبِ
أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَأَمْثَالٌ وَمَوْعِظَةٌ ... وَحِكْمَةٌ أُودِعَتْ فِي أَفْصَحِ الْكُتُبِ
لَطَائِفٌ يَجْتَلِيهَا كُلُّ ذِي بَصَرٍ ... وَرَوْضَةٌ يَجْتَنِيهَا كُلُّ ذِي أَدَبِ
وَتَرْتِيبِي فِي هَذَا الْكِتَابِ، أني أبتدىء أَوَّلًا بِالْكَلَامِ عَلَى مُفْرَدَاتِ الْآيَةِ الَّتِي أُفَسِّرُهَا، لَفْظَةً لَفْظَةً، فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ اللُّغَةِ وَالْأَحْكَامِ النَّحْوِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ اللَّفْظَةِ قَبْلَ التَّرْكِيبِ.
وَإِذَا كَانَ لِلْكَلِمَةِ مَعْنَيَانِ أَوْ مَعَانٍ، ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَوْضِعٍ فِيهِ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، لِيُنْظَرَ مَا يُنَاسِبُ لَهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَقَعُ فِيهِ، فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، ذَاكِرًا سَبَبَ نُزُولِهَا، إِذَا كَانَ لَهَا سبب، ونسخها وَمُنَاسَبَتَهَا وَارْتِبَاطَهَا بِمَا قَبْلَهَا، حَاشِدًا فِيهَا الْقِرَاءَاتِ، شَاذَّهَا وَمُسْتَعْمَلَهَا، ذَاكِرًا تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، نَاقِلًا أَقَاوِيلَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي فَهْمِ مَعَانِيهَا، مُتَكَلِّمًا عَلَى جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، بِحَيْثُ إِنِّي لَا أُغَادِرُ مِنْهَا كَلِمَةً، وَإِنِ اشْتُهِرَتْ، حَتَّى أَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا، مُبْدِيًا مَا فِيهَا مِنْ غَوَامِضِ الْإِعْرَابِ وَدَقَائِقِ الآداب مِنْ بَدِيعٍ وَبَيَانٍ، مُجْتَهِدًا أَنِّي لَا أُكَرِّرُ الْكَلَامَ فِي لَفْظٍ سَبَقَ، وَلَا فِي جُمْلَةٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَلَا فِي آيَةٍ فُسِّرَتْ، بَلْ أَذْكُرُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا الْحِوَالَةَ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُكُلِّمَ فِيهِ عَلَى تِلْكَ اللَّفْظَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ أَوِ الْآيَةِ، وَإِنْ عَرَضَ تَكْرِيرٌ فَبِمَزِيدِ فَائِدَةٍ، نَاقِلًا أَقَاوِيلَ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا فِيهِ تَعَلُّقٌ بِاللَّفْظِ الْقُرْآنِيِّ، مُحِيلًا عَلَى الدَّلَائِلِ الَّتِي فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ مَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ النَّحْوِيَّةِ أُحِيلُ فِي تَقَرُّرِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا عَلَى كُتُبِ النَّحْوِ، وَرُبَّمَا أَذْكُرُ الدَّلِيلَ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ غَرِيبًا، أَوْ خِلَافَ مَشْهُورِ مَا قَالَ مُعْظَمُ النَّاسِ، بَادِئًا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ من حجا لَهُ لِذَلِكَ مَا لَمْ يَصُدَّ عَنِ الظَّاهِرِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِهِ عَنْهُ، مُنْكَبًّا فِي الْإِعْرَابِ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا، مُبَيِّنًا أَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحْسَنِ إِعْرَابٍ وَأَحْسَنِ تَرْكِيبٍ، إِذْ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَفْصَحُ الْكَلَامِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يُجَوِّزُهُ النُّحَاةُ فِي شِعْرِ الشَّمَّاخِ وَالطِّرِمَّاحِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سُلُوكِ التَّقَادِيرِ الْبَعِيدَةِ وَالتَّرَاكِيبِ الْقَلِقَةِ وَالْمَجَازَاتِ الْمُعَقَّدَةِ.
ثُمَّ أَخْتَتِمُ الْكَلَامَ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فَسَّرْتُهَا إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا بِمَا ذَكَرُوا فِيهَا مِنْ(1/12)
عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، مُلَخِّصًا، ثُمَّ أُتْبِعُ آخِرَ الْآيَاتِ بِكَلَامٍ مَنْثُورٍ أَشْرَحُ بِهِ مَضْمُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ عَلَى مَا أَخْتَارُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، مُلَخِّصًا جُمَلَهَا فِي أَحْسَنِ تَلْخِيصٍ، وَقَدْ يَنْجَرُّ مَعَهَا ذِكْرُ مُعَانٍ لَمْ تَتَقَدَّمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَصَارَ ذَلِكَ أَنَمُوذَجًا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْلُكَ ذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ سَائِرِ الْقُرْآنِ. وَسَتَقِفُ عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ الَّذِي سَلَكْتُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَرُبَّمَا أَلْمَمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ مِمَّا فِيهِ بَعْضُ مُنَاسَبَةٍ لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَتَجَنَّبْتُ كَثِيرًا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَمَعَانِيهِمُ الَّتِي يُحَمِّلُونَهَا الْأَلْفَاظَ، وَتَرَكْتُ أَقْوَالَ الْمُلْحِدِينَ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُخْرِجِينَ الْأَلْفَاظَ الْقَرِيبَةَ عَنْ مَدْلُولَاتِهَا فِي اللُّغَةِ إِلَى هَذَيَانٍ افْتَرَوْهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ، وَيُسَمُّونَهُ عِلْمَ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى تفسير لبعض رؤوسهم، وَهُوَ تَفْسِيرٌ عَجِيبٌ يَذْكُرُ فِيهِ أَقَاوِيلَ السَّلَفِ مُزْدَرِيًا عَلَيْهِمْ وَذَاكِرًا أَنَّهُ مَا جَهِلَ مَقَالَاتِهِمْ، ثُمَّ يُفَسِّرُ هُوَ الْآيَةَ عَلَى شَيْءٍ لَا يَكَادُ يَخْطُرُ فِي ذِهْنِ عَاقِلٍ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ رَدَّ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَقَاوِيلَهُمْ وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ فِي عُقُولِنَا وَأَدْيَانِنَا وَأَبْدَانِنَا، وَكَثِيرًا مَا يَشْحَنُ الْمُفَسِّرُونَ تَفَاسِيرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِعْرَابِ، بِعِلَلِ النَّحْوِ وَدَلَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَدَلَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَكُلُّ هَذَا مُقَرَّرٌ فِي تَآلِيفِ هَذِهِ العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مُسَلَّمًا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ دُونَ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا ذَكَرُوا مَا لَا يَصِحُّ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولٍ وَأَحَادِيثَ فِي الْفَضَائِلِ وَحِكَايَاتٍ لَا تُنَاسِبُ وَتَوَارِيخَ إِسْرَائِيلِيَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي ذِكْرُ هَذَا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ. وَمَنْ أَحَاطَ بِمَعْرِفَةِ مَدْلُولِ الْكَلِمَةِ وَأَحْكَامِهَا قَبْلَ التَّرْكِيبِ، وَعَلِمَ كَيْفِيَّةَ تَرْكِيبِهَا فِي تِلْكَ اللُّغَةِ، وَارْتَقَى إِلَى تَمْيِيزِ حُسْنِ تَرْكِيبِهَا وَقُبْحِهِ، فَلَنْ يَحْتَاجَ فِي فَهْمِ مَا تَرَكَّبَ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ إِلَى مُفَهِّمٍ وَلَا مُعَلِّمٍ، وَإِنَّمَا تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي إِدْرَاكِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ أَفْهَامُهُمْ وَتَبَايَنَتْ أقوالهم.
وقد جرينا الْكَلَامَ يَوْمًا مَعَ بَعْضٍ مَنْ عَاصَرْنَا، فَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ مُضْطَرٌّ إِلَى النَّقْلِ فِي فَهْمِ مَعَانِي تَرَاكِيبِهِ بِالْإِسْنَادِ إِلَى مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَضْرَابِهِمْ، وَأَنَّ فَهْمَ الْآيَاتِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ لَهُ أَنَّهُ يَرَى أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ كَثِيرَةَ الِاخْتِلَافِ، مُتَبَايِنَةَ الْأَوْصَافِ، مُتَعَارِضَةً، يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْمُعَاصِرُ أَنَّهُ لَوْ تَعَلَّمَ أَحَدُنَا مَثَلًا لُغَةَ التُّرْكِ إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا حَتَّى صَارَ يَتَكَلَّمُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا نَثْرًا وَنَظْمًا، وَيَعْرِضُ مَا تَعَلَّمَهُ عَلَى كَلَامِهِمْ فَيَجِدُهُ مُطَابِقًا لِلُغَتِهِمْ قَدْ شَارَكَ فِيهَا فُصَحَاءَهُمْ، ثُمَّ جَاءَهُ كِتَابٌ بِلِسَانِ التُّرْكِ فَيُحْجِمُ عَنْ تَدَبُّرِهِ وَعَنْ فَهْمِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَعَانِي حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ ذلك سنقرا التركي(1/13)
أو سنجرا، تَرَى مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَكَانَ هَذَا الْمُعَاصِرُ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ نَقَلَ فِيهَا التَّفْسِيرَ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ بِالسَّنَدِ إِلَى أَنْ وَصَلَ ذَلِكَ إِلَى الصَّحَابَةِ، وَمِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِيرِهَا هَذَا، وَهُمُ الْعَرَبُ الْفُصَحَاءُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا غَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الصحيفة أو فهما يُؤْتَاهُ الرَّجُلُ فِي كِتَابِهِ.
وَقَوْلُ هَذَا الْمُعَاصِرِ يُخَالِفُ قَوْلَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْمُعَاصِرِ يَكُونُ مَا اسْتَخْرَجَهُ النَّاسُ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِنْ عُلُومِ التَّفْسِيرِ وَمَعَانِيهِ وَدَقَائِقِهِ، وَإِظْهَارِ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا حَتَّى يُنْقَلَ بِالسَّنَدِ إِلَى مُجَاهِدٍ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ.
وَإِذْ قَدْ جُرَّ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا، فَلْنَذْكُرْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرِ مِنَ الْعُلُومِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَنُنَبِّهُ عَلَى أَحْسَنِ الْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي فِي تِلْكَ الْعُلُومِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِيهِ فَنَقُولُ:
النَّظَرُ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ- عِلْمُ اللُّغَةِ اسْمًا وَفِعْلًا وحرفا: الحروف لِقِلَّتِهَا تَكَلَّمَ عَلَى مَعَانِيهَا النُّحَاةُ، فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ، وَأَكْثَرُ الْمَوْضُوعَاتِ فِي عِلْمِ اللُّغَةِ كِتَابُ ابْنِ سِيدَهْ، فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي مِائَةِ سِفْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِالْفَلَكِ وَخَتَمَ بِالذَّرَّةِ. وَمِنَ الْكُتُبِ الْمُطَوَّلَةِ فِيهِ: كِتَابُ الْأَزْهَرِيِّ، وَالْمُوعَبُ لِابْنِ التَّيَّانِيِّ، وَالْمُحْكَمُ لِابْنِ سِيدَهْ، وَكِتَابُ الْجَامِعِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ التَّمِيمِيِّ الْقَيْرَوَانِيِّ، عُرِفَ بِالْقَزَّازِ، وَالصِّحَاحُ لِلْجَوْهَرِيِّ، وَالْبَارِعُ لِأَبِي عَلِيٍّ التالي، وَمَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ لِلصَّاغَانِيِّ. وَقَدْ حَفِظْتُ فِي صِغَرِي فِي عِلْمِ اللُّغَةِ كِتَابَ الْفَصِيحِ لِأَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الشَّيْبَانِيِّ، وَاللُّغَاتِ الْمُحْتَوِي عَلَيْهَا دَوَاوِينُ مَشَاهِيرِ الْعَرَبِ السِّتَّةِ: امْرِئِ الْقَيْسِ، وَالنَّابِغَةِ، وَعَلْقَمَةَ، وَزُهَيْرٍ، وَطَرَفَةَ، وَعَنْتَرَةَ، وَدِيوَانُ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ لِحِفْظِي عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ لِهَذِهِ الدَّوَاوِينِ. وَحَفِظْتُ كَثِيرًا مِنَ اللُّغَاتِ الْمُحْتَوِي عَلَيْهَا نَحْوُ الثُّلُثِ مِنْ كِتَابِ الْحَمَاسَةِ وَاللُّغَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَصَائِدُ مُخْتَارَةٌ مِنْ شِعْرِ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ لِحِفْظِي ذَلِكَ. وَمِنَ الْمَوْضُوعَاتِ فِي الْأَفْعَالِ: كِتَابُ ابْنِ الْقُوطِيَّةِ، وَكِتَابُ ابن طريف، وكتاب السرقنطي الْمَنْبُوزِ «1» بِالْحِمَارِ. وَمِنْ أَجْمَعِهَا: كِتَابُ ابْنِ الْقَطَّاعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي- مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لِلْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جِهَةِ إِفْرَادِهَا وَمِنْ جِهَةِ تَرْكِيبِهَا:
وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ، وَأَحْسَنُ مَوْضُوعٍ فِيهِ وَأَجَلُّهُ كِتَابُ أَبِي بِشْرٍ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
__________
(1) المنبوز: المسمّى على وجه السخرية. وفي التنزيل العزيز: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.(1/14)
قَنْبَرٍ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَحْسَنُ مَا وَضَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمُخْتَصَرَاتِ وَأَجْمَعُهُ لِلْأَحْكَامِ كِتَابُ تَسْهِيلِ الْفَوَائِدِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْجَيَّانِيِّ الطَّائِيِّ، مُقِيمِ دِمَشْقَ.
وَأَحْسَنُ مَا وُضِعَ فِي التَّصْرِيفِ كِتَابُ الممنع لِأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُؤْمِنِ بْنِ عُصْفُورٍ الْحَضْرَمِيِّ الشُّبَيْلِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَخَذْتُ هَذَا الْفَنَّ عَنْ أُسْتَاذِنَا الْأَوْحَدِ الْعَلَّامَةِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن الزبير الثقفي فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ- كَونِ اللَّفْظِ أَوِ التَّرْكِيبِ أَحْسَنَ وَأَفْصَحَ: وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ. وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفَ كَثِيرَةً، وَأَجْمَعُهَا مَا جَمَعَهُ شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الصَّالِحُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن سُلَيْمَانَ النَّقِيبُ، وَذَلِكَ فِي مُجَلَّدَيْنِ قَدَّمَهُمَا أَمَامَ كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَمَا وَضَعَهُ شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْحَافِظُ الْمُتَبَحِّرُ أَبُو الْحَسَنِ حَازِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْقَرْطَاجَنِّيُّ، مُقِيمُ تُونِسَ، الْمُسَمَّى مِنْهَاجُ الْبُلَغَاءِ وَسِرَاجُ الْأُدَبَاءِ. وَقَدْ أَخَذْتُ جُمْلَةً مِنْ هَذَا الْفَنِّ عَنْ أُسْتَاذِنَا أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ- تَعْيِينُ مُبْهَمٍ، وَتَبْيِينُ مُجْمَلٍ، وَسَبَبُ نُزُولٍ وَنَسْخٍ: وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنَ النَّقْلِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْكُتُبُ وَالْأُمَّهَاتُ الَّتِي سَمِعْنَاهَا وَرَوَيْنَاهَا ذَلِكَ، كَالصَّحِيحَيْنِ، وَالْجَامِعِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَسُنَنِ الشَّافِعِيِّ، وَمَسْنَدِ الدَّارِمِيِّ، وَمُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ، وَمُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَسُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ، وَالْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ لَهُ، وَمُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ- مَعْرِفَةُ الْإِجْمَالِ، وَالتَّبْيِينِ، وَالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ، وَالْإِطْلَاقِ، وَالتَّقْيِيدِ، وَدَلَالَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا: وَيَخْتَصُّ أَكْثَرُ هَذَا الْوَجْهِ بِجُزْءِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُؤْخَذُ هُنَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمُعْظَمِهِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِعِلْمِ اللُّغَةِ، إِذْ هُوَ شَيْءٌ يُتَكَلَّمُ فِيهِ عَلَى أَوْضَاعِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ اللُّغَوِيِّينَ أَوِ النَّحْوِيِّينَ وَمَزَجُوهُ بِأَشْيَاءَ مِنْ حُجَجِ الْعُقُولِ. وَمِنْ أَجْمَعَ مَا فِي هَذَا الْفَنِّ في كِتَابُ الْمَحْصُولِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عمر الرَّازِيِّ. وَقَدْ بَحَثْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ فِي كِتَابِ الْإِشَارَةِ لِأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ عَلَى الشَّيْخِ الْأُصُولِيِّ الْأَدِيبِ أَبِي الْحَسَنِ فَضْلِ بْنِ إبراهيم العافري، الْإِمَامِ بِجَامِعِ غَرْنَاطَةَ، وَالْخَطِيبِ بِهِ، وَعَلَى الْأُسْتَاذِ الْعَلَّامَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي كِتَابِ الْإِشَارَةِ، وَفِي شَرْحِهَا لَهُ، وَذَلِك بِالْأَنْدَلُسِ. وَبَحَثْتُ أَيْضًا فِي هَذَا الْفَنِّ عَلَى الشَّيْخِ عَلَمِ الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ علي بن عمر الأنصاري، المعروف بابن بنت العراقي، فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي اخْتَصَرَهُ مِنْ كِتَابِ الْمَحْصُولِ،(1/15)
وَعَلَى الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ عَلِيُّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَطَّابٍ الْبَاجِيِّ، فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي اخْتَصَرَهُ مِنْ كِتَابِ الْمَحْصُولِ، وَعَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ الْأَصْبَهَانِيِّ، صَاحِبِ شَرْحِ الْمَحْصُولِ، بَحَثْتُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْقَوَاعِدِ، مِنْ تَأْلِيفِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْوَجْهُ السَّادِسُ- الْكَلَامُ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَجِبُ لَهُ، وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرُ فِي النُّبُوَّةِ: وَيَخْتَصُّ هَذَا الْوَجْهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ النَّظَرَ فِي الْبَارِي تَعَالَى، وَفِي الْأَنْبِيَاءِ، وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَيُؤْخَذُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَدْ صَنَّفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ فِي هَذَا كُتُبًا كَثِيرَةً، وَهُوَ عِلْمٌ صَعْبٌ، إِذِ الْمَزَلَّةُ فِيهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، مُفْضٍ إِلَى الْخُسْرَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْهُ مَسَائِلَ تُبْحَثُ عَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ- اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، أَوْ تَغْيِيرِ حَرَكَةٍ، أَوْ إِتْيَانٍ بِلَفْظٍ بَدَلَ لَفْظٍ، وَذَلِكَ بِتَوَاتُرٍ وَآحَادٍ: وَيُؤْخَذُ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ. وَقَدْ صَنَّفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ كُتُبًا لَا تَكَادُ تُحْصَى، وَأَحْسَنُ الْمَوْضُوعَاتِ فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ كِتَابُ الْإِقْنَاعِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَاذِشِ، وَفِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرَةِ كِتَابُ الْمِصْبَاحِ لِأَبِي الْكَرَمِ الشَّهْرَزُورِيِّ. وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَةِ السَّبْعَةِ، بِجَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ، عَلَى الْخَطِيبِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرُّعَيْنِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ الطَّبَّاعِ، بِغَرْنَاطَةَ، وَعَلَى الْخَطِيبِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ الْوَادِي تِشِبْتِي، بِمِطِحْشَارِشَ، مِنْ حَضْرَةِ غَرْنَاطَةَ، وَعَلَى غَيْرِهِمَا بِالْأَنْدَلُسِ. وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ بِالْقِرَاءَاتِ الثَّمَانِ، بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، عَلَى الشَّيْخِ الصَّالِحِ رَشِيدِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ النَّصِيرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْهَمْدَانِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ الْمَرْبُوطِيِّ.
وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ، بِمِصْرَ، حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى، عَلَى الشَّيْخِ الْمُسْنِدِ الْعَدْلِ فَخْرِ الدِّينِ أَبِي الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَلِيجِيِّ، وَأَنْشَأْتُ فِي هَذَا العلم كتاب عقد اللآلي، قَصِيدًا فِي عَرُوضِ قَصِيدِ الشَّاطِبِيِّ، وَرَوِيِّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفِ بَيْتٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَيْتًا، صَرَّحْتُ فِيهَا بِأَسَامِي الْقُرَّاءِ مِنْ غَيْرِ رَمْزٍ وَلَا لُغْزٍ وَلَا حُوشِيِّ لُغَةٍ، وَأَنْشَأْتُهُ مِنْ كُتُبٍ تِسْعَةٍ، كَمَا قُلْتُ:
تَنَظَّمَ هَذَا الْعِقْدُ مِنْ دُرِّ تِسْعَةٍ ... مِنَ الْكُتْبِ فَالتَّيْسِيرُ عُنْوَانُهُ انْجَلَا
بِكَافٍ لِتَجْرِيدٍ وَهَادٍ لِتَبْصِرَهْ ... وَإِقْنَاعِ تَلْخِيصَيْنِ أَضْحَى مُكَمَّلَا
جَنَيْتُ لَهُ إِنْسِيَّ لَفْظِ لَطِيفَهُ ... وَجَانَبْتُ وَحْشِيًّا كَثِيفًا مُعَقَّلَا(1/16)
فَهَذِهِ سَبْعَةُ وُجُوهٍ، لَا ينبغي أن يُقْدِمُ عَلَى تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِجُمْلَةِ غَالِبِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَرْتَقِي مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ ذِرْوَتَهُ، وَلَا يَمْتَطِي مِنْهُ صَهْوَتَهُ، إِلَّا مَنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي عِلْمِ اللِّسَانِ، مُتَرَقِّيًا مِنْهُ إِلَى رُتْبَةِ الْإِحْسَانِ، قَدْ جُبِلَ طَبْعُهُ عَلَى إِنْشَاءِ النَّثْرِ وَالنَّظْمِ دُونَ اكْتِسَابٍ، وَإِبْدَاءِ مَا اخْتَرَعَتْهُ فِكْرَتُهُ السَّلِيمَةُ فِي أَبْدَعِ صُورَةٍ وَأَجْمَلِ جِلْبَابٍ، وَاسْتَفْرَغَ فِي ذَلِكَ زَمَانَهُ النَّفِيسَ، وَهَجَرَ الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ وَالْأَنِيسَ، ذَلِكَ الَّذِي لَهُ فِي رِيَاضِهِ أَصْفَى مَرْتَعٍ، وَفِي حِيَاضِهِ أَصْفَى مَكْرَعٍ، يَتَنَسَّمُ عُرْفَ أَزَاهِرَ طال ما حجبتها الكمام، ويترشف كؤوس رَحِيقٍ لَهُ الْمِسْكُ خِتَامٌ، وَيَسْتَوْضِحُ أَنْوَارَ بُدُورٍ سَتَرَتْهَا كَثَائِفُ الْغَمَامِ، وَيَسْتَفْتِحُ أَبْوَابَ مَوَاهِبِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، يُدْرِكُ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ بِالْوِجْدَانِ لَا بِالتَّقْلِيدِ، وَيَنْفَتِحُ لَهُ مَا اسْتَغْلَقَ إِذْ بِيَدِهِ الْإِقْلِيدُ.
وَأَمَّا مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى غَيْرِ هَذَا مِنَ الْعُلُومِ، أَوْ قَصَّرَ فِي إِنْشَاءِ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ، فَإِنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ فَهْمِ غَوَامِضِ الْكِتَابِ، وَعَنْ إِدْرَاكِ لِطَائِفِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْعَجَبِ الْعُجَابِ، وَحَظُّهُ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ إِنَّمَا هُوَ نَقْلُ أَسْطَارٍ، وَتَكْرَارُ مَحْفُوظٍ عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، وَلِتَبَايُنِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي إِدْرَاكِ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ، وما به تكون الرّجاجة فِي النِّظَامِ، اخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ، فَمَنْ تَوَغَّلَ فِي أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ وَأَفَانِينِهَا، وَتَوَقَّلَ فِي مَعَارِفِ الْآدَابِ وَقَوَانِينِهَا، أَدْرَكَ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا، وَنِهَايَةٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَامَ عَلَيْهَا، فَمُعَارَضَتُهُ عِنْدَهُ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لِلْبَشَرِ، وَلَا دَاخِلَةٍ تَحْتَ الْقَدَرِ. وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ هَذَا الْمُدْرَكَ، وَلَا سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ، رَأَى أَنَّهُ مِنْ نَمَطِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ مِثْلَهُ مَقْدُورٌ لِمُنْشِئِ الْخُطَبِ. فَإِعْجَازُهُ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ بِصَرْفِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَمُنَاضَلَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى مُمَاثَلَتِهِ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِالصَّرْفِ، هُمْ مِنْ نُقْصَانِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي رُتْبَةِ بَعْضِ النِّسَاءِ حِينَ رَأَتْ زَوْجَهَا يطؤ جَارِيَةً فَعَاتَبَتْهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَا وَطِئَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَاقْرَأْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَنْشَدَهَا بَيْتَ شِعْرٍ قَالَهُ، ذَكَرَ اللَّهَ فِيهِ وَرَسُولَهُ وَكِتَابَهُ، فَصَدَّقَتْهُ، فَلَمْ تُرْزَقْ مِنَ الرِّزْقِ مَا تُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ كَلَامِ الْخَلْقِ وَكَلَامِ الْحَقِّ.
وَحَكَى لَنَا أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْعُلُومِ الْقَدِيمَةِ، وَمَعْرِفَةٌ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، لَا أُدْرِكُ فَرْقًا بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ. فَهَذَا الرَّجُلُ وَأَمْثَالُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ مِنَ الطَّائِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِالصِّرْفَةِ. وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا مِمَّنْ لَهُ تَحَقُّقٌ(1/17)
بِالْمَعْقُولِ، وَتَصَرُّفٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْقُولِ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فَقَرَأَ فَصِيحَةً، أَتَى لِبَعْضِ تَلَامِذَتِهِ وَكَلَّفَهُ أَنْ يُنْشِئَهَا لَهُ. وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا، مِمَّنْ لَهُ التَّبَحُّرُ فِي عِلْمِ لُغَةِ الْعَرَبِ، إِذَا أَسْقَطَ مِنْ بَيْتِ الشِّعْرِ كَلِمَةً أَوْ رُبْعَ الْبَيْتِ، وَكَانَ الْمُعَيَّنُ بِدُونِ مَا أَسْقَطَ لَا يُدْرَكُ مَا أَسْقَطَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَيْنَ هَذَا فِي الْإِدْرَاكِ مِنْ آخَرَ إِذَا حَرَّكْتَ لَهُ مُسَكَّنًا أَوْ سَكَّنْتَ لَهُ مُحَرَّكًا فِي بَيْتٍ أَدْرَكَ ذَلِكَ بِالطَّبْعِ وَقَالَ إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ مَكْسُورٌ، وَيُدْرَكُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ، إِذَا كَانَ فِيهِ زِحَافٌ مَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لَكِنْ يَجِدُ مِثْلَ هَذَا طَبْعُهُ يَنْبُو عَنْهُ وَيَقْلَقُ لِسَمَاعِهِ. هَذَا، وإن كان لا يفهم مَعْنَى الْبَيْتِ، لِكَوْنِهِ حُوشِيَّ اللُّغَاتِ أَوْ مُنْطَوِيًا عَلَى حُوشِيٍّ.
فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَوَاهِبِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا تُؤْخَذُ بِاكْتِسَابٍ، لَكِنَّ الِاكْتِسَابَ يُقَوِّيهَا، وَلَيْسَ الْعَرَبُ مُتَسَاوِينَ فِي الْفَصَاحَةِ، وَلَا فِي إِدْرَاكِ الْمَعَانِي، وَلَا فِي نَظْمِ الشِّعْرِ، بَلْ فِيهِ مَنْ يَكْسِرُ الْوَزْنَ، وَمَنْ لَا يَنْظِمُ وَلَا بَيْتًا وَاحِدًا، وَمَنْ هُوَ مُقِلٌّ مِنَ النَّظْمِ، وَطِبَاعُهُمْ كَطِبَاعِ سَائِرِ الْأُمَمِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى فَحَوْلِ شُعَرَائِهِمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْفَصَاحَةِ، وَيُنَقِّحُ الشَّاعِرُ مِنْهُمُ الْقَصِيدَةَ حَوْلًا حَتَّى يُسَمَّى قَصَايِدَ الْحَوْلِيَّاتِ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ كَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ أَدْرَكَ إِعْجَازَهُ لِلْوَقْتِ، فَوُفِّقَ وَأَسْلَمَ، وَآخَرُ أَدْرَكَ إِعْجَازَهُ فَكَفَرَ، وَلَجَّ فِي عِنَادِهِ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَنَسَبَهُ تَارَةً إِلَى الشِّعْرِ وَتَارَةً إِلَى الْكَهَانَةِ وَالسِّحْرِ، وَآخَرُ لَمْ يُدْرِكْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، كَتِلْكَ الْمَرْأَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، وَكَحَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ. فَمَنْ أَدْرَكَ إِعْجَازَهُ، فَوُفِّقَ وَأَسْلَمَ بِأَوَّلِ سَمَاعٍ سَمِعَهُ، أَبُو ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مِنْ أَوَائِلِ فُصِّلَتْ آيَاتٍ فَأَسْلَمَ لِلْوَقْتِ، وَخَبَرُهُ فِي إِسْلَامِهِ مَشْهُورٌ.
وَمِمَّنْ أَدْرَكَ إِعْجَازَهُ وَكَفَرَ عِنَادًا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الْكُفَّارِ، حَتَّى كَانَ يَتَوَهَّمُ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ أَنَّهُ هُوَ، يَعْنِي عُتْبَةَ يَكُونُ النَّبِيَّ الْمُنْبَعَثَ فِي قُرَيْشٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَسَدَهُ عُتْبَةُ وَأَضْرَابُهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُعْجِزٌ. وَكَذَلِكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ،
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي مَخْزُومٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ آنِفًا كَلَامًا مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْإِنْسِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ، إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّهُ يَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَمَعَ هَذَا الِاعْتِرَافِ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَسَدُ وَالْأَشَرُ، حَتَّى قَالَ، مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ.
وَمِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ إِعْجَازَهُ، أَوْ أَدْرَكَ وَعَانَدَ وَعَارَضَ، مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، أَتَى بِكَلِمَاتٍ زَعَمَ أَنَّهَا أُوحِيَتْ إِلَيْهِ، انْتَهَتْ فِي الْفَهَاهَةِ وَالْعِيِّ وَالْغَثَاثَةِ، بِحَيْثُ صَارَتْ هُزْأَةً لِلسَّامِعِ،(1/18)
وكذلك أبو الطيب المتنبئ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ، فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، شَيْئًا مِنْ كَلَامِ أَبِي الطَّيِّبِ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ. وَذَكَرَ لَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ وَهْبٍ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَاتَّبَعَهُ نَاسٌ مِنْ عَبْسٍ وَكَلْبٍ، وَأَنَّهُ اخْتَلَقَ شَيْئًا ادَّعَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ سُوَرًا سَمَّاهَا الْعِبَرَ، وَأَنَّ شِعْرَهُ لَا يُنَاسِبُهَا لِجَوْدَةِ أَكْثَرِهِ وَرَدَاءَتِهَا كُلِّهَا، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْكَلَامِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ أَذْهَانَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْإِدْرَاكِ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعْطَى كُلَّ أَحَدٍ.
وَلِنُبَيِّنَ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ لَيْسَ مُتَوَقِّفًا عَلَى عِلْمِ النَّحْوِ فَقَطْ، كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ هُمْ بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلِذَلِكَ قَلَّتْ تَصَانِيفُهُمْ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَقَلَّ أَنْ تَرَى نَحْوِيًّا بَارِعًا فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، كَمَا قَلَّ أَنْ تَرَى بَارِعًا فِي الْفَصَاحَةِ يَتَوَغَّلُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ رَأَيْنَا مَنْ يُنْسَبُ لِلْإِمَامَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهُوَ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَنْطِقَ بِأَبْيَاتٍ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفَ مَدْلُولَهَا، أَوْ يَتَكَلَّمَ عَلَى مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ. فَأَنَّى لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَعَاطَى عِلْمَ التَّفْسِيرِ؟.
وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ مَا نَصُّهُ: إِنَّ إملاء الْعُلُومِ بِمَا يَغْمُرُ الْقَرَائِحَ، وَأَنْهَضَهَا بِمَا يُبْهِرُ الْأَلْبَابَ الْقَوَارِحَ، مِنْ غَرَائِبِ نُكَتٍ يَلْطُفُ مَسْلَكُهَا، وَمُسْتَوْدَعَاتِ أَسْرَارٍ يدق سلكها. عِلْمُ التَّفْسِيرِ الَّذِي لَا يَتِمُّ لِتَعَاطِيهِ، وَإِجَالَةِ النَّظَرِ فِيهِ، كُلُّ ذِي عِلْمٍ، كَمَا ذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ نَظْمِ الْقُرْآنِ، فَالْفَقِيهُ، وَإِنْ بَرَّزَ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي عِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ، وَالْمُتَكَلِّمُ، وَإِنْ بَزَّ أَهْلَ الدُّنْيَا فِي صِنَاعَةِ الْكَلَامِ، وَحَافِظُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ مِنِ ابْنِ الْقِرِّيَّةِ أَحْفَظَ، وَالْوَاعِظُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَوْعَظَ، وَالنَّحْوِيُّ، وَإِنْ كَانَ أَنْحَى مِنْ سِيبَوَيْهِ، وَاللُّغَوِيُّ، وَإِنْ عَلَكَ اللُّغَاتِ بِقُوَّةِ لَحْيَيْهِ، لَا يَتَصَدَّى مِنْهُمْ أَحَدٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ الطَّرَائِقِ، وَلَا يَغُوصُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، إِلَّا رَجُلٌ قَدْ بَرَعَ فِي عِلْمَيْنِ مُخْتَصَّيْنِ بِالْقُرْآنِ، وَهُمَا الْمَعَانِي وَعِلْمُ الْبَيَانِ، وَتَمَهَّلَ فِي ارْتِيَادِهِمَا آوِنَةً، وَتَعِبَ فِي التَّنْقِيرِ عَنْهُمَا أَزْمِنَةً، وَبَعَثَتْهُ عَلَى تَتَبُّعِ مَظَانِّهِمَا هِمَّةٌ فِي مَعْرِفَةِ لَطَائِفِ حُجَّةِ اللَّهِ، وَحَرِصَ عَلَى اسْتِيضَاحِ مُعْجِزَةِ رَسُولِ اللَّهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ آخِذًا مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ بِحَظٍّ، جَامِعًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ تَحْقِيقٍ وَحِفْظٍ، كَثِيرَ الْمُطَالَعَاتِ، طَوِيلَ الْمُرَاجَعَاتِ، قَدْ رَجَعَ زَمَانًا وَرُجِعَ إِلَيْهِ، وَرَدَّ وَرُدَّ عَلَيْهِ، فَارِسًا فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، مُقَدَّمًا فِي جُمْلَةِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَرْسِلَ الطَّبِيعَةِ مُنْقَادَهَا، مُشْتَعِلَ الْقَرِيحَةِ وقادها، يقظان النفس درا كاللمحجة وَإِنْ لَطُفَ شَأْنُهَا، مُنْتَبِهًا عَلَى الرَّمْزَةِ وَإِنْ خَفِيَ مَكَانُهَا، لَا كَزًّا جَاسِيًا، وَلَا غَلِيظًا جَافِيًا، مُتَصَرِّفًا ذَا(1/19)
دُرْبَةٍ بِأَسَالِيبِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، مُرْتَاضًا غَيْرَ رَيِّضٍ بِتَلْقِيحِ نَبَاتِ الْفِكْرِ، قَدْ عَلِمَ كَيْفَ يُرَتِّبُ الْكَلَامَ وَيُؤَلِّفُ، وَكَيْفَ يَنْظِمُ وَيَرْصُفُ، طَالَمَا دُفِعَ إِلَى مَضَايِقِهِ، وَوَقَعَ فِي مَدَاحِضِهِ وَمَزَالِقِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي وَصْفِ مُتَعَاطِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا الْكَلَامَ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ التَّرْصِيفِ الَّذِي يُبْهِرُ بِجِنْسِهِ الْأُدَبَاءَ، وَيَقْهَرُ بِفَصَاحَتِهِ الْبُلَغَاءَ، وَهُوَ شَاهِدٌ لَهُ بِأَهْلِيَّتِهِ لِلنَّظَرِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَاسْتِخْرَاجِ لَطَائِفِ الْفُرْقَانِ.
وَهَذَا أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الْمَشْرِقِيُّ الْخَوَارِزْمِيُّ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو محمد عبد الحق بن غَالِبِ بْنِ عَطِيَّةَ الْأَنْدَلُسِيُّ الْمَغْرِبِيُّ الْغَرْنَاطِيُّ، أَجَلُّ مَنْ صنف في علم التفسير، وَأَفْضَلُ مَنْ تَعَرَّضَ لِلتَّنْقِيحِ فِيهِ وَالتَّحْرِيرِ. وَقَدِ اشْتُهِرَا وَلَا كَاشْتِهَارِ الشَّمْسِ، وَخُلِّدَا فِي الْأَحْيَاءِ وَإِنْ هَدَانِي فِي الرَّمْسِ، وَكَلَامُهُمَا فِيهِ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِهِمَا فِي عُلُومٍ، مِنْ مَنْثُورٍ وَمَنْظُومٍ، وَمَنْقُولٍ وَمَفْهُومٍ، وَتَقَلُّبٍ فِي فُنُونِ الْآدَابِ، وَتَمَكُّنٍ مِنْ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْإِعْرَابِ، وَفِي خُطْبَتَي كِتَابَيْهِمَا وَفِي غُضُونِ كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا فَارِسَا مَيْدَانٍ، وَمُمَارِسَا فَصَاحَةٍ وَبَيَانٍ.
وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ تَصَانِيفُ غَيْرَ تَفْسِيرِهِ، مِنْهَا: الْفَائِقُ فِي لُغَاتِ الْحَدِيثِ، وَمُخْتَلِفُ الْأَسْمَاءِ وَمُؤْتَلِفُهَا، وَرَبِيعُ الْأَبْرَارِ، وَالرَّائِضُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْمُفَصَّلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرٍ الْفَتْحُ بْنُ خَاقَانَ الْأَشْبِيلِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى قَلَائِدُ الْعِقْيَانِ وَمَحَاسِنُ الْأَعْيَانِ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: فِيهِ نَبْعَةُ رُوحِ الْعُلَا، وَمُحْرِزُ مَلَابِسِ الثَّنَا، فَذُّ الْجَلَالَةِ، وَوَاحِدُ الْعَصْرِ وَالْأَصَالَةِ، وَقَارٌ كَمَا رَسَا الْهَضْبُ، وَأَدَبٌ كَمَا اطَّرَدَ السَّلْسَلُ الْعَذْبُ، أَثَرُهُ فِي كُلِّ مَعْرِفَةٍ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ، وَطَوَالِعُهُ فِي آفَاقِهَا صُبْحٌ وَنَهَارٌ. وَقَدْ أَثْبَتَ مِنْ نَظْمِهِ مَا يَنْفَحُ عَبِيرًا، وَيَتَّضِحُ مُنِيرًا، وَأَوْرَدَ لَهُ نَثْرًا كَمَا نَظَمَ قَلَائِدَ، وَنَظْمًا تَزْدَانُ بِمِثْلِهِ أَجْيَادُ الْوَلَائِدِ، مِنْ أَلْفَاظٍ عَذْبَةٍ تَسْتَنْزِلُ بِرِقَّتِهَا الْعَصِمَ، وَمَعَانٍ مُبْتَكَرَةٍ تُفْحِمُ الْأَلَدَّ الْخَصِمَ، أَبْقَتْ لَهُ ذِكْرًا مُخَلَّدًا عَلَى جَبِينِ الدَّهْرِ، وَعُرْفًا أَرِجًا كَتَضَوُّعِ الزَّهْرِ.
وَلَمَّا كَانَ كِتَابَاهُمَا فِي التَّفْسِيرِ قَدْ أَنْجَدَا وَأَغَارَا، وَأَشْرَقَا فِي سَمَاءِ هَذَا الْعِلْمِ بَدْرَيْنِ وَأَنَارَا، وَتَنَزَّلَا مِنَ الْكُتُبِ التَّفْسِيرِيَّةِ مَنْزِلَةَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْعَيْنِ، وَالذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنَ الْعَيْنِ، وَيَتِيمَةِ الدر من اللآلي، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّيَالِي، فَعَكَفَ النَّاسُ شَرْقًا وَغَرْبًا عَلَيْهِمَا، وَثَنَوْا أَعِنَّةَ الِاعْتِنَاءِ إِلَيْهِمَا. وَكَانَ فِيهِمَا عَلَى جَلَالَتِهِمَا مَجَالٌ لِانْتِقَادِ ذَوِي التَّبْرِيزِ، وَمَسْرَحٌ لِلتَّخْيِيلِ فِيهِمَا وَالتَّمْيِيزِ، ثَنَيْتُ إِلَيْهِمَا عَنَانَ الِانْتِقَادِ، وَحَلَلْتُ مَا تَخَيَّلَ النَّاسُ فِيهِمَا مِنَ الِاعْتِقَادِ. أَنَّهُمَا(1/20)
فِي التَّفْسِيرِ الْغَايَةُ الَّتِي لَا تُدْرَكُ، وَالْمَسْلَكُ الْوَعِرُ الَّذِي لَا يَكَادُ يُسْلَكُ، وَعَرَضْتُهُمَا عَلَى مَحْكِ النَّظَرِ، وَأَوْرَيْتُ فِيهِمَا نَارَ الْفِكْرِ، حَتَّى خَلُصَ دَسِيسُهُمَا، وَبَرَزَ نَفِيسُهُمَا، وَسَيَرَى ذَلِكَ مَنْ هُوَ لِلنَّظَرِ أَهْلٌ، وَاجْتَمَعَ فِيهِ إِنْصَافٌ وَعَدْلٌ، فَإِنَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنَ التَّوَلُّجِ عَلَى الضَّرَاغِمِ، وَالتَّحَرُّزِ لِأَشْبَالِهَا وَالْأَنْفُ رَاغِمٌ، إِذْ هَذَانِ الرَّجُلَانِ هُمَا فَارِسَا عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَمُمَارِسَا تَحْرِيرَهُ وَالتَّحْبِيرَ. نَشَرَاهُ نَشْرًا، وَطَارَ لَهُمَا بِهِ ذِكْرًا، وَكَانَا مُتَعَاصِرَيْنِ فِي الْحَيَاةِ، مُتَقَارِبِينَ فِي الْمَمَاتِ.
وُلِدَ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِزَمَخْشَرَ، قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى خُوَارِزْمَ، يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، السَّابِعَ عَشَرَ لِرَجَبٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وأربعمائة، وتوفي بگرگانج، قَصَبَةِ خُوَارِزْمَ، لَيْلَةَ عَرَفَةَ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَوُلِدَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَالِبِ بْنِ تَمَّامِ بْنِ عَبْدِ الرؤوف بن عبد الله بن تَمَّامِ بْنِ عَطِيَّةَ الْمُحَارِبِيُّ، مِنْ أَهْلِ غَرْنَاطَةَ، سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بِلُورْقَةَ، فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ لِرَمَضَانَ، سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي وَفَاةِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بَشْكُوَالٍ: تُوُفِّيَ، يَعْنِي ابْنَ عَطِيَّةَ، سَنَةَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَكِتَابُ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنْقَلُ وَأَجْمَعُ وَأَخْلَصُ، وَكِتَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَلْخَصُ وَأَغْوَصُ، إِلَّا أن الزمخشري قائل بالطفرة، وَمُقْتَصِرٌ مِنَ الذُّؤَابَةِ عَلَى الْوَفْرَةِ، فَرُبَّمَا سَنَحَ لَهُ آبِي الْمَقَادَةِ فَأَعْجَزَهُ اغْتِيَاصُهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ لِتَأَنِّيهِ اقْتِنَاصُهُ، فَتَرَكَهُ عَقْلًا لِمَنْ يَصْطَادُهُ، وَغَفْلًا لِمَنْ يَرْتَادُهُ، وَرُبَّمَا نَاقَضَ هَذَا الْمَنْزَعَ، فَثَنَى الْعِنَانَ إِلَى الْوَاضِحِ، وَالسَّهْلِ اللَّائِحِ، وَأَجَالَ فِيهِ كَلَامًا، وَرَمَى نَحْوَ غَرَضِهِ سِهَامًا، هَذَا مَعَ مَا فِي كِتَابِهِ مِنْ نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، وَتَقَحُّمِ مُرْتَكِبِهِ، وَتَجَشُّمِ حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَنِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَمُغْتَفَرٌ إِسَاءَتُهُ لِإِحْسَانِهِ، وَمَصْفُوحٌ عَنْ سَقْطِهِ فِي بَعْضٍ لِإِصَابَتِهِ فِي أَكْثَرِ تِبْيَانِهِ، فما كان في كِتَابِي هَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَخْبَرَنِي بِهِ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِجَازَةً أَيَّامَ كُنْتُ أَبْحَثُ مَعَهُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، عَنِ الْقَاضِي ابْنِ الْخَطَّابِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلِيلٍ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي طَاهِرٍ بَرَكَاتِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طاهر الخشوعي وَأَخْبَرَنِي بِهِ عَالِيًا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِهِ إِلَيَّ مِنْ دِمَشْقَ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الْخُشُوعِيِّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ.(1/21)
وَمَا كَانَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، فَأَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْقُرَشِيُّ، قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ لِبَعْضِهِ. وَمُنَاوَلَةً عَنِ الْحَافِظِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ سَالِمٍ الْكُلَاعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، يُعْرَفُ بِابْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بِهِ مُصَنِّفُهُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ لِجَمِيعِهِ، وَأَخْبَرَنِي بِهِ عَالِيًا الْقَاضِي الْأُصُولِيُّ الْمُتَكَلِّمُ أَبُو الْحَسَنِ محمد بن الْقَاضِي الْأُصُولِيِّ الْمُتَكَلِّمِ أَبِي عَامِرٍ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْعَرِيِّ نَسَبًا وَمَذْهَبًا، إِجَازَةً كَتَبَهَا لِي بِخَطِّهِ بِغَرْنَاطَةَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْغَافِقِيِّ الشَّقُورِيِّ بِقُرْطُبَةَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ.
وَاعْتَمَدْتُ، فِي أَكْثَرِ نَقُولِ كِتَابِي هَذَا، عَلَى كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ لِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ، مِنْ جَمْعِ شَيْخِنَا الصَّالِحِ الْقُدْوَةِ الْأَدِيبِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ الْمَقْدِسِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ، رَحِمَهُ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ أَكْبَرُ كِتَابٍ رَأَيْنَاهُ صُنِّفَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، يَبْلُغُ فِي الْعَدَدِ مِائَةَ سِفْرٍ أَوْ يَكَادُ، إِلَّا أَنَّهُ كَثِيرُ التَّكْرِيرِ، قَلِيلُ التَّحْرِيرِ، مُفْرِطُ الْإِسْهَابِ، لَمْ يُعَدَّ جَامِعُهُ مِنْ نَسْخٍ كُتِبَ فِي كِتَابِهِ، كَذَلِكَ كَانَ فِيهِ بِحَالِ التَّهْذِيبِ وَمُرَادِ التَّرْتِيبِ.
وَهَذَا الْكِتَابُ رِوَايَتِي بِالْإِجَازَةِ مِنْ جَامِعِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ شَاهَدْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ حِينَ جَمَعَهُ يَقُولُ لِلنَّاسِخِ: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: اكْتُبْ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا. وَيَنْقُلُ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الَّتِي اعْتَمَدَهَا، وَيَعْزُو فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ مَا يُنْقَلُ مِنْهَا إِلَى مُصَنِّفِ ذَلِكَ الْكِتَابِ. وَكَانَ فِيهِ فَضِيلَةُ أَدَبٍ، وَلَهُ نَثْرٌ وَنَظْمٌ مُتَوَسِّطٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنِّي قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمَاعَةٍ من المقرءين، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَا الْآنَ أُسْنِدُ قِرَاءَتِي الْقُرْآنَ، مِنْ بَعْضِ الطُّرُقِ، وَأَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا وَرَدَ فِي القرآن وفضائله وتفسيره، على سبيل الاختصار، فأقول: قرأت الْقُرْآنِ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي نَنْشَأُ عَلَيْهَا بِبِلَادِنَا وَنَتَعَلَّمُهَا أَوَّلًا فِي الْمَكْتَبِ عَلَى الْمُسْنِدِ الْمُعَمَّرِ الْعَدْلِ أَبِي طَاهِرٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ علي المليجي، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي الْجُودِ غِيَاثِ بْنِ فَارِسِ بْنِ مَكِّيٍّ المنذري، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي الْفُتُوحِ نَاصِرِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الزيدي، بمصر.
وقرأتها عَلَى أَبِي الْحَسَنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الفرج الخشاب، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نَفِيسٍ، بمصر. وقرأتها عَلَى ابْنِ عَدِيٍّ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ(1/22)
مُحَمَّدٍ، عُرِفَ بِابْنِ الْإِمَامِ، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن مالك بن سيف، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَيَّارٍ، وَيُقَالُ يَسَارٍ الْأَزْرَقِ، بمصر.
وقرأتها عَلَى أَبِي عَمْرٍو عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَدِيٍّ، الملقب بورش، بمصر. وقرأتها عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، بِمَدِينَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ يَزِيدُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْمُنْذِرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ دَائِرٌ بَيْنَ مِصْرِيٍّ وَمَدَنِيٍّ.
فَمِنْ شَيْخِي إِلَى وَرْشٍ مِصْرِيُّونَ، وَمِنْ نَافِعٍ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ مَدَنِيُّونَ. وَمِثْلُ هَذَا الْإِسْنَادِ عَزِيزُ الْوُجُودِ، بَيْنِي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عَشَرَ رَجُلًا، وَهَذَا مِنْ أَعْلَى الْأَسَانِيدِ الَّتِي وَقَعَتْ لِي.
وَقَدْ وَقَعَ لِي فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَى عَشَرَ رَجُلًا، وَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي يَنْشَأُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ أَعْلَى مَا وَقَعَ لِأَمْثَالِنَا. وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى أَبِي الطاهر بن الْمَلِيجِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْجُودِ، قَالَ:
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْفُتُوحِ الزَّيْدِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أحمد الْأَبْهَرِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَهْوَازِيِّ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُثْمَانَ الغضايري، وقرأ الغضائري عَلَى أَبِي بَكْرٍ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مِهْرَانَ الْوَاسِطِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ الْعُلَيْمِيِّ الْكُوفِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَاصِمٍ، وَقَرَأَ عاصم على ابني عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ السُّلَمِيِّ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وعبد الله بن مسعود، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَفَضَائِلِهِ، فَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، كَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ، وَغَيْرِهِ.
وَمِمَّا
رُوِيَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، قِيلَ: فَمَا النجاة منها يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ فَصْلٌ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ تَجَبُّرًا قَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَنُورُهُ الْمُبِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالصِّرَاطُ(1/23)
الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَتَشَعَّبُ مَعَهُ الْآرَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَمَلُّهُ الْأَتْقِيَاءُ، مَنْ عَلِمَ عِلْمَهُ سَبَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عُصِمَ بِهِ فَقَدَ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ» .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتْلُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْجُرُكُمْ بِالْحَرْفِ عَشْرَ حسنات، وأما إِنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنِ الْأَلِفُ حَرْفٌ وَاللَّامُ حَرْفٌ وَالْمِيمُ حَرْفٌ» .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ، فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، وَهُوَ مَرِيضٌ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، إِنَّهُ لَنْ تَعْمَى أَبْصَارُكُمْ، وَلَنْ تَضِلَّ قُلُوبُكُمْ، وَلَنْ تَزِلَّ أَقْدَامُكُمْ، وَلَنْ تَقْصُرَ أَيْدِيكُمْ، كِتَابُ اللَّهِ سَبَبٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، طَرَفُهُ بِيَدِهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، أَلَا وَأَهْلُ بَيْتِي وَعِتْرَتِي، وَهُوَ الثَّقَلُ الْآخَرُ، فَلَا تَسُبُّوهُمْ فَتَهْلِكُوا» .
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُوتِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُوتِيَ، فَقَدِ اسْتَصْغَرَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ» .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ شَفِيعٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقُرْآنِ، لَا نَبِيَّ وَلَا مَلِكَ» .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي بالقرآن» .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَشْرَفُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ» .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَرَأَ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ لَمْ يُحَاجَّهُ الْقُرْآنُ» .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَا حَلَّ مُصَدِّقٌ، مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ نَجَا، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَأَحَقُّ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ أَهْلُهُ وَحَمَلَتُهُ، وَأَوْلَى مَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ مَنْ عَدَلَ عَنْهُ وَضَيَّعَهُ» .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَصْغَرَ الْبُيُوتِ بَيْتٌ صِفْرٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَتَعَاهَدُ الْقُرْآنَ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرَانِ، والذي يقرأه وَهُوَ خَفِيفٌ عَلَيْهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» .
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ تَرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ لَمْ تَزَلْ دَارُهُ الْبَارِحَةَ تُزْهِرُ، وَحَوْلَهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: «فَلَعَلَّهُ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ» . فَسُئِلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: قَرَأْتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ.
وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ فِي الظُّلْمَةِ لِصَوْتِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ،
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ» .
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عَنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قِرَاءَةً أَوْ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ: «الَّذِي إِذَا سَمِعْتَهُ رَأَيْتَهُ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى» .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ،
فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ عِلْمِ(1/24)
الْقُرْآنِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «عَرَبِيَّتُهُ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الشِّعْرِ» .
وَقَالَ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ، وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُعْرَبَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحِكْمَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ «1» بِأَنَّهَا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ» .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَةً» .
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَهْلَكَتْهُمُ الْعُجْمَةُ، يَقْرَأُ أَحَدُهُمُ الْآيَةَ، فَيَعْيَا بِوُجُوهِهَا حَتَّى يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يُفَسِّرُ كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي يَهُذُّ الشِّعْرَ. وَوَصَفَ عَلِيٌّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ يَعْرِفُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «2» . وَرَحَلَ مَسْرُوقٌ الْبَصْرَةَ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: الَّذِي يُفَسِّرُهَا رَجَعَ إِلَى الشَّامِ، فَتَجَهَّزَ وَرَحَلَ إِلَيْهِ حَتَّى عَلِمَ تَفْسِيرَهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَمُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ.
وَمَا
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ كَوْنِهِ لَا يُفَسِّرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا آيًا بِعَدَدٍ عَلَّمَهُ إِيَّاهُنَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ» .
مَحْمُولٌ ذَلِكَ عَلَى مُغَيِّبَاتِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ لِمُجْمَلِهِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَا
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قَوْلِهِ: «مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، فَقَدْ أَخْطَأَ
مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَسَوَّرَ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِرَأْيِهِ، دُونَ نَظَرٍ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَقَوَانِينِ الْعُلُومِ، كَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْأُصُولِ، وَلَيْسَ مَنِ اجْتَهَدَ فَفَسَّرَ عَلَى قَوَانِينِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ بِدَاخِلٍ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ يُفَسَّرُ بِرَأْيِهِ وَلَا يُوصَفُ بِالْخَطَأِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ: عَلِيُّ بن أبي طالب، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. فَهَؤُلَاءِ مَشَاهِيرُ مَنْ أُخِذَ عَنْهُ التَّفْسِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَا شَيْءٍ مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي التَّفْسِيرِ مِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَطْعَنُ عَلَى السُّدِّيِّ وَأَبِي صَالِحٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرَاهُمَا مُقَصِّرِينَ فِي النَّظَرِ. ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي التَّفْسِيرِ وَأَلَّفُوا فِيهِ التَّآلِيفَ. وَكَانَتْ تَآلِيفُ الْمُتَقَدِّمِينَ أَكْثَرُهَا، إِنَّمَا هِيَ شَرْحُ لُغَةٍ، وَنَقْلُ سَبَبٍ، وَنَسْخٌ، وَقَصَصٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْعَرَبِ، وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ. فَلَمَّا فَسَدَ اللِّسَانُ، وَكَثُرَتِ الْعَجَمُ، وَدَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْوَاعُ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفُو الألسنة، والناقصو
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 269.
(2) سورة القصص: 28/ 85.(1/25)
الْإِدْرَاكِ، احْتَاجَ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَى إِظْهَارِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ غَرَائِبِ التَّرْكِيبِ، وَانْتِزَاعِ الْمَعَانِي، وَإِبْرَازِ النُّكَتِ الْبَيَانِيَّةِ، حَتَّى يُدْرِكَ ذَلِكَ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِي طَبْعِهِ، وَيَكْتَسِبَهَا مَنْ لَمْ تَكُنْ نَشْأَتُهُ عَلَيْهَا، وَلَا عُنْصُرُهُ يُحَرِّكُهُ إِلَيْهَا، بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ الْعَرَبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرْكُوزًا فِي طِبَاعِهِمْ، يُدْرِكُونَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا، مِنْ غَيْرِ مُوَقِّفٍ وَلَا مُعَلِّمٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ لِسَانُهُمْ وَخُطَّتُهُمْ وَبَيَانُهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاوَتُونَ أَيْضًا فِي الْفَصَاحَةِ وَفِي الْبَيَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ سَمِعَ كَلَامَ عَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ فِي الزِّبْرِقَانِ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» .
وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى تَفَاوُتِ الْعَرَبِ فِي الْفَصَاحَةِ.
وَقَدْ آنَ أَنْ نَشْرَعَ فِيمَا قَصَدْنَا، وَنُنْجِزَ مَا بِهِ وَعَدْنَا، وَنَبْدَأَ بِرَسْمٍ لِعِلْمِ التَّفْسِيرِ، فَإِنِّي لَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى رَسْمٍ لَهُ، فَنَقُولُ: التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِبَانَةُ وَالْكَشْفُ.
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَاءِ الَّذِي يَنْظُرُ فِيهِ الطَّبِيبُ تَفْسِرَةٌ وَكَأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَصْدَرَ فَعَّلَ جَاءَ أَيْضًا عَلَى تَفْعِلَةٍ، نَحْوَ جَرَّبَ تَجْرِبَةً، وَكَرَّمَ تَكْرِمَةً، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ فَعَّلَ التَّفْعِيلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً «1» . وَيَنْطَلِقُ أَيْضًا التَّفْسِيرُ عَلَى التَّعْرِيَةِ لِلِانْطِلَاقِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: تَقُولُ فَسَّرْتُ الْفَرَسَ عَرَّيْتُهُ لِيَنْطَلِقَ فِي حَصْرِهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْكَشْفِ، فَكَأَنَّهُ كَشَفَ ظَهْرَهُ لِهَذَا الَّذِي يُرِيدُهُ مِنْهُ مِنَ الْجَرْيِ.
وَأَمَّا الرَّسْمُ فِي الِاصْطِلَاحِ، فَنَقُولُ: التَّفْسِيرُ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَمَدْلُولَاتِهَا، وَأَحْكَامِهَا الْإِفْرَادِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِيَّةِ، وَمَعَانِيهَا الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا حَالَةُ التَّرْكِيبِ، وَتَتِمَّاتٍ لِذَلِكَ. فَقَوْلُنَا عُلِمٌ هُوَ جِنْسٌ يَشْمَلُ سَائِرَ الْعُلُومِ. وَقَوْلُنَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ هَذَا هُوَ عِلْمُ الْقِرَاءَاتِ. وَقَوْلُنَا وَمَدْلُولَاتِهَا، أَيْ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا هُوَ عِلْمُ اللُّغَةِ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ. وَقَوْلُنَا وَأَحْكَامِهَا الْإِفْرَادِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِيَّةِ هَذَا يَشْمَلُ عِلْمَ التَّصْرِيفِ، وَعِلْمَ الْإِعْرَابِ، وَعِلْمَ الْبَيَانِ، وَعِلْمَ الْبَدِيعِ، وَمَعَانِيهَا الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا حَالَةُ التَّرْكِيبِ شَمِلَ بُقُولِهِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا مَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ، وَمَا دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ بِالْمَجَازِ، فَإِنَّ التَّرْكِيبَ قَدْ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ شَيْئًا، وَيَصُدُّ عَنِ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ صَادٌ، فَيَحْتَاجُ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَجَازُ. وَقَوْلُنَا، وَتَتِمَّاتٍ لِذَلِكَ، هُوَ مَعْرِفَةُ النَّسْخِ، وَسَبَبِ النُّزُولِ، وَقِصَّةٍ تُوَضِّحُ بَعْضَ مَا انْبَهَمَ فِي الْقُرْآنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
__________
(1) سُورَةُ الفرقان: 25/ 33.(1/26)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
سورة الفاتحة 1
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بَاءُ الْجَرِّ تَأْتِي لِمَعَانٍ: لِلْإِلْصَاقِ، وَالِاسْتِعَانَةِ، وَالْقَسَمِ، وَالسَّبَبِ، وَالْحَالِ، وَالظَّرْفِيَّةِ، وَالنَّقْلِ. فَالْإِلْصَاقُ: حَقِيقَةً مَسَحْتُ بِرَأْسِي، وَمَجَازًا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ. وَالِاسْتِعَانَةُ: ذَبَحْتُ بِالسِّكِّينِ. وَالسَّبَبُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا «1» .
وَالْقَسَمُ: بِاللَّهِ لَقَدْ قَامَ. وَالْحَالُ: جَاءَ زَيْدٌ بِثِيَابِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ: زَيْدٌ بِالْبَصْرَةِ. وَالنَّقْلُ: قُمْتُ بِزَيْدٍ. وَتَأْتِي زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ: شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ. وَالْبَدَلُ: فَلَيْتَ لِي بِهِمْ قَوْمًا أَيْ بَدَلَهُمْ.
وَالْمُقَابَلَةُ: اشْتَرَيْتُ الْفَرَسَ بِأَلْفٍ. وَالْمُجَاوَزَةُ: تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ أَيْ عَنِ الْغَمَامِ.
وَالِاسْتِعْلَاءُ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ. وَكَنَّى بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَالِ بِالْمُصَاحَبَةِ، وَزَادَ فِيهَا كَوْنَهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَكَنَّى عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالسَّبَبِ، وَعَنِ الْحَالِ، بِمَعْنَى مَعَ، بِمُوَافَقَةِ مَعْنَى اللَّامِ.
وَيُقَالُ اسْمٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّهَا، وَسِمٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا، وَسُمًى كَهُدًى، وَالْبَصْرِيُّ يَقُولُ: مَادَّتُهُ سِينٌ وَمِيمٌ وَوَاوٌ، وَالْكُوفِيُّ يَقُولُ: وَاوٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ.
وَالِاسْتِدْلَالُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ: أَلْ لِلْعَهْدِ فِي شَخْصٍ أَوْ جِنْسٍ، وَلِلْحُضُورِ، وَلِلَمْحِ الصِّفَةِ، وَلِلْغَلَبَةِ، وَمَوْصُولَةٌ. فَلِلْعَهْدِ فِي شَخْصٍ: جَاءَ الْغُلَامُ، وَفِي جِنْسٍ: اسْقِنِي الْمَاءَ، وَلِلْحُضُورِ: خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ، وَلِلَمْحٍ: الْحَارِثُ، وَلِلْغَلَبَةِ: الدَّبَرَانِ. وَزَائِدَةٌ لَازِمَةٌ، وَغَيْرُ لَازِمَةٍ، فَاللَّازِمَةُ: كَالْآنَ، وَغَيْرُ اللَّازِمَةِ: بَاعَدَ أُمَّ الْعَمْرِ مِنْ أَسِيرِهَا، وَهَلْ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ أَمْ هِيَ حَرْفٌ وَاحِدٌ؟ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ حَرْفَيْنِ، فَهَلِ الْهَمْزَةُ زَائِدَةٌ أَمْ لَا؟ مَذَاهِبُ. وَاللَّهُ علم لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى المعبود بحق مرتحل غَيْرِ مُشْتَقٍّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وقيل مشتق، ومادته
__________
(1) سورة النساء: 4/ 160.(1/27)
قِيلَ: لَامٌ وَيَاءٌ وَهَاءٌ، مِنْ لَاهَ يَلِيهُ، ارْتَفَعَ. قِيلَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الشَّمْسُ إِلَاهَةً، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَقِيلَ: لَامٌ وَوَاوٌ وَهَاءٌ مِنْ لَاهَ يَلُوهُ لَوْهًا، احتجب أو استتار، وَوَزْنُهُ إِذْ ذَاكَ فَعَلَ أَوْ فَعِلَ، وَقِيلَ: الْأَلِفُ زَائِدَةٌ وَمَادَّتُهُ هَمْزَةٌ وَلَامٌ، مِنْ أَلِهَ أَيْ فَزِعَ، قاله ابن إسحاق، أو أَلَّهَ تَحَيَّرَ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَأَلَّهَ عَبَدَ، قَالَهُ النَّضْرُ، أَوْ أَلَهَ سَكَنَ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ اعْتِبَاطًا، كَمَا قِيلَ فِي نَاسٍ أَصْلُهُ أُنَاسٌ، أَوْ حُذِفَتْ لِلنَّقْلِ وَلَزِمَ مَعَ الْإِدْغَامِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ شَاذٌّ. وَقِيلَ: مَادَّتُهُ وَاوٌ وَلَامٌ وَهَاءٌ، مِنْ وَلِهَ، أَيْ طَرِبَ، وَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ مِنَ الْوَاوِ نَحْوَ أَشَاحَ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالْقَنَّادُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِلُزُومِ الْبَدَلِ. وَقَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ آلِهَةٌ، وَتَكُونُ فِعَالًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْكِتَابِ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ. وَأَلْ فِي اللَّهِ إِذَا قُلْنَا أَصْلُهُ الْإِلَاهُ، قَالُوا لِلْغَلَبَةِ، إِذِ الْإِلَهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَاللَّهُ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْمَعْبُودِ بِالْحَقِّ، فَصَارَ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا. وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَالنَّجْمِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْحَذْفِ وَالنَّقْلِ أَوِ الْإِدْغَامِ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى كُلِّ إِلَهٍ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَوَزْنُهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ فِعَالٌ، فَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ عَالٌ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَقَاوِيلِ السَّابِقَةِ، فَأَلْ فِيهِ زَائِدَةٌ لَازِمَةٌ، وَشَذَّ حَذْفُهَا فِي قَوْلِهِمْ لَاهَ أَبُوكَ شُذُوذَ حَذْفِ الْأَلِفِ فِي أَقْبَلَ سَيْلٌ. أَقْبَلَ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَلْ فِي اللَّهِ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَوَصَلَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَالسُّهَيْلِيِّ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ وَزْنَهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ فَعَّالًا، وَامْتِنَاعُ تَنْوِينِهِ لَا مُوجِبَ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَلْ حَرْفٌ دَاخِلٌ عَلَى الْكَلِمَةِ سَقَطَ لِأَجْلِهَا التَّنْوِينُ. وَيَنْفَرِدُ هَذَا الِاسْمُ بِأَحْكَامٍ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَاهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَعُرِّبَ، قَالَ:
كحلفة من أبي رياح ... يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكِبَارُ
قَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَلْخِيِّ: هُوَ أَعْجَمِيٌّ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ لَاهَا، وَأَخَذَتِ الْعَرَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَغَيَّرُوهَا فَقَالُوا اللَّهُ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ فِي اللَّهِ أَنَّهُ صِفَةٌ وَلَيْسَ اسْمَ ذَاتٍ، لِأَنَّ اسْمَ الذَّاتِ يُعْرَفُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُدْرَكُ حِسًّا وَلَا بَدِيهَةً، وَلَا تُعْرَفُ ذَاتُهُ بِاسْمِهِ، بَلْ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِصِفَاتِهِ، فَجَعْلُهُ اسْمًا لِلذَّاتِ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ. وَكَانَ الْعِلْمُ قَائِمًا مُقَامَ الْإِشَارَةِ، وَهِيَ مُمْتَنِعَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ الْأَخِيرَةُ مِنَ اللَّهِ لِئَلَّا يُشْكِلَ بِخَطِّ اللَّاهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ لَهَا يَلْهُو، وَقِيلَ طُرِحَتْ تَخْفِيفًا، وَقِيلَ هِيَ لُغَةٌ فَاسْتُعْمِلَتْ فِي الْخَطِّ.
الرَّحْمنِ: فَعْلَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَصْلُ بِنَائِهِ مِنَ اللَّازِمِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَشَذَّ مِنَ(1/28)
الْمُتَعَدِّي، وَأَلْ فِيهِ لِلْغَلَبَةِ، كَهِيَ فِي الصَّعْقِ، فَهُوَ وَصْفٌ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ اللَّهِ، كَمَا لَمْ يُسْتَعْمَلِ اسْمُهُ فِي غَيْرِهِ، وَسَمِعْنَا مَنَاقِبَهُ، قَالُوا: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَوَصْفُ غَيْرِ اللَّهِ بِهِ مِنْ تَعَنُّتِ الْمُلْحِدِينَ، وَإِذَا قُلْتَ اللَّهُ رَحْمَنٌ، فَفِي صَرْفِهِ قَوْلَانِ لِيُسْنَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى أَصْلٍ عَامٍّ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الِاسْمِ الصَّرْفُ، وَالْآخَرُ إِلَى أَصْلٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ فَعْلَانَ الْمَنْعُ لِغَلَبَتِهِ فِيهِ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ أَعْجَمِيٌّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَعُرِّبَ بِالْحَاءِ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ.
الرَّحِيمِ: فَعِيلٌ مُحَوَّلٌ مِنْ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْثِلَةِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ:
فَعَّالٌ، وَفَعُولٌ، وَمِفْعَالٌ، وَفَعِيلٌ، وَفَعِلٌ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِعِّيلًا فِيهَا: نَحْوَ سِكِّيرٍ، وَلَهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ، قِيلَ: وَجَاءَ رَحِيمٌ بِمَعْنَى مَرْحُومٍ، قَالَ الْعَمَلَّسُ بْنُ عَقِيلٍ:
فَأَمَّا إِذَا عَضَّتْ بِكَ الْأَرْضُ عَضَّةً ... فَإِنَّكَ مَعْطُوفٌ عَلَيْكَ رَحِيمٌ
قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ، الْفَاتِحَةُ مَكِّيَّةٌ
، وَيُؤَيِّدُهُ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «1» . وَالْحِجْرُ مَكِّيَّةٌ، بِإِجْمَاعٍ. وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ: إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالسَّبْعُ الطِّوَالُ، أُنْزِلَتْ بَعْدَ الْحِجْرِ بِمُدَدٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ، وَمَا حُفِظَ أَنَّهُ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ صَلَاةٌ بِغَيْرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَوَادُ بْنُ زِيَادٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ:
هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقِيلَ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ.
الْبَاءُ فِي بِسْمِ اللَّهِ لِلِاسْتِعَانَةِ، نَحْوَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ، أَيْ بَدَأْتُ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَكَذَا كُلُّ فاعل بدىء فِي فِعْلِهِ بِالتَّسْمِيَةِ كَانَ مضمرا لا بدأ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِعْلًا غَيْرَ بَدَأْتُ وَجَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا، قَالَ: تَقْدِيرُهُ بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ أَوْ أَتْلُو، إِذِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ مَقْرُوءٌ، وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الْعَامِلِ عِنْدَهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ضَرَبْتُ زَيْدًا مَا نَصُّهُ: وَإِذَا قَدَّمْتَ الِاسْمَ فَهُوَ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كَمَا كَانَ ذَلِكَ، يَعْنِي تَأْخِيرُهُ عَرَبِيًّا جَيِّدًا وَذَلِكَ قَوْلُكَ زَيْدًا ضَرَبْتُ. وَالِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ هُنَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، سَوَاءٌ مِثْلُهُ فِي ضرب زيد عمر، أو ضرب زيدا عمر، وانتهى، وَقِيلَ مَوْضِعُ اسْمٍ رَفْعٌ التقدير ابتدائي بأبت، أَوْ مُسْتَقِرٌّ بِاسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَيُّ التَّقْدِيرَيْنِ أَرْجَحُ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِلْفِعْلِ، أَوِ الثَّانِي لِبَقَاءِ أحد جزأي الإسناد.
__________
(1) سورة الحجر: 15/ 85.(1/29)
وَالِاسْمُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْعِيَانِ، إِنْ كَانَ مَحْسُوسًا، وَفِي الْأَذْهَانِ، إِنْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ بِبِنْيَتِهِ لِلزَّمَانِ، وَمَدْلُولُهُ هُوَ الْمُسَمَّى، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: (فَالْكُلُّ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ) ، وَالتَّسْمِيَةُ جَعْلُ ذَلِكَ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَقَدِ اتَّضَحَتِ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى وَالتَّسْمِيَةِ. فَإِذَا أَسْنَدْتَ حُكْمًا إِلَى اسْمٍ، فَتَارَةً يَكُونُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، نَحْوَ: زَيْدٌ اسْمُ ابْنِكَ، وَتَارَةً لَا يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ إِلَّا مَجَازًا، وَهُوَ أَنْ تُطْلِقَ الِاسْمَ وَتُرِيدَ بِهِ مَدْلُولَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ «1» ، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ «2» ، وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ «3» .
وَالْعَجَبُ مِنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ، هَلِ الِاسْمُ هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّيِّدِ، وَالسُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرُوا احْتِجَاجَ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَأَطَالُوا فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَأَوَّلَ السُّهَيْلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ بِأَنَّهُ أَقْحَمَ الِاسْمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِقَلْبِكَ وَلِسَانِكَ حَتَّى لَا يَخْلُوَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ مِنَ اللَّفْظِ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ مُتَعَلِّقُهُ الْمُسَمَّى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مُتَعَلِّقُهُ اللَّفْظُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً بِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ كَاذِبَةٌ غَيْرُ وَاقِعَةٍ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا إِلَّا الْأَسْمَاءَ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ الْبَدِيعِ.
وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ بِسْمِ هُنَا فِي الْخَطِّ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَوْ كُتِبَتْ بِاسْمِ الْقَاهِرِ أَوْ بِاسْمِ الْقَادِرِ. فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: تُحْذَفُ الْأَلِفُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تُحْذَفُ إِلَّا مَعَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ إِنَّمَا كَثُرَ فِيهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ الْأَلِفِ.
وَالرَّحْمَنُ صِفَةٌ الله عِنْدَ الْجَمَاعَةِ. وَذَهَبَ الْأَعْلَمُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، وَزَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَمٌ، وإن كان مشتقا من الرَّحْمَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِيمِ وَلَا الرَّاحِمِ، بَلْ هُوَ مِثْلُ الدَّبَرَانِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ دَبَرَ صِيغَ لِلْعَلَمِيَّةِ، فَجَاءَ عَلَى بِنَاءٍ لَا يَكُونُ فِي النُّعُوتِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى عَلَمِيَّتِهِ وَوُرُودِهِ غَيْرَ تَابِعٍ لِاسْمٍ قَبْلَهُ، قَالَ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «4» الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «5» وَإِذَا ثَبَتَتِ الْعَلَمِيَّةُ امْتَنَعَ النَّعْتُ، فَتَعَيَّنَ الْبَدَلُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ: الْبَدَلُ فِيهِ عِنْدِي مُمْتَنِعٌ، وَكَذَلِكَ عَطْفُ الْبَيَانِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْأَوَّلَ لا يفتقر
__________
(1) سورة الرحمن: 55/ 78.
(2) سورة طه: 20/ 5.
(3) سورة الأعلى: 87/ 1.
(4) سورة الرحمن: 55/ 1.
(5) سورة يوسف: 12/ 40.(1/30)
إِلَى تَبْيِينٍ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ الْأَعْلَامِ كُلِّهَا وَأَبْيَنُهَا، أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ، وَلَمْ يَقُولُوا: وَمَا اللَّهُ، فَهُوَ وَصْفٌ يُرَادُ بِهِ الثَّنَاءُ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْلَامِ.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قِيلَ دَلَالَتُهُمَا وَاحِدٌ نَحْوَ نَدْمَانَ وَنَدِيمٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَالرَّحْمَنُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، وَكَانَ الْقِيَاسُ التَّرَقِّي، كَمَا تَقُولُ: عَالِمٌ نِحْرِيرٌ، وَشُجَاعٌ بَاسِلٌ، لَكِنْ أَرْدَفَ الرَّحْمَنَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولَهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِيَتَنَاوَلَ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ الرَّحِيمُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جِهَةَ الْمُبَالَغَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ. فَمُبَالَغَةُ فَعْلَانَ مِثْلَ غَضْبَانَ وَسَكْرَانَ مِنْ حَيْثُ الِامْتِلَاءُ وَالْغَلَبَةُ، وَمُبَالَغَةُ فَعِيلٍ مِنْ حَيْثُ التَّكْرَارُ وَالْوُقُوعُ بِمَحَالِّ الرَّحْمَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى فَعْلَانُ، وَيَتَعَدَّى فَعِيلٌ. تَقُولُ زَيْدٌ رَحِيمُ الْمَسَاكِينِ كَمَا تَعَدَّى فَاعِلًا، قَالُوا زَيْدٌ حَفِيظُ عِلْمِكَ وَعِلْمِ غَيْرِكَ، حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ عَنِ الْعَرَبِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى تَوْكِيدِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، احْتَاجَ أَنَّهُ يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُ وَاحِدًا لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: رحمن الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ.
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرحمن رحمن الدُّنْيَا وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ» .
وَإِذَا صَحَّ هَذَا التَّفْسِيرُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ القرطبي: رحمن الْآخِرَةِ وَرَحِيمُ الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لِأَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بِرَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِمِائَةِ رَحْمَةٍ. وَقَالَ الْمَزْنِيُّ: بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ. وَقَالَ الْعَزِيزِيُّ:
الرَّحْمَنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الْأَمْطَارِ، وَنِعَمِ الْحَوَاسِّ، وَالنِّعَمِ الْعَامَّةِ، الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْهِدَايَةِ لَهُمْ وَاللُّطْفِ بِهِمْ، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: بِرَحْمَةِ النُّفُوسِ وَرَحْمَةِ الْقُلُوبِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لِمَصَالِحِ الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ. وَقَالَ الصَّادِقُ: خَاصُّ اللَّفْظِ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ فِي الرِّزْقِ، وَعَامُّ اللَّفْظِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَغْفِرَةِ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الرَّحْمَنُ أَمْدَحُ، وَالرَّحِيمُ أَلْطَفُ، وَقِيلَ: الرَّحْمَنُ الْمُنْعِمُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ جِنْسُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالرَّحِيمُ الْمُنْعِمُ بِمَا يُتَصَوَّرُ جِنْسُهُ مِنَ الْعِبَادِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ، يَخْتَصُّ بِهِ اللَّهُ، وَالرَّحِيمُ إِنَّمَا هُوَ فِي جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «1» . وَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ مَجَازٌ عَنْ إِنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَرَقَّ لَهُمْ، أَصَابَهُمْ إِحْسَانُهُ فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ إِذْ ذَاكَ صِفَةَ فِعْلٍ؟ وَقَالَ قَوْمٌ:
هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا صِفَةَ ذَاتٍ، وينبني على هذا
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 43.(1/31)
الْخِلَافِ خِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الذَّاتِيَّةَ وَالْفِعْلِيَّةَ أَهِيَ قَدِيمَةٌ أَمْ صِفَاتُ الذَّاتِ قَدِيمَةٌ وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مُحْدَثَةٌ قَوْلَانِ؟ وَأَمَّا الرَّحْمَةُ الَّتِي مِنَ الْعِبَادِ فَقِيلَ هِيَ رِقَّةٌ تَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ، وَقِيلَ هِيَ قَصْدُ الْخَيْرِ أَوْ دَفْعُ الشَّرِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَدْفَعُ الشَّرَّ عَمَّنْ لَا يَرِقُّ عَلَيْهِ، وَيُوصِلُ الْخَيْرَ إِلَى مَنْ لَا يَرِقُّ عَلَيْهِ.
وَفِي الْبَسْمَلَةِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْحَذْفُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي بِسْمِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ، وَالْحَذْفُ قِيلَ لِتَخْفِيفِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِمْ بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ، بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، فَقُلْتُ إِلَى الطَّعَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي تِسْعِ آيَاتٍ أَيْ أَعْرَسْتُ وَهَلُمُّوا وَاذْهَبْ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيِّ: وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِظْهَارُهُ وَإِضْمَارُهُ فِي كُلِّ مَا يُحْذَفُ تَخْفِيفًا، وَلَكِنْ فِي حَذْفِهِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَوْطِنٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ فِيهِ سِوَى ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ ذُكِرَ الْفِعْلَ، وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ فَاعِلِهِ، لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ اللَّهِ مُقَدَّمًا، وَكَانَ فِي حَذْفِهِ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَمَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ يُحْذَفُ لِيَكُونَ اللَّفْظُ فِي اللِّسَانِ مُطَابِقًا لِمَقْصُودِ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ ذِكْرٌ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنَ الْحَذْفِ أَيْضًا حَذْفُ الْأَلِفِ فِي بِسْمِ اللَّهِ وَفِي الرَّحْمَنِ فِي الْخَطِّ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: التَّكْرَارُ فِي الْوَصْفِ، وَيَكُونُ إِمَّا لِتَعْظِيمِ الْمَوْصُوفِ، أَوْ لِلتَّأْكِيدِ، لِيَتَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ. وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ لِحُكْمِ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَكَرُوا اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَأَطَالُوا التَّفَارِيعَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَمَوْضُوعُ، هَذَا كُتُبُ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّعَوُّذِ، وَعَلَى حُكْمِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ بِإِجْمَاعٍ.
وَنَحْنُ فِي كِتَابِنَا هَذَا لَا نَتَعَرَّضُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، إِلَّا إِذَا كَانَ لَفْظُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، أَوْ يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُهُ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِ الرَّحِيمِ بِالْحَمْدِ، فَقَرَأَ قَوْمٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَيَقِفُونَ عَلَيْهَا وَيَبْتَدِئُونَ بِهَمْزَةٍ مَقْطُوعَةٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَرِّ الْمِيمِ وَوَصْلِ الْأَلِفِ مِنَ الْحَمْدِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ إِنَّهُ يَقْرَأُ الرَّحِيمَ الْحَمْدُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَصِلَةِ الْأَلِفِ، كَأَنَّكَ سَكَّنْتَ الْمِيمَ وَقَطَعْتَ الْأَلِفَ، ثُمَّ أَلْقَيْتَ حَرَكَتَهَا عَلَى الميم وحذفت ولم تر، وهذه قِرَاءَةً عَنْ أَحَدٍ.
الْحَمْدُ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، وَنَقِيضُهُ الذَّمُّ، وَلَيْسَ مَقْلُوبَ مَدَحَ، خِلَافًا لِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، إِذْ هُمَا فِي التَّصْرِيفَاتِ مُتَسَاوِيَانِ، وَإِذْ قَدْ يَتَعَلَّقُ(1/32)
الْمَدْحُ بِالْجَمَادِ، فَتَمْدَحُ جَوْهَرَةً وَلَا يُقَالُ تَحْمَدُ، وَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَوِ الْحَمْدُ أَعَمُّ، وَالشُّكْرُ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِهِ، وَالْحَمْدُ ثَنَاءٌ بِأَوْصَافِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ أَعَمُّ، فَالْحَامِدُ قِسْمَانِ: شَاكِرٌ وَمُثْنٍ بِالصِّفَاتِ.
لِلَّهِ اللَّامُ: لِلْمِلْكِ وَشِبْهِهِ، وَلِلتَّمْلِيكِ وَشِبْهِهِ، وَلِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلِلنَّسَبِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَلِلتَّبْلِيغِ، وَلِلتَّعَجُّبِ، وَلِلتَّبْيِينِ، وَلِلصَّيْرُورَةِ، وَلِلظَّرْفِيَّةِ بِمَعْنَى فِي أَوْ عِنْدَ أَوْ بَعْدُ، وَلِلِانْتِهَاءِ، وَلِلِاسْتِعْلَاءِ مِثْلُ: ذَلِكَ الْمَالُ لِزَيْدٍ، أَدُومُ لَكَ مَا تَدُومُ لِي، وَوَهَبْتُ لَكَ دِينَارًا، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «1» ، الْجِلْبَابُ لِلْجَارِيَةِ، لِزَيْدٍ عَمٌّ، لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ «2» ، قُلْتُ لَكَ، وَلِلَّهِ عَيْنًا، مَنْ رَأَى، مَنْ تَفَوَّقَ، هَيْتَ، لَكَ «3» ، لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً»
، الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ «5» ، كُتِبَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ، لِدُلُوكِ الشَّمْسِ، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ «6» ، يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ «7» .
رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّبُّ: السَّيِّدُ، وَالْمَالِكُ، وَالثَّابِتُ، وَالْمَعْبُودُ، وَالْمُصْلِحُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الصَّاحِبِ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ:
فَدَنَا لَهُ رَبُّ الْكِلَابِ بِكَفِّهِ ... بِيضٌ رِهَافٌ رِيشُهُنَّ مُقَزَّعُ
وَبَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الْخَالِقِ الْعَالِمِ لَا مُفْرِدَ لَهُ، كَالْأَنَامِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعِلْمِ أَوِ الْعَلَامَةِ، وَمَدْلُولُهُ كُلُّ ذِي رُوحٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ النَّاسُ، قَالَهُ الْبَجَلِيُّ، أَوِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ، أَوِ الثَّقَلَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بَنُو آدَمَ، قَالَهُ أَبُو مُعَاذٍ، أَوْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ الصَّادِقُ، أَوِ الْمُرْتَزِقُونَ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، أَوْ كُلُّ مَصْنُوعٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، أَوِ الرَّوحَانِيُّونَ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَنُقِلَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَعْدَادٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَالَمِينَ وَفِي مَقَارِّهَا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ. والجمهور قرأوا بِضَمِّ دَالِّ الْحَمْدِ، وَأَتْبَعَ إبراهيم بن أبي عبلة مِيمَهُ لَامَ الْجَرِّ لِضَمَّةِ الدَّالِ، كَمَا أَتْبَعَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَسْرَةَ الدَّالِ لِكَسْرَةِ اللَّامِ، وَهِيَ أَغْرَبُ، لِأَنَّ فِيهِ إِتْبَاعُ حَرَكَةِ مُعْرَبٍ لِحَرَكَةِ غَيْرِ إِعْرَابٍ، وَالْأَوَّلُ بِالْعَكْسِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْبَاعُ فِي مَرْفُوعٍ أَوْ مَنْصُوبٍ، وَيَكُونُ الْإِعْرَابُ إِذْ ذَاكَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مقدرا منع من
__________
(1) سورة النمل: 16/ 72.
(2) سورة النساء: 4/ 105. [.....]
(3) سورة يوسف: 12/ 23.
(4) سورة القصص: 28/ 8.
(5) سورة الأنبياء: 21/ 47.
(6) سورة الأعراف: 7/ 57.
(7) سورة الإسراء: 17/ 107.(1/33)
ظُهُورِهِ شَغْلَ الْكَلِمَةِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ، كَمَا فِي الْمَحْكِيِّ وَالْمُدْغَمِ. وَقَرَأَ هَارُونُ الْعَتَكِيُّ، وَرُؤْبَةُ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْحَمْدَ بِالنَّصْبِ. وَالْحَمْدُ مَصْدَرٌ مُعَرَّفٌ بِأَلْ، إِمَّا لِلْعَهْدِ، أَيِ الْحَمْدُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَكُمْ لِلَّهِ، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، كالدينار خَيْرٌ مِنَ الدِّرْهَمِ، أَيْ: أَيُّ دِينَارٍ كَانَ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَيِّ دِرْهَمٍ كَانَ، فَيَسْتَلْزِمُ إِذْ ذَاكَ الْأَحْمِدَةَ كُلَّهَا، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَحْمِدَةِ كُلِّهَا بِالْمُطَابَقَةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْحَمْدِ لَا يُجْمَعُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: جَمْعَهُ عَلَى أَحْمَدَ كَأَنَّهُ رَاعَى فِيهِ جَامِعُهُ اخْتِلَافَ الْأَنْوَاعِ، قَالَ:
وَأَبْلَجَ مَحْمُودِ الثَّنَاءِ خَصَصْتُهُ ... بِأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلَ أَحْمُدِي
وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى، وَلِهَذَا أَجْمَعَ عَلَيْهَا السَّبْعَةُ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَمْدِ وَاسْتِقْرَارِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْحَمْدَ مُسْتَقِرٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ حَمْدُهُ وَحَمْدُ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى اللَّامُ فِي لِلَّهِ الِاسْتِحْقَاقُ، وَمَنْ نَصَبَ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَامِلٍ تَقْدِيرُهُ أَحْمَدُ اللَّهَ أَوْ حَمِدْتُ اللَّهَ، فَيَتَخَصَّصُ الْحَمْدُ بِتَخْصِيصِ فَاعِلِهِ، وَأَشْعَرَ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَيَكُونُ فِي حَالَةِ النَّصْبِ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي حُذِفَتْ أَفْعَالُهَا، وَأُقِيمَتْ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ، نَحْوَ شُكْرًا لَا كُفْرًا. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمُ الْعَامِلَ لِلنَّصْبِ فِعْلًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ مِنَ الْحَمْدِ، أَيْ أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوِ الْزَمُوا الْحَمْدَ لِلَّهِ، كَمَا حَذَفُوهُ مِنْ نَحْوِ اللَّهُمَّ ضَبْعًا وَذِئْبًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَفِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ، كَمَا قَالَ أَعْنِي لِلَّهِ، وَلَا تَكُونُ مُقَوِّيَةً لِلتَّعْدِيَةِ، فَيَكُونُ لِلَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَصْدَرِ لِامْتِنَاعِ عَمَلِهِ فِيهِ. قَالُوا سُقْيًا لِزَيْدٍ، وَلَمْ يَقُولُوا سُقْيًا زَيْدًا، فَيُعْمِلُونَهُ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ، بَلْ صَارَ عَلَى عَامِلٍ آخَرَ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٌ رَبِّ الْعالَمِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَهِيَ فَصِيحَةٌ لَوْلَا خَفْضُ الصِّفَاتِ بَعْدَهَا، وَضَعُفَتْ إِذْ ذَاكَ. عَلَى أَنَّ الْأَهْوَازِيَّ حَكَى فِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا ضَعْفَ إِذْ ذَاكَ، وَإِنَّمَا تَضْعُفُ قِرَاءَةُ نَصْبِ رَبٍّ، وَخَفْضِ الصِّفَاتِ بَعْدَهَا لِأَنَّهُمْ نَصُّوا أَنَّهُ لَا إِتْبَاعَ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي النُّعُوتِ، لَكِنَّ تَخْرِيجَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرَّحْمَنُ بَدَلًا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَعْلَمِ، إِذْ لَا يُجِيزُ فِي الرَّحْمَنِ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، وَحَسَّنَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ، كَوْنُهُ وَصْفًا خَاصًّا، وَكَوْنُ الْبَدَلِ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَكَأَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى، فَحَسُنَ النَّصْبُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نَصَبَ رَبِّ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ نَحْمَدُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ مُرَاعَاةُ التَّوَهُّمِ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْعَطْفِ، وَلَا يَنْقَاسُ فِيهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ(1/34)
نَصَبَهُ عَلَى الْبَدَلِ فَضَعِيفٌ لِلْفَصْلِ بِقَوْلِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَرَبُّ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ عَلَى أَحَدِ وُجُوهِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، أَوِ اسْمُ فَاعِلٍ حُذِفَتْ أَلِفُهُ، فَأَصْلُهُ رَابٌّ، كَمَا قَالُوا رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ، وَأَطْلَقُوا الرَّبَّ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَفِي غَيْرِهِ قُيِّدَ بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ رَبِّ الدَّارِ. وَأَلْ فِي الْعَالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَجَمْعُ الْعَالَمِ شَاذٌّ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَجَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَشَذُّ لِلْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ الَّتِي لِهَذَا الْجَمْعِ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ «1» ، وَقِرَاءَةُ حَفْصٍ بِكَسْرِ اللَّامِ تُوَضِّحُ ذَلِكَ.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْبَسْمَلَةِ، وَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ رَبِّ الْعالَمِينَ صِفَاتُ مَدْحٍ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُمَا عَلَمٌ لَمْ يَعْرِضْ فِي التَّسْمِيَةِ بِهِ اشْتَرَاكٌ فَيُخَصَّصُ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْوَصْفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الرَّبُّ بِمَعْنَى السَّيِّدِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَالِكِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ، كَانَ صِفَةَ فِعْلٍ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا التَّصْرِيفُ فِي الْمَسُودِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْعَابِدِ بِمَا أَرَادَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِالرَّحْمَانِيَّةِ وَالرَّحِيمِيَّةِ، لِيَنْبَسِطَ أَمَلُ الْعَبْدِ فِي الْعَفْوِ إِنْ زَلَّ، وَيَقْوَى رَجَاؤُهُ إِنْ هَفَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ بِمِعْنَى الثَّابِتِ، وَلَا بِمَعْنَى الصَّاحِبِ، لِامْتِنَاعِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْعَالَمِينَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُصْلِحِ، كَانَ الْوَصْفُ بِالرَّحْمَةِ مُشْعِرًا بِقِلَّةِ الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ لِلشَّخْصِ عَلَى إِصْلَاحِ حَالِ الشَّخْصِ رَحْمَتُهُ لَهُ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ وَالْوَصْفِ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ لِلْمَرْبُوبِينَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ. وَخَفَضَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْجُمْهُورُ، وَنَصَبَهُمَا أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَعِيسَى بْنُ عَمْرٍو، وَرَفَعَهُمَا أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجُونِيُّ، فَالْخَفْضُ عَلَى النَّعْتِ، وَقِيلَ فِي الْخَفْضِ إِنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ لِلْقَطْعِ. وَفِي تَكْرَارِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَتَأْكِيدُ أَمْرِهِمَا، وَجَعَلَ مَكِّيٌّ تَكْرَارَهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ، قَالَ: إِذْ لَوْ كَانَتْ آيَةً لَكُنَّا قَدْ أَتَيْنَا بِآيَتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا بِفَوَاصِلَ تَفْصِلُ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ. قَالَ: والفصل بينهما بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَا فَصْلٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ مُؤَخَّرٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْدِيمُ تَقْدِيرُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّ مُجَاوَرَةَ الرَّحْمَةِ بِالْحَمْدِ أَوْلَى، وَمُجَاوَرَةَ الْمَلِكِ بِالْمُلْكِ أَولَى. قَالَ: وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامُ مَكِّيٍّ مَدْخُولٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَلَوْلَا جَلَالَةُ قَائِلِهِ نَزَّهْتُ كِتَابِي هَذَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَالتَّرْتِيبُ الْقُرْآنِيُّ جَاءَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بصفة الربوبية وصفة
__________
(1) سورة الروم: 30/ 22.(1/35)
الرَّحْمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا مِلْكُهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَالثَّانِي الْعِبَادَةُ. فَنَاسَبَ الرُّبُوبِيَّةَ للملك، وَالرَّحْمَةَ الْعِبَادَةُ. فَكَانَ الْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ الْوَقْفَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَقْسَامِهِ، فَقِيلَ تَامٌّ وَكَافٌّ وَقَبِيحٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كُتُبًا مُرَتَّبَةً عَلَى السور، ككتاب أبي عمر، والداني، وَكِتَابِ الْكِرْمَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ حَظٌّ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ.
مالِكِ قَرَأَ مَالِكِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ بِالْخَفْضِ، عَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ، وَيَعْقُوبُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَشَرَةِ إِلَّا طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَقِرَاءَةُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ:
أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ: قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ. وَقَرَأَ مَلِكِ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ بِالْخَفْضِ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْمِسْوَرُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَرَأَ مَلْكِ عَلَى وَزْنِ سَهْلٍ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَرَوَاهَا الْجُعْفِيُّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهِيَ لُغَةُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. وَقَرَأَ مَلِكِي بِإِشْبَاعِ كَسْرَةِ الْكَافِ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ وَرْشٍ، عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ مِلْكِ عَلَى وَزْنِ عِجْلٍ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطِيَّةُ، ونسبها ابن عطية إلى أَبِي حَيَاةَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو نَوْفَلٍ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ مَلِكَ يَوْمَ الدِّينِ، بِنَصْبِ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي حَيَاةَ، انْتَهَى. وَقَرَأَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ الْكَافَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَائِشَةُ، وَمُورِقٌ الْعِجْلِيِّ. وَقَرَأَ مَلَكَ فِعْلًا مَاضِيًا أَبُو حَيَاةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مَطْعِمٍ، وَأَبُو عَاصِمٍ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَأَبُو الْمَحْشَرِ عَاصِمُ بْنُ مَيْمُونٍ الْجَحْدَرِيُّ، فَيَنْصِبُونَ الْيَوْمَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَالْحَسَنِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَرَأَ مَالِكَ بِنَصْبِ الْكَافِ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ قَاضِي الْهِنْدِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، وَأَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ الشَّامِيِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ الْيَمَانِ مَلِكًا بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ مَالِكٌ بِرَفْعِ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ عَوْنٌ الْعُقَيلِيِّ، وَرُوِيَتْ عَنْ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَبِنَصْبِ الْيَوْمِ. وَقَرَأَ مَالِكُ يَوْمِ بِالرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَيَاةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَنَسَبَهَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ إِلَى أَبِي رَوْحٍ عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ الْعُقَيلِيِّ، سَاكِنِ الْبَصْرَةِ. وَقَرَأَ مَلِيكِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ أُبَيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو رَجَاءَ الْعُطَارِدِيُّ. وَقَرَأَ مَالِكِ بِالْإِمَالَةِ الْبَلِيغَةِ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَبَيْنَ بَيْنَ قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَجَهِلَ النَّقْلَ، أَعْنِي فِي قِرَاءَةِ الْإِمَالَةِ، أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ(1/36)
فَقَالَ: لَمْ يُمِلْ أَحَدٌ من القراء أَلِفَ مَالِكٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ بِمَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ أَثَرٌ مُسْتَفِيضٌ. وذكر أيضا أنه قرىء فِي الشَّاذِّ مَلَّاكِ بِالْأَلِفِ وَالتَّشْدِيدِ لِلَّامِ وَكَسْرِ الْكَافِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قِرَاءَةً، بَعْضُهَا رَاجِعٌ إِلَى الْمَلْكِ، وَبَعْضُهَا إِلَى الْمِلْكِ، قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى الْمَلْكِ، وَهُوَ الرَّبْطُ، وَمِنْهُ مَلْكُ الْعَجِينِ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قائما مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
وَالْإِمْلَاكُ رَبْطُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَمِنْ مُلَحِ هَذِهِ الْمَادَّةِ أَنَّ جَمِيعَ تَقَالِيبِهَا السِّتَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي اللِّسَانِ، وَكُلُّهَا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَبَيْنَهَا كُلِّهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهَذَا يُسَمَّى بِالِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ غَيْرُ أَبِي الْفَتْحِ. وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يَأْنَسُ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَتِلْكَ التَّقَالِيبُ: مَلَكَ، مَكَلَ، كَمْكَلَ، لَكَمَ، كَمُلَ، كَلَمَ. وَزَعَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ تَقْلِيبَ كَمْكَلَ مُهْمَلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ بِدَلِيلِ مَا أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَمَّا رَآنِي قَدْ حَمَمْتُ ارْتِحَالَهُ ... تَمَلَّكَ لَوْ يُجْدِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكُ
وَالْمُلْكُ هُوَ الْقَهْرُ وَالتَّسْلِيطُ عَلَى مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الطَّاعَةُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقٍ وَبِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَالْمَلْكُ هُوَ الْقَهْرُ عَلَى مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الطَّاعَةُ، وَمَنْ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقٍ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ مَلَكَ مِنَ الْمُلْكِ، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَمَالِكِ مِنَ الْمِلْكِ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، وَزَعَمُوا أَنَّ ضَمَّ الْمِيمِ لُغَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ لِي فِي هَذَا الْوَادِي مُلْكٌ وَمِلْكٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
يَوْمِ، الْيَوْمُ هُوَ الْمُدَّةُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَتَرْكِيبُهُ غَرِيبٌ، أَعْنِي وُجُودَ مَادَّةٍ تَكُونُ فَاءُ الْكَلِمَةِ فِيهَا يَاءً وَعَيْنُهَا وَاوًا لَمْ يَأْتِ مِنْ ذَلِكَ سِوَى يَوْمٍ وَتَصَارِيفِهِ وَيُوحُ اسْمٌ لِلشَّمْسِ، وَبَعْضُهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ بُوجٌ بِالْبَاءِ، وَالْمُعْجَمَةِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلَ. الدِّينِ الْجَزَاءُ دَنَاهُمْ كَمَا دَانُوا، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْحِسَابُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ «1» ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْقَضَاءُ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ «2» ، وَالطَّاعَةُ فِي دِينِ عَمْرٍو، وَحَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ فَدَكٌ، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ وَالْعَادَةُ، كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحويرث
__________
(1) سورة التوبة: 9/ 36، وسورة الروم: 30/ 30.
(2) سورة النور: 24/ 2.(1/37)
قَبْلَهَا، وَكَنَّى بِهَا هُنَا عَنِ الْعَمَلِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمِلَّةُ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1» إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «2» ، وَالْقَهْرُ، وَمِنْهُ الْمَدِينُ لِلْعَبْدِ، وَالْمَدِينَةُ لِلْأُمَّةِ، قَالَهُ يَمَانُ بْنُ رِئَابٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ: وَإِنْ أَطَاعَ وَعَصَى وَذَلَّ وَعَزَّ وَقَهَرَ وَجَارَ وَمَلَكَ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: دِنْتُهُ بفعله دينا ودينا بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا جَازَيْتُهُ. وَقِيلَ: الدَّينُ الْمَصْدَرُ، وَالدِّينُ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَالدِّينُ السِّيَاسَةُ، وَالدَّيَّانُ السَّايَسُ. قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ عَنْهُ: وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُوَنِي، وَالدِّينُ الْحَالُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ أَعْرَابِيًّا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَوْ لَقِيتَنِي عَلَى دِينٍ غَيْرَ هَذَا لَأَخْبَرْتُكَ، وَالدِّينُ الدَّاءُ عَنِ اللِّحْيَانِي وَأَنْشَدَ:
يَا دِينُ قَلْبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا وَمَنْ قَرَأَ بِجَرِّ الْكَافِ فَعَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ مِلْكٍ عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَوْ إِسْكَانِهَا، أَوْ مَلِيكٌ بِمَعْنَاهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ مَعْرِفَةً بِمَعْرِفَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ مَالِكِ أَوْ مَلَّاكِ أَوْ مَلِيكِ مُحَوَّلَيْنِ مِنْ مَالِكٍ لِلْمُبَالَغَةِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ فِعْلًا مَاضِيًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْيَوْمَ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنَّهُ تَكُونُ إِضَافَتُهُ غَيْرَ مَحْضَةٍ فَلَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ صِفَةً، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ وَلَا بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، لِأَنَّ الْبَدَلَ بِالصِّفَاتِ ضَعِيفٌ. وَحَلُّ هَذَا الْإِشْكَالِ هُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ، إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ، جَازَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّفُ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، إِذْ يَكُونُ مَنْوِيًّا فِيهِ الِانْفِصَالُ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَلِأَنَّهُ عَمِلَ النَّصْبَ لَفْظًا. الثَّانِي: أَنْ يَتَعَرَّفَ بِهِ إِذَا كَانَ مَعْرِفَةً، فَيَلْحَظُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ صَارَ مَعْرُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ، وَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِالزَّمَانِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَرِيبُ النَّقْلِ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَتَنْقِيبٌ عَنْ لَطَائِفِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَزَعَمَ يُونُسُ وَالْخَلِيلُ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةَ الَّتِي صَارَتْ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ قَدْ يَجُوزُ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مَعْرِفَةً، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، انْتَهَى. وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ بَابَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ حَسَنِ الْوَجْهِ. وَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ وَنَوَّنَ أَوْ لَمْ يُنَوِّنْ فَعَلَى الْقَطْعِ إِلَى الرَّفْعِ. وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الْقَطْعِ إِلَى النَّصْبِ، أَوْ عَلَى النِّدَاءِ وَالْقَطْعُ أَغْرَبُ لِتَنَاسُقِ الصِّفَاتِ، إِذْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْقَطْعِ عَنْهَا. وَمَنْ قَرَأَ مَلَكَ فِعْلًا مَاضِيًا فَجُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَمَنْ أَشْبَعَ كَسْرَةَ الْكَافِ فَقَدْ قَرَأَ بِنَادِرٍ أَوْ بِمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَإِضَافَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْمُلْكِ
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 3.
(2) سورة آل عمران: 3/ 19.(1/38)
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ، إِذْ مُتَعَلِّقُهُمَا غَيْرَ الْيَوْمِ. وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، لَا عَلَى مَعْنَى فِي، خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَ الْإِضَافَةَ بِمَعْنَى فِي، وَيُبْحَثُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا فِي النَّحْوِ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمِلْكِ كَانَ مِنْ بَابِ.
طَبَّاخِ سَاعَاتِ الْكَرَى زَادَ الْكَسِلْ وَظَاهِرُ اللُّغَةِ تَغَايُرُ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ هَمَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالتَّغَايُرِ فَقِيلَ مَالِكٌ أَمْدَحُ لِحُسْنِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَنْ لَا تَحْسُنُ إِضَافَةُ الْمَلِكِ إِلَيْهِ، نَحْوَ مَالِكِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالطَّيْرِ، فَهُوَ أَوْسَعُ لِشُمُولِ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِوَجْهِهِ ... مَلِكِ الْمُلُوكِ ومالك العفر
قاله الْأَخْفَشُ، وَلَا يُقَالُ هُنَا مِلْكُ، وَلِقَوْلِهِمْ مَالِكُ الشَّيْءِ لِمَنْ يَمْلِكُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَلِكًا لَا مَالِكًا نَحْوَ مِلِكِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَلِزِيَادَتِهِ فِي الْبِنَاءِ، وَالْعَرَبُ تُعَظِّمُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْبِنَاءِ، وَلِلزِّيَادَةِ فِي أَجْزَاءِ الثَّانِي لِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ، وَلِكَثْرَةِ مَنْ عَلَيْهَا مِنَ الْقُرَّاءِ، وَلِتُمَكِّنَ التَّصَرُّفَ بِبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَتَمْلِيكٍ، وَلِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ إِذَا تَصَرَّفَ بِجَوْرٍ أَوِ اعْتِدَاءٍ أَوْ سَرَفٍ، وَلِتَعَيُّنِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِعَدَمِ قُدْرَةِ المملوك عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنَ الْمَلِكِ، وَلِكَثْرَةِ رَجَائِهِ فِي سَيِّدِهِ بِطَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلِوُجُوبِ خِدْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ يَطْمَعُ فِيهِ، وَالْمَلِكَ يَطْمَعُ فِيكَ، وَلِأَنَّ لَهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَالْمَلِكُ لَهُ هَيْبَةً وَسِيَاسَةً. وَقِيلَ مَلِكٌ أَمْدَحُ وَأَلْيَقُ إِنْ لَمْ يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى لِإِشْعَارِهِ بِالْكَثْرَةِ وَلِتَمَدُّحِهِ بِمَالِكِ الْمُلْكِ، وَلَمْ يَقُلْ مَالِكُ الْمُلْكِ، وَلِتُوَافِقَ الِابْتِدَاءَ وَالِاخْتِتَامَ فِي قَوْلِهِ مَلِكِ النَّاسِ «1» ، وَالِاخْتِتَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَشْرَفِ الْأَسْمَاءِ، وَلِدُخُولِ الْمَالِكِ تَحْتَ حُكْمِ الْمِلْكِ، وَلِوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالْمُلْكِ فِي مَوَاضِعَ، وَلِعُمُومِ تَصَرُّفِهِ فِيمَنْ حَوَتْهُ مملكته، وقصر المالك عَلَى مِلْكِهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَلِعَدَمِ احْتِيَاجِ الْمِلْكِ إِلَى الْإِضَافَةِ، أَوْ مَالِكٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الإضافة إلى مملوك، ولكونه أَعْظَمُ النَّاسِ، فَكَانَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِكِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حَكَى ابْنُ السَّرَّاجِ عَمَّنِ اخْتَارَ قِرَاءَةَ مَلِكِ كُلِّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَقِرَاءَةُ مَالِكِ تَقْرِيرٌ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا، لِأَنَّ فِي التَّنْزِيلِ تَقَدَّمَ الْعَامُّ، ثُمَّ ذُكِرَ الْخَاصُّ مِنْهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «2» ، فَالْخَالِقُ يَعُمُّ، وَذُكِرَ الْمُصَوِّرُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الصَّنْعَةِ وَوُجُوهِ الْحِكْمَةِ، وَمِنْهُ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «3» ، بَعْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «4» ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا تَعْظِيمًا لَهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ اعتقادها،
__________
(1) سورة الناس: 114/ 2.
(2) سورة الحشر: 59/ 24.
(3) سورة البقرة: 2/ 4.
(4) سورة البقرة: 2/ 3. [.....](1/39)
وَالرَّدِّ عَلَى الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ، وَمِنْهُ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ذِكْرُ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ، وَذِكْرُ الرَّحِيمِ بَعْدَهُ لِتَخْصِيصِ الرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «1» ، انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّبَّ يَتَصَرَّفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْمِلْكِ، كَقَوْلِهِ:
وَمِنْ قَبْلُ رَبَّيْتِنِي فَصَفَتْ رُبُوبُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَتَنْعَكِسُ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ قَرَأَ مَلَكَ. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ مَالِكُ أَوْ مَلِكُ زَمَانٍ مُمْتَدٍّ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْحِسَابُ وَيَسْتَقِرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا، وَأَهْلُ النَّارِ فِيهَا، وَمُتَعَلَّقُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْأَمْرُ، كَأَنَّهُ قَالَ مَالِكُ أَوْ مَلِكُ الْأَمْرِ فِي يَوْمِ الدِّينِ. لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ، جَازَ أَنْ يَتَّسِعَ فَيَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ أَوِ الْمَالِكُ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الظَّرْفِ اسْتِيلَاءٌ عَلَى الْمَظْرُوفِ. وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكَ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا وَالْأَمْكِنَةِ وَمَنْ حَلَّهَا وَالْمِلْكُ فِيهَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْيَوْمِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَهْوَالِ الْجِسَامِ مِنْ قِيَامِهِمْ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِشْفَاعِ لِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ وَاسْتِقْرَارِهِمَا فِيمَا وَعَدَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ يَوْمٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ جَمِيعُ مَا مَلَّكَهُ لِعِبَادِهِ وَخَوَّلَهُمْ فِيهِ وَيَزُولُ فِيهِ مِلْكُ كُلِّ مَالِكٍ قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «2» ، وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «3» . قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: إِنْ مَعْنَى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِنَّهُ يَمْلِكُ مَجِيئَهُ وَوُقُوعَهُ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْيَوْمِ عَلَى قَوْلِهِ إِضَافَةٌ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ ظَرْفًا اتَّسَعَ فِيهِ، وَمَا فُسِّرَ بِهِ الدِّينُ مِنَ الْمَعَانِي يَصِحُّ إِضَافَةُ الْيَوْمِ إِلَيْهِ إِلَى مَعْنَى كُلٍّ مِنْهَا إِلَّا الْمِلَّةَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْحِسَابِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «4» ، والْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «5» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْحِسَابِ مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ دَلَالَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ، وَلَمَّا اتَّصَفَ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ، انْبَسَطَ الْعَبْدُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ، فَنَبَّهْ بِصِفَةِ الْمَلِكِ أَوِ الْمَالِكِ لِيَكُونَ مِنْ عَمَلِهِ عَلَى وَجَلٍ، وَأَنَّ لِعَمَلِهِ يَوْمًا تَظْهَرُ لَهُ فِيهِ ثَمَرَتُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
إِيَّاكَ، إِيَّا تَلْحَقُهُ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وَكَافُ الْمُخَاطَبِ وَهَاءُ الغائب وفروعها، فيكون
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 43.
(2) سورة مريم: 19/ 95.
(3) سورة الأنعام: 6/ 94.
(4) سورة غافر: 40/ 17.
(5) سورة الجاثية: 45/ 28.(1/40)
ضَمِيرَ نَصْبٍ مُنْفَصِلًا لَا اسْمًا ظَاهِرًا أُضِيفَ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَهَلِ الضَّمِيرُ هُوَ مَعَ لَوَاحِقِهِ أَوْ هُوَ وَحْدَهُ؟ وَاللَّوَاحِقُ حُرُوفٌ، أَوْ هُوَ وَاللَّوَاحِقٌ أَسْمَاءٌ أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهَا، أَوِ اللَّوَاحِقُ وَحْدَهَا، وَإِيَّا زَائِدَةٌ لِتَتَّصِلَ بِهَا الضَّمَائِرُ، أَقْوَالٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا لُغَاتُهُ فَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ، عَنْ أُبَيٍّ، وَبِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ هَاءً، وَبِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ هَاءً، وَبِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ، وَذَهَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَى أَنَّ إِيَّا مُشْتَقٌّ ضَعِيفٌ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَاتِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ.
وَإِذَا قِيلَ بِالِاشْتِقَاقِ، فَاشْتِقَاقُهُ مِنْ لَفْظِ، آوِ مِنْ قَوْلِهِ:
فَآوِ لِذِكْرَاهَا إِذَا مَا ذَكَرْتَهَا فَتَكُونُ مِنْ بَابِ قُوَّةٍ، أَوْ مِنَ الْآيَةِ فَتَكُونُ عَيْنُهَا يَاءً كَقَوْلِهِ:
لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ إِيَّائِهِ قَوْلَانِ، وَهَلْ وَزْنُهُ افْعَلْ وَأَصْلُهُ إِأْوَوْ أَوْ إِأْوَى أَوْ فَعِيلٌ فَأَصْلُهُ إِوْيَوْ أَوْ إِوْيَي أَوْ فَعُولٌ، وَأَصْلُهُ إِوْوَوْ أَوْ إِوْيَى أَوْ فعلى، فأصله أووى أواويا، أَقَاوِيلُ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَالْكَلَامُ عَلَى تَصَارِيفِهَا حَتَّى صَارَتْ إِيَّا تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِضَافَةُ إِيَّا لِظَاهِرٍ نَادِرٌ نَحْوُ: وَإِيَّا الشَّوَابِّ، أَوْ ضَرُورَةٌ نَحْوُ: دَعْنِي وَإِيَّا خَالِدٍ، وَاسْتِعْمَالُهُ تَحْذِيرًا معروف فيحتمل ضَمِيرًا مَرْفُوعًا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ بِالرَّفْعِ نَحْوَ: إِيَّاكَ أَنْتَ نَفْسَكَ.
نَعْبُدُ، الْعِبَادَةُ: التَّذَلُّلُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوِ التَّجْرِيدُ، قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ، وَتَعَدِّيهِ بِالتَّشْدِيدِ مُغَايِرٌ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّخْفِيفِ، نَحْوَ: عَبَّدْتُ الرَّجُلَ ذَلَّلْتُهُ، وَعَبَدْتُ اللَّهَ ذَلَلْتُ لَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو مِجْلِزٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ: إِيَّاكَ يُعْبَدُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ نَعْبُدْ بِإِسْكَانِ الدَّالِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ: نَعْبُدُ بِكَسْرِ النُّونِ.
نَسْتَعِينُ، الِاسْتِعَانَةُ، طَلَبُ الْعَوْنِ، وَالطَّلَبُ أَحَدُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مَعْنًى، وَهِيَ: الطَّلَبُ، وَالِاتِّحَادُ، وَالتَّحَوُّلُ، وَإِلْقَاءُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ وَعَدُّهُ كَذَلِكَ، وَمُطَاوَعَةُ أَفْعَلَ وَمُوَافَقَتُهُ، وَمُوَافَقَةُ تَفَعَّلَ وَافْتَعَلَ وَالْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ وَعَنْ فَعَلَ مِثْلُ ذَلِكَ اسْتَطْعَمَ، وَاسْتَعْبَدَهُ، وَاسْتَنْسَرَ وَاسْتَعْظَمَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَاسْتَشْلَى مُطَاوِعُ أَشْلَى، وَاسْتَبَلَّ مُوَافِقٌ مُطَاوِعٌ أَبَلَّ، وَاسْتَكْبَرَ مُوَافِقُ تَكَبَّرَ، وَاسْتَعْصَمَ مُوَافِقُ(1/41)
اعْتَصَمَ، وَاسْتَغْنَى مُوَافِقُ غِنًى، وَاسْتَنْكَفَ وَاسْتَحْيَا مُغْنِيَانِ عَنِ الْمُجَرَّدِ، وَاسْتَرْجَعَ، وَاسْتَعَانَ حَلَقَ عَانَتَهُ، مُغْنِيَانِ عَنْ فَعَلَ، فَاسْتَعَانَ طَلَبَ الْعَوْنَ، كَاسْتَغْفَرَ، وَاسْتَعْظَمَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَقَدْ جَاءَ فِيهِ وِيَّاكَ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ وَاوًا، فَلَا أَدْرِي أَذَلِكَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَمْ عَنِ الْعَرَبِ، وَهَذَا عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا فَرُّوا إِلَيْهِ فِي نَحْوِ أَشَاحَ فِيمَنْ هَمَزَ لِأَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ إِلَى الْهَمْزَةِ، وَاسْتِثْقَالًا لِلْكَسْرَةِ عَلَى الْوَاوِ. وُفِي وَيَّاكَ فَرُّوا مِنَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْوَاوِ، وَعَلَى لُغَةِ مَنْ يَسْتَثْقِلُ الْهَمْزَةَ جُمْلَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ شَبَهِ التَّهَوُّعِ، وَبِكَوْنِ اسْتَفْعَلَ أَيْضًا لِمُوَافَقَةِ تَفَاعَلَ وَفَعَلَ. حَكَى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ: تَمَاسَكْتُ بِالشَّيْءِ وَمَسَكْتُ بِهِ وَاسْتَمْسَكَ بِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيِ احْتَبَسْتُ بِهِ، قَالَ وَيُقَالُ: مَسَكْتُ بِالشَّيْءِ وَأَمْسَكْتُ وَتَمَسَّكْتُ، احْتَبَسْتُ، انْتَهَى. فَتَكُونُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ حِينَئِذٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ لِزِيَادَةِ مُوَافَقَةِ تَفَاعَلَ وَتَفَعَّلَ. وَفَتْحُ نُونِ نَسْتَعِينُ قَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَهِيَ الْفُصْحَى. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَتَمِيمٍ، وَأَسَدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: هِيَ لُغَةُ هَذِيلٍ، وَانْقِلَابُ الْوَاوِ أَلِفًا فِي اسْتَعَانَ وَمُسْتَعَانٍ، وَيَاءً فِي نَسْتَعِينُ وَمُسْتَعِينٍ، وَالْحَذْفُ فِي الِاسْتِعَانَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ، وَيُعَدَّى اسْتَعَانَ بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ. إِيَّاكَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِلِ إِلَّا لِلتَّخْصِيصِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ بِسْمِ اللَّهِ أَتْلُوا، وَذَكَرْنَا نَصَّ سِيبَوَيْهِ هُنَاكَ. فَالتَّقْدِيمُ عِنْدَنَا إِنَّمَا هُوَ لِلِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْمَفْعُولِ. وَسَبَّ أَعْرَابِيٌّ آخَرَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ: إِيَّاكَ أَعْنِي، فَقَالَ لَهُ: وَعَنْكَ أُعْرِضُ، فَقَدَّمَا الْأَهَمَّ، وَإِيَّاكَ الْتِفَاتٌ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْغَيْبَةِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نسق وَاحِدٍ لَكَانَ إِيَّاهُ. وَالِانْتِقَالُ مِنْ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ لِلْخِطَابِ أَوِ التَّكَلُّمِ، وَمِنَ الْخِطَابِ لِلْغَيْبَةِ أَوِ التَّكَلُّمِ، وَمِنَ التَّكَلُّمِ لِلْغَيْبَةِ أَوِ الْخِطَابِ. وَالْغَيْبَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالظَّاهِرِ، وَتَارَةً بِالْمُضْمَرِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ وَاحِدًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِإِيَّاكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَقَالُوا فَائِدَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِظْهَارُ الْمَلَكَةِ فِي الْكَلَامِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَزِيدًا عَلَى هَذَا، وَهُوَ إِظْهَارُ فَائِدَةٍ تخص كل موضع مَوْضِعٍ، وَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ يَقَعُ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَفَائِدَتُهُ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ الْمُتَّصِفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُلْكِ وَالْمَلِكِ لِلْيَوْمِ الْمَذْكُورِ، أَقْبَلَ الْحَامِدُ مُخْبِرًا بِأَثَرِ ذِكْرِهِ الْحَمْدَ الْمُسْتَقِرَّ لَهُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ وَغَيْرُهُ يَعْبُدُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ. وَكَذَلِكَ أَتَى بِالنُّونِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَكَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَسْتَغْرِقُ الْحَامِدِينَ،(1/42)
كَذَلِكَ الْعِبَادَةُ تَسْتَغْرِقُ الْمُتَكَلِّمَ وَغَيْرَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّكَ تَذْكُرُ شَخْصًا مُتَّصِفًا بِأَوْصَافٍ جَلِيلَةٍ، مُخْبِرًا عَنْهُ إِخْبَارَ الْغَائِبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ حَاضِرًا مَعَكَ، فَتَقُولُ لَهُ: إِيَّاكَ أَقْصِدُ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْخِطَابِ مِنَ التَّلَطُّفِ عَلَى بُلُوغِ الْمَقْصُودِ مَا لَا يَكُونُ فِي لَفْظِ إِيَّاهُ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِلدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ اهْدِنَا. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَلِكَ مُنَادًى، فَلَا يَكُونُ إِيَّاكَ الْتِفَاتًا لِأَنَّهُ خِطَابٌ بَعْدَ خِطَابٍ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ بَعْدَ النِّدَاءِ الْغَيْبَةُ، كَمَا قَالَ:
يَا دارمية بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ
وَمِنَ الْخِطَابِ بَعْدَ النِّدَاءِ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دارمي عَلى الْبِلَى ... وَلَا زَالَ مُنْهَلًا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ
وَدَعْوَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَبْيَاتِ امْرِئِ الْقَيْسِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ الْتِفَاتَاتٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُمَا الْتِفَاتَانِ:
الْأَوَّلُ: خُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ:
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بِالْإِثْمِدِ ... وَنَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ ... كَلَيْلَةِ ذِي الْعَائِرِ الْأَرْمَدِ
الثَّانِي: خُرُوجٌ مِنْ هَذِهِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي. وَخَبَّرْتُهُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ وَتَأْوِيلُ كَلَامِهِ أَنَّهَا ثَلَاثٌ خَطَأٌ وَتَعْيِينُ. أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ أَشَدُّ خَطَأً لِأَنَّ هَذَا الِالْتِفَاتَ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ لَا مِنَ التَّقَادِيرِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَإِضْمَارُ قُولُوا قَبْلَ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَإِضْمَارُهَا أَيْضًا قَبْلَ إِيَّاكَ لَا يَكُونُ مَعَهُ الْتِفَاتٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ. وَقَدْ عَقَدَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْبَدِيعِ بَابًا لِلِالْتِفَاتِ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِهِمْ كَلَامًا فِيهِ ابْنُ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ إِيَّاكَ يُعْبَدُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشْكِلَةٌ، لِأَنَّ إِيَّاكَ ضَمِيرُ نَصْبٍ وَلَا نَاصِبَ لَهُ وَتَوْجِيهُهَا أَنَّ فِيهَا اسْتِعَارَةً وَالْتِفَاتًا، فَالِاسْتِعَارَةُ إِحْلَالُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتَ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَخْبَرَ عَنْهُ إِخْبَارَ الْغَائِبِ لَمَّا كَانَ إِيَّاكَ هُوَ الْغَائِبَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَقَالَ يُعْبَدُ، وَغَرَابَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ كَوْنُهُ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَأَنْتَ الْهِلَالِيُّ الَّذِي كُنْتَ مَرَّةً ... سَمِعْنَا بِهِ وَالْأَرْحَبِيُّ الْمُغَلِّبُ(1/43)
وَإِلَى قَوْلِ أَبِي كَثِيرٍ الْهُذَلِيِّ:
يَا لَهْفَ نَفْسِيَ كان جلدة خَالِدٍ ... وَبَيَاضُ وَجْهِكَ للتُّرَابِ الْأَعْفَرِ
وَفُسِّرَتِ الْعِبَادَةُ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِأَنَّهَا التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، وَهُوَ أَصْلُ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أَوِ الطَّاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ «1» ، أَوِ التَّقَرُّبُ بِالطَّاعَةِ أَوِ الدُّعَاءِ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي، أَيْ عَنْ دُعَائِي، أَوِ التَّوْحِيدِ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَيْ لِيُوَحِّدُونِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقُرِنَتِ الِاسْتِعَانَةُ بِالْعِبَادَةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَقُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ لِتَقْدِيمِ الْوَسِيلَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْحَاجَةِ لِتَحْصُلَ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا، وَأَطْلَقَ الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ لِتَتَنَاوَلَ كُلَّ مَعْبُودٍ بِهِ وَكُلَّ مُسْتَعَانٍ عَلَيْهِ.
وَكَرَّرَ إِيَّاكَ لِيَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ سِيقَا فِي جُمْلَتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودَةٌ، وَلِلتَّنْصِيصِ عَلَى طَلَبِ الْعَوْنِ مِنْهُ بِخِلَافِ لَوْ كَانَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا بِطَلَبِ لعون، أَيْ وَلِيَطْلُبَ الْعَوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَ مِمَّنْ يَطْلُبُ..
وَنُقِلَ عَنِ الْمُنْتَمِينَ لِلصَّلَاحِ تَقْيِيدَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: نَعْبُدُ قَالُوا رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَفِي نَسْتَعِينُ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَمَقَامُ الْعِبَادَةِ شَرِيفٌ، وَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ «2» اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «3» ، والكناية به عَنْ أَشْرَفِ الْمَخْلُوقِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «4»
، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا «5»
، وَقَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ عِيسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ «6»
، وَقَالَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي «7»
فَذَكَرَ الْعِبَادَةَ عَقِيبَ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْعِبَادَةُ فَرْعُهُ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ. رَدٌّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِمَوْجُودٍ حَاضِرٍ.
اهْدِنَا، الْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ وَالدَّلَالَةُ وَالتَّقَدُّمُ وَمِنْهُ الْهَوَادِي أَوِ التَّبْيِينُ، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «8»
أو الإلهاء أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «9»
، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معناه ألهم
__________
(1) سورة يس: 36/ 60.
(2) سورة الحجر: 15/ 99.
(3) سورة البقرة: 2/ 21.
(4) سورة الإسراء 17/ 1.
(5) سورة الأنفال: 8/ 41.
(6) سوة مريم: 19/ 30.
(7) سورة طه: 20/ 14.
(8) سورة فصلت: 41/ 13.
(9) سورة طه: 20/ 50. [.....](1/44)
الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا إِلَى مَنَافِعِهَا، أَوِ الدُّعَاءُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَيْ دَاعٍ وَالْأَصْلُ فِي هَدَى أَنْ يَصِلَ إِلَى ثَانِي مَعْمُولِهِ بِاللَّامِ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1»
أَوْ إِلَى لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2»
ثُمَّ يَتَّسِعُ فِيهِ فَيُعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ اهْدِنَا الصِّراطَ، وَنَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ مُعْظَمُ نَفْسِهِ. وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَجَرٍّ.
الصِّراطَ الطَّرِيقَ، وَأَصْلُهُ بِالسِّينِ مِنَ السَّرْطِ، وَهُوَ اللَّقْمُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الطَّرِيقُ لَقْمًا، وَبِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ قرأ قبل وَرُوَيْسٌ، وَإِبْدَالُ سِينِهِ صَادًا هِيَ الْفُصْحَى، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِهَا كُتِبَتْ فِي الْإِمَامِ، وَزَايًا لُغَةٌ رَوَاهَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَإِشْمَامُهَا زَايًا لُغَةُ قَيْسٍ وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ بِخِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ عَنْ رُوَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو علي:
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، السين وَالصَّادُ وَالْمُضَارَعَةُ بَيْنَ الزَّايِ وَالصَّادِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ الْعُرْيَانُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَهَا بِزَايٍ خَالِصَةٍ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ:
مَا حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَطَأٌ مِنْهُ إِنَّمَا سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو يَقْرَؤُهَا بِالْمُضَارَعَةِ فَتَوَهَّمَهَا زَايًا، وَلَمْ يَكُنِ الْأَصْمَعِيُّ نَحْوِيًّا فَيُؤْمَنَ عَلَى هَذَا. وَحَكَى هَذَا الْكَلَامَ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِمَامِيَّةِ: الصِّرَاطُ بِالصَّادِ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ، وَعَامَّةُ الْعَرَبِ يَجْعَلُونَهَا سِينًا، وَالزَّايُ لُغَةٌ لِعُذْرَةَ، وَكَعْبٍ، وَبَنِي الْقَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بَيْنَ الزَّايِ وَالصَّادِ تَكَلُّفُ حَرْفٍ بَيْنَ حَرْفَيْنِ، وَذَلِكَ صَعْبٌ عَلَى اللِّسَانِ، وَلَيْسَ بِحَرْفٍ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَلَا هُوَ مِنْ حروف المعجم. لست أَدْفَعُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنَّ الصَّادَ أَفْصَحُ وَأَوْسَعُ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَتَذْكِيرُهُ أَكْثَرُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَ الصِّرَاطَ كَالطَّرِيقِ، وَالسَّبِيلِ وَالزُّقَاقِ وَالسُّوقِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يُذَكِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَيُجْمَعُ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى سُرُطٍ، نَحْوِ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَفِي الْقِلَّةِ قِيَاسُهُ أَسْرِطَةٌ، نَحْوُ حِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، هَذَا إِذَا كَانَ الصِّرَاطُ مُذَكَّرًا، وَأَمَّا إِذَا أُنِّثَ فَقِيَاسُهُ أَفْعُلٌ نَحْوُ ذِرَاعٍ وَأَذْرُعٍ وَشِمَالٍ وَأَشْمُلٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكُ، وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْحَسَنِ: اهْدِنَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، بِالتَّنْوِينِ مِنْ غَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ «3» .
الْمُسْتَقِيمَ، اسْتَقَامَ: اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الزَّوَائِدِ، وهذا أحد معاني
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 9.
(2) سورة الشورى: 42/ 52.
(3) سورة الشورى: 42/ 52- 53.(1/45)
اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ قَامَ، وَالْقِيَامُ هُوَ الِانْتِصَابُ وَالِاسْتِوَاءُ مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاجٍ.
صِراطَ الَّذِينَ اسْمٌ مَوْصُولٌ، وَالْأَفْصَحُ كَوْنُهُ بِالْيَاءِ فِي أَحْوَالِهِ الثَّلَاثَةِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَجْعَلُهُ بِالْوَاوِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، وَاسْتِعْمَالُهُ بِحَذْفِ النُّونِ جَائِزٌ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ، إِلَّا إِنْ كَانَ لِغَيْرِ تَخْصِيصٍ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَسُمِعَ حَذْفُ أَلْ منه فقالوا: لذين، وَفِيمَا تُعَرَّفُ بِهِ خِلَافٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ، وَيُخَصُّ الْعُقَلَاءُ بِخِلَافِ الَّذِي، فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى ذِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ.
أَنْعَمْتَ، النِّعْمَةُ: لِينُ الْعَيْشِ وَخَفْضُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْجَنُوبِ النُّعَامَى لِلِينِ هُبُوبِهَا، وَسُمِّيَتِ النَّعَامَةُ لِلِينِ سَهْمِهَا: نَعِمَ إِذَا كَانَ فِي نِعْمَةٍ، وَأَنْعَمْتُ عَيْنَهُ أَيْ سَرَرْتُهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بَالَغَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ، أَيْ وَالْهَمْزَةُ فِي أَنْعَمَ بِجَعْلِ الشيء صاحب ما صيغ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى التَّفَضُّلِ، فَعُدِّيَ بِعَلَى، وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ بِنَفْسِهِ. أَنْعَمْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ صَاحِبَ نِعْمَةٍ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي لِأَفْعَلَ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مَعْنًى، هَذَا أَحَدُهَا. وَالتَّعْدِيَةُ، وَالْكَثْرَةُ، وَالصَّيْرُورَةُ، وَالْإِعَانَةُ، وَالتَّعْرِيضُ، وَالسَّلْبُ، وَإِصَابَةُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ، وَبُلُوغُ عَدَدٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَمُوَافَقَةُ ثُلَاثِيٍّ، وَإِغْنَاءٌ عَنْهُ، وَمُطَاوَعَةُ فِعْلٍ وَفِعْلٍ، وَالْهُجُومُ، وَنَفْيُ الْغَرِيزَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ، وَالدُّعَاءُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ، وَالْوُصُولُ، وَالِاسْتِقْبَالُ، وَالْمَجِيءُ بِالشَّيْءِ وَالتَّفْرِقَةُ، مِثْلَ ذَلِكَ، أَدْنَيْتُهُ وَأَعْجَبَنِي الْمَكَانَ، وَأَغَدَّ الْبَعِيرُ وَأَحْلَيْتُ فُلَانًا، وَأَقْبَلْتُ فُلَانًا، وَاشْتَكَيْتُ الرَّجُلَ، وَأَحْمَدْتُ فُلَانًا، وَأَعْشَرْتُ الدَّرَاهِمَ، وَأَصْبَحْنَا، وَأَشْأَمَ الْقَوْمُ، وَأَحْزَنَهُ بِمَعْنَى حَزَّنَهُ، وَأَرْقَلَ، وَأَقْشَعَ السَّحَابُ مُطَاوِعُ قَشَعَ الرِّيحُ السَّحَابَ، وَأَفْطَرَ مُطَاوِعُ فَطَّرْتُهُ، وَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِمْ، وَأَسْتَرِيحُ، وَأَخْطَيْتُهُ سَمَّيْتُهُ مُخْطِئًا، وَأَسْقَيْتُهُ، وَأَحْصَدَ الزَّرْعُ، وَأَغْفَلْتُهُ وَصَلَتْ غَفْلَتِي اليه، وافقته اسْتَقْبَلْتُهُ بِأُفٍّ هَكَذَا مِثْلُ هَذَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَفْعَلَ فَعَلَ، وَمُثِّلَ الِاسْتِقْبَالُ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: أَسْقَيْتُهُ أَيِ اسْتَقْبَلْتُهُ بِقَوْلِكَ سُقْيًا لَكَ، وَكَثَّرْتُ جِئْتُ بِالْكَثِيرِ، وَأَشْرَقَتِ الشَّمْسُ أَضَاءَتْ، وَشَرَقَتْ طَلَعَتْ. التَّاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَنْعَمَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ الْمُفْرَدِ، وَهِي حَرْفٌ فِي أَنْتَ، وَالضَّمِيرَانِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ.
عَلَيْهِمْ، عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، إِلَّا إِذَا جُرَّتْ بِمَنْ، أَوْ كَانَتْ فِي نَحْوِ هَوِّنْ عَلَيْكَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا إِذَا جُرَّتِ اسْمُ ظَرْفٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهَا فِي حُرُوفِ الْجَرِّ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا وَمَعْنَاهَا الِاسْتِعْلَاءُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَزَيْدٌ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى عَنْ، وَبِمَعْنَى الْبَاءِ، وَبِمَعْنَى فِي، وَلِلْمُصَاحِبَةِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَبِمَعْنَى مِنْ، وَزَائِدَةٌ،(1/46)
مِثْلَ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «1»
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «2»
، بَعْدَ عَلَى كَذَا حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ»
، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ «4»
، حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ «5» .
أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ ... عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ الْعِضَاهِ تَرُوقُ
أَيْ تَرُوقُ كُلُّ أَفْنَانِ الْعِضَاهِ. هُمْ ضَمِيرُ جَمْعٍ غَائِبٍ مُذَكَّرٍ عَاقِلٍ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَجَرٍّ. وَحَكَى اللُّغَوِيُّونَ فِي عَلَيْهِمْ عَشْرَ لُغَاتٍ ضَمُّ الْهَاءِ، وَإِسْكَانُ الْمِيمِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ. وَكَسْرُهَا وإسكان الميم، وهي قراءة الْجُمْهُورِ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وياء بعدها، وهي قراءة الْحَسَنِ. وَزَادَ ابْنُ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ فَائِدٍ. وَكَذَلِكَ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَمْرِو بْنِ فَائِدٍ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْمِيمِ وَوَاوٌ بَعْدَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَالُونَ بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْمِيمِ بِغَيْرِ وَاوٍ وَضَمُّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَوَاوٌ بَعْدَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَالْخَفَّافِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَكَذَلِكَ بِدُونِ وَاوٍ وَضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بِيَاءٍ بَعْدَهَا. كَذَلِكَ بِغَيْرِ يَاءٍ. وقرىء بِهِمَا، وَتَوْضِيحُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ بِالْخَطِّ وَالشَّكْلِ: عَلَيْهُمْ، عَلَيْهِمْ، عَلَيْهِمُوا، عَلَيْهِمُ، عَلَيْهِمِي، عَلَيْهِمِ، عَلَيْهُمُ، عَلَيْهُمِي، عَلَيْهُمِ، عَلَيْهُمُوا. وَمُلَخَّصُهَا ضَمُّ الْهَاءِ مَعَ سُكُونِ الْمِيمِ، أَوْ ضَمُّهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ كَسْرُهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ وَكَسْرُ الْهَاءِ مَعَ سُكُونِ الْمِيمِ، أَوْ كَسْرُهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ ضَمُّهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. اهْدِنَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ وَالرَّغْبَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ لِنَحْوِ هَذِهِ الصِّيغَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَحْمَلًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى الطَّلَبِ، لَا عَلَى فَوْرٍ، وَلَا تَكْرَارٍ، وَلَا تَحَتُّمٍ، وَهَلْ مَعْنَى اهْدِنَا أَرْشِدْنَا، أَوْ وَفِّقْنَا، أَوْ قَدِّمْنَا، أَوْ أَلْهِمْنَا، أَوْ بَيِّنْ لَنَا أَوْ ثَبِّتْنَا؟ أَقْوَالٌ أَكْثَرُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَآخِرُهَا عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيٍّ. وَقَرَأَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بَصِّرْنَا الصِّرَاطَ،
وَمَعْنَى الصِّرَاطِ الْقُرْآنُ، قَالَهُ عَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ: وذكر الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوِ الْإِيمَانِ وَتَوَابِعِهِ، أَوِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، أَوِ السَّبِيلِ الْمُعْتَدِلِ، أَوْ طَرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ، أَوْ طَرِيقِ الْحَجِّ، قَالَهُ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، أَوِ السُّنَنِ، قَالَهُ عُثْمَانُ، أَوْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ
__________
(1) سورة الرحمن: 55/ 26.
(2) سورة البقرة: 2/ 253.
(3) سورة البقرة: 2/ 177.
(4) سورة البقرة: 2/ 185.
(5) سورة المؤمنون: 23/ 5- 6.(1/47)
طَرِيقِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ، أَوْ طَرِيقِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، أَوْ جِسْرِ جَهَنَّمَ، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ.
وَرُوِيَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَقْوَالٌ، مِنْهَا: قَوْلُ بَعْضِهِمْ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْغَيْبُوبَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لِئَلَّا يَكُونَ مَرْبُوطًا بِالصِّرَاطِ، وَقَوْلُ الْجُنَيْدِ إِنَّ سُؤَالَ الْهِدَايَةِ عِنْدَ الْحَيْرَةِ مِنْ إِشْهَارِ الصِّفَاتِ الْأَزَلِيَّةِ، فَسَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى أَوْصَافِ الْعُبُودِيَّةِ لِئَلَّا يَسْتَغْرِقُوا فِي الصِّفَاتِ الْأَزَلِيَّةِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ يَنْبُو عَنْهَا اللَّفْظُ، وَلَهُمْ فِيمَا يَذْكُرُونَ ذَوْقٌ وَإِدْرَاكٌ لَمْ نَصِلْ نَحْنُ إِلَيْهِ بَعْدُ. وَقَدْ شُحِنَتِ التَّفَاسِيرُ بِأَقْوَالِهِمْ، وَنَحْنُ نُلِمُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّا إِنَّمَا تَرَكْنَا ذِكْرَهَا لِكَوْنِنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهَا. وَقَدْ رَدَّ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْقُرْآنُ أَوِ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْقُرْآنُ وَلَا الْإِسْلَامُ، يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمِلَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْمُخْتَصَّةَ بِتَكَالِيفَ لم تكن تقدمتها. وهذه الرَّدُّ لَا يَتَأَتَّى لَهُ إِلَّا إِذَا صَحَّ أَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ مُتَقَدِّمُونَ، وَسَتَأْتِي الْأَقَاوِيلُ فِي تَفْسِيرِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَاتِّصَالُ نَا بِاهْدِ مُنَاسِبٌ لِنَعْبُدَ وَنَسْتَعِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَسْتَعِينُونَهُ سَأَلَ لَهُ وَلَهُمُ الْهِدَايَةَ إِلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، لِأَنَّهُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَيْهِ تَصِحُّ مِنْهُمُ الْعِبَادَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى السَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ لِمَقْصُودِهِ لَا يَصِحُّ لَهُ بُلُوغَ مَقْصُودِهِ؟ وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا دُونَ تَعْرِيفٍ.
وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: صِرَاطَ مُسْتَقِيمٍ بِالْإِضَافَةِ،
أَيِ الدِّينَ الْمُسْتَقِيمَ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ يَكُونُ صِرَاطَ الَّذِينَ بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الصَّادِقِ وَقِرَاءَاتِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ بَدَلَ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةِ صِرَاطَ الَّذِينَ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وهما بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَجِيءَ بِهَا لِلْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ كَانَ فِيهِ بَعْضُ إِبْهَامٍ، فَعَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ لِيَكُونَ الْمَسْئُولُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ، قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَصَارَ بِذَلِكَ الْبَدَلُ فِيهِ حَوَالَةً عَلَى طَرِيقٍ مِنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَثْبَتُ وَأَوْكَدُ، وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ نَحْوِ هَذَا الْبَدَلِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ التَّأْكِيدِ، فَكَأَنَّهُمْ كَرَّرُوا طَلَبَ الْهِدَايَةِ.
وَمِنْ غَرِيبِ الْقَوْلِ أَنَّ الصِّرَاطَ الثَّانِيَ لَيْسَ الْأَوَّلَ، بَلْ هُوَ غَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُ قرىء فِيهِ حَرْفُ الْعَطْفِ، وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ.
قِيلَ هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَالْفَهْمُ عَنْهُ، قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
، وَقِيلَ الْتِزَامُ الْفَرَائِضِ وَاتِّبَاعُ السُّنَنِ، وَقِيلَ هُوَ مُوَافَقَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ فِي إِسْبَاغِ النِّعْمَةِ. قَالَ(1/48)
تَعَالَى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَقَرَأَ: صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوْ أُمَّةُ مُوسَى وَعِيسَى الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا، أو النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، أَوِ الْمُسْلِمُونَ، قَالَهُ وَكِيعٌ، أَقْوَالٌ، وَعَزَا كَثِيرًا مِنْهَا إِلَى قَائِلِهَا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْجُمْهُورُ أَرَادَ صِرَاطَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، انْتَزَعُوا ذَلِكَ مِنْ آيَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هم الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مُؤْمِنُو بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْحَابُ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُبَدِّلُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَنْبِيَاءُ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَلَمْ يُقَيِّدِ الْأَنْعَامَ لِيَعُمَّ جَمِيعَ الْأَنْعَامِ، أَعْنِي عُمُومَ الْبَدَلِ. وَقِيلَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِهِمْ لِلسَّعَادَةِ، وَقِيلَ بِأَنْ نَجَّاهُمْ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَقِيلَ بِالْهِدَايَةِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَرُوِيَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ تَقْيِيدَاتٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ قَيْدٍ. وَاخْتُلِفَ هَلْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ؟ فَأَثْبَتَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهَا غَيْرُهُمْ.
وَمَوْضِعُ عَلَيْهِمْ نَصْبٌ، وَكَذَا كُلُّ حَرْفِ جَرٍّ تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ، غَيْرَ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ. وَبِنَاءُ أَنْعَمْتُ لِلْفَاعِلِ اسْتِعْطَافٌ لِقَبُولِ التَّوَسُّلِ بِالدُّعَاءِ فِي الْهِدَايَةِ وَتَحْصِيلِهَا، أَيْ طَلَبْنَا مِنْكَ الْهِدَايَةَ، إِذْ سَبَقَ إِنْعَامُكَ، فَمِنْ إِنْعَامِكَ إِجَابَةُ سُؤالِنَا وَرَغْبَتِنَا، كَمِثْلِ أَنْ تَسْأَلَ مِنْ شَخْصٍ قَضَاءَ حَاجَةٍ ونذكره بِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ الْإِحْسَانُ بِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آكَدُ فِي اقْتِضَائِهَا وَأَدْعَى إلى قضائها. وَانْقِلَابُ الْفَاعِلِ مَعَ الْمُضْمَرِ هِيَ اللُّغَةُ الشُّهْرَى، وَيَجُوزُ إِقْرَارُهَا مَعَهُ عَلَى لُغَةٍ، وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ طَلَبُ اسْتِمْرَارِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ من أنعم الله عليهم، لِأَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ، لَكِنْ يَسْأَلُ دَوَامَهَا وَاسْتِمْرَارَهَا.
غَيْرِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ دَائِمًا وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُؤَنَّثَ جَازَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ، وَتَأْنِيثُهُ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَمَدْلُولُهُ الْمُخَالَفَةُ بِوَجْهٍ مَا، وَأَصْلُهُ الْوَصْفُ، وَيُسْتَثْنَى بِهِ وَيَلْزَمُ الْإِضَافَةَ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَإِدْخَالُ أَلْ عَلَيْهِ خَطَأٌ وَلَا يَتَعَرَّفُ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ. وَمَذْهَبُ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُغَايِرُ وَاحِدًا تَعَرَّفَ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَا إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، قَدْ يُقْصَدُ بِهَا التَّعْرِيفُ، فَتَصِيرُ مَحْضَةً، فَتَتَعَرَّفُ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ بِمَا تُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْرِفَةً، وَتَقْرِيرُ هَذَا كُلِّهِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَزَعَمَ الْبَيَانِيُّونَ أَنَّ غير أَوْ مِثْلًا فِي بَابِ(1/49)
الْإِسْنَادِ إِلَيْهِمَا مِمَّا يَكَادُ يَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ، قَالُوا نَحْوَ قَوْلِكَ غَيْرُكَ يُخْشَى ظُلْمَهُ، وَمِثْلُكَ يَكُونُ لِلْمَكْرُمَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يُقْصَدُ فِيهِ بِمِثْلٍ إِلَى إِنْسَانٍ سِوَى الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الصِّفَةِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَمُوجَبِ الْعُرْفِ أَنْ يَفْعَلَ مَا ذُكِرَ، وَقَوْلُهُ:
غَيْرِي بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسُ يَنْخَدِعُ غَرَضُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَنْخَدِعُ وَيَغْتَرُّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِمَا إِذَا لَمْ يُقَدَّمَا نَحْوَ:
يَكُونُ لِلْمَكْرُمَاتِ مِثْلُكَ، وَيَنْخَدِعُ بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسُ غَيْرِي، فَأَنْتَ تَرَى الْكَلَامَ مَقْلُوبًا عَلَى جِهَتِهِ.
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، الْغَضَبُ: تَغَيُّرُ الطَّبْعِ لِمَكْرُوهٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَتِهِ. لَا حَرْفٌ يَكُونُ لِلنَّفْيِ وَلِلطَّلَبِ وَزَائِدًا، وَلَا يَكُونُ اسْمًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ. وَلَا الضَّالِّينَ، وَالضَّلَالُ: الْهَلَاكُ، وَالْخَفَاءُ ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْغَيْبُوبَةُ فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي، وَضَلَلْتُ الشَّيْءَ جَهِلْتُ الْمَكَانَ الَّذِي وَضَعْتُهُ فِيهِ، وَأَضْلَلْتُ الشَّيْءَ ضَيَّعْتُهُ، وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَضَلَّ غَفَلَ وَنَسِيَ، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما، والضلال سلوك سبيل غَيْرَ الْقَصْدِ، ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ سَلَكَ غَيْرَ جَادَّتِهَا، وَالضَّلَالُ الْحَيْرَةُ، وَالتَّرَدُّدُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِحَجَرٍ أَمْلَسٍ يُرَدِّدُهُ الْمَاءُ فِي الْوَادِي ضَلْضَلَهُ، وَقَدْ فُسِّرَ الضَّلَالُ فِي الْقُرْآنِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِتَفْصِيلِ الْأُمُورِ وَبِالْمَحَبَّةِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَالْجَرُّ فِي غَيْرِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَرَوَى الْخَلِيلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ النَّصْبَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ غَيْرًا أَصْلُ وَضْعِهِ الْوَصْفُ، وَالْبَدَلُ بِالْوَصْفِ ضَعِيفٌ، أَوْ عَلَى النَّعْتِ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ تَعَرَّفَتْ بِمَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، إِذْ هُوَ مَعْرِفَةٌ عَلَى مَا نَقَلَهُ سِيبَوَيْهِ، فِي أَنَّ كُلَّ مَا إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ قَدْ تَتَمَحَّضُ فَيَتَعَرَّفُ إِلَّا فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، أَوْ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّرَّاجِ، إِذْ وَقَعَتْ غَيْرُ عَلَى مَخْصُوصٍ لَا شَائِعٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُرِيدَ بِهِمُ الْجِنْسُ لَا قَوْمَ بِأَعْيَانِهِمْ. قَالُوا كَمَا وَصَفُوا الْمُعَرَّفَ بَأَلِ الْجِنْسِيَّةِ بِالْجُمْلَةِ، وَهَذَا هَدْمٌ لِمَا اعْتَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَا أَخْتَارَ هَذَا الْمَذْهَبَ وَتَقْرِيرُ فَسَادِهِ فِي النَّحْوِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْوَجْهُ أَوْ مِنَ الَّذِينَ قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّذِي لَا مَوْضِعَ لَهُ لَا يَجُوزُ، أَوْ(1/50)
عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إِذْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللفظ السابق، ومنعه القراء مِنْ أَجْلِ لَا فِي قَوْلِهِ وَلَا الضَّالِّينَ، وَلَمْ يُسَوِّغْ فِي النَّصْبِ غَيْرَ الْحَالِ، قَالَ لِأَنَّ لَا، لَا تُزَادُ إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَ النَّفْيُ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ جَعْلَ لَا صِلَةً، أَيْ زائدة مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1»
وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تسخرا وقول الأحوص:
ويلجئني فِي اللَّهْوِ أَنْ لَا أحبه ... واللهو دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلٍ
قَالَ الطَّبَرِيُّ أَيْ أَنْ تَسْخَرَ وَأَنْ أُحِبَّهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ إِرَادَةُ أَنْ لَا أُحِبَّهُ، فَلَا فِيهِ مُتَمَكِّنَةٌ، يَعْنِي فِي كَوْنِهَا نَافِيَةً لَا زَائِدَةً، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا عَلَى زِيَادَتِهَا بِبَيْتٍ أَنْشَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ:
أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يمنع الجود قائله
وَزَعَمُوا أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، وَالْبُخْلَ مَفْعُولٌ بِأَبَى، أَيْ أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ، وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّ لَا مَفْعُولٌ بِأَبَى، وَأَنَّ لَفْظَةَ لَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَصَارَ إِسْنَادًا لَفْظِيًّا، وَلِذَلِكَ قَالَ:
وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ، فَجَعَلَ نَعَمْ فَاعِلَةً بِقَوْلِهِ اسْتَعْجَلَتْ، وَهُوَ إِسْنَادٌ لَفْظِيٌّ، وَالْبُخْلُ بَدَلٌ مِنْ لَا أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ انْتَصَبَ غَيْرُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي وَعَزَى إِلَى الْخَلِيلِ، وَهَذَا تَقْدِيرٌ سَهْلٌ، وَعَلَيْهِمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالْمَغْضُوبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي إِقَامَةِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَقَامَ الْفَاعِلِ، إِذَا حُذِفَ خِلَافٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. وَمِنْ دَقَائِقِ مَسَائِلِهِ مَسْأَلَةٌ يُغْنِي فِيهَا عَنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ ذُكِرَتْ فِي النحو، وَلَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ، لِأَنَّ غَيْرَ فِيهِ النَّفْيَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَا الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَعَيَّنَ دُخُولَهَا الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لِمُنَاسَبَةِ غَيْرَ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِتَرْكِهَا عَطْفُ الضَّالِّينَ عَلَى الَّذِينَ. وَقَرَأَ عُمَرُ وَأُبَيٌّ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا فِي الرَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ النَّصْبُ وَالْخَفْضُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمْ غَيْرُ الضَّالِّينَ، وَالتَّأْكِيدُ فِيهَا أَبْعَدُ، وَالتَّأْكِيدُ فِي لَا أَقْرَبُ، وَلِتَقَارُبِ مَعْنَى غَيْرِ مِنْ مَعْنَى لَا، أَتَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَسْأَلَةٍ لِيُبَيِّنَ بِهَا تَقَارُبَهُمَا فَقَالَ: وَتَقُولُ أَنَا زَيْدًا غَيْرُ
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 12.(1/51)
ضَارِبٍ، مَعَ امْتِنَاعِ قَوْلِكَ أَنَا زَيْدًا مِثْلُ ضَارِبٍ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ أَنَا زَيْدًا لَا ضَارِبٌ، يُرِيدُ أَنَّ الْعَامِلَ إِذَا كَانَ مَجْرُورًا بِالْإِضَافَةِ فَمَعْمُولُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُضَافِ، لَكِنَّهُمْ تَسَمَّحُوا فِي الْعَامِلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ غَيْرُ، فَأَجَازُوا تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَى غَيْرِ إِجْرَاءً لِغَيْرِ مَجْرَى لَا، فَكَمَا أَنَّ لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ غَيْرُ. وَأَوْرَدَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُقَرَّرَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا، لِيُقَوِّيَ بِهَا التَّنَاسُبَ بَيْنَ غَيْرِ وَلَا، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافًا. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، بَنَاهُ عَلَى جَوَازِ أَنَا زَيْدًا لَا ضَارِبٌ، وَفِي تَقْدِيمِ مَعْمُولِ مَا بَعْدَ لَا عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَكَوْنُ اللَّفْظِ يُقَارِبُ اللَّفْظَ فِي الْمَعْنَى لَا يَقْضِي لَهُ بِأَنْ يُجْرَى أَحْكَامُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ تَرْكِيبٌ إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَا زَيْدًا غَيْرُ ضَارِبٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَرَدُّوهُ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِ الْمَغْضُوبِ مَحْذُوفًا، قَالَ التَّقْدِيرُ غير صراط المغضوب عليهم، وَأَطْلَقَ هَذَا التَّقْدِيرَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِجَرِّ غَيْرَ وَلَا نَصْبِهِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِنَصْبِ غَيْرَ، فَيَكُونُ صِفَةً لِقَوْلِهِ الصِّرَاطَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَقَدُّمِ الْبَدَلِ عَلَى الْوَصْفِ، وَالْأَصْلُ الْعَكْسُ، أَوْ صِفَةٌ لِلْبَدَلِ، وَهُوَ صِرَاطَ الَّذِينَ، أَوْ بَدَلًا مِنَ الصِّرَاطِ، أَوْ مِنْ صِرَاطَ الَّذِينَ، وَفِيهِ تَكْرَارُ الْإِبْدَالِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ أَحَدٍ فِيهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي بَدَلِ النِّدَاءِ، أَوْ حَالًا مِنَ الصِّرَاطِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي.
وَقَرَأَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: وَلَا الضَّأْلِينَ، بِإِبْدَالِ الْأَلِفِ هَمْزَةً فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ دَأْبَةٌ وَشَأْبَةٌ فِي كِتَابِ الْهَمْزِ، وَجَاءَتْ مِنْهُ أُلَيْفَاظٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْقَاسُ هَذَا الْإِبْدَالُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً تُوجِبُ الْقِيَاسَ، نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ النَّحْوِيُّونَ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ:
سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقْرَأُ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، فَظَنَنْتُهُ قَدْ لَحَنَ حَتَّى سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ دَأْبَةً وَشَأْبَةً. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
إِذَا مَا الْعَوَالِي بِالْعَبِيطِ احْمَأَرَّتِ وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَلِلْأَرْضِ إِمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّتِ ... بَيَاضًا وَإِمَا بِيضُهَا فَادَّهْأَمَّتِ
وَعَلَى مَا قَالَ أَبُو الْفَتْحِ إِنَّهَا لُغَةٌ، يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَاسَ ذَلِكَ، وَجُعِلَ الْإِنْعَامُ فِي صِلَةِ الَّذِينَ، وَالْغَضَبُ فِي صِلَةِ أَلْ، لِأَنَّ صِلَةَ الَّذِينَ تَكُونُ فِعْلًا فَيَتَعَيَّنُ زَمَانُهُ، وَصِلَةُ أَلْ تَكُونُ اسْمًا فَيَنْبَهِمُ زَمَانُهُ، وَالْمَقْصُودُ طَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِ مَنْ ثَبَتَ إِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَحَقَّقَ(1/52)
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَتَى بِالْفِعْلِ مَاضِيًا وَأَتَى بِالِاسْمِ فِي صِلَةِ أَنَّ لِيَشْمَلَ سَائِرَ الْأَزْمَانِ، وَبِنَاهِ لِلْمَفْعُولِ، لِأَنَّ مَنْ طُلِبَ مِنْهُ الْهِدَايَةُ وَنُسِبَ الْإِنْعَامُ إِلَيْهِ لَا يُنَاسِبُ نِسْبَةَ الْغَضَبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَقَامُ تَلَطُّفٍ وَتَرَفُقٍ وَتَذَلُّلٍ لِطَلَبِ الْإِحْسَانِ، فَلَا يُنَاسِبُ مُوَاجَهَتَهُ بِوَصْفِ الِانْتِقَامِ، وَلِيَكُونَ الْمَغْضُوبُ تَوْطِئَةً لِخَتْمِ السُّورَةِ بِالضَّالِّينَ لِعَطْفِ مَوْصُولٍ عَلَى مَوْصُولٍ مِثْلَهُ لِتَوَافُقِ آخِرِ الْآيِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْعَامِ، الْإِنْعَامُ الدِّينِيُّ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ غُضِبَ عَلَيْهِ وَضَلَّ.
وَقِيلَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ النَّصَارَى، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَإِذَا صَحَّ هَذَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ فِي الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ قُيُودٌ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، بِتَرْكِ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي أَوْقَاتِ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ، وَلَا الضَّالِّينَ، بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ مِنَ الْعَاصِي لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَبْدِ قَبْلَ خَلْقِهِ وَقَبْلَ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ إِحْلَالُ الْعُقُوبَةِ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَقَدَّمَ الْغَضَبَ عَلَى الضَّلَالِ، وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مِنْ نَتِيجَةِ الضَّلَالِ ضَلَّ عَنِ الْحَقِّ فَغَضِبَ عَلَيْهِ لِمُجَاوَرَةِ الْإِنْعَامِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ قَرِينَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْعَامَ يُقَابَلُ بِالِانْتِقَامِ، وَلَا يُقَابِلُ الضَّلَالُ الْإِنْعَامَ فَالْإِنْعَامُ إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَالِانْتِقَامُ إِيصَالُ الشَّرِّ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَبَيْنَهُمَا تَطَابُقٌ مَعْنَوِيٌّ، وَفِيهِ أَيْضًا تَنَاسُبُ التَّسْجِيعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا الضَّالِّينَ، تَمَامُ السُّورَةِ، فَنَاسَبَ أَوَاخِرَ الْآيِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ الْغَضَبُ، وَمُتَعَلِّقُهُ لَمَا نَاسَبَ أَوَاخِرَ الْآيِ. وَكَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ الَّتِي لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِحُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مُغَايَرَةِ جَمْعِ الْوَصْفَيْنِ، الْغَضَبِ عَلَيْهِ، وَالضَّلَالِ لِمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ فُسِّرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَالتَّقْدِيمُ إِمَّا لِلزَّمَانِ أَوْ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ أَقْدَمُ وَأَشَدُّ عَدَاوَةً مِنَ النصارى.
وقد أنجز فِي غُضُونِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ لَا يَهْتَدِي إِلَى اسْتِخْرَاجِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ تَوَغَّلَ فِي فَهْمِ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَرُزِقَ الْحَظَّ الْوَافِرَ مِنْ عِلْمِ الْأَدَبِ، وَكَانَ عَالِمًا بِافْتِنَانِ الْكَلَامِ، قَادِرًا عَلَى إِنْشَاءِ النِّثَارِ الْبَدِيعِ وَالنِّظَامِ. وَأَمَّا مَنْ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَسَا طَبْعُهُ حَتَّى عَنِ الْفِقْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَدَبِ، فَسَمْعُهُ عَنْ هَذَا الْفَنِّ مَسْدُودٌ، وَذِهْنُهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا الْمَقْصُودِ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَنْوَاعٌ:(1/53)
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: حُسْنُ الِافْتِتَاحِ وَبَرَاعَةُ الْمَطْلَعِ، فَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ عَدَّهَا مِنْهَا، فَنَاهِيكَ بِذَلِكَ حُسْنًا إِذْ كَانَ مَطْلَعُهَا، مُفْتَتَحًا بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمْدُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَوَصْفُهُ بماله مِنَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ أَحْسُنُ مَا افْتُتِحَ بِهِ الْكَلَامُ، وَقُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ النَّثْرَ وَالنِّظَامَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ الِافْتِتَاحُ بِالْحَمْدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ، وَالْمَطَالِعُ تَنْقَسِمُ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَالْحَسَنُ إِلَى ظَاهِرٍ وَخَفِيٍّ عَلَى مَا قُسِّمَ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْمُبَالَغَةُ فِي الثَّنَاءِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ أَلْ فِي الْحَمْدِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي مَرَّ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَلْوِينُ الْخِطَابِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ «1»
وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ بِاللَّامِ الَّتِي فِي لِلَّهِ، إِذْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، إِذْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهَا وَبِالْإِضَافَةِ فِي مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ لِزَوَالِ الْأَمْلَاكِ وَالْمَمَالِكِ عَنْ سِوَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَتَفَرُّدِهِ فِيهِ بِالْمُلْكِ وَالْمِلْكِ، قَالَ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «2»
، وَلِأَنَّهُ لَا مُجَازِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْأَعْمَالِ سِوَاهُ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَذْفُ، وَهُوَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الْحَمْدَ ظَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ، هَلْ يُقَدَّرُ مِنْ لَفْظِ الْحَمْدِ أَوْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ؟ وَمِنْهُ حَذْفُ الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خَبَرٌ عَنِ الْحَمْدِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَدَّرُ بِكَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ، قَالَ: وَمِنْهُ حَذْفُ صِرَاطٍ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ، التَّقْدِيرُ غَيْرِ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرِ صِرَاطِ الضَّالِّينَ، وَحَذْفُ سُورَةٍ إِنْ قَدَّرْنَا الْعَامِلَ فِي الْحَمْدِ إِذَا نَصَبْنَاهُ، اذْكُرُوا أَوِ اقرأوا، فتقديره اقرأوا سُورَةَ الْحَمْدِ، وَأَمَّا مَنْ قَيَّدَ الرَّحْمَنَ، وَالرَّحِيمَ، وَنَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ، وَأَنْعَمْتُ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالِّينَ، فَيَكُونُ عِنْدَهُ فِي سُورَةِ مَحْذُوفَاتٍ كَثِيرَةٍ. النَّوْعُ السَّادِسُ:
التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ نَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالِّينَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. النَّوْعُ السَّابِعُ: التَّفْسِيرُ، وَيُسَمَّى التَّصْرِيحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ، وَذَلِكَ فِي بَدَلِ صِرَاطَ الَّذِينَ مِنَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: الِالْتِفَاتُ، وَهُوَ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا. النَّوْعُ التَّاسِعُ: طَلَبُ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَهُ بَلْ دَوَامَهُ، وَذَلِكَ فِي اهْدِنَا. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: سَرْدُ الصِّفَاتِ لِبَيَانِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَوْصُوفِ أَوْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ. النَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ: التَّسْجِيعُ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّسْجِيعِ الْمُتَوَازِي، وَهُوَ اتِّفَاقُ الْكَلِمَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فِي الْوَزْنِ وَالرَّوِيِّ، قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَسْتَعِينُ وَلَا الضَّالِّينَ، انْقَضَى كَلَامُنَا عَلَى تفسير الفاتحة.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 2.
(2) سورة غافر: 40/ 16.(1/54)
وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يُقَالَ لَهَا أُمُّ الْكِتَابِ، وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يُقَالَ لَهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ إِلَّا مَا شَذَّ فِيهِ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ خِلَافَهُ. عَدَّ الْجُمْهُورُ الْمَكِّيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آيَةً، وَلَمْ يَعُدُّوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَسَائِرُ العادين، ومنهم كَثِيرٍ مِنْ قُرَّاءِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ لَمْ يَعُدُّوهَا آيَةً، وَعَدُّوا صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةً، وَشَذَّ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَجَعَلَ آيَةً إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فَهِيَ عَلَى عَدِّهِ ثَمَانِ آيَاتٍ، وَشَذَّ حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّهَا سِتُّ آيَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1»
هُوَ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَيْسَتْ آيَةً، وَشَذَّ ابْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: إِنَّهَا آيَةٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ، وَلَا أَدْرِي مَا الْمَلْحُوظُ فِي مِقْدَارِ الْآيَةِ حَتَّى نَعْرِفَ الْآيَةَ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ عَدَدَ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرُوا سَبَبَ نُزُولِهَا مَا لَا يُعَدُّ سَبَبَ نُزُولٍ.
وَذَكَرُوا أَحَادِيثَ فِي فَضْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَذَكَرُوا لِلتَّسْمِيَةِ أيضا نزول مَا لَا يُعَدُّ سَبَبًا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْفَاتِحَةَ تُسَمَّى الْحَمْدَ، وَفَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَأُمَّ الْكِتَابِ، وَالسَّبْعَ الْمَثَانِي، وَالْوَاقِيَةَ، وَالْكَافِيَةَ، وَالشِّفَاءَ، وَالشَّافِيَةَ، وَالرُّقْيَةَ، وَالْكَنْزَ، وَالْأَسَاسَ، وَالنُّورَ، وَسُورَةَ الصَّلَاةِ، وَسُورَةَ تَعْلِيمِ الْمَسْأَلَةِ، وَسُورَةَ الْمُنَاجَاةِ، وَسُورَةَ التَّفْوِيضِ. وَذَكَرُوا أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْفَاتِحَةِ، وَالْكَلَامِ عَلَى هَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ التَّذْيِيلَاتِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَعْيِينِ مُبْهَمٍ أَوْ سَبَبِ نُزُولٍ أَوْ نَسْخٍ بِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ يَضْطَرُّ إِلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرُ. وَكَذَلِكَ تَكَلَّمُوا عَلَى آمِينَ وَلُغَاتِهَا، وَالِاخْتِلَافِ فِي مَدْلُولِهَا، وَحُكْمِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَتْ مِنَ القرآن، فلذلك أضربنا عن الْكَلَامِ عَلَيْهَا صَفْحًا، كَمَا تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ كُتُبَهُمْ بِأَشْيَاءَ خَارِجَةٍ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ حَذَفْنَاهَا مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، إذا كَانَ مَقْصُودُنَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْخُطْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
__________
(1) سُورَةُ الحجر: 15/ 85.(1/55)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة البقرة 2
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الم أَسْمَاءٌ مَدْلُولُهَا حُرُوفُ الْمُعْجَمِ، وَلِذَلِكَ نُطِقَ بِهَا نُطْقَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهِيَ مَوْقُوفَةُ الْآخِرِ، لَا يُقَالُ إِنَّهَا مُعْرَبَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا عَامِلٌ فَتُعْرَبُ وَلَا يُقَالُ إِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لِعَدَمِ سَبَبِ الْبِنَاءِ، لَكِنَّ أَسْمَاءَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ قَابِلَةٌ لِتَرْكِيبِ الْعَوَامِلِ عَلَيْهَا فَتُعْرَبُ، تَقُولُ هَذِهِ أَلِفٌ حَسَنَةٌ وَنَظِيرُ سَرْدِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَوْقُوفَةً، أَسْمَاءُ الْعَدَدِ، إِذَا عَدُّوا يَقُولُونَ: وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ثَلَاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ، خَمْسَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَا، وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذلِكَ، ذَا: اسْمُ إِشَارَةٍ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ لَفْظًا، ثُلَاثِيُّ الْأَصْلِ، لَا أُحَادِيُّ الْوَضْعِ، وَأَلِفُهُ لَيْسَتْ زَائِدَةً، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَالسُّهَيْلِيِّ، بَلْ أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، وَلَامُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ فِي زَعْمِهِ أَنَّهَا مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ مِنْ بَابِ طَوَيْتُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ. وَيُقَالُ فِيهِ: ذَا وَذَائِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْكَافُ فَقُلْتَ: ذَاكَ دَلَّ عَلَى التَّوَسُّطِ، فَإِذَا أَدْخَلْتَ اللَّامَ فَقُلْتَ: ذَلِكَ دَلَّ عَلَى الْبُعْدِ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ رُتْبَةُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عِنْدَهُ قُرْبٌ وَبُعْدٌ. فَمَتَى كَانَ مُجَرَّدًا مِنَ اللَّامِ وَالْكَافِ كَانَ لِلْقُرْبِ، وَمَتَى كَانَتَا فِيهِ أَوْ إِحْدَاهُمَا كَانَ لِلْبُعْدِ، وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ تُبَيِّنُ أَحْوَالَ الْمُخَاطَبِ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ كَمَا تُبَيِّنُهَا إِذَا كَانَ ضَمِيرًا، وَقَالُوا: أَلِكَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؟ وَلِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ.
الْكِتابُ، يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مُعَانِ الْعَقْدِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ لِلْعِتْقِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «1»
، وَعَلَى الْفَرْضِ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
__________
(1) سورة النور: 24/ 33.(1/56)
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «1»
، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «2»
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «3»
وَعَلَى الْحُكْمِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَعَلَى الْقَدْرِ:
يَا ابْنَةَ عَمِّي كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللَّهَ مَا فَعَلَا
أَيْ قَدَرُ اللَّهِ وَعَلَى مَصْدَرِ كَتَبْتُ تَقُولُ: كَتَبْتُ كِتَابًا وَكُتُبًا، وَمِنْهُ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَعَلَى الْمَكْتُوبِ كَالْحِسَابِ بِمَعْنَى الْمَحْسُوبِ، قَالَ:
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
لَا نَافِيَةٌ، وَالنَّفْيُ أَحَدُ أَقْسَامِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. رَيْبَ، الرَّيْبُ: الشَّكُّ بِتُهْمَةٍ رَابَ حَقَّقَ التُّهْمَةَ قَالَ:
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيَّةَ رَيْبُ ... إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْكَذُوبُ
وَحَقِيقَةُ الرَّيْبِ قَلَقُ النَّفْسِ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الشَّكَّ رِيبَةٌ وَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَمِنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِظَنِّي خَافِقٌ فَقَالَ لَا يَرِبْهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ، وَرَيْبُ الدَّهْرِ: صَرْفُهُ وَخَطْبُهُ. فِيهِ: فِي لِلْوِعَاءِ حقيقة أو مجاز، أو زيد للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، وللموافقة عَلَى، وَالْبَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ زَيْدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «4»
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ «5»
لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ «6»
، ي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
«7»
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «8»
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ «9»
، أَيْ يُكَثِّرُكُمْ بِهِ. الْهَاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِفِي مِنْ فِيهِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ مُذَكَّرٌ مُفْرَدٌ، وَقَدْ يُوصَلُ بِيَاءٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَحُكْمُ هَذِهِ الْهَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَالْإِسْكَانِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْإِشْبَاعِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. هُدىً، الْهُدَى: مَصْدَرُ هَدَى، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهِدَايَةِ، وَالْهُدَى مُذَكَّرٌ وَبَنُو أَسَدٍ يُؤَنِّثُونَهُ، يَقُولُونَ: هَذِهِ هَدًى حَسَنَةٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ فِي كِتَابِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْهُدَى لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ، وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هُوَ مُذَكَّرٌ.
انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَالْهُدَى اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّهَارِ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
حَتَى اسْتَبَنْتُ الْهُدَى وَالْبِيدُ هَاجِمَةُ ... يَخْضَعْنَ فِي الْآلِ غُلْفًا أَو يُصَلِّينَا
__________
(1) سورة النساء: 4/ 103. [.....]
(2) سورة البقرة: 2/ 187.
(3) سورة البقرة: 2/ 183.
(4) سورة البقرة: 2/ 179.
(5) سورة الأعراف: 7/ 38.
(6) سورة النور: 24/ 14.
(7) سورة يونس: 10/ 64.
(8) سورة طه: 20/ 71.
(9) سورة الشورى: 42/ 11.(1/57)
وهو على وزن فعلى، كَالسُّرَى وَالْبُكَى. وَزَعَمَ بَعْضُ أَكَابِرِ نُحَاتِنَا أَنَّهُ لَمْ يجئ من فعلى مَصْدَرٌ سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ ذَكَرَ لِي شَيْخُنَا اللُّغَوِيُّ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ رَضِيُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يوسف الشَّاطِبِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ قَالَتْ: لَقِيتُهُ لُقًى، وَأَنْشَدَنَا لِبَعْضِ الْعَرَبِ:
وَقَدْ زَعَمُوا حُلْمًا لِقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ ... بِحَمَدِ الَّذِي أَعْطَاكَ حِلْمًا وَلَا عَقْلًا
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ وَفُعَلٌ يَكُونُ جَمْعًا مَعْدُولًا وَغَيْرَ مَعْدُولٍ، وَمُفْرَدًا وَعَلَمًا مَعْدُولًا وَغَيْرَ مَعْدُولٍ، وَاسْمَ جِنْسٍ لِشَخْصٍ وَلِمَعْنًى وَصِفَةً مَعْدُولَةً وَغَيْرَ مَعْدُولَةٍ، مِثْلُ ذَلِكَ: جُمَعٌ وَغُرَفٌ وَعُمَرٌ وَأُدَدٌ وَنُغَرٌ وَهُدًى وَفُسَقٌ وَحُطَمٌ. لِلْمُتَّقِينَ الْمُتَّقِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اتَّقَى، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْ وَقَى بِمَعْنَى حَفَظَ وَحَرَسَ، وَافْتَعَلَ هُنَا: لِلِاتِّخَاذِ أَيِ اتَّخَذَ وِقَايَةً، وَهُوَ أحد المعاني الاثنى عشر الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَهُوَ: الِاتِّخَاذُ، وَالتَّسَبُّبُ، وَفِعْلُ الْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَالتَّخَيُّرُ، وَالْخَطْفَةُ، وَمُطَاوَعَةُ افَّعَلَ، وَفَعَّلَ، وَمُوَافَقَةُ تَفَاعَلَ، وَتَفَعَّلَ، وَاسْتَفْعَلَ، وَالْمُجَرَّدُ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ، مِثْلُ ذَلِكَ: اطَّبَخَ، وَاعْتَمَلَ وَاضْطَرَبَ، وَانْتَخَبَ، وَاسْتَلَبَ، وَانْتَصَفَ مُطَاوِعُ أَنْصَفَ، وَاغْتَمَّ مُطَاوِعُ غَمَمْتُهُ، وَاجْتَوَرَ، وَابْتَسَمَ، وَاعْتَصَمَ، وَاقْتَدَرَ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ. وَإِبْدَالُ الْوَاوِ فِي اتَّقَى تَاءً وَحَذْفُهَا مَعَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ قَبْلَهَا فَيَبْقَى تَقَى مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ.
فَأَمَّا هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ أَوَائِلُ السُّوَرِ، فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا حُرُوفٌ مُرَكَّبَةٌ وَمُفْرَدَةٌ، وَغَيْرُهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ عُبِّرَ بِهَا عَنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي يُنْطَقُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْهَا فِي نَحْوِ: قَالَ، وَالْمِيمِ فِي نَحْوِ: مَلَكَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا فَوَاتِحُ لِلتَّنْبِيهِ وَالِاسْتِئْنَافِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ قَدِ انْقَضَى.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ كَمَا يَقُولُونَ فِي أَوَّلِ الْإِنْشَادِ لِشَهِيرِ الْقَصَائِدِ. بَلْ وَلَا بَلْ نَحَا هَذَا النَّحْوَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ وَفَوَاتِحُهَا، وَقَوْمٌ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْمٍ: هِيَ حُرُوفٌ مُتَفَرِّقَةٌ دَلَّتْ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي فَقَالَ قَوْمٌ: يَتَأَلَّفُ مِنْهَا اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ، إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنْهَا، أَوِ اسْمُ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، لَكِنْ جَهِلْنَا طَرِيقَ التَّأْلِيفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مُقَطَّعَةٌ، لَوْ أَحْسَنَ النَّاسُ تَأْلِيفَهَا تَعَلَّمُوا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ كَالْفُرْقَانِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.(1/58)
وَقِيلَ: هِيَ حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلَى مُدَّةِ الْمِلَّةِ، وَهِيَ حِسَابُ أَبِي جَادٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: مُدَّةُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَقِيلَ: مُدَّةُ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَيْضًا: لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ قَوْمٍ وَآجَالِ آخَرِينَ، وَقِيلَ:
هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْعَرَبِ: إِنَّمَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِنَظْمٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ وغيره وَغَيْرُهُ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْعَرَبِ: إِنَّمَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِنَظْمٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ فَقَوْلُهُ: الم بِمَنْزِلَةِ: أب ت ث، لِيَدُلَّ بِهَا عَلَى التِّسْعَةِ وَعِشْرِينَ حَرْفًا. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ تَنْبِيهٌ كَمَا فِي النِّدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعَهُمْ فَيَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ بَعْدَهَا فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ. وَقِيلَ: هِيَ أَمَارَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كِتَابٌ فِي أَوَّلِ سُوَرٍ مِنْهُ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ، وَقِيلَ: حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلَى ثَنَاءٍ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ألم أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْمُرَادُ أَنَا اللَّهُ أرى. والمص أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَلِفُ: مِنَ اللَّهِ، وَاللَّامُ: مِنْ جِبْرِيلَ، والميم: مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ مَبَادِئُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ بِالْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَةِ وَمَبَانٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَأُصُولِ كَلَامِ الْأُمَمِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا يَتَضَمَّنُ أمورا كثيرة ذارت فِيهَا الْأَلْسُنُ، وَلَيْسَ فِيهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي الْأَبَدِ وَلِلْأَبَدِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا فِي مُدَّةِ قَوْمٍ وَآجَالِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعَانِيهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَلِهَذَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي كِتَابِ اللَّهِ سِرٌّ، وَسِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَبِهِ قَالَ الشعب. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْقَاسِمِ: مَا قَامَ الْوُجُودُ كُلُّهُ إِلَّا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَأَسْمَاءِ اللَّهِ الْمُعْجَمَةِ الْبَاطِنَةِ أَصْلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ خِزَانَةُ سِرِّهِ وَمَكْنُونُ عِلْمِهِ، وَمِنْهَا تَتَفَرَّعُ أَسْمَاءُ اللَّهِ كُلُّهَا، وَهِيَ الَّتِي قَضَى بِهَا الْأُمُورَ وَأَوْدَعَهَا أُمَّ الْكِتَابِ، وَعَلَى هَذَا حَوَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِعُلُومِ الْحُرُوفِ، وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ: أَبُو الْحَكَمِ بْنُ بُرْجَانَ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ، وَالْبَوْنِيُّ، وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ وَالطَّائِيُّ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْجَلَالِيُّ، وَابْنُ حَمُّوَيْهِ، وَغَيْرُهُمْ، وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ كهيعص فَقَالَ لِلسَّائِلِ: لَوْ أُخْبِرْتَ بِتَفْسِيرِهَا لَمَشَيْتَ عَلَى الْمَاءِ لَا يُوَارِي قَدَمَيْكَ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعَانِيهَا مَعْلُومَةٌ وَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ حَرْفٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: اخْتَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الاختلاف المنتشر الذي لا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ(1/59)
عَلَيْهَا. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ الَّتِي فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَسَائِرُ كَلَامِهِ تَعَالَى مُحْكَمٌ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْيَزِيدِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحْدَثِينَ، قَالُوا: هِيَ سِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهَا وَتَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ يَجِبُ أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا وَتُلْتَمَسَ الْفَوَائِدُ الَّتِي تَحْتَهَا، وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ مَا قَالَ الْجُمْهُورُ، فَنُفَسِّرُ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَنَلْتَمِسُ لَهَا التَّأْوِيلَ لِأَنَّا نَجِدُ الْعَرَبَ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ نَظْمًا وَوَضْعًا بَدَلَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي الْحُرُوفُ مِنْهَا، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافِ ... أَرَادَ قَالَتْ وَقَفْتُ
وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ:
بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرُفَا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَآ
أَرَادَ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَرَادَ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ: وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ فَلَيْسَ كَوْنُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا، فَيَنْبَغِي إِذَا كَانَ مِنْ مَعْهُودِ كَلَامِ الْعَرَبِ، أَنْ يُطْلَبَ تَأْوِيلُهُ وَيُلْتَمَسَ وَجْهُهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا أَنْشَدَ وَبَيْنَ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَقَدْ أَطَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ بِمَا لَيْسَ يَحْصُلُ مِنْهُ كَبِيرُ فَائِدَةٍ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَلَا يَقُومُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ دَعَاوِيهِ بُرْهَانٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُعْرِبُونَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ فَقَالُوا: لَمْ تُعْرَبْ حُرُوفُ التَّهَجِّي لِأَنَّهَا أَسْمَاءُ مَا يُلْفَظُ، فَهِيَ كَالْأَصْوَاتِ فَلَا تُعْرَبُ إِلَّا إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْهَا أَوْ عَطَفْتَهَا فَإِنَّكَ تُعْرِبُهَا، وَيَحْتَمِلُ مَحَلُّهَا الرَّفْعَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ، وَالنَّصْبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْجَرَّ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ، هَذَا إِذَا جَعَلْنَاهَا اسْمًا لِلسُّوَرِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ اسْمًا لِلسُّوَرِ فَلَا مَحَلَّ لَهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَحُرُوفِ الْمُعْجَمِ أو ردت مُفْرَدَةً مِنْ غَيْرِ عَامِلٍ فَاقْتَضَتْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَكِنَّةً كأسماء الأعداد، أو ردتها لِمُجَرَّدِ الْعَدَدِ بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَتَكَلَّمُوا عَلَى مَا يُمْكِنُ إِعْرَابُهُ مِنْهَا وَمَا لَا يُمْكِنُ، وَعَلَى مَا إِذَا أُعْرِبَ فَمِنْهُ مَا يُمْنَعُ الصَّرْفَ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْنَعُ الصَّرْفَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَقَدْ نُقِلَ خِلَافٌ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْحُرُوفِ آيَةً، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الم آيَةٌ، وَكَذَلِكَ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ذُكِرَتْ فِيهَا، وَكَذَلِكَ المص وطسم وأخواتها وطه ويس(1/60)
وحم وَأَخَوَاتُهَا إِلَّا حم عسق فإنها آيتان وكهيعص آيَةُ، وَأَمَّا المر وَأَخَوَاتُهَا فَلَيْسَتْ بِآيَةٍ، وَكَذَلِكَ طس وص وق ون وَالْقَلَمِ وق وص حُرُوفٌ دَلَّ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى كَلِمَةٍ، وَجَعَلَوْا الْكَلِمَةَ آيَةً، كَمَا عَدُّوا: الرَّحْمنُ ومُدْهامَّتانِ آيَتَيْنِ.
وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ آيَةً. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ الِاقْتِصَارَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الِاقْتِصَارَ كَانَ لِوُجُوهٍ ذَكَرُوهَا لَا يَقُومُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِرِهَانٌ فَتَرَكْتُ ذِكْرَهَا. وَذَكَرُوا أَنَّ التَّرْكِيبَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ انْتَهَى إِلَى خَمْسَةٍ، وَهُوَ:
كهيعص، لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الِاسْمُ الْمُجَرَّدُ، وَقَطَعَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ أَلِفٌ لَامٌ مِيمٌ حَرْفًا حَرْفًا بِوَقْفَةٍ وَقْفَةٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرَ حُرُوفِ التَّهَجِّي مِنَ الْفَوَاتِحِ، وَبَيْنَ النُّونِ مِنْ طسم وَيس وَعسق وَنُونٍ إِلَّا فِي طس تِلْكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ، وَذَلِكَ اسْمُ مُشَارٍ بَعِيدٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ الْكِتابُ عَلَى بَابِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِطْلَاقِهِ بِمَعْنَى هَذَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَيَكُونُ لِلْقَرِيبِ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَوْضُوعِهِ فَالْمُشَارِ إِلَيْهِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ وَغَيْرُهُ، أَوِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، أَوْ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، أَوْ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِنْ أَنَّهُ يُنَزِّلُ إِلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدَ بِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، أَوِ الْكِتَابُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالَهُ ابْنُ رِئَابٍ، أَوِ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوِ الْبُعْدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُنْزَلِ وَالْمُنْزَلِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي تَحَدَّيْتُكُمْ بِالنَّظْمِ مِنْهَا.
وَسَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ شَيْخَنَا يَقُولُ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّرَاطِ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ «1»
، كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ قِيلَ لَهُمْ: ذَلِكَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَأَلْتُمُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ تَبَيَّنَ وَجْهُ ارْتِبَاطِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَولَى لِأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لَا إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وَقَدْ رَكَّبُوا وُجُوهًا مِنَ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ.
وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ الْكِتابُ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ إِضْمَارٍ وَلَا افْتِقَارٍ، كَانَ أَولَى أَنْ يَسْلُكَ بِهِ الْإِضْمَارَ وَالِافْتِقَارَ، وَهَكَذَا تَكُونُ عَادَتُنَا فِي إِعْرَابِ الْقُرْآنِ، لَا نَسْلُكُ فِيهِ إِلَّا الْحَمْلَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَأَبْعَدِهَا مِنَ التَّكَلُّفِ، وَأَسْوَغِهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَلَسْنَا كَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ تعالى كشعر امرئ
__________
(1) سورة الفاتحة: 1/ 6.(1/61)
الْقَيْسِ، وَشِعْرِ الْأَعْشَى، يُحَمِّلُهُ جَمِيعَ مَا يَحْتَمِلَهُ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالَاتِ. فَكَمَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ أَفْصَحِ كَلَامٍ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إِعْرَابُهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَفْصَحِ الْوُجُوهِ، هَذَا عَلَى أَنَّا إِنَّمَا نَذْكُرُ كَثِيرًا مِمَّا ذَكَرُوهُ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ الْمُتَأَمِّلِينَ تَرْجِيحُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَالُوا:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالْكِتَابُ صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَمَا بَعْدَهُ خَبَرًا. وَفِي موضع خبر الم ولا رَيْبَ جُمْلَةٌ تَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خبر لذلك، وَالْكِتَابُ صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفٌ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، إِذَا كَانَ الْكِتَابُ خَبَرًا، وَقُلْتُ بِتَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَوْلَى بِالْبُعْدِ لِتَبَايُنِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُفْرَدٌ وَالثَّانِي جُمْلَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ مُبَرَّأٍ مِنَ الرَّيْبِ، وَبَنَّاءُ رَيْبٍ مَعَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْعَامِلَةُ عَمَلَ إن، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَلَا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، فَالْمَرْفُوعُ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِسْنَادِ خَبَرٌ لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ فَلَمْ تَعْمَلْ حَالَةُ الْبِنَاءِ إِلَّا النَّصْبَ فِي الِاسْمِ فَقَطْ، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَأَمَّا الْأَخْفَشُ فَذَلِكَ الْمَرْفُوعُ خَبَرٌ لِلَا، فَعَمِلَتْ عِنْدَهُ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَإِذَا عَمِلَتْ عَمَلَ إِنْ أَفَادَتِ الِاسْتِغْرَاقَ فَنَفَتْ هُنَا كُلَّ رَيْبٍ، وَالْفَتْحُ هُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ.
وَقَرَأَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: لَا رَيْبَ فِيهِ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ حيث وقع، وَالْمُرَادُ أَيْضًا هُنَا الِاسْتِغْرَاقُ، لَا مِنَ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْيَ رَيْبٍ وَاحِدٍ عَنْهُ، وَصَارَ نَظِيرَ مَنْ قَرَأَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ «1»
بِالْبِنَاءِ وَالرَّفْعِ، لَكِنَّ الْبِنَاءَ يَدُلُّ بِلَفْظِهِ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ، وَالرَّفْعَ لَا يَدُلُّ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَيَحْتَمِلُ نَفْيَ الْوَحْدَةِ، لَكِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُمُومُ، وَرَفْعُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَيْبٌ مُبْتَدَأً وَفِيهِ الْخَبَرُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِعَدَمِ تَكْرَارِ لَا، أَوْ يَكُونُ عَمَلُهَا إِعْمَالَ لَيْسَ، فَيَكُونُ فِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ لَا إِذَا عَمِلَتْ عَمَلَ لَيْسَ رَفَعَتِ الِاسْمَ وَنَصَبَتِ الْخَبَرَ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَنْسِبُ الْعَمَلَ لَهَا فِي رَفْعِ الِاسْمِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَرْفُوعٌ لِأَنَّهَا وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ كَحَالِهَا إِذَا نَصَبَتْ وَبُنِيَ الِاسْمُ مَعَهَا، وَذَلِكَ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مُشَبَّعًا فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «2»
، وَحَمْلُ لَا فِي قِرَاءَةِ لَا رَيْبَ عَلَى أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ إِعْمَالِ لَا عَمَلَ لَيْسَ، فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ضَعِيفَةً. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، فيه:
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 197.
(2) سورة البقرة: 2/ 197.(1/62)
بِضَمِّ الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ وَبِهِ وَنُصْلِهِ وَنُوَلِّهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: فَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِوَاوٍ، وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَخَبَرًا لَهَا مَعَ اسْمِهَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَنْ يَكُونَ صِفَةً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ صِلَةِ رَيْبَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُضْمَرُ عَامِلٌ مِنْ لَفْظِ رَيْبَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ لَا رَيْبَ، إِذْ يَلْزَمُ إِذْ ذَاكَ إِعْرَابُهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ اسْمَ لَا مُطَوَّلًا بِمَعْمُولِهِ نَحْوَ لَا ضَارِبًا زَيْدًا عِنْدَنَا، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي بَابِ لَا الْعَامِلَةِ عَمَلَ إِنَّ إِذَا عُلِمَ لَمْ تَلْفِظْ بِهِ بَنُو تَمِيمٍ، وَكَثُرَ حَذْفُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ هُنَا مَعْلُومٌ، فَأَحْمِلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فِي الْإِعْرَابِ، وَإِدْغَامُ الْبَاءِ مِنْ لَا رَيْبَ فِي فَاءِ فِيهِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْإِظْهَارُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْيَزِيدِيِّ عَنْهُ. وَقَدْ قَرَأْتُهُ بِالْوَجْهَيْنِ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الطَّبَّاعِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَنَفْيُ الرَّيْبِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَاهِيَّةِ، أَيْ لَيْسَ مِمَّا يَحِلُّهُ الرَّيْبُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الِارْتِيَابِ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ارْتِيَابٌ مِنْ نَاسٍ كَثِيرِينَ. فَعَلَى مَا قُلْنَاهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى نَفْيِ التَّعْلِيقِ وَالْمَظِنَّةِ، كَمَا حَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ «1»
لِاخْتِلَافِ الْحَالِ وَالْمَحَلِّ، فَالْحَالُ هُنَاكَ الْمُخَاطَبُونَ، وَالرَّيْبُ هُوَ الْمَحَلُّ، وَالْحَالُ هُنَا مَنْفِيٌّ، وَالْمَحَلُّ الْكِتَابُ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَوْنِ الرَّيْبَ مَنْفِيًّا عَنِ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الرَّيْبَ فَقَالَ: لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ عُمُومٌ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، أَيْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَا سَبَبَ فِيهِ لِوُضُوحِ آيَاتِهِ وَإِحْكَامِ مَعَانِيهِ وَصِدْقِ أَخْبَارِهِ. وَهَذِهِ التَّقَادِيرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا. وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ فِيهِ خَبَرٌ، وَبِذَلِكَ بَنَى عَلَيْهِ سُؤَالًا وَهُوَ أَنْ قَالَ: هَلَّا قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى الرَّيْبِ كَمَا قُدِّمَ عَلَى الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا فِيها غَوْلٌ «2» ؟ وَأَجَابَ: بِأَنَّ التَّقْدِيمَ يُشْعِرُ بِمَا يَبْعُدُ عَنِ الْمُرَادِ، وَهُوَ أَنَّ كِتَابًا غَيْرُهُ فِيهِ الرَّيْبُ، كَمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ تَفْضِيلُ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا بِأَنَّهَا لَا تَغْتَالُ الْعُقُولَ كَمَا تَغْتَالُهَا هِيَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَيْسَ فِيهَا مَا فِي غَيْرِهَا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ وَالنَّقِيصَةِ. وَقَدِ انْتَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ إِلَى دَعْوَاهُ بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُفَرِّقُ بَيْنَ: لَيْسَ فِي الدَّارِ رَجُلٌ، وَلَيْسَ رَجُلٌ فِي الدَّارِ، وَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ لَا يَغْتَالُ، وَقَدْ وَصَفَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ خَمْرَ الدُّنْيَا، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 23.
(2) سورة الصافات: 37/ 47.(1/63)
تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلَا يُؤْذِيكَ طَالِبُهَا ... وَلَا يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمٌ
وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَا رَيْبَ صِيغَةُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الرَّيْبِ. وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَفِيهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، أَوِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي هُوَ هُدًى، أَوْ عَلَى فِيهِ مُضْمَرَةً إِذَا جَعَلْنَا فِيهِ مِنْ تَمَامِ لَا رَيْبَ، أَوْ خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ فَتَكُونُ قَدْ أَخْبَرْتَ بِالْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ، وَبِقَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا خَبَرًا ثَالِثًا، أَوْ كَانَ الْكِتَابُ تَابِعًا وَهُدًى خَبَرٌ ثَانٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْإِعْرَابِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَبُولِغَ بِجَعْلِ الْمَصْدَرِ حَالًا وَصَاحِبُ الْحَالِ اسْمُ الْإِشَارَةِ، أَوِ الْكِتَابُ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ أَوِ الضَّمِيرِ فِي فِيهِ، وَالْعَامِلُ مَا فِي الظَّرْفِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْحَالَ تَقْيِيدٌ، فَيَكُونُ انْتِقَالُ الرَّيْبِ مُقَيَّدًا بِالْحَالِ إِذْ لَا رَيْبَ فِيهِ يَسْتَقِرُّ فِيهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَكِنْ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ أَنَّهَا حَالٌ لَازِمَةٌ.
وَالْأَوْلَى: جَعْلُ كُلِّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَذَلِكَ الْكِتَابُ جُمْلَةٌ، وَلَا رَيْبَ جُمْلَةٌ، وَفِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ جُمْلَةٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى حَرْفِ عَطْفٍ لِأَنَّ بَعْضَهَا آخِذٌ بِعُنُقِ بَعْضٍ. فَالْأُولَى أَخْبَرَتْ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، أَيِ الْكَامِلُ فِي الْأَوْصَافِ. وَالثَّانِيَةُ نَعْتٌ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مَا مِنْ رَيْبَ. وَالثَّالِثَةُ أَخْبَرَتْ أَنَّ فِيهِ الْهُدَى لِلْمُتَّقِينَ. وَالْمَجَازُ إِمَّا فِي فِيهِ هُدًى، أَيِ اسْتِمْرَارُ هُدًى لِأَنَّ الْمُتَّقِينَ مُهْتَدُونَ فَصَارَ نَظِيرَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ، وَإِمَّا فِي الْمُتَّقِينَ أَيِ الْمُشَارِفِينَ لِاكْتِسَابِ التَّقْوَى، كَقَوْلِهِ:
إِذَا مَا مَاتَ مَيِّتُ مِنْ تَمِيمٍ وَالْمُتَّقِي فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَقِي نَفْسَهُ أَنْ يَتَعَاطَى مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِعُقُوبَةٍ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، وَهَلِ التَّقْوَى تَتَنَاوَلُ اجْتِنَابَ الصَّغَائِرِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ. وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ الْكِتَابُ أَيِ الْكَامِلُ فِي الْكُتُبِ، وَهُوَ المنزل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «1» ، فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ فِيهِ، فَلَا كِتَابَ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَيْبٌ وَأَنَّهُ فِيهِ الْهُدَى. فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى الْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ كَامِلَةَ الْأَجْزَاءِ حَقِيقَةً لَا مَجَازَ فِيهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ مجازا لحذف لأنا
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 38. [.....](1/64)
اخْتَرْنَا حَذْفَ الْخَبَرِ بَعْدَ لَا رَيْبَ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَنْزِيلُ الْمَعَانِي مَنْزِلَةَ الْأَجْسَامِ، إِذْ جَعَلَ الْقُرْآنَ ظَرْفًا وَالْهُدَى مَظْرُوفًا، فَأَلْحَقَ الْمَعْنَى بِالْعَيْنِ، وَأَتَى بِلَفْظَةٍ فِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْوِعَاءِ كَأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْهُدَى وَمُحْتَوٍ عَلَيْهِ احْتِوَاءَ الْبَيْتِ عَلَى زَيْدٍ فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الْبَيْتِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: الْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «1» ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صَدَّقَهُ، وَأَمِنَ بِهِ: وَثِقَ بِهِ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَمِنَ لِلصَّيْرُورَةِ كَأَعْشَبَ، أَوْ لِمُطَاوَعَةِ فِعْلٍ كَأَكَبَّ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الِاعْتِرَافِ أَوِ الْوُثُوقِ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَاللَّامِ فَما آمَنَ لِمُوسى «2» ، وَالتَّعْدِيَةُ بِاللَّامِ فِي ضِمْنِهَا تَعَدٍّ بِالْبَاءِ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ. الْغَيْبُ: مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ إِذَا تَوَارَى، وَسُمِّي الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ غَيْبًا لِذَلِكَ أَوْ فَعِيلٌ مِنْ غَابَ فَأَصْلُهُ غَيَّبَ، وَخُفِّفَ نَحْوَ: لَيِّنٍ فِي لِينٍ، وَالْفَارِسِيُّ لَا يَرَى ذَلِكَ قِيَاسًا فِي بنات الْيَاءِ، فَلَا يُجِيزُ فِي لِينٍ التَّخْفِيفَ وَيُجِيزُهُ فِي ذوات الواو، نحو: سَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، وَغَيْرُهُ قَاسَهُ فِيهِمَا. وَابْنُ مَالِكٍ وَافَقَ أَبَا عَلِيٍّ فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ. وَخَالَفَ الْفَارِسِيُّ فِي ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ لَا مَقِيسٌ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَالْإِقَامَةُ: التَّقْوِيمُ، أَقَامَ الْعَوْدَ قَوَّمَهُ، أَوِ الْإِدَامَةُ أَقَامَتِ الْغَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ، أَيْ أَدَامَتْهَا مِنْ قَامَتِ السُّوقُ، أَوِ التَّشَمُّرُ وَالنُّهُوضُ مِنْ قَامَ بِالْأَمْرِ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَقَامَ لِلتَّعْدِيَةِ.
الصَّلَاةُ: فَعَلَةٌ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ لِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الصَّلَى، وَهُوَ عِرْقٌ مُتَّصِلٌ بِالظَّهْرِ يَفْتَرِقُ مِنْ عِنْدِ عَجْبِ الذَّنَبِ، وَيَمْتَدُّ مِنْهُ عِرْقَانِ فِي كُلِّ وَرِكٍ، عِرْقٌ يُقَالُ لَهُمَا الصَّلَوَانِ فَإِذَا رَكَعَ الْمُصَلِّي انْحَنَى صَلَاهُ وَتَحَرَّكَ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ مَصْلِيًّا، وَمِنْهُ أُخِذَ الْمُصَلِّي فِي سَبْقِ الْخَيْلِ لِأَنَّهُ يَأْتِي مَعَ صِلْوَيِ السَّابِقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَاشْتُقَّتِ الصَّلَاةُ مِنْهُ إِمَّا لِأَنَّهَا جَاءَتْ ثَانِيَةَ الْإِيمَانِ فَشُبِّهَتْ بِالْمُصَلَّى مِنَ الْخَيْلِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الرَّاكِعَ وَالسَّاجِدَ يَنْثَنِي صَلَوَاهُ، وَالصَّلَاةُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَنْتَظِمُ مِنْ أَقْوَالٍ وَهَيْئَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَصَلَّى فَعَلَ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا صَلَّى دَعَا فَمَجَازٌ وَعِلَاقَتُهُ تَشْبِيهُ الدَّاعِي فِي التَّخَشُّعِ وَالرَّغْبَةِ بِفَاعِلِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الصَّلَاةَ مِمَّا أُخِذَ مِنْ صَلَّى بِمَعْنَى دَعَا، كَمَا قَالَ:
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعًا
وَقَالَ:
لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 17.
(2) سورة يونس: 10/ 83.(1/65)
قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ دُعَاءً، وَانْضَافَ إِلَيْهِ هَيْئَاتٌ وَقِرَاءَةٌ، سُمِّيَ جَمِيعُ ذَلِكَ بِاسْمِ الدُّعَاءِ وَالْقَوْلُ إِنَّهَا مِنَ الدُّعَاءِ أَحْسَنُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ ذكر أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَنَا، وَذَكَرْنَا الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الدَّاعِي وَفَاعِلِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ حَرْفُ جَرٍّ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ أَصْلَهَا مِنَا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ بَعْضِ قُضَاعَةَ:
بَذَلْنَا مَارِنَ الْخَطِّيِّ فِيهِمْ ... وَكُلَّ مُهَنَّدٍ ذَكَرٍ حُسَامِ
مِنَا أَنْ ذَرَّ قَرْنُ الشَمْسِ حَتَّى ... أغاب شريدهم قتر الظَّلَامِ
وَتَأَوَّلَ ابْنُ جِنِّي، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى فِعَلٍ مِنْ مَنَى يُمْنَى أَيْ قَدَرَ. وَاغْتَرَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ: وَقَدْ يُقَالُ مِنَا. وَقَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَلِلتَّبْعِيضِ، وَزَائِدَةً وَزِيدَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَلِلْبَدَلِ، وَلِلْمُجَاوَزَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَلِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَلِلْفَصْلِ، وَلِمُوَافَقَةِ الْبَاءِ، وَلِمُوَافَقَةٍ فِي. مِثْلَ ذَلِكَ: سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «1» ، فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ «2» ، بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «3» ، غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ «4» ، قَرُبْتَ مِنْهُ، وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ «5» ، يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ «6» يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ «7» مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ»
. مَا تَكُونُ مَوْصُولَةً، وَاسْتِفْهَامِيَّةً، وَشَرْطِيَّةً، وَمَوْصُوفَةً، وَصِفَةً، وَتَامَّةً. مَثَلُ ذَلِكَ:
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، مَرَرْتُ بِمَا مُعْجَبٍ لَكَ، لِأَمْرٍ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ، مَا أَحْسَنَ زَيْدًا. رَزَقْناهُمْ الرِّزْقُ: الْعَطَاءُ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْزَقُ كَالطَّحْنِ، وَالرِّزْقُ الْمَصْدَرُ، وَقِيلَ الرِّزْقُ أَيْضًا مَصْدَرُ رَزَقْتَهُ أَعْطَيْتَهُ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً وَقَالَ:
رُزِقْتَ مَالًا وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ ... إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا
وَقِيلَ: أَصْلُ الرِّزْقِ الْحَظَّ، وَمَعَانِي فَعَلَ كَثِيرَةٌ ذُكِرَ مِنْهَا: الْجَمْعُ، وَالتَّفْرِيقُ، وَالْإِعْطَاءُ، وَالْمَنْعُ، وَالِامْتِنَاعُ، وَالْإِيذَاءُ، وَالْغَلَبَةُ، وَالدَّفْعُ، وَالتَّحْوِيلُ، وَالتَّحَوُّلُ، وَالِاسْتِقْرَارُ، وَالسَّيْرُ، وَالسَّتْرُ، وَالتَّجْرِيدُ، وَالرَّمْيُ، وَالْإِصْلَاحُ، والتصويت. مثل ذلك:
__________
(1) سورة الكهف: 18/ 31.
(2) سورة البقرة: 2/ 19.
(3) سورة التوبة: 9/ 38.
(4) سورة آل عمران: 3/ 121.
(5) سورة الأنبياء: 21/ 77.
(6) سورة البقرة: 2/ 220.
(7) سورة الشورى: 43/ 45.
(8) سورة فاطر: 35/ 40.(1/66)
حَشَرَ، وَقَسَمَ، وَمَنَحَ، وَغَفَلَ، وَشَمَسَ، وَلَسَعَ، وَقَهَرَ، وَدَرَأَ، وَصَرَفَ، وَظَعَنَ، وَسَكَنَ، وَرَمَلَ، وَحَجَبَ، وَسَلَخَ، وَقَذَفَ، وَسَبَحَ، وَصَرَخَ. وَهِيَ هُنَا لِلْإِعْطَاءِ نَحْوُ: نَحَلَ، وَوَهَبَ، وَمَنَحَ. يُنْفِقُونَ، الْإِنْفَاقُ: الْإِنْفَاذُ، أَنْفَقْتُ الشَّيْءَ وَأَنْفَذْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ نَفَقَ الشَّيْءُ نَفَذَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ تَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ وَالذَّهَابِ، وَمِنْهُ:
نَافَقَ، وَالنَّافِقَاءُ، وَنَفَقَ ...
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، الَّذِينَ ذَكَرُوا فِي إِعْرَابِهِ الْخَفْضَ عَلَى النَّعْتِ لِلْمُتَّقِينَ، أَوِ الْبَدَلَ وَالنَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ عَلَى الْقَطْعِ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَعْنِي عَلَى التَّفْسِيرِ قَالُوا، أَوْ عَلَى مَوْضِعِ الْمُتَّقِينَ، تَخَيَّلُوا أَنَّ لَهُ مَوْضِعًا وَأَنَّهُ نُصِبَ، وَاغْتَرُّوا بِالْمَصْدَرِ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ مَعْمُولٌ لَهُ عُدِّيَ بِاللَّامِ، وَالْمَصْدَرُ هُنَا نَابَ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَلَا يَعْمَلُ، وَإِنْ عَمِلَ اسْمُ الْفَاعِلِ وَأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى مَصْدَرِيَّتِهِ فَلَا يَعْمَلُ، لِأَنَّهُ هُنَا لَا يَنْحَلُّ بِحَرْفِ مَصْدَرٍ وَفِعْلٍ، وَلَا هُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ، بَلْ لِلْمُتَّقِينَ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ هُدًى، أَيْ هُدًى كَائِنٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَأُولَئِكَ الْمُتَأَخِّرَةُ، وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، وَهَذَا الْأَخِيرُ إِعْرَابٌ مُنْكَرٌ لَا يَلِيقُ مِثْلُهُ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُخْتَارُ فِي الْإِعْرَابِ الْجَرُّ عَلَى النَّعْتِ وَالْقَطْعُ، إِمَّا لِلنَّصْبِ، وَإِمَّا لِلرَّفْعِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ جَاءَتْ لِلْمَدْحِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ بِالْهَمْزَةِ سَاكِنَةً بَعْدَ الْيَاءِ، وَهِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَحَذَفَ هَمْزَةَ أَفْعَلَ حَيْثُ وَقَّعَ ذلك ورش وأبو عمر، وَإِذَا أُدْرِجَ بِتَرْكِ الْهَمْزِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ رَزِينٌ بِتَحْرِيكِ الْهَمْزَةِ مِثْلَ: يُؤَخِّرُكُمْ، وَوَجْهُ قِرَاءَتِهِ أَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ لِسُكُونِهَا، وَأَقَرَّ هَمْزَةَ أَفْعَلَ لِتَحَرُّكِهَا وَتَقَدُّمِهَا وَاعْتِلَالِهَا فِي الْمَاضِي وَالْأَمْرِ، وَالْيَاءُ مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى الِاسْمِ، كَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، أَوْ لِلْحَالِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ مُلْتَبِسِينَ بِالْغَيْبِ عَنِ الْمُؤْمَنِ بِهِ، فَيَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْمَصْدَرُ، وَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ فَعَلَى مَعْنَى الْغَائِبِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ وَأُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْفَاعِلِ، قَالُوا: وَعَلَى مَعْنَى الْغَيْبِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ وَأُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ نَحْوُ: هَذَا خَلْقٌ الله، وَدِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْغَيْبَ مَصْدَرُ غَابَ اللَّازِمِ، أَوْ عَلَى التَّخْفِيفِ مِنْ غَيَّبَ كَلَيَّنَ، فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَصْدَرًا وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ التَّخْفِيفَ، وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْغَيْبِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا يُصَارُ إِلَى ذَلِكَ حتى يسمع منقلا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالْغَيْبُ هُنَا الْقُرْآنُ، قَالَهُ عَاصِمُ بن أبي الجود، أَوْ مَا لَمْ يَنْزِلْ(1/67)
مِنْهُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ أَوْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوْ عِلْمُ الْوَحْيِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ وَافِدٍ، أَوْ أَمْرُ الْآخِرَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ مَا غَابَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَانِئٍ، أَوِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ عَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ مَا غَابَ عَنِ الْحَوَاسِّ مِمَّا يُعْلَمُ بِالدَّلَالَةِ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى، أَوِ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، أَوْ مَعْنَى بِالْغَيْبِ بِالْقُلُوبِ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ مَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، أَوِ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ، قَالَهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا
أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ وَهُوَ: اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَكُتُبُهُ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر والقدر
، خَيْرُهُ وَشَرُّهُ، وَإِيَّاهُ نَخْتَارُ لِأَنَّهُ شَرَحَ حَالَ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
وَالْإِيمَانُ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا هُوَ ذَاكَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا تَضَمَّنَ الِاعْتِقَادَ الْقَلْبِيَّ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَالْفِعْلُ الْبَدَنِيُّ، وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَإِخْرَاجُ الْمَالِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ عُمُدُ أَفْعَالِ الْمُتَّقِي، فَنَاسَبَ أَنْ يُشْرَحَ الْغَيْبُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَمَا فُسِّرَ بِهِ الْإِقَامَةُ قَبْلُ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ قَوْلُهُ:
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَقَالُوا: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْإِقَامَةِ عَنِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ لَهَا، قَالُوا: لِأَنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ أَرْكَانِهَا، كَمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْقُنُوتِ، وَالْقُنُوتُ الْقِيَامُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالُوا:
سَبَّحَ إِذَا صَلَّى لِوُجُودِ التَّسْبِيحِ فِيهَا، فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا يَصِحُ إِلَّا بِارْتِكَابِ مَجَازٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ قَامَتِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهَا قِيَامٌ ثُمَّ دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ فَقُلْتُ: أَقَمْتُ الصَّلَاةَ، أَيْ جَعَلْتُهَا تَقُومُ، أَيْ يَكُونُ مِنْهَا الْقِيَامُ، وَالْقِيَامُ حَقِيقَةٌ مِنَ الْمُصَلِّي لَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَجُعِلَ مِنْهَا عَلَى الْمَجَازِ إِذَا كَانَ مِنْ فَاعِلِهَا. وَالصَّلَاةُ هُنَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ: أَوِ الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ.
وَالرِّزْقُ قِيلَ: هُوَ الْحَلَالُ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْحَلَالُ لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ وَصْفِ الْمُتَّقِي. وَمَنْ كُتِبَتْ مُتَّصِلَةً بِمَا مَحْذُوفَةَ النُّونِ مِنَ الْخَطِّ، وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً لِأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، لَكِنَّهَا وُصِلَتْ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهَا قَدْ أُخْفِيَتْ نُونُ مَنْ فِي اللَّفْظِ فَنَاسَبَ حَذْفُهَا فِي الْخَطِ، وَهُنَا لِلتَّبْعِيضِ، إِذِ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ إِخْرَاجَ جَمِيعِ مَا رُزِقُوا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ. وَالنَّفَقَةُ الَّتِي فِي الْآيَةِ هِيَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ نَفَقَةُ الْعِيَالِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ التَّطَوُّعُ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ مَعْنَاهُ، أَوِ النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ أَوِ النَّفَقَةُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ الْفَرْضُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُمْسِكَ مِمَّا فِي يَدِهِ بِمِقْدَارِ كِفَايَتِهِ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَيُفَرِّقَ بَاقِيَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَرُجِّحَ كَوْنُهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ لِاقْتِرَانِهَا بِأُخْتِهَا الصَّلَاةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ(1/68)
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِتَشَابُهِ أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ وَأَوَّلِ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ طُهْرَةٌ لِلْبَدَنِ، وَالزَّكَاةَ طُهْرَةٌ لِلْمَالِ وَالْبَدَنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ، وَالزَّكَاةَ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ أَعْظَمَ مَا لِلَّهِ عَلَى الْأَبْدَانِ مِنَ الْحُقُوقِ الصَّلَاةُ، وَفِي الْأَمْوَالِ الزَّكَاةُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ تَمْثِيلًا لِلْمُتَّفَقِ لَا خِلَافًا فِيهِ. وَكَثِيرًا مَا نَسَبَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِنَفْسِهِ حِينَ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ، أَوْ أَخْبَرَ بِهِ، وَلَمْ يَنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى كَسْبِ الْعَبْدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي يُخْرِجُهُ الْعَبْدُ وَيُعْطِيهِ هُوَ بَعْضُ مَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهُ وَنَحَلَهُ إِيَّاهُ، وَجَعَلَ صِلَاتِ الَّذِينَ أَفْعَالًا مُضَارِعَةً، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمَوْصُولَ أَلْ فَيَصِلَهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ فِيمَا ذَكَرَ الْبَيَانِيُّونَ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ بِخِلَافِ اسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُشْعِرٌ بِالثُّبُوتِ وَالْأَمْدَحُ فِي صِفَةِ الْمُتَّقِينَ تَجَدُّدُ الْأَوْصَافِ، وَقَدَّمَ الْمُنْفَقَ مِنْهُ عَلَى الْفِعْلِ اعْتِنَاءً بِمَا خَوَّلَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ وَإِشْعَارًا أَنَّ الْمُخْرَجَ هُوَ بَعْضُ مَا أَعْطَى الْعَبْدَ، وَلِتَنَاسُبِ الْفَوَاصِلِ وَحَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمُوهُ، وَاجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَعَيَّنًا لِلرَّبْطِ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مُتَصَرِّفٍ تَامٍّ. وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً وَقَدَّرَ، ومن شيء رزقناهمو لِضَعْفِ الْمَعْنَى بَعْدَ عُمُومِ الْمَرْزُوقِ الَّذِي يُنْفَقُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ التمدح الذي يحصل يجعل مَا مَوْصُولَةً لِعُمُومِهَا، وَلِأَنَّ حَذْفَ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ أَوْ جَعْلَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فَلَا يَكُونُ فِي رَزَقْنَاهُمْ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ بَلْ مَا مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، فَيُضْطَرُّ إِلَى جَعْلِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْمَصْدَرِ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ إِنَّمَا يُنْفَقُ مِنَ الْمَرْزُوقِ، وَتَرْتِيبُ الصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ الْإِلْزَامِ. فَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ دَائِمًا، وَالصَّلَاةُ لَازِمَةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَالنَّفَقَةُ لَازِمَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ.
الْإِنْزَالُ: الْإِيصَالُ وَالْإِبْلَاغُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أعلا، فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أَيْ وَصَلَ وَحَلَّ، إِلَى حَرْفُ جَرٍّ مَعْنَاهُ انْتِهَاءُ الْغَايَةِ وَزِيدَ كَوْنُهَا لِلْمُصَاحَبَةِ وَلِلتَّبْيِينِ وَلِمُوَافَقَةِ اللَّامِ وَفِي وَمِنْ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ زِيَادَتَهَا، مِثْلَ ذَلِكَ: سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ، كَأَنَّنِي إِلَى النَّاسِ مَطْلَبِي، أَيْ فِي النَّاسِ.
أَيَسْقِي فَلَا يَرْوِي إِلَى ابْنِ أَحْمَرَا، أَيْ مَتَى تَهْوِي إِلَيْهِمْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ تَهْوَاهُمْ، وَحُكْمُهَا فِي ثُبُوتِ الْفَاءِ، وَقَلْبِهَا حُكْمُ عَلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْكَافُ الْمُتَّصِلَةُ بِهَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ، وَتُكْسَرُ لِلْمُؤَنَّثِ، وَيَلْحَقُهَا مَا يَلْحَقُ أَنْتَ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَيْهِمَا، وَرُبَّمَا فُتِحَتْ لِلْمُؤَنَّثِ، أَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهَا مَكْسُورَةً فِي جَمْعِهَا نَحْوَ:
وَلَسْتُ بِسَائِلٍ جَارَاتِ بَيْتِي ... أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ أَمْ شُهُودُ(1/69)
قَبْلُ وَبَعْدُ ظَرْفَا زَمَانٍ وَأَصْلُهُمَا الْوَصْفُ وَلَهُمَا أَحْكَامٌ تُذْكَرُ فِي النَّحْوِ، وَمَدْلُولُ قَبْلُ مُتَقَدِّمٌ، كَمَا أَنَّ مَدْلُولَ بَعْدُ مُتَأَخِّرٌ. الْآخِرَةُ تَأْنِيثُ الْآخِرِ مُقَابِلِ الْأَوَّلِ وَأَصْلُ الْوَصْفِ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ «1» ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ «2» ، ثُمَّ صَارَتْ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَسْكِينِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَإِقْرَارِ الْهَمْزَةِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَهَا لِلْقَطْعِ، وَوَرْشٌ يَحْذِفُ وَيَنْقُلُ الْحَرَكَةَ إِلَى اللَّامِ. الْإِيقَانُ: التَّحَقُّقُ لِلشَّيْءِ لِسُكُونِهِ وَوُضُوحِهِ، يُقَالُ يَقِنَ الْمَاءُ سَكَنَ وَظَهَرَ مَا تَحْتَهُ، وَأَفْعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ كَأَبَلَّ بِمَعْنَى اسْتَبَلَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُمَا النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ مبنيا للفاعل.
وقرىء شَاذًّا بِمَا أُنْزِلَّ إِلَيْكَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَسْكَنَ لَامَ أَنْزَلَ كَمَا أَسْكَنَ وَضَّاحٌ آخِرَ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ:
إِنَّمَا شِعْرِي قَيْدٌ، قَدْ خُلِطْ بحلجان ثُمَّ حَذَفَ هَمْزَةَ إِلَى وَنَقَلَ كَسْرَتَهَا إِلَى لَامِ أَنْزَلَ فَالتَّقَى الْمِثْلَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، وَالْإِدْغَامُ جَائِزٌ فَأَدْغَمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوقِنُونَ بِوَاوٍ ساكنة بعد الياء وهي مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءٍ لِأَنَّهُ مِنْ أَيْقَنَ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَرِيُّ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَدَلَ الْوَاوِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لحب المؤقذان إِلَيَّ مُوسَى ... وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الضَّرُورَةِ، وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ لَمَّا جَاوَرَتِ الْمَضْمُومَ فَكَأَنَّ الضَّمَّةَ فِيهَا، وَهُمْ يُبْدِلُونَ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً، قَالُوا وَفِي وُجُوهٍ وَوُقِّتَتْ أُجُوهٌ وَأُقِّتَتْ، فَأَبْدَلُوا مِنْ هَذِهِ هَمْزَةً، إِذْ قَدَّرُوا الضَّمَّةَ فِيهَا وَإِعَادَةُ الْمَوْصُولِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ يَحْتَمِلُ الْمُغَايَرَةَ فِي الذَّاتِ وَهُوَ الْأَصْلُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ لِإِيمَانِهِمْ بِكُلِّ وَحْيٍ، فَإِنْ جَعَلْتَ الْمَوْصُولَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَوْصُولِ انْدَرَجُوا فِي جُمْلَةِ الْمُتَّقِينَ، إِنْ لَمْ يُرِدْ بِالْمُتَّقِينَ بِوَصْفِهِ مُؤْمِنُو الْعَرَبِ، وَذَلِكَ لِانْقِسَامِ الْمُتَّقِينَ إِلَى الْقِسْمَيْنِ.
وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُتَّقِينَ لَمْ يَنْدَرِجْ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ قَسِيمٌ لِمَنْ لَهُ الْهُدَى لَا قِسْمٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَيُحْتَمَلُ الْمُغَايَرَةُ فِي الْوَصْفِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَاتِ، وَلَا تَغَايُرَ فِي الذوات بِالنِّسْبَةِ لِلْعَطْفِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَبُنِيَ الفعلان للمفعول للعلم
__________
(1) سورة القصص: 28/ 83.
(2) سورة يوسف: 12/ 109، وسورة النحل: 16/ 130.(1/70)
بِالْفَاعِلِ، نَحْوَ: أُنْزِلَ الْمَطَرُ، وَبِنَاؤُهُمَا لِلْفَاعِلِ فِي قِرَاءَةِ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ قُطَيْبٍ، فَاعِلُهُ مُضْمَرٌ، قِيلَ: اللَّهُ أَوْ جِبْرِيلُ. قَالُوا: وَقُوَّةُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ عِنْدِي مِنَ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ، فَخَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى الْأَوَّلِ لَجَاءَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلَ صِلَةَ مَا الْأُولَى مَاضِيَةً لِأَنَّ أَكْثَرَهُ كَانَ نَزَلَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ، أَوْ غُلِّبَ الْمَوْجُودُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْمُتَقَدِّمِ الْمَاضِي يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالْمُتَأَخِّرِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِيمَانِ وَاحِدٌ. وَأَمَّا صِلَةُ الثَّانِيَةِ فَمُتَحَقِّقَةُ الْمُضِيِّ وَلَمْ يُعَدْ حَرْفُ الْجَرِّ فيما الثَّانِيَةِ لِيَدُلَّ أَنَّهُ إِيمَانٌ وَاحِدٌ، إِذْ لَوْ أَعَادَ لَأَشْعَرَ بِأَنَّهُمَا إِيمَانَانِ.
وَبِالْآخِرَةِ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَا الدَّارُ الْآخِرَةُ لِلتَّصْرِيحِ بِالْمَوْصُوفِ فِي بَعْضِ الْآيِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، إِذْ قَدْ جَاءَ أَيْضًا مُصَرَّحًا بِهَذَا الْمَوْصُوفِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْبَعْثِ. وَأَكَّدَ أَمْرَ الْآخِرَةِ بِتَعَلُّقِ الْإِيقَانِ بِهَا الَّذِي هُوَ أَجْلَى وَآكَدُ مَرَاتِبِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَفَاوُتَ فِي الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ دَفْعًا لِمَجَازِ إِطْلَاقِ الْعِلْمِ، وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ، فَذَكَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ بِالْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِيقَانًا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ. وَغَايَرَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْمُنَزَّلِ وَالْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ فِي اللَّفْظِ لِزَوَالِ كُلْفَةِ التَّكْرَارِ، وَكَانَ الْإِيقَانُ هُوَ الَّذِي خُصَّ بِالْآخِرَةِ لِكَثْرَةِ غَرَائِبِ مُتَعَلِّقَاتِ الْآخِرَةِ، وَمَا أُعِدَّ فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ السَّرْمَدِيَّيْنِ، وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ التَّنْعِيمِ وَالتَّعْذِيبِ، وَنَشْأَةُ أَصْحَابِهَا عَلَى خِلَافِ النَّشْأَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْآخِرَةُ أَغْرَبُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، فَلِذَلِكَ خَصَّ بِلَفْظِ الْإِيقَانِ، وَلِأَنَّ الْمُنَزَّلَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مُشَاهَدٌ أَوْ كَالْمُشَاهَدِ، وَالْآخِرَةُ غَيْبٌ صِرْفٌ، فَنَاسَبَ تَعْلِيقَ الْيَقِينِ بِمَا كَانَ غَيْبًا صِرْفًا. قَالُوا: وَالْإِيقَانُ هُوَ الْعِلْمُ الْحَادِثُ سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورِيًّا أَوِ اسْتِدْلَالِيًّا، فَلِذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِهِ الْبَارِي تَعَالَى، لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ الْمُوقِنُ وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ اعْتِنَاءً بِهِ وَلِتَطَابُقِ الْأَوَاخِرِ. وَإِيرَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ آكَدُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ هَؤُلَاءِ بِالْإِيقَانِ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فَعَلَ آكَدُ مِنْ فَعَلَ زَيْدٌ لِتَكْرَارِ الِاسْمِ فِي الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُضْمَرًا، وَتَصْدِيرِهِ مُبْتَدَأٌ يُشْعِرُ بِالِاهْتِمَامِ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ التَّقْدِيمَ لِلْفِعْلِ مُشْعِرٌ بِالِاهْتِمَامِ بِالْمَحْكُومِ بِهِ. وَذَكَرَ لَفْظَةَ هُمْ فِي قَوْلِهِ: هُمْ يُوقِنُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ هُمْ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ لِأَنَّ وَصْفَ إِيقَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ أَعْلَى مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْإِنْفَاقِ، فَاحْتَاجَ هَذَا إِلَى التَّوْكِيدِ وَلَمْ يَحْتَجْ ذَلِكَ إِلَى تَأْكِيدٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَهُمْ هُنَاكَ لَكَانَ فِيهِ قَلَقٌ لَفْظِيٌّ، إِذْ كَانَ يَكُونُ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ هُمْ(1/71)
يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ لِلرُّتْبَةِ الْوُسْطَى، قَاسَهُ عَلَى ذَا حِينَ لَمْ يَزِيدُوا فِي الْوُسْطَى عَلَيْهِ غَيْرَ حَرْفِ الخطاب، بخلاف أولالك. وَيَضْعُفُ قَوْلُهُ كَوْنَ هَاءِ التنبيه لا ندخل عَلَيْهِ. وَكَتَبُوهُ بِالْوَاوِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلَيْكَ، وَبُنِيَ لِافْتِقَارِهِ إِلَى حَاضِرٍ يُشَارُ إِلَيْهِ بِهِ، وَحُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَائِهِمَا. الْفَلَاحُ: الْفَوْزُ وَالظَّفْرُ بِإِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ، أَوِ الْبَقَاءِ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ:
إِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ وَفِي تَشَارُكِهِ فِي مَعْنَى الشَّقِّ مُشَارَكَةً فِي الْفَاءِ وَالْعَيْنِ نَحْوَ: فَلَى وَفَلَقَ وَفَلَذَ، تَقَدَّمَ فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، أَنَّ مِنْ وَجْهَيْ رَفْعِهِ كَوْنَهُ مُبْتَدَأً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أُولَئِكَ مَعَ مَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الَّذِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا وَعَطْفَ بَيَانٍ، وَيَمْتَنِعُ الْوَصْفُ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ. وَيَكُونُ خَبَرَ الَّذِينَ إِذْ ذَاكَ قَوْلُهُ: عَلى هُدىً، وَإِنْ كَانَ رَفْعُ الَّذِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ كَانَ مَجْرُورًا أَوْ مَنْصُوبًا، كَانَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ عَلى هُدىً، وقد تقدم أنا لا نَخْتَارُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لِانْفِلَاتِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَالذَّهَابِ بِهِ مَذْهَبَ الِاسْتِئْنَافِ مَعَ وُضُوحِ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِلتَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ فِي الِاسْتِئْنَافِ فِيمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهُ وَالِارْتِبَاطِ بِهِ. وَقَدْ وَجَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهَ الِاسْتِئْنَافِ بِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الكتاب اختص المتقون بِكَوْنِهِ هُدًى لَهُمْ، اتَّجَهَ لِسَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا بَالُ الْمُتَّقِينَ مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْجَلِيلَةَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَالْإِيمَانِ بِالْمُنْزَلِ، وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ عَلَى هُدًى فِي الْعَاجِلِ، وَذَوُو فَلَاحٍ فِي الْآجِلِ. ثُمَّ مَثَّلَ هَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ بِقَوْلِهِ: أَحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ الَّذِينَ قَارَعُوا دُونَهُ، فَكَشَفُوا الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِهِ، أُولَئِكَ أَهْلٌ لِلْمَحَبَّةِ، يَعْنِي أَنَّهُ اسْتَأْنَفَ فَابْتَدَأَ بِصِفَةِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا اسْتَأْنَفَ بِصِفَةِ الْأَنْصَارِ.
وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الِاتِّصَالِ يَكُونُ قَدْ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِصِفَاتِ مَدْحٍ فَضَلَتْ جِهَاتِ التَّقْوَى، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ وَأَعْلَمَ بِأَنَّ مَنْ حَازَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الشَّرِيفَةَ هُوَ عَلَى هُدًى، وَهُوَ الْمُفْلِحُ وَالِاسْتِعْلَاءُ الَّذِي أَفَادَتْهُ فِي قَوْلِهِ: عَلى هُدىً، هُوَ مَجَازٌ نَزَّلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا تَمَكَّنَ رُسُوخُهُمْ فِي الْهِدَايَةِ جُعِلُوا كَأَنَّهُمُ اسْتَعْلَوْهُ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ عَلَى الْحَقِّ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْهُدَى بِمَا اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ(1/72)
الْمَذْكُورَةِ فِي وَصْفِ الْهُدَى بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ، أَيْ كَائِنٌ مِنْ رَبِّهِمْ، تَعْظِيمٌ لِلْهُدَى الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الرَّبِّ هُنَا وَاضِحَةٌ، أَيْ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ رَبَّهُمْ بِأَيِّ تَفَاسِيرِهِ فَسَّرْتَ نَاسَبَ أَنْ يُهَيِّئَ لَهُمْ أَسْبَابَ السَّعَادَتَيْنِ: الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَجَعَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى هُدًى، وَفِي الْآخِرَةِ هُمُ مفلحون. وَقَدْ تَكُونُ ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ عَلَى هُدًى، وَحَذْفُ الصِّفَةِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي مُطْلَقُ الْهُدَى المنسوب إلى الله تعالى. وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ هُدَى رَبِّهِمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: مِنْ رَبِّهُمْ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا آتٍ جَمْعُ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا سَبْقُ كَسْرٍ أَوْ يَاءٍ، وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِخَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَرَّرَ أُولَئِكَ لِيَقَعَ كُلُّ خَبَرٍ مِنْهُمَا فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَهُوَ آكَدُ فِي الْمَدْحِ إِذْ صَارَ الْخَبَرُ مَبْنِيًّا عَلَى مُبْتَدَأٍ. وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ هُمَا نَتِيجَتَا الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ إِذْ كَانَتِ الْأَوْصَافُ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقُهُ أَمْرُ الدُّنْيَا، وَمِنْهَا مَا مُتَعَلِّقُهُ أَمْرُ الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْهُدَى فِي الدُّنْيَا وَبِالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، أَتَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ فِي الْمُبْتَدَأِ، وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ، لَمْ يُدْخِلِ الْعَاطِفَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «1» بَعْدَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ «2» كَيْفَ جَاءَ بِغَيْرِ عَاطِفٍ لِاتِّفَاقِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ لِلْمُبْتَدَأَيْنِ فِي الْمَعْنَى؟ وَيُحْتَمَلُ هُمْ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا أَوْ بدلا فيكون المفلحون خيرا عَنْ أُولَئِكَ، أَوِ الْمُبْتَدَأِ وَالْمُفْلِحُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ أُولَئِكَ، وَأَحْكَامُ الْفَصْلِ وَحِكْمَةُ الْمَجِيءِ بِهِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَقَدْ جُمِعَتْ أَحْكَامُ الْفَصْلِ مُجَرَّدَةً مِنْ غَيْرِ دَلَائِلَ فِي نَحْوٍ مِنْ سِتِّ وَرَقَاتٍ، وَإِدْخَالُ هُوَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ تَأْكِيدٍ وَرَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَشَكَّكُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْخَبَرُ أَوْ يُنَازِعُ فِيهِ، أَوْ مَنْ يَتَوَهَّمُ التَّشْرِيكَ فِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا «3» ، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى «4» ، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «5» ، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى «6» ، كَيْفَ أَثْبَتَ هُوَ دَلَالَةً عَلَى مَا ذُكِرَ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فِي نِسْبَةِ خَلْقِ الزَّوْجَيْنِ وَإِهْلَاكِ عَادٍ، إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ إِسْنَادُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الله تعالى ولا
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 179.
(2) سورة الأعراف: 7/ 179. [.....]
(3) سورة النجم: 53/ 43- 44.
(4) سورة النجم: 53/ 48.
(5) سورة النجم: 53/ 45.
(6) سورة النجم: 53/ 50.(1/73)
الشَّرِكَةُ فِيهِ. وَأَمَّا الْإِضْحَاكُ وَالْإِبْكَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِغْنَاءُ وَالْإِقْنَاءُ فَقَدْ يَدَّعِي ذَلِكَ، أَوِ الشَّرِكَةَ فِيهِ مُتَوَاقِحٌ كَذَّابٌ كَنُمْرُوذَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى «1» ، فَدُخُولُ هُوَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّ هَذَا النَّجْمِ، وَإِنْ كَانَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ هَذَا النَّجْمَ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَاتُّخِذَ إِلَهًا، فَأَتَى بِهِ لِيُنَبِّهَ بِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَبِدٌّ بِكَوْنِهِ رَبًّا لِهَذَا الْمَعْبُودِ، وَمَنْ دُونَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ فِي الْخَارِجِ أَوْ فِي الذِّهْنِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ، فَالْمُخَاطَبُ يَعْرِفُ وُجُودَ ذَاتِ صَدْرٍ مِنْهَا انْطِلَاقٌ، وَيَعْرِفُ زَيْدًا وَيَجْهَلُ نِسْبَةَ الِانْطِلَاقِ إِلَيْهِ، وَأَنْتَ تَعْرِفُ كُلَّ ذَلِكَ فَتَقُولُ لَهُ: زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ، فَتُفِيدُهُ مَعْرِفَةَ النِّسْبَةَ الَّتِي كَانَ يَجْهَلُهَا، وَدَخَلَتْ هُوَ فِيهِ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ، لِتَأْكِيدِ النِّسْبَةِ، وَإِنَّمَا تُؤَكِّدُ النِّسْبَةَ عِنْدَ تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يُنَازِعُ أَوْ يَتَوَهَّمُ الشِّرْكَةَ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم إِلَى قَوْلِهِ:
الْمُفْلِحُونَ أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ضروب الفصاحة أَنْوَاعًا: الْأَوَّلُ: حُسْنُ الِافْتِتَاحِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ بِمَا فِيهِ غُمُوضٌ وَدِقَّةٌ لِتَنْبِيهِ السَّامِعِ عَلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. الثَّانِي:
الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ أَدْخَلَ اللَّامَ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ الْمَنَازِلِ. الثَّالِثُ: مَعْدُولُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ صِيغَتُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. الرَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ هُوَ فِي قَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْخَامِسُ: التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ، والَّذِينَ إِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ وَاحِدًا فَهُوَ تَكْرَارُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَمِنَ التَّكْرَارِ أُولئِكَ، وأُولئِكَ. السَّادِسُ: تَأْكِيدُ الْمُظْهَرِ بِالْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: هُمْ يُوقِنُونَ. السَّابِعُ: الْحَذْفُ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ أَحَدُهَا هَذِهِ الم عِنْدَ مَنْ يُقَدِّرُ ذَلِكَ، وَهُوَ هُدًى، وَيُنْفِقُونَ في الطاعة، وبِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ومِنْ قَبْلِكَ، أَيْ قَبْلَ إِرْسَالِكَ، أَوْ قَبْلَ الْإِنْزَالِ، وَبِالْآخِرَةِ، أَيْ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ، ويُوقِنُونَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا، وعَلى هُدىً، أَيْ أَسْبَابِ هُدًى، أَوْ عَلَى نُورٍ هُدًى، والْمُفْلِحُونَ، أَيِ الْبَاقُونَ فِي نعيم الآخرة.
__________
(1) سورة النجم: 53/ 49.(1/74)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ، إِنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ يَتَشَبَّثُ بِالْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ، فَيُنْصِبُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، وَيَرْتَفِعُ الْمَسْنَدُ وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَهَا وَلِأَخَوَاتِهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ. وَتَأْتِي أَيْضًا حَرْفَ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ. الْكُفْرُ:
السَّتْرُ، وَلِهَذَا قِيلَ: كَافِرٌ لِلْبَحْرِ، وَمَغِيبُ الشَّمْسِ، وَالزَّارِعِ، وَالدَّافِنِ، وَاللَّيْلِ، وَالْمُتَكَفِّرِ، وَالْمُتَسَلِّحِ. فَبَيْنَهَا كُلِّهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَهُوَ السَّتْرُ، سَوَاءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى اسْتِوَاءٍ مَصْدَرِ اسْتَوَى، وَوُصِفَ بِهِ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، فَتَحْمِلُ الضَّمِيرَ. قَالُوا: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٌ، وَالْعَدَمُ قَالُوا: أَصْلُهُ الْعَدْلُ، قال زهير: يستوي بَيْنَهَا فِيهَا السِّوَاءُ. وَلِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْمَصْدَرِ لَا يُثَنَّى، قَالُوا: هُمَا سَوَاءٌ اسْتَغْنَوْا بِتَثْنِيَةِ سَيٍّ بِمَعْنَى سُواءٍ، كَقِيٍّ بِمَعْنَى قِوَاءٌ، وَقَالُوا: هُمَا سِيَّانِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ تَثْنِيَتَهُ عَنْ بَعْضِ العرب. قالوا: هذان سواءان، وَلِذَلِكَ لَا تُجْمَعُ أَيْضًا، قَالَ:
وَلَيْلٍ يَقُولُ النَّاسُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ الْعُيُونِ وَعُورُهَا
وَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، فَهُوَ مِنْ بَابِ طَوَيْتُ.
وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ سَوَاءُ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، فَيَجُوزُ أَنَّهُ أَخَلَصَ الْوَاوَ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَ الْهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ.
وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ فِيمَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ الْمُلَيَّنَةِ مِنَ الْمَدِّ، انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَوَاءٌ لَيْسَ لَامُهُ يَاءً بَلْ وَاوًا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوَاءٍ. وَعَنِ الْخَلِيلِ: سُوءٍ عَلَيْهِمْ بِضَمِّ السِّينِ مَعَ وَاوٍ بَعْدَهَا مَكَانَ الْأَلِفِ، مِثْلَ دَائِرَةِ السَّوْءِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ ضَمَّ السِّينَ، وَفِي ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ إِلَى مَعْنَى الْقُبْحِ وَالسَّبِّ، وَلَا يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَهُ تَعَلُّقُ إِعْرَابٍ بِالْجُمْلَةِ بَعْدَهَا بَلْ يَبْقَى. أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِخْبَارٌ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْذَارِكَ وَعَدَمِ إِنْذَارِكَ، وَأَمَّا سَوَاءٌ الْوَاقِعُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِمْ قَامُوا سِوَاكَ بِمَعْنَى قَامُوا غَيْرَكَ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا فِي اللَّفْظِ، مُخَالِفٌ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَهُ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءَ. الْهَمْزَةُ لِلنِّدَاءِ، وَزِيدَ وَلِلِاسْتِفْهَامِ الصِّرْفِ، وَذَلِكَ مِمَّنْ يَجْهَلُ النِّسْبَةَ فَيَسْأَلُ عَنْهَا، وَقَدْ يَصْحَبُ الْهَمْزَةَ التَّقْرِيرُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ؟
وَالتَّحْقِيقُ، أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا. وَالتَّسْوِيَةُ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ، وَالتَّوْبِيخُ أَذْهَبْتُمْ(1/75)
طَيِّباتِكُمْ
«1» ، والإنكار أن يدنيه لِمَنْ قَالَ جَاءَ زَيْدٌ، وَتَعَاقُبُ حَرْفِ الْقَسَمِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ.
الْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ مَعَ التَّخْوِيفِ فِي مُدَّةٍ تَسَعُ التَّحَفُّظَ مِنَ الْمُخَوَّفِ، وَإِنْ لَمْ تَسْعَ سُمِّي إِعْلَامًا وَإِشْعَارًا وَإِخْبَارًا، وَيَتَعَدَّى إِلَى اثنين: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
«2» ، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً «3» ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: نَذَرَ الْقَوْمُ إِذَا عَلِمُوا بِالْعَدُوِّ. وَأَمْ حَرْفُ عَطْفٍ، فَإِذَا عَادَلَ الهمزة وجاء بعده مفردا أَوْ جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ سُمِّيَتْ أَمْ مُتَّصِلَةً، وَإِذَا انْخَرَمَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا سُمِّيَتْ مُنْفَصِلَةً، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي النَّحْوِ، وَلَا تُزَادُ خِلَافًا لِأَبِي زَيْدٍ. لَمْ حَرْفُ نَفْيٍ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْمُضَارِعِ، اللَّفْظُ الْمَاضِي مَعْنَى، فَعَمِلَ فِيهِ مَا يَخُصُّهُ، وَهُوَ الْجَزْمُ، وَلَهُ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ.
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ الْخَتْمُ: الْوَسْمُ بِطَابَعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُوسَمُ بِهِ. الْقَلْبُ: مَصْدَرُ قَلَّبَ، وَالْقَلْبُ: اللُّحْمَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ، وَكُنِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْعَقْلِ، وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى لُبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِصِهِ. السَّمْعُ: مَصْدَرُ سَمِعَ سَمْعًا وَسَمَاعًا وَكُنِّيَ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنِ الْأُذُنِ. الْبَصَرُ: نُورُ الْعَيْنِ، وَهُوَ مَا تُدْرَكُ بِهِ الْمَرْئِيَّاتِ. الْغِشَاوَةُ: الْغِطَاءُ، غَشَّاهُ أَيْ غَطَّاهُ، وَتُصَحَّحُ الْوَاوُ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ بُنِيَتْ عَلَى تَاءِ التَّأْنِيثِ، كَمَا صَحَّحُوا اشْتِقَاقَهُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ مِنَ الْغِشَاوَةِ فِعْلًا مُتَصَرِّفًا بِالْوَاوِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْنَى مَا اللَّامُ مِنْهُ الْيَاءُ، غَشِيَ يَغْشَى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِمُ: الْغَشَيَانُ وَالْغِشَاوَةُ مِنْ غَشِيَ، كَالْجِبَاوَةِ مِنْ جَبَيْتُ فِي أَنَّ الْوَاوَ كَأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ إِذَا لَمْ يُصْرَفْ مِنْهُ فِعْلٌ، كَمَا لَمْ يُصْرَفْ مِنَ الْجِبَاوَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. الْعَذَابُ: أَصْلُهُ الِاسْتِمْرَارُ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَسُمِّيَ بِهِ كُلُّ اسْتِمْرَارِ أَلَمٍ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ فَقَالُوا: عَذَّبْتُهُ، أَيْ دَاوَمْتُ عَلَيْهِ الْأَلَمَ، وَقَدْ جَعَلَ النَّاسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَذْبِ: الَّذِي هُوَ الْمَاءُ الْحُلْوُ، وَبَيْنَ عَذُبَ الْفَرَسُ: اسْتَمَرَّ عَطَشُهُ، قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الِاسْتِمْرَارِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُهُ الْمَنْعُ، يُقَالُ عَذُبَ الْفُرْسُ:
امْتَنَعَ مِنَ الْعَلَفِ. عَظِيمٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَظُمَ غَيْرُ مَذْهُوبٍ بِهِ مَذْهَبَ الزَّمَانِ، وَفَعِيلٌ اسْمٌ، وَصِفَةٌ الِاسْمُ مُفْرَدٌ نَحْوُ: قَمِيصٍ، وَجَمْعٌ نَحْوُ: كَلِيبٍ، وَمَعْنًى نَحْوُ: صَهِيلٍ، وَالصِّفَةُ مُفْرَدُ فَعْلَةٍ كَقُرَى، وَفُعَلَةٍ كَسَرِيٍّ، وَاسْمُ فَاعِلٍ مِنْ فَعُلَ كَكَرِيمٍ، وَلِلْمُبَالَغَةِ مِنْ فَاعِلٍ كَعَلِيمٍ، وَبِمَعْنَى أَفْعَلٍ كَشَمِيطٍ، وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَجَرِيحٍ، وَمُفْعِلٍ كَسَمِيعٍ وَأَلِيمٍ، وَتَفَعَّلَ كَوَكِيدٍ،
__________
(1) سورة الأحقاف: 46/ 20.
(2) سورة النبأ: 78/ 40.
(3) سورة فصلت: 41/ 13.(1/76)
وَمُفَاعِلٍ كَجَلِيسٍ، وَمُفْتَعَلٍ كَسَعِيرٍ، وَمُسْتَفْعِلٍ كَمَكِينٍ، وَفَعَلَ كَرَطِيبٍ، وَفَعُلَ كَعَجِيبٍ، وَفَعَّالٍ كَصَحِيحٍ، وَبِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَصَرِيحِ، وَبِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَخَلِيطٍ وَجَمْعِ فَاعِلٍ كَغَرِيبٍ.
مُنَاسِبَةُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صِفَةً مِنَ الْكِتَابِ لَهُ هُدًى وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الْجَامِعُونَ لِلْأَوْصَافِ الْمُؤَدِّيَةِ إلى الفور، ذَكَرَ صِفَةً ضِدَّهُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ الْمَحْتُومُ لَهُمْ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَافْتَتَحَ قِصَّتَهُمْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ فِيهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قِصَّةِ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الِانْجِرَارِ، إِذِ الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْكِتَابِ ثُمَّ أَنْجَزَ ذِكْرَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْكِتَابِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ إِعْرَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُبْتَدَأٌ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مِنْ تَمَامِ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ مَلْحُوظًا فِيهِ قَيْدٌ، وَهُوَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْوَفَاةِ عليه، وأن يكون لمعينين كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمَا. وَسَوَاءٌ وَمَا بَعْدَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَيَكُونَ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، بِجَعْلِ سَوَاءٍ الْمُبْتَدَأَ وَالْجُمْلَةِ بَعْدَهُ الْخَبَرَ أَوِ الْعَكْسِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَكُونُ قَدْ دَخَلَتْ جُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ اسْتَوَى إِنْذَارُهُ وَعَدَمُ إِنْذَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، فَيَحْتَمِلُ لَا يُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، إِمَّا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هم لَا يُؤْمِنُونَ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ فَتَكُونُ جُمْلَةً تَفْسِيرِيَّةً لِأَنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ هُوَ اسْتِوَاءُ الْإِنْذَارِ وَعَدَمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ «1» ، أَوْ يَكُونُ جُمْلَةً دِعَائِيَّةً وَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِذَا كَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءٌ خَبَرَ إِنَّ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَقَدِ اعْتُمِدَ بِكَوْنِهِ خَبَرَ الَّذِينَ، وَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ إِنْذَارُهُمْ وَعَدَمُهُ. وَفِي كَوْنِ الْجُمْلَةِ تَقَعُ فَاعِلَةً خِلَافَ مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَكُونُ إِلَّا اسْمًا أَوْ مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِهِ، وَمَذْهَبُ هِشَامٍ وَثَعْلَبٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ كَونِ الْجُمْلَةَ تَكُونُ فَاعِلَةً، وَأَجَازُوا يُعْجِبُنِي يَقُومُ زَيْدٌ، وَظَهَرَ لِي أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو، أَيْ قِيَامُ أَحَدِهِمَا، وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْمُولَةً لِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَعَلَّقَ عَنْهَا، جَازَ أَنْ تقع في
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 9.(1/77)
مَوْضِعِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَنُسِبَ هَذَا لِسِيبَوَيْهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي الْمَبْسُوطَاتِ مِنْ كُتُبِ النَّحْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا إِذَا كَانَتْ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ، وَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، وَالتَّقْدِيرَانِ الْمَذْكُورَانِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا سَوَاءً الْمُبْتَدَأَ وَالْجُمْلَةَ الْخَبَرَ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ لِأَنَّهَا الْمُبْتَدَأُ فِي الْمَعْنَى وَالتَّأْوِيلِ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ سَوَاءٌ بَعْدَهُ الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالْهَمْزَةِ الْمُعَادَلَةُ بِأَمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «1» ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «2» ، وَقَدْ تُحْذَفُ تِلْكَ الْجُمْلَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ «3» أَيْ أَصَبَرْتُمْ أَمْ لَمْ تَصْبِرُوا، وَتَأْتِي بَعْدَهُ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ الْمُتَسَلِّطَةُ عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْوُ: سَوَاءٌ عَلَيَّ أَيُّ الرِّجَالِ ضَرَبْتُ، قَالَ زُهَيْرٌ:
سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتُهُ ... أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بِأَسْعَدِ
وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُ مَا عُرِّيَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، قَالَ:
سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ العيون وعورها وَأَخْبَرَ عَنِ الْجُمْلَةِ بِأَنْ جُعِلَتْ فَاعِلًا بِسَوَاءٍ أَوْ مُبْتَدَأَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُصَدَّرَةً بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى وَكَلَامُ الْعَرَبِ مِنْهُ مَا طَابَقَ فِيهِ اللَّفْظُ الْمَعْنَى، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ قَائِمٌ، وَهُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ مَا غُلِّبَ فِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، نَحْوَ:
عَلِمْتُ أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْجُمْلَةِ عَلَى عَلِمْتُ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَا بَعْدَ عَلِمْتُ اسْتِفْهَامًا، بَلِ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ. وَمِنْهُ مَا غَلَبَ فِيهِ الْمَعْنَى عَلَى اللَّفْظِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْإِضَافَةِ لِلْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ نَحْوِ:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ على الصِّبَا إِذْ قِيَاسُ الْفِعْلِ أَنْ لَا يُضَافَ إِلَيْهِ، لَكِنْ لُوحِظَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْمَصْدَرُ، فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَإِنَّمَا جَرَى عَلَيْهِ لَفَظُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ فِيهِ التَّسْوِيَةَ الَّتِي هِيَ فِي الِاسْتِفْهَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ مُخْبِرًا سَوَاءٌ عَلَيَّ أَقُمْتَ أَمْ قَعَدْتَ أَمْ ذَهَبْتَ؟ وَإِذَا قُلْتَ مُسْتَفْهِمًا أَخَرَجَ زَيْدٌ أَمْ قَامَ؟ فَقَدِ
__________
(1) سورة إبراهيم: 14/ 21.
(2) سورة الأعراف: 7/ 193.
(3) سورة الطور: 52/ 16.(1/78)
اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَكَ، هَذَانِ فِي الْخَبَرِ، وَهَذَانِ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَعَدَمُ عِلْمِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا عَمَّمَتْهَمَا التَّسْوِيَةُ جَرَى عَلَى الْخَبَرِ لَفَظُ الِاسْتِفْهَامِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْإِبْهَامِ، وَكُلُّ اسْتِفْهَامٍ تَسْوِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ تَسْوِيَةٍ اسْتِفْهَامًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ فِي أَوَّلِهِ مُنَاقَشَةٌ، وَهُوَ قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي صُورَتُهُ صُورَةُ الِاسْتِفْهَامِ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْخَبَرَ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمُفْرَدِ إِمَّا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ سَوَاءٌ أَوِ الْعَكْسُ، أَوْ فَاعِلُ سَوَاءٍ لِكَوْنِ سَوَاءٍ وَحْدَهُ خَبَرًا لِأَنَّ، وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنَّمَا سَوَاءٌ، وَمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ خَبَرًا أَوْ مُبْتَدَأً مَعْنَاهُ الْخَبَرَ. وَلُغَةُ تَمِيمٍ تَخْفِيفُ الْهَمْزَتَيْنِ فِي نَحْوِ أَأَنْذَرْتَهُمْ، وَبِهِ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يَرَوْنَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ، فَقَرَأَ الْحَرَمِّيَانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهُشَامٌ:
بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَمْرٍو، وَقَالُونَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَهُشَامٍ، يُدْخِلُونَ بَيْنَهُمَا أَلِفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ لَا يُدْخِلُ. وَرُوِيَ تَحْقِيقًا عَنْ هِشَامٍ وَإِدْخَالُ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ وَرْشٍ، كَابْنِ كَثِيرٍ، وَكَقَالُونَ وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ أَلِفًا فَيَلْتَقِي سَاكِنَانِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِمَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ وَخُرُوجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنِينَ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ. الثَّانِي: إِنَّ طَرِيقَ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمَفْتُوحِ مَا قَبْلَهَا هُوَ بِالتَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ لَا بِالْقَلْبِ أَلِفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ، وَمَا قَالَهُ هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ أَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنِينَ عَلَى غَيْرِ الْحَدِّ الَّذِي أَجَازَهُ الْبَصْرِيُّونَ.
وَقِرَاءَةُ وَرْشٍ صَحِيحَةُ النَّقْلِ لَا تُدْفَعُ بِاخْتِيَارِ الْمَذَاهِبِ وَلَكِنَّ عَادَةَ هَذَا الرَّجُلِ إِسَاءَةُ الْأَدَبِ عَلَى أَهْلِ الْأَدَاءِ وَنَقْلَةِ لقرآن.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَنْذَرْتَهُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، حَذْفُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، وَلِأَجْلِ ثُبُوتِ مَا عاد لها، وَهُوَ أَمْ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ أَيْضًا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْمِيمِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَنْذَرَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ أَأَنْذَرْتَهُمُ الْعَذَابَ عَلَى كُفْرِهِمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمُوهُ؟ وَفَائِدَةُ الْإِنْذَارِ مَعَ تَسَاوِيهِ مَعَ الْعَدَمِ أَنَّهُ قَاطِعٌ لِحُجَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَدْ دُعُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَلِئَلَّا يَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ، وَأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرَ الْأَجْرِ بِمُعَانَاةِ مَنْ لَا قَبُولَ لَهُ لِلْإِيمَانِ وَمُقَاسَاتِهِ، وَإِنَّ فِي ذَلِكَ عُمُومَ إِنْذَارِهِ لِأَنَّهُ أُرْسِلَ لِلْخَلْقِ كَافَّةً. وَهَلْ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرٌ عَنْهُمْ أَوْ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ أَوْ ذَمٌّ لَهُمْ أَوْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقْوَالٌ، وَظَاهِرُ قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِخَتْمِهِ وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَكَنَّى بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ عَنْ كَوْنِهَا لَا تَقْبَلُ(1/79)
شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ وَلَا تَعِيهِ لِإِعْرَاضِهَا عَنْهُ، فَاسْتَعَارَ الشيء المحسوس والشيء الْمَعْقُولِ، أَوْ مَثَّلَ الْقَلْبَ بِالْوِعَاءِ الَّذِي خُتِمَ عَلَيْهِ صَوْنًا لِمَا فِيهِ وَمَنْعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ: مَجَازُ الِاسْتِعَارَةِ، وَالثَّانِي: مَجَازُ التَّمْثِيلِ. وَنُقِلَ عَمَّنْ مَضَى أَنَّ الْخَتْمَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ انْضِمَامُ الْقَلْبِ وَانْكِمَاشُهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَذْنَبْتَ ضُمَّ مِنَ الْقَلْبِ هَكَذَا، وَضَمَّ مُجَاهِدٌ الْخِنْصَرَ، ثُمَّ إِذَا أَذْنَبْتَ ضُمَّ هَكَذَا، وَضَمَّ الْبِنْصِرَ، ثُمَّ هَكَذَا إِلَى الْإِبْهَامِ، وَهَذَا هُوَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالرَّيْنُ. وَقِيلَ: الْخَتْمُ سِمَةٌ تَكُونُ فِيهِمْ تَعْرِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: حَفِظَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ لِيُجَازِيَهُمْ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ وَنِسْبَةُ الْخَتْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَيِّ مَعْنَى فُسِّرَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، إِذْ هُوَ إِسْنَادٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَدْ تَأَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ هَذَا الْإِسْنَادَ، إِذْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ، إِذْ ذَاكَ قَبِيحٌ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ، وَذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ التَّأْوِيلِ عَشَرَةً، مُلَخَّصُهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَتْمَ كَنَّى بِهِ عَنِ الْوَصْفِ الَّذِي صَارَ كَالْخُلُقِيِّ وَكَأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بهم ذلك. الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِمْ: طَارَتْ بِهِ الْعَنْقَاءُ، إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ، وَكَأَنَّهُمْ مُثِّلَتْ حَالُ قُلُوبِهِمْ بِحَالِ قُلُوبٍ خَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى السَّبَبِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الشَّيْطَانَ وَمَكَّنَهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ الْخَتْمَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مَقْطُوعًا بِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ طَوْعًا وَلَمْ يَبْقَ طَرِيقُ إِيمَانِهِمْ إِلَّا بِإِلْجَاءٍ وَقَسْرٍ وَتَرْكُ الْقَسْرِ عَبَّرَ عَنْ تَرْكِهِ بِالْخَتْمِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ تَهَكُّمًا كَقَوْلِهِمْ:
قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ. السَّادِسُ: أَنَّ الْخَتْمَ مِنْهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ هُوَ الشَّهَادَةُ مِنْهُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
السَّابِعُ: أَنَّهَا فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا عَاجِلًا، كَمَا عَجَّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ عُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَعَلَهُ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ لِضِيقِ صُدُورِهِمْ عُقُوبَةً غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنَ الْإِيمَانِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «1» . الْعَاشِرُ: مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَالْقَاضِي، أَنَّ ذَلِكَ سِمَةٌ وَعَلَامَةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَسَمْعِهِ، تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. انْتَهَى مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالْمَسْأَلَةُ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَقَدْ وَقَعَ قَوْلُهُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أشرك في
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 97.(1/80)
الْخَتْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُلُوبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَكَ فِي الْغِشَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبْصَارِ. لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِلتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «1» . وَتَكْرِيرُ حَرْفِ الْجَرِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَتْمَ خَتْمَانِ، أَوْ عَلَى التَّوْكِيدِ، إِنْ كَانَ الْخَتْمُ وَاحِدًا فَيَكُونُ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْخَتْمِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَسْمَاعِهِمْ فَطَابَقَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فقرأوا عَلَى التَّوْحِيدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ فَلُمِحَ فِيهِ الْأَصْلُ، وَإِمَّا اكْتِفَاءً بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا حَقِيقَةً وَحَذْفُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى أَيْ حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَيِّ الْحَاسَّتَيْنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَفْضَلُ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ لَا يُجْدِي كَبِيرَ شَيْءٍ. وَالْإِمَالَةُ فِي أبصارهم جائزة، وقد قرىء بِهَا، وَقَدْ غَلَبَتِ الرَّاءُ الْمَكْسُورَةُ حَرْفَ الِاسْتِعْلَاءِ، إِذْ لَوْلَاهَا لَمَا جَازَتِ الْإِمَالَةُ، وَهَذَا بِتَمَامِهِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غِشَاوَةٌ بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَرَفْعِ التَّاءِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةً لِيَشْمَلَ الْكَلَامُ الْإِسْنَادَيْنِ: إِسْنَادَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَإِسْنَادَ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آكَدَ لِأَنَّ الْفِعْلِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَالِاسْمِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الْفِعْلِيَّةِ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مُطَابَقَةً بِالْجُمْلَةِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمَحْكُومُ بِهِ. وَهَذِهِ كَذَلِكَ الْجُمْلَتَانِ تُؤَوَّلُ دَلَالَتُهُمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَنَصَبُ الْمُفَضِّلِ غِشَاوَةً يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ مَا أَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، أَيْ وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، أَوْ إِلَى عَطْفِ أَبْصَارِهِمْ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَنَصْبِهَا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِغِشَاوَةٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ اسْمًا وُضِعَ مَوْضِعَ مَصْدَرٍ مِنْ مَعْنَى خَتَمَ، لِأَنَّ مَعْنَى خَتَمَ غَشِيَ وَسَتَرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ تُغَشِّيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ وَسَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ مَخْتُومًا عَلَيْهَا مُغَشَّاةً. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَوْلَى لِأَنَّ النَّصْبَ إِمَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى خَتْمِ الظَّاهِرِ فَيَعْرِضَ فِي ذَلِكَ أَنَّكَ حُلْتَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ، وما أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ خَتَمَ تَقْدِيرُهُ وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ فَيَجِيءُ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ:
مُتَقَلِّدًا سيفا ورمحا
__________
(1) سورة الجاثية: 45/ 23. [.....](1/81)
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَلَا تَكَادُ تَجِدُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فِي حَالِ سَعَةٍ وَاخْتِيَارٍ، فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَحْسَنُ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جملة. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا أَدْرِي مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ النَّصْبَ إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى خَتْمِ الظَّاهِرِ، وَكَيْفَ تَحْمِلُ غِشَاوَةً الْمَنْصُوبَ عَلَى خَتْمِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ؟ هَذَا مَا لَا حَمْلَ فِيهِ اللَّهُمَّ إِلَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ دُعَاءً عَلَيْهِمْ لَا خَبَرًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ مَذْهَبَهُ لِاعْتِزَالِهِ، وَيَكُونُ غِشَاوَةً فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمَدْعُوِّ بِهِ عَلَيْهِمُ الْقَائِمِ مَقَامَ الْفِعْلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَغَشَّى اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَعْطُوفًا عَلَى خَتَمَ عَطْفَ الْمَصْدَرِ النَّائِبِ مَنَابَ فِعْلِهِ فِي الدُّعَاءِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: رَحِمَ اللَّهُ زَيْدًا وَسُقْيًا لَهُ، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ حُلْتَ بَيْنَ غِشَاوَةٍ الْمَعْطُوفِ وَبَيْنَ خَتَمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَأَمَّا إِنْ جَعَلْتَ ذَلِكَ خَبَرًا مَحْضًا وَجَعَلْتَ غِشَاوَةً فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ الْبَدَلِ عَنِ الْفِعْلِ فِي الْخَبَرِ فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَنْقَاسُ ذَلِكَ بَلْ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ السَّمَاعِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: غُشَاوَةٌ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَرَفْعِ التَّاءِ، وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ التَّاءَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ غِشْوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالرَّفْعِ، وَبَعْضُهُمْ غِشْوَةً وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ، وَالْأَعْمَشُ قَرَأَ بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ الله يقرأونها غَشْيَةٌ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْيَاءِ وَالرَّفْعِ.
اه. وَقَالَ يَعْقُوبُ: غُشْوَةٌ بِالضَّمِّ لُغَةٌ، وَلَمْ يُؤْثِرْهَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ القراءة.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَأَصْوَبُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمَقْرُوءِ بِهَا مَا عَلَيْهِ السَّبْعَةُ مِنْ كَسْرِ الْغَيْنِ عَلَى وَزْنِ عِمَامَةٍ، وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي هِيَ أَبَدًا مُشْتَمِلَةٌ، فَهَذَا يَجِيءُ وَزْنُهَا: كَالصِّمَامَةِ، وَالْعِمَامَةِ، وَالْعِصَابَةِ، وَالرَّيَّانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: غِشَاوَةٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالرَّفْعِ مِنَ الْعَشِيِّ، وَهُوَ شِبْهُ الْعَمَى فِي الْعَيْنِ. وَتَقْدِيمُ الْقُلُوبِ عَلَى السَّمْعِ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ بِالشَّرَفِ وَتَقْدِيمُ الْجُمْلَةِ الَّتِي انْتَظَمَتْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ الْأَبْصَارَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا. وَذَكَرَ أَهْلُ الْبَيَانِ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَكُونُ بِاعْتِبَارَاتٍ خَمْسَةٍ: تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ عَلَى الْمَعْلُولِ وَالْمُسَبَّبِ، كَتَقْدِيمِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَوْلَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
«1» ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَشْرَعُ فِي النِّكَاحِ عند قدرته على المئونة، فَهِيَ سَبَبٌ إِلَى التَّزَوُّجِ، وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ لِلتَّنَاسُلِ. وَالْعِلَّةُ: كَتَقَدُّمِ الْمُضِيءِ عَلَى الضَّوْءِ، وَلَيْسَ تَقَدُّمُ زَمَانٍ، لِأَنَّ جرم الشمس
__________
(1) سورة التغابن: 64/ 15.(1/82)
لَا يَنْفَكُّ عَنِ الضَّوْءِ. وَتَقَدُّمٌ بِالذَّاتِ، كَالْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ، وَلَيْسَ الْوَاحِدُ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَتَقَدُّمٌ بِالشَّرَفِ، كَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ. وَتَقَدُّمٌ بِالزَّمَانِ، كَتَقَدُّمِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ بالوجود، وزاد بعضهم سادسا وَهُوَ: التَّقَدُّمُ بِالْوُجُودِ حَيْثُ لَا زَمَانَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، أَخْبَرَ بِمَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْعَذَابَ صَيَّرَ كَأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ لَازِمٌ، وَالْعَظِيمُ هُوَ الْكَبِيرُ.
وَقِيلَ: الْعَظِيمُ فَوْقُ، لِأَنَّ الْكَبِيرَ يُقَابِلُهُ الصَّغِيرُ، وَالْعَظِيمُ يُقَابِلُهُ الْحَقِيرُ. قِيلَ: وَالْحَقِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ، وَأَصْلُ الْعِظَمِ فِي الْجُثَّةِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى، وَعِظَمُ العذاب بالنسبة لي عَذَابٍ دُونَهُ يَتَخَلَّلُهُ فُتُورٌ، وَبِهَذَا التَّخَلُّلِ الْمُتَصَوَّرِ يَصِحُّ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْعَرَضَانِ كَسَوَادَيْنِ أحدهما شبع مِنَ الْآخَرِ، إِذْ قَدْ تَخَلَّلَ الْآخَرَ مَا لَيْسَ بِسَوَادٍ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ:
عَظِيمٌ، أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يُسَمِّيهِمُ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. الثَّالِثُ: فِي أَبِي جَهْلِ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعُ: فِي أَصْحَابِ الْقَلِيبِ: وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.
الْخَامِسُ: فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا. السَّادِسُ: فِي الْمُنَافِقِينَ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ وَافَوْا عَلَى الْكُفْرِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا مَعْهُودُونَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا فِي نَاسٍ مَخْصُوصِينَ وَافَوْا عَلَى الْكُفْرِ، فَيَكُونُ عَامًّا مَخْصُوصًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمِنَ الْيَهُودِ خَلْقٌ كَثِيرٌ بَعْدَ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؟.
وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ أَنْوَاعًا. الْأَوَّلُ: الْخِطَابُ الْعَامُّ اللَّفْظِ الْخَاصُّ الْمَعْنَى. الثَّانِي: الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ تَقْرِيرُ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ، أَيْ يَتَقَرَّرُ أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ. الثَّالِثُ: الْمَجَازُ، وَيُسَمَّى: الِاسْتِعَارَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَحَقِيقَةُ الْخَتْمِ وَضْعُ مَحْسُوسٍ عَلَى مَحْسُوسٍ يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا رَقْمٌ يَكُونُ عَلَامَةً لِلْخَاتَمِ، وَالْخَتْمُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ الْقَلْبَ لَمَّا لَمْ يَقْبَلِ الْحَقَّ مَعَ ظُهُورِهِ اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ. الرَّابِعُ:
الْحَذْفُ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ إِنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ. وَمِنْهَا: لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِمَا أَخْبَرْتَهُمْ بِهِ عَنْهُ. وَمِنْهَا: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا تَعِي وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ فَلَا تُصْغِي. وَمِنْهَا: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَلَى مَنْ نَصَبَ، أَيْ وَجَعَلَ عَلَى(1/83)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً فَلَا يُبْصِرُونَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ. وَمِنْهَا: وَلَهُمْ عَذَابٌ، أَيْ وَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ دَائِمٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَوْ بِالْإِذْلَالِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. الْخَامِسُ: التَّعْمِيمُ: وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ عَذَابٌ وَلَمْ يَقُلْ عَظِيمٌ لَاحْتَمَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَلَمَّا وَصَفَهُ بِالْعَظِيمِ تَمَّمَ الْمَعْنَى وَعَلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَظِيمٌ، إِمَّا فِي الْمِقْدَارِ وَإِمَّا فِي الْإِيلَامِ وَالدَّوَامِ. السَّادِسُ: الْإِشَارَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السَّوَاءَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِمْ وَبَالُهُ وَنَكَالُهُ عَلَيْهِمْ وَمُسْتَعْلٍ فَوْقَهُمْ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بَيَانَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِمْ فَحَسْبُ لَقَالَ: سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْلٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ أَنَّ عَلَى تُشْعِرُ بِالِاسْتِعْلَاءِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ تَضَّمَنَ مَعْنَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الْمَعْنَى فِي قَوْلِكَ سَوَاءٌ عَلَيْكَ وَعِنْدَكَ كَذَا وَكَذَا وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الِاسْتِعْمَالِ بِعَلَى، قَالَ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ «1» ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «2» ، سَوَاءٌ عَلَيْهَا رِحْلَتِي وَمَقَامِي، وَكُلُّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ عَلَيْهِمْ. السَّابِعُ: مَجَازُ التَّشْبِيهِ شَبَّهَ قُلُوبَهُمْ لِتَأَبِّيهَا عَنِ الْحَقِّ، وَأَسْمَاعَهُمْ لِإِضْرَابِهَا عَنْ سَمَاعِ دَاعِيَ الْفَلَاحِ، وَأَبْصَارَهُمْ لِامْتِنَاعِهَا عَنْ تَلَمُّحِ نُورِ الْهِدَايَةِ بِالْوِعَاءِ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِ الْمَسْدُودِ مَنَافِذُهُ الْمُغَشَّى بِغِشَاءٍ يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَا يُصْلِحُهُ، لَمَّا كَانَتْ مَعَ صِحَّتِهَا وَقُوَّةِ إِدْرَاكِهَا مَمْنُوعَةً عَنْ قَبُولِ الْخَيْرِ وَسَمَاعِهِ وَتَلَمُّحِ نُورِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، إِذِ الْخَتْمُ وَالْغِشَاوَةُ لَمْ يُوجَدَا حَقِيقَةً، وَهُوَ بِالِاسْتِعَارَةِ أَوْلَى، إِذْ مِنْ شَرْطِ التَّشْبِيهِ أَنْ يُذْكَرَ المشبه والمشبه به.
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ، النَّاسُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لفظه،
__________
(1) سورة الشعراء: 26/ 136.
(2) سورة إبراهيم: 14/ 21.(1/84)
وَمُرَادِفُهُ: أَنَاسِيُّ، جَمْعُ: إِنْسَانٍ أَوْ إِنْسِيٍّ. قَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ، حَكَاهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَهُوَ مَجَازٌ إِذْ أَصْلُهُ فِي بَنِي آدَمَ، وَمَادَّتُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْفَرَّاءِ: هَمْزَةٌ وَنُونٌ وَسِينٌ، وَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ شُذُوذًا، وَأَصْلُهُ أُنَاسٌ وَنُطِقَ بِهَذَا الْأَصْلِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «1» ، فَمَادَّتُهُ وَمَادَّةُ الْإِنْسِ وَاحِدَةٌ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إِلَى أَنَّ مَادَّتَهُ نُونٌ وَوَاوٌ وَسِينٌ، وَوَزْنُهُ فَعَلَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوَسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ، يُقَالُ: نَاسَ يَنُوسُ نَوَسًا إِذَا تَحَرَّكَ، وَالنَّوَسُ: تَذَبْذُبُ الشَّيْءِ فِي الْهَوَاءِ، وَمِنْهُ نَوَسَ الْقِرْطُ فِي الْأُذُنِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ حَرَكَتِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ نَسِيَ، وَأَصْلُهُ نَسِيَ ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ نَيِسَ، تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا فَقِيلَ: نَاسٌ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْأَلِفُ واللام. والكلام على هذا الْأَقْوَالِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. مَنْ: مَوْصُولَةٌ، وَشَرْطِيَّةٌ، وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَنَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَتَقَعُ عَلَى ذِي الْعِلْمِ، وَتَقَعُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ ذِي الْعِلْمِ إِذَا عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعَالِمِ، أَوِ اخْتَلَطَ بِهِ فِيمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ أَوْ فِيمَا فُصِلَ بِهَا، وَلَا تَقَعُ عَلَى آحَادِ مَا لَا يَعْقِلُ مُطْلَقًا خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِلَّا فِي مَوْضِعٍ يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، كَقَوْلِ سُوَيْدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ:
رَبِّ مَنْ أَنْضَجْتَ غَيْظًا صَدْرَهُ ... لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ
وَيَقِلُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرَنَا ... حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا
وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَعْمِلُ مِنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِلَّا بِشَرْطِ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَقَعُ فِيهِ إِلَّا النَّكِرَةَ، وَزَعَمَ هُوَ وَأَبُو الْحَسَنِ الْهُنَائِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ زَائِدَةً، وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
لَا تُزَادُ. وَتَقَعُ مِنْ عَلَى الْعَاقِلِ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودٌ، تَتَوَهَّمُهُ، مَوْجُودًا خِلَافًا لِبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وفاقا للقراء، وَصَحَّحَهُ أَصْحَابُنَا. فَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ: أَصْبَحْتَ كَمَنْ لَمْ يخلق فنزيد: كَمَنْ قَدْ مَاتَ، وَأَكْثَرُ الْمُعْرِبِينَ لِلْقُرْآنِ مَتَى صَلَحَ عِنْدَهُمْ تَقْدِيرُ مَا أَوْ مَنْ بِشَيْءٍ جَوَّزُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَإِثْبَاتُ كَوْنِ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ قَاطِعٌ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِمَا مُعْجِبٌ لَكَ لِإِمْكَانِ الزِّيَادَةِ، فَإِنِ اطَّرَدَ ذَلِكَ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، كَأَنْ سَرَّنِي مَا مُعْجِبٌ لَكَ وَأَحْبَبْتُ مَا مُعْجِبًا لَكَ، كَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِمَا دَعَى النَّحْوِيُّونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ سُمِعَ لَأَمْكَنَتِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ زَادُوا مَا بَيْنَ الْفِعْلِ ومرفوعه والفعل ومنصوبه. الزيادة أَمْرٌ ثَابِتٌ لِمَا، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فِيهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ ولا
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 71.(1/85)
يُثْبَتُ لَهَا مَعْنًى إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَأَمْعَنْتُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ.
الْقَوْلُ: هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى وَيَنْطَلِقُ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى النِّسْبَةِ الْإِسْنَادِيَّةِ، وَهُوَ الْكَلَامُ وَعَلَى الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ «1» ، وَتَرَاكِيبُهُ السِّتُّ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخِفَّةِ وَالسُّرْعَةِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ وَقَعَتْ جُمْلَةٌ مَحْكِيَّةٌ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْقَوْلِ فَصْلٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ. الْخِدَاعُ: قِيلَ إِظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي النَّفْسِ، وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَيْتُ الْمُفْرَدُ فِي الْمَنْزِلِ مَخْدَعًا لِتَسَتُّرِ أَهْلَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ فِيهِ، وَمِنْهُ الْأَخْدَعَانِ: وَهُمَا الْعِرْقَانِ الْمُسْتَبْطِنَانِ فِي الْعُنُقِ، وَسُمِّيَ الدَّهْرُ خَادِعًا لِمَا يُخْفِي مِنْ غَوَائِلِهِ، وَقِيلَ الْخَدْعُ أَنْ يُوهِمَ صَاحِبَهُ خِلَافَ مَا يُرِيدُ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ:
ضَبٌّ خَادِعٌ وَخَدِعٌ إِذَا أَمَرَّ الْحَارِثُ، وَهُوَ صَائِدُ الضَّبِّ، يده على باب حجره أَوْهَمَهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْفَسَادُ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أبيض اللون لذيذ طَعْمُهُ ... طَيِّبَ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ
أَيْ فَسَدَ. إِلَّا: حَرْفٌ، وَهُوَ أَصْلٌ لِذَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ مَا بَعْدَهُ وَصْفًا، وَشَرْطُ الْوَصْفِ بِهِ جَوَازُ صَلَاحِيَةِ الْمَوْضِعِ لِلِاسْتِثْنَاءِ. وَأَحْكَامُ إِلَّا مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. النَّفْسُ:
الدَّمُ، أَوِ النَّفْسُ: الْمُودَعُ فِي الْهَيْكَلِ الْقَائِمُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَالنَّفْسُ: الْخَاطِرُ، مَا يَدْرِي أَيُّ نَفْسَيْهِ يُطِيعُ، وَهَلِ النَّفْسُ الرُّوحُ أَمْ هِيَ غَيْرُهُ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَفِي حَقِيقَةِ النفس خلاف كثير ومجمع عَلَى أَنْفُسٍ وَنُفُوسٍ، وَهُمَا قِيَاسُ فَعْلٍ الِاسْمِ الصَّحِيحِ العين في جميعه الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. الشُّعُورُ:
إِدْرَاكُ الشَّيْءِ مِنْ وَجْهٍ يَدِقُّ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّعْرِ، وَالْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّعَارِ، وهو ثوب بلى الْجَسَدَ وَمَشَاعِرُ الْإِنْسَانِ حَوَاسُّهُ.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ، الْمَرَضُ: مَصْدَرُ مَرِضَ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فُلَانٌ يُمْرِضُ الْحَدِيثَ أَيْ يُفْسِدُهُ وَيُضْعِفُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْمَرَضُ فِي الْقَلْبِ: الْفُتُورُ عَنِ الْحَقِّ، وَفِي الْبَدَنِ: فُتُورُ الْأَعْضَاءِ، وَفِي الْعَيْنِ: فُتُورُ النَّظَرِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظُّلْمَةُ، قَالَ:
فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ ناحية ... فما يحس به نجم ولا قمر
__________
(1) سورة المجادلة: 58/ 8.(1/86)
وَقِيلَ: الْمَرَضُ: الْفَسَادُ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَرَضُ وَالْأَلَمُ والوجع نظائر. الزيادة:
قبلها يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى وَكَسَى، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لَازِمًا نَحْوَ: زَادَ الْمَالُ. أَلِيمٌ:
فَعِيلٌ مِنَ الْأَلَمِ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ، أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ وَأَصْلُهُ أَلَمٌ. كَانَ: فِعْلٌ يَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، فَيَدُلُّ عَلَى زَمَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فَقَطْ، أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى الصَّيْرُورَةِ، وَتُسَمَّى نَاقِصَةً وَتَكْتَفِي بِمَرْفُوعٍ فَتَارَةً تَكُونُ فِعْلًا لَازِمًا وَتَارَةً مُتَعَدِّيًا، بِمَعْنَى كَفَلَ أَوْ غَزَلَ: كُنْتُ الصَّبِيَّ كَفَلْتُ، وَكُنْتُ الصُّوفَ غَزَلْتُهُ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ اللُّغَاتِ، وَقَدْ تُزَادُ وَلَا فَاعِلَ لَهَا إِذْ ذَاكَ خِلَافًا لِأَبِي سَعِيدٍ، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي النَّحْوِ.
التَّكْذِيبُ: مَصْدَرُ كَذَّبَ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلرَّمْيِ بِهِ كَقَوْلِكَ: شَجَّعْتُهُ وَجَبَّنْتُهُ، أَيْ رَمَيْتُهُ بِالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ، وَهِيَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَعَّلَ وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَةَ: الرَّمْيُ، وَالتَّعْدِيَةُ، وَالتَّكْثِيرُ، وَالْجَعْلُ عَلَى صِفَةٍ، وَالتَّسْمِيَةُ، وَالدُّعَاءُ لِلشَّيْءِ أَوْ عَلَيْهِ، وَالْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْإِزَالَةُ، وَالتَّوَجُّهُ، وَاخْتِصَارُ الْحِكَايَةِ، وَمُوَافَقَةُ تَفَعَّلَ وَفَعَّلَ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُمَا، مِثْلُ ذَلِكَ: جَبَّنْتُهُ، وَفَرَّحْتُهُ، وَكَثَّرْتُهُ، وَفَطَّرْتُهُ، وَفَسَّقْتُهُ، وَسَقَّيْتُهُ، وَعَقَّرْتُهُ، وَمَرَّضْتُهُ، وَقَذَّيْتُ عَيْنَهُ، وَشَوَّقَ، وَأَمَّنَ، قَالَ: آمِينَ، وَوَلَّى: مُوَافِقُ تَوَلَّى، وَقَدَّرَ: مُوَافِقُ قَدَرَ، وَحَمَّرَ: تَكَلَّمَ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَعَرَّدَ فِي الْقِتَالِ. وَأَمَّا الْكَذِبُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْكِتَابِ هُدًى لَهُمْ، وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ جَمَعُوا أَوْصَافَ الْإِيمَانِ مِنْ خُلُوصِ الإعتقاد وَأَوْصَافِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا آلَ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْهُدَى وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْفَلَاحِ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمُقَابِلِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ خُتِمَ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَخُتِمَ لَهُمْ بِمَا يَؤُولُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي النِّيرَانِ. وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ مُقَالًا وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ اعْتِقَادًا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، أَخَذَ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ مُبْهَمٌ فَيُبَيِّنُ جِنْسَهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النَّاسِ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ الْكُفَّارِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمْ مَنْ يَقُولُ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَخْتُومٍ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتُ كَيْفَ يَجْعَلُونَ بَعْضَ أُولَئِكَ وَالْمُنَافِقِينَ غَيْرَ مَخْتُومٍ عَلَى قُلُوبِهِمْ؟
وَأَجَابَ بِأَنَّ الْكُفْرَ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ وَصَيَّرَهُمْ جِنْسًا وَاحِدًا، وَكَوْنُ الْمُنَافِقِينَ نَوْعًا مِنْ نَوْعَيْ هَذَا الْجِنْسِ مُغَايِرًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ بِزِيَادَةٍ زَادُوهَا عَلَى الْكُفْرِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَدِيعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا بَعْضًا مِنَ الْجِنْسِ، انْتَهَى. لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ دَاخِلُونَ فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْكُفَّارِ مِنِ اسْتِوَاءِ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ، وَكَوْنِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَكَوْنِهِمْ مَخْتُومًا عَلَى(1/87)
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَمَجْعُولًا عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَمُخْبَرًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَهُمْ قَدِ انْدَرَجُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَزَادُوا أَنَّهُمْ قَدِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ.
وَسَأَلَ سَائِلٌ: مَا مَعْنَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يَقُولُ هُوَ مِنَ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِهَذَا الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وُقُوعُهُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ بَعْدَهُ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا تَفْصِيلٌ مَعْنَوِيٌّ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذِكْرُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، فَصَارَ نَظِيرَ التَّفْصِيلِ اللَّفْظِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ تَفْصِيلِ النَّاسِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، كَمَا فَصَّلُوا إِلَى مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ، وَمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، وَمَنْ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَقُولُ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الْمُتَقَدِّمُ الذِّكْرِ. وَيَقُولُ: صِفَةٌ، هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْبَقَاءِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْوَجْهَ. وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ نَاسٌ يَقُولُونَ كَذَا، كَقَوْلِهِ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا «1» قَالَ: إِنْ جَعَلْتَ اللَّامَ لِلْجِنْسِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ، قَالَ: وَإِنْ جَعْلَهَا لِلْعَهْدِ فَمَوْصُولَةٌ كَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ «2» . وَاسْتَضْعَفَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي قَالَ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى الْإِبْهَامِ وَالتَّقْدِيرُ، وَمِنَ النَّاسِ فَرِيقٌ يَقُولُ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي النَّاسِ، إِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ كَانَتْ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ كَانَتْ مَوْصُولَةً، أَمْرٌ لَا تَحْقِيقَ لَهُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ مُنَاسَبَةَ الْجِنْسِ لِلْجِنْسِ وَالْعَهْدِ لِلْعَهْدِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْجِنْسِ وَمَنْ مَوْصُولَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَمَنْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ.
وَأَمَّا اسْتِضْعَافُ أَبِي الْبَقَاءِ كَوْنَ مَنْ مَوْصُولَةً وَزَعْمُهُ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِبْهَامِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ مَعْرُوفِينَ، وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بن سَلُولَ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَذَكَرَ عَنْهُمْ أَقَاوِيلَ مُعَيَّنَةً قالوها، فلا يكون ذَلِكَ صَادِرًا إِلَّا مِنْ مُعَيَّنٍ فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ. وَالَّذِي نَخْتَارُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَمِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ. أَلَا تَرَى جَعْلَ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَتْ فِي مَكَانٍ يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ فِي أَكْثَرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهَذَا الْكَلَامُ ليس
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 23.
(2) سورة التوبة: 9/ 61.(1/88)
مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، وَأَمَّا أَنْ تَقَعَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا، حَتَّى أَنَّ الْكِسَائِيَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهُوَ إِمَامُ نَحْوٍ وَسَامِعُ لُغَةٍ، فَلَا نُحَمِّلُ كِتَابَ اللَّهِ مَا أَثْبَتَهُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي قَلِيلٍ وَأَنْكَرَ وُقُوعَهُ أَصْلًا الْكِسَائِيُّ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. وَمَنْ: مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَفَظُهَا مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ دَائِمًا، وَتَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا كَذَلِكَ فَتَارَةً يُرَاعَى اللَّفْظُ فَيُفْرَدُ مَا يَعُودُ عَلَى مَنْ مُذَكَّرًا، وَتَارَةً يُرَاعَى الْمَعْنَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُطْلِقُ الْمُعْرِبُونَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا رَجَعَ مِنْ لَفْظِ الْوَاحِدِ إِلَى لَفْظِ الْجَمْعِ بِحَسَبِ لَفْظِ مَنْ وَمَعْنَاهَا وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الْجَمْعِ فِي الرُّتْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ مُتَكَلِّمٌ مِنْ لَفْظِ جَمْعٍ إِلَى تَوَحُّدٍ، لَوْ قُلْتَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُونَ وَيَتَكَلَّمُ لَمْ يَجُزْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْ لَفْظِ جَمْعٍ إِلَى تَوَحُّدٍ خَطَأٌ، بَلْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى جَوَازِ الْجُمْلَتَيْنِ، لَكِنَّ الْبَدْءَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى أَوْلَى مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَمِمَّا رَجَعَ فِيهِ إِلَى الْإِفْرَادِ بَعْدَ الْجَمْعِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو ... نَ إِذَا كَافَحَتْهُ خَيْلُ الْأَعَادِي
وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَيَقُولُ: أُفْرِدَ فِيهِ الضَّمِيرُ مُذَكَّرًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَآمَنَّا: جُمْلَةٌ هِيَ الْمَقُولَةُ، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ وَأَتَى بِلَفْظِ الْجَمْعِ رَعْيًا لِلْمَعْنَى، إِذْ لَوْ رَاعَى لَفَظَ مَنْ قَالَ آمَنْتُ. وَاقْتَصَرُوا مِنْ مُتَعَلَّقِ الْإِيمَانِ عَلَى اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَيْدَةً مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِيهَامًا أَنَّهُمْ مِنْ طَائِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ، كَمَا زَعَمَ الزمخشري، يهودا. فَإِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، كَقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ، وَهُمْ لَوْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ عَقِيدَتِهِمْ لَكَانَ كُفْرًا، فَكَيْفَ إِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ النِّفَاقِ خَدِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتِهْزَاءً بِهِمْ؟ وَفِي تَكْرِيرِ الْبَاءِ دَلِيلٌ عَلَى مَقْصُودِ كُلِّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ بِالْإِيمَانِ. وَالْيَوْمُ الْآخِرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ مِنَ الْبَعْثِ إِلَى اسْتِقْرَارِ كُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِيمَا أُعِدَّ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الْأَبَدُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ.
وَسُمِّيَ آخِرًا لِتَأَخُّرِهِ، إِمَّا عَنِ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنِ الأوقات
__________
(1) سورة التوبة: 9/ 30.(1/89)
الْمَحْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. وَالْبَاءُ فِي بِمُؤْمِنِينَ زَائِدَةٌ وَالْمَوْضِعُ نَصْبٌ لِأَنَّ مَا حِجَازِيَّةٌ وَأَكْثَرُ لِسَانِ الْحِجَازِ جَرُّ الْخَبَرِ بِالْبَاءِ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَجَاءَ النَّصْبُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: مَا هَذَا بَشَراً «1» وما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ. وَأَمَّا فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ أَيْضًا إِلَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِلُ الْجُيُوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا
أَبْنَاؤُهَا متكفون أَبَاهُمُ ... حَنِقُوا الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلَادُهَا
وَلَا تَخْتَصُّ زِيَادَةُ الْبَاءِ بِاللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ، بَلْ تُزَادُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بِمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِ، لِأَنَّهُ حِينَ حُذِفَتِ الْبَاءُ مِنَ الْخَبَرِ ظَهَرَ النَّصْبُ فِيهِ، وَلَهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي بَابٍ مَعْقُودٍ فِي النَّحْوِ. وَإِنَّمَا زِيدَتِ الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ، وَلِأَجْلِ التَّأْكِيدِ فِي مُبَالَغَةِ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ اسْمِيَّةً مُصَدَّرَةً بهم، وَتَسَلُّطُ النَّفْيِ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي لَيْسَ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ لِيَشْمَلَ النَّفْيُ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ، إِذْ لَوْ جَاءَ اللَّفْظُ مُنْسَحِبًا عَلَى اللَّفْظِ الْمَحْكِيِّ الَّذِي هُوَ: آمَنَّا، لَكَانَ: وَمَا آمَنُوا، فَكَانَ يَكُونُ نَفْيًا لِلْإِيمَانِ الْمَاضِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَلَبِّسِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ فِي وَقْتٍ مَا مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَقْيِيدِ الْإِيمَانِ الْمَنْفِيِّ، أَيْ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَمْ يَرُدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا، إِنَّمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقَ الْقَوْلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْكَرَّامِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَقَدْ بِالْقَلْبِ. وَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَنْ، إذ أَعَادَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي يَقُولُ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَى الْمَعْنَى فَجَمَعَ. وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ اللفظ والمعنى بدىء بِاللَّفْظِ ثُمَّ أُتْبِعَ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا «2» ، وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ «3» الْآيَةَ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً «4» .
وَذَكَرَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الكريم بن علي بن عُمَرَ الْأَنْصَارِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَصْلَ الْمِصْرِيُّ الْمَوْلِدَ وَالْمَنْشَأَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ الْعِرَاقِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ جَاءَ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ فِي الْقُرْآنِ بدىء فِيهِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى أَوَّلًا ثُمَّ أُتْبِعَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 31.
(2) سورة التوبة: 9/ 49.
(3) سورة التوبة: 9/ 75.
(4) سورة الأحزاب: 33/ 31.(1/90)
أَزْواجِنا «1» ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ فِي الشَّاذِّ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ متخيلا أنه مما بدىء فِيهِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَا يُجِيزُ الْكُوفِيُّونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ إِلَّا بِفَاصِلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْبَصْرِيُّونَ الْفَاصِلَ، قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ، وَلَمْ يَرِدِ السَّمَاعُ إِلَّا بِالْفَصْلِ، كَمَا ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ بِصَحِيحٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى»
؟ فَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي كَانَ، إِذْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ جَاءَ جَمْعًا وَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ أَكْثَرُ ذَلِكَ بِالْفَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَالَةِ قَلَقِ التَّنَافُرِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ، مُضَارِعُ خَادَعَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو حَيَاةَ يَخْدَعُونَ اللَّهَ، مُضَارِعُ خدع لمجرد، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: يُخادِعُونَ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: لِمَ يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِيمَانِ وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فِي الْحَقِيقَةِ؟ فَقِيلَ: يُخَادِعُونَ، وَيُحْتَمَلُ أن يكون بدلا من قَوْلِهِ: يَقُولُ آمَنَّا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخَادَعَةٌ، فَيَكُونُ بَدَلَ فِعْلٍ مِنْ فِعْلٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي يَقُولُ، أَيْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا، مُخَادِعِينَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ: بِمُؤْمِنِينَ، وَذُو الْحَالِ: الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ. وَهَذَا إِعْرَابٌ خَطَأٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ فَنَفَتْ نِسْبَةَ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا قَيَّدْتَ تِلْكَ النِّسْبَةَ بِحَالٍ تَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ الْقَيْدُ، فَنَفَتْهُ، وَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَنْ يَنْتَفِيَ ذَلِكَ الْقَيْدُ فَقَطْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ ثَبَتَ الْعَامِلُ فِي ذَلِكَ الْقَيْدِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا زَيْدٌ أَقْبَلَ ضَاحِكًا فَمَفْهُومُهُ نَفْيُ الضَّحِكِ وَيَكُونُ قَدْ أَقْبَلَ غَيْرَ ضَاحِكٍ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا، إِذْ لَا يَنْفِي عَنْهُمُ الْخِدَاعَ فَقَطْ، وَيُثْبِتُ لَهُمُ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ خِدَاعٍ، بَلِ الْمَعْنَى: نُفِيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقَلُّ، أَنْ يَنْتَفِيَ الْقَيْدُ وَيَنْتَفِيَ الْعَامِلُ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: لَمْ يُقْبِلْ زَيْدٌ وَلَمْ يَضْحَكْ: أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْبَالٌ وَلَا ضَحِكٌ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَنَفْيُ الخداع.
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 139.
(2) سورة البقرة: 2/ 111. [.....](1/91)
وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي الْبَقَاءِ كَيْفَ تَنَبَّهَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ يُخَادِعُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَقَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الصِّفَةِ لِمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نَفْيَ خِدَاعِهِمْ، وَالْمَعْنَى عَلَى إِثْبَاتِ الْخِدَاعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فِي الصِّفَةِ، وَهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالِ وَالصِّفَةِ فِي ذَلِكَ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا قَيْدٌ يَتَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَمُخَادَعَةُ الْمُنَافِقِينَ اللَّهَ هُوَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ تَظَاهُرِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَهُمْ مُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ، أَوْ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ عِرْفَانِهِمْ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ خِدَاعُهُ. فَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ مَجَازٌ وَالثَّانِي حَقِيقَةٌ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ يُخَادِعُونَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَتَارَةً يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مُرَادًا وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُرَادًا، بَلْ نَزَّلَ مُخَادَعَتَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ مُخَادَعَةِ اللَّهِ، فَجَاءَ: يُخادِعُونَ اللَّهَ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ.
وَإِذَا صَحَّ نِسْبَةُ مُخَادَعَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهَا، فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنْ نَذْهَبَ إِلَى أَنَّ اسْمَ مُقْحَمٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يُخَادِعُونَ الَّذِينَ آمَنُوا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: يَكُونُ مِنْ بَابِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، الْمَعْنَى هَذَا أَعْجَبَنِي كَرَمُ زَيْدٍ، وَذِكْرُ زَيْدٍ تَوْطِئَةٌ لِذِكْرِ كَرَمِهِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْإِعْجَابِ إِلَى كَرَمِهِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْمَثَلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ. وَلِلْآيَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ مَحَامِلُ تَأْتِي فِي مَكَانِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَا أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، فَإِنَّ الْإِعْجَابَ أُسْنِدَ إِلَى زَيْدٍ بِجُمْلَتِهِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بَعْضُ صِفَاتِهِ تَمْيِيزًا لِصِفَةِ الْكَرَمِ مِنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي انْطَوَى عَلَيْهَا لِشَرَفِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَصَارَ مِنَ الْمَعْنَى نَظِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» ، فَلَا يُدَّعَى كَمَا ادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الِاسْمَ مُقْحَمٌ، وَأَنَّهُ ذُكِرَ تَوْطِئَةً لِذِكْرِ الْكَرَمِ. وَخَادَعَ الَّذِي مُضَارِعُهُ يُخَادِعُ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ، وَفَاعَلَ يَأْتِي لِخَمْسَةِ مَعَانٍ: لِاقْتِسَامِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَفْعُولِيَّةِ فِي اللَّفْظِ، وَالِاشْتِرَاكِ فِيهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِمُوَافَقَةِ أَفْعَلَ الْمُتَعَدِّي، وَمُوَافَقَةِ الْمُجَرِّدِ لِلْإِغْنَاءِ عَنْ أَفْعَلَ وَعَنِ الْمُجَرَّدِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ: ضَارِبُ زَيْدًا عُمَرُ، وَبَاعَدْتُهُ، وَوَارَيْتُ الشَّيْءَ، وَقَاسَيْتُ.
وَخَادَعَ هُنَا إِمَّا لِمُوَافَقَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى خَدَعَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْدَعُونَ اللَّهَ، وَيُبَيِّنُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي حَيَاةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَادَعَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، فَمُخَادَعَتُهُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ لَهُمْ حَيْثُ أَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ وَاكْتَفَى
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 98.(1/92)
مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَبْطَنُوا خِلَافَهُ، وَمُخَادَعَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ كَوْنُهُمُ امْتَثَلُوا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
وَفِي مُخَادَعَتِهِمْ هُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَوَائِدُ لَهُمْ، مِنْ تَعْظِيمِهِمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّطَلُّعِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ فَيُغَشُّونَهَا إِلَى أَعْدَائِهِمْ، وَرَفْعُ حُكْمِ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَنَالُونَ مِنَ الْإِحْسَانِ بِالْهِدَايَةِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمَ. وَقَرَأَ: وَمَا يُخَادِعُونَ، الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: وَمَا يَخْدَعُونَ. وَقَرَأَ الْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَأَبُو طَالُوتَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ شَدَّادٍ: وَمَا يَخْدَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: وَمَا يُخَادَعُونَ، بِفَتْحِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَمُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: وَمَا يُخَدِّعُونَ، مِنْ خَدَّعَ الْمُشَدِّدِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبَعْضُهُمْ يَفْتَحُ الْيَاءَ وَالْخَاءَ وَتَشْدِيدُ الدَّالِّ الْمَكْسُورَةِ. فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ تَوْجِيهُ:
الْأُولَى: أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْخِدَاعِ إِنَّمَا هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَخْدُوعِ، بِأَنْ يَنْفَعِلَ لَهُ فِيمَا يُخْتَارُ، وَيُنَالُ مِنْهُ مَا يُطْلَبُ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ الْمَخْدُوعِ وَتَمَكُنٍ مِنْهُ وَتَفَعُّلٍ لَهُ، وَوَبَالُ ذَلِكَ لَيْسَ رَاجِعًا لِلْمَخْدُوعِ، إِنَّمَا وَبَالُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَادِعِ، فَكَأَنَّهُ مَا خَادَعَ وَلَا كَادَ إِلَّا نَفْسَهُ بِإِيرَادِهَا مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُ بِقَبِيحِ انْتِحَالِهِ وَسُوءِ مَآلِهِ. وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْمُخَادَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ، وَتَسْمِيَةِ الْفِعْلِ الثَّانِي بِاسْمِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ الْمُسَبِّبِ لَهُ، كَمَا قَالَ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
جَعَلَ انْتِصَارَهُ جَهْلًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَنْزَعَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ يَجِيءُ مِنْ وَاحِدٍ: كَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَادَعَةُ عَلَى بَابِهَا مِنِ اثْنَيْنِ، فَهُمْ خَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ مَنَّوْهَا الْأَبَاطِيلَ، وَأَنْفُسُهُمْ خَادِعَتُهُمْ حَيْثُ مَنَّتْهُمْ أَيْضًا ذَلِكَ، فَكَأَنَّهَا مُجَاوَرَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَذَكَّرَ مِنْ أَنَّى ومن أين شربه ... يؤامر نَفْسَيْهِ لِذِي الْبَهْجَةِ الْأَبِلْ
وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
لَمْ تَدْرِ مَا وَلَسْتُ قَائِلَهَا ... عُمْرُكَ مَا عِشْتَ آخِرَ الأبد
ولم تؤامر نَفْسَيْكَ مُمْتَرِيًا ... فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدْ
وَقَالَ:
يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وَفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ ... أَيَستَوبِعُ الذَّوَبَانَ أَمْ لَا يُطَوِّرُهَا(1/93)
وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ:
وَكُنْتُ كَذَاتِ الضَّيِّ لَمْ تَدْرِ إِذْ بَغَتْ ... تُؤَامِرُ نَفْسَيْهَا أَتَسْرِقُ أَمْ تَزْنِي
فَفِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ قَدْ جُعِلَ لِلشَّخْصِ نَفْسَيْنِ عَلَى مَعْنَى الْخَاطِرَيْنِ، وَلَهَا جِنْسَيْنِ، أَوْ يَكُونُ فَاعَلُ بِمَعْنَى فَعَلَ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقِرَاءَةِ: وَمَا يَخْدَعُونَ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: خَادَعْتُ الرَّجُلَ، أَعْمَلْتُ التَّحَيُّلَ عَلَيْهِ فَخَدَعْتُهُ، أَيْ تَمَّتْ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ وَنَفَذَ فِيهِ الْمُرَادُ، خِدَعًا، بِكَسْرِ الْخَاءِ فِي الْمَصْدَرِ وَخَدِيعَةً، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ. فَالْمَعْنَى: وَمَا يَنْفُذُ السُّوءُ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ هُنَا: ذَوَاتِهِمْ. فَالْفَاعِلُ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا يُخَادِعُهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ قَالَ: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْدَعُ نَفْسَهُ، بَلْ نَفْسُهُ هِيَ الَّتِي تَخْدَعُهُ وَتُسَوِّلُ لَهُ وَتَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ. وَأَوْرَدَ أَشْيَاءً مِمَّا قَلَبَتْهُ الْعَرَبُ، وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي الْقَلْبِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ وَالشِّعْرِ اتِّسَاعًا وَاتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ وَيَجُوزُ فِي الشِّعْرِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَصْحَابُنَا، وَكَانَ هَذَا الَّذِي ادَّعَى الْقَلْبَ لَمَّا رَأَى قَوْلَهُمْ: مَنَّتْكَ نَفْسُكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ «1» تَخَيَّلَ أَنَّ الْمُمَنِّيَ وَالْمُسَوِّلَ غَيْرُ الْمُمَنَّى وَالْمُسَوَّلِ لَهُ، وَلَيْسَ عَلَى مَا تَخَيَّلَ، بَلِ الْفَاعِلُ هُنَا هُوَ الْمَفْعُولُ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَحَبَّ زَيْدٌ نَفْسَهُ، وَعَظَّمَ زَيْدٌ نَفْسَهُ؟ فَلَا يُتَخَيَّلُ هُنَا تَبَايُنُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمَدْلُولُ فَهُوَ وَاحِدٌ. وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا دُونَ قَلْبٍ، فَأَيُّ حَاجَةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ هَذَا؟ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ.
وَمَنْ قَرَأَ: وَمَا يُخَادِعُونَ أَوْ يَخْدَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَانْتِصَابُ مَا بَعْدَ إِلَّا عَلَى مَا انْتُصِبَ عَلَيْهِ زَيْدٌ غُبِنَ رَأْيُهُ، إِمَّا عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَإِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَإِمَّا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ: فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ ضَمَّنَ الْفِعْلَ مَعْنَى يَنْتَقِضُونَ وَيَسْتَلِبُونَ، فَيَنْتَصِبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، كَمَا ضَمَّنَ الرَّفَثَ مَعْنَى الْإِفْضَاءَ فَعُدِّي بِإِلَى فِي قَوْلِهِ: الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «2» ، وَلَا يُقَالُ رَفَثَ إِلَى كَذَا، وَكَمَا ضَمَّنَ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «3» ، مَعْنَى أَجْذِبُكَ، وَلَا يُقَالُ: أَلَا هَلْ لَكَ فِي كَذَا. وَفِي قِرَاءَةٍ: وَمَا يَخْدَعُونَ، فَالتَّشْدِيدُ إِمَّا لِلتَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَاعِلَيْنِ أَوْ للمبالغة في
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 18 و 83.
(2) سورة البقرة: 2/ 187.
(3) سورة النازعات: 79/ 18.(1/94)
نَفْسِ الْفِعْلِ، إِذْ هُوَ مَصِيرٌ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَإِمَّا لِمُوَافَقَةِ فَعَلَ نَحْوَ: قَدَرَ اللَّهُ وَقَدَّرَ، وَقَدْ تقدم ذكر معاني فعل. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَمَا يَخْدَعُونَ، أَصْلُهَا يَخْتَدِعُونَ فَأُدْغِمَ، وَيَكُونُ افْتَعَلَ فِيهِ مُوَافِقًا لِفَعَلَ نَحْوُ: اقْتَدَرَ عَلَى زَيْدٍ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَما يَشْعُرُونَ: جُمْلَةٌ معطوفة على: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَمَفْعُولُ يَشْعُرُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِطْلَاعُ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَى خِدَاعِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ تَقْدِيرُهُ هَلَاكُ أَنْفُسِهِمْ وَإِيقَاعِهَا فِي الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَمَا يَشْعُرُونَ:
جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَقْدِيرُهُ وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ شَاعِرِينَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ شَعَرُوا أَنَّ خِدَاعَهُمْ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ خِدَاعٌ لِأَنْفُسِهِمْ لَمَّا خَادَعُوا اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَجَاءَ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ لَا بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُضِيَّ يُشْعِرُ بِالِانْقِطَاعِ بِخِلَافِ الْمُضَارِعِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ أَوِ الْمَدْحِ بِالدَّيْمُومَةِ، نَحْوُ: زَيْدٌ يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَعَمْرٌو يَقْرِي الضَّيْفَ.
وَالْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ رَاءِ مَرَضَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَّا الْأَصْمَعِيَّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالسُّكُونِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْحَلَبِ وَالْحَلْبِ، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، وَلِهَذَا قَرَأَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَضِ الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي هُوَ الْفَسَادُ أَوِ الظُّلْمَةُ أَوِ الضَّعْفُ أَوِ الْأَلَمُ كَائِنٌ فِي قُلُوبِهِمْ حَقِيقَةً، وَسَبَبُ إِيجَادِهِ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ ظُهُورُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ، وَفُشُوُّ الْإِسْلَامِ وَنَصْرُ أَهْلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ، فَيَكُونُ قَدْ كَنَّى بِهِ عَمَّا حَلَّ الْقَلْبَ مِنَ الشَّكِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنِ الْحَسَدِ وَالْغِلِّ، كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بن سَلُولَ، أَوْ عَنِ الضَّعْفِ وَالْخَوْرِ لِمَا رَأَوْا مِنْ نَصْرِ دِينِ اللَّهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَرَضٌ لَكَانَتْ أَجْسَامُهُمْ مَرِيضَةً بِمَرَضِهَا، أَوْ كَانَ الْحِمَامُ عَاجَلَهُمْ، قَالَ: بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ وَالْقَانُونُ الطِّبِّيُّ، أَمَّا الْحَدِيثُ،
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ لَمُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ جَمِيعُهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ جَمِيعُهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» .
وَأَمَّا الْقَانُونُ الطِّبِّيُّ، فَإِنَّ الْحُكَمَاءَ وَصَفُوا الْقَلْبَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ التَّشْرِيحِ، ثُمَّ قَالُوا: إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ مَادَّةٌ غَلِيظَةٌ، فَإِنْ تَمَلَّكَتْ مِنْهُ وَمِنْ غُلَافِهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ حَيَاةٌ وَعَاجَلَتِ الْمَنِيَّةُ صَاحِبَهُ، وَرُبَّمَا تَأَخَّرَتْ تَأْخِيرًا يَسِيرًا، وَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْهُ الْمَادَّةُ الْمُنْصَبَّةُ إِلَيْهِ وَلَا مِنْ غُلَافِهِ، أُخِّرَتِ الْحَيَاةُ مُدَّةً يَسِيرَةً؟ وَقَالُوا: لَا سَبِيلَ إِلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ مَعَ مَرَضِ الْقَلْبِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ لَا تَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَرِيضَةً حَقِيقَةً. وَقَدْ تَلَخَّصَ فِي الْقُرْآنِ(1/95)
مِنَ الْمَعَانِي السَّبَبِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مَرَضًا، وَهِيَ: الرَّيْنُ، وَالزَّيْغُ، وَالطَّبْعُ، وَالصَّرْفُ، وَالضِّيقُ، وَالْحَرَجُ، وَالْخَتْمُ، وَالْإِقْفَالُ، وَالْإِشْرَابُ، وَالرُّعْبُ، وَالْقَسَاوَةُ، وَالْإِصْرَارُ، وَعَدَمُ التَّطْهِيرِ، وَالنُّفُورُ، وَالِاشْمِئْزَازُ، وَالْإِنْكَارُ، وَالشُّكُوكُ، وَالْعَمَى، وَالْإِبْعَادُ بِصِيغَةِ اللَّعْنِ، وَالتَّأَبِّي، وَالْحَمِيَّةُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْغَفْلَةُ، وَالْغَمْزَةُ، وَاللَّهْوُ، وَالِارْتِيَابُ، وَالنِّفَاقُ. وَظَاهِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ مَعَانٍ تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ فَتَغْلِبُ عَلَيْهِ، وَلِلْقَلْبِ أَمْرَاضٌ غَيْرُ هَذِهِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُضَافَةً إِلَى جُمْلَةِ الْكُفَّارِ. وَالزِّيَادَةُ تَجَاوُزُ الْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ، وَعِلْمُ اللَّهِ محيط بما أضمروه من سُوءِ الِاعْتِقَادِ وَالْبُغْضِ وَالْمُخَادَعَةِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ «1» ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ شَيْئًا مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَقْذِفُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا آخَرَ، فَيَصِيرُ الثَّانِي زِيَادَةً عَلَى الْأَوَّلِ، إِذَا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ لَمَا تَحَقَّقَتِ الزِّيَادَةُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يُحْمَلُ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «2» . وَزِيَادَةُ الْمَرَضِ إِمَّا مِنْ حَيْثُ أَنَّ ظُلُمَاتِ كُفْرِهِمْ تَحِلُّ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ «3» ، أَوْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمَرَضَ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْحَسَدِ أَوِ الْهَمِّ، بِمَا يُجَدِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِدِينِهِ مِنْ عُلُوِّ الْكَلِمَةِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ، أَوْ لِمَا يَحْصُلُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ بِخِلَافِ الْإِسْنَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً «4» .
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ الْمَرَضِ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، إِذِ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ هُوَ الْكُفْرُ، فَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ الْمَرَضُ عَلَى الْغَمِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَمُّونَ بِعُلُوِّ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلَى مَنْعِ زِيَادَةِ الْأَلْطَافِ، أَوْ عَلَى أَلَمِ الْقَلْبِ، أَوْ عَلَى فُتُورِ النِّيَّةِ فِي الْمُحَارَبَةِ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ أَوَّلًا قُلُوبُهُمْ قَوِيَّةً عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ كَانَ يَزْدَادُ بِسَبَبِ ازْدِيَادِ التَّكْلِيفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً خَبَرًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ دُعَاءً فَلَا، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ دُعَاءٌ بِوُقُوعِ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، أَوْ مَجَازًا فَلَا تُقْصَدُ بِهِ الْإِجَابَةَ لِكَوْنِ الْمَدْعُوِّ بِهِ وَاقِعًا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ السَّبُّ
__________
(1) سورة الرعد: 13/ 8.
(2) سورة التوبة: 9/ 125.
(3) سورة النور: 24/ 40.
(4) سورة التوبة: 9/ 124.(1/96)
وَاللَّعْنُ وَالنَّقْصُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «1» ، ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ «2» ، وَكَقَوْلِهِ: لَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَأَخْزَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ، وَأَنَّهُ قَدْ بَاءَ بِخِزْيٍ وَلَعْنٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا انْتِهَاءَ لَهُ، وَتَنْكِيرُ مَرَضٍ مِنْ قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الْمَرَضِ فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ دَلَالَةَ النَّكِرَةِ عَلَى مَا وُضِعَتْ لَهُ إِنَّمَا هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ، لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ تَنْتَظِمُ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى جَمْعِ مَرَضٍ لِأَنَّ تَعْدَادَ الْمُحَالِ يَدُلُّ عَلَى تَعْدَادِ الْحَالِ عَقْلًا، فَاكْتَفَى بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ، وَتَعْدِيَةُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى الْقُلُوبِ، إِذْ قَالَ تَعَالَى: فَزادَهُمُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَزَادَهَا، يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فَزَادَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مَرَضًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ زَادَ ذَوَاتَهُمْ مَرَضًا لِأَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ مَرَضٌ لِسَائِرِ الْجَسَدِ، فَصَحَّ نِسْبَةُ الزِّيَادَةِ إِلَى الذَّوَاتِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ فِي ذَوَاتِهِمْ مَرَضًا، وَإِنَّمَا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ. وَأَمَالَ حَمْزَةُ فَزَادَهُمْ فِي عَشَرَةِ أَفْعَالٍ أَلِفُهَا مُنْقَلِبَةً عَنْ يَاءٍ إِلَّا فِعْلًا وَاحِدًا أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ وَوَزْنُهُ فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، إِلَّا ذَلِكَ الْفِعْلَ فَإِنَّ وَزْنَهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي بَيْتَيْنِ فِي قَصِيدَتِي الْمُسَمَّاةِ، بِعِقْدِ اللَّآلِي فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الْعَوَالِي، وَهُمَا:
وَعَشْرَةُ أَفْعَالٍ تُمَالُ لِحَمْزَةٍ ... فَجَاءَ وَشَاءَ ضَاقَ رَانَ وَكَمِّلَا
بِزَادَ وَخَابَ طَابَ خَافَ مَعًا ... وَحَاقَ زَاغَ سِوَى الْأَحْزَابِ مَعْ صَادِهَا فَلَا
يَعْنِي أَنَّهُ قَدِ اسْتَثْنَى حَمْزَةَ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ «3» ، فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ «4» ، فِي سُورَةِ ص، فَلَمْ يُمِلْهَا. وَوَافَقَ ابْنُ ذَكْوَانَ حَمْزَةَ عَلَى إِمَالَةِ جَاءَ وَشَاءَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى زَادَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَعَنْهُ خِلَافٌ فِي زَادَ هَذِهِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَبِالْوَجْهَيْنِ قَرَأْتُهُ لَهُ، وَالْإِمَالَةُ لِتَمِيمٍ، وَالتَّفْخِيمُ لِلْحِجَازِ. وَأَلِيمٌ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ مُحَوَّلًا مِنْ فِعْلٍ لَهَا وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْعَذَابِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَأْلَمُ، إِنَّمَا يَأْلَمُ صَاحِبُهُ، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: شِعْرُ شَاعِرٍ، وَالشِّعْرُ لَا يُشْعِرُ إِنَّمَا الشَّاعِرُ نَاظِمُهُ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ بِمَعْنَى: مُؤْلِمٍ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كرب:
__________
(1) سورة المنافقون: 63/ 4.
(2) سورة التوبة: 9/ 127.
(3) سورة الأحزاب: 33/ 10.
(4) سورة ص: 38/ 63.(1/97)
أمن ريحانة الداعي السميع أَيِ الْمُسْمِعِ، وَفَعِيلٌ: بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مَجَازٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ أَفْعَلُ مَفْعَلٌ، فَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ، وَهَذَا مَجَازٌ فِي الْإِفْرَادِ. وَقَدْ حَصَلَ لِلْمُنَافِقِينَ مَجْمُوعُ الْعَذَابَيْنِ: الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، قِيلَ لِانْخِرَاطِهِمْ مَعَهُمْ وَلِانْتِظَامِهِمْ فِيهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ؟ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، فَصَارَ الْمُنَافِقُونَ أَشُدَّ عَذَابًا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، بِالنَّصِّ عَلَى حُصُولِ الْعَذَابَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «1» ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ كَيْنُونَةَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِهَؤُلَاءِ سَبَبُهَا كَذِبُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمْ وما منسوية أَيْ بِكَوْنِهِمْ يَكْذِبُونَ، وَلَا ضَمِيرَ يَعُودُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا حَرْفٌ، خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنْ كَانَ النَّاقِصَةَ لَا مَصْدَرَ لَهَا، فَمَذْهَبُهُ مَرْدُودٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الْمَجِيءُ بِمَصْدَرِ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلْفَظُ بِهِ مَعَهَا، فَلَا يُقَالُ: كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا كَوْنًا، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، فَالْعَائِدُ عِنْدَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ يُكَذِّبُونَهُ أَوْ يَكْذِبُونَهُ. وَزَعَمَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ كَوْنَ مَا مَوْصُولَةً أَظْهَرُ، قَالَ: لِأَنَّ الْهَاءَ الْمُقَدَّرَةَ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِي دُونَ الْمَصْدَرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ، ثَمَّ هَاءٌ مُقَدَّرَةٌ، بَلْ مَنْ قَرَأَ: يَكْذِبُونَ، بِالتَّخْفِيفِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ، فَالْفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمُ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ فَكَوْنُهُمْ يُكَذِّبُونَ اللَّهَ فِي أَخْبَارِهِ وَالرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَدَّدُ فِي مَعْنَى الْمُخَفَّفِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالُوا فِي: صَدَقَ صَدَّقَ، وَفِي: بَانَ الشَّيْءُ بَيَّنَ، وَفِي: قَلُصَ الثَّوْبُ قَلَّصَ.
وَالْكَذِبُ لَهُ مَحَامِلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَحَدُهَا: الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَعَمْرُو بْنُ بَحْرٍ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ عَالِمًا بِالْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَكَلَّمُوا عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الثَّانِي: الْإِخْبَارُ بِالَّذِي يُشْبِهُ الْكَذِبَ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا الْحَقُّ، قَالُوا:
وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا. الثَّالِثُ: الْخَطَأُ، كَقَوْلِ عُبَادَةَ فِيمَنْ زَعَمَ: أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْ أَخْطَأَ. الرَّابِعُ: الْبُطُولُ، كَقَوْلِهِمْ:
كُذِّبَ الرَّجُلُ، أَيْ بَطَلَ عَلَيْهِ أَمَلُهُ وَمَا رَجَا وَقَدَّرَ. الْخَامِسُ: الْإِغْرَاءُ بِلُزُومِ الْمُخَاطَبِ الشَّيْءَ الْمَذْكُورَ، كَقَوْلِهِمْ: كَذَبَ عَلَيْكَ الْعَسَلُ، أَيْ أَكْلُ الْعَسَلِ، وَالْمُغْرَى بِهِ مرفوع بكذب،
__________
(1) سورة النساء: 4/ 145.(1/98)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ نَصْبُهُ إِلَّا فِي حَرْفٍ شَاذٍّ، وَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَالْمُؤَثَّمُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ قَوْمٌ: الْكَذِبُ كُلُّهُ قَبِيحٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَقَالُوا: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَكْذِبُ لِزَوْجَتِهِ وَلِابْنِهِ تَطْيِيبًا لِلْقَلْبِ فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَذِبُ مُحَرَّمٌ وَمُبَاحٌ، فَالْمُحَرَّمُ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مُرَاعَاتِهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَالْمُبَاحُ مَا كَانَ فِيهِ ذَلِكَ، كَالْكَذِبِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ خِلَافًا، قَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، حِينَ قَالُوا: تَعَالَوْا إِلَى خَلَّةٍ نَسْلَمُ بِهَا مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَنَتَمَسَّكُ مَعَ ذَلِكَ بِدِينِنَا، فَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ وَاعْتَقَدُوا خِلَافَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ، وابن زيد.
[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 16]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
إِذَا: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَيَغْلِبُ كَوْنُهَا شَرْطًا، وَتَقَعُ لِلْمُفَاجَأَةِ ظَرْفَ زَمَانٍ وِفَاقًا لِلرِّيَاشِيِّ، وَالزَّجَّاجِ، لَا ظَرْفَ مَكَانٍ خِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ، وَلِظَاهِرِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَلَا حَرْفًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ.
وَإِذَا كَانَتْ حَرْفًا، فَهِيَ لِمَا تُيُقِّنَ أَوْ رُجِّحَ وُجُودُهُ، وَيُجْزَمُ بِهَا فِي الشِّعْرِ، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الْفِعْلُ الثُّلَاثِيُّ الَّذِي انْقَلَبَ عَيْنُ فِعْلِهِ أَلِفًا فِي الْمَاضِي، إِذَا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، أَخْلَصَ كَسْرَ أَوَّلِهِ وَسَكَنَتْ عَيْنُهُ يَاءً فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَمُجَاوِرِيهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَضُمَّ أَوَّلُهَا عِنْدَ(1/99)
كَثِيرٍ مِنْ قَيْسٍ وَعَقِيلٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ، وَعَامَّةِ بَنِي أَسَدٍ. وَبِهَذِهِ اللُّغَةُ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَهُشَامٌ فِي:
قِيلَ، وغيض، وحيل، وسيىء، وَسِيئَتْ، وَجِيءَ، وَسِيقَ. وَافَقَهُ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ فِي:
سيىء، وَسِيئَتْ. زَادَ ابْنُ ذَكْوَانَ: حِيلَ، وَسَاقَ. وَبِاللُّغَةِ الْأُولَى قرأ باقي القراءة، وَفِي ذَلِكَ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ إِخْلَاصُ ضَمِّ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَسُكُونِ عَيْنِهِ وَاوًا، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِهُذَيْلٍ، وَبَنِي دُبَيْرٍ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَوْجِيهِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَتَكْمِيلِ أَحْكَامِهَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. الْفَسَادُ:
التَّغَيُّرُ عَنْ حَالَةِ الِاعْتِدَالِ وَالِاسْتِقَامَةِ. قَالَ سُهَيْلٌ فِي الْفَصِيحِ: فَسَدَ، وَنَقِيضُهُ: الصَّلَاحُ، وَهُوَ اعْتِدَالُ الْحَالِ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ.
الْأَرْضُ: مُؤَنَّثَةٌ، وَتُجْمَعُ عَلَى أُرْضٍ وَأَرَاضٍ، وَبِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَبِالْيَاءِ وَالنُّونِ نَصْبًا وَجْرًا شُذُوذًا، فَتُفْتَحُ الْعَيْنُ، وَبِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، قَالُوا: أَرِضَاتٍ، وَالْأَرَاضِي جَمْعُ جَمْعٍ كَأَوَاظِبِ. إِنَّمَا: مَا: صِلَةٌ لِإِنَّ وَتَكُفُّهَا عَنِ الْعَمَلِ، فَإِنْ وَلِيَتْهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ كَانَتْ مُهَيَّئَةً، وَفِي أَلْفَاظِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ، وَكَوْنُهَا مُرَكَّبَةً مِنْ مَا النَّافِيَةِ، دَخَلَ عَلَيْهَا إِنَّ الَّتِي لِلْإِثْبَاتِ فَأَفَادَتِ الْحَصْرَ، قَوْلٌ رَكِيكٌ فَاسِدٌ صَادِرٌ عَنْ غَيْرِ عَارِفٍ بِالنَّحْوِ، وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ بِالْوَضْعِ، كَمَا أَنَّ الْحَصْرَ لَا يُفْهَمُ مِنْ أَخَوَاتِهَا الَّتِي كُفَّتْ بِمَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ: لَعَلَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَلَعَلَّ مَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَإِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَإِذَا فُهِمَ حَصْرٌ، فإما يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا أَنَّ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدُوهُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ «1» ، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ «2» ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. وَإِعْمَالُ إِنَّمَا قَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ.
نَحْنُ: ضَمِيرُ رَفْعٍ مُنْفَصِلٌ لِمُتَكَلِّمٍ مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لِمُعْظَمِ نَفْسِهِ، وَفِي اعْتِلَالِ بِنَائِهِ عَلَى الضَّمِّ أَقْوَالٌ تُذْكَرُ فِي النَّحْوِ. أَلَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ زَعَمُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَ تَحْقِيقًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ «3» ، وَلِكَوْنِهَا مِنَ الْمُنْصَبِّ فِي هَذِهِ لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، وَقَالَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ أَلَا التَّنْبِيهِيَّةَ
__________
(1) سورة الرعد: 13/ 7، وسورة النازعات: 79/ 45. [.....]
(2) سورة الكهف: 18/ 110.
(3) سورة القيامة: 75/ 40.(1/100)
حَرْفٌ بَسِيطٌ، لِأَنَّ دَعْوَى التَّرْكِيبِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ مَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى لَا النَّافِيَةِ دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا، إِلَى آخِرِهِ خَطَأٌ، لِأَنَّ مَوَاقِعَ أَلَا تَدُلَّ عَلَى أَنَّ لَا لَيْسَتْ لِلنَّفْيِ، فَيَتِمُّ مَا ادَّعَوْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَلَا إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، لَيْسَ أَصْلُهُ لَا أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ تَرَاكِيبِ الْعَرَبِ بِخِلَافِ مَا نُظِرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ «1» ، لِصِحَّةِ تَرْكِيبِ، لَيْسَ زَيْدٌ بِقَادِرٍ، وَلِوُجُودِهَا قَبْلَ رُبَّ وَقَبْلَ لَيْتَ وَقَبْلَ النِّدَاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ فِيهِ أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى لَا النَّافِيَةِ فَأَفَادَتِ التَّحْقِيقَ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٌ ... وَلَا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَادِثُ وَصْلِهَا ... وَكَيْفَ تُرَاعِي وَصْلَةَ الْمُتَغَيِّبِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلْخَيَالِ الْمُشَوِّقِ ... وَلِلدَّارِ تَنْأَى بِالْحَبِيبِ وَنَلْتَقِي
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَلَا يَا قَيْسُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمْرَ الطَّرِيقِ
إِلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ دُخُولُ لَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يَلْتَقِي بِهِ الْقَسَمُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا تُسْتَفْتَحُ، بِرُبَّ، وَبِلَيْتَ، وَبِفِعْلِ الْأَمْرِ، وَبِالنِّدَاءِ، وَبِحَبَّذَا، فِي قَوْلِهِ:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ وَلَا يَلْتَقِي بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْقَسَمُ وَعَلَامَةُ أَلَا هَذِهِ الَّتِي هِيَ تَنْبِيهٌ وَاسْتِفْتَاحٌ صِحَّةُ الْكَلَامِ دُونَهَا، وَتَكُونُ أَيْضًا حَرْفَ عَرْضٍ فَيَلِيهَا الْفِعْلُ، وَإِنْ وَلِيَهَا الِاسْمُ فَعَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ، وَحَرْفِ جَوَابٍ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: أَلَمْ تَقُمْ فَتَقُولُ: أَلَا بِمَعْنَى بَلَى؟ نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ (وَصْفِ الْمَبَانِي فِي حُرُوفِ الْمَعَانِي) قَالَ: وَهُوَ قَلِيلٌ شَاذٌّ، وَأَمَّا أَلَا الَّتِي لِلتَّمَنِّي فِي قَوْلِهِمْ:
أَلَا مَاءً، فَذَكَرَهَا النُّحَاةُ فِي فَصْلِ لَا الدَّاخِلِ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ. لَكِنْ: حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مُوَافِقًا لِمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ نَقِيضًا أَوْ ضِدًّا جَازَ، أَوْ خلافا ففي الجواز
__________
(1) سورة القيامة: 75/ 40.(1/101)
خِلَافٌ، وَفِي التَّصْحِيحِ خِلَافٌ. وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الرَّمَّالِ جَوَازَ إِعْمَالِهَا مُخَفَّفَةً عَنْ يُونُسَ، وَحَكَى ذَلِكَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَلَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ غَالِبًا إِلَّا وَوَاوُ الْعَطْفِ قَبْلَهَا، وَمِمَّا جَاءَتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ قَوْلُهُ تَعَالَى:
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ «1» لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ «2» ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ:
إِنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لَا تُخْشَى غَوَائِلُهُ ... لَكِنْ وَقَائِعَهُ فِي الْحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِ لَكِنْ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. الْكَافُ: حَرْفُ تَشْبِيهٍ تَعْمَلُ الْجَرَّ وَاسْمِيَّتُهَا مُخْتَصَّةً عِنْدَنَا بِالشِّعْرِ، وَتَكُونُ زَائِدَةً وَمُوَافِقَةً لِعَلَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: كَخَيْرٍ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، وَيَحْدُثُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ في النحو. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ، السَّفَهُ: الْخِفَّةُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلثَّوْبِ الْخَفِيفِ النَّسْجِ سَفِيهٌ، وَفِي النَّاسِ خِفَّةُ الْحِلْمِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ الْبُهْتُ وَالْكَذِبُ وَالتَّعَمُّدُ خِلَافَ مَا يُعْلَمُ، قَالَهُ مُؤَرِّجٌ، أَوِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ، وَهُوَ جَمْعٌ مُطَّرِدٌ فِي فَعِيلٍ الصَّحِيحِ الْوَصْفِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَنَّثِهِ التَّاءُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ سَفِهَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَجْلِ اسْمِ الْفَاعِلِ. قَالُوا: وَنَقِيضُ السَّفَهِ: الرُّشْدُ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ، يُقَالُ رَجُلٌ حَكِيمٌ، وَفِي ضِدِّهِ سَفِيهٌ، وَنَظِيرُ السَّفَهِ النَّزَقُ وَالطَّيْشُ.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللِّقَاءُ: اسْتِقْبَالُ الشَّخْصِ قَرِيبًا مِنْهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ لَقِيَ يَلْقَى، وَقَدْ يُقَالُ لَاقَى، وَهُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَسُمِعَ لِلَقِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَصْدَرًا، قَالُوا: لَقِيَ، لُقْيًا، وَلُقْيَةً، وَلَقَاةً، وَلِقَاءً، وَلُقَاءً، وَلَقًى، وَلُقًى، وَلُقْيَاءَ، وَلِقْيَاءَ، وَلُقِيًّا، وَلُقْيَانًا، وَلِقْيَانَةً، وَتِلْقَاءً.
الْخُلُوُّ: الِانْفِرَادُ، خَلَا بِهِ أَيِ انْفَرَدَ، أَوِ الْمُضِيُّ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ «3» .
الشَّيْطَانُ، فَيْعَالٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، فَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ مِنْ شَطَنَ، أَيْ بَعُدَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ شَاطِنٌ، قَالَ أُمَيَّةُ:
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ... ثُمَّ يُلْقَى فِي السجن والأكبال
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 20.
(2) سورة النساء: 4/ 166.
(3) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 137.(1/102)
وَقَالَ رُؤْبَةُ:
وَفِي أَخَادِيدِ السِّيَاطِ الْمُتَّنِ ... شَافٍ لِبَغْيِ الْكَلْبِ الْمُشَيْطَنِ
وَوَزْنُهُ فَعْلَانُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَنُونُهُ زَائِدَةٌ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ إِذَا هَلَكَ، قَالَ الشَّاعِرَ:
قَدْ تَظْفَرُ الْعِيرُ فِي مَكْنُونِ قَائِلَةٍ ... وَقَدْ تَشْطُو عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ
وَالشَّيْطَانُ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُنْثَاهُ شَيْطَانَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
هِيَ الْبَازِلُ الْكَوْمَاءُ لَا شَيْءَ غَيْرُهَا ... وَشَيْطَانَةٌ قَدْ جُنَّ مِنْهَا جُنُونُهَا
وَشَيَاطِينُ: مع شَيْطَانَ، نَحْوُ غَرَاثِينَ فِي جَمْعٍ غَرْثَانَ، وَحَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ نُونَهُ زَائِدَةٌ تَكُونُ نَحْوَ: غَرْثَانَ، مَعَ اسْمٍ مَعْنَاهُ الصُّحْبَةُ اللَّائِقَةُ بِالْمَذْكُورِ، وَتَسْكِينُهَا قَبْلَ حَرَكَةٍ لُغَةُ رَبِيعَةَ وَغَنْمٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَإِذَا سَكَنَتْ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا اسْمٌ، وإذ ألقيت أَلِفَ اللَّامِ أَوْ أَلِفَ الْوَصْلِ، فَالْفَتْحُ لُغَةُ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ رَبِيعَةَ، وَتَوْجِيهُ اللُّغَتَيْنِ فِي النَّحْوِ، وَيُسْتَعْمَلُ ظَرْفَ مَكَانٍ فَيَقَعُ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ وَالْأَحْدَاثِ، وَإِذَا أُفْرِدَ نُوِّنَ مَفْتُوحًا، وَهِيَ ثُلَاثِيُّ الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْمَقْصُورِ، إِذْ ذَاكَ لَا مِنْ بَابِ يَدٍ، خِلَافًا لِيُونُسَ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ مَعًا حَالٌ، نَحْوُ: جَمِيعًا، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ جَمِيعٍ لِأَنَّهَا تُشْرِكُ فِي الزَّمَانِ نَصًّا، وَجَمِيعُ تَحْتَمِلُهُ.
وَقَدْ سَأَلَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى أَحْمَدَ بْنَ قَادِمٍ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ. قَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدٌ مَعًا، وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدٌ جَمِيعًا، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْكُضُ فِيهَا إِلَى اللَّيْلِ، وَفَرَّقَ ابْنُ يَحْيَى: بِأَنَّ جَمِيعًا يَكُونُ الْقِيَامُ فِي وَقْتَيْنِ وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إِذَا قُلْتَ: مَعًا، فَيَكُونُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
الِاسْتِهْزَاءُ: الِاسْتِخْفَافُ وَالسُّخْرِيَةُ، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ فَعَلَ، تَقُولُ:
هَزَأْتُ بِهِ وَاسْتَهْزَأْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ اسْتَعْجَبَ: بِمَعْنَى عَجِبَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا اسْتَفْعَلَ.
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الْمَدُّ: التَّطْوِيلُ، مَدَّ الشَّيْءَ:
طَوَّلَهُ وَبَسَطَهُ، أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «1» ، وَأَصْلُ الْمَدِّ: الزِّيَادَةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ دَخَلَ فِي شَيْءٍ فَكَثَّرَهُ فَقَدْ مَدَّهُ، قَالَهُ اللِّحْيَانِيُّ. وَأَمَدَّ بِمَعْنَى مَدَّ، مَدَّ الْجَيْشَ، وَأَمَدَّهُ: زَادَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا يُقَوِّيهِ مِنْ جِنْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَدَّ زَادَ مِنَ الْجِنْسِ، وَأَمَدَّ: زَادَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَقَالَ يُونُسُ: مَدَّ فِي الْخَيْرِ وَأَمَدَّ فِي الشَّرِّ. انْتَهَى قَوْلُهُ. وَيُقَالُ: مدّ النهر وأمدّه.
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 45.(1/103)
نَهْرٌ آخَرٌ، وَمَادَّةُ الشَّيْءِ مَا يَمُدُّهُ، الْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَدَدْتُ الدَّوَاةَ وَأَمْدَدْتُهَا بِمَعْنًى، وَيُقَالُ: مَدَدْنَا الْقَوْمَ: صِرْنَا لَهُمْ أَنْصَارًا وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِغَيْرِنَا. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَمَدَّ الْأَمِيرُ جُنْدَهُ بِالْخَيْلِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «1» . الطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ، يُقَالُ طَغَى الْمَاءُ، وَطَغَتِ النَّارُ. الْعَمَهُ. التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْعَمَى، إِلَّا أَنَّ الْعَمَى تُوصَفُ بِهِ الْعَيْنُ الَّتِي ذَهَبَ نُورُهَا، وَالرَّأْيُ الَّذِي غَابَ عَنْهُ الصَّوَابُ. يُقَالُ: عَمَهَ، يَعْمَهُ، عَمَهًا، وَعَمَهَانًا فَهُوَ: عَمِهٌ، وَعَامِهٌ. وَيُقَالُ: بَرِيَّةٌ عَمْهَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا عِلْمٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعَمَهُ أَنْ يَرْكَبَ رَأْسَهُ وَلَا يُبْصِرُ مَا يَأْتِي. وَقِيلَ:
الْعَمَهُ: الْعَمَى عَنِ الرُّشْدِ.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ، الِاشْتِرَاءُ وَالشِّرَاءُ بِمَعْنَى: الِاسْتِبْدَالِ بِالشَّيْءِ وَالِاعْتِيَاضِ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّ الِاشْتِرَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي الِابْتِيَاعِ وَالْبَيْعِ، وَهُوَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا افْتَعَلَ. الرِّبْحُ: هُوَ مَا يَحْصُلُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ. التِّجَارَةُ: هِيَ صِنَاعَةُ التَّاجِرِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي الْمَالِ لِطَلَبِ النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ. الْمُهْتَدِي: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اهْتَدَى وَافْتَعَلَ فِيهِ لِلْمُطَاوَعَةِ، هَدَيْتُهُ فَاهْتَدَى، نَحْوُ: سَوَّيْتُهُ فَاسْتَوَى، وَغَمَمْتُهُ فَاغْتَمَّ. وَالْمُطَاوَعَةُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا أَفْعَلُ، وَلَا تَكُونُ افْتَعَلَ لِلْمُطَاوَعَةِ مَبْنِيَّةً إِلَّا مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي، وَقَدْ وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ اللَّازِمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِيهَا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
حَتَّى إِذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ فِي السَّحَرْ ... كَشُعْلَةِ الْقَابِسِ تَرْمِي بِالشَّرَرْ
لِأَنَّ افْتَعَلَ فِي الْبَيْتِ بِمَعْنَى، فَعَلَ. تَقُولُ: شَالَ يَشُولُ، وَاشْتَالَ يَشْتَالُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَا تَتَعَقَّلُ الْمُطَاوَعَةُ، إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُطَاوِعُ مُتَعَدِّيًا.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ اسْتِئْنَافًا يَنْعِي عَلَيْهِمْ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا، وَفِي الثَّانِي جُزْءُ كَلَامٍ لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى يَكْذِبُونَ، فَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ النَّصْبُ، لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ جُزْءٌ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقَّوْا بِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا تَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي أَجَازَاهُ عَلَى أَحَدِ
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 6.(1/104)
وَجْهَيْ مَا مِنْ قَوْلِهِ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ خَطَأٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، فَيَكْذِبُونَ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، وَقَوْلُهُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لَا ضَمِيرَ فِيهِ يَعُودُ عَلَى مَا، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بالذي كَانُوا، إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ لِعَدَمِ الْعَائِدِ. وَأَمَّا وَجْهُهَا الْآخَرُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فَعَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ يَكُونُ هَذَا الْإِعْرَابُ أَيْضًا خَطَأً، إِذْ عِنْدَهُ أَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةَ اسْمٌ يَعُودُ عَلَيْهَا مِنْ صِلَتِهَا ضَمِيرٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَارِيَةٌ مِنْهُ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، فَهَذَا الْإِعْرَابُ شَائِعٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ إِعْرَابَ هَذَا سِوَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يَكْذِبُونَ، أَوْ عَلَى يَقُولُ، وَزَعَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ وَجْهٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، إِذْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالْجُمْلَتَانِ بَعْدَهَا هِيَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْكَذِبِ وَنَتَائِجِ التَّكْذِيبِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ وَقَوْلَهُمْ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، وَقَوْلَهُمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا كَذِبٌ مَحْضٌ؟ فَنَاسَبَ جَعَلَ ذَلِكَ جُمَلًا مُسْتَقِلَّةً ذُكِرَتْ لِإِظْهَارِ كَذِبِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَنِسْبَةِ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، فَكَثُرَ بِهَذِهِ الْجُمَلِ وَاسْتِقْلَالِهَا ذَمُّهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا سِيقَتْ صِلَةَ جُزْءِ كَلَامٍ لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ لَا تَكُونُ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا، إِنَّمَا جِيءَ بِهَا مُعَرِّفَةً لِلْمَوْصُولِ إِنْ كَانَ اسْمًا، وَمُتَمِّمَةً لِمَعْنَاهُ إِنْ كَانَ حَرْفًا. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِذَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْجَوَابُ، فَإِذَا فِي الْآيَةِ مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا تَلِيهَا هِيَ النَّاصِبَةُ لِإِذَا لِأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الظُّرُوفِ الَّتِي يُجَازَى بِهَا وَإِنْ قَصُرَتْ عَنْ عَمَلِهَا الْجَزْمَ. عَلَى أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَجَازَ الْجَزْمَ بِهَا حَمْلًا عَلَى مَتَى مَنْصُوبًا بِفِعْلِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ إِذَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ بَعْدَهَا، وَالَّذِي يُفْسِدُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ جواز: إِذَا قُمْتَ فَعَمْرٌو قَائِمٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَجَوَازُ وُقُوعِ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ جَوَابًا لِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ «1» إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا، وَمَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَحَذْفُ فَاعِلِ الْقَوْلِ هُنَا لِلْإِبْهَامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا قَدْ قِيلَ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهَا الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِحَرْفِ النَّهْيِ وَهِيَ: لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، إِلَّا إِنْ
__________
(1) سورة يونس: 10/ 21.(1/105)
ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ وُقُوعَ الْفَاعِلِ جُمْلَةً، وَلَيْسَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْمَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْفَاعِلِ، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ هُوَ، يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ كَمَا فَسَّرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» سِيَاقُ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ قَوْلٌ شَدِيدٌ فَأُضْمِرَ هَذَا الْقَوْلُ الْمَوْصُوفُ وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةً، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ الشَّدِيدُ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ مِنْهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ كَلَامٌ، لِأَنَّهُ يَبْقَى لَا تُفْسِدُوا لَا ارْتِبَاطَ لَهُ، إِذْ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْقَوْلِ مُفَسِّرًا لَهُ.
وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ: لَا تُفْسِدُوا، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِكَ أَلِفٌ حَرْفٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، وَمِنْهُ زَعَمُوا مَطِيَّةَ الْكَذِبِ، قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا الْكَلَامُ، انْتَهَى. فَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ إِلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، فَعُدِلَ إِلَى الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِهِ الِاسْمُ بَلْ يُوجَدُ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ وَالْجُمْلَةِ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْإِسْنَادُ الْمَعْنَوِيُّ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالتَّخْرِيجِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ، لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي السَّبْعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّامِ عِنْدَ كَلَامِنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِفْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ بِهِمَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَوْ بِتَرْكِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ بِالنِّفَاقِ الَّذِي صَافَوْا بِهِ الْكُفَّارَ وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَوْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ أَوْ بِقَصْدِهِمْ تَغْيِيرَ الْمِلَّةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكَ، أَوْ بِاتِّبَاعِهِمْ هَوَاهُمْ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ مَعَ وُضُوحِهِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ تَهْيِيجُ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ، قَالَ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادُ مَا فِي الْأَرْضِ وَانْتِفَاءُ الِاسْتِقَامَةِ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَالزُّرُوعِ وَالْمَنَافِعِ الدينية والدنيوية،
__________
(1) سورة ص: 38/ 32.(1/106)
قَالَ تَعَالَى: لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ «1» ، أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «2» ، وَمِنْهُ قِيلَ لحرب كانت بين طيء: حَرْبُ الْفَسَادِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وُوَجْهُ الْفَسَادِ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ أَنَّهَا كُلَّهَا كَبَائِرُ عَظِيمَةٌ وَمَعَاصٍ جَسِيمَةٌ، وَزَادَهَا تَغْلِيظًا إِصْرَارُهُمْ عَلَيْهَا، وَالْأَرْضُ مَتَى كَثُرَتْ مَعَاصِي أَهْلَهَا وَتَوَاتَرَتْ، قَلَّتْ خَيْرَاتُهَا وَنُزِعَتْ بَرَكَاتُهَا وَمُنِعَ عَنْهَا الْغَيْثُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، فَكَانَ فِعْلُهُمُ الْمَوْصُوفُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ لِفَسَادِ الْأَرْضِ وَخَرَابِهَا. كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ وَنُزُولِ الْبَرَكَاتِ وَنُزُولِ الْغَيْثِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ «3» ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ «4» ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا «5» ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ «6» ، الْآيَاتِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ مَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْفَاجِرَ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، إِنَّ مَعَاصِيَهِ يَمْنَعُ اللَّهُ بِهَا الْغَيْثَ، فَيَهْلِكُ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ لِعَدَمِ النَّبَاتِ وَانْقِطَاعِ الْأَقْوَاتِ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ. فَمُتَعَلِّقُ النَّهْيِ حَقِيقَةً هُوَ مُصَافَاةُ الْكُفَّارِ وَمُمَالَأَتُهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِفْشَاءِ السِّرِّ إِلَيْهِمْ وَتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى هَيْجِ الْفِتَنِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَجَعَلَ مَا رُتِّبَ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَقِيقَةً مَنْهِيًّا عَنْهُ لَفْظًا. وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ هُنَا كَالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «7» . وَلَيْسَ ذِكْرُ الْأَرْضِ لِمُجَرَّدِ التَّوْكِيدِ بَلْ فِي ذلك تنبيه على أن هَذَا الْمَحَلَّ الَّذِي فِيهِ نَشْأَتُكُمْ وَتَصَرُّفُكُمْ، وَمِنْهُ مَادَّةُ حَيَاتِكُمْ، وَهُوَ سُتْرَةُ أَمْوَاتِكُمْ، جَدِيرٌ أَنْ لَا يُفْسَدَ فِيهِ، إِذْ مَحَلُّ الْإِصْلَاحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها»
وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ «9» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ «10» ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «11» ، الْآيَةَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَبِّهَةِ عَلَى الِامْتِنَانِ عَلَيْنَا بِالْأَرْضِ، وَمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تَكَادُ تحصى.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 205.
(2) سورة البقرة: 2/ 30.
(3) سورة نوح: 71/ 10.
(4) سورة الجن: 72/ 16. [.....]
(5) سورة الأعراف: 7/ 96.
(6) سورة المائدة: 5/ 66.
(7) سورة البقرة: 2/ 60.
(8) سورة الأعراف: 7/ 56.
(9) سورة الملك: 67/ 15.
(10) سورة النازعات: 79/ 30- 33.
(11) سورة عبس: 80/ 25.(1/107)
وَقَابَلُوا النَّهْيَ عَنِ الْإِفْسَادِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فَأَخْرَجُوا الْجَوَابَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِتَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ لَهُمْ، وَأَكَّدُوهَا بِإِنَّمَا دَلَالَةً عَلَى قُوَّةِ اتِّصَافِهِمْ بِالْإِصْلَاحِ.
وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ. أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قول ابن عباس: أن مُمَالَأَتِنَا الْكُفَّارَ إِنَّمَا نُرِيدُ بِهَا الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ: أَنَّ تِلْكَ الْمُمَالَأَةَ هُدًى وَصَلَاحٌ وَلَيْسَتْ بِفَسَادٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُمَالَأَةَ النَّفْسِ وَالْهَوَى صَلَاحٌ وَهُدًى.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ فِي مُمَالَأَةِ الْكُفَّارِ صَلَاحًا لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ ظَفِرُوا بِهِمْ لَمْ يُبْقُوا عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ مُمَالَأَةِ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ بِاجْتِنَابِ مَا نُهِينَا عَنْهُ.
وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، بَلْ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى كل فرد من أنواع الْإِفْسَادِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَأَعْلَمَ بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مُخَادَعَةٌ، كَانُوا يَكُونُونَ بَيْنَ حَالَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ مُوَادِعِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَالَةُ الْأُخْرَى أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ يَسْعَوْنَ بِالْإِفْسَادِ بِالْأَرْضِ لِتَفَرُّقِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَشَتَاتِ نِظَامِ الْمِلَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُنِعَ مِنْكُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَالْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يُجِيبُوا بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِفْسَادِ، بَلْ أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلْإِفْسَادِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ نَحْوَهُمْ لِاتِّصَافِهِمْ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ. كُلُّ ذَلِكَ بُهْتٌ مِنْهُمْ وَكَذِبٌ صِرْفٌ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْكَذِبِ وَقَوْلِهِمْ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَلَمَّا كَانُوا قَدْ قَابَلُوا النَّهْيَ عَنِ الْإِفْسَادِ بِدَعْوَى الْإِصْلَاحِ الْكَاذِبَةِ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، فَأُثْبِتَ لَهُمْ ضِدُّ مَا ادَّعَوْهُ مُقَابِلًا لَهُمْ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّأْكِيدِ مِنْهَا: التَّصْدِيرُ بِإِنَّ وَبِالْمَجِيءِ بِهِمْ، وَبِالْمَجِيءِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي تُفِيدُ الْحَصْرَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: دَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْمُفْسِدُونَ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّفْظَةِ فِي قَوْلِهِ لَا تُفْسِدُوا، فَكَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَهْدِ، وَلَوْ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنَ اللَّفْظَةِ ذِكْرٌ، لَكَانَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ.
وَاسْتُفْتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِأَلَا مُنَبِّهَةً عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَهَا لِتَكُونَ الْأَسْمَاعُ مُصْغِيَةً لِهَذَا الْإِخْبَارِ الَّذِي جَاءَ فِي حَقِّهِمْ، وَيَحْتَمِلُ هُمْ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ فِي أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فَصْلًا، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الْمُفْسِدُونَ خَبَرًا لِأَنَّ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَيَكُونُ(1/108)
الْمُفْسِدُونَ خَبَرَهُ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِإِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ فَائِدَةِ الْفَصْلِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَتَحْقِيقُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، هُوَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ يَتَضَمَّنُ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَوَقَعَتْ لَكِنْ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَجِهَةُ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّهُمْ لَمَّا نُهُوا عَنْ إِيجَادِ مِثْلِ مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ الْإِفْسَادِ فَقَابَلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، كَانُوا حَقِيقِينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي فَاتَهُمْ مِنْ عَدَمِ الشُّعُورِ بِذَلِكَ. تَقُولُ: زَيْدٌ جَاهِلٌ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اتَّصَفَ بِالْجَهْلِ وَصَارَ وَصْفًا قَائِمًا بِزَيْدٍ، كَانَ يَنْبَغِي لِزَيْدٍ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ، إِذِ الْإِنْسَانُ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِلَكِنْ، لِأَنَّهُ مِمَّا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ وَيَغْمُضُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِدْرَاكُهُ. قَالُوا: وَمَفْعُولُ يَشْعُرُونَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ، أَوْ أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ، أَوْ أَنَّهُمْ يَنْزِلُ بِهِمُ الْمَوْتُ فَتَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ، وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُنْوَى مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُمُ الشُّعُورُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ وَلَا نِيَّةٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، جَعَلُوا لِدَعْوَاهُمْ مَا هُوَ إِفْسَادٌ إِصْلَاحًا مِمَّنِ انْتَفَى عَنْهُ الشُّعُورُ وَكَأَنَّهُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِدْرَاكِ شَيْءٍ فَأَهْمَلَ الْفِكْرَ وَالنَّظَرَ حَتَّى صَارَ يَحْكُمُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْفَاسِدَةِ بِأَنَّهَا صَالِحَةٌ، فَقَدِ انْتَظَمَ فِي سِلْكِ مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ وَلَا إِدْرَاكَ، أَوْ مَنْ كَابَرَ وَعَانَدَ فَجَعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا، فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ تَسْلِيَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يُدْرِكُونَ الْحَقَّ، إِذْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ لَا يَكْتَرِثَ بِمُخَالَفَتِهِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا مِنْ حَيْثُ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ عَطْفُهَا عَلَى صِلَةٍ مَنْ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يَقُولُ، أَوْ عَطْفُهَا عَلَى يَكْذِبُونَ، وَمِنْ حَيْثُ الْعَامِلُ فِي إِذَا، وَمِنْ حَيْثُ حُكْمُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ إِذَا، وَمِنْ حَيْثُ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْقَائِلِ لَهُمْ آمِنُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّحَابَةُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ مِنْهُمْ وَهُمْ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْكَمَالَ يَحْصُلُ بِتَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي وبفعل ما ينبغي، وبدىء بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ عَنْهَا هِيَ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، وَالتُّرُوكُ أَسْهَلُ فِي الِامْتِثَالِ مِنِ امْتِثَالِ(1/109)
الْمَأْمُورَاتِ بِهَا. وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ: كَما آمَنَ النَّاسُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَأَكْثَرُ الْمُعْرِبِينَ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: آمِنُوا إِيمَانًا كَمَا آمَنَ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: فِي سير عليه شديد، أَوْ: سِرْتُ حَثِيثًا، إِنَّ شَدِيدًا وَحَثِيثًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: سِيرَ عَلَيْهِ سَيْرًا شَدِيدًا، وَسِرْتُ سَيْرًا حَثِيثًا. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُضْمَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ الْمَحْذُوفِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّسَاعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا. وَتِلْكَ الْمَوَاضِعُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ خَاصَّةً بِجِنْسِ الْمَوْصُوفِ، نَحْوَ: مَرَرْتُ بِكَاتِبٍ وَمُهَنْدِسٍ، أَوْ وَاقِعَةً خَبَرًا، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، أَوْ حَالًا، نَحْوَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَاكِبًا، أَوْ وَصْفًا لِظَرْفٍ، نَحْوَ:
جَلَسْتُ قَرِيبًا مِنْكَ، أَوْ مُسْتَعْمَلَةً اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، وَهَذَا يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، نَحْوَ:
الْأَبْطَحِ وَالْأَبْرَقِ. وَإِذَا خَرَجَتِ الصِّفَةُ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا تَابِعَةً لِلْمَوْصُوفِ، وَلَا يُكْتَفَى عَنِ الْمَوْصُوفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سِيبَوَيْهِ مَنَعَ: أَلَا مَاءً وَلَوْ بَارِدًا وَإِنْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَأَجَازَ: وَلَوْ بَارِدًا، لِأَنَّهُ حَالٌ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَمَا، مِنْ: كَمَا آمَنَ النَّاسُ، مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ كَإِيمَانِ النَّاسِ، فَيَنْسَبِكُ مِنْ مَا، وَالْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِكَافِ التَّشْبِيهِ الَّتِي هِيَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ حَالٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً فَصِلَتُهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مُصَدَّرَةٌ بِمَاضٍ مُتَصَرِّفٍ أَوْ مُضَارِعٍ، وَشَذَّ وَصْلُهَا بِلَيَسَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ وَلَا تُوصَلُ بِالْجُمْلَةِ الْأَسْمِيَةِ خِلَافًا لِقَوْمٍ، مِنْهُمْ: أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ:
وَجَدْنَا الْحُمْرَ مِنْ شَرِّ الْمَطَايَا ... كَمَا الْحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ
وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ فِي مَا مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا آمَنَ، أَنْ تَكُونَ كَافَّةً لِلْكَافِ عَنِ الْعَمَلِ مِثْلَهَا فِي: رُبَّمَا قَامَ زَيْدٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُجْعَلَ كَافَّةً إِلَّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَا تَتَقَدَّرُ فِيهِ مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّ إِبْقَاءَهَا مَصْدَرِيَّةً مُبْقٍ لِلْكَافِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، وَتَكُونُ الْكَافُ إِذْ ذَاكَ مِثْلَ حُرُوفِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي: كَمَا آمَنَ النَّاسُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ كَافَّةً. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النَّاسِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:(1/110)
الْكَامِلُونَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، أَوْ عَبَّرَ بِالنَّاسِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ صُورَتُهُ صُورَةُ النَّاسِ، وَلَيْسَ مِنَ النَّاسِ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ، كَمَا قال الشاعر:
ليس من النَّاسِ وَلَكِنَّهُ ... يَحْسَبُهُ النَّاسُ مِنَ النَّاسِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَيُعْنَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَنَحْوُهُ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ مِنَ الْيَهُودِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْأَنْصَارِ عَدَّهُمُ الْكَلْبِيُّ.
وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى الْعَهْدِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ سَبَقَ إِيمَانُهُ قَبْلَ قَوْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، فَيَكُونُ حَوَالَةً عَلَى مَنْ سَبَقَ إِيمَانُهُ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مَعْهُودُونَ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي:
كَمَا آمَنَ النَّاسُ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَإِلَّا فَهُمْ نَاطِقُونَ بِكَلِمَتِي الشَّهَادَةِ غَيْرَ مُعْتَقِدِيهَا. أَنُؤْمِنُ: مَعْمُولٌ لِقَالُوا، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ أَوِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُشَبَّهًا كَانَ جَوَابُهُمْ مُشَبَّهًا فِي قَوْلِهِمْ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، وَالْقَوْلُ فِي الْكَافِ وَمَا فِي هَذَا كَالْقَوْلِ فِيهِمَا فِي: كَما آمَنَ النَّاسُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي السُّفَهَاءِ لِلْعَهْدِ، فَيُعْنَى بِهِ الصَّحَابَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وأصحابه، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَنْ فُسِّرَ بِهِ النَّاسُ مِنَ الْمَعْهُودِينَ، أَوِ الْكَامِلُونَ فِي السَّفَهِ، أَوْ لِأَنَّهُمُ انْحَصَرَ السَّفَهُ فِيهِمْ إِذْ لَا سَفِيهَ غَيْرُهُمْ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلصِّفَةِ الْغَالِبَةِ نَحْوِ: الْعَيُّوقِ وَالدَّبَرَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُغَلِّبْ هَذَا الْوَصْفَ عَلَيْهِمْ، فَصَارُوا إِذَا قِيلَ: السُّفَهَاءُ، فَهُمْ مِنْهُ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْعَيُّوقِ نَجْمٌ مَخْصُوصٌ. وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُمْ: كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أن يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ وَالتَّجَلُّدِ حَذَرًا مِنَ الشَّمَاتَةِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِسُفَهَاءَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ من بَابِ الِاعْتِقَادِ الْجَزْمِ عِنْدَهُمْ، فَيَكُونُوا قَدْ نَسَبُوهُمْ لِلسَّفَهِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ، وَذَلِكَ لِمَا أَخَلُّوا بِهِ مِنَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ، وَهُمْ كَانُوا فِي رِئَاسَةٍ وَيَسَارٍ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ إِذْ ذَاكَ أَكْثَرُهُمْ فُقَرَاءُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مُوَالٍ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مِنَ السُّفَهَاءِ لِأَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا مَا لَا يُجْدِي عِنْدَهُمْ وَكَسِلُوا عَنْ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْغِنَى وَمَا بِهِ السُّؤْدُدُ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ غَايَةُ السَّفَهِ عِنْدَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: كَما آمَنَ السُّفَهاءُ إِثْبَاتٌ مِنْهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ بِسَفَهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِضِدِّ السَّفَهِ، وَهُوَ رَزَانَةُ الْأَحْلَامِ وَرُجْحَانُ الْعُقُولِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَثْبَتَ أَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ، وَصَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِأَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ لِيُنَادِي عَلَيْهِمُ الْمُخَاطِبِينَ بِأَنَّهُمُ السُّفَهَاءُ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِإِنَّ وَبِلَفْظِ هُمْ.(1/111)
وَإِذَا الْتَقَتِ الْهَمْزَتَانِ وَالْأُولَى مَضْمُومَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوُ: السُّفَهاءُ أَلا، فَفِي ذَلِكَ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ. وَالثَّانِي: تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَخْفِيفُ الثَّانِيَةِ بِإِبْدَالِهَا وَاوًا كَحَالِهَا إِذَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً قَبْلَهَا ضَمَّةٌ في كلمة نحو: أو اتي مُضَارِعُ آتَى، فَاعِلٌ مِنْ أَتَيْتُ، وَجُؤَنٍ تَقُولُ: أُوَاتِي وَجُوَنٌ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَالثَّالِثُ: تَسْهِيلُ الأولى بجعلها بين الهمزة وَالْوَاوِ، وَتَحْقِيقُ الثَّانِيَةِ. وَالرَّابِعُ:
تسهيل الأولى بجعلها بين الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ وَإِبْدَالُ الثَّانِيَةِ وَاوًا. وَأَجَازَ قَوْمٌ وَجْهًا. خَامِسًا: وَهُوَ جَعْلُ الْأُولَى بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ، وَجَعْلُ الثانية بين الهمزة والواو، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ جَعْلَ الثَّانِيَةَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ تَقْرِيبًا لَهَا مِنَ الْأَلِفِ، وَالْأَلِفُ لَا تَقَعُ بَعْدَ الضَّمَّةِ، وَالْأَعَارِيبُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي جَازَتْ فِي: هُمْ، فِي قَوْلِهِ: هُمُ الْمُفْسِدُونَ، جَائِزَةٌ فِي: هُمْ، مِنْ قَوْلِهِ:
هُمُ السُّفَهاءُ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ، مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ هُنَاكَ لَا يَشْعُرُونَ وَهُنَا لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ لَهُمْ هُنَاكَ هُوَ الْإِفْسَادُ، وَهُوَ مِمَّا يُدْرَكُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ كَثِيرٍ، فَنَفَى عَنْهُمْ مَا يُدْرَكُ بِالْمَشَاعِرِ، وَهِيَ الْحَوَاسُّ، مُبَالَغَةً فِي تَجْهِيلَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الشُّعُورَ الَّذِي قَدْ يَثْبُتُ لِلْبَهَائِمِ مَنْفِيٌّ عَنْهُمْ، وَالْمُثْبَتُ هُنَا هُوَ السَّفَهُ، وَالْمُصَدَّرُ بِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى إِمْعَانِ فِكْرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ تَامٍّ يُفْضِي إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَنَاسَبَ ذَلِكَ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ هُوَ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَالْجَهْلُ بِالْمَأْمُورِ، قَالَ السَّمَوْأَلُ:
نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا ... فَنَجْهَلُ الْجَهْلَ مَعَ الْجَاهِلِ
وَالْعِلْمُ نَقِيضُ الْجَهْلِ، فَقَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ جَهْلٌ بِهِ.
قَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ الْيَمَانِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: وَإِذَا لَاقَوُا الَّذِينَ وَهِيَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي فَاعِلٍ الْخَمْسَةِ، وَالْوَاوُ الْمَضْمُومَةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هِيَ وَاوُ الضَّمِيرِ تَحَرَّكَتْ لِسُكُونِ مَا بَعْدَهَا، وَلَمْ تَعُدْ لَامُ الْكَلِمَةِ الْمَحْذُوفَةُ لِعُرُوضِ التَّحْرِيكِ فِي الْوَاوِ، وَاللِّقَاءُ يَكُونُ بِمَوْعِدٍ وَبِغَيْرِ مَوْعِدٍ، فَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ مَوْعِدٍ سُمِّيَ مُفَاجَأَةً وَمُصَادَفَةً، وَقَوْلُهُمْ لِمَنْ لَقُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا، بِلَفْظِ مُطْلَقِ الْفِعْلِ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ بِشَيْءٍ تَوْرِيَةً مِنْهُمْ وَإِيهَامًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَبِمَا جَاءَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ مِنْ خُبْثِهِمْ وَبُهْتِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ(1/112)
الْإِيمَانَ الْمُقَيَّدَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَيْسُوا بِصَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ مَا أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَمِنِ اعْتِرَافِهِمْ حِينَ اللِّقَاءِ، وَسَمَّوْا ذَلِكَ إِيمَانًا، وَقُلُوبُهُمْ عَنْ ذَلِكَ صَارِفَةٌ مُعْرِضَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَلَوْا إِلَى بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ وَرْشٌ: بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْوَاوِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَيَتَعَدَّى خَلَا بِالْبَاءِ وَبِإِلَى، وَالْبَاءُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَعُدِلَ إِلَى إِلَى لِأَنَّهَا إِذَا عُدِّيَتْ بِالْبَاءِ احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِانْفِرَادُ، وَالثَّانِي: السُّخْرِيَةُ، إِذْ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: خَلَوْتُ بِهِ، أَيْ سَخِرْتُ مِنْهُ، وَإِلَى لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَإِلَى هُنَا عَلَى مَعْنَاهَا مِنِ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ عَلَى مَعْنَى تَضْمِينَ الْفِعْلِ، أَيْ صَرَفُوا خَلَاهُمْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، قَالَ الْأَخْفَشُ: خَلَوْتُ إِلَيْهِ، جَعَلْتُهُ غَايَةَ حَاجَتِي، وَهَذَا شَرْحُ مَعْنًى، وَزَعَمَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَنَّ إِلَى هُنَا بِمَعْنَى مَعَ أَيْ: وَإِذَا خَلَوْا مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، كَمَا زَعَمُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «1» ، ومَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «2» ، أَيْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ وَمَعَ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْوَعِيدِ كَأَنَّنِي ... إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، إِذْ نِيَابَةُ الْحَرْفِ عَنِ الْحَرْفِ لَا يَقُولُ بِهَا سِيبَوَيْهِ، وَالْخَلِيلُ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي النَّحْوِ. وَشَيَاطِينُهُمْ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ رُؤَسَاؤُهُمْ فِي الْكُفْرِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: أَوْ كَهَنَتُهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَجَمَاعَةٌ. وَكَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْكَهَنَةِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَبُو بُرْدَةَ فِي بَنِي أَسْلَمَ، وَعَبْدُ الدَّارِ فِي جُهَيْنَةَ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ فِي بَنِي أَسَدٍ، وَابْنُ السَّوْدَاءِ فِي الشَّامِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، وَيَعْرِفُونَ الْأَسْرَارَ، وَيُدَاوُونَ الْمَرْضَى، وَسُمُّوا شَيَاطِينَ لِتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، أَوْ بِاسْمِ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، إِنْ فُسِّرُوا بِالْكَهَنَةِ، أَوْ لِشَبَهِهِمْ بِالشَّيَاطِينِ فِي وَسْوَسَتِهِمْ، وَغُرُورِهِمْ، وَتَحْسِينِهِمْ لِلْفَوَاحِشِ، وَتَقْبِيحِهِمْ لِلْحَسَنِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيكِ الْعَيْنِ مِنْ مَعَكُمْ، وقرىء فِي الشَّاذِّ: إِنَّا مَعْكُمْ، وهي لغة غنم
__________
(1) سورة النساء: 4/ 2.
(2) سورة آل عمران: 3/ 52، وسورة الصف: 61/ 14.(1/113)
وَرَبِيعَةَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْلَانِ مِنْهُمْ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا، وَلِشَيَاطِينِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ. فَانْظُرْ إِلَى تَفَاوُتِ الْقَوْلَيْنِ، فَحِينَ لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا آمَنَّا، أَخْبَرُوا بِالْمُطْلَقِ، كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُمُ الْإِخْبَارُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ وَنَشْئِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ، لَا فِي ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ أَوْحَدِيُّونَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا تُطَوِّعُ بِذَلِكَ أَلْسِنَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَا بَاعِثَ لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ حَقِيقَةً، أَوْ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَّدُوهُ مَا رَاجَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاكْتَفَوْا بِمُطْلَقِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا، وَحِينَ لَقُوا شَيَاطِينَهُمْ، أَوْ خَلَوْا إِلَيْهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، فَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ مُوَافِقُوهُمْ، وَأَخْرَجُوا الْأَخْبَارَ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِإِنَّ لِيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلَى ثَبَاتِهِمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِخْبَارِ بِالْمُوَافَقَةِ، بَلْ بَيَّنُوا أَنَّ سَبَبَ مَقَالَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالِاسْتِخْفَافُ، لَا أَنَّ ذَلِكَ صَادِرٌ مِنْهُمْ عَنْ صِدْقٍ، وَجِدٍّ، وَأَبْرَزُوا هَذَا فِي الأخبار في جملة اسمية مُؤَكَّدَةٍ بِإِنَّمَا مُخْبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ فِيهَا بِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُمْ، لَا أَنَّ ذَلِكَ تَجَدُّدٌ عِنْدَهُمْ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ خُلُقِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ جَوَابًا لِمُنْكِرٍ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنَّا مَعَكُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ مَعَنَا وَأَنْتُمْ مُسَالِمُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، تُصَدِّقُونَهُمْ، وَتُكَثِّرُونَ سَوَادَهُمْ، وَتَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَهُمْ، وَتَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ؟
فَأَجَابُوهُمْ بقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، أَيْ مُسْتَخِفُّونَ بِهِمْ، نُصَانِعُ بِمَا نُظْهِرُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، فَنَحْنُ نُوَافِقُهُمْ ظَاهِرًا وَنُوَافِقُكُمْ بَاطِنًا، وَالْقَائِلُ إِنَّا مَعَكُمْ، إِمَّا الْمُنَافِقُونَ لِكِبَارِهِمْ، وَإِمَّا كل المنافقين للكافرين، وقرىء: مستهزءون، بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَبِقَلْبِهَا يَاءً مَضْمُومَةً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُ الْيَاءَ تَشْبِيهًا بِالْيَاءِ الْأَصْلِيَّةِ فِي نَحْوِ: يَرْمُونَ، فَيَضُمُّ الرَّاءَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي تَحْقِيقِهَا: أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ: أَنْ تُقْلَبَ يَاءً قَلْبًا صَحِيحًا. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: حَالُ الْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ مُنْكَرٌ، كَحَالِ الْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ. وَالْعَرَبُ تَعَافُ يَاءً مَضْمُومَةً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى مَا ذهب إلى سِيبَوَيْهِ، انْتَهَى.
وَهَلِ الِاجْتِمَاعُ وَالْمَعِيَّةُ فِي الدِّينِ، أَوْ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، أَوْ فِي اتِّفَاقِهِمْ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَأَخْفَوْهُ مِنَ الْمَكَايِدِ، أَوْ فِي اتِّفَاقِهِمْ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَتَرَبُّصِهِمْ بِهِمُ الدَّوَائِرَ وَفَرَحِهِمْ بِمَا يَسُوءُ الْمُسْلِمِينَ وَحُزْنِهِمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَقَصْدِهِمْ إِخْمَادَ كَلِمَةِ اللَّهِ؟ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالدَّوَاعِي إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ: خَوْفُ الْأَذَى، وَاسْتِجْلَابُ النَّفْعِ،(1/114)
وَالْهَزْلُ، وَاللَّعِبُ. وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ إِضَافَةُ الِاسْتِهْزَاءِ الَّذِي هَذِهِ دَوَاعِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِهْزَاءُ الْمُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ مُجَازَاتِهِ لَهُمْ، وَأُطْلِقَ اسْمُ الِاسْتِهْزَاءِ عَلَى الْمُجَازَاةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ الِاسْتِهْزَاءِ، أَوْ عَنْ مُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِمِثْلِ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَصَوْنِ الْمَالِ، وَالْإِشْرَاكِ فِي الْمَغْنَمِ، مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِمْ. وَأُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ مَا أَشْبَهَهُ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ عَنِ التَّوْطِئَةِ وَالتَّجْهِيلِ، لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَسَمَّى التَّوْطِئَةَ لَهُمُ اسْتِهْزَاءً لِأَنَّهُ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ، بَلْ أَمْلَى، وَأَخَّرَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، أَوْ عَنْ فَتْحِ بَابِ الْجَنَّةِ فَيُسْرِعُونَ إِلَيْهِ فَيُغْلَقُ، فَيَضْحَكُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ عَنْ خُمُودِ النَّارِ فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ، أَوْ عَنْ ضَرْبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ السُّورُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيدِ، أَوْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» ، أَوْ عَنْ تَجْدِيدِ اللَّهِ لَهُمْ نِعْمَةً كُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا، فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، أَوْ عَنِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَبَيْنَ النُّورِ الَّذِي يُعْطَاهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ عَنْ طَرْدِهِمْ عَنِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَمَرَ بِنَاسٍ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَدَنَوْا مِنْهَا وَوَجَدُوا رِيحَهَا وَنَظَرُوا إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا، وَهُوَ حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ، رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَنَحَا هَذَا الْمَنْحَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ.
وَفِي مُقَابَلَةِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِهْزَاءِ اللَّهِ بِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ، وَلِيَعْلَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَذُبُّ عَنْهُمْ وَيُحَارِبُ مَنْ حَارَبَهُمْ. وَفِي افْتِتَاحِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ اللَّهِ التَّفْخِيمُ الْعَظِيمُ، حَيْثُ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِهِ، وَجُعِلَ الْخَبَرُ فِعْلًا مُضَارِعًا يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي النِّسْبَةِ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي قَوْلِهِمْ، ثُمَّ فِي ذَلِكَ التَّنْصِيصِ عَلَى الذين يستهزىء اللَّهُ بِهِمْ، إِذْ عَدَّى الفعل إليهم فقال: يستهزىء بِهِمْ وَهُمْ لَمْ يَنُصُّوا حِينَ نَسَبُوا الِاسْتِهْزَاءَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ، فَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّمَا نحن مستهزءون بِهِمْ وَذَلِكَ لِتَحَرُّجِهِمْ مِنْ إِبْلَاغِ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَنْقِمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبْقَوُا اللَّفْظَ مُحْتَمِلًا أَنْ لَوْ حُوقِقُوا عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ لَهُمْ مَجَالٌ فِي الذَّبِّ عَنْهُمْ أنهم لم يستهزءوا بِالْمُؤْمِنِينَ. أَلَا تَرَى إِلَى مُدَارَاتِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِقَوْلِهِمْ:
إِذَا لَقُوهُمْ قَالُوا آمَنَّا، فَهُمْ عِنْدَ لِقَائِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِظْهَارَ الْمُدَارَاةِ، وَلَا مُشَارَكَتِهِمْ بِمَا يَكْرَهُونَ، بَلْ يُظْهِرُونَ الطَّوَاعِيَةَ وَالِانْقِيَادَ.
__________
(1) سورة الدخان: 44/ 49.(1/115)
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَشِبْلٌ: يَمُدُّهُمْ. وَتُرْوَى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: وَنِسْبَةُ الْمَدِّ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةٌ، إِذْ هُوَ مُوجِدُ الْأَشْيَاءِ وَالْمُنْفَرِدُ بِاخْتِرَاعِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطَوِّلُ لَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى تَأْوِيلِ الْمَدِّ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَنْعُ الْأَلْطَافِ وَخُذْلَانُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ، بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ تَتَزَايَدُ الظُّلْمَةُ فِيهَا تَزَايُدَ النُّورِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ التَّزَايُدُ مَدًّا وَأُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ بِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، أَوْ بِأَنَّ الْمَدَّ هُوَ عَلَى مَعْنَى الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ. قَالَ: أَوْ عَلَى أَنْ يُسْنِدَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ بِتَمْكِينِهِ وَإِقْدَارِهِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِغْوَاءِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي الْمَدِّ لِأَنَّ مَدَّ اللَّهِ لَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ قَبِيحٌ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُ الْكَعْبِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: هُوَ الْمَدُّ فِي الْعُمُرِ، وَعِنْدَنَا نَحْنُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ الْهَادِي وَالْمُضِلُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَمَدُّ اللَّهِ فِي طُغْيَانِهِمْ، التَّمْكِينُ مِنَ الْعِصْيَانِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوِ الْإِمْلَاءُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الزِّيَادَةُ مِنَ الطُّغْيَانِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الْإِمْهَالُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَابْنُ كَيْسَانَ، أَوْ تَكْثِيرُ الْأَمْوَالِ، وَالْأَوْلَادِ، وَتَطْيِيبُ الْحَيَاةِ، أَوْ تَطْوِيلُ الْأَعْمَارِ، وَمُعَافَاةُ الْأَبْدَانِ، وَصَرْفُ الرَّزَايَا، وَتَكْثِيرُ الْأَرْزَاقِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فِي طُغْيَانِهِمْ بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، يُقَالُ: طُغْيَانٌ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، كَمَا قالوا: القيان، وغينان، بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ. وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ فِي طُغْيَانِهِمْ، وَأَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ فِعْلُهُمْ وَكَسْبُهُمْ، وَكُلُّ فِعْلٍ صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ صَحَّتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَإِلَى اللَّهِ بِالِاخْتِرَاعِ. وَمَا فُسِّرَ بِهِ الْعَمَهُ يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْمَهُونَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَتَرَدَّدُونَ وَيَتَحَيَّرُونَ، أَوْ يَعْمَوْنَ عَنْ رُشْدِهِمْ، أو يركبون رؤوسهم وَلَا يُبْصِرُونَ.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْأَخِيرُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَرَدِّدِينَ فِي كُفْرِهِمْ، بَلْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا سِوَاهُ الْبَاطِلُ. يَعْمَهُونَ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَمُدُّهُمْ وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي طُغْيَانِهِمْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ، وَفِي طُغْيَانِهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَمُدُّهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَعْمَهُونَ. وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي طُغْيَانِهِمْ وَيَعْمَهُونَ حَالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَمُدُّهُمْ، قَالَ: لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَعْمَلُ فِي حَالَيْنِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْحَالَانِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ(1/116)
كَانَا لِذَوِي حَالٍ جَازَ، نَحْوَ: لَقِيتُ زَيْدًا مُصْعِدًا مُنْحَدِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَا لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَفِي إِجَازَةِ ذَلِكَ خِلَافٌ. ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْضِيَ مَصْدَرَيْنِ، وَلَا ظَرْفَيْ زَمَانٍ، وَلَا ظَرْفَيْ مَكَانٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْضِي حَالَيْنِ. وَخَصَّصَ أَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنْ لَا يَكُونَ الثَّانِي عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، أَوْ مَعْطُوفًا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَا كَذَلِكَ جَازَتِ الْمَسْأَلَةُ. قَالَ: بَعْضُهُمْ: إِلَّا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَإِنَّهَا تَعْمَلُ فِي ظَرْفَيْ زَمَانٍ، وَظَرْفَيْ مَكَانٍ، وَحَالَيْنِ لِذِي حَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ اخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ فِي حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَإِلَى هَذَا أَذْهَبُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْ فَاعِلٍ، أَوِ الْوَاقِعَ بِمَفْعُولٍ، يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ فِي زَمَانَيْنِ، وَفِي مَكَانَيْنِ. وَأَمَّا الْحَالَانِ فَلَا يَسْتَحِيلُ قِيَامُهُمَا بِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، إِلَّا إِنْ كَانَا ضِدَّيْنِ، أَوْ نَقِيضَيْنِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جَاءَ زيد ضاحكا راكبا، لأنه لَا يَسْتَحِيلُ مَجِيئُهُ وَهُوَ مُلْتَبِسٌ بِهَذَيْنِ الْحَالَيْنِ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ يَجُوزُ أَنْ يَجِيءَ الْحَالَانِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا وَاحِدٌ.
أُولَئِكَ: اسم أُشِيرَ بِهِ إِلَى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، الْجَامِعِينَ لِلْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ مِنْ دَعْوَى الْإِصْلَاحِ، وَهُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَنِسْبَةُ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِ الْمُوَافَقَةِ وَهُمْ مَعَ الْكُفَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ، بِضَمِّ الْوَاوِ.
وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ قَعْنَبٌ الْعَدَوِيُّ: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْفَتْحِ. وَلِاعْتِلَالِ ضَمَّةِ الْوَاوِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، نَحْوُ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا «1» ، وَوَجْهُ الْفَتْحِ اتِّبَاعُهَا لِحَرَكَةِ الْفَتْحِ قَبْلَهَا. وَأَمَالَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْهُدَى، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ كَنَّى بِهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلشَّيْءِ مُخْتَارٌ لَهُ مُؤْثِرٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَجَعَلَ تَمَكُّنَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى كَالثَّمَنِ الْمَبْذُولِ فِي الْمُشْتَرَى، وَإِنَّمَا ذَهَبَ فِي الِاشْتِرَاءِ إِلَى الْمَجَازِ لِعَدَمِ الْمُعَاوَضَةِ، إِذْ هِيَ اسْتِبْدَالُ شَيْءٍ فِي يَدِكَ لِشَيْءٍ فِي يَدِ غَيْرِكَ، وَهَذَا مَفْقُودٌ هُنَا.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاءَ هُنَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ مُتَحَقِّقَةٌ، ثُمَّ رَامُوا يُقَرِّرُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ لِأَنَّهُ على كل تقدير يؤول الشِّرَاءُ فِيهِ إِلَى الْمَجَازِ، قَالُوا:
إِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، فَقَدْ كَانَ لَهُمْ هُدًى ظَاهِرٌ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَةِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْغَزْوِ، وَالْقِتَالِ. فلما لم تصدق
__________
(1) سورة الجن: 72/ 16.(1/117)
بَوَاطِنُهُمْ ظَوَاهِرَهُمْ وَاخْتَارُوا الْكُفْرَ، اسْتَبْدَلُوا بِالْهُدَى الضَّلَالَ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ، وَحَصَلَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَقِيقَةً، وَكَانَ مِنْ بُيُوعِ الْمُعَاطَاةِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى اللَّفْظِ، وَقَالُوا: لَمَّا وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَاسْتَمَرَّ لَهُمْ حُكْمُهَا إِلَى الْبُلُوغِ وجد التَّكْلِيفِ، اسْتَبْدَلُوا عَنْهَا بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ، وَقَالُوا: لَمَّا كَانُوا ذَوِي عُقُولٍ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ مِنَ الْخَطَأِ، اسْتَبْدَلُوا بِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ النَّفِيسِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَالتَّقْلِيدَ لِلْآبَاءِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ. قَالُوا: وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلَ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، فَقَدْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمُصَدِّقِينَ بِبَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُسْتَفْتِحِينَ بِهِ، وَيَدْعُونَ بِحُرْمَتِهِ، وَيُهَدِّدُونَ الْكُفَّارَ بِخُرُوجِهِ، فَكَانُوا مُؤْمِنِينَ حَقًا. فَلَمَّا بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، خَافُوا عَلَى رِئَاسَتِهِمْ وَمَآكِلِهِمْ وَانْصِرَافِ الِاتِّبَاعِ عَنْهُمْ، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا الْمَذْكُورَ عِنْدَنَا، وَغَيَّرُوا صِفَتَهُ، وَاسْتَبْدَلُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ. قَالُوا: وَإِنْ كَانَ أَرَادَ سَائِرَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَالْمُعَاوَضَةُ أَيْضًا مُتَحَقِّقَةٌ، إِمَّا بِالْمُدَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ كَفَرُوا، أَوْ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانَ فِي مَحْصُولِهِمُ الْمَدَارِكُ الثَّلَاثَةُ: الْحِسِّيُّ وَالنَّظَرِيُّ وَالسَّمْعِيُّ، وَهَذِهِ الَّتِي تُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ، فَاسْتَبْدَلُوا بِهَا الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِ الْآبَاءِ فِي الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: خَلَقَهُمْ لِطَاعَتِهِ، فَاسْتَبْدَلُوا عَنْ هَذِهِ الْخِلْقَةِ الْمُرْضِيَةِ كُفْرَهُمْ وَضَعْفَ قَوْلِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ بَرَّأَهُمْ لِطَاعَتِهِ، لَمَا كَفَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لِشَيْءٍ وَيَتَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» ، وَعَلَى وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: الضَّلَالَةُ: الْكُفْرُ، وَالْهُدَى: الْإِيمَانُ، وَقِيلَ الشَّكُّ وَالْيَقِينُ، وَقِيلَ الْجَهْلُ وَالْعِلْمُ، وَقِيلَ الْفِرْقَةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَقِيلَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ النَّارُ وَالْجَنَّةُ. وَعَطْفُ: فَمَا رَبِحَتْ، بِالْفَاءِ، يَدُلُّ عَلَى تَعَقُّبِ نَفْيِ الرِّبْحِ لِلشِّرَاءِ، وَأَنَّهُ بِنَفْسِ مَا وَقَعَ الشِّرَاءُ تَحَقَّقَ عَدَمُ الرِّبْحِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ دَخَلَتْ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الجزاء والتقديران اشْتَرَوْا. وَالَّذِينَ إِذَا كَانَ فِي صِلَةِ فِعْلٍ، كَانَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ، وَمِثْلُهُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ «2» ، وَقَعَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ «3» ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَدْخُلُ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الَّذِينَ لَيْسَ مُبْتَدَأً، فَيُشَبَّهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ مُبْتَدَأً، فَتَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، كما تدخل
__________
(1) سورة الذاريات: 51/ 56.
(2) سورة البقرة: 2/ 262.
(3) سورة البقرة: 2/ 274. [.....](1/118)
فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الَّذِينَ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وَقَوْلُهُ: فَمَا رَبِحَتْ لَيْسَ بِخَبَرٍ، فَتَدْخُلُهُ الْفَاءُ، وَإِنَّمَا هِيَ جُمْلَةٌ فَعَلَيْةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ، فَهِيَ صِلَةٌ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةٌ، وَقَوْلُهُ وَقَعَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ، إِنَّمَا الْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ يُنْفِقُونَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أولئك مبتدأ، والذين اشْتَرَوْا مُبْتَدَأٌ، وَفَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، وَالَّذِينَ وَخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ لِعَدَمِ الرَّابِطِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأُولَئِكَ. وَلِتَحَقُّقِ مُضِيِّ الصِّلَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الصِّلَةُ مَاضِيَةً، مَعْنًى لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي خَبَرِ مَوْصُولِهَا الْمُبْتَدَأِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، وَالَّذِينَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَفَمَا رَبِحَتْ خَبَرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ لِعُمُومِ الْمَوْصُولِ، وَلِإِبْدَالِ الَّذِينَ مِنْ أُولَئِكَ، صَارَ الَّذِينَ مَخْصُوصًا لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَخْصُوصٍ، وَخَبَرُ الْمَخْصُوصِ لَا تُدْخُلُهُ الْفَاءُ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى كَوْنِ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً وَالَّذِينَ خَبَرًا عَنْهُ. وَنِسْبَةُ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الَّذِي يَرْبَحُ أَوْ يَخْسَرُ إِنَّمَا هُوَ التَّاجِرُ لَا التِّجَارَةُ، وَلَمَّا صَوَّرَ الضَّلَالَةَ وَالْهُدَى مُشْتَرًى وَثَمَنًا، رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ الْبَدِيعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَرْشِيحِ الْمَجَازِ، وَهُوَ أَنْ يُبْرِزَ الْمَجَازَ فِي صُورَةِ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْحَقِيقَةِ، فَيَنْضَافُ مَجَازٌ إِلَى مَجَازٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامَ الْمَطَارِفُ
أَقَامَ الْخَزَّ مَقَامَ شَخْصٍ حِينَ بَاشَرَ رَوْحًا بَكَى مِنْ عَدَمِ مَلَامَتِهِ، ثُمَّ رَشَّحَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ، ثُمَّ زَادَ فِي تَرْشِيحِ المجاز بقوله: وعجب، أَيْ وَصَاحَتْ مَطَارِفُ الْخَزِّ مِنْ قَبِيلِ رَوْحٍ هَذَا، وَهِيَ: جُذَامُ. وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَنَّ رَوْحًا وَقَبِيلَتَهُ جُذَامَ لَا يَصْلُحُ لَهُمْ لِبَاسُ الْخَزِّ وَمَطَارِفُهُ، لِأَنَّهُمْ لَا عَادَةَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَنَّى عَنِ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا بِمَا كَنَّى فِيهِ فِي الْبَيْتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَيَا بُومَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوْقَ هَامَتِي ... عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طَارَ غُرَابُهَا
لَمَّا كَنَّى عَنِ الشَّيْبِ بِالْبُومَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا وَنَادَاهَا، رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ بِقَوْلِهِ: قَدْ عَشَّشَتْ، لِأَنَّ الطَّائِرَ مِنْ أَفْعَالِهِ اتِّخَاذُ الْعَشَّةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَرْشِيحِ الْمَجَازِ فِي كَشَّافِهِ مَثَلًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تِجَارَاتُهُمْ، عَلَى الْجَمْعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ تِجَارَةً، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى الْإِفْرَادِ أَنَّهُ اكْتَفَى بِهِ عَنِ الْجَمْعِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ، إِشْعَارٌ بِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَمْ يَذْهَبْ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى الرِّبْحَ، وَنَفْيُ الرِّبْحِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِقَاصِ رَأْسِ الْمَالِ. وأجيب عن هذا بأنه اكْتَفَى بِذِكْرِ عَدَمِ الرِّبْحِ عَنْ(1/119)
ذِكْرِ ذَهَابِ الْمَالِ، لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الضَّلَالَ نَقِيضُ الْهُدَى، وَالنَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَاسْتِبْدَالُهُمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الْهُدَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَتَخَرَّجُ عِنْدِي عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ قوله:
علي لا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ، فَنَفَى الْهِدَايَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ نَفْيَ الْمَنَارِ، وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمَنَارِ نَفْيُ الْهِدَايَةِ بِهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا ذَكَرَ شِرَاءَ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، تَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ هُوَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ، إِذِ التِّجَارَةُ لَيْسَ نَفْسُ الِاشْتِرَاءِ فَقَطْ، وَلَيْسَ بِتَاجِرٍ، إِنَّمَا التِّجَارَةُ: التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ لِتَحْصِيلِ النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ فَنَفَى الرِّبْحَ. وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ التِّجَارَةِ أَيْ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ الَّذِي وَقَعَ هُوَ تِجَارَةٌ فَلَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تِجَارَةً انْتَفَى الرِّبْحَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا تِجَارَةَ لَهُمْ وَلَا رِبْحَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي يَطْلُبُهُ التُّجَّارُ فِي مُتَصَرَّفَاتِهِمْ شَيْئَانِ:
سَلَامَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحُ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَضَاعُوا الطِّلْبَتَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَالُهُمْ كَانَ هُوَ الْهُدَى، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَ الضَّلَالَةِ، وَحِينَ لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ إِلَّا الضَّلَالَةُ لَمْ يُوصَفُوا بِإِصَابَةِ الرِّبْحِ، وَإِنْ ظَفِرُوا بِمَا ظَفِرُوا بِهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ خَاسِرٌ دَامِرٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ قَدْ رَبِحَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُخْلَصٍ فِي الْجَوَابِ لِأَنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ عَنِ التِّجَارَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَهَابِ كُلِّ الْمَالِ، وَلَا عَلَى الْخُسْرَانِ فِيهِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْفَضْلُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا نَفَى الْفَضْلَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَهَابِ رَأْسِ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا عَلَى الِانْتِقَاصِ مِنْهُ، وَهُوَ الْخُسْرَانُ. قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ مفيدا لذهاب رؤوس أَمْوَالِهِمْ، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فَكَمَّلَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ، وَتَمَّ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَيَانِ يُقَالُ لَهُ: التَّتْمِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ عُيُونَ الْوَحْشِ حَوْلَ خِبَائِنَا ... وأرحلنا الْجَزْعُ الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ
تَمَّمَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ، وَكَمَّلَ الْوَصْفَ وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى اعْتِيَاضَهُمُ الضَّلَالَةَ عَنِ الْهُدَى تِجَارَةً، وَإِنْ كَانَتِ التِّجَارَةُ هِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ الْمُتَحَقِّقُ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، أَوِ الْمُتَرَجَّى ذَلِكَ مِنْهُ. وَهَذَا الِاعْتِيَاضُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا «1» الْآيَةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ:
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 23.(1/120)
وَهَلْ يَنْفَعُهُ وَصْلُهُ الرَّحِمَ وَإِطْعَامُ الْمَسَاكِينِ؟ فَقَالَ: «لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»
، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَاضُوا ذَلِكَ إِلَّا لَمَّا تَحَقَّقُوا وَارْتَجَوْا مِنَ الْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَوْلِهِمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «1» . وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَبَعْضُهُمْ عَشْرًا، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ تَزْعُمُ أَنَّهَا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهَا عَلَى الْبَاطِلِ. فَلِحُصُولِ الرَّاحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرَجَاءَ الرَّاحَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، سَمَّى اشْتِرَاءَهُمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى تِجَارَةً، وَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَوْنَهُمْ مُهْتَدِينَ. وَهَلِ الْمَعْنَى مَا كَانُوا فِي عِلْمِ اللَّهِ مُهْتَدِينَ، أَوْ مُهْتَدِينَ مِنَ الضَّلَالَةِ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، أَوْ فِي اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ، أَوْ نَفَى عَنْهُمُ الْهِدَايَةَ وَالرِّبْحَ، لِأَنَّ مِنَ التُّجَّارِ مَنْ لَا يَرْبَحُ فِي تِجَارَتِهِ وَيَكُونُ عَلَى هُدًى، وَعَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا بَيْنَ نَفْيِ الرِّبْحِ وَالْهِدَايَةِ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَا سَبَقَتْ لَهُمْ هِدَايَةٌ بِالْفِعْلِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْهُدَى، أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هُدًى فِيمَا مَضَى، فَبَيَّنَ قَوْلُهُ:
وَما كانُوا مُهْتَدِينَ مَجَازَ قَوْلِهِ: بِالْهُدَى، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي اعْتَاضُوا الضَّلَالَةَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ إِدْرَاكِ الْهُدَى، فَالْمُثْبَتُ فِي الِاعْتِيَاضِ غَيْرُ الْمَنْفِيِّ أَخِيرًا، لِأَنَّ ذَاكَ بِالْقُوَّةِ وَهَذَا بِالْفِعْلِ. وَانْتِصَابُ مُهْتَدِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِهَا وَحْدَهَا خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بَكَانَ وَالِاسْمِ مَعًا، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَ انْتِصَابِهِ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ الْفَرَّاءُ، قَالَ: لِشَغْلِ الِاسْمِ بِرَفْعِ كَانَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ حَالًا خَبَرًا فَأَتَى مَعْرِفَةً، فَقِيلَ: كَانَ أَخُوكَ زَيْدًا تغليبا للخير، لَا لِلْحَالِ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. الثَّانِي: فِي قَوْمٍ أَعْلَمَ اللَّهُ بِوَصْفِهِمْ قَبْلَ وُجُودِهِمْ، وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِالْمُغَيَّبَاتِ.
الثَّالِثُ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَأَصْحَابِهِ نَزَلَ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرُوا مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَقِيَ نَفَرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا كَيْفَ أَرُدُّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ عَنْكُمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مَدَحَ وَأَثْنَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ، فَوَبَّخَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ لَهُ: لَا تُنَافِقْ، فَقَالَ: إِلَيَّ تَقُولُ هَذَا، وَاللَّهِ إِنَّ إِيمَانَنَا كَإِيمَانِكُمْ، ثُمَّ افْتَرَقُوا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَقَاوِيلُ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي غُضُونِ الْكَلَامِ قَبْلَ هذا.
__________
(1) سورة سبأ: 34/ 35.(1/121)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ: الْمَثَلُ فِي أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَالْمَثِيلِ، كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ، وَهُوَ النَّظِيرُ، وَيُجْمَعُ الْمَثَلُ وَالْمِثْلُ عَلَى أَمْثَالٍ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: الْأَمْثَالُ:
الْأَشْبَاهُ، وَأَصْلُ الْمَثَلِ الْوَصْفُ، هَذَا مِثْلُ كَذَا، أَيْ وَصْفُهُ مُسَاوٍ لِوَصْفِ الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَالْمَثَلُ: الْقَوْلُ السَّائِرُ الَّذِي فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: الْمَثَلُ، ذِكْرُ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مَحْسُوسٍ وَغَيْرِ مَحْسُوسٍ، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وَصْفٍ مُشَابِهٍ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْخَفَاءِ لِيَصِيرَ فِي الذِّهْنِ مُسَاوِيًا لِلْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْمَثَلِ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ مَا لَا يُؤَثِّرُهُ وَصْفُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ، وَالْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ، فَيَتَأَكَّدُ الْوُقُوفُ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَيَصِيرُ الْحِسُّ مُطَابِقًا لِلْعَقْلِ. وَالَّذِي: اسْمٌ مَوْصُولٌ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مُبْهَمٌ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مُفْرَدٌ، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الَّذِينَ، قَالَ: وَيُغْنِي عَنْهُ الَّذِي فِي غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَثِيرًا وَفِيهِ لِلضَّرُورَةِ قَلِيلًا وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ النُّونُ مِنَ الَّذِينَ فَيَبْقَى الَّذِي، وَإِذَا كَانَ الَّذِي لِمُفْرَدٍ فَسُمِعَ تَشْدِيدُ الْيَاءِ فِيهِ مَكْسُورَةً أَوْ مَضْمُومَةً، وَحَذْفُ الْيَاءِ وَإِبْقَاءُ الذَّالِ مَكْسُورَةً أَوْ سَاكِنَةً، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ تِلْكَ لُغَاتٌ فِي الَّذِي. وَالِاسْتِيقَادُ: بِمَعْنَى الْإِيقَادِ وَاسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ، وَوَقُودُ النَّارِ ارْتِفَاعُ لَهِيبِهَا. وَالنَّارُ: جَوْهَرٌ لَطِيفٌ مُضِيءٌ حَارٌّ مُحْرِقٌ. لَمَّا: حَرْفُ نَفْيٍ يَعْمَلُ الجزم وبمعنى إلا، وظرفا بِمَعْنَى حِينَ عِنْدَ الْفَارِسِيِّ، وَالْجَوَابُ عَامِلٌ فِيهَا إِذِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَحَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى مَا نُفِيَ بِمَا، وَلِمَجِيءِ جَوَابِهَا مُصَدَّرًا بِإِذَا الْفُجَائِيَّةِ. الْإِضَاءَةُ: الْإِشْرَاقُ، وَهُوَ فَرْطُ الْإِنَارَةِ. وَحَوْلَهُ: ظَرْفُ مَكَانٍ لَا يَتَصَرَّفُ، وَيُقَالُ: حَوَالٍ بِمَعْنَاهُ، وَيُثَنَّيَانِ وَيَجْمَعُ أَحْوَالٌ، وَكُلُّهَا لَا تَتَصَرَّفُ وَتَلْزَمُ الْإِضَافَةَ. الذَّهَابُ: الِانْطِلَاقُ. النُّورُ: الضَّوْءُ مِنْ كُلِّ نَيِّرٍ وَنَقِيضُهُ الظُّلْمَةُ، وَيُقَالُ نَارَ يَنُورُ إِذَا نَفَرَ، وَجَارِيَةٌ نَوَارٌ: أَيْ نَفُورٌ، وَمِنْهُ اسْمُ امْرَأَةِ الْفَرَزْدَقَ، وَسَمِّيَ نُورًا لِأَنَّ فِيهِ اضْطِرَابًا وَحَرَكَةً. التَّرْكُ: التَّخْلِيَةُ، اتْرُكْ هَذَا أَيْ خَلِّهِ وَدَعْهُ، وَفِي تَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى اثْنَيْنِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ جَوَازُ ذَلِكَ. الظُّلْمَةُ: عَدَمُ النُّورِ، وَقِيلَ: هُوَ عَرَضٌ يُنَافِي النُّورَ، وَهُوَ(1/122)
الْأَصَحُّ لِتَعَلُّقِ الْجَعْلِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ بِهِ، وَالْأَعْدَامُ لَا تُوصَفُ بِالْخَلْقِ، وَقَدْ رَدَّهُ بَعْضُهُمْ لِمَعْنَى الظُّلْمِ، وَهُوَ الْمَنْعُ، قَالَ: لِأَنَّ الظُّلْمَةَ تَسُدُّ الْبَصَرَ وَتَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ. الْإِبْصَارُ: الرُّؤْيَةُ.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ جُمُوعُ كَثْرَةٍ عَلَى وَزْنِ فُعْلٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي جَمْعِ فَعْلَاءَ وَأَفْعَلَ الْوَصْفَيْنِ سَوَاءٌ تَقَابَلَا، نَحْوَ: أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ، أَوِ انْفَرَدَ الْمَانِعُ فِي الْخِلْقَةِ، نَحْوَ:
عَذَلَ وَرَتَقَ. فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا لَكِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلَا عَلَى نِظَامِ أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ، وَذَلِكَ نَحْوُ: رَجُلٍ آلَى وَامْرَأَةٍ عَجْزَاءَ، لَمْ يَنْقَسْ فِيهِ فَعَلَ بَلْ يُحْفَظُ فِيهِ. وَالصَّمَمُ: دَاءٌ، يَحْصُلُ فِي الْأُذُنِ يَسُدُّ الْعُرُوقَ فَيَمْنَعُ مِنَ السَّمْعِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الصَّلَابَةِ، قَالُوا: قَنَاةٌ صَمَّاءُ، وَقِيلَ أَصْلُهُ السَّدُّ وَصَمَمْتُ الْقَارُورَةَ: سَدَدْتُهَا. وَالْبَكَمُ: آفَةٌ تَحْصُلُ فِي اللِّسَانِ تَمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَقِيلَ: الَّذِي يُولَدُ أَخْرَسَ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَفْهَمُ الْكَلَامَ وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَاءٌ فِي الْفُؤَادِ لَا فِي اللِّسَانِ. وَالْعَمَى: ظُلْمَةٌ فِي الْعَيْنِ تَمْنَعُ مِنْ إِدْرَاكِ الْمُبْصَرَاتِ، وَالْفِعْلُ مِنْهَا عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى أَفْعَلَ، وَهُوَ قِيَاسُ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ. وَالرُّجُوعُ، إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ، فَهُوَ بِمَعْنَى: الْعَوْدِ، وَإِنْ تَعَدَّى فَبِمَعْنَى:
الْإِعَادَةِ. وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: إِنَّهَا تُضَمَّنُ مَعْنَى صَارَ فَتَصِيرُ مِنْ بَابِ كَانَ، تَرْفَعُ الِاسْمَ وَتَنْصِبُ الْخَبَرَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا جَاءَ بِحَقِيقَةِ صِفَتِهِمْ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ ضَرْبِ الْمَثَلِ زِيَادَةً فِي الْكَشْفِ وَتَتْمِيمًا لِلْبَيَانِ، وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُثُلَ وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيئَاتِ الْمَعَانِي وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ، حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُحَقَّقِ وَالْمُتَوَهَّمِ فِي مَعْرِضِ الْمُتَيَقَّنِ وَالْغَائِبَ بِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ، وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْخَصْمِ الْأَلَدِّ وَقَمْعٌ لِسُورَةِ الجامع الْآبِي، وَلِأَمْرٍ مَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَمْثَالَهُ، وَفَشَتْ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1» ، وَمِنْ سُوَرِ الْإِنْجِيلِ سُوَرُ الْأَمْثَالِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَثَلُهُمْ: مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بَعْدَهُ، وَالتَّقْدِيرُ كَائِنٌ كَمَثَلٍ، كَمَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ حُرُوفِ الْجَرِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْخَبَرُ الْكَافُ، وَهِيَ عَلَى هَذَا اسْمٌ، كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتْلُ
انْتَهَى.
__________
(1) سورة العنكبوت: 29/ 43.(1/123)
وهذا الذي اختاره وينبأ بِهِ غَيْرَ مُخْتَارٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ اسْمًا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّا لَا نُجِيزُهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْوَجْهَ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ: فَصُيِّرُوا مِثْلَ: كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «1» . وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ بِمَعْنًى، صَارَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ عَلَى الزِّيَادَةِ، إِذِ الْمَعْنَى تَشْبِيهُ الْمَثَلِ بِالْمِثْلِ، لا يمثل الْمِثْلِ وَالْمَثَلُ هُنَا بِمَعْنَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، فَشَبَّهَ شَأْنَهُمْ وَوَصَفَهُمْ بِوَصْفِ الْمُسْتَوْقِدِ نَارًا، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْكَافُ زَائِدَةً. وَفِي جِهَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وُجُوهٌ ذَكَرُوهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ يَدْفَعُ بِهَا الْأَذَى، فَإِذَا انْطَفَأَتْ عَنْهُ وَصَلَ الْأَذَى إِلَيْهِ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَحْقِنُ دَمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَيُبِيحُهُ بِالْكُفْرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَهْتَدِي بِهَا، فَإِذَا انْطَفَأَتْ ضَلَّ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَهْتَدِي بِالْإِسْلَامِ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى نِفَاقِهِ ذَهَبَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَعَادَ إِلَى ظُلْمَةِ كُفْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمُدَّهَا بِالْحَطَبِ ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، إِذَا لَمْ يَسْتَدِمِ الْإِيمَانَ ذَهَبَ إِيمَانُهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُسْتَضِيءَ بِهَا نُورُهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لَا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النَّارُ بَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ لَمَّا أَقَرَّ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ قَلْبِهِ كَانَ نُورُ إِيمَانِهِ كَالْمُسْتَعَارِ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ شَبَّهَ إِقْبَالَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْإِضَاءَةِ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ الذهاب، قَالَهُ مُجَاهِدٌ: السَّادِسُ: شَبَّهَ الْهُدَى الَّذِي بَاعُوهُ بِالنُّورِ الَّذِي حَصَلَ لِلْمُسْتَوْقِدِ، وَالضَّلَالَةَ الْمُشْتَرَاةَ بِالظُّلُمَاتِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَحَقَنَ بِهِ دَمَهُ وَمَشَى فِي حُرْمَتِهِ وَضِيَائِهِ ثُمَّ سَلَبَهُ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَيَمَانِ بْنِ رِئَابٍ، أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ، فَتَكُونُ فِي الْمُمَاثَلَةِ إِذْ ذَاكَ وُجُوهٌ ذَكَرُوهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ يَسْتَضِيءُ بِنُورِهَا وَيَتَأَنَّسُ وَتَذْهَبُ عَنْهُ وَحْشَةُ الظَّلْمَةِ، وَالْيَهُودُ لَمَّا كانوا يبشرون بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِ فَيُنْصَرُونَ، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ، فَلَمَّا بُعِثَ وَكَفَرُوا بِهِ، أَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ النُّورَ عَنْهُمْ. الثَّانِي: شَبَّهَ نَارَ حَرْبِهِمُ الَّتِي شَبُّوهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَارِ الْمُسْتَوْقِدِ، وَإِطْفَاءَهَا بِذَهَابِ النُّورِ الَّذِي لِلْمُسْتَوْقِدِ. الثَّالِثُ: شَبَّهَ مَا كَانُوا يَتْلُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنِ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصِفَتِهِ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِمْ بِاتِّبَاعِهِ بِالنُّورِ الْحَاصِلِ لِمَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا
__________
(1) سورة الفيل: 105/ 5.(1/124)
غَيَّرُوا اسْمَهُ وَصِفَتَهُ وَبَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَجَحَدُوا أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ نُورَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الَّذِي، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ فِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ فِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ، وَقَوْلُ الْأَخْفَشِ أَنَّهُ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى نَعْتًا لِمَا تَحْتَهُ أَفْرَادٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ كَمَثَلِ الْجَمْعِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا كَأَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُفْرَدِ لَفْظًا وَمَعْنًى بِجَمْعِ الضَّمِيرِ فِي ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَجَمْعِهِ فِي دِمَائِهِمْ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي هُنَا هُوَ الَّذِينَ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِطُولِ الصِّلَةِ، فَهُوَ خَطَأٌ لإفراد الضمير في الصلة، وَلَا يَجُوزُ الْإِفْرَادُ لِلضَّمِيرِ لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ. أَلَا تَرَى جَمْعَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «1» عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَجَمْعَهُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا رَبَّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ
إِلَّا الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ وَأَمَّا قَوْلُ الْفَارِسِيِّ: إِنَّهَا مِثْلُ مَنْ، لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي صِيغَةُ مُفْرَدٍ وَثُنِّيَ وَجُمِعَ بِخِلَافِ مَنْ، فَلَفْظُ مَنْ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ أَبَدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الَّذِي، وَقَدْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «2» ، وَأَعَلَّ لِتَسْوِيغِ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ، قَالَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي لِكَوْنِهِ وَصْلَةً إِلَى وَصْفِ كُلِّ مَعْرِفَةٍ وَاسْتِطَالَتُهُ بِصِلَتِهِ حَقِيقٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ نَهَكُوهُ بِالْحَذْفِ، فَحَذَفُوا يَاءَهُ ثُمَّ كَسْرَتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرُوا عَلَى اللَّامِ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُمْ حَذَفُوهُ حَتَّى اقْتَصَرُوا بِهِ عَلَى اللَّامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ اللَّامُ بَقِيَّةَ الَّذِي لَكَانَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، كَمَا كَانَ لِلَّذِي، وَلَمَا تَخَطَّى الْعَامِلُ إِلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِ الصِّلَةِ فَيَرْفَعُهَا وَيَنْصِبُهَا وَيَجُرُّهَا، وَيُجَازُ وَصْلُهَا بِالْجُمَلِ كَمَا يَجُوزُ وَصْلُ الَّذِي إِذَا أُقِرَّتْ يَاؤُهُ أَوْ حُذِفَتْ، قَالَ: وَالثَّانِي: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَامَةٌ لِزِيَادَةِ الدَّلَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْمَوْصُولَاتِ لَفْظُ الْجَمْعِ وَالْوَاحِدِ فِيهِنَّ سَوَاءٌ؟ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ جمعه ليس بمنزلة جمع غَيْرِهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاقِعًا إِلَّا عَلَى مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ مَا يُجْمَعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ مِنَ الذُّكُورِيَّةِ وَالْعَقْلِ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ وَالْفَاعِلِينَ من جهة أنه
__________
(1- 2) سورة التوبة: 9/ 69.(1/125)
لَا يَكُونُ إِلَّا جَمْعًا لِمُذَكَّرٍ عَاقِلٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا الْتُزِمَ فِيهِ طَرِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي اللَّفْظِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَهُذَيْلٌ أَتَتْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِيهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَالْيَاءِ وَالنُّونِ نَصْبًا وَجَرًّا، وَكُلُّ الْعَرَبِ الْتَزَمَتْ جَمْعَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ مِنْ صِلَتِهِ كَمَا يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ، فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِمُسَوِّغٍ لِأَنْ يُوضَعَ الَّذِي مَوْضِعَ الَّذِينَ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمْعِ أَوِ النَّوْعِ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَخِيرًا.
وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: كَمَثَلِ الَّذِينَ، عَلَى الْجَمْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِي إِذَا كَانَ أَصْلُهُ الَّذِينَ فَحُذِفَتْ نُونُهُ تَخْفِيفًا لَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهِ؟ وَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَتَخْرِيُجَهَا عِنْدِي عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ حَمْلًا عَلَى التَّوَهُّمِ الْمَعْهُودِ مِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، كَأَنَّهُ نَطَقَ بِمَنِ الَّذِي هُوَ لَفْظٌ وَمَعْنًى، كَمَا جَزَمَ بِالَّذِي مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ نَطَقَ بِمَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ التَّوَهُّمُ قَدْ وَقَعَ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الْحَدِّ، وَهُوَ إِجْرَاءُ الْمَوْصُولِ فِي الْجَزْمِ مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ مُتَّفِقِي الْحَدِّ، وَهُوَ الَّذِينَ، وَمَنِ الْمَوْصُولَانِ مِثَالُ الْجَزْمِ بِالَّذِي، قَوْلُ الشَّاعِرِ، أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا ... تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعَ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى جَمْعٍ اكْتِفَاءً بِالْإِفْرَادِ عَنِ الْجَمْعِ كَمَا تَكْتَفِي بِالْمُفْرَدِ الظَّاهِرِ عَنِ الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، أَنْشَدَ أَبُو الْحَسَنِ:
وَبِالْبَدْوِ مِنَّا أُسْرَةٌ يَحْفَظُونَنَا ... سِرَاعٌ إِلَى الدَّاعِي عِظَامٌ كَرَاكِرُهْ
أَيْ كَرَاكِرُهُمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الَّذِي فِي اسْتَوْقَدَ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الْمَفْهُومِ مِنِ اسْتَوْقَدَ، التَّقْدِيرُ اسْتَوْقَدَ هُوَ، أَيِ الْمُسْتَوْقِدُ، فَيَكُونُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ «1» أَيْ هُوَ أَيِ الْبَدَاءُ الْمَفْهُومُ مِنْ بَدَا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْفَاعِلِ فِي الْآيَةِ، وَفِي الْعَائِدِ عَلَى الَّذِينَ وَجْهَانِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ حُذِفَ وَأَصْلُهُ لَهُمْ، أَيْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ لَهُمُ الْمُسْتَوْقِدُ نَارًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ شُرُوطُ الْحَذْفِ الْمَقِيسِ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 35.(1/126)
وَلَوْ أَنَّ مَا عَالَجْتُ لِينَ فُؤَادِهَا ... فَقَسَا اسْتَلْيِنُ بِهِ لَلَانَ الْجَنْدَلُ
يُرِيدُ مَا عَالَجْتُ بِهِ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَالضَّمِيرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُرُوطُ الْحَذْفِ الْمَقِيسِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي مَبْسُوطَاتِ كُتُبِ النَّحْوِ، وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مَجْرُورًا بِحَرْفِ جَرٍّ لَيْسَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ، أَوِ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْمَوْصُولَ، أَوِ الْمُضَافُ لِلْمَوْصُولِ قَدْ جُرَّ بِحَرْفٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَرْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرْفُ الَّذِي جَرَّ الضَّمِيرَ، مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرْفُ السَّابِقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الأولى الواقعة لَا عَائِدَ فِيهَا، لَكِنْ عَطَفَ عَلَيْهَا جُمْلَةً بِالْفَاءِ، وَهِيَ جُمْلَةُ لَمَّا وَجَوَابُهَا، وَفِي ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي، فَحَصَلَ الرَّبْطُ بِذَلِكَ الْعَائِدِ الْمُتَأَخِّرِ، فَيَكُونُ شَبِيهًا بِمَا أَجَازُوهُ مِنَ الرَّبْطِ فِي بَابِ الِابْتِدَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ جَاءَتْ هِنْدٌ فَضَرَبْتُهَا، وَيَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي جَوَابِ لَمَّا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ تَخْرِيجَ قِرَاءَةِ ابْنِ السَّمَيْفَعِ.
وَاسْتَوْقَدَ: اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ. حَكَى أَبُو زَيْدٍ: أَوْقَدَ وَاسْتَوْقَدَ بِمَعْنًى، وَمِثْلُهُ أَجَابَ وَاسْتَجَابَ، وَأَخْلَفَ لِأَهْلِهِ وَاسْتَخْلَفَ أَيْ خَلَّفَ الْمَاءَ، أَوْ لِلطَّلَبِ، جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَكَوْنُهَا بِمَعْنَى أَوْقَدَ، قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَهُوَ أَرْجَحُ لِأَنَّ جَعْلَهَا لِلطَّلَبِ يَقْتَضِي حَذْفَ جُمْلَةٍ حَتَّى يَصِحَّ الْمَعْنَى، وَجَعْلُهَا بِمَعْنَى أَوْقَدَ لَا يَقْتَضِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الطَّلَبِ اسْتَدْعَوْا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا، فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، لِأَنَّ الْإِضَاءَةَ لَا تَتَسَبَّبُ عَنِ الطَّلَبِ، إِنَّمَا تَتَسَبَّبُ عَنِ الِاتِّقَادِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ الطَّلَبِ أَرْجَحَ، وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ بَيْنَ قِصَّةٍ وَقِصَّةٍ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي نَحْوِ هَذَا التَّشْبِيهِ إِلَى مُقَابَلَةِ جَمَاعَةٍ بِجَمَاعَةٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «1» ، وَعَلَى أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ أَيْضًا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ كَمَثَلِ الْجَمْعِ؟ أَوِ الْفَوْجِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، فَهُوَ مِنَ الْمُفْرَدِ اللَّفْظِ الْمَجْمُوعِ الْمَعْنَى. عَلَى أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَخَيَّلَ أَنَّهُ مُفْرِدٌ وَرَامَ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ، كَمَثَلِ أَصْحَابِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ لِأَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَاهُ مُفْرَدًا لَفْظًا وَمَعْنًى لَمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ إِنَّمَا جَرَى فِي قِصَّةٍ بِقِصَّةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُقَابَلَةُ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَنَكَّرَ نَارًا وَأَفْرَدَهَا،
__________
(1) سورة الجمعة: 62/ 5.(1/127)
لِأَنَّ مُقَابِلَهَا مِنْ وَصْفِ الْمُنَافِقِ إِنَّمَا هُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْإِسْلَامِ، وَجَوَانِحُهُ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الْكُفْرِ والنفاق مملوءة بِهِ، فَشَبَّهَ حَالَهُ بِحَالِ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا مَا إِذْ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْمُطْلَقِ، لَا عَلَى كَثْرَةٍ وَلَا عَلَى عَهْدٍ، وَالْفَاءُ فِي فَلَمَّا لِلتَّعْقِيبِ، وَهِيَ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا دَخَلَتْ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَقَدَّرَهُ إِنِ اسْتَوْقَدَ فَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا الزَّعْمَ فِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَأَضَاءَتْ: قِيلَ مُتَعَدٍّ وَقِيلَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، قَالُوا: وَهُوَ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، فَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ، إِذْ يُقَالُ: ضَاءَ الْمَكَانُ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفْقُ.
وَالْفَاعِلُ إِذْ ذَاكَ ضَمِيرُ النَّارِ وَمَا مَفْعُولَةٌ وَحَوْلَهُ صِلَةٌ مَعْمُولَةٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ لَا نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَحَوْلَهُ صِفَةٌ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، أَيْ فَلَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ الْمَكَانَ الَّذِي حَوْلَهُ، وَإِذَا كَانَ لَازِمًا فَقَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي أَضَاءَتْ لِلنَّارِ، وَمَا زَائِدَةٌ، وَحَوْلَهُ ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لَيْسَ ضَمِيرَ النَّارِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا الْمَوْصُولَةُ وَأُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: فَلَمَّا أَضَاءَتِ الْجِهَةُ الَّتِي حَوْلَهُ، كَمَا أَنَّثُوا عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ: مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ. وَقَدْ أَلَمَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: جَلَسْتُ مَا مَجْلِسًا حَسَنًا، وَلَا قُمْتُ مَا يَوْمَ الْجُمْعَةَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى مَحْفُوظٌ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ سُمِعَ زِيَادَةً فِي مَا نَحْوَ هَذَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ اطِّرَادِ زِيَادَةِ مَا، وَالْأَوْلَى فِي الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَضَاءَتْ مُتَعَدِّيَةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ زِيَادَةٍ، وَلَا حَمْلٍ عَلَى الْمَعْنَى.
وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَلَمَّا ضاءت ثُلَاثِيًّا فَيَتَخَرَّجُ عَلَى زِيَادَةِ مَا وَعَلَى أَنْ تَكُونَ هِيَ الْفَاعِلَةُ، إِمَّا مَوْصُولَةً وَإِمَّا مَوْصُوفَةً، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا جَوَابُهَا: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي: بِنُورِهِمْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الَّذِي، إِذْ قَرَّرْنَا أَنَّ الْمَعْنَى كَالْجَمْعِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، أَوْ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ كَمَثَلِ أَصْحَابِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، كَمَا حَذَفُوهُ فِي قَوْلِهِ:
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا «1» ، الْآيَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُهُ لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ مَعَ أَمْنِ الْإِلْبَاسِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ لم يستطل
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 15.(1/128)
الْكَلَامَ، لِأَنَّهُ قَدَّرَهُ خُمِدَتْ، وَأَيُّ اسْتِطَالَةٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، خُمِدَتْ؟ بَلْ هَذَا لَمَّا وَجَوَابُهَا، فَلَا اسْتِطَالَةَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ بِذِكْرِ الْمَعَاطِيفِ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَى الْفِعْلِ وَذِكْرِ مُتَعَلَّقَاتِهَا بَعْدَ الْفِعْلِ الَّذِي يَلِي لَمَّا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَذْفُ سَائِغًا لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: مَعَ أَمْنِ الْإِلْبَاسِ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَيُّ أَمْنِ إِلْبَاسٍ فِي هَذَا وَلَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ؟ بَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ وَصِحَّتُهُ وَوَضْعُهُ مَوَاضِعَهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ هُوَ الْجَوَابُ، فَإِذَا جَعَلْتَ غَيْرَهُ الْجَوَابَ مَعَ قُوَّةِ تَرَتُّبِ ذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ عَلَى الْإِضَاءَةِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ اللُّغْزِ، إِذْ تَرَكْتَ شَيْئًا يُبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ وَأَضْمَرْتَ شَيْئًا يَحْتَاجُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى وَحْيٍ يُسْفِرُ عَنْهُ، إِذْ لَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ اللَّفْظَ مَعَ وُجُودِ تَرْكِيبِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.
وَلَمْ يَكْتَفِ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنْ جَوَّزَ حَذْفُ هَذَا الْجَوَابِ حَتَّى ادَّعَى أَنَّ الْحَذْفَ أَوْلَى، قَالَ: وَكَانَ الْحَذْفُ أَوْلَى مِنَ الْإِثْبَاتِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَجَازَةِ مَعَ الْإِعْرَابِ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي حَصَلَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْقِدُ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ لِلَّفْظِ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ خُمِدَتْ، فَبَقُوا خَابِطِينَ فِي ظَلَامٍ، مُتَحَيِّرِينَ مُتَحَسِّرِينَ عَلَى فَوْتِ الضَّوْءِ، خَائِبِينَ بَعْدَ الْكَدْحِ فِي إِحْيَاءِ النَّارِ، انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ نَوْعٌ مِنَ الْخَطَابَةِ لَا طائل تحتها، لأنه كان يُمْكِنُ لَهُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَلِي قَوْلَهُ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَأَمَّا مَا فِي كَلَامِهِ بَعْدَ تَقْدِيرِ خُمِدَتْ إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ مِمَّا يُحَمِّلُ اللَّفْظَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَيُقَدِّرُ تَقَادِيرَ وَجُمَلًا مَحْذُوفَةً لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ، وَذَلِكَ عَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَا كَلَامٍ فِي مُعْظَمِ تَفْسِيرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ كَلَامُ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلَا أَنْ يُزَادَ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ الشَّرْحُ طِبْقَ الْمَشْرُوحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا نقص منه. ولما جوز واحذف الْجَوَابِ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، فَخَرَّجُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنِفًا جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ حَالُهُمْ حَالَ هَذَا الْمُسْتَوْقِدِ؟ فَقِيلَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ جَوَابَ لَمًّا مَحْذُوفٌ، وَقَدِ اخْتَرْنَا غَيْرَهُ وَأَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّخْرِيجَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلِ، عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، لَا يَظْهَرُ فِي صِحَّتِهِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ التَّمْثِيلِ هِيَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعْلُهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بَدَلًا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَكُونُ فِي الْجُمَلِ(1/129)
إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فَعِلْيَةً تُبْدَلُ مِنْ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، فَقَدْ ذَكَرُوا جَوَازَ. ذَلِكَ. أَمَّا أَنْ تُبْدَلَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مِنْ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ ذَلِكَ، وَالْبَدَلُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ.
وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، إِذْ لَا عَامِلَ فِي الْأُولَى فَتُكَرَّرُ فِي الثَّانِيَةِ فبطلت جهة البدء فِيهَا، وَمَنْ جَعَلَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي بِنُورِهِمْ عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَالْبَاءَ فِي بِنُورِهِمْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَهِيَ إِحْدَى الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَاءَ تَجِيءُ لَهَا، وَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ تُرَادِفُ الْهَمْزَةَ. فَإِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ بِزَيْدٍ فَمَعْنَاهُ أَخْرَجْتُ زَيْدًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ خَرَجْتَ، وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ، دَلَّ عَلَى أَنَّكَ قُمْتَ وَأَقَمْتَهُ، وَإِذَا قُلْتَ: أَقَمْتُ زَيْدًا، لَمْ يَلْزَمْ أَنَّكَ قُمْتَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ فِي التَّعْدِيَةِ. وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ ذَهَبَ السُّهَيْلِيُّ، قَالَ: تَدْخُلُ الْبَاءُ، يَعْنِي الْمُعَدِّيَةَ، حَيْثُ تَكُونُ مِنَ الْفَاعِلِ بَعْضُ مُشَارَكَةٍ لِلْمَفْعُولِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ نَحْوَ: أَقْعَدْتُهُ، وَقَعَدْتُ بِهِ، وَأَدْخَلْتُهُ الدَّارَ، وَدَخَلْتُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا فِي مِثْلِ: أَمْرَضْتُهُ، وَأَسْقَمْتُهُ. فَلَا بُدَّ إِذَنْ مِنْ مُشَارَكَةٍ، وَلَوْ بِالْيَدِ، إِذَا قُلْتَ: قَعَدْتُ بِهِ، وَدَخَلْتُ بِهِ. وَرُدَّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِالذَّهَابِ مَعَ النُّورِ؟ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَبَا الْعَبَّاسِ: إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالذَّهَابِ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِهِ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بِالْمَجِيءِ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ «1» ، وَالَّذِي يُفْسِدُ مَذْهَبَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
دِيَارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنًى ... تَحِلُّ بِنَا لَوْلَا نِجَاءُ الرَّكَائِبِ
أَيْ تَحُلُّنَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى تُصَيِّرُنَا حَلَالًا غَيْرَ مُحْرِمِينَ، وَلَيْسَتْ تَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، فَتَصِيرُ حَلَالًا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَلِكَوْنِ الْبَاءِ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُقَالُ: أَذْهَبْتُ بِزَيْدٍ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «2» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ رُبَاعِيًّا تَخْرِيجٌ يُذْكَرُ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِبَاءِ التَّعْدِيَةِ أَحْكَامٌ غَيْرُ هَذَا ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادَفَةِ الْبَاءِ لِلْهَمْزَةِ، وَنِسْبَةُ الْإِذْهَابِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةٌ، إِذْ هُوَ فَاعِلُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَفِي مَعْنَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مثل ضرب
__________
(1) سورة الفجر: 89/ 22.
(2) سورة المؤمنون: 23/ 20.(1/130)
لِلْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ، فَنَاكَحَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ الْعِزَّ، كَمَا سَلَبَ مُوقِدَ النَّارِ ضَوْءَهُ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ، أَيْ فِي عَذَابٍ.
الثَّانِي: إِنَّ ذَهَابَ نُورِهِمْ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَقَدْ ذَهَبَ مِنْهُمْ نُورُ الْإِسْلَامِ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ كُفْرِهِمْ. الثَّالِثُ: أَبْطَلَ نُورَهُمْ عِنْدَهُ، إِذْ قُلُوبُهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرُوا، فَهُمْ كَرَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ طُفِئَتْ فَعَادَ فِي ظُلْمَةٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي بنورهم عائدا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ عَادَ عَلَى الْمُسْتَوْقِدِينَ، فَذَهَابُ النُّورِ هُوَ إِطْفَاءُ النَّارِ الَّتِي أَوْقَدُوهَا، وَيَكُونُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ فِعْلٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ: لَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا عَاصِفًا فَأَطْفَأَهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَأْتِي عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنها نَارٌ حَقِيقَةٌ أَوْقَدَهَا أَهْلُ الْفَسَادِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا وَبِنُورِهَا إِلَى فَسَادِهِمْ وَعَبَثِهِمْ، فَأَخْمَدَ اللَّهُ نَارَهُمْ وَأَضَلَّ سَعْيَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذِكْرَ النَّارِ هُنَا مَثَلٌ لَا حَقِيقَةٌ لَهَا، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَارُ الْعَدَاوَةِ وَالْحِقْدِ، فَإِذْهَابُ اللَّهِ لَهَا دَفْعُ ضَرَرِهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا كَانَتِ النَّارُ مَجَازِيَّةً، فَوَصْفُهَا بِالْإِضَاءَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ هُوَ مِنْ مَجَازِ التَّرْشِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَإِذْهَابُ النُّورِ أَبْلَغُ مِنْ إِذْهَابِ الضَّوْءِ لِانْدِرَاجِ الْأَخَصِّ فِي نَفْيِ الْأَعَمِّ، لَا الْعَكْسِ. فَلَوْ أَتَى بِضَوْئِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ ذَهَابُ النُّورِ.
وَالْمَقْصُودُ إِذْهَابُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا، أَلَا تَرَى كَيْفَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ؟
وَإِضَافَةُ النُّورِ إِلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، إِذْ إِضَافَتُهُ إِلَى النَّارِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، لَكِنْ مِمَّا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ صَحَّ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ظُلُمَاتٍ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو السَّمَّاكِ: بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: بِفَتْحِهَا. وَهَذِهِ اللُّغَى الثَّلَاثُ جَائِزَةٌ فِي جَمْعِ فُعْلَةٍ الِاسْمُ الصَّحِيحُ الْعَيْنِ، غَيْرُ الْمُضَعَّفِ، وَلَا الْمُعَلِّ اللَّامِ بِالتَّاءِ. فَإِنِ اعْتُلَتْ بِالْيَاءِ نَحْوَ: كُلِّيَّةٍ، امْتَنَعَتِ الضَّمَّةُ، أَوْ كَانَ مُضَعَّفًا نَحْوَ: دُرَّةٍ، أَوْ مُعْتَلَّ الْعَيْنِ نَحْوَ: سُورَةٍ، أَوْ وَصْفًا نَحْوَ: بُهْمَةٍ امْتَنَعَتِ الْفَتْحَةُ وَالضَّمَّةُ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: إِنَّ ظُلَمَاتٍ، بِفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ ظُلَمٍ، الَّذِي هُوَ جَمْعُ ظُلْمَةٍ. فَظُلُمَاتٌ عَلَى هَذَا جَمْعُ جَمْعٍ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْفَتْحِ تَخْفِيفًا أَسْهَلُ مِنِ ادِّعَاءِ جَمْعِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْعُدُولَ إِلَيْهِ قَدْ جَاءَ فِي نَحْوِ: كِسْرَاتٍ جَمْعُ كِسْرَةٍ جَوَازًا، وَإِلَيْهِ فِي نَحْوِ: جَفْنَةٍ وُجُوبًا.
وَفُعْلَةُ وَفِعْلَةُ أَخَوَاتٌ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهَا الْفَتْحُ بِالْقُيُودِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: فِي ظُلْمَةٍ، عَلَى التَّوْحِيدِ لِيُطَابِقَ بَيْنَ إِفْرَادِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَقِرَاءَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ ظُلْمَةٌ تَخُصُّهُ، فَجُمِعَتْ لِذَلِكَ. وَحَيْثُ وَقَعَ ذِكْرُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ عَلَى هَذَا الْمَنْزَعِ مِنْ إِفْرَادِ النُّورِ وَجَمْعِ(1/131)
الظُّلُمَاتِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنُكِّرَتِ الظُّلُمَاتُ وَلَمْ تُضَفْ إلى ضميرهم كَمَا أُضِيفَ النُّورُ اكْتِفَاءً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَاخْتِصَارِ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مُتَعَدِّيًا لِوَاحِدٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: فِي ظُلُمَاتٍ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَلَا يُبْصِرُونَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَرْكِهِمْ وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْمَجْرُورِ فَيَكُونُ حَالًا مُتَدَاخِلَةً، وَهِيَ فِي التَّقْدِيرَيْنِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تُرِكَ فِي ظُلْمَةٍ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُبْصِرُ؟ وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ كَانَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَلَا يُبْصِرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا يُبْصِرُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ ظَنَنْتُ زَيْدًا مُنْفَرِدًا لَا يَخَافُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ ظَنَنْتُ زَيْدًا فِي حَالِ انْفِرَادِهِ لَا يَخَافُ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثاني أصله خبر الْمُبْتَدَأِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَأْتِي الْخَبَرُ عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا الْأَخْبَارِ. فَإِذَا جَعَلْتَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَانَ قَدْ فُهِمَ مِنْهَا أَنَّ مَنْ هُوَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ، فَلَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ لَا يُبْصِرُونَ مِنَ الْفَائِدَةِ إِلَّا التَّوْكِيدُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ. أَلَا تَرَى إِلَى تَخْرِيجِ النَّحْوِيِّينَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
عَلَى أَنَّ وَشِقٌّ مُبْتَدَأٌ وَعِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَمْ يُحَوَّلْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَفَادَتِ التَّأْكِيدَ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى مَجِيءِ الْخَبَرِ مُؤَكَّدًا، لِأَنَّ نَفْيَ التَّحْوِيلِ مَفْهُومٌ مِنْ كَوْنِ الشِّقِّ عِنْدَهُ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُحَوَّلْ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالظُّلُمَاتُ هُنَا الْعَذَابُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظُلْمَةُ الْكُفْرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ظُلْمَةٌ يُلْقِيهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ظُلْمَةُ النِّفَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ لَا يُبْصِرُونَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْوَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْإِبْصَارِ عَنْهُمْ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، بِالرَّفْعِ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هُمْ صُمٌّ، وَهِيَ أَخْبَارٌ مُتَبَايِنَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ، لَكِنَّهَا فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ واحد، إذ يؤول مَعْنَاهَا كُلُّهَا إِلَى عَدَمِ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ وَهُمْ سُمَعَاءُ الْآذَانِ، فُصَّحُ الْأَلْسُنِ، بُصَرَاءُ الْأَعْيُنِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَصِيخُوا إِلَى الْحَقِّ وَلَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَا تَلَمَّحُوا أَنْوَارَ الْهِدَايَةِ، وُصِفُوا بِمَا وُصِفُوا مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، وَقَدْ سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ لِهَذَا نَظَائِرُ، أَنْشَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ ذَلِكَ أَبْيَاتًا، وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ:(1/132)
أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ
وَأَصُمُّ عَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا ... أُذُنِي وَمَا فِي سَمْعِهَا وَقْرُ
وَهَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالِاسْتِعَارَةُ إِنَّمَا تُطْلَقُ حَيْثُ يُطْوَى ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خُلُوًّا عَنْهُ، صَالِحًا لِأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ لَوْلَا دَلَالَةُ الْحَالِ أَوْ فَحْوَى الْكَلَامِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ هُنَاكَ لِذِكْرِهِ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، إِذْ هُوَ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى هُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ التَّصَامُمَ وَالتَّبَاكُمَ وَالتَّعَامِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَنَبَّهَ عَلَى سُوءِ اعْتِمَادِهِمْ وَفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ. وَالْعَرَبُ إِذَا سَمِعَتْ مَا لَا تُحِبُّ، أَوْ رَأَتْ مَا لَا يُعْجِبُ، طَرَحُوا ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوهُ وَلَا رَأَوْهُ. قَالَ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً «1» ، وَقَالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «2» الْآيَةَ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي ذَمِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالْبَلَادَةِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْبَهَائِمِ وَأَشْبَهُ حَالًا مِنَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تُبْصِرُ. فَمَنْ عُدِمَ هَذِهِ الْمَدَارِكَ الثَّلَاثَةَ كَانَ مِنَ الذَّمِّ فِي الرُّتْبَةِ الْقُصْوَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، الْمُبَالَغَةَ فِي ذَمِّ آلِهَةِ أَبِيهِ قَالَ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
«3» ؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الدُّعَاءُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ: دُعَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَعَاطِيهِمْ ذَلِكَ، فَحَقَّقَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «4» . وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا، بِالنَّصْبِ، وَذَكَرُوا فِي نَصْبِهِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مفعولا. ثانيا لترك، وَيَكُونَ فِي ظُلُمَاتٍ مُتَعَلِّقًا بتركهم، أو في موضع
__________
(1) سورة لقمان: 31/ 7.
(2) سورة فصلت: 41/ 5.
(3) سورة مريم: 19/ 42.
(4) سورة الإسراء: 17/ 97. [.....](1/133)
الحال، ولا يُبْصِرُونَ. حَالٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي تَرَكَهُمْ، عَلَى أَنْ تَكُونَ لَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَوْ تَكُونَ تَعَدَّتْ إِلَيْهِمَا وَقَدْ أَخَذَتْهُمَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَعْنِي. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُبْصِرُونَ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، صُمًّا بُكْمًا، فَيَكُونَ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهُ قُرُودٍ تَبْتَغِي من تخادع
وَفِي الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ، إِذْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الْعَمَلِ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَا قَبْلَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُسْتَوْقِدِينَ، إِلَّا إِنْ جُعِلَ الْكَلَامُ فِي حَالِ الْمُسْتَوْقِدِ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، وَكَانَ الضَّمِيرُ فِي نُورِهِمْ يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَإِذْ ذَاكَ تَكُونُ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ لَهُمْ. وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ فَيَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهَا حَالَةُ الرَّفْعِ مِنْ أَوْصَافِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّقْدِيرَ هُمْ صُمٌّ، أَيِ الْمُنَافِقُونَ؟ فَكَذَلِكَ فِي النَّصْبِ. وَنَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ضعف النصب على الذم، وَلَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الضَّعْفِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الذَّمِّ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُذْكَرُ الِاسْمُ السَّابِقُ فَتَعْدِلُ عَنِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْإِعْرَابِ إِلَى الْقَطْعِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمٌ سَابِقٌ تَكُونُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ مُوَافِقَةً لَهُ فِي الْإِعْرَابِ فَتُقْطَعُ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا ضَعُفَ النَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ. فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ: جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ، وَهِيَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَمُتَعَقِّبَتُهَا، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ، الَّتِي هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ الْحَقِّ، جَدِيرٌ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى إِيمَانٍ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي معنيين، فَذَلِكَ وَاضِحٌ، لِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِيمَانِ لا يرجع إليه أَبَدًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غير معنيين فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالدَّيْمُومَةِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا. قَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ: لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَنِ التَّمَسُّكِ بِالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: إِلَى الْهُدَى بَعْدَ أَنْ بَاعُوهُ، أَوْ عَنِ الضَّلَالَةِ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَوْهَا، وَأَسْنَدَ عَدَمَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ تَعَالَى لَهُمْ عُقُولًا لِلْهِدَايَةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَعَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَالْجَرْيِ عَلَى مَأْلُوفِ آبَائِهِمْ، كَانَ عَدَمُ الرُّجُوعِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ اخْتِرَاعًا وَإِلَى الْعَبْدِ لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، فَأَضَافَ هَذِهِ(1/134)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وَقَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ «1» ، فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْمُوجِدِ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لَازِمًا، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ فَهُمْ لَا يرجعون جوابا.
[سورة البقرة (2) : آية 19]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أَوْ، لَهَا خَمْسَةُ مَعَانٍ: الشَّكُّ، وَالْإِبْهَامُ، وَالتَّخْيِيرُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالتَّفْصِيلُ. وَزَادَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَبِمَعْنَى بَلْ، وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّائِغِ يَقُولُ: أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ:
أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ فِي الْخَبَرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، لَا أَنَّهَا وُضِعَتْ لِلشَّكِّ، فَقَدْ تَكُونُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا شَكَّ إِذَا أُبْهِمَتْ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَأَمَّا الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ فعلى أصلها لأن المخبر إِنَّمَا يُرِيدُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ، وَأَمَّا الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا لِلْإِبَاحَةِ فَلَمْ تُؤْخَذِ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ أَوْ وَلَا مِنْ مَعْنَاهَا، إِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِغَلَبَةِ الْعَادَةِ فِي أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُبَاحَيْنِ لَمْ يَعْصِ، عِلْمًا بِأَنَّ أَوْ لَيْسَتْ مُعْتَمَدَةً هُنَا. الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ، يُقَالُ: صَابَ يَصُوبُ فَهُوَ صَيِّبٌ إِذَا نَزَلَ وَالسَّحَابُ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى عَفَاهَا صَيِّبُ وَدْقِهِ ... دَانِي النَّوَاحِي مُسْبِلُ هَاطِلُ
وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
وَأَشْحَمَ دَانٍ صَادِقَ الرَّعْدِ صَيِّبُ وَوَزْنُ صَيِّبٍ فَيْعِلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ مِنَ الْأَوْزَانِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُعْتَلِّ الْعَيْنِ، إِلَّا مَا شَذَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَيْقِلٌ بِكَسْرِ الْقَافِ عَلَمٌ لِامْرَأَةٍ، وَلَيْسَ وَزْنُهُ فَعِيلًا، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ لِلْكُوفِيِّينَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَخْفِيفِ مِثْلِ هَذَا. السَّمَاءُ: كُلُّ مَا عَلَاكَ مِنْ سَقْفٍ وَنَحْوِهِ، وَالسَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ ذَاتُ الْبُرُوجِ،
__________
(1) سورة محمد: 47/ 23.(1/135)
وَأَصْلُهَا الْوَاوُ لِأَنَّهَا مِنَ السُّمُوِّ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُفْرَدِ تَاءُ تَأْنِيثٍ. قَالُوا: سَمَاوَةٌ، وَتَصِحُّ الْوَاوُ إِذْ ذَاكَ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْكَلِمَةُ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا ... سَمَاوَةَ الْهِلَالِ حَتَّى احْقَوْقَفَا
وَالسَّمَاءُ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ يُذَكَّرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إِلَيْهِ قَوْمًا ... لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ
وَالْجِنْسُ الَّذِي مُيِّزَ وَاحِدُهُ بِتَاءٍ، يُؤَنِّثُهُ الْحِجَازِيُّونَ، وَيُذَكِّرُهُ التَّمِيمِيُّونَ وَأَهْلُ نَجْدٍ، وَجَمْعُهُمْ لها على سموات، وعلى اسمية، وعلى سماء. قَالَ: فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِنَا شَاذٌّ لِأَنَّهُ، أَوَّلًا: اسْمُ جِنْسٍ فَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ، وَثَانِيًا: فَجَمْعُهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لَيْسَ فِيهِ شَرْطُ مَا يُجْمَعُ بِهِمَا قِيَاسًا، وَجَمْعُهُ عَلَى أَفْعِلَةٍ لَيْسَ مِمَّا يَنْقَاسُ فِي الْمُؤَنَّثِ، وَعَلَى فَعَائِلَ لَا يَنْقَاسُ فِي فِعَالٍ.
الرَّعْدُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَعِكْرِمَةُ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِهَذَا الصَّوْتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلَّمَا خَالَفَتْ سَحَابَةٌ صَاحَ بِهَا، وَالرَّعْدُ اسْمُهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْخَلِيلُ: صَوْتُ مَلَكٍ يَزْجُرُ السَّحَابَ. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْضًا صَوْتُ مَلِكٍ يَسْبَحُ، وَقِيلَ: رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّحَابِ فَتُصَوِّتُ ذَلِكَ الصَّوْتَ، وَقِيلَ: اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ السَّحَابِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّهُ اسْمُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ، وَقَالَهُ عَلِيٌّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ، وَالْمَسْمُوعُ صَوْتُهُ يُسَبِّحُ وَيَزْجُرُ السَّحَابَ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ صَوْتُ تَحْرِيكِ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِزَجْرِ السَّحَابِ. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ، الثَّانِي: أَنَّهُ صَوتٌ.
قَالُوا: وَسُمِّيَ هَذَا الصَّوْتُ رَعْدًا لِأَنَّهُ يُرْعِدُ سَامِعَهُ، وَمِنْهُ رَعَدَتِ الْفَرَائِصُ، أَيْ حُرِّكَتْ وَهُزَّتْ كَمَا تَهُزُّهُ الرِّعْدَةُ. وَاتَّسَعَ فِيهِ فَقِيلَ: أَرْعَدَ، أَيْ هَدَّدَ وَأَوْعَدَ لأنه ينشأ عن الإيعاد.
وَالتَّهَدُّدِ: ارْتِعَادُ الْمُوعَدِ وَالْمُهَدَّدِ.
الْبَرْقُ: مِخْرَافٌ حَدِيدٌ بِيَدِ الْمَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ بِذَلِكَ الْمِخْرَافِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَوْ سَوْطُ نُورٍ بِيَدِ الْمَلَكِ يَزْجُرُهَا بِهِ
، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ ضَرْبُ ذَلِكَ السَّوْطِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَوْ مَلَكٌ يَتَرَاءَى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْمَاءُ، قَالَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو الْجَلَد جِيلَانُ بْنُ فَرْوَةَ الْبَصْرِيُّ،(1/136)
أَوْ تَلَأْلُؤُ الْمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ، أَوْ نَارٌ تَنْقَدِحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ.
وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ اللُّغَةِ: أَنَّ الرَّعْدَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الصَّوْتِ الْمُزْعِجِ الْمَسْمُوعِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْبَرْقَ هُوَ الْجِرْمُ اللَّطِيفُ النُّورَانِيُّ الَّذِي يُشَاهَدُ وَلَا يَثْبُتُ.
يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ جَعَلَ: يَكُونُ بِمَعْنَى خَلَقَ أَوْ بِمَعْنَى أَلْقَى فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَبِمَعْنَى صَيَّرَ أَوْ سَمَّى فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَلِلشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ فَتَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَابِهَا. الْأُصْبُعُ: مَدْلُولُهَا مَفْهُومٌ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَذَكَرُوا فِيهَا تِسْعَ لُغَاتٍ وَهِيَ:
الْفَتْحُ لِلْهَمْزَةِ، وَضَمُّهَا، وَكَسْرُهَا مَعَ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ لِلْبَاءِ. وَحَكَوْا عَاشِرَةً وَهِيَ: أُصْبُوعٌ، بِضَمِّهَا، وَبَعْدَ الْبَاءِ وَاوٌ. وَجَمِيعُ أَسْمَاءِ الْأَصَابِعِ مُؤَنَّثَةٌ إِلَّا الْإِبْهَامَ، فَإِنَّ بَعْضَ بَنِي أَسَدٍ يَقُولُونَ: هَذَا إِبْهَامٌ، وَالتَّأْنِيثُ أَجْوَدُ، وَعَلَيْهِ الْعَرَبُ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ. الْأُذُنُ: مَدْلُولُهَا مَفْهُومٌ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، كَذَلِكَ تَلْحَقُهَا التَّاءُ فِي التَّصْغِيرِ قَالُوا: أُذَيْنَةٌ، وَلَا تَلْحَقُ فِي الْعَدَدِ، قَالُوا: ثَلَاثُ آذَانٍ، قَالَ أَبُو ثَرْوَانَ فِي أُحْجِيَّةٍ لَهُ:
مَا ذُو ثَلَاثِ آذَانٍ ... يَسْبِقُ الْخَيْلَ بِالرَّدَيَانِ
يريد السهم وآذانه وقدده. الصَّاعِقَةُ: الْوَقْعَةُ الشَّدِيدَةُ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ مَعَهَا قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ تَسْقُطُ مَعَ صَوْتِ الرَّعْدِ، قَالُوا: تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحَابِ إِذَا اصْطَكَّتْ أَجْرَامُهُ، وَهِيَ نَارٌ لَطِيفَةٌ حَدِيدَةٌ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا أَتَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَعَ حِدَّتِهَا سَرِيعَةُ الْخُمُودِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ. قَالَ لَبِيدٌ يَرْثِي أَخَاهُ أَرْبَدَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَحْرَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ:
فَجَعَنِي الْبَرْقُ والصواعق بالفارس يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النَّجِدِ وَيُشَبِّهُ بِالْمَقْتُولِ بِهَا مَنْ مَاتَ سَرِيعًا، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
وَرَوَى الْخَلِيلُ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ: السَّاعِقَةُ بِالسِّينِ، وَقَالَ النَّقَّاشُ: صَاعِقَةٌ وَصَعْقَةٌ وَصَاقِعَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الصَّاقِعَةُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ أَصَابَهُمْ ... صَوَاقِعَ لَا بَلْ هُنَّ فَوْقَ الصَّوَاقِعِ
وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ:
يُحِلُّونَ بِالْمَقْصُورَةِ الْقَوَاطِعَ ... تَشَقُّقُ الْبُرُوقِ بِالصَّوَاقِعِ(1/137)
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لُغَةً، وَقَدْ حَكَوْا تَصْرِيفَ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، وَنُقِلَ الْقَلْبُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَيُقَالُ: صَعَقَتْهُ وَأَصْعَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ، إِذَا أَهْلَكَتْهُ، فَصُعِقَ: أَيْ هَلَكَ. وَالصَّاعِقَةُ أَيْضًا الْعَذَابُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَالصَّاعِقَةُ وَالصَّاقِعَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِصَوْتِ الرَّعْدِ أَوْ لِلرَّعْدِ، فَتَكُونُ التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: رَاوِيَةٌ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا، كَمَا قَالُوا فِي الْكَاذِبَةِ. الْحَذَرُ، وَالْفَزَعُ، وَالْفَرَقُ، وَالْجَزَعُ، وَالْخَوْفُ: نَظَائِرُ الْمَوْتِ، عَرْضٌ يَعْقُبُ الْحَيَاةَ. وَقِيلَ: فَسَادُ بِنْيَةِ الْحَيَوَانِ، وَقِيلَ: زَوَالُ الْحَيَاةِ. الْإِحَاطَةُ: حَصْرُ الشَّيْءِ بِالْمَنْعِ لَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَالثُّلَاثِيُّ مِنْهُ مُتَعَدٍّ، قَالُوا: حَاطَهُ، يُحُوطُهُ، حَوْطًا.
أَوْ كَصَيِّبٍ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَحَذْفُ مُضَافَانِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أَوْ: كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «1» ، أَيْ كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ. وَأَوْ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ، وَكَانَ مَنْ نَظَرَ فِي حَالِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِحَالِ الْمُسْتَوْقِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِحَالِ ذَوِي صَيِّبٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى كَوْنِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ. وَأَنَّ الْمَعْنَى أَيُّهُمَا شِئْتَ مَثِّلْهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَلَا إِلَى أَنَّ أَوْ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَا إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ هُنَا. وَلَا إِلَى كَوْنِ أَوْ لِلشَّكِّ بِالنِّسْبَةِ للمتخاطبين، إِذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا إِلَى كَوْنِهَا بِمَعْنَى بَلْ، وَلَا إِلَى كَوْنِهَا لِلْإِبْهَامِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالْإِبَاحَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ فِي الْأَمْرِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ صِرْفٌ. وَلِأَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُثْبِتُ ذَلِكَ مُؤَوَّلٌ، وَلِأَنَّ الشَّكَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، أَوِ الْإِبْهَامَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ لَا مَعْنًى لَهُ هُنَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الظَّاهِرُ فِيهَا كَوْنُهَا لِلتَّفْصِيلِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ الثَّانِي أَتَى كَاشِفًا لِحَالِهِمْ بَعْدَ كَشْفِ الْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ التَّفْصِيلَ وَالْإِسْهَابَ بِحَالِ الْمُنَافِقِ، وَشَبَّهَهَ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ بِمُسْتَوْقِدِ النَّارِ، وَإِظْهَارُهُ الْإِيمَانُ بِالْإِضَاءَةِ، وَانْقِطَاعُ جَدْوَاهُ بِذَهَابِ النُّورِ. وَشَبَّهَ فِي الثَّانِي دِينَ الْإِسْلَامِ بِالصَّيِّبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْإِفْزَاعِ وَالْفِتَنِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّوَاعِقِ، وَكِلَا التَّمْثِيلَيْنِ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُفَرَّقَةُ، كَمَا شَرَحْنَاهُ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ الْمُفَرَّقَةِ، فَلَا تَتَكَلَّفُ مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ، فَوَصَفَ وُقُوعَ الْمُنَافِقِينَ فِي ضَلَالَتِهِمْ وما حبطوا فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ بِمَا يُكَابِدُ مَنْ طُفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا فِي
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 19.(1/138)
ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَبِحَالِ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ وَخَوْفٍ مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي يَجْعَلُونَ. وَالتَّمْثِيلُ الثَّانِي أَبْلَغُ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ أَخَّرَ فَصَارَ ارْتِقَاءً مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ. وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ تَرَتُّبَ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمُوَازَنَتَهَا فِي الْمَثَلِ مِنَ الصَّيِّبِ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ، فَقَالَ: مَثَّلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِالصَّيِّبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَشْكَالِ، وَعَمَّا هُمْ بِالظُّلُمَاتِ وَالْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ بِالرَّعْدِ وَالنُّورِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَكَادُ أَحْيَانًا أَنْ تُبْهِرَهُمْ بِالْبَرْقِ وَتُخَوِّفَهُمْ بِجَعْلِ أَصَابِعِهِمْ، وَفَضْحِ نِفَاقِهِمْ وَتَكَالِيفِ الشَّرْعِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا مِنَ الْجِهَادِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا بِالصَّوَاعِقِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ التَّمْثِيلِ الْمُفَرَّقِ الَّذِي يُقَابِلُ مِنْهُ شَيْءٌ شَيْئًا مِنَ الْمُمَثَّلِ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وقرىء: أَوْ كَصَايِبٍ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ صَابَ يَصُوبُ وَصَيِّبٌ، أَبْلَغُ مِنْ صَايِبٍ، وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا مَوْضِعُهُ رَفْعٌ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إِذَا قُلْنَا لَيْسَتْ جَوَابٌ لِمَا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ فُصِلَ بِهَا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَتَانِ جُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَعَمْرُكَ وَالْخُطُوبُ مُغِيرَاتٌ ... وَفِي طُولِ الْمُعَاشَرَةِ التَّقَالِي
لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمِّ أَوْفَى ... وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لَا تُبَالِي
فَفَصْلَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ بِجُمْلَتَيِ الِاعْتِرَاضِ. مِنَ السَّمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِصَيِّبٍ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَمِنْ فِيهِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتُعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، وتكون من إذ ذاك لِلتَّبْعِيضِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ، أَوْ كَمَطَرٍ صَيِّبٍ مِنْ أَمْطَارِ السَّمَاءِ، وَأَتَى بِالسَّمَاءِ مَعْرِفَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الصَّيِّبَ نَازِلٌ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، فَهُوَ مُطَبَّقٌ عَامٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ السَّحَابَ مِنَ السَّمَاءِ يَنْحَدِرُ، وَمِنْهَا يَأْخُذُ مَاءَهُ، لَا كَزَعْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبَحْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ «1» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْشَأَ الْمَطَرِ مِنَ الْبَحْرِ، إِنَّمَا تَدُلُّ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ تَنَافٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَطَرُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ مَنْشَأَهُ مِنَ الْبَحْرِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ بَنَاتُ بَحْرٍ، يَعْنِي أَنَّهَا تَنْشَأُ مِنَ البحار، قال طرفة:
__________
(1) سورة النور: 24/ 43.(1/139)
لَا تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ ... رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزَرْ
كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدَنَّ كَمَا ... أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ
وَقَدْ أَبْدَلُوا الْبَاءَ مِيمًا فَقَالُوا: بَنَاتُ الْمَحْرِ، كَمَا قَالُوا: رَأَيْتُهُ مِنْ كَثَبٍ وَمِنْ كَثَمٍ.
وَظُلُمَاتٌ: مُرْتَفِعٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ إِذَا وَقَعَ صِفَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ الْمُخَصَّصَةِ بِقَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ، إِمَّا تَخْصِيصُ الْعَمَلِ، وَإِمَّا تَخْصِيصُ الصِّفَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي إِعْرَابِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ ظُلُمَاتٌ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْجُمَلِ، كَانَ الْأَوْلَى جَعْلَهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ وَجَمْعَ الظُّلُمَاتِ، لِأَنَّهُ حَصَلَتْ أَنْوَاعٌ مِنَ الظُّلْمَةِ. فَإِنْ كَانَ الصَّيِّبُ هُوَ الْمَطَرُ، فَظُلُمَاتُهُ ظُلْمَةُ تَكَاثُفِهِ وَانْتِسَاجِهِ وَتَتَابُعِ قَطْرِهِ، وَظُلْمَةُ:
ظِلَالِ غَمَامِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَإِنْ كَانَ الصَّيِّبُ هُوَ السَّحَابُ، فَظُلْمَةُ سَجْمَتِهِ وَظُلْمَةُ تَطْبِيقِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الصَّيِّبِ، فَإِذَا فُسِّرَ بالمطر، فكان ذَلِكَ السَّحَابُ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ مُلْتَبِسَيْنِ بِالْمَطَرِ جُعِلَا فِيهِ عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ، وَلَمْ يُجْمَعِ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جُمِعَتْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمَصْدَرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِرْعَادٌ وَإِبْرَاقٌ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَيْنَانِ فَلِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مَصْدَرَيْنِ فِي الْأَصْلِ، إِذْ يُقَالُ:
رَعَدَتِ السَّمَاءُ رَعْدًا وَبَرَقَتْ بَرْقًا، رُوعِيَ حُكْمُ أَصْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ، كَمَا قَالُوا: رَجُلٌ خَصْمٌ، وَنُكِّرَتْ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ الْعُمُومَ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ اشْتِمَالُ الصَّيِّبِ عَلَى ظُلُمَاتٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ.
وَالضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ، فَتَارَةً يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَلْفُوظٌ بِهِ فَتَعُودُ الضَّمَائِرُ عَلَيْهِ كَحَالِهِ مَذْكُورًا، وَتَارَةً يُطْرَحُ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ «1» ، التَّقْدِيرُ، أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: يَغْشَاهُ. وَمِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الِالْتِفَاتُ وَالْإِطْرَاحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ «2» الْمَعْنَى مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ فَقَالَ: فَجَاءَهَا، فَأَطْرَحَ الْمَحْذُوفَ وقال: أو هم، فَالْتَفَتَ إِلَى الْمَحْذُوفِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ
__________
(1) سورة النور: 24/ 40.
(2) سورة الأعراف: 7/ 4.(1/140)
الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ مَثَلِ ذَلِكَ الرَّعْدِ؟ فَقِيلَ:
يَجْعَلُونَ، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَهُوَ الْجَرُّ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِذَوِي الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَاعِلِينَ، وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ فِي فِيهِ. وَالرَّاجِعُ عَلَى ذِي الْحَالِ مَحْذُوفٌ نَابَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنْهُ التَّقْدِيرُ مِنْ صَوَاعِقِهِ.
وَأَرَادَ بِالْأَصَابِعِ بَعْضَهَا، لِأَنَّ الأصبع كُلَّهَا لَا تُجْعَلُ فِي الْأُذُنِ، إِنَّمَا تُجْعَلُ فِيهَا الْأُنْمُلَةُ، لَكِنَّ هَذَا مِنَ الِاتِّسَاعِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِفَرْطِ مَا يَهُولُهُمْ مِنْ إِزْعَاجِ الصَّوَاعِقِ كَأَنَّهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِالْأُنْمُلَةِ، بَلْ لَوْ أمكنهم السد بالأصبع كُلِّهَا لَفَعَلُوا، وَعُدِلَ عَنِ الِاسْمِ الْخَاصِّ لِمَا يُوضَعُ فِي الْأُذُنِ إِلَى الِاسْمِ الْعَامِّ، وَهُوَ الْأُصْبُعُ، لِمَا فِي تَرْكِ لَفْظِ السَّبَّابَةِ مِنْ حُسْنِ أَدَبِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِ الْكِنَايَاتِ فِيهِ تَكُونُ بِأَحْسَنَ لَفْظٍ، لِذَلِكَ مَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِ السَّبَّابَةِ إِلَى الْمِسْبَحَةِ وَالْمُهَلِّلَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَلَمْ تَأْتِ بِلَفْظِ الْمِسْبَحَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُسْتَحْدَثَةٌ، لَمْ يَتَعَارَفْهَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ العهد، وإنما أحدثت بعدا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مِنَ الصَّوَاقِعِ، وقد تقدم أنها لغة تَمِيمٍ، وَأَخْبَرْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَالْوَضْعِ كَأَنَّهُ قَالَ: يَضَعُونَ أَصَابِعَهُمْ، وَمَنْ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَجْعَلُونَ، وَهِيَ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَجْلِ الصَّوَاعِقِ وَحَذَرَ الْمَوْتِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ مُتَّحِدٌ بِالْعَامِلِ فَاعِلًا وَزَمَانًا، هَكَذَا أَعْرَبُوهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الصَّوَاعِقِ هُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْطُوفًا لَجَازَ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «1» وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
يَرْكَبُ كُلَّ عَاقِرٍ جُمْهُورِ ... مَخَافَةً وَزَعَلَ الْمَحْبُورِ
وَالْهَوْلَ مِنْ تَهَوُّلِ الْهُبُورِ وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ يَحْذَرُونَ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: حَذَارَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَاذَرَ، قَالُوا وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ.
الْإِحَاطَةُ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُونَهُ، كَمَا لَا يَفُوتُ الْمُحَاطَ الْمُحِيطُ بِهِ، فَقِيلَ: بالعلم، وَقِيلَ: بِالْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: بِالْإِهْلَاكِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّهَا دخلت بين
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 207 و 265.(1/141)
هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ، ويَكادُ الْبَرْقُ «1» ، وَهُمَا مِنْ قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ هَذَا التَّمْثِيلَ مِنَ التَّمِثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، وَهُوَ الَّذِي تُشَبَّهُ فِيهِ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آحَادُ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ شَبِيهَةٌ بِآحَادِ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهَ حَيْرَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِحَيْرَةِ مَنِ انْطَفَأَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا، وَبِحَيْرَةِ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ. وَهَذَا الَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَقَالُوا أَيْضًا: يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ مُرَكَّبًا مِنْ أُمُورٍ، وَالْمُمَثَّلُ يَكُونُ مُرَكَّبًا أَيْضًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَثَلِ مُشْبِهٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُمَثَّلِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلَانِ مِنْ جَعْلِ هَذَا الْمَثَلِ مِنَ التَّمْثِيلِ الْمُفَرَّقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّيِّبَ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتِ، مَثَلٌ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، مَثَلَانِ لِمَا يُخَوَّفُونَ بِهِ.
وَالرَّابِعُ: الْبَرْقُ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتُ، مَثَلٌ لِلْفِتْنَةِ وَالْبَلَاءِ. وَالْخَامِسُ: الصَّيِّبُ: الْغَيْثُ الَّذِي فِيهِ الْحَيَاةُ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتُ، مَثَلٌ لِإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ وَمَا فِيهِ مِنْ إِبِطَانِ الْكُفْرِ، وَالرَّعْدُ مَثَلٌ لما في الإسلام من حَقْنِ الدِّمَاءِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالْمُسْلِمِينَ في المناكحة والموازنة، وَالْبَرْقُ وَمَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ مَثَلٌ لِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الزَّجْرِ بِالْعِقَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيُرْوَى مَعْنَى هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ الصَّيِّبَ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ وَالصَّوَاعِقَ كَانَتْ حَقِيقَةً أَصَابَتْ بَعْضَ الْيَهُودِ، فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِقِصَّتِهِمْ لِبَقِيَّتِهِمْ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ الَّذِي أَصَابَ الْمُنَافِقِينَ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَوَلَدُهُمُ الْغِلْمَانُ، أَوْ أَصَابُوا غَنِيمَةً أَوْ فَتْحًا قَالُوا: دِينُ مُحَمَّدٍ صِدْقٌ، فَاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَأَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ قَالُوا: هَذَا مِنْ أَجْلِ دِينِ مُحَمَّدٍ، فَارْتَدُّوا كُفَّارًا. الثَّامِنُ: أَنَّهُ مَثَّلَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالْبَلَاءِ بِالصَّيِّبِ الَّذِي يَجْمَعُ نَفْعًا بِإِحْيَائِهِ الْأَرْضَ وَإِنْبَاتِهِ النَّبَاتَ وَإِحْيَاءِ كُلِّ دَابَّةٍ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِلتَّطْهِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَضَرًّا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْإِغْرَاقِ وَالْإِشْرَاقِ، وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالصَّوَاعِقِ بِالْإِرْعَادِ وَالْإِبْرَاقِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ يَدْفَعُ آجِلًا بِطَلَبِ عَاجِلِ النَّفْعِ، فَيَبِيعُ آخِرَتَهُ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ بِالدُّنْيَا الَّتِي صَفُّوهَا كَدِرٌ وَمَآلُهُ بَعْدُ إِلَى سَقَرَ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْقِيَامَةِ لِمَا يَخَافُونَهُ مِنْ وَعِيدِ الْآخِرَةِ لِشَكِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَرْقِ، بِمَا فِي إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَمَثَّلَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ بِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الزَّوَاجِرِ بِالْعِقَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. الْعَاشِرُ: ضَرْبُ الصَّيِّبِ مَثَلٌ لِمَا أظهر المنافقون
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 20.(1/142)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
مِنَ الْإِيمَانِ وَالظُّلُمَاتِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الَّذِي أَبَطَنُوهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَرْقِ بِمَا عَلَاهُمْ مِنْ خَيْرِ الْإِسْلَامِ وَعَلَتْهُمْ مِنْ بَرَكَتِهِ، وَاهْتِدَائِهِمْ بِهِ إِلَى مَنَافِعِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمْنِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ، بِمَا اقْتَضَاهُ نِفَاقُهُمْ وَمَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَيْضًا أَقْوَالًا كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى التَّمْثِيلِ التَّرْكِيبِيِّ: الْأَوَّلُ: شَبَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ بِالَّذِينَ اجْتَمَعَتْ لَهُمْ ظُلْمَةُ السَّحَابِ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدُّ لِحَيْرَتِهِمْ، إِذْ لَا يَرَوْنَ طَرِيقًا، وَلَا مَنْ أَضَاءَ لَهُ الْبَرْقَ ثُمَّ ذَهَبَ كَانَتِ الظُّلْمَةُ عِنْدَهُ أَشَدُّ مِنْهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَرْقٌ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَطَرَ، وَإِنْ كَانَ نَافِعًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ صَارَ النَّفْعُ بِهِ زَائِلًا، كَذَلِكَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ نَافِعٌ لِلْمُنَافِقِ لَوْ وَافَقَهُ الْبَاطِنُ، وَأَمَّا مَعَ عدم الموافقة فهو ضر. الثَّالِثُ:
أَنَّهُ مَثَّلَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ نَافِعُهُمْ وَلَيْسَ بِنَافِعِهِمْ بِمَنْ نَزَلَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعَ الصَّوَاعِقِ، فَإِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ الْمُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا جَعْلُ أَصَابِعِهِ فِي آذَانِهِ وَهُوَ لَا يُنْجِيهِ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَّلَ لِتَأَخُّرِ الْمُنَافِقِ عَنِ الْجِهَادِ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ بِمَنْ أَرَادَ دَفْعَ هَذِهِ الْأُمُورِ بِجَعْلِ أَصَابِعِهِمْ فِي آذَانِهِمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَثَّلَ لعدم إخلاص الْمُنَافِقِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِالْجَاعِلِينَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، فإنهم وإن تخلصوا عن الْمَوْتِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْ وَرَائِهِمْ.
[سورة البقرة (2) : آية 20]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
يَكَادُ: مُضَارِعُ كَادَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَوَزْنُهَا فَعَلَ يَفْعَلُ، نَحْوَ خَافَ يَخَافُ، مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَفِيهَا لُغَتَانِ: فَعَلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَفَعُلَ، وَلِذَلِكَ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرُ الرَّفْعِ لِمُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أَوْ نُونِ إِنَاثٍ ضَمُّوا الْكَافَ فَقَالُوا: كُدْتُ، وَكُدْتَ، وَكُدْنَ، وَسُمِعَ نَقْلُ كَسْرِ الْوَاوِ إِلَى الْكَافِ، مَعَ مَا إِسْنَادِهِ لِغَيْرِ مَا ذُكِرَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكِيدَتْ ضِبَاعُ الْقُفِّ يَأْكُلْنَ جُثَّتِي ... وَكِيدَ خَرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يُيْتِمُ
يُرِيدُ، وَكَادَتْ، وَكَادَ، وَلَيْسَ، مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا مضارع إِلَّا: كَادَ، وَأَوْشَكَ. وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ هِيَ مِنْ بَابِ كَانَ، تَرْفَعُ الِاسْمَ وَتَنْصِبُ الْخَبَرَ، إِلَّا أَنَّ خَبَرَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُضَارِعًا، وَلَهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ فِعْلًا ذَكَرَهَا أَبُو(1/143)
إِسْحَاقَ الْبَهَارِيُّ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ جُمَلِ الزَّجَّاجِيِّ) . وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يَكَادُ فِعْلٌ يَنْفِي الْمَعْنَى مَعَ إِيجَابِهِ وَيُوجِبُهُ مَعَ النَّفْيِ، وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ شِعْرًا يُلْغِزُ فِيهِ بِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ هَذَا الْمُفَسِّرُ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّ نَفْيَهَا نَفْيٌ وَإِيجَابُهَا إِيجَابٌ، وَالِاحْتِجَاجُ لِلْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْخَطْفُ:
أَخْذُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. كُلَّ: لِلْعُمُومِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَازِمٍ لِلْإِضَافَةِ، إِلَّا أَنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَيُعَوَّضُ مِنْهُ التَّنْوِينُ، وَقِيلَ: هُوَ تَنْوِينُ الصَّرْفِ، وَإِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مَعْرِفَةً بَقِيَتْ كُلٌّ عَلَى تَعْرِيفِهَا بِالْإِضَافَةِ، فَيَجِيءُ مِنْهَا الْحَالُ، وَلَا تُعَرَّفُ بِاللَّامِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَالْفَارِسِيُّ، وَرُبَّمَا انْتَصَبَ حَالًا، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَتْبَعَ تَوْكِيدًا كَأَجْمَعَ، وَتُسْتَعْمَلُ مُبْتَدَأً، وَكَوْنُهَا كَذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ كَوْنِهَا مَفْعُولًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَقْصُورٍ عَلَى السَّمَاعِ وَلَا مُخْتَصًّا بِالشِّعْرِ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ. وَإِذَا أُضِيفَتْ كُلٌّ إِلَى نكرة أو معرفة بلام الْجِنْسِ حَسُنَ أَنْ تَلِيَ الْعَوَامِلَ اللَّفْظِيَّةَ، وَإِذَا ابْتُدِئَ بِهَا مُضَافَةً لَفْظًا إِلَى نَكِرَةٍ طَابَقَتِ الْأَخْبَارَ وَغَيْرِهَا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَعْرِفَةٍ، فَالْأَفْصَحُ إِفْرَادُ الْعَائِدِ أَوْ مَعْنَى لَا لَفْظًا، فَالْأَصْلُ، وَقَدْ يُحَسَّنُ الْإِفْرَادُ وَأَحْكَامُ كُلٌّ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَكْثَرَهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالتَّذْكِرَةِ، وَسَرَدْنَا مِنْهَا جُمْلَةً لِيُنْتَفَعَ بِهَا، فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا.
الْمَشْيُ: الْحَرَكَةُ الْمَعْرُوفَةُ. لَوْ: عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ، إِنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ إِنَّهَا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ لِاطِّرَادِ تَفْسِيرِ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كُلِّ مَكَانٍ جَاءَتْ فِيهِ لَوْ، وَانْخِرَامِ تَفْسِيرِهِمْ فِي نَحْوِ: لَوْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا لَكَانَ حَيَوَانًا، إِذْ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِمَامِ يَكُونُ الْمَعْنَى ثُبُوتُ الْحَيَوَانِيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، إِذِ الْأَخَصُّ مُسْتَلْزِمٌ الْأَعَمَّ، وَعَلَى تَفْسِيرِهِمْ يَنْخَرِمُ ذَلِكَ، إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى مُمْتَنِعُ الْحَيَوَانِيَّةِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْإِنْسَانِيَّةِ انْتِفَاءُ الْحَيَوَانِيَّةِ، إِذْ تُوجَدُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَلَا إِنْسَانِيَّةَ. وَتَكُونُ لَوْ أَيْضًا شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى أَنْ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِهَا خِلَافًا لِقَوْمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إِلَّا مُظْهِرًا ... خُلُقَ الْكِرَامِ وَلَوْ تَكُونُ عَدِيمَا
وَتَشْرَبُ لَوْ مَعْنَى التَّمَنِّي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ»
، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا تَكُونُ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى أَنَّ خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ. شَاءَ:
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 167.(1/144)
بِمَعْنَى أَرَادَ، وَحَذْفُ مَفْعُولِهَا جَائِزٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَأَكْثَرُ مَا يُحْذَفُ مَعَ لَوْ، لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ تَكَاثَرَ هَذَا الْحَذْفُ فِي شَاءَ وَأَرَادَ، يَعْنِي حَذْفُ مَفْعُولَيْهِمَا، قَالَ: لَا يَكَادُونَ يُبْرِزُونَ هَذَا الْمَفْعُولَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ «1» ، ولَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى «2» ، انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ صَاحِبُ التِّبْيَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَنْشَدَ قَوْلَهُ:
فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ ... عَلَيْهِ وَلَكِنَّ سَاحَةَ الصَّبْرِ أَوْسَعُ
مَتَى كَانَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ عَظِيمًا أَوْ غَرِيبًا، كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُذْكَرَ نَحْوُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَلْقَى الْخَلِيفَةَ كُلَّ يَوْمٍ لَقِيتُهُ، وَسِرُّ ذِكْرِهِ أَنَّ السَّامِعَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ، فَأَنْتَ تَقْصِدُ إِلَى إِثْبَاتِهِ عِنْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا فَالْحَذْفُ نَحْوُ: لَوْ شِئْتُ قُمْتُ. وَفِي التَّنْزِيلِ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا «3» ، انْتَهَى. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ غَرَابَةٌ حَسُنَ ذِكْرَهُ، وَإِنَّمَا حُسْنُ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ مِنْ حَيْثُ عَوْدِ الضَّمِيرِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَمْ يَكُنْ لِلضَّمِيرِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ، فَهُمَا تَرْكِيبَانِ فَصِيحَانِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ. فَأَحَدُهُمَا الْحَذْفُ وَدَلَالَةُ الْجَوَابِ عَلَى الْمَحْذُوفِ، إِذْ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مَصْدَرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ حَذَفُوا أَحَدَ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ الْخَبَرُ فِي نَحْوِ: لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ، لِلطُّولِ بِالْجَوَابِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُثْبَتِ فَلِأَنْ يُحْذَفَ الْمَفْعُولُ الَّذِي هُوَ فَضْلَةٌ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنْ يُذْكَرَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ دَلِيلٌ فَلَا يُحْذَفُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ولِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. الشَّيْءُ: مَا صَحَّ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ وَجْهِ وَيُخْبَرَ عَنْهُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ التَّأْنِيثُ مِنَ التَّذْكِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْءَ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا أُخْبِرَ عَنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعْلَمَ أَذَكَرٌ هُوَ أَوْ أُنْثَى؟ وَالشَّيْءُ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا مُرَادِفٌ لِلْمَوْجُودِ،
__________
(1) سورة الأنبياء: 2/ 17.
(2) سورة الزمر: 39/ 4.
(3) سورة الأنفال: 8/ 31.(1/145)
وَفِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ، وَمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْكَرُ النَّكِرَاتِ، إِذْ يُطْلَقُ عَلَى الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَالْقَدِيمِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمُسْتَحِيلِ. الْقُدْرَةُ: الْقُوَّةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ، وَالْفِعْلُ قَدَرَ وَمَصَادِرُهُ كَثِيرَةٌ: قَدَرٌ، قُدْرَةٌ، وَبِتَثْلِيثِ الْقَافِ، وَمَقْدِرَةٌ، وَبِتَثْلِيثِ الدَّالِ: وَقُدْرٌ، أَوْ قِدْرٌ، أَوْ قُدَرٌ، أَوْ قَدَارٌ، أَوْ قِدَارٌ، أَوْ قُدْرَانًا، وَمَقْدَرًا، وَمَقْدُرًا.
الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ إِذْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ قَائِلٍ قَالَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْبَرْقِ؟ فَقِيلَ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِذَوِي الْمَحْذُوفَةِ التَّقْدِيرُ كَائِدُ الْبَرْقِ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْبَرْقِ لِلْعَهْدِ، إِذْ جَرَى ذِكْرُهُ نَكِرَةً فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَصَارَ نَظِيرُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» . وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَيَحْيَى بْنُ زَيْدٍ: يَخْطِفُ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَأَظُنُّهُ غَلَطًا وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْرَأْ بِالْفَتْحِ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَتْحُ، يَعْنِي فِي الْمُضَارِعِ أَفْصَحُ، انْتَهَى. وَالْكَسْرُ فِي طَاءِ الْمَاضِي لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَهِيَ أَفْصَحُ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: خَطَفَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، يَخْطِفُ بِالْكَسْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَنَسَبَ الْمَهْدَوِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَى الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ، وَذَلِكَ وَهْمٌ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: يَخْتَطِفُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ:
يَتَخَطَّفُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: يَخَطَّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: يَخَطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَأَصْلُهُ يَخْتَطِفُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة:
يَخِطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَرَأَ أَيْضًا الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ: يِخِطِّفُ، بِكَسْرِ الثَّلَاثَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُخَطِّفُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ خَطَفَ، وَهُوَ تَكْثِيرُ مُبَالَغَةٍ لَا تَعْدِيَةٍ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: يَخْطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ اخْتِلَاسٌ لِفَتْحَةِ الْخَاءِ لَا إِسْكَانَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حَدِّ الْتِقَائِهِمَا.
فَهَذَا الحرف قرىء عَشْرَ قِرَاءَاتٍ: السَّبْعَةُ يَخْطَفُ، وَالشَّوَاذُّ: يَخَطِفُ يَخْتَطِفُ يَتَخَطَّفُ يَخَطَّفُ وَأَصْلُهُ يَتَخَطَّفُ، فَحَذَفَ التَّاءَ مَعَ الْيَاءِ شُذُوذًا، كَمَا حَذَفَهَا مَعَ التَّاءِ قياسا. يخطف
__________
(1) سورة المزمل: 73/ 15- 16.(1/146)
يَخْطِّفُ يُخَطِّفُ يَخَطِّفُ، وَالْأَرْبَعُ الْأُخَرُ أَصْلُهَا يُخْتَطَفُ فَعُرِضَ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الطَّاءِ فَسَكَنَتِ التَّاءُ لِلْإِدْغَامِ فَلَزِمَ تَحْرِيكُ مَا قَبْلَهَا، فَإِمَّا بِحَرَكَةِ التَّاءِ، وَهِيَ الْفَتْحُ مُبَيَّنَةً أَوْ مُخْتَلَسَةً، أَوْ بِحَرَكَةِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهِيَ الْكَسْرُ. وَكَسْرُ الْيَاءِ إِتْبَاعٌ لِكَسْرَةِ الْخَاءِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ إِدْغَامٍ اخْتُصِمَ بِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَصْرِيفِيَّةٌ يَخْتَلِفُ فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرُ، وَتَبْيِينُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَمَنْ فَسَّرَ الْبَرْقَ بِالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ قَالَ: يَكَادُ ذَلِكَ يُصِيبُهُمْ. وَمَنْ مَثَّلَهُ بِحُجَجِ الْقُرْآنِ وَبَرَاهِينِهِ السَّاطِعَةِ قَالَ: الْمَعْنَى يَكَادُ ذَلِكَ يَبْهِرُهُمْ.
وَكُلَّ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ وَسَرَتْ إِلَيْهِ الظَّرْفِيَّةُ مِنْ إِضَافَتِهِ لِمَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا صَحِبْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، فَالْمَعْنَى مُدَّةَ صُحْبَتِكَ لِي أُكْرِمُكَ، وَغَالِبُ مَا تُوصَلُ بِهِ مَا هَذِهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَمَا الظَّرْفِيَّةُ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ، فَإِذَا قُلْتَ: أَصْحَبُكَ مَا ذَرَّ لِلَّهِ شَارِقٌ، فَإِنَّمَا تُرِيدُ الْعُمُومَ. فَكُلُّ هَذِهِ أَكَّدَتِ الْعُمُومَ الَّذِي أَفَادَتْهُ مَا الظَّرْفِيَّةُ، وَلَا يُرَادُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مُطْلَقُ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ صِلَةً لِمَا، فَيُكْتَفَى فِيهِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِدَلَالَتِهَا عَلَى عُمُومِ الزَّمَانِ جَزَمَ بِهَا بَعْضُ الْعَرَبِ. وَالتَّكْرَارُ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفُقَهَاءُ فِي كُلَّمَا، إِنَّمَا ذَلِكَ فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، لَا إِنَّ لَفْظَ كُلَّمَا وُضِعَ لِلتَّكْرَارِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ كُلٌّ تَوْكِيدًا لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَا الظَّرْفِيَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ: كُلَّمَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، فَالْمَعْنَى أُكْرِمُكَ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ جيئاتك إِلَيَّ. وَمَا أَضَاءَ: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، إِذِ التَّقْدِيرُ كُلُّ إِضَاءَةٍ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْضًا، مَعْنَاهُ: كُلَّ وَقْتِ إِضَاءَةٍ، فَقَامَ الْمَصْدَرُ مَقَامَ الظَّرْفِ، كَمَا قَالُوا: جِئْتُكَ خُفُوقَ النَّجْمِ. وَالْعَامِلُ فِي كُلَّمَا قَوْلُهُ: مَشَوْا فِيهِ، وَأَضَاءَ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ هُنَا مُتَعَدٍّ التَّقْدِيرُ، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمُ الْبَرْقُ الطَّرِيقَ. فَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْبَرْقِ، أَيْ مَشَوْا فِي نُورِهِ وَمَطْرَحِ لَمَعَانِهِ، وَيَتَعَيَّنُ عَوْدُهُ عَلَى الْبَرْقِ فِيمَنْ جَعَلَ أَضَاءَ لَازِمًا، أَيْ: كُلَّمَا لَمَعَ الْبَرْقُ مَشَوْا فِي نُورِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: كُلَّمَا ضَاءَ ثُلَاثِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: مَرُّوا فِيهِ، وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَضَوْا فِيهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَضَاءَ لَهُمْ فِي حَالَتَيْ وَمِيضِ الْبَرْقِ وَخَفَائِهِ، قِيلَ: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ وَالضَّحَّاكُ: وَإِذَا أَظْلَمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَأَصْلُ أَظْلَمَ أَنْ لَا يَتَعَدَّى، يُقَالُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ. وظاهر كلام الزمخشري أن أَظْلَمَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ لِمَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُبْنَى لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَظْلَمَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَجَاءَ فِي شِعْرِ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ:(1/147)
هُمَا أَظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلَامَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمَرَدَ أَشْيَبِ
وَهُوَ إِنْ كَانَ مُحْدَثًا لَا يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِهِ فِي اللُّغَةِ، فَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، فَاجْعَلْ مَا يَقُولُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرْوِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ، فَيَقْتَنِعُونَ بِذَلِكَ لِوُثُوقِهِمْ بِرِوَايَتِهِ وَإِتْقَانِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُهُ كَمَا قُلْنَا أَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَبِنَاؤُهُ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِذَلِكَ اسْتُأْنِسَ بِقَوْلِ أَبِي تَمَامٍ: هُمَا أَظْلَمَا حَالَيَّ، وَلَهُ عِنْدِي تَخْرِيجٌ غَيْرَ مَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَظْلَمَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لِمَفْعُولٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ. أَلَا تَرَى كَيْفَ عُدِّيَ أَظْلَمَ إِلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى؟ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ أَوْ حُذِفَ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَكَانَ الْأَصْلُ: وَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ حُذِفَ، فَقَامَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَهُ، نَحْوُ: غَضِبَ زَيْدٌ عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ تَحْذِفُ زَيْدًا وَتَبْنِي الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ فَتَقُولُ: غُضِبَ عَلَى عَمْرٍو، فَلَيْسَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ إِذْ ذَاكَ: وَإِذَا أَظْلَمَ اللَّهُ اللَّيْلَ، فَحُذِفَتِ الْجَلَالَةُ وَأُقِيمَ ضَمِيرُ اللَّيْلِ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ حَبِيبٍ فَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ، وَقَدْ نُقِدَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ الِاسْتِشْهَادُ بِقَوْلِ حَبِيبٍ:
مَنْ كَانَ مَرْعَى عَزْمِهِ وَهُمُومِهِ ... رَوضُ الْأَمَانِي لَمْ يَزَلْ مَهْزُولًا
وَكَيْفَ يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِ مَنْ هُوَ مُوَلِّدٌ، وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِيمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ اللَّحْنِ فِي شِعْرِهِ؟ وَمَعْنَى قَامُوا: ثَبَتُوا وَوَقَفُوا، وَصُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى بِكُلَّمَا، وَالثَّانِيَةُ بِإِذَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُمْ حُرَّاصٌ عَلَى وُجُودِ مَا هِمَمُهُمْ بِهِ مَعْقُودَةٌ مِنْ إِمْكَانِ الْمَشْيِ وَتَأْتِيهِ، فَكُلَّمَا صَادَفُوا مِنْهُ فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّوَقُّفُ وَالتَّحَبُّسُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدِي بَيْنَ كُلَّمَا وَإِذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مَتَى فُهِمَ التَّكْرَارُ مِنْ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ لَزِمَ مِنْهُ أَيْضًا التَّكْرَارُ فِي أَنَّهُ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا، لِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ إِضَاءَةِ الْبَرْقِ وَالْإِظْلَامِ، فَمَتَى وُجِدَ هَذَا فُقِدَ هَذَا، فَيَلْزَمُ مِنْ تَكْرَارِ وُجُودِ هَذَا تَكْرَارِ عَدَمِ هَذَا، عَلَى أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِذَا تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ كَكُلَّمَا، وَأَنْشَدَ:
إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الْحُبِّ فِي كَبِدِي ... أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
قَالَ: فَهَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى كُلَّمَا.
وَفِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: كُلَّمَا أَتَاهُمُ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَهُ تَابَعُوهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِضَاءَةُ الْبَرْقِ حُصُولُ مَا يَرْجُونَهُ مِنْ سَلَامَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَرْقُ الْإِسْلَامُ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ إِهْتِدَاؤُهُمْ، فَإِذَا تَرَكُوا ذَلِكَ وَقَعُوا فِي(1/148)
ضَلَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِضَاءَتُهُ لَهُمْ: تَرْكُهُمْ بِلَا ابْتِلَاءٍ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْمُسَالَمَةِ بِإِظْهَارِ مَا يُظْهِرُونَهُ، وَقِيلَ: كُلَّمَا سَمِعَ الْمُنَافِقُونَ الْقُرْآنَ وَحُجَجَهُ أُنْسُوا وَمَشَوْا مَعَهُ، فَإِذَا نَزَلَ مَا يُعْمَوْنَ فِيهِ أَوْ يُكَلَّفُونَهُ قَامُوا، أَيْ ثَبَتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: كُلَّمَا تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ قَالُوا: دِينُ حَقٍّ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ سَخِطُوا وَثَبَتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: كُلَّمَا خَفِيَ نِفَاقُهُمْ مَشَوْا، فَإِذَا افْتُضِحُوا قَامُوا، وَقِيلَ: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمُ الْحَقُّ اتَّبَعُوهُ، فَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَوَى تَرَكُوهُ. وَقِيلَ: يَنْتَفِعُونَ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا وَرَدَتْ مِحْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَحَيَّرُوا، كَمَا قَامَ أُولَئِكَ فِي الظُّلُمَاتِ مُتَحَيِّرِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِشِدَّتِهِ عَلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ التَّحَيُّرِ وَالْجَهْلِ بِمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ، إِذَا صَادَفُوا مِنَ الْبَرْقِ خَفْقَةً مَعَ خَوْفٍ أَنْ يَخْطَفَ أَبْصَارَهُمْ، انْتَهَزُوا تِلْكَ الخفقة فرصة فحطوا خُطُوَاتٍ يَسِيرَةٍ، فَإِذَا خَفِيَ وَفَتَرَ لَمَعَانُهُ بَقُوا وَاقِفِينَ مُتَقَيِّدِينَ عَنِ الْحَرَكَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَفْعُولُ شَاءَ هُنَا مَحْذُوفٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ إِذْهَابَ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. وَالْكَلَامُ فِي الْبَاءِ فِي بِسَمْعِهِمْ كَالْكَلَامِ فِيهَا فِي: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَوْحِيدُ السَّمْعِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لَأَذْهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ التَّقْدِيرُ لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ، يُرِيدُ رَأْسَهُ، وَخَشُنْتُ بِصَدْرِهِ، يُرِيدُ صَدْرَهُ، وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ قِيَاسِ زِيَادَةِ الْبَاءَ، وَجَمْعُهُ الْأَسْمَاعُ مُطَابِقٌ لِجَمْعِ الْأَبْصَارِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: أَنَّ ذَهَابَ اللَّهِ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ كَانَ يَقَعُ عَلَى تَقْدِيرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِإِهْلَاكِهِمْ، لِأَنَّ فِي هَلَاكِهِمْ ذَهَابُ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. وَقِيلَ: وَعِيدٌ بِإِذْهَابِ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ حَتَّى لَا يَتَوَصَّلُوا بِهِمَا إِلَى مَا لَهُمْ، كَمَا لَمْ يَتَوَصَّلُوا بِهِمَا إِلَى مَا عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَأَظْهَرَ عَلَيْهِمْ بِنِفَاقِهِمْ فَذَهَبَ مِنْهُمْ عِزُّ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الصَّوَاعِقَ فَيَحْذَرُونَ، وَلَأَذْهَبَ أَبْصَارَهَمْ فَلَا يَرَوْنَ الضَّوْءَ لِيَمْشُوا. وَقِيلَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ. وَقِيلَ: لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، فَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي الْحَقِّ فَيَنْتَفِعُوا بِهَا فِي أُخْرَاهُمْ. وَقِيلَ: لَزَادَ فِي قَصِيفِ الرَّعْدِ فَأَصَمَّهُمْ وَفِي ضَوْءِ الْبَرْقِ فَأَعْمَاهُمْ. وَقِيلَ لَأَوْقَعَ بِهِمْ مَا يَتَخَوَّفُونَهُ مِنَ الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ. وَقِيلَ: لَفَضَحَهُمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَلَّطَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَذَهَبَ سَمْعُهُمْ بِقَصِيفِ الرَّعْدِ وَأَبْصَارُهُمْ بِوَمِيضِ الْبَرْقِ.(1/149)
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَوِي صَيِّبٍ، فَصَرْفُ ظَاهِرِهِ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنَافِقِينَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَحَيُّرِ هَؤُلَاءِ السَّفْرِ وَشِدَّةِ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الصَّيِّبِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى ظُلُمَاتٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، بِحَيْثُ تَكَادُ الصَّوَاعِقُ تُصِمُّهُمْ وَالْبَرْقُ يُعْمِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ سَبَقَتِ الْمَشِيئَةُ بِذَهَابِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَتْ، وَكَمَا اخْتَرْنَا فِي قَوْلِهِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إِلَى آخِرِهِ أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي حَالِ الْمُسْتَوْقِدِ، كَذَلِكَ اخْتَرْنَا هُنَا أَنَّ هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَشِدَّةِ الْمُبَالَغَةِ فِي حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُبَالَغَةِ فِي حَالِ الْمُشَبَّهِ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتُ الَّتِي لِلْمُشَبَّهِ بِهِ ثَابِتَةً لِلْمُشَبَّهِ بِنَظَائِرِهَا ثَابِتَةً لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ التَّمْثِيلُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُفْرَدَةِ. وَأَمَّا عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّشْبِيهِ بِمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ قَبْلُ، وَخَصَّ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ فِي قَوْلِهِ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ:
فِي آذانِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ، وَمُدْرِكُهُمَا السَّمْعُ، وَالظُّلُمَاتِ وَالْبَرْقِ، وَمُدْرِكُهُمَا: الْبَصَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ شَاءَ أَذْهَبَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، أَعْقَبَ تَعَالَى مَا عَلَّقَهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ بِالْإِخْبَارِ عنه تعالى بالمقدرة لِأَنَّ بِهِمَا تَمَامَ الْأَفْعَالِ، أعني القدرة وَالْإِرَادَةِ وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِذْ لَا أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ تَعَالَى. وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: قَدِيرٌ، وَفِي لَفْظِ قَدِيرٌ مَا يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، إِذِ الْقُدْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا بَعْضُ كَلَامٍ عَلَى تَنَاسُقِ الْآيِ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ نُلَخِّصُ ذَلِكَ هُنَا، فَنَقُولُ: افْتَتَحَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِوَصْفِ كَلَامِهِ الْمُبِينِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ هُدًى لِمُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَدَحَهُمْ، ثُمَّ مَدَحَ مَنْ سَاجَلَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَتَلَاهُمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَكَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى فِي الْحَالِ وَمِنَ الظَّفَرِ فِي الْمَآلِ، ثُمَّ تَلَاهُمْ بِذِكْرِ أَضْدَادِهِمُ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمُ الْمُغَطَّى أَبْصَارُهُمُ الْمَيْئُوسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ أَتْبَعَ هَؤُلَاءِ بِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمُخَادِعِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَأَخَّرَ ذِكْرَهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَسْوَأَ أَحْوَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمُ اتَّصَفُوا فِي الظَّاهِرِ بِصِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي الْبَاطِنِ بِصِفَاتِ الْكَافِرِينَ، فَقَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَنَّى بِذِكْرِ أَهْلِ الشَّقَاءِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَّثَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ، وَأَمْعَنَ فِي ذِكْرِ مَخَازِيهِمْ فَأَنْزَلَ فِيهِمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، كُلُّ ذَلِكَ تَقْبِيحٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَخَازِي أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَبْرَزَ أَحْوَالَهُمْ فِي صُورَةِ الأنفال، فَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلتَّنْفِيرِ عَمَّا اجْتَرَحُوهُ مِنْ قَبِيحِ الْأَفْعَالِ. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ(1/150)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي نُوقِلَ فِي ذَرْوَةِ الْإِحْسَانِ وَتَمَكَنَ فِي بَرَاعَةِ أَقْسَامِ الْبَدِيعِ وبلاغة معاني البيان.
[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
يَا: حَرْفُ نِدَاءٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهَا: أُنَادِي، وَعَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِ النِّدَاءِ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَقَعْ نِدَاءً إِلَّا بِهَا، وَهِيَ أَعَمُّ حُرُوفِ النِّدَاءِ، إِذْ يُنَادَى بِهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْمُسْتَغَاثُ وَالْمَنْدُوبُ. وَأَمَالَهَا بَعْضُهُمْ، وَقَدْ تَتَجَرَّدُ لِلتَّنْبِيهِ فَيَلِيهَا الْمُبْتَدَأُ وَالْأَمْرُ وَالتَّمَنِّي وَالتَّعْلِيلُ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يُنْوَى بَعْدَهَا مُنَادِي. أَيْ: اسْتِفْهَامٌ وَشَرْطٌ وَصِفَةٌ وَوَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامِ، وَمَوْصُولَةٌ، خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، إِذْ أَنْكَرَ مَجِيئَهَا مَوْصُولَةً، وَلَا تَكُونُ مَوْصُوفَةً خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ. هَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا مَعَ ضَمِيرِ رَفْعٍ مُنْفَصِلٍ مُبْتَدَأٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِاسْمِ إِشَارَةٍ غَالِبًا، أَوْ مَعَ اسْمِ إِشَارَةٍ لَا لِبُعْدٍ، وَيُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ أَيْ فِي النِّدَاءِ وَبَيْنَ الْمَرْفُوعِ بَعْدَهُ، وَضَمُّهَا فِيهِ لُغَةُ بَنِي مَالِكٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يَقُولُونَ: يَا أَيُّهَ الرَّجُلُ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ. الْخَلْقُ: الِاخْتِرَاعُ بِلَا مِثَالِ، وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ، خَلَقَتِ الْأَدِيمَ قُدْرَتُهُ، قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي قَالَ قُطْرُبٌ: الْخَلْقُ هُوَ الْإِيجَادُ عَلَى تَقْدِيرٍ وَتَرْتِيبٍ، وَالْخَلْقُ وَالْخَلِيقَةُ تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَمَعْنَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْإِحْدَاثِ، وَالْإِبْدَاعِ، وَالِاخْتِرَاعِ، والإنشاء، متقارب. قبل: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا عَامِلٌ فَيُخْرِجُهَا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَّا مِنْ، وَأَصْلُهَا وَصْفٌ نَابَ عَنْ مَوْصُوفِهِ لُزُومًا، فَإِذَا قُلْتَ: قُمْتُ قَبْلَ زَيْدٍ، فَالتَّقْدِيرُ قُمْتُ زَمَانًا قَبْلَ زَمَانِ قِيَامِ زَيْدٍ، فَحُذِفَ هَذَا كُلُّهُ وَنَابَ عَنْهُ قَبْلَ زَيْدٍ. لَعَلَّ: حَرْفُ تَرَجٍّ فِي المحبوبات، وتوقع في المحدورات، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمُمْكِنِ، لَا يُقَالُ: لَعَلَّ الشَّبَابَ يَعُودُ، وَلَا تَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ، خِلَافًا لِقُطْرُبٍ وَابْنِ كَيْسَانَ، وَلَا اسْتِفْهَامًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَفِيهَا لُغَاتٌ لَمْ يَأْتِ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْفُصْحَى، وَلَمْ يُحْفَظْ بَعْدَهَا نَصْبُ الِاسْمَيْنِ، وَحَكَى الْأَخْفَشُ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يجر بِلَعَلَّ، وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةُ بَنِي عَقِيلٍ. الْفِرَاشُ: الْوِطَاءُ الَّذِي يُقْعَدُ عَلَيْهِ وَيُنَامُ وَيُتَقَلَّبُ عَلَيْهِ. الْبِنَاءُ: مَصْدَرٌ، وَقَدْ براد بِهِ الْمَنْقُولُ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قُبَّةٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ طِرَافٍ وَأَبْنِيَةُ الْعَرَبِ أَخْبِيَتِهِمْ. الْمَاءُ: مَعْرُوفٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَوْهَرٌ سَيَّالٌ بِهِ قِوَامُ الْحَيَوَانِ وَوَزْنُهُ(1/151)
فَعَلَ وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ وَهَمْزَتُهُ بَدَلٌ مِنْ هَاءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ: مُوَيْهٌ، وَمِيَاهٌ، وَأَمْوَاهٌ. الثَّمَرَةُ: مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ مِنْ مَطْعُومٍ أَوْ مَشْمُومٍ. النِّدُّ: الْمُقَاوِمُ الْمُضَاهِي مَثَلًا كَانَ أَوْ ضِدًّا أَوْ خِلَافًا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُفَضَّلُ: النِّدُّ: الضِّدُّ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ تَمْثِيلٌ لَا حَصْرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّدُّ: الضد المبغض المناوي مِنَ النُّدُودِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: النِّدُّ: الْكُفُؤُ وَالْمِثْلُ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ اللُّغَةِ سِوَى أَبِي عُبَيْدَةَ. فَإِنَّهُ قَالَ: الضِّدُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النِّدُّ:
الْمِثْلُ، وَلَا يُقَالُ إِلَّا للمثل المخالف للبارىء، قَالَ جَرِيرٌ:
أَتَيَّمًا تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا ... وَمَا تَيَّمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ
وَنَادَدْتُ الرَّجُلَ: خَالَفْتُهُ وَنَافَرْتُهُ، مِنْ نَدَّ نُدُودًا إِذَا نَفَرَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَيْسَ لِلَّهِ نِدٌّ وَلَا ضِدٌّ، نَفَى ما يسد مسد وَنَفَى مَا يُنَافِيهِ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابٌ لِجَمِيعِ مَنْ يَعْقِلُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُنَافِقِينَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ لِكُفَّارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَالظَّاهِرُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ دَعْوَى الْخُصُوصِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَمَا يؤول إِلَيْهِ حَالُ كُلٍّ مِنْهُمْ، انْتَقَلَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ إِلَى خِطَابِ النِّدَاءِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، بَعْدَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ فِيهِ هَزٌّ لِلسَّامِعِ وَتَحْرِيكٌ لَهُ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ صِنْفٍ إِلَى صِنْفٍ، وَلَيْسَ هَذَا انْتِقَالًا مِنَ الْخِطَابِ الْخَاصِّ إِلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ خِطَابٌ خَاصٌّ إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ تَجَوُّزًا فِي الْخِطَابِ بِأَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْكَلَامُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ الْخَاصِّ إِلَى الْكَلَامِ الْعَامِّ، قال هذا المفسر، وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ، فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَ ثُمَّ يَعُمُّونَ. وَلِهَذَا
لَمَا نَزَلَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَصَّ وَعَمَّ، فَقَالَ: «يَا عَبَّاسُ عَمُّ مُحَمَّدٍ لا أغني عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» .
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَا بَنِيَّ انْدُبُوا وَيَا أَهْلَ بَيْتِي ... وَقَبِيلِي عَلَيَّ عاما فعاما
__________
(1) سورة الشعراء: 26/ 214.(1/152)
انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَلْقَمَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكي، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ مَدَنِيٌّ. أَمَّا فِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ. وَأَيٌّ فِي أَيُّهَا مُنَادَى مُفْرَدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، وَلَيْسَتِ الضَّمَّةُ فِيهِ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ وَالرِّيَاشِيِّ، وَهِيَ وَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الألف واللام مَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُنَادَى تَوَصُّلٌ بِنِدَاءِ أَيْ إِلَى نِدَائِهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَهَاءُ التَّنْبِيهِ كَأَنَّهَا عِوَضٌ مِمَّا مُنِعَتْ مِنَ الْإِضَافَةِ وَارْتَفَعَ النَّاسُ عَلَى الصِّفَةِ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ بِنَاءَ أَيْ شَبِيهٌ بِالْإِعْرَابِ، فَلِذَلِكَ جَازَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَوْضِعِ، خِلَافًا لِأَبِي عُثْمَانَ. وَزَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّ أَيًّا فِي النِّدَاءِ مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ الْمَرْفُوعَ بَعْدَهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإِذَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَتَقْدِيرُهُ: يَا مَنْ هُوَ الرَّجُلُ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ مُسْتَقْصًى فِي النَّحْوِ.
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: وَلَمَّا وَاجَهَ تَعَالَى النَّاسَ بِالنِّدَاءِ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ شَمِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. لَا يُقَالُ: الْمُؤْمِنُونَ عَابِدُونَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْأَمْرُ بِمَا هُمْ مُلْتَبِسُونَ بِهِ؟ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمْ أَمْرٌ بِالِازْدِيَادِ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَصَحَّ مُوَاجَهَةُ الْكُلِّ بِالْعِبَادَةِ، وَانْظُرْ لِحُسْنِ مَجِيءِ الرَّبِّ هُنَا، فَإِنَّهُ السَّيِّدُ وَالْمُصْلِحُ، وَجَدِيرٌ بِمَنْ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُصْلِحًا أَحْوَالَ الْعَبْدِ أَنْ يُخَصَّ بِالْعِبَادَةِ وَلَا يُشْرِكَ مَعَ غَيْرِهِ فِيهَا. وَالْخِطَابُ، إِنْ كَانَ عَامًّا، كَانَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكُمْ صِفَةَ مَدْحٍ، وَإِنْ كَانَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانَتْ لِلتَّوْضِيحِ، إِذْ لَفْظُ الرَّبِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ آلِهَتِهِمْ، وَنَبَّهَ بِوَصْفِ الْخَلْقِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ دُونَ غَيْرِهِ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ
«1» ، أَوْ عَلَى امْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ بِالْخَلْقِ عَلَى الصُّورَةِ الْكَامِلَةِ، وَالتَّمْيِيزِ عَنْ غَيْرِهِمْ بِالْعَقْلِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، أَوْ عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَوَصْفُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَلْقِ مُوجِبٌ لِلْعِبَادَةِ، إِذْ هُوَ جَامِعٌ لِمَحَبَّةِ الِاصْطِنَاعِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَالْمُحِبُّ يَكُونُ عَلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الطَّاعَةِ لِمَنْ يُحِبُّ. وَقَالُوا: الْمَحَبَّةُ ثَلَاثٌ، فَزَادُوا مَحَبَّةَ الطِّبَاعِ كَمَحَبَّةِ الْوَالِدِ لِوَلِدِهِ، وَأَدْغَمَ أَبُو عمرو خلقكم، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَلْقِ فِي اللُّغَةِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ وَالْإِنْشَاءِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) سورة النمل: 16/ 17. [.....](1/153)
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَمُقْتَضَى اللُّغَةِ أَنَّهُ قَدْ يُوصَفُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، كَبَيْتِ زُهَيْرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» ، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ «2» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، أُسْتَاذُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَالِقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِكْرِ وَالظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَكَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَكَلَامُ الْبَصْرِيِّ مُصَادِمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ «3» ، إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ اسم الخالق على الله، وَفِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَعَطَفَ قوله: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي خَلَقَكُمْ، وَالْمَعْطُوفُ مُتَقَدِّمٌ فِي الزَّمَانِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَبَدَأَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الزَّمَانِ، لِأَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ غَيْرِهِ، إِذْ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلِأَنَّهُمُ الْمُوَاجَهُونَ بِالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، فَتَنْبِيهُهُمْ أَوَّلًا عَلَى أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ آكَدُ وَأَهَمُّ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِصِفَةِ الْخَلْقِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ مُقِرَّةٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ، إِذْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، جَعَلَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِفَتْحِ مِيمِ مِنْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ وَوَجْهُهَا عَلَى إِشْكَالِهَا أَنْ يُقَالَ: أَقْحَمَ الْمَوْصُولَ الثَّانِيَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَصِلَتِهِ تَأْكِيدًا، كَمَا أَقْحَمَ جَرِيرٌ فِي قَوْلِهِ:
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لَا أَبَا لَكُمُ تَيْمًا الثَّانِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَكَإِقْحَامِهِمْ لَامَ الْإِضَافَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي لَا أَبَا لَكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي خَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةُ زَيْدٍ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ زَعَمَ أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بَعْدَ الْمَوْصُولِ بِمَوْصُولٍ آخَرَ فِي مَعْنَاهُ مُؤَكِّدٍ لَهُ، لَمْ يَحْتَجِ الْمَوْصُولُ الثَّانِي إِلَى صِلَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
مِنَ النَّفَرِ اللَّائِي الَّذِينَ أَذَاهُمُ ... يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ الْبَابِ قَعْقَعُوا
__________
(1) سورة المؤمنون: 23/ 14.
(2) سورة المائدة: 5/ 110.
(3) سورة الحشر: 59/ 24.(1/154)
فَإِذَا وَجَوَابُهَا صِلَةُ اللَّائِي، وَلَا صِلَةَ لِلَّذِينَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا أُكِّدَ الْمَوْصُولُ أَنْ تُكَرِّرَهُ مَعَ صِلَتِهِ لِأَنَّهَا مِنْ كَمَالِهِ، وَإِذَا كَانُوا أَكَّدُوا حَرْفَ الْجَرِّ أَعَادُوهُ مَعَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يُعِيدُونَهُ وَحْدَهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، فَالْأَحْرَى أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي الصِّلَةُ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْهُ. وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا الْبَيْتَ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ لِلْمَوْصُولِ الثَّانِي وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ذَلِكَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمَوْصُولُ فِي مَوْضِعِ الصِّلَةِ لِلْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ من النفر اللائي هُمُ الَّذِينَ أَذَاهُمْ، وَجَازَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ وَإِضْمَارِهِ لِطُولِ خَبَرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ قِرَاءَةُ زَيْدٍ أَنْ يَكُونَ قَبْلَكُمْ صِلَةَ مِنْ، وَمِنْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ الْمُبْتَدَأُ وَخَبَرُهُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِينَ، التَّقْدِيرُ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ صِلَةُ الَّذِينَ قَوْلَهُ: مِنْ قَبْلِكُمْ، وَفِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَعْيَانٌ، وَمِنْ قَبْلِكُمْ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ نَاقِصٌ لَيْسَ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الْأَعْيَانِ فَائِدَةٌ، فَكَذَلِكَ الْوَصْلُ بِهِ إِلَّا عَلَى تأويل، وتأويله أنه يؤول إِلَى أَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ إِذَا وُصِفَ صَحَّ وُقُوعُهُ خَبَرًا نَحْوَ: نَحْنُ فِي يَوْمٍ طَيِّبٍ، كَذَلِكَ يُقَدَّرُ هَذَا وَالَّذِينَ كَانُوا مِنْ زَمَانٍ قَبْلَ زَمَانِكُمْ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَإِنْ كَانَ خَلْقُهُمْ لَا يَقْتَضِي الْعِبَادَةَ عَلَيْنَا لِأَنَّهُمْ كَالْأُصُولِ لَهُمْ، فَخَلْقُ أُصُولِهِمْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَى فُرُوعِهِمْ، فَذَكَّرَهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُصُولِهِمْ بِالْإِيجَادِ.
وَلَيْسَتْ لَعَلَّ هُنَا بِمَعْنَى كَيْ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنَّهَا لِلتَّرَجِّي وَالْإِطْمَاعِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَقَعُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ «1» ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا عَبَدْتُمْ رَبَّكُمْ رَجَوْتُمُ التَّقْوَى، وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْوِقَايَةُ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ تَعَلُّقُهَا بِخَلَقَكُمْ لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُوجَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ بِحَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ تَعَلُّقِهَا بِخَلَقَكُمْ، قَالَ: لَعَلَّ وَاقِعَةٌ فِي الْآيَةِ مَوْقِعَ الْمَجَازِ لَا الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ عِبَادَهُ لِيَتَعَبَّدَهُمْ بِالتَّكْلِيفِ، وَرَكَّبَ فِيهِمُ الْعُقُولَ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ فِي أَقْدَارِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ، وَهَدَاهُمُ النَّجْدَيْنِ، وَوَضَعَ فِي أَيْدِيهِمْ زِمَامَ الِاخْتِيَارِ، وَأَرَادَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ وَالتَّقْوَى، فَهُمْ فِي صُورَةِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوا لِتَرَجُّحِ أَمْرِهِمْ، وَهُمْ مُخْتَارُونَ بَيْنَ الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ، كَمَا تَرَجَّحَتْ حَالُ الْمُرْتَجِي بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مُخْتَارٌ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ اللَّهَ مِنْهُ إِلَّا فِعْلَ الْخَيْرِ، وهي مسألة
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 73.(1/155)
يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ أَنْ يَكُونَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. فَالَّذِي نُودُوا لِأَجْلِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا ذَلِكَ وَأَتَى بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْضِيحِ أَوِ الْمَدْحِ لِلَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْعِبَادَةُ، فَلَمْ يجأ بِالْمَوْصُولِ لِيُحَدِّثَ عَنْهُ بَلْ جَاءَ فِي ضِمْنِ الْمَقْصُودِ بِالْعِبَادَةِ. وَأَمَّا صِلَتُهُ فَلَمْ يجأ بِهَا لِإِسْنَادٍ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ، إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِتَتْمِيمِ مَا قَبْلَهَا. وَإِذَا كَانَ كذلك فكونها لم يجأ بِهَا لِإِسْنَادٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُهْتَمَّ بِهَا فَيَتَعَلَّقُ بِهَا تَرَجٍّ أَوْ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اعْبُدُوا، فَإِنَّهَا الْجُمْلَةُ الْمُفْتَتَحُ بِهَا أَوَّلًا وَالْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ. وَإِذَا تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا، كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا، إِذْ قَوْلُهُ:
اعْبُدُوا خِطَابٌ، وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ خِطَابٌ.
وَلَمَّا اخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَعَلُّقَهُ بِالْخَلْقِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ كَمَا خَلَقَ الْمُخَاطَبِينَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَكَذَلِكَ خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لِذَلِكَ قَصَرَهُ عَلَيْهِمْ دُونَ مَنْ قَبْلَهُمْ، قُلْتُ: لَمْ يَقْصُرْهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ غَلَّبَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْغَائِبِينَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عَلَى إِرَادَتِهِمْ جَمِيعًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا، فَيَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ:
لَعَلَّ مُتَّصِلَةٌ بِاعْبُدُوا لَا بِخَلَقَكُمْ، لِأَنَّ مَنْ دَرَأَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَهَنَّمَ لَمْ يَخْلُقْهُ لِيَتَّقِيَ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: افْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ أَنْ تَتَّقُوا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمَّا جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْخَلْقِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قِيلَ: تَعْبُدُونَ لِأَجْلِ اعْبُدُوا أَوِ اتَّقُوا الْمَكَانَ تَتَّقُونَ لِيَتَجَاوَبَ طَرَفَا النَّظْمِ؟ قُلْتُ: لَيْسَتِ التَّقْوَى غَيْرَ الْعِبَادَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَنَافُرِ النَّظْمِ، وَإِنَّمَا التَّقْوَى قُصَارَى أَمْرِ الْعَابِدِ وَمُنْتَهَى جُهْدِهِ، فَإِذَا قَالَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَقْصَى غَايَاتِ الْعِبَادَةِ كَانَ أَبْعَثُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَأَشَدُّ إِلْزَامًا لَهَا وَأَثْبَتُ لَهَا فِي النُّفُوسِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كَانَ لِأَجْلِ التَّقْوَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِيَتَجَاوَبَ طَرَفَا النَّظْمِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُنَا تَجَاوُبُ طَرَفَيِ النَّظْمِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَوِ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى، إِذْ هُوَ مِثْلُ: اضْرِبْ زَيْدًا لَعَلَّكَ تَضْرِبُهُ، وَاقْصِدْ خَالِدًا لَعَلَّكَ تَقْصِدُهُ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ غَثَاثَةِ اللَّفْظِ وَفَسَادِ الْمَعْنَى، والقرآن متنزه عَنْ ذَلِكَ.
وَالَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، إِذِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْعِبَادَةِ عَلَى رَجَائِهِمْ عِنْدَ حُصُولِهَا حُصُولَ التَّقْوَى لَهُمْ، لِأَنَّ التَّقْوَى مَصْدَرُ اتَّقَى، وَاتَّقَى مَعْنَاهُ اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهَذَا مَرْجُوٌّ حُصُولُهُ عِنْدَ حُصُولِ الْعِبَادَةِ. فَعَلَى هَذَا، الْعِبَادَةُ لَيْسَتْ نَفْسَ التَّقْوَى، لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ هُوَ الاحتزاز عَنِ الْمَضَارِّ، وَالْعِبَادَةُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ نَفْسُ(1/156)
الِاحْتِرَازِ بَلْ يُوجِبُ الِاحْتِرَازَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اعْبُدُوهُ فَتَحْتَرِزُوا عَنْ عِقَابِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ اتِّقَاءً فَهُوَ مَجَازٌ، وَمَفْعُولُ يَتَّقُونَ مَحْذُوفٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
النَّارُ، أَوْ مَعْنَاهُ تُطِيعُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ قَالَ الْمَعْنَى الَّذِي خَلَقَكُمْ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ خَلَقَهُمْ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى كَانُوا مُطِيعِينَ مَجْبُولِينَ عَلَيْهَا، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي أَنَّهُمْ لَوْ خُلِقُوا وَهُمْ رَاجُونَ لِلتَّقْوَى لَكَانَ ذَلِكَ مَرْكُوزًا فِي جِبِلَّتِهِمْ، فَكَانَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ غَيْرُ التَّقْوَى وَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلِ الْمَعَاصِي هِيَ الْوَاقِعَةُ كَثِيرًا، وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، وَقَدْ يُخْلَقُ الْإِنْسَانُ رَاجِيًا لِشَيْءٍ فَلَا يَقَعُ مَا يَرْجُوهُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا يَفْعَلُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ، بَلْ نَجِدُ الْإِنْسَانَ يَعْتَقِدُ رُجْحَانَ التَّرْكِ فِي شَيْءٍ ثُمَّ هُوَ يَفْعَلُهُ، وَلَقَدْ صَدَقَ الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:
عِلْمِي بِقُبْحِ الْمَعَاصِي حِينَ أَرْكَبُهَا ... يَقْضِي بِأَنِّي مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَرِ
فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رَجَاءِ الْإِنْسَانِ لِشَيْءٍ وُقُوعُ مَا يُرْتَجَى، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ، أَعْنِي تَقْدِيرَ الْحَالِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ لعل للا يشاء، فَهِيَ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَيْسَتْ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً فَيَصِحُّ وُقُوعُهَا حَالًا.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: هذه الآية، يريد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَالْمَوْصُولُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ يَجُوزُ رَفْعُهُ وَنَصْبُهُ، فَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الْقَطْعِ، إِذْ هُوَ صِفَةُ مَدْحٍ، قَالُوا: أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صِلَةَ الَّذِي وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا قَدْ مَضَيَا، فَلَا يُنَاسِبُ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، لِأَنَّ مِنَ الرَّوَابِطِ عِنْدَهُ تَكْرَارُ الْمُبْتَدَأِ بِمَعْنَاهُ، فَالَّذِي مُبْتَدَأٌ، وفَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَالرَّابِطُ لَفْظُ اللَّهِ مِنْ لِلَّهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، وَهَذَا مِنْ تَكْرَارِ الْمُبْتَدَأِ بِمَعْنَاهُ.
وَلَا نَعْرِفُ إِجَازَةَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ. أَجَازَ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ قَامَ أَبُو عَمْرٍو، إِذَا كَانَ أَبُو عَمْرٍو كُنْيَةً لِزَيْدٍ، وَنَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ. وَأَمَّا نَصْبُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَطْعِ، إِذْ هُوَ وُصْفُ مَدْحٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِمَا كَانَ لَهُ وَصْفًا الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَهُوَ رَبُّكُمْ، قَالُوا: وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَيَكُونُ نَعْتًا لِلنَّعْتِ وَنَعْتُ النَّعْتِ مِمَّا يُحِيلُ تَكْرَارَ النُّعُوتِ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ النَّعْتَ لَا يُنْعَتُ، بَلِ النُّعُوتُ كُلُّهَا(1/157)
رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعُوتٍ وَاحِدٍ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّعْتُ لَا يُمْكِنُ تَبَعِيَّتُهُ لِلْمَنْعُوتِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ نَعْتًا لِلنَّعْتِ الْأَوَّلِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: يَا أَيُّهَا الْفَارِسُ ذُو الْجُمَّةِ. وَأَجَازَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ نَصْبَهُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِمُلْتَبِسٍ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مُفَسِّرٍ لَهُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَأَجَازَ أَيْضًا نَصْبَهُ بِتَتَّقُونَ، وَهُوَ إِعْرَابٌ غَثٌّ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وَإِنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ الَّذِي دُونَ وَاوٍ لِتَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ وَمَا قَبْلَهَا رَاجِعِينَ إِلَى مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْ كَانَتْ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ ذَلِكَ مَوْصُوفًا آخَرَ، لِأَنَّ الْعَطْفَ أَصْلُهُ الْمُغَايَرَةُ.
وَجَعَلَ: بِمَعْنَى صَيَّرَ، لِذَلِكَ نُصِبَتِ الْأَرْضُ. وَفِرَاشًا، وَلَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَنْتَصِبَ فِرَاشًا وَبِنَاءً عَلَى الْحَالِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَغَايَرَ اللَّفْظَ كَمَا غَايَرَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «1» ، لِأَنَّهُ قَصَدَ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَتَيْنِ، فَغَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ فِي الْفَصَاحَةِ، كَاخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَالْمَدْلُولِ وَاحِدٌ. وَأَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو لَامَ جَعَلَ فِي لَامِ لَكُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَرْضِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ الْخَاصِّ، فَيَكُونَ الْمُرَادُ أَرْضًا مَخْصُوصَةً، وَهِيَ كُلُّ مَا تَمَهَّدَ وَاسْتَوَى مِنَ الْأَرْضِ وَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ فِرَاشًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِرَاشِ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ وَاللُّبْثِ لِكُلِّ حَيَوَانٍ. فَالْوَهْدُ مُسْتَقَرُّ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْجِبَالُ وَالْحُزُونُ مُسْتَقَرٌّ لِبَعْضِ الْآدَمِيِّينَ بُيُوتًا أَوْ حُصُونًا وَمَنَازِلَ، أَوْ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَحْشًا وَطَيْرًا يَفْتَرِشُونَ مِنْهَا أَوْكَارًا، وَيَكُونُ الِامْتِنَانُ عَلَى هَذَا مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ لَهُ قَرَارًا. وَغَلَبَ خِطَابُ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ، أَوْ يَكُونُ خِطَابُ الِامْتِنَانِ وَقَعَ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُعَدٌّ لِمَنَافِعِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، فَخَلَقَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمِنَّةِ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ. وَقَرَأَ يَزِيدٌ الشَّامِيُّ: بِسَاطًا، وَطَلْحَةُ:
مِهَادًا. وَالْفِرَاشُ، وَالْمِهَادُ، وَالْبِسَاطُ، وَالْقَرَارُ، وَالْوِطَاءُ نَظَائِرُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ بِقَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً عَلَى أَنَّ الأرض مبسوطة لا كرية، وبأنها لو كانت كرية مَا اسْتَقَرَّ مَاءُ الْبِحَارِ فِيهَا. أَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ مسطحة ولا كرية، إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّاسَ يَفْتَرِشُونَهَا كَمَا يَتَقَلَّبُونَ بِالْمَفَارِشِ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى شَكْلِ السَّطْحِ أَوْ عَلَى شَكْلِ الْكُرَةِ، وَأَمْكَنَ الِافْتِرَاشُ فِيهَا لِتَبَاعُدِ أَقْطَارِهَا وَاتِّسَاعِ جِرْمِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا كَانَ يَعْنِي الِافْتِرَاشُ سَهْلًا فِي الْجَبَلِ، وَهُوَ وَتَدٌ مِنْ أَوْتَادِ الْأَرْضِ، فَهُوَ أَسْهَلُ فِي الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 1.(1/158)
وَالْعَرْضِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِاسْتِقْرَارِ مَاءِ الْبِحَارِ فِيهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أن تكون كرية وَيَكُونُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا مُنْسَطَحٌ يَصْلُحُ لِلِاسْتِقْرَارِ، وَمَاءُ الْبَحْرِ مُتَمَاسِكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِمُقْتَضَى الْهَيْئَةِ، انْتَهَى قَوْلُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون بعض الشكل الكري مَقَرًّا لِلْمَاءِ إِذَا كَانَ ذلك الشَّكْلُ ثَابِتًا غَيْرَ دَائِرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ دَائِرًا فَيَسْتَحِيلُ عَادَةً قَرَارُهُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الشكل الكريّ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بِناءً: هُوَ تَشْبِيهٌ بِمَا يُفْهَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ «1» ، شُبِّهَتْ بِالْقُبَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُقَالُ لِسَقْفِ الْبَيْتِ بِنَاءٌ، وَالسَّمَاءُ لِلْأَرْضِ كَالسَّقْفِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقِيلَ: سَمَّاهَا بِنَاءً، لِأَنَّ سَمَاءَ الْبَيْتِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً غَيْرَ بِنَاءٍ، كَالْخِيَامِ وَالْمَضَارِبِ وَالْقِبَابِ، لَكِنَّ الْبَنَاءَ أَبْلَغُ فِي الْإِحْكَامِ وَأَتْقَنُ فِي الصَّنْعَةِ وَأَمْنَعُ لِوُصُولِ الْأَذَى إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، فَوَصَفَ السَّمَاءَ بِالْأَبْلَغِ وَالْأَتْقَنِ وَالْأَمْنَعِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِظْهَارِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ حِكْمَتِهِ، إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّ كُلَّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ لَا يَتَهَيَّأُ إِلَّا بِأَسَاسٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ بِعَمْدٍ وَأَطْنَابٍ مَرْكُوزَةٍ فِيهَا، وَالسَّمَاءُ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِظَمِ، وَهِيَ سَبْعُ طِبَاقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَعَلَيْهَا مِنْ أَثْقَالِ الْأَفْلَاكِ وَأَجْنَاسِ الْأَمْلَاكِ وَأَجْرَامِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي لَا يُعَبَّرُ عَنْ عِظَمِهَا وَلَا يُحْصَى عَدَدُهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَسَاسٍ يُمْسِكُهَا وَلَا عَمَدٍ تُقِلُّهَا وَلَا أَطْنَابَ تَشُدُّهَا، وَهِيَ لَوْ كَانَتْ بِعَمَدٍ وَأَسَاسٍ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَحْكَمِ الْمُبْدِعَاتِ، فَكَيْفَ وَهِيَ عَارِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ مُمْسَكَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «2» . وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِنَاءً لِتَمَاسُكِهَا كَمَا يَتَمَاسَكُ الْبِنَاءُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ.
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ السَّحَابُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنَ السُّمُوِّ، وَلَا يَجُوزُ الْإِضْمَارُ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي فَحُسْنُ الْإِظْهَارِ دُونَ الْإِضْمَارِ هُنَا كَونُ السَّمَاءِ الْأُولَى فِي ضِمْنِ جُمْلَةٍ، وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ بِنَفْسِهَا أَنْ تَكُونَ صِلَةً تَامَّةً لَوْلَا عَطْفُهَا، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْزَلَ وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَاءٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ نَعْتًا فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهَا إِذْ ذَاكَ التَّبْعِيضُ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ مضاف محذوف أي من مِيَاهِ السَّمَاءِ وَنَكَّرَ. مَاءً لِأَنَّ الْمَنْزِلَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَإِنَّمَا هُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ. فَأُخْرِجَ بِهِ: وَالْهَاءُ فِي بِهِ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَاءِ، وَالْبَاءُ معناها
__________
(1) سورة الذاريات: 51/ 47.
(2) سورة فاطر: 35/ 41.(1/159)
السَّبَبِيَّةُ. فَالْمَاءُ سَبَبٌ لِلْخُرُوجِ، كَمَا أَنَّ مَاءَ الْفَحْلِ سَبَبٌ فِي خَلْقِ الْوَلَدِ، وَهَذِهِ السَّبَبِيَّةُ مَجَازٌ، إِذِ الْبَارِي تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أن ينشىء الْأَجْنَاسَ، وَقَدْ أَنْشَأَ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَدَ خَلْقَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ أَمْرٍ مَا، أَجْرَى ذَلِكَ الْأَمْرَ مَجْرَى السَّبَبِ لَا أَنَّهُ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ. وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي إِنْشَاءِ الْأُمُورِ مُنْتَقِلَةً مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ حِكَمٌ يُسْتَنْصَرُ بِهَا، لَمْ يَكُنْ فِي إِنْشَائِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ أَطْوَارٍ، لِأَنَّ فِي كُلِّ طَوْرٍ مُشَاهَدَةَ أَمْرٍ مِنْ عَجِيبِ التَّنَقُّلِ وَغَرِيبِ التَّدْرِيجِ تَزِيدُ الْمُتَأَمِّلَ تَعْظِيمًا لِلْبَارِي. مِنَ الثَّمَرَاتِ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الثَّمَرَاتِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ارْتِكَابِ أَنَّ الثَّمَرَاتِ مِنْ بَابِ الْجُمُوعِ الَّتِي يَتَفَاوَتُ بَعْضُهَا مَوْضِعَ بَعْضٍ لِالْتِقَائِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ، نَحْوُ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ «1» ، وثَلاثَةَ قُرُوءٍ «2» ، فَقَامَتِ الثَّمَرَاتُ مَقَامَ الثَّمَرِ أَوِ الثِّمَارِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَهُوَ وإن كان جمع قلة، فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي لِلْعُمُومِ تَنْقِلُهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ لِجَمْعِ الْقِلَّةِ لِلْعُمُومِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَرَاتِ وَالثِّمَارِ، إِذِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِيهِمَا، وَلِذَلِكَ رَدَّ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْ نَقَدَ عَلَى حَسَّانَ قَوْلَهُ:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الغر يا معن فِي الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا
بِأَنَّ هَذَا جَمْعَ قِلَّةٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى زَعْمِهِ أَنْ يَقُولَ: الْجِفَانُ وَسُيُوفُنَا، وَهُوَ نَقْدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ يَنْقِلُهُ، وَأَبْعَدُ مَنْ جَعَلَ مِنْ زَائِدَةً، وَجَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زِيَادَةَ مِنْ فِي الْوَاجِبِ، وَقِيلَ مَعْرِفَةً، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ إِلَّا الْأَخْفَشُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الثَّمَرَاتِ الَّتِي أَخْرَجَهَا رِزْقًا لَنَا، وَكَمْ مِنْ شَجَرَةٍ أَثْمَرَتْ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رِزْقًا لَنَا، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ كَانَ بَعْضُ الثِّمَارِ رِزْقًا لَنَا وَبَعْضُهَا لَا يَكُونُ رِزْقًا لَنَا، وَهُوَ الْوَاقِعُ. وَنَاسَبَ فِي الْآيَةِ تَنْكِيرُ الْمَاءِ وَكَوْنُ مِنْ دَالَّةٍ عَلَى التَّبْعِيضِ وَتَنْكِيرُ الرِّزْقِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ الْمَاءِ فَأَخْرَجَ بِهِ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ بَعْضَ رِزْقٍ لَكُمْ، إِذْ لَيْسَ جَمِيعُ رِزْقِهِمْ هُوَ بَعْضُ الثَّمَرَاتِ، إِنَّمَا ذَلِكَ بَعْضُ رِزْقِهِمْ، وَمِنَ الثَّمَرَاتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ بِأَخْرَجَ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا رِزْقًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَرْزُوقُ كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ، أَوْ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ لَهُ فِيهِ مَوْجُودَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَخْرَجَ، وَيَكُونُ رِزْقًا مَفْعُولًا بِأَخْرَجَ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: مِنَ الثَّمَرَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، يُرِيدُ به
__________
(1) سورة الدخان: 44/ 25.
(2) سورة البقرة: 2/ 228.(1/160)
الْجَمْعَ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ أُدْرِكَتْ ثَمَرَةُ بُسْتَانِهِ، يُرِيدُونَ ثِمَارَهُ. وَقَوْلُهُمْ: لِلْقَصِيدَةِ كَلِمَةً، وَلِلْقَرْيَةِ مَدَرَةً، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْإِفْرَادَ. وَلَكُمْ: إِنْ أُرِيدَ بِالرِّزْقِ الْمَصْدَرُ كَانَتِ الْكَافُ مَفْعُولًا بِهِ وَاللَّامُ مَنَوِيَّةً لِتَعَدِّي الْمَصْدَرِ إِلَيْهِ نَحْوَ: ضَرَبْتُ ابْنِي تَأْدِيبًا لَهُ، أَيْ تَأْدِيبَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَرْزُوقَ كَانَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنًا لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ مُتَعَلِّقًا بِأَخْرَجَ، أَيْ فَأَخْرَجَ لَكُمْ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا. وَانْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: رِزْقًا لَكُمْ ذَكَرَ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ: اثْنَيْنِ مِنَ الْأَنْفُسِ خَلْقَهُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَثَلَاثَةً مِنْ غَيْرِ الْأَنْفُسِ كَوْنُ الْأَرْضِ فِرَاشًا وَكَوْنُ السَّمَاءِ بِنَاءً، وَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا تَقَدُّمُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَثَنَّى بِخَلْقِ الْآبَاءِ، وَثَلَّثَ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدَّمَ السَّمَاءَ عَلَى نُزُولِ الْمَطَرِ وَإِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ، لِأَنَّ هَذَا كَالْأَمْرِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْأَثَرُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمُؤَثِّرِ. وَقِيلَ: قَدَّمَ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ خَلْقَهُمْ أَحْيَاءً قَادِرِينَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ. وَأَمَّا خَلْقُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالثَّمَرِ، فَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِشَرْطِ حُصُولِ الْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْعَقْلِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَمَنْ قَالَ السَّمَاءَ أَفْضَلُ قَالَ: لِأَنَّهَا مُتَعَبَّدُ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ بُقْعَةٍ عصى الله فيها، وَلِأَنَّ آدَمَ لَمَّا عَصَاهُ قَالَ:
لَا تَسْكُنُ جِوَارِي، وَلِتَقْدِيمِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ، وَلِأَنَّ فِيهَا الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَاللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ وَالْقَلَمَ، وَأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ. وَمَنْ قَالَ الْأَرْضُ أَفْضَلُ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ مِنْهَا بِقَاعًا بِالْبَرَكَةِ، وَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَخْلُوقُونَ مِنْهَا، وَلِأَنَّهَا مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ.
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، وَسُمُّوا أَنْدَادًا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ أَشْرَكُوهُمْ مَعَهُ تَعَالَى فِي التَّسْمِيَةِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْعِبَادَةُ صُورَةٌ لَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ لِذَوَاتِهِمْ بَلْ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يُسَمُّونَ اللَّهَ إِلَهَ الْآلِهَةِ وَرَبَّ الْأَرْبَابِ، وَمَنْ شَابَهَ شَيْئًا فِي وَصْفِ مَا قِيلَ: هُوَ مِثْلُهُ وَشَبَهُهُ وَنِدُّهُ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ دُونَ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ بِصُورَةِ الْجَمْعِ هُوَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا لَهُ تَعَالَى نِدًّا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا جَعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا كَثِيرَةً، فَجَاءَ النَّهْيُ عَلَى مَا كَانُوا اتَّخَذُوهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ ... أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الْأُمُورُ
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّمَيْفَعِ: نِدًّا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَاحِدًا بَلْ أَنْدَادًا، وَهَذَا(1/161)
النَّهْيُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، أَيْ فَوَحِّدُوهُ وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، لِأَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ هُوَ التَّوْحِيدُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِلَعَلَّ، عَلَى أَنْ يَنْتَصِبَ تَجْعَلُوا انْتِصَابَ فَأَطَّلِعَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى «1» ، فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، أَيْ خَلَقَكُمْ لِكَيْ تَتَّقُوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ فَلَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ لَا نَاهِيَةً بَلْ نَافِيَةً، وَتَجْعَلُوا مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ التَّرَجِّي، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، أَجْرَوْا لَعَلَّ مَجْرَى هَلْ. فَكَمَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَنْصِبُ الْفِعْلَ فِي جَوَابِهِ فَكَذَلِكَ التَّرَجِّي. فَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْلِيقُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بِخَلَقَكُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى تَقْدِيرِهِ أَيْ خَلَقَكُمْ لِكَيْ تَتَّقُوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ؟ فَلَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالَّذِي إِذَا جَعَلْتَهُ خبر مبتدأ محذوف، أي هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّلَائِلِ النَّيِّرَةِ الشَّاهِدَةِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَلَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا. وَالظَّاهِرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَفِيهَا مِنَ التَّحْرِيكِ إِلَى تَرْكِ الْأَنْدَادِ وَإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ مَا لَا يَخْفَى، أَيْ أَنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَالْإِدْرَاكِ لِلَطَائِفِ الْأَشْيَاءِ وَالِاسْتِخْرَاجِ لِغَوَامِضِ الدَّلَائِلِ، فِي الرُّتْبَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ لِمَنْ تَحَلَّى بِهَا أَنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَهُ. إِذْ ذَاكَ فِعْلَ مَنْ كَانَ أَجْهَلَ الْعَالَمِ وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْفِطْنَةِ وَأَكْثَرَهُمْ تَجْوِيزًا لِلْمُسْتَحِيلَاتِ. وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَالتَّمْيِيزُ تَخْصِيصُ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، لِأَنَّهُ فَسَّرَ تَعْلَمُونَ بِمَعْنَى تَعْقِلُونَ، وَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خلق السموات وَأَنْزَلَ الْمَاءَ، وَفَعَلَ مَا شَرَحَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَمَعْنَى هَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ، أَوْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابَيْكُمُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا حِجَارَةٌ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنَ التَّفَاوُتِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَا تَفْعَلُ مِثْلَ أَفْعَالِهِ كَقَوْلِهِ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ «2» ؟ قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلُوا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلنَّاسِ الْمَأْمُورِينَ بِاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَقَاوِيلُ السَّلَفِ في ذلك.
__________
(1) سورة غافر: 40/ 36- 37.
(2) سورة الروم: 30/ 40.(1/162)
قَالَ ابْنُ فُورَكَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، الْمَعْنَى: فَلَا تَرْتَدُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا بَعْدَ عِلْمِكُمْ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ نَفْيُ الْجَهْلِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ، هَذِهِ الْآيَةُ تُعْطِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى الْإِنْسَانَ بِنِعَمِهِ هَذِهِ عَنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَمَنْ أَحْوَجَ نَفْسَهُ إِلَى بِشَرٍ مِثْلِهِ بِسَبَبِ الْحِرْصِ وَالْأَمَلِ وَالرَّغْبَةِ فِي زُخْرُفِ الدُّنْيَا، فَقَدْ أَخَذَ بِطَرَفِ مَنْ جَعَلَ نِدًّا، انْتَهَى. وَقَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ يُعْطِي أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى الْإِنْسَانَ، خَطَأٌ فِي التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ أَعْطَى لَا تَنُوبُ أَنَّ وَمَعْمُولَاهَا مَنَابَ مَفْعُولَيْهَا، بِخِلَافِ ظَنَّ، فَإِنَّهَا تَنُوبُ مَنَابَ مَفْعُولَيْهَا، وَلِذَلِكَ سِرٌّ ذُكِرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: اخْتَصَّ تَعَالَى بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ: الْخِلْقَةُ الْبَشَرِيَّةُ، وَالْبِنْيَتَانِ الْأَرْضِيَّةُ وَالسَّمَاوِيَّةُ، لِأَنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ وَمَسْرَحُ الْإِبْصَارِ وَمَوَاطِنُ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَبِهَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَقَدَّمَ الْخِلْقَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَالَمِ الْأَصْغَرِ، لِمَا فِيهَا مِنْ بَدَائِعِ الصَّنْعَةِ مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ وَصْفُ لِسَانٍ وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ فِكْرُ جَنَانٍ، وَظُهُورُ حُسْنِ الصَّنْعَةِ فِي الْأَشْيَاءِ اللَّطِيفَةِ الْجِرْمِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْأَجْرَامِ الْعِظَامِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِي تَقَلُّبِ أَحْوَالِهِ أَقْرَبُ إِلَى ذِهْنِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «1» ، أَوْ لِأَنَّ الْعَرَبَ عَادَتُهَا تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ عِنْدَهَا وَالْمُعْتَنَى بِهِ، قَالَ: وَهُوَ تَعَالَى بِإِصْلَاحِ حَالِ الْبِنْيَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَكْثَرُ اهْتِمَامًا مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «2» الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَنَافِعَ لِبَنِي آدَمَ وَأَعَدَّهَا نِعَمًا يَمْتَنُّ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَذِكْرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذِكْرِ النِّعْمَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَهُمْ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مَكَانًا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَتْ حِكْمَتُهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، فَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ جُلُوسًا وَنَوْمًا وَتَصَرُّفًا فِي مَعَايِشِهِمْ، وَجَعَلَ مِنْهُ سَهْلَا لِلْقَرَارِ وَالزَّرْعِ، وَوَعْرًا لِلِاعْتِصَامِ، وَجِبَالًا لِسُكُونِ الْأَرْضِ مِنَ الِاضْطِرَابِ. ثُمَّ لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْمُسْتَقَرِّ أَخْبَرَهُمْ بِجَعْلِ مَا يَقِيهِمْ وَيُظِلُّهُمْ، وَجَعَلَهُ كَالْخَيْمَةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ فِيهَا مِنْ غَرَائِبِ الْحِكْمَةِ بِأَنْ أَمْسَكَهَا فَوْقَهُمْ بِلَا عَمَدٍ وَلَا طَنَبٍ لِتَهْتَدِيَ عُقُولُهُمْ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، ثُمَّ نَبَّهْهُمْ عَلَى النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَهِيَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ وَسَبَبُ اهْتِزَازِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَأَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَمْكَنُ فِي الْحِكْمَةِ، وَأَتَمُّ فِي النِّعْمَةِ وأكبر في
__________
(1) سورة الذاريات: 51/ 21.
(2) سورة الإسراء: 17/ 70.(1/163)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
الْمِقْدَارِ، لِأَنَّ السَّقْفَ وَالْبُنْيَانَ، فِيمَا يُعْهَدُ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَسَاسٍ وَعَمَدٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَى الْأَرْضِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهَا، إِذْ عَلَى مَتْنِهَا يُوضَعُ الْأَسَاسُ وَتَسْتَقِرُّ الْقَوَاعِدُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُ السَّقْفِ أَوَّلًا قَبْلَ ذِكْرِ الْأَرْضِ الَّتِي تَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا قَوَاعِدُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ خَلْقَهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ وَمَهَّدَ رَوَاسِيهَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ «1» إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي بِذِكْرِ الْأَدْنَى إِلَى ذِكْرِ الْأَعْلَى.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مِنْ بَدَائِعِ الصَّنْعَةِ، وَدَقَائِقِ الْحِكْمَةِ، وَظُهُورِ الْبَرَاهِينِ، مَا اقْتَضَى تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِيجَادِ، الْمُتَكَفِّلُ لِلْعِبَادِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، الَّتِي لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ وَلَا لَهَا نَفْعٌ وَلَا ضَرٌّ، أَلَا لِلَّهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ: لَمَّا امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِمْ، وَأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُتَوَالِدِينَ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، مَخْلُوقِينَ مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى، هُوَ تَعَالَى خَالِقُهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمُصَوِّرُهُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَمُخْرِجُهُمْ طِفْلًا، وَمُرَبِّيهِمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ غِذَاءٍ وَشَرَابٍ وَلِبَاسٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَدْعُو حَاجَتَهُمْ إِلَيْهَا فَجَعَلَ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ فِرَاشٌ مِثْلَ الْأُمِّ الَّتِي يَفْتَرِشُهَا الزَّوْجُ، وَهِيَ أَيْضًا تُسَمَّى فِرَاشًا، وَشَبَّهَ السَّمَاءَ الَّتِي عَلَتْ عَلَى الْأَرْضِ بِالْأَبِ الَّذِي يَعْلُو عَلَى الْأُمِّ وَيَغْشَاهَا، وَضَرَبَ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ مَثَلًا لِلنُّطْفَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مَنْ صُلْبِ الْأَبِ، وَضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْوَلَدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ، يُؤْنِسُ تَعَالَى بِذَلِكَ عُقُولَهُمْ وَيُرْشِدُهَا إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ التَّخْلِيقِ، وَيُعَرِّفُهَا أَنَّهُ الْخَالِقُ لِهَذَا الْوَلَدِ وَالْمُخْرِجُ لَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، كَمَا أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلثَّمَرَاتِ وَمُخْرِجُهَا مِنْ بُطُونِ أَشْجَارِهَا، وَمُخْرِجُ أَشْجَارِهَا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَوْضَحَ ذَلِكَ لَهُمْ أَفْرَدُوهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَخَصُّوهُ بِالْعِبَادَةِ، وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ. قَوْلُهُ تعالى:
[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
إِنْ: حَرْفٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ يَكُونُ شَرْطًا، وَهُوَ أَصْلُ أَدَوَاتِهِ، وَحَرْفُ نَفْيٍ، وَفِي إِعْمَالِهِ إِعْمَالَ مَا الْحِجَازِيَّةِ خِلَافٌ، وَزَائِدًا مُطَّرِدًا بَعْدَ مَا النَّافِيَةِ، وَقَبْلَ مُدَّةِ الْإِنْكَارِ، وَلَا تَكُونُ
__________
(1) سورة فصلت: 41/ 9. [.....](1/164)
بِمَعْنَى إِذْ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَلَا يُعَدُ مِنْ مَوَاضِعِهِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّهَا ثُلَاثِيَّةُ الْوَضْعِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُهَا فِي التَّصْغِيرِ. الْعَبْدُ: لُغَةً الْمَمْلُوكُ الذَّكَرُ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا. الْإِتْيَانُ: الْمَجِيءُ، وَالْأَمْرُ مِنْهُ: ائْتِ، كَمَا جَاءَ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَشَذَّ حَذْفُ فَائِهِ فِي الْأَمْرِ قِيَاسًا وَاسْتِعْمَالًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
تِ لِي آلَ عَوْفٍ فَانَدُّهُمْ لِي جَمَاعَةً ... وَسَلْ آلَ عَوْفٍ أَيُّ شَيْءٍ يُضِيرُهَا
وَقَالَ آخَرُ:
فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبِرُّكُمْ ... فُتُونًا قِفُوا دُونًا إِذَنْ بِالْجَرَائِمِ
السُّورَةُ: الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً؟ وَسُمِّيَتْ سُورَةُ الْقُرْآنِ بِهَا لِأَنَّ قَارِئَهَا يُشْرِفُ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، كُسُورِ الْبِنَاءِ. وَقِيلَ: لِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّاقَةِ التَّامَّةِ: سُورَةٌ، أَوْ لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْ أَسْأَرَتْ، وَالسُّؤْرِ فَأَصْلُهَا الْهَمْزُ وَخُفِّفَتْ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْهَمْزُ فِيهَا لُغَةٌ. مِنْ مِثْلِهِ: الْمُمَاثَلَةُ تَقَعُ بِأَدْنَى مُشَابَهَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ مِثْلِكَ، يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً، وَلَفْظَةُ مَثَلٍ لَازِمَةُ الْإِضَافَةِ لَفْظًا، وَلِذَلِكَ لَحَنَ بَعْضُ الْمُوَلَّدِينَ فِي قَوْلِهِ:
وَمِثْلُكَ مَنْ يَمْلِكُ النَّاسَ طُرًّا ... عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّاسِ مَثَلُ
وَلَا يَكُونُ مَحَلًّا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ. وَلَهُ فِي بَابِ الصِّفَةِ، إِذَا جَرَى عَلَى مُفْرَدٍ وَمُثَنَّى وَمَجْمُوعٍ، حُكْمٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. الدُّعَاءُ: الْهَتْفُ بِاسْمِ الْمَدْعُوِّ. الشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ، لِلْمُبَالَغَةِ، كَعَلِيمٍ وَعُلَمَاءُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَاهِدٍ، كَشَاعِرٍ وَشُعَرَاءَ، وَلَيْسَ فُعَلَاءُ بَابَ فَاعِلٍ، دُونَ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُلَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْمَجَازِيَّةِ، وَلَا يتصرف فيه بغير من. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا دُونَكَ فَلَا يُرْفَعُ أَبَدًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ ذَكَرَ دُونَكَ وَظُرُوفًا نَحْوَهَا لَا تُسْتَعْمَلُ أَسْمَاءً مَرْفُوعَةً عَلَى اخْتِيَارٍ، وَرُبَّمَا رَفَعُوا. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْأَخْفَشِ: جَوَازُ تَصَرُّفِهِ، خَرَّجَ قَوْلَهُ تَعَالَى وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنِي، وَقَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا فِي الشِّعْرِ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَرَنِي أَنِّي حَمَيْتُ حَقِيبَتِي ... وَبَاشَرْتُ حَدَّ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ دُونَهَا
وَتَجِيءُ دُونَ صِفَةٍ بِمَعْنَى رَدِيءٍ، يُقَالُ: ثَوْبٌ دُونَ، أَيْ رَدِيءٌ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يُعْرَبُ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ وَيَكُونُ دُونَ مُشْتَرَكًا. الصِّدْقُ: يُقَابِلُهُ الْكَذِبُ، وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ. لَنْ: حَرْفُ نَفْيٍ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ بَسِيطٌ، لَا مُرَكَّبٌ مِنْ لا إن خِلَافًا(1/165)
لِلْخَلِيلِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَلَا نُونُهَا بَدَلٌ مِنْ أَلِفٍ، فَيَكُونُ أَصْلُهَا لَا خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ، وَلَا يَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، ولا هِيَ أَقْصَرُ نَفْيًا مِنْ لَا إِذْ لَنْ تَنْفِي مَا قَرُبَ، وَلَا يَمْتَدُّ مَعْنَى النَّفْيِ فِيهَا كَمَا يَمْتَدُّ فِي لَا خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَلَا يَكُونُ دُعَاءً خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَعَمَلُهَا النَّصْبُ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْجَزْمَ بِهَا لُغَةٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ:
لَنْ يَخِبِ الْآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ ... حَرَّكَ دُونَ بَابِكَ الْحَلَقَةْ
وَلَهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. الْوَقُودُ: اسْمٌ لِمَا يُوقَدُ بِهِ، وَقَدْ سُمِعَ مَصْدَرًا، وَهُوَ أَحَدُ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، لَمْ يُحْفَظْ مِنْهَا، فِيمَا ذَكَرَ، الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ سِوَى هَذَا، وَالْوُضُوءُ وَالطَّهُورُ وَالْوُلُوعُ وَالْقَبُولُ، الْحِجَارَةُ: جَمْعُ الْحَجَرِ، وَالتَّاءُ فِيهَا لِتَأْكِيدِ تَأْنِيثِ الْجَمْعِ كَالْفُحُولَةِ. أُعِدَّتْ: هُيِّئَتْ.
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا بِهِ مُحَمَّدٌ لَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا يُثْبِتُ الْوَحْدَانِيَّةَ وَيُبْطِلُ الإشراك، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا فَهُوَ بِمَعْزِلٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ، أَخَذَ يَحْتَجُّ عَلَى مَنْ شَكَّ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُ، وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً، وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِهِ، بِأَنْ يَأْتُوا هُمْ وَمَنْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ بِسُورَةِ هَذَا، وَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْبُلَغَاءُ الْمُجِيدُونَ حَوْكَ الْكَلَامِ، مِنَ النِّثَارِ والنظام والمتقلبون فِي أَفَانِينِ الْبَيَانِ، وَالْمَشْهُودُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانُوا فِي رَيْبٍ حَقِيقَةً، وَكَانَتْ إِنِ الشَّرْطِيَّةُ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُمْكِنِ أَوِ الْمُحَقَّقِ الْمُبْهَمِ زَمَانَ وُقُوعِهِ، ادَّعَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ إِنْ هُنَا مَعْنَاهَا: إِذَا، لِأَنَّ إِذَا تُفِيدُ مُضِيَّ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ إِنْ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى إِذَا. وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ لِكَانَ الْمَاضِيَةِ النَّاقِصَةِ مَعَانٍ حُكْمًا لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ، فَلِقُوَّةِ كَانَ زَعَمَ أَنَّ إِنْ لَا يُقْلَبُ مَعْنَاهَا إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، بَلْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ إِنْ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ كَانَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَتَأَوَّلُوا مَا ظَاهِرُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، إِمَّا عَلَى إِضْمَارٍ يَكُنْ بَعْدَ إِنْ نَحْوَ: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ «1» أَيْ إِنْ يَكُنْ كَانَ قَمِيصُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّبْيِينُ، أَيْ أَنْ يَتَبَيَّنَ كَوْنُ قَمِيصِهِ قدّ.
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 26.(1/166)
فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ كَوْنُهُمْ فِي رَيْبٍ مَاضِيًا، وَيَصِيرُ نَظِيرَ مَا لَوْ جَاءَ إِنْ كُنْتَ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَقَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، إِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَمْ يُتَأَوَّلْ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ: جَرَى كَلَامُ اللَّهِ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، مِثَالُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ: إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ، قَالَ: وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْيَهُودِ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَجَعَلَهَا بِمَعْنَى إِذَا وَكَانَ مَاضِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَوْ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي، فِرَارًا مِنْ جَعْلِ مَا بَعْدَ إِنْ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ إِنْ كَانُوا فِي رَيْبٍ فِيمَا مَضَى وَإِنْ تَعَلَّقَ عَلَى كَوْنِهِمْ فِي رَيْبٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُسْتَدَامَ، بِأَنْ يَظْهَرَ لِمُعْتَقَدِ الرَّيْبِ فِيمَا مَضَى خِلَافَ ذَلِكَ فَيَزُولُ عَنْهُ الرَّيْبُ، فَقِيلَ: وَإِنْ كُنْتُمْ، أَيْ: وَإِنْ تَكُونُوا فِي رَيْبٍ، بِاسْتِصْحَابِ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَكُمْ، فَأَتَوْا، وَهَذَا مِثْلُ مَنْ يَقُولُ لِوَلَدِهِ الْعَاقِّ لَهُ:
إِنْ كُنْتَ تَعْصِينِي فَارْحَلْ عَنِّي، فَمَعْنَاهُ: إِنْ تَكُنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْصِينِي فَارْحَلْ عَنِّي، لَا يُرِيدُ التَّعْلِيقَ عَلَى الْمَاضِي، وَلَا أَنَّ إِنْ بِمَعْنَى إِذَا، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعِصْيَانِ وَتَعْلِيقِ الرَّحِيلِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ مَا يَثْبُتُ حَرْفِيَّتُهُ بِمَعْنَى إِذَا الظَّرْفِيَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ. وَفِي رَيْبٍ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَعَانِي مَنْزِلَةَ الْأَجْرَامِ. وَمِنْ تَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ وَالسَّبَبِيَّةَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. وَمَا مَوْصُولَةً، أي من الذي نزلنا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ نَزَّلْنَاهُ، وَشَرْطُ حَذْفِهِ مَوْجُودٌ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً موصوفة، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى مَا النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَنَزَّلْنَا التَّضْعِيفَ فِيهِ هُنَا لِلنَّقْلِ، وَهُوَ الْمُرَادِفُ لِهَمْزَةِ النَّقْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى مُرَادِفَتِهِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِرَاءَةُ يَزِيدَ بْنِ قَطِيبٍ مِمَّا أَنْزَلَنَا بِالْهَمْزَةِ، وَلَيْسَ التَّضْعِيفُ هُنَا دَالًّا عَلَى نُزُولِهِ مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ: مِمَّا نَزَّلَنَا عَلَى لَفْظِ التَّنْزِيلِ دُونَ الْإِنْزَالِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْمُرَادَ النُّزُولُ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّنْجِيمِ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِهِ لِمَكَانِ التَّحَدِّي.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَضْعِيفِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ هُنَا، هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّكْثِيرِ، أَيْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّضْعِيفِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَثْرَةِ.
وَذَهَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ التَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيَةً، نَحْوَ: جَرَحْتُ زَيْدًا، وَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَقَطَعْتُ، وَذَبَحْتُ، لَا يُقَالُ: جَلَّسَ زَيْدٌ، وَلَا قعد عمرو، وَلَا صَوَّمَ جَعْفَرٌ، وَنَزَّلْنَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا قَبْلَ التَّضْعِيفِ إِنَّمَا كَانَ لَازِمًا، وَتَعَدِّيهِ إِنَّمَا(1/167)
يُفِيدُهُ التَّضْعِيفُ أَوِ الْهَمْزَةُ، فَإِنْ جَاءَ فِي لَازِمٍ فَهُوَ قَلِيلٌ. قَالُوا: مَاتَ الْمَالُ، وَمَوَّتَ الْمَالَ، إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ فِيهِ، وَأَيْضًا، فَالتَّضْعِيفُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ، أَمَّا أَنْ يَجْعَلَ اللَّازِمَ مُتَعَدِّيًا فَلَا، وَنَزَّلْنَا قَبْلَ التَّضْعِيفِ كَانَ لَازِمًا وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا، فَيَكُونُ التَّعَدِّي الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّضْعِيفِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لِلنَّقْلِ لَا لِلتَّكْثِيرِ، إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّكْثِيرِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى اللَّازِمِ، بَقِيَ لَازِمًا نَحْوَ: مَاتَ الْمَالُ، وَمَوَّتَ الْمَالُ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ التَّضْعِيفُ فِي نَزَلَ مُفِيدًا لِلتَّنْجِيمِ لَاحْتَاجَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1» إِلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ دَالٌّ عَلَى التَّنْجِيمِ وَالتَّكْثِيرِ، وَقَوْلُهُ: جُمْلَةً واحِدَةً يُنَافِي ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَالْقِرَاءَاتُ بِالْوَجْهَيْنِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَيْضًا مَجِيءُ نَزَلَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّكْثِيرُ وَالتَّنْجِيمُ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جَدًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ «2» ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «3» ، لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا تَكْرِيرَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا أَنَّهُ عَلَّقَ تَكْرِيرَ نُزُولِ مَلَكٍ رَسُولٍ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَلَائِكَةٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مُطْلَقُ الْإِنْزَالِ. وَفِي نَزَّلْنَا الْتِفَاتٌ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّ قبله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وفَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. فَلَوْ جَرَى الْكَلَامُ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ لَكَانَ مِمَّا نَزَلَ عَلَى عَبْدِهِ، لَكِنَّ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّفْخِيمِ لِلْمُنَزَّلِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مَا لَا يُؤَدِّيهِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ، لَا سِيَّمَا كَوْنُهُ أَتَى بنا الْمُشْعِرَةِ بِالتَّعْظِيمِ التَّامِّ وَتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَنَظِيرُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا «4» ، وَتَعَدِّي نَزَّلَ بِعَلَى إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِعْلَاءِ الْمُنَزَّلِ عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالْمُلَابِسِ لَهُ، بِخِلَافِ إِلَى فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْتِهَاءِ وَالْوُصُولِ.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أفادته على تكرار ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ «5» طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «6» ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ «7» . وَفِي إِضَافَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ تَعَالَى تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهِ، وَاخْتِصَاصِهِ بخالص
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 32.
(2) سورة الأنعام: 6/ 37.
(3) سورة الإسراء: 17/ 95.
(4) سورة الأنعام: 6/ 99.
(5) سورة آل عمران: 3/ 3.
(6) سورة طه: 20/ 20.
(7) سورة آل عمران: 3/ 7.(1/168)
الْعُبُودِيَّةِ، وَرَفْعِ مَحَلِّهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى، وَاسْمُ الْعَبْدِ عَامٌّ وَخَاصٌّ، وَهَذَا مِنَ الْخَاصِّ:
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وَمَنْ قَرَأَ: عَلَى عِبَادِنَا بِالْجَمْعِ، فَقِيلَ: يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم وأمته، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَصَارَ نَظِيرَ قوله تعالى: أن يقولوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا «1» ، لِأَنَّ جَدْوَى الْمُنْزِلِ وَالْهِدَايَةَ الْحَاصِلَةَ بِهِ مِنِ امْتِثَالِ التَّكَالِيفِ، وَالْمَوْعُودِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَتْبُوعُونَ وَالتُّبَّاعُ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ يُجْعَلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يُبَاشِرِ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ بَاشَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ، وَالْكُتُبَ وَالرَّسُولُ أَوَّلُ مَقْصُودٍ بِذَلِكَ، وَأَسْبَقُ دَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مُعَانِدُوهُ بِالتَّحَدِّي فِي كِتَابِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا لِمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ بَعْضِهِمْ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «2» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُفْرَدِ الْجَمْعُ. وَتُبَيِّنُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ «3» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَفْرَدَ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ لِلْجِنْسِ.
فَأْتُوا بِسُورَةٍ: طَلَبَ مِنْهُمُ الْإِتْيَانَ بِمُطْلَقِ سُورَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي أَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، فَلَمْ يَقْتَرِحْ عَلَيْهِمُ الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ طويلة فتعنتوا فِي ذَلِكَ، بَلْ سَهَّلَ عَلَيْهِمْ وَأَرَاحَ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مَا، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ التَّبْكِيتِ وَالتَّخْجِيلِ لَهُمْ. فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ وَلَا مُعَاضِدُوكُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِكُمْ؟ وَكَيْفَ يَلْحَقُكُمْ فِي ذَلِكَ ارْتِيَابٌ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟
وَقَدْ تَعَرَّضَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا لِذِكْرِ فَائِدَةِ تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ وَتَقْطِيعِهِ سُوَرًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَوَائِدِ التَّفْصِيلِ وَالتَّسْوِيرِ. مِنْ مِثْلِهِ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا، أَوْ عَلَى عَبْدِنَا، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَرُجْحَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِارْتِيَابَ أَوَّلًا إِنَّمَا جِيءَ بِهِ مُنْصَبًّا عَلَى الْمُنَزَّلِ لَا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّيْبُ فِي الْمُنَزَّلِ رَيْبًا فِي الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، فَكَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي نظير هذه
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 156.
(2) سورة الأنعام: 6/ 91.
(3) سورة ص: 38/ 45.(1/169)
الْآيَةِ وَهَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ»
عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «2» الثَّالِثُ: اقْتِضَاءُ ذَلِكَ كَوْنُهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ، سَوَاءٌ اجْتَمَعُوا أَوِ انْفَرَدُوا، وَسَوَاءٌ كَانُوا أُمِّيِّينَ أَمْ كَانُوا غَيْرَ أُمِّيِّينَ، وُعَوْدُهُ عَلَى الْمُنَزَّلِ يَقْتَضِي كَوْنَ آحَادِ الْأُمِّيِّينَ عَاجِزًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِثْلَهُ إِلَّا الشَّخْصَ الْوَاحِدَ الْأُمِّيَّ. فَأَمَّا لَوِ اجْتَمَعُوا أَوْ كَانُوا قَارِئِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِعْجَازَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَقْوَى، فَإِذَا جَعَلْنَا الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، فَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِسُورَةٍ أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ تَنَاقُضٌ فِي مِنْ هَذِهِ قَالَ: مِنْ مِثْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ صِفَةٌ لَهَا، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَقَوْلُهُ مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَهَا، وَقَوْلُهُ صِفَةٌ لَهَا، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَعْمُولًا لَهَا فَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَدَافَعَ آخِرُهُ أَوَّلَهُ، لكن يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ التَّعَلُّقَ الصِّنَاعِيَّ كَتَعَلُّقِ الْبَاءِ فِي نَحْوِ: مُرُورِي بِزَيْدٍ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ يُرِيدُ التَّعَلُّقَ الْمَعْنَوِيَّ، أَيْ تَعَلُّقُ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، وَاحْتَرَزَ مِنَ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَأَتَوْا، فَلَا يَكُونُ مِنْ مِثْلِهِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَبْيِينُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَجَازَ الْمَهْدَوِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، وَتُفَسَّرُ الْمِثْلِيَّةُ بِنَظْمِهِ وَرَصْفِهِ وَفَصَاحَةِ مَعَانِيهِ الَّتِي تَعْرِفُونَهَا، وَلَا يُعْجِزُهُمْ إِلَّا التَّأْلِيفُ الَّذِي خُصَّ بِهِ الْقُرْآنُ، أَوْ فِي غُيُوبِهِ وَصِدْقِهِ، وَأَجَازَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، وَسَتَأْتِي الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ الْمِثْلِيَّةِ عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُنَزَّلِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى لِمَنْ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهَا لِلتَّبْعِيضِ وَلِبَيَانِ الْجِنْسِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَأَمَّا كَوْنُهَا زائدة في هذا الموضع فَلَا يَجُوزُ، عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. وَفِي الْمِثْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ، وَبَدِيعِ الرَّصْفِ، وَعَجِيبِ السَّرْدِ، وَغَرَابَةِ الْأُسْلُوبِ وَإِيجَازِهِ وَإِتْقَانِ مَعَانِيهِ. الثَّانِي: مِنْ مِثْلِهِ فِي غُيُوبِهِ مِنْ إِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ. الثَّالِثُ: فِي احْتِوَائِهِ عَلَى الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالْقَصَصِ، وَالْحِكَمِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْأَمْثَالِ. الرَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي صِدْقِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ. الْخَامِسُ: مِنْ مِثْلِهِ، أَيْ كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي هُوَ مِنْ جنسه.
__________
(1) سورة هود: 11/ 13.
(2) سورة الإسراء: 17/ 88.(1/170)
السَّادِسُ: فِي أَنَّهُ لَا يخلق على كثرة الرد، وَلَا تَمَلُّهُ الْأَسْمَاعُ، وَلَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، وَلَا تُغْنَى عَجَائِبُهُ، وَلَا تَنْتَهِي غَرَائِبُهُ، وَلَا تَزُولُ طَلَاوَتُهُ عَلَى تَوَالِيهِ، وَلَا تَذْهَبُ حَلَاوَتُهُ مِنْ لَهَوَاتِ تَالِيهِ. السَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي دَوَامِ آيَاتِهِ وَكَثْرَةِ مُعْجِزَاتِهِ. الثَّامِنُ: مِنْ مِثْلِهِ، أَيْ مِثْلِهِ فِي كَوْنِهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، تَشْهَدُ لَكُمْ بِأَنَّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» وَإِنْ جَعَلْنَا الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، فَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَتَوْا مِنْ مِثْلِ الرَّسُولِ بِسُورَةٍ. وَمَعْنَى مِنْ عَلَى هَذَا أوجه ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَهِيَ أَيْضًا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِ الرَّسُولِ، أَيِ ابْتِدَاءِ كَيْنُونَتِهَا مِنْ مِثْلِهِ.
وَفِي الْمِثْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ مِثْلِهِ مِنْ أُمِّيٍّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ. الثَّانِي: مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يُدَارِسِ الْعُلَمَاءَ، وَلَمْ يُجَالِسِ الْحُكَمَاءَ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَعَاطِي الْأَخْبَارِ، وَلَمْ يَرْحَلْ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْصَارِ. الثَّالِثُ: مِنْ مِثْلِهِ عَلَى زَعْمِكُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ. الرَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَهْلِ مُدْرَتِهِ، وَذِكْرُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي فُسِّرَتْ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ، إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، وَعَلَى بَعْضِهَا لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمِثْلِ: كَلَامَ الْعَرَبِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، لِوُجُودِ أُمِّيٍّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلِوُجُودِ مَنْ لَمْ يُدَارِسِ الْعُلَمَاءَ، وَلِوُجُودِ مَنْ هُوَ سَاحِرٌ عَلَى زَعْمِهِمْ ذَلِكَ فِي الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ لَا مِثْلَ وَلَا نَظِيرَ. قَالَ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ الْمِثْلَ عَلَى تَقْدِيرِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى المنزل: فائتوا بِسُورَةٍ مِمَّا هُوَ عَلَى صِفَتِهِ فِي الْبَيَانِ الْغَرِيبِ وَعُلُوِّ الطَّبَقَةِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَوْدِهِ عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، أَوْ فَأْتُوا مِمَّنْ هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنْ كَوْنِهِ بَشَرًا عَرَبِيًّا أَوْ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا قَصْدَ إِلَى مِثْلٍ وَنَظِيرٍ هُنَالِكَ، وَلَكِنَّهُ نَحْوُ قَوْلِ الْقَبَعْثَرِيِّ لِلْحَجَّاجِ، وَقَالَ لَهُ: لَأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْأَدْهَمِ مِثْلَ الْأَمِيرِ حُمِلَ عَلَى الْأَدْهَمِ وَالْأَشْهَبِ. أَرَادَ مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةِ الْأَمِيرِ مِنَ السُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَبَسْطَةِ الْيَدِ، وَلَمْ يَقْصِدْ أَحَدًا يَجْعَلُهُ مَثَلًا لِلْحَجَّاجِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَعَلَى مَا
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 111. [.....](1/171)
فُسِّرَتْ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ إِذْ جُعِلَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُودِ الْمَثَلِ، وَعَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَزَّلِ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي بَعْضِ تَفَاسِيرِ الْمُمَاثَلَةِ. فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ:
لَا مِثْلَ وَلَا نَظِيرَ مَعَ تَفْسِيرِهِ الْمُمَاثَلَةَ فِي كَوْنِهِ بَشَرًا عَرَبِيًّا أَوْ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُمَاثِلَ فِي هَذَا الشَّيْءِ الْخَاصِّ مَوْجُودٌ.
وَلَمَّا طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُعَارَضَةَ بِسُورَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِمْ فِي رَيْبٍ مِنْ كونه من عند الله، لَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، حَتَّى طَلَبَ مِنْهُمْ أن يدعوا شُهَدَاءَهُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّظَافُرِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ، فَقَالَ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، وَفَسَّرَ هُنَا ادْعُوَا:
بِاسْتَغِيثُوا. قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الدُّعَاءُ طَلَبُ الْغَوْثِ، دَعَا: اسْتَغَاثَ وَبِاسْتَحْضِرُوا دَعَا فُلَانٌ فُلَانًا إِلَى الْحَاكِمِ، اسْتَحْضَرَهُ، وَشُهَدَاؤُهُمْ: آلِهَتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، أَوْ مَنْ يَشْهَدُهُمْ وَيَحْضَرُهُمْ مِنَ الْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ، أَنَّ مَا تَأْتُونَ بِهِ مِثْلَ الْقُرْآنِ، رُوِيَ عَنْ مجاهد وكونه جمع شهيد أحسن مِنْ جَمْعِ شَاهِدٍ لِجَرَيَانِهِ عَلَى قِيَاسِ جَمْعِ فَعِيلٍ نَحْوَ: هَذَا وَلِمَا فِي فَعِيلٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِشُهَدَاءَ بَالِغِينَ فِي الشَّهَادَةِ يَصْلُحُونَ أَنْ تُقَامَ بِهِمُ الْحُجَّةُ. مِنْ دُونِ اللَّهِ: تَتَعَلَّقُ بِادْعُوا، أَيْ وَادْعُوَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُهَدَاءَكُمْ، أَيْ لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ فَتَقُولُوا: اللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ مَا نَدَّعِيهِ حَقٌّ، كَمَا يَقُولُ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ: بَلِ ادْعُوا مِنَ النَّاسِ الشُّهَدَاءَ الَّذِينَ شَهَادَتُهُمْ تُصَحَّحُ بِهَا الدَّعَاوَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَادْعُوَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَنْ دون الله بشهدائكم.
وَالْمَعْنَى: ادْعُوا مَنِ اتَّخَذْتُمُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ أَعْوَانُكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ دُونِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِهِمْ دُونَ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَى مِنْ دُونِ اللَّهِ: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُونِهَا وَهْيَ دُونَهُ أَيْ تُرِيكَ الْقَذَى قُدَّامَهَا، وَهِيَ قُدَّامُ الْقَذَى لِرِقَّتِهَا وَصَفَائِهَا. وَأَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ وَبِدُعَاءِ الْأَنْصَارِ وَالْأَعْوَانِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، أَمْرُ تَهَكُّمٍ وَتَعْجِيزٍ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ سِيَّمَا تَفْسِيرُ الشُّهَدَاءِ بِآلِهَتِهِمْ لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَنْطِقُ، فَالْأَمْرُ بِأَنْ يَسْتَعِينُوا بِمَا لَا يَنْطِقُ فِي مُعَارَضَةِ الْمُعْجِزِ غَايَةُ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مَعْنَاهُ: فِي كَوْنِكُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْمُنَزَّلِ عَلَى عَبْدِنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِنَا، وَقِيلَ: فِيمَا تَقْتَدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى: لَوْ نَشاءُ(1/172)
لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا
«1» ، لَكِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ الْمُعَارَضَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُمْ فِي رَيْبٍ يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ تَمَكُّنُ مُعَارَضَتِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ.
وَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَمْرَ تَهَكُّمٍ وَتَعْجِيزٍ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، انْتَقَلَ إِلَى إِرْشَادِهِمْ، إِذْ لَيْسُوا بِقَادِرِينَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِمَنْ كَذَّبَ، وَأَتَى بِإِنْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَوَاضِعِ إِذَا تَهَكُّمًا بِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ غَلَبْتُكَ لَمْ أُبْقِ عَلَيْكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبٌ، أَوْ أَتَى بِإِنْ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِمْ، وَإِنَّ الْمُعْجِزَ مِنْهُمْ كَانَ قَبْلَ التَّأَمُّلِ، كَالْمَشْكُوكِ فِيهِ عِنْدَهُمْ لِاتِّكَالِهِمْ عَلَى فَصَاحَتِهِمْ. وَمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا، وَعَبَّرَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ، فَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ، وَيُغْنِيكَ عَنْ طُولِ مَا تَكَنَّى عَنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ لَفْظِ الْإِتْيَانِ إِلَى لَفْظِ الْفِعْلِ لَاسْتُطِيلَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا، كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذُكِرَ وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا، كَمَا حُذِفَ اخْتِصَارًا مَفْعُولُ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَفْعَلُوا الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْحَذْفِ؟ وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ تَعْلِيلٌ غَرِيبٌ لِعَمَلِ لَمْ الْجَزْمَ، قَالَ: وَجَزَمَتْ لَمْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ لَا فِي التَّبْرِئَةِ فِي أَنَّهُمَا يَنْفِيَانِ، فَكَمَا تَحْذِفُ لَا تَنْوِينَ الِاسْمِ، كَذَلِكَ تَحْذِفُ لَمْ الْحَرَكَةَ أَوِ الْعَلَامَةَ مِنَ الْفِعْلِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلَنْ تَفْعَلُوا إِثَارَةٌ لِهِمَمِهِمْ لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْلَغُ وَأَبْدَعُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ عَلَى إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ. أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ كَوْنِ الْمُتَحَدَّى بِهِ مُعْجِزًا، الثَّانِي: الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ مِنْ أَنَّهُمْ لا لَنْ يَفْعَلُوا، وَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ عَارَضُوهُ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ خُصُوصًا مِنَ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ وَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزُهُ. وَأَمَّا مَا أَتَى بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ فِي هَذْرِهِ، وَأَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي فِي عِبَرِهِ وَنَحْوُهُمَا، فَلَمْ يَقْصِدُوا بِهِ الْمُعَارَضَةَ، إِنَّمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَحْيٌ بِذَلِكَ، فَأَتَوْا مِنْ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ الْغَثِّ، وَالْمَعْنَى السَّخِيفِ، وَاللُّغَةِ الْمُهْجَنَةِ، وَالْأُسْلُوبِ الرَّذْلِ، وَالْفِقْرَةِ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَالْمَطْلَعِ الْمُسْتَقْبَحِ، وَالْمَقْطَعِ الْمُسْتَوْهَنِ، بِحَيْثُ لَوْ قُرِنَ ذَلِكَ بكلامهم في غير
__________
(1) سورة الأنفال: 8/ 31.(1/173)
مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ وَحْيٌ، كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّبَايُنِ فِي الْبَلَاغَةِ مَا لَا يَخْفَى عَمَّنْ لَهُ يَسِيرُ تَمْيِيزٍ فِي ذَلِكَ. فَكَيْفَ الْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ وَالْبُلَغَاءُ الْفُصَحَاءُ، فَسَلَبَهُمُ اللَّهُ فَصَاحَتَهُمْ بِادِّعَائِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تَفْعَلُوا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَفِيهَا مِنْ تَأْكِيدِ الْمَعْنَى مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَكَانَ مَعْنَاهُ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُخْرِجًا ذَلِكَ مَخْرَجَ الْمُمْكِنِ، أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ، وَهُوَ إِخْبَارُ صِدْقٍ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَأْكِيدُ أَنَّهُمْ لَا يُعَارِضُونَهُ. وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِلَنْ مُمَيِّزٌ لِجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَالِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا لَنْ، وَكَانَ النَّفْيُ بِلَنْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ لَا، وَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ فِي لَنْ تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: لَا أُقِيمُ غَدًا، فَإِنْ أَنْكَرَ عَلَيْكَ قُلْتَ: لَنْ أُقِيمَ غَدًا، كَمَا تَفْعَلُ فِي: أَنَا مُقِيمٌ، وَإِنَّنِي مُقِيمٌ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مُخَالِفٌ لِمَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ لَنْ تَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ خَطِيبٍ زَمْلَكِيٌّ مِنْ أَنَّ لَنْ تَنْفِي مَا قَرُبَ وَأَنَّ لَا يَمْتَدُّ النَّفْيُ فِيهَا، فَكَادَ يَكُونُ عَكْسَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ، أَعْنِي التَّوْكِيدَ وَالتَّأْبِيدَ وَنَفْيَ مَا قَرُبَ: أَقَاوِيلُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنَّمَا الْمَرْجُوعُ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَصَرُّفَاتِهَا لِأَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَمَقَانِعِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَى أَقَاوِيلِهِمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَنْ نَفِيٌ لِقَوْلِهِ: سَيَفْعَلُ، وَقَالَ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ:
تَفْعَلُ، وَلَمْ تَفْعَلْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَفْعَلُ، وَلَمْ تَفْعَلِ الْمُسْتَقْبَلَ، فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ أَنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْمُسْتَقْبَلَ إِلَّا أَنَّ لَنْ نَفْيٌ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا نَفْيٌ لِلْمُضَارِعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ. فَلَنْ أَخَصُّ، إِذْ هِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مَا ظَهَرَ فِيهِ دَلِيلُ الِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا.
وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي لَا: هَلْ تَخْتَصُّ بِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، أَمْ يَجُوزُ أَنْ تَنْفِي بِهَا الْحَالَ؟
وَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هُنَا أَنَّهَا لَا تَنْفِي الْحَالَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَدَوَاتِهِ لَا يَكُونُ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى إِلَّا، فَهُوَ لِلْإِنْشَاءِ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِنْشَاءِ فَهُوَ حَالٌ، فَيُفِيدُ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ يَفْعَلُ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَوَّلًا: مِنْ أَنَّ فِيهَا تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا لِأَنَّهَا تَنْفِي مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالْأَدَاةِ، بِخِلَافِ لَا، فَإِنَّهَا تَنْفِي الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ مِمَّا لَا أَدَاةَ فِيهِ تُخَلِّصُهُ لَهُ، وَلِأَنَّ لَا قَدْ يُنْفَى بِهَا الْحَالُ قَلِيلًا، فَلَنْ أَخَصُّ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَخَصُّ بِالْمُضَارِعِ، وَلِأَنَّ وَلَنْ تَفْعَلُوا أَخْصَرُ مِنْ وَلَا تفعلون، فلهذا كله ترجح النَّفْيِ بِلَنْ عَلَى النَّفْيِ بِلَا.(1/174)
فَاتَّقُوا النَّارَ: جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ تَرْكِ العناد، لأن من عائد بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ لَهُ اسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ بِالنَّارِ. وَاتِّقَاءُ النَّارِ مِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ الْعِنَادِ وَمِنْ لَوَازِمِهِ. وَعَرَّفَ النَّارَ هُنَا لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا نَكِرَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَهَذِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَإِذَا كُرِّرَتِ النَّكِرَةُ سَابِقَةً ذُكِرَتْ ثَانِيَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَصَارَتْ مَعْرِفَةً لِتَقَدُّمِهَا فِي الذِّكْرِ وَوُصِفَتْ بِالَّتِي وَصِلَتِهَا. وَالصِّلَةُ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ قَوْلِهِ: نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «1» ، أَوْ لِسَمَاعِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْوَاوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ، وَمُجَاهِدٌ وَطَلْحَةُ وَأَبُو حَيَاةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَقَيَّدَهَا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ عُمَيْرٍ هُوَ الْحَطَبُ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ هُوَ الْمَصْدَرُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذُو وَقُودِهَا لِأَنَّ النَّاسَ وَالْحِجَارَةَ لَيْسَا هُمَا الْوَقُودَ، أَوْ عَلَى أَنْ جُعِلُوا نَفْسَ الْوَقُودِ مُبَالَغَةً، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ فَخْرُ بَلَدِهِ، وَهَذِهِ النَّارُ مُمْتَازَةٌ عَنْ غَيْرِهَا بِأَنَّهَا تَتَّقِدُ بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، وَهُمَا نَفْسُ مَا يُحْرَقُ، وَظَاهِرُ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّهَا نَارٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نِيرَانٌ شَتَّى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «2» ، وَلَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى «3» ، لِأَنَّ الْوَصْفَ قَدْ يَكُونُ بِالْوَاقِعِ لَا لِلِامْتِيَازِ عَنْ مُشْتَرَكٍ فِيهِ، وَالنَّاسُ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ دُخُولَهَا، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا، وَالْحِجَارَةُ الْأَصْنَامُ، وَكَانَا وَقُودًا لِلنَّارِ مَقْرُونَيْنِ مَعًا، كَمَا كَانَا فِي الدُّنْيَا حَيْثُ نَحَتُوهَا وَعَبَدُوهَا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «4» ، أَوْ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَاخْتَصَّتْ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ سُرْعَةِ الِالْتِهَابِ، وَنَتَنِ الرَّائِحَةِ، وَعِظَمِ الدُّخَانِ، وَشِدَّةِ الِالْتِصَاقِ بِالْبَدَنِ، وَقُوَّةِ حَرِّهَا إِذَا حَمِيَتْ. وَقِيلَ: هُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَسْوَدُ، أَوْ حِجَارَةٌ مَخْصُوصَةٌ أُعِدَّتْ لِجَهَنَّمَ، إِذَا اتَّقَدَتْ لَا يَنْقَطِعُ وَقُودُهَا. وَقِيلَ:
إِنَّ أَهْلَ النَّارِ إِذَا عِيلَ صبرهم بكوا وشكوا، فينشىء اللَّهُ سَحَابَةً سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً، فيرجون الفرج، ويرفعون رؤوسهم إِلَيْهَا، فَتُمْطِرُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً عِظَامًا كَحِجَارَةِ الرَّحَى، فَتَزْدَادُ النار إيقادا والتهابا أو الْحِجَارَةُ مَا اكْتَنَزُوهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تُقْذَفُ مَعَهُمْ فِي النَّارِ وَيُكْوَوْنَ بِهَا.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحِجَارَةِ لِلْعُمُومِ بَلْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ النَّارَ التي
__________
(1) سورة التحريم: 66/ 6.
(2) سورة التحريم: 66/ 6.
(3) سورة الليل: 92/ 14.
(4) سورة الأنبياء: 21/ 98.(1/175)
وُعِدُوا بِهَا صَالِحَةً لِأَنْ تَحْرِقَ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ، فَعَبَّرَ عَنْ صَلَاحِيَتِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا بِالْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّاسَ وَالْحِجَارَةَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ جَهَنَّمَ وَتَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ وَقُودِهَا، لِيَقَعَ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوسِ أَعْظَمَ مَوْقِعٍ، وَيَحْصُلُ بِهِ مِنَ التَّخْوِيفِ مَا لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَقِيقَةُ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الذَّاهِبُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ هُوَ بِالصَّلَاحِيَّةِ لَا بِالْفِعْلِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ الْوَصْفُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَوْنِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ فِيهَا، وَقَدَّمَ النَّاسَ عَلَى الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمُ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ يُدْرِكُونَ الْآلَامَ وَالْمُعَذَّبُونَ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ أَكْثَرَ إِيقَادًا لِلنَّارِ مِنَ الْجَمَادِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْجُلُودِ وَاللُّحُومِ وَالشُّحُومِ وَالْعِظَامِ وَالشُّعُورِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ فِي التَّخْوِيفِ. فَإِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا يُحْرَقُ، اقْشَعَرَّ بَدَنُكَ وَطَاشَ لُبُكَّ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُعِدَّتْ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ حَتَّى الْآنَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي سَقَطَ فِيهِ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْإِعْدَادَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمَوْجُودِ، لِأَنَّ الْإِعْدَادَ هُوَ التَّهْيِئَةُ وَالْإِرْصَادُ لِلشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعْدَدْتُ لِلْحَدَثَانِ سَابِغَةً وَعَدَاءً علبدا أَيْ هَيَّأْتُ. قَالُوا: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمَوْجُودِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَوْجُودِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً «1» وَمُنْذِرٌ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ كَانَ يُعْرَفُ بِالْبَلُّوطِيِّ، وَكَانَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ ظَاهِرِيًّا فِي الْفُرُوعِ، وَلَهُ ذِكْرٌ وَمَنَاقِبُ فِي التَّوَارِيخِ، وَهُوَ أَحَدُ رِجَالَاتِ الْكَمَالِ بِالْأَنْدَلُسِ.
وَسَرَى إِلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَهُوَ:
أَنَّ مذهب أهل السنة أن الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالنَّجَاوَمِيَّةِ إِلَى أَنَّهُمَا لَمْ يُخْلَقَا بَعْدُ، وَأَنَّهُمَا سَيُخْلَقَانِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ اعْتَدَّتْ: مِنَ الْعَتَادِ بِمَعْنَى الْعُدَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ، وَلَا يَدُلُّ إِعْدَادُهَا لِلْكَافِرِينَ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِهَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ أَنَّ نَارَ الْعُصَاةِ غَيْرُ نَارِ الْكُفَّارِ، بَلْ إِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْكَافِرِينَ لِانْتِظَامِ الْمُخَاطَبِينَ فِيهِمْ، إِذْ فِعْلُهُمْ كُفْرٌ. وقد ثبت في
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 35.(1/176)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِدْخَالُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْكُفَّارِ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ، أو لأن الكافر لن يَشْتَمِلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَكَفَرَ بِأَنْعُمِهِ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ أُخْرِجَ مِنْهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَكُنْ مُعَدَّةً لَهُ دَائِمًا بِخِلَافِ الْكُفَّارِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّارِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: فَاتَّقُوا، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَعْلَهُ الْجُمْلَةَ حَالًا يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَاتَّقُوا النَّارَ فِي حَالِ إِعْدَادِهَا لِلْكَافِرِينَ، وَهِيَ مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ، اتَّقَوُا النَّارَ أَوْ لَمْ يَتَّقُوهَا، فَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ حَالًا لَازِمَةً. وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلتَّأْكِيدِ أَنْ تَكُونَ مُنْتَقِلَةً، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَكَأَنَّهَا سُؤَالُ جَوَابٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ لَمَّا وُصِفَتْ بِأَنَّ وَقُودَهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ قِيلَ: لِمَنْ أُعِدَّتْ؟ فَقِيلَ: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
الْبِشَارَةُ: أَوَّلُ خَبَرٍ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ كَانَ أَوْ شَرٍّ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَيْرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تَأَوَّلَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالنَّقْلِ. قِيلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: هُوَ خَبَرٌ يُؤَثِّرُ فِي الْبَشَرَةِ مِنْ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِذَا يُقَيَّدُ فِي الْحُزْنِ، وَالْبِشَارَةُ: الْجَمَالُ، وَالْبَشِيرُ: الْجَمِيلُ، قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَتَبَاشِيرُ الْفَجْرِ: أَوَائِلُهُ. وَفِي الْفِعْلِ لُغَتَانِ: التَّشْدِيدُ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْعُلْيَا، وَالتَّخْفِيفُ: وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ. وَقَدْ قرىء بِاللُّغَتَيْنِ فِي الْمُضَارِعِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الصَّلَاحُ: يُقَابِلُهُ الْفَسَادُ. الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ الَّذِي سَتَرَتْ أَشْجَارُهُ أَرْضَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَتَرَ شَيْئًا فَقَدَ أَجَنَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجِنَّةُ وَالْجَنَّةُ وَالْجِنُّ وَالْمِجَنُّ وَالْجَنِينُ. الْمُفَضَّلُ الْجَنَّةُ: كُلُّ بُسْتَانٍ فِيهِ ظِلٌّ، وَقِيلَ: كُلُّ أَرْضٍ كَانَ فِيهَا شَجَرٌ وَنَخْلٌ فَهِيَ جَنَّةً، فَإِنْ كَانَ فِيهَا كَرْمٌ فَهِيَ: فِرْدَوْسُ. تَحْتَ: ظَرْفُ مَكَانٍ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِغَيْرِ مِنْ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ. قَالَ الْعَرَبُ: تَقُولُ تَحْتَكَ رِجْلَاكَ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي نَصْبِ التَّحْتِ. النَّهْرُ: دُونَ الْبَحْرِ وَفَوْقَ الْجَدْوَلِ، وَهَلْ هُوَ نَفْسُ مَجْرَى الْمَاءِ أَوِ الْمَاءِ فِي الْمَجْرَى الْمُتَّسِعِ قولان، وفيه
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 21، وسورة التوبة: 9/ 24، وسورة الانشقاق: 84/ 24.(1/177)
لُغَتَانِ: فَتْحُ الْهَاءَ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ، وَالسُّكُونُ، وَعَلَى الْفَتْحِ جَاءَ الْجَمْعُ أَنْهَارًا قِيَاسًا مُطَّرِدًا إِذْ أَفْعَالٌ في فعل الاسم الصحيح الْعَيْنِ لَا يَطَّرِدُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَتْ مِنْهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، وَسُمِّي نَهْرًا لاتساعه، وأنهر: وَسِعَ، وَالنَّهَارُ لِاتِّسَاعِ ضَوْئِهِ.
التَّشَابُهُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الشَّبَهِ وَالشَّبَهُ الْمَثَلُ. وَتَفَاعُلٌ تَأْتِي لِسِتَّةِ مَعَانٍ: الِاشْتِرَاكُ فِي الْفَاعِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَفِيهَا وَفِي الْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ حيث المعنى، والإبهام، وَالرَّوْمُ، وَمُطَاوَعَةُ فَاعَلَ الْمُوَافِقِ أَفْعَلَ، وَلِمُوَافَقَةِ الْمُجَرَّدِ وَلِلْإِغْنَاءِ عَنْهُ. الزَّوْجُ: الْوَاحِدُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ آخَرُ، وَاثْنَانِ: زَوْجَانِ. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: زَوْجٌ، وَلِامْرَأَتِهِ أَيْضًا زَوْجٌ وَزَوْجَةٌ أَقَلُّ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ زَوْجًا الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ فِيهِ لُغَتَانِ: زَوْجٌ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَزَوْجَةٌ لُغَةُ تَمِيمٍ وَكَثِيرٍ مِنْ قَيْسٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ قُرِنَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ زَوْجٌ لَهُ، وَالزَّوْجُ: الصِّنْفُ وَمِنْهُ: زَوْجٌ بَهِيجٌ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا. الطَّهَارَةُ: النَّظَافَةُ، وَالْفِعْلُ طَهَرَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَطَهُرَ بِالضَّمِّ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُمَا طَاهِرٌ. فَعَلَى الْفَتْحِ قِيَاسٌ وَعَلَى الضَّمِّ شَاذٌّ نَحْوَ: حَمُضَ فَهُوَ حَامِضٌ، وَخَثُرَ فَهُوَ خَاثِرٌ. الْخُلُودُ: الْمُكْثُ فِي الْحَيَاةِ أَوِ الْمُلْكِ أَوِ الْمَكَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً لَا انْتِهَاءَ لَهَا وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَهَا انْتِهَاءٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
فَلَوْ كَانَ حمد يخلد الناس لم تَمُتْ ... وَلَكِنَّ حَمْدَ النَّاسِ لَيْسَ بِمُخَلِّدِ
وَيُقَالُ: خَلُدَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ، وَأَخْلَدَ إِلَى كَذَا، سَكَنَ إِلَيْهِ، وَالْمُخَلَّدُ: الَّذِي لَمْ يَشِبَّ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى، أَعْنِي مِنَ السُّكُونِ وَالِاطْمِئْنَانِ، سُمِّيَ هَذَا الْحَيَوَانُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَرْضِ خُلْدًا. وَظَاهِرُهُ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَغَيْرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْدَ هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمُكْثِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ: أَنَّهُ الْبَقَاءُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، تَقْوِيَةً لِمَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا بَلْ يَبْقَى فِيهَا أَبَدًا.
وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ دَلَّتْ عَلَى خُرُوجِ نَاسٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ بِالشَّفَاعَةِ مِنَ النَّارِ، وَمُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرْ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا تَضَمَّنَ ذكر الكفار وما تؤول إِلَيْهِ حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَبْلَغِ التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ، أَعْقَبَ مَا تَضَمَّنَ ذِكْرُ مُقَابِلِيهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ.
وَهَكَذَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقُرْآنِ غَالِبًا مَتَى جَرَى ذِكْرُ الْكُفَّارِ وَمَا لَهُمْ أُعْقِبَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ(1/178)
وَبِالْعَكْسِ، لِتَكُونَ الْمَوْعِظَةُ جَامِعَةً بَيْنَ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ وَاللُّطْفِ وَالْعُنْفِ، لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَجْذِبُهُ التَّخْوِيفُ وَيَجْذِبُهُ اللُّطْفُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِالْعَكْسِ. وَالْمَأْمُورُ بِالتَّبْشِيرِ قِيلَ:
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْبِشَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَجْزَلُ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِعِظَمِهِ وَفَخَامَةِ شَأْنِهِ مَحْقُوقٌ بِأَنْ يُبَشِّرَ بِهِ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبِشَارَةِ بِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى، لِأَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُصُوصِيَّتِهِ بِالْبِشَارَةِ أَفْخَمُ وَأَجْزَلُ، وَكَأَنَّهُ مَا اتَّكَلَ عَلَى أَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّ سَامِعٍ، بَلْ نَصَّ عَلَى أَعْظَمِهِمْ وَأَصْدَقِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوثَقُ عِنْدَهُمْ وَأَقْطَعُ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الْعَظِيمَةِ، إِذْ تَبْشِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْشِيرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَشِّرْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ الَّذِي اعْتُمِدَ بِالْعَطْفِ هُوَ الْأَمْرُ حَتَّى يُطْلَبَ مُشَاكِلُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ يُعْطَفُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ بِالْعَطْفِ هُوَ جُمْلَةُ وَصْفِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصْفِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ يُعَاقَبُ بِالْقَيْدِ وَالْإِزْهَاقِ، وَبَشِّرْ عَمْرًا بِالْعَفْوِ وَالْإِطْلَاقِ، قَالَ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: الْوَاوُ فِي وَبَشِّرْ عُطِفَ بِهَا جُمْلَةُ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى جُمْلَةِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتُلَخِّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ عَطْفَ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ نتفق مَعَانِي الْجُمَلِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ غَيْرِ الْخَبَرِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا اخْتِلَافٌ. ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى اشْتِرَاطِ اتِّفَاقِ الْمَعَانِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. فَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ يَتَمَشَّى إِعْرَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَأَبِي الْبَقَاءِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ، لِيَكُونَ عَطْفَ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا تَقُولُ يَا بَنِي تَمِيمٍ احْذَرُوا عُقُوبَةَ مَا جَنَيْتُمْ، وَبَشِّرْ يَا فُلَانُ بَنِي أَسَدٍ بِإِحْسَانٍ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ خَطَأٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاتَّقُوا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ وَمَوْضِعُهُ جَزْمٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْبِشَارَةِ وَمُطْلَقًا، لَا عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، بَلْ أَمَرَ أَنْ يُبَشِّرَ الَّذِينَ آمَنُوا أَمْرًا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرْ عَلَى إِعْرَابِهِ مِثْلَ مَا مُثِّلَ بِهِ مِنَ قَوْلِهِ: يَا بَنِي تَمِيمٍ إِلَخْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: احْذَرُوا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا.
فَلِذَلِكَ أَمْكَنَ فِيمَا مُثِّلَ بِهِ الْعَطْفُ وَلَمْ يُمْكِنْ فِي وَبَشِّرْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَبَشِّرْ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى أُعِدَّتْ انْتَهَى. وَهَذَا الْإِعْرَابُ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ أُعِدَّتْ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَلَا يَتَأَتَّى(1/179)
أَنْ يَكُونَ وَبَشِّرْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَالْأَصَحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ مَعَانِي الْجُمَلِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تُنَاغِي غَزَالًا عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ ... وَكَحِّلْ مَآقِيكَ الْحِسَانَ بِإِثْمَدِ
وَبِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ إِنْ سَفَحْتُهَا ... وَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ، وَمَنْ أَخُوكَ الْعَاقِلَانِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ العاقلان خبر ابتداء مضر. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يَخُصُّ الْبِشَارَةَ بِالْخَبَرِ الَّذِي يُظْهِرُ سُرُورَ الْمُخْبَرِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَغْلَبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ مُقَيَّدًا بِهِ مَنْصُوصًا عَلَى الشَّرِّ لِلْمُبَشَّرِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» . وَمَتَى أَطْلَقَ لَفْظَ الْبِشَارَةِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْخَيْرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا مَا يُخَالِفُ قَوْلَيْهِمَا مِنْ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ كَانَ أَوْ شَرٍّ، قَالُوا: وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْبَشْرَةِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا أَثَّرَ الْمَسَرَّةَ وَالِانْبِسَاطَ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا أَثَّرَ الْقَبْضَ وَالِانْكِمَاشَ. قَالَ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ «2» ، وَقَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْعَكْسَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ اسْتِهْزَاءُ الزَّائِدِ فِي غَيْظِهِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ وَتَأَلُّمُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ضَعْ هَذَا مَوْضِعَ الْبِشَارَةِ مِنْهُمْ، قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ غَيْرَ الْبُشْرَةِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا بِشَارَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِ ... فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي ... جَفُونِي وَأَنَّ الْوُدَّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ
وَالتَّضْعِيفُ فِي بَشِّرْ مِنَ التَّضْعِيفِ الدَّالِّ عَلَى التَّكْثِيرِ فِيمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَلَا يَتَأَتَّى التَّكْثِيرُ فِي بَشِّرْ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفَاعِيلِ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَسُرُّ أَوْ يُحْزِنُ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَلَا يَتَأَتَّى التَّكْثِيرُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ يَكُونُ فِعْلٌ فِيهِ مُغْنِيًا عَنْ فِعْلٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ مُشَدَّدًا غَيْرُ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَنْطِقُونَ بِهِ مُخَفَّفًا، كَمَا بَيَّنَّا قَبْلُ. وَكَوْنُ مَفْعُولِ بَشِّرْ مَوْصُولًا بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ مَاضِيَةٍ وَلَمْ يَكُنِ اسْمَ فَاعِلٍ، دَلَالَةً عَلَى أن مستحق التبشير
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 21.
(2) سورة التوبة: 9/ 21.(1/180)
بِفَضْلِ اللَّهِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَتَحَقَّقَ بِهِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالصَّالِحَاتُ: جَمْعُ صَالِحَةٍ، وَهِيَ صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ فِي إِيلَائِهَا الْعَوَامِلَ، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا يَنْفَكُّ صَالِحَةً ... مِنْ آلِ لَامَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي
فَعَلَى هَذَا انْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الصَّالِحَاتِ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعُمُومِ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُؤْمِنُ جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، لَكِنْ يَعْمَلُ جُمْلَةً مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ فِي الدِّينِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُؤْمِنِ فِي مَوَاجِبِ التَّكْلِيفِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ لَامِ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَبَيْنَهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، أَنَّهَا فِي الْمُفْرَدِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ، وَفِي الْجَمْعِ لَا يَحْتَمِلُهُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ:
الصَّالِحُ مَا أَخْلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: مَا احْتَوَى عَلَى أَرْبَعَةٍ: الْعِلْمُ وَالنِّيَّةُ وَالصَّبْرُ وَالْإِخْلَاصُ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ،
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الصَّلَوَاتُ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَعْدِيلُ أَرْكَانِهَا وهيآتها
، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ، وَقِيلَ: التَّوْبَةُ وَالِاخْتِيَارُ، قَوْلُ الْجُمْهُورِ: وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَفْظَةَ الْإِيمَانِ بِمَجْرَدِهَا تَقْتَضِي الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا أَعَادَهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يُبَشَّرُوا هُمْ مَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ دُونَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ لَا يَكُونُ مُبَشَّرًا.
مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَبَشِّرْ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ.
فَقَوْلُهُ: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ هُوَ فِي مَوْضِعِ هَذَا الْمَفْعُولِ، وَجَازَ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنَّ قِيَاسًا مُطَّرِدًا، وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ حَذْفِ الْحَرْفِ، هَلْ مَوْضِعُ أَنَّ وَمَعْمُولَيْهَا جَرٌّ أَمْ نَصْبٌ؟ فَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ: أَنَّ مَوْضِعَهُ جَرٌّ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ: أَنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ فِي كتب النحو. وجنات: جُمَعُ جَنَّةٍ، جَمْعُ قِلَّةٍ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا سَبْعُ جَنَّاتٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ ثَمَانِ جَنَّاتٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ فِي تَضَاعِيفِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ «1» ، وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «2» ،
__________
(1) سورة القمر: 54/ 54.
(2) سورة الرحمن: 55/ 46.(1/181)
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «1» ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «2» ، جَنَّاتِ عَدْنٍ «3» .
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»
وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ هَذَا الْمُفَسِّرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِمَّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْجَنَّةُ اسْمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جِنَانٍ كَثِيرَةٍ مَرَتَّبَةٍ مَرَاتِبَ عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِينَ، لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ جَنَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ دَسَّ فِيهِ مَذْهَبَهُ الِاعْتِزَالِيَّ بِقَوْلِهِ: عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِينَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْجَنَّةِ مُفْرَدَةً وَمَجْمُوعَةً، فَإِذَا كَانَتْ مُفْرَدَةً فَالْمُرَادُ الْجِنْسُ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلِاخْتِصَاصِ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ هُنَا آكَدُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ لِقُرْبِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، فَهُوَ أَسَرُّ لِلسَّامِعِ، وَالشَّائِعُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِاسْمُ نَكِرَةً تَعَيَّنَ تقديمه أإِنَّ لَنا لَأَجْراً «4» ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُهُ، وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَجَرَى عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، أَنْ لَا يُحْبِطَهُمَا الْمُكَلَّفُ بِالْكُفْرِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَأَنْ لَا يَنْدَمَ عَلَى مَا أَوْجَدَهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ كَالدَّاخِلِ تَحْتَ الذِّكْرِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ وَافَى عَلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُرْتَكِبًا كَبِيرَةً أَمْ غَيْرَ مُرْتَكِبٍ، تَائِبًا أَوْ غَيْرَ تَائِبٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مِنْ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ تَجْرِي تَحْتَهَا، أَوْ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي تَحْتِهَا، فَغَيْرُ جَارٍ عَلَى مَأْلُوفِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَجْرِي، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَإِذَا فَسَّرْنَا الْجَنَّاتِ بِأَنَّهَا الْأَشْجَارُ الْمُلْتَفَّةُ ذَوَاتُ الظِّلِّ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ. وَإِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْأَرْضِ ذَاتِ الْأَشْجَارِ، احْتَاجَ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا أَوْ غُرَفِهَا وَمَنَازِلِهَا. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِتَحْتِهَا عَنْ أَسَافِلِهَا وَأُصُولِهَا.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا: أَيْ بِأَمْرِ سُكَّانِهَا وَاخْتِيَارِهِمْ، فَعَبَّرَ بِتَحْتِهَا عَنْ قَهْرِهِمْ لَهَا وَجَرَيَانِهَا عَلَى حُكْمِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «5» ، أَيْ بِأَمْرِي وَقَهْرِي. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ إِلَّا لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، فَيَكُونُ نَظِيرَ مِنْ تَحْتِي إِذَا جُعِلَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ من
__________
(1) سورة الرحمن: 55/ 62.
(2) سورة النجم: 53/ 15.
(3) سورة التوبة: 9/ 72. [.....]
(4) سورة الشعراء: 26/ 41.
(5) سورة الزخرف: 43/ 51.(1/182)
تَحْتِ أَهْلِهَا، اسْتَقَامَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى بِأَمْرِ الْجَنَّاتِ وَاخْتِيَارِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي مِنْ تَحْتِهَا: مِنْ جِهَتِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ أَخَادِيدَ، وَأَنَّهَا تَجْرِي عَلَى سَطْحِ أَرْضِ الْجَنَّةِ مُنْبَسِطَةً.
وَإِذَا صَحَّ هَذَا النَّقْلُ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي النُّزْهَةِ، وَأَحْلَى فِي الْمَنْظَرِ، وَأَبْهَجُ لِلنَّفْسِ. فَإِنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ يَنْبَسِطُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَوْهَرُهُ فَيَحْسُنُ انْدِفَاعُهُ وَتَكَسُّرُهُ، وَأَحْسَنُ الْبَسَاتِينِ مَا كَانَتْ أَشْجَارُهُ مُلْتَفَّةً وَظِلُّهُ ضَافِيًا وَمَاؤُهُ صَافِيًا مُنْسَابًا عَلَى وَجْهِ أَرْضِهِ، لَا سِيَّمَا الْجَنَّةُ، حَصْبَاؤُهَا الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، فَتَتَكَسَّرُ تِلْكَ الْمِيَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَصَى، وَيَجْلُو صَفَاءُ الْمَاءِ بَهْجَةَ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ، وَتَسْمَعُ لِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُتَكَسِّرِ عَلَى تِلْكَ الْيَوَاقِيتِ وَاللَّآلِئِ لَهُ خَرِيرًا، قَالَ شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْبَارِعُ أَبُو الْحَكَمِ مَالِكُ بْنُ الْمُرَحَّلِ الْمَالِقِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ كَلِمَةٍ:
وَتَحَدَّثَ الْمَاءُ الزُّلَالُ مَعَ الْحَصَى ... فَجَرَى النَّسِيمُ عَلَيْهِ يَسْمَعُ مَا جَرَى
خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ، وَبَحْرُ اللَّبَنِ، وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تُشَقَّقُ الْأَنْهَارُ بَعْدَهُ» .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «1» الْآيَةَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ لَا تَشُوقُ، وَالرَّوْضُ لَا يَرُوقُ إِلَّا بِالْمَاءِ الَّذِي يَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْأَرْوَاحِ لِلْأَشْبَاحِ، مَا كَادَ مَجِيءُ ذِكْرِهَا إِلَّا مَشْفُوعًا بِذِكْرِ الْأَنْهَارِ، مُقَدِّمًا هَذَا الْوَصْفَ فِيهَا عَلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نُسِبَ الْجَرْيُ إِلَى النَّهْرِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْمَاءُ وَحْدَهُ تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا، كَمَا قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ ... وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ
انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَنَاقَضَ قَوْلُهُ هَذَا مَا شَرَحَ بِهِ الْأَنْهَارَ قَبْلَهُ بِنَحْوٍ مِنْ خَمْسَةِ أَسْطُرٍ قَالَ: وَالْأَنْهَارُ الْمِيَاهُ فِي مَجَارِيهَا الْمُتَطَاوِلَةِ الْوَاسِعَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَنْهَارِ لِلْجِنْسِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يُرَادُ أَنْهَارُهَا، فَعَوَّضَ التَّعْرِيفَ بِاللَّامِ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «3» ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو أن الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَكُونُ عِوَضًا من الإضافة، ليس مذهب الْبَصْرِيِّينَ، بَلْ شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ، وَعَلَيْهِ خَرَّجَ
__________
(1) سورة محمد: 47/ 15.
(2) سورة يوسف: 12/ 82.
(3) سورة مريم: 19/ 4.(1/183)
بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «1» أَيْ أَبْوَابُهَا. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَيَجْعَلُونَ الضَّمِيرَ مَحْذُوفًا، أَيِ الْأَبْوَابُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا مِنَ الْإِضَافَةِ لَمَا أَتَى بِالضَّمِيرِ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قُطُوبُ رَحِيبِ الْجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ ... بِجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةَ الْمُتَجَرِّدِ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الثَّابِتِ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ. وَجَاءَ هَذَا الْجَمْعُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ إِشَارَةً إِلَى الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ، إِنْ قُلْنَا:
إِنَّ الألف واللام فيها للعهد، أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنْهَارِ الْمَاءِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ، فِي الصَّحِيحِ.
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «نَهْرَانِ بَاطِنَانِ: الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ: سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ» . وَفِي رِوَايَةٍ سَيْحُونَ وَجَيْحُونَ،
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن مَاءِ الْكَوْثَرِ قَالَ: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ تَعَالَى، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» الْحَدِيثَ.
وَإِنْ كَانَتْ أَنْهَارًا كَثِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَجْرَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، كَمَا جَاءَ الْعَكْسُ عَلَى جِهَةِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ.
كُلَّما رُزِقُوا، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كُلَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّكْرَارِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ مَا يَفْهَمُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَالْأَحْسَنُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ صِفَتُهَا كَذَا، هَجَسَ فِي النُّفُوسِ حَيْثُ ذُكِرَتِ الْجَنَّةُ الْحَدِيثُ عَنْ ثِمَارِ الْجَنَّاتِ، وَتَشَوَّقَتْ إِلَى ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ: نَصْبٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا صِفَةً لِلْجَنَّاتِ، وَرَفْعٌ: عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْجَنَّاتِ، أَيْ هِيَ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها، أَوْ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ هُمْ كُلَّمَا رُزِقُوا، وَالْأَوْلَى الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ فِيهِ لِأَنَّهَا فِي الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ تَتَقَدَّرُ بِالْمُفْرَدِ، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَوْ إِلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تكون حالا من الَّذِينَ آمَنُوا تَقْدِيرُهُ مَرْزُوقِينَ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَا يَتِمُ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مَقْدِرَةً، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ التَّبْشِيرِ لَمْ يَكُونُوا مَرْزُوقِينَ عَلَى الدَّوَامِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ جَنَّاتٍ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: تَجْرِي، فَقَرُبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَتُؤَوَّلُ أَيْضًا إِلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ.
وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مُصَاحِبَةً، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرَ مَا ذكره أبو
__________
(1) سورة ص: 38/ 50.(1/184)
الْبَقَاءِ. وَمِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنْهَا، هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَفِي: مِنْ ثَمَرَةٍ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْهَا، أُعِيدَ مَعَهُ حَرْفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها «1» ، عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَكِلْتَاهُمَا تَتَعَلَّقُ بِرُزِقُوا عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقْضِي حَرْفَيْ جَرٍّ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا بِالْعَطْفِ، أَوْ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ، وَهَذَا الْبَدَلُ هُوَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. وَقَدْ طَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: مِنْ ثَمَرَةٍ، وَلَمْ يُفْصِحْ بِالْبَدَلِ، لَكِنَّ تَمْثِيلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثَمَرَةٍ بَيَانًا عَلَى مِنْهَاجِ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا، تُرِيدُ أَنْتَ أَسَدٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَوْنُ مِنْ لِلْبَيَانِ لَيْسَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ تَأَوَّلُوا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ، وَلَوْ فَرَضْنَا مَجِيءَ مِنْ لِلْبَيَانِ، لَمَا صَحَّ تَقْدِيرُهَا لِلْبَيَانِ هُنَا، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مِنْ لِلْبَيَانِ قَدَّرُوهَا بِمُضْمَرٍ وَجَعَلُوهُ صَدْرًا لِمَوْصُولِ صِفَةٍ، إِنْ كَانَ قَبْلَهَا مَعْرِفَةٌ، نَحْوُ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «2» ، أَيِ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا نَكِرَةٌ، فَهُوَ يَعُودُ عَلَى تِلْكَ النَّكِرَةِ نَحْوَ: مَنْ يَضْرِبُ مِنْ رَجُلٍ، أَيْ هُوَ رجل، ومن هَذِهِ لَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لَهُ، لَا نَكِرَةً وَلَا مَعْرِفَةً، إِلَّا إِنْ كَانَ يَتَمَحَّلُ لِذَلِكَ أَنَّهَا بَيَانٌ لِمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا رِزْقًا مِنْ ثَمَرَةٍ، فَتَكُونُ مِنْ مُبَيِّنَةً لِرِزْقًا، أَيْ: رِزْقًا هُوَ ثَمَرَةٌ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْ مِثْلِهِ. وَأَمَّا: رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا، فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ لِلْغَايَةِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، نَحْوُ:
أَخَذْتُهُ مِنْكَ، وَلَا يُرَادُ بِثَمَرَةٍ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مِنَ التُّفَّاحِ أَوِ الرُّمَّانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَى هَذَا، أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانًا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالثَّمَرَةِ النَّوْعُ مِنَ الثِّمَارِ، وَالْجَنَّاتِ الْوَاحِدَةُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدِ اخْتَرْنَا أَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ بَيَانًا فَلَا نَخْتَارُ مَا ابْتَنَى عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْجَنَّاتُ الْوَاحِدَةُ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ فَهْمُهُ إِلَى تَأَمُّلٍ، وَرِزْقًا هُنَا هُوَ المرزوق، والمصد فيه بَعِيدٌ جِدًّا لِقَوْلِهِ: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُؤْتَى بِهِ مُتَشَابِهًا، إِنَّمَا هَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَرْزُوقِ لَا عَنِ الْمَصْدَرِ.
قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، قَالُوا: هُوَ الْعَامِلُ فِي كُلَّمَا، وَهَذَا الَّذِي: مُبْتَدَأٌ مَعْمُولٌ لِلْقَوْلِ. فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ، وَالْمَعْنَى: هَذَا، مِثْلُ: الَّذِي رُزِقْنَا، فَهُوَ من باب أما الْخَبَرُ شُبِّهَ بِهِ الْمُبْتَدَأُ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنْ رُزِقُوهُ، ثُمَّ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةُ الْمُقَدَّرَةُ حذفت
__________
(1) سورة الحج: 22/ 22.
(2) سورة الحج: 22/ 30.(1/185)
لِاسْتِحْكَامِ الشَّبَهِ، حَتَّى كَأَنَّ هَذِهِ الذَّاتَ هِيَ الذَّاتُ، وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِي مَحْذُوفٌ، أَيْ رُزِقْنَاهُ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ برزقا، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقِيلَ: مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِهِ: أَيْ مِنْ قَبْلِ الْمَرْزُوقِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ رِزْقُ الْغَدَاةِ كَرِزْقِ الْعَشِيِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو عَبِيدَ: ثَمَرُ الْجَنَّةِ إِذَا جُنِيَ خَلَفَهُ مِثْلُهُ، فَإِذَا رَأَوْا مَا خَلَفَ الْمَجْنِيَّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقَنَا مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ:
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الصُّورَةِ، فَالْقَبْلِيَّةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي وُعِدْنَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ نُرْزَقَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ، هُوَ نَفْسُ الْخَبَرِ، وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ مِثْلَ: وَعَبَّرَ عَنِ الْوَعْدِ بِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الرِّزْقُ، وَهُوَ مَجَازٌ، فَلِصِدْقِ الْوَعْدِ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُمْ رُزِقُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنُ الْخَبَرِ يَكُونُ غَيْرَ الْمُبْتَدَأِ أَيْضًا مَجَازٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَجَازَ أَكْثَرُ وَأَسْوَغُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْقَبْلِيَّةُ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْوَعْدَ وَقَعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ كَوْنَ الْقَبْلِيَّةِ فِي الدُّنْيَا يُبْعِدُهُ دُخُولُ مِنْ عَلَى قَبْلُ لِأَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَهَذَا مَوْضِعُ قَبْلُ لَا مَوْضِعُ مِنْ، لِأَنَّ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ تَرَاخِيًا كَثِيرًا، وَمَنْ تُشْعِرُ بِابْتِدَاءِ الْقَبْلِيَّةِ فَتُنَافِي التَّرَاخِيَ وَالِابْتِدَاءَ. وَإِذَا كَانَتِ الْقَبْلِيَّةُ فِي الْآخِرَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الرِّزْقَ الْأَوَّلَ الَّذِي رُزِقُوهُ لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ رُزِقُوهُ قَبْلُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ أَوَّلُ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ رُزِقُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، أَيْ هَذَا مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَيْسَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، بَلْ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الرِّزْقِ. وَكَيْفَ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْجِنْسِ وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ بَعْدَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ؟ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا التَّرْكِيبَ كَيْفَ هُوَ. وَلَعَلَّ النَّاقِلَ صَحَّفَ مِثْلَ بِمِنْ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا الْجِنْسُ مِثْلَ الْجِنْسِ الَّذِي رزقنا من قبل، وإلا ظهر أنه تصحيف، لأن لتقدير مِنَ الْجِنْسِ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ مِنْ إِطْلَاقِ كُلٍّ، وَيُرَادُ بِهِ بَعْضٌ فَتَقُولُ: هَذَا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ تَتَجَوَّزُ فَتَقُولُ: هَذَا بَنُو تَمِيمٍ، تَجْعَلُهُ كُلُّ بَنِي تَمِيمٍ مَجَازًا تَوَسُّعًا. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ يُخَاطِبُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ، قَالَهُ: جَمَاعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ الثَّمَرَةَ ثُمَّ يُرْزَقُونَ بَعْدَهَا مِثْلَ صُورَتِهَا، وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ، فَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ لِذَلِكَ وَيُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.(1/186)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الدُّنْيَا سِوَى الْأَسْمَاءُ، وَأَمَّا الذَّوَاتُ فَمُتَبَايِنَةٌ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: وَأُتُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ الْخَدَمُ وَالْوِلْدَانُ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ هَارُونَ الْأَعْوَرِ وَالْعَتَكِيِّ. وَأُتُوا بِهِ عَلَى الْجَمْعِ، وَهُوَ إِضْمَارٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ «1» إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ «2» ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلْدَانَ هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْفَاكِهَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى الرِّزْقِ، أَيْ: وَأُتُوا بِالرِّزْقِ الَّذِي هُوَ مِنَ الثِّمَارِ، كَمَا أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِلَامَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأُتُوا بِهِ؟ قُلْتُ: إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ انْطَوَى تَحْتَهُ ذِكْرُ مَا رُزِقُوهُ فِي الدَّارَيْنِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. أَيْ لَمَّا كَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا مِثْلُ الَّذِي رُزِقْنَاهُ كَانَ قَدِ انْطَوَى عَلَى الْمَرْزُوقَيْنِ مَعًا. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قِيلَ: زَيْدٌ مِثْلُ حَاتِمٍ، كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَى ذِكْرِ زَيْدٍ وَحَاتِمٍ؟ وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا على مَرْزُوقِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَالْمُشَبَّهُ بِالَّذِي رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا فُسِّرَتِ الْقَبْلِيَّةُ بِمَا فِي الْجَنَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَّا إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الْجَنَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأُتُوا بِالْمَرْزُوقِ فِي الْجَنَّةِ مُتَشَابِهًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَعْرَبْتَ الْجُمْلَةَ حَالًا، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ قَالُوا: هَذَا مِثْلُ الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَكَانَ الْحَامِلُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ كَوْنَهُ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا. وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِمَاضٍ حَالًا وَمَعَهَا الْوَاوُ عَلَى إِضْمَارٍ قَدْ جَائِزٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ.
قَالَ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «3» أَيْ وَقَدْ كُنْتُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا، أَيْ وَقَدْ قَعَدُوا. وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «4» أَيْ وَقَدِ ادَّكَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَسْتَقِيمُ عَوْدُهُ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدَّارَيْنِ إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ إِذْ ذَاكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا مَعْنًى لَازِمًا فِي حَيِّزِ كُلَّمَا، وَالْعَامِلُ فِيهَا يَتَعَيَّنُ هُنَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ مَاضِيَ اللَّفْظِ لِأَنَّهَا لَا تخلوا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مستأنفة تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الَّذِي رُزِقُوهُ مُتَشَابِهًا. وقول
__________
(1) سورة الواقعة: 56/ 17- 18.
(2) سورة الواقعة: 56/ 20.
(3) سورة البقرة: 2/ 28.
(4) سورة يوسف: 12/ 45.(1/187)
الزمخشري في عوده الضَّمِيرِ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا يَظْهَرُ أَيْضًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُحَدَّثًا بِهَا عَنِ الْجَنَّةِ وَأَحْوَالِهَا، وَكَوْنُهُ يُخْبِرُ عَنِ الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ. فَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ بِهَذَا فَقَطْ، وَانْتَصَبَ مُتَشَابِهًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ التَّشَابُهَ ثَابِتٌ لَهُ، أُتُوا بِهِ أو لم يؤتوا، وَالتَّشَابُهُ قِيلَ: فِي الْجَوْدَةِ وَالْخِيَارِ، فَإِنَّ فَوَاكِهَ الْجَنَّةِ لَيْسَ فِيهَا رَدِيءٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً «1» ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ مُتَنَاسِبًا فِي أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ هُوَ أَعْلَى جِنْسِهِ، فَهَذَا تَشَابُهٌ مَا أَوْ فِي اللَّوْنِ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ وَالشَّهْوَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ، أَوْ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الِاسْمِ مُخْتَلِفٌ فِي اللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالطَّعْمِ، أَوْ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْقَدْرِ وَالطَّعْمِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثًا يَرْفَعُهُ. قَالَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللَّهَ لَيَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ.
أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً، وَمَا كُنْتُ أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هِيَ؟» قَالَ: السِّدْرَةُ، فَإِنَّ لَهَا شَوْكًا مُؤْذِيًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أليس يَقُولُ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، خَضَدَ اللَّهُ الشَّوْكَ، فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا لَتُنْبِتُ ثَمَرًا يُفْتَقُ مِنَ الثَّمَرَةِ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا طَعَامًا مَا فِيهِ لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ؟»
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا، وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي كَوْنِهِ كَانَ مَشَابِهًا لِثَمَرِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُنْ أَجْنَاسًا أُخَرَ.
وَمُلَخَّصُ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْنَسُ بِالْمَأْلُوفِ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْمَأْلُوفِ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ، وَإِذَا ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا أَلِفَهُ وَظَهَرَ لَهُ فِيهِ مِزْيَةٌ، وَتَفَاوُتٌ فِي الْجِنْسِ، سُرَّ بِهِ وَاغْتَبَطَ بِحُصُولِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي مِقْدَارِ الرُّمَّانَةِ وَالنَّبْقَةِ وَالشَّجَرَةِ وَكَيْفِيَّةِ نَخْلِ الْجَنَّةِ وَالْعُنْقُودُ وَالْأَنْهَارُ مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ثُبُوتُ التَّشَابُهِ لَهُ، وَلَمْ يُقَيِّدِ التَّشَابُهَ بَلْ أَطْلَقَ، فَتَقْيِيدُهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَلَمَّا كَانَتْ مَجَامِعُ اللَّذَّاتِ فِي الْمَسْكَنِ الْبَهِيِّ وَالْمَطْعَمِ الشَّهِيِّ وَالْمَنْكَحِ الْوَضِيِّ، ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يُبَشَّرُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَدْ بَدَأَ بِالْمَسْكَنِ لِأَنَّ بِهِ الِاسْتِقْرَارَ فِي دَارِ الْمَقَامِ، وَثَنَّى بِالْمَطْعَمِ لأن به قوام
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 23.(1/188)
الْأَجْسَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَالِثًا الْأَزْوَاجَ لِأَنَّ بِهَا تَمَامُ الِالْتِئَامِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مستأنفة. كَمَا اخْتَرْنَا فِي قَوْلِهِ: كُلَّما رُزِقُوا لِأَنَّ جَعْلَهَا اسْتِئْنَافًا يَكُونُ فِي ذَلِكَ اعْتِنَاءٌ بِالْجُمْلَةِ، إِذْ سِيقَتْ كَلَامًا تَامًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِبَاطٍ صِنَاعِيٍّ، وَمَنْ جَعَلَهَا صِفَةً فَقَدْ سَلَكَ بها مسلك غَيْرَ مَا هُوَ أَصْلٌ للحمل. وَارْتِفَاعُ أَزْوَاجٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعَامِلِ فِي جَنَّاتٍ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ أَيْضًا، وَخَبَرُ أَزْوَاجٍ فِي الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ لَهُمْ وَفِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَامِلِ فِي لَهُمْ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ. وَالْأَزْوَاجُ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، لِأَنَّ زَوْجًا جُمِعَ عَلَى زَوْجَةٍ نَحْوَ: عَوْدُ وَعَوْدَةٌ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الْكَلَامِ مُسْتَعْمَلًا، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْحُورِ وَغَيْرِهِمْ. وَأُرِيدَ هُنَا بِالْأَزْوَاجِ: الْقُرَنَاءُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي تَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَمُطَهَّرَةٌ: صِفَةٌ لِلْأَزْوَاجِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى طَهُرَتْ كَالْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُطَهَّرَاتٌ، فَجُمِعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ عَلَى طَهُرْنَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، يُقَالُ: النِّسَاءُ فَعَلْنَ، وَهُنَّ فَاعِلَاتٌ، وَالنِّسَاءُ فَعَلَتْ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ:
وإذا العذارى بالدخان تقنت ... وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتِ
وَالْمَعْنَى: وَجَمَاعَةُ أَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَفِيهِ تَعَقُّبٌ أَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قِلَّةٍ، أَوْ جَمْعَ كَثْرَةٍ إِنْ كَانَ جَمْعَ كَثْرَةٍ فَمَجِيءُ الضَّمِيرِ عَلَى حَدِّ ضَمِيرِ الْوَاحِدَةِ أَوْلَى مِنْ مَجِيئِهِ عَلَى حَدِّ ضَمِيرِ الْغَائِبَاتِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ قِلَّةٍ فَالْعَكْسُ، نَحْوُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرْنَ، وَيَجُوزُ انْكَسَرَتْ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى جَمْعِ الْعَاقِلَاتِ الْأَوْلَى فِيهِ النُّونُ مِنَ التَّاءِ، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَمَا فَرَّقُوا فِي جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ تَكُونُ قِرَاءَةُ زَيْدٍ الْأَوْلَى إِذْ جَاءَتْ فِي الظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى. وَمَجِيءُ هَذِهِ الصِّفَةِ مَبْنِيَّةٌ لِلْمَفْعُولِ، وَلَمْ تَأْتِ ظَاهِرَةً أَوْ ظَاهِرَاتٍ، أَفْخَمُ لِأَنَّهُ أفهم أن لها مظهرا وَلَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقِرَاءَةُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ مُطَهِّرَةٌ، وَأَصْلُهُ مُتَطَهِّرَةٌ، فَأُدْغِمَ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَرَبِ مَا أَحْوَجَنِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَطَّهَّرُ بِهِ أَطْهُرَةً، أَيْ: فَأَتَطَهَّرُ بِهِ تَطَهُّرَةً، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُنَاسِبَةٌ لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُطَاوِعًا نَحْوَ: طَهَّرْتُهُ فَتَطَهَّرَ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَهَّرَهُنَّ فَتَطَهَّرْنَ. وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الَّتِي وصفها الله بالتطهيران كُنَّ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. فَمَعْنَى التَّطْهِيرِ:(1/189)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
خَلَقَهُنَّ عَلَى الطَّهَارَةِ لَمْ يَعْلُقْ بِهِنَّ دَنَسٌ ذَاتِيٌّ وَلَا خَارِجِيٌّ وَإِنْ كُنَّ مِنْ بَنِي آدَمَ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: عَنْ عجائزكم الرمص العمص يَصِرْنَ شَوَابَّ، فَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِ الذَّاتِيَّةِ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ وَالطَّبَائِعِ الرَّدِيئَةِ، كَالْغَضَبِ وَالْحِدَّةِ وَالْحِقْدِ وَالْكَيْدِ المكر، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْخَنَا وَالتَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَدْنَاسِ الذَّاتِيَّةِ، مِثْلَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ وَالْبَوْلِ وَالتَّغَوُّطِ وغير ذلك من المقاذير الْحَادِثَةِ عَنِ الْأَعْرَاضِ الْمُنْقَلِبَةِ إِلَى فَسَادٍ: كَالْبَخْرِ وَالذَّفَرِ وَالصُّنَانِ وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فَسَادٍ: كَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ.
وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، لَا طَمُحَاتٍ وَلَا مُرُجِاتٍ وَلَا يَغِرْنَ وَلَا يَعُزْنَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْوَلَدُ. وَقَالَ يَمَانٌ: مِنَ الْإِثْمِ وَالْأَذَى، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُطَهَّرَةٌ لَكِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ مُطَهَّرَاتٌ مِنْ كُلِّ مَا يَشِينُ، لِأَنَّ مَنْ طَهَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَصَفَهُ بِالتَّطْهِيرِ كَانَ فِي غَايَةِ النَّظَافَةِ وَالْوَضَاءَةِ. ولما ذكر تعاليم سكن الْمُؤْمِنِينَ وَمَطْعَمَهُمْ وَمَنْكَحَهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَلَاذُ لَا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الْكَمَالِ مَعَ تَوَقُّعِ خَوْفِ الزَّوَالِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ ارْتِحَالًا
أَعْقَبَ ذَلِكَ تَعَالَى بِمَا يُزِيلُ تَنْغِيصَ التَّنَعُّمِ بِذِكْرِ الْخُلُودِ فِي دَارِ النَّعِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى:
وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْخُلُودِ، وَأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ الْبَقَاءُ الطَّوِيلُ، انْقَطَعَ أَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَأَنَّ كَوْنَ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَذَابِ أَهْلِ النَّارِ سَرْمَدِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ، لَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنْ لَفْظِ الْخُلُودِ بَلْ مِنْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثَ صِحَاحٍ مِنَ السُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً «1» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «2» .
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ» .
وَفِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: «وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا» .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من الآي والأحاديث.
[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 29]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
__________
(1) سورة التغابن: 64/ 9. [.....]
(2) سورة الحجر: 15/ 48.(1/190)
الحياء: تغير وإنكار يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيَذُمُّ، وَمَحَلُّهُ الْوَجْهُ، وَمَنْبَعُهُ مِنَ الْقَلْبِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَضِدُّهُ: الْقَحَةُ، وَالْحَيَاءُ، وَالِاسْتِحْيَاءُ، وَالِانْخِزَالُ، وَالِانْقِمَاعُ، وَالِانْقِلَاعُ، مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، فَتَنُوبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَنَابَ الْأُخْرَى.
أَنْ: حَرْفٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ يَنْسَبِكُ مِنْهُ مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ مَصْدَرٌ، وَعَمَلُهُ فِي الْمُضَارِعِ النَّصْبَ، إِنْ كَانَ مُعْرَبًا، وَالْجَزْمُ بِهَا لُغَةٌ لِبَنِي صَبَاحٍ، وَتُوصَلُ أَيْضًا بِالْمَاضِي الْمُتَصَرِّفِ، وَذَكَرُوا أَنَّهَا تُوصَلُ بِالْأَمْرِ، وَإِذَا نَصَبَتِ الْمُضَارِعَ فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الْفَصْلَ بِالظَّرْفِ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْفَصْلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا بِالشَّرْطِ. وَأَجَازُوا أَيْضًا إِلْغَاءَهَا وَتَسْلِيطُ الشَّرْطِ عَلَى مَا كَانَ يَكُونُ مَعْمُولًا لَهَا لَوْلَاهُ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ مَعْمُولِهَا عَلَيْهَا، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَأَحْكَامُ أَنْ الْمَوْصُولَةِ كَثِيرَةٌ، وَيَكُونُ أَيْضًا حَرْفَ تَفْسِيرٍ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَأْتِي تَفْسِيرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التَّفْسِيرِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ»
، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَكُونُ أَنْ أَيْضًا زَائِدَةً وَتُطَّرَدُ زِيَادَتُهَا بَعْدَ لَمَّا، وَلَا تُفِيدُ إِذْ ذَاكَ غَيْرَ التَّوْكِيدِ، خِلَافًا لِمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُفِيدُ اتِّصَالَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابًا بِالْفِعْلِ الَّذِي زِيدَتْ قَبْلَهُ، وَبَعْدَ الْقَسَمِ قَبْلَ لَوْ وَالْجَوَابِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا إِذْ ذَاكَ رَابِطَةٌ لِجُمْلَةِ الْقَسَمِ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَوْ وَالْجَوَابُ، وَلَا تَكُونُ أَنْ لِلْمُجَازَاةِ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَلَا بِمَعْنَى إِنِ الْمَكْسُورَةِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ خِلَافًا لِلْفَارِسِيِّ، وَلَا لِلنَّفْيِ، وَلَا بِمَعْنَى إِذْ، وَلَا بِمَعْنَى لِئَلَّا خِلَافًا لِزَاعِمِي ذَلِكَ. وَأَمَّا أَنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَحَرْفٌ ثُلَاثِيُّ الْوَضْعِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يُذْكَرُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 125.(1/191)
وَالضَّرْبُ: إِمْسَاسُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ بِعُنْفٍ وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ السَّفَرِ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الصُّنْعِ وَالِاعْتِمَالِ.
وَرُوِيَ اضطرب رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ.
وَالْبَعُوضَةُ: وَاحِدُ الْبَعُوضِ، وَهِيَ طَائِرٌ صَغِيرٌ جِدًّا مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ عَلَى فُعُولٍ كَالْقُطُوعِ فَغُلِّبَتْ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْبَعْضِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ. أَمَّا: حَرْفٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِحَرْفِ تَفْصِيلٍ، وَبَعْضُهُمْ بِحَرْفِ إِخْبَارٍ، وَأَبْدَلَ بَنُو تَمِيمٍ الْمِيمَ الْأُولَى يَاءً فَقَالُوا: أَيَّمَا. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ أَمَّا: أَنَّ الْمَعْنَى مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَزَيْدٌ ذَاهِبٌ، وَالَّذِي يَلِيهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَتَلْزَمُ الْفَاءُ فِيمَا وَلِيَ الْجَزَاءُ الَّذِي وَلِيَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ دُعَاءً فَالْفَاءُ فِيمَا يَلِيهَا وَلَا يُفْصَلُ بِغَيْرِهَا مِنَ الْجُمَلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَاءِ، وَإِذَا فُصِلَ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ بِمَعْمُولٍ يَلِي أَمَّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ أَمَّا وَبَيْنَ الْفَاءِ بِمَعْمُولِ خَبَرِ أَنَّ وِفَاقًا لِسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُثْمَانَ، وَخِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ وَابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ، وَلَا بِمَعْمُولِ خَبَرِ لَيْتَ وَلَعَلَّ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَمَسْأَلَةُ أَمَّا عِلْمًا، فَعَالِمٌ يَلْزَمُ أَهْلُ الْحِجَازِ فِيهِ النَّصْبَ وَتَخْتَارُهُ تَمِيمٌ، وَتَوْجِيهُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. الْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ. حَقَّ الْأَمْرُ ثَبَتَ وَوَجَبَ وَمِنْهُ: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ «1» ، وَالْبَاطِلُ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ الْمُضْمَحِلُّ الزَّائِلُ، مَاذَا: الْأَصْلُ فِي ذَا أَنَّهَا اسْمُ إِشَارَةٍ، فَمَتَى أُرِيدَ مَوْضُوعُهَا الْأَصْلِيُّ كَانَتْ مَاذَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَتَكُونُ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَذَا خَبَرُهُ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ مَاذَا ثَلَاثَةَ اسْتِعْمَالَاتٍ غَيْرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا وَذَا مَوْصُولًا بِدَلِيلِ وقوع الاسم جوابا لها مَرْفُوعًا فِي الْفَصِيحِ، وَبِدَلِيلِ رَفْعِ الْبَدَلِ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ... أَنُحِبُّ فَيُقْضَى أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ: إِنَّ ذَا لَغْوٌ وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الزِّيَادَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا رُكِّبَتْ مَعَ مَا وَصَارَتْ كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وقوع الاسم جوابا لها مَنْصُوبًا فِي الْفَصِيحِ، وَقَوْلُ الْعَرَبِ: عَمَّاذَا تَسْأَلُ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ مَا، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا خُزْرَ تَغْلِبَ مَاذَا بَالُ نِسْوَتِكُمْ ... لَا يَسْتَفِقْنَ إلى الديرين تحتانا
__________
(1) سورة يونس: 10/ 33، وسورة غافر: 40/ 6.(1/192)
وَلَا يَصِحُّ مَوْصُولِيَّةُ ذَا هُنَا، الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَا مَعَ ذَا اسْمًا مَوْصُولًا، وَهُوَ قَلِيلٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ ... وَلَكِنْ بِالْمَغِيبِ نَبِّئِينِي
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالْأَوَّلُ يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَى مَاذَا: وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَتَسَلَّطُ عَلَى مَاذَا إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَلَّطَ. وَأَجَازَ الْفَارِسِيُّ أَنْ تَكُونَ مَاذَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَجَعَلَ مِنْهُ: دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ. الْإِرَادَةُ: طَلَبُ نَفْسِكَ الشَّيْءَ وَمَيْلُ قَلْبِكَ إِلَيْهِ، وهي نقيض الكرهة، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُضَافَةً إلى الله تعالى، إن شَاءَ اللَّهُ. الْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ، فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ: خَرَجَتْ، وَالْفَاسِقُ شَرْعًا: الْخَارِجُ عَنِ الْحَقِّ، وَمُضَارِعُهُ جَاءَ عَلَى يَفْعَلُ وَيَفْعُلُ. النَّقْضُ: فَكُّ تَرْكِيبِ الشَّيْءِ وَرَدُّهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَنَقْضُ الْبِنَاءِ هَدْمُهُ، وَنَقْضُ الْمُبْرَمِ حَلُّهُ. وَالْعَهْدُ: الْمَوْثِقُ، وَعَهَدَ إِلَيْهِ فِي كَذَا: أَوْصَاهُ بِهِ وَوَثَّقَهُ عَلَيْهِ. وَالْعَهْدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى سِتَّةِ مَحَامِلٍ: الْوَصِيَّةُ، وَالضَّمَانُ، وَالْأَمْرُ، وَالِالْتِقَاءُ، وَالرُّؤْيَةُ، وَالْمَنْزِلُ. وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالْيَمِينِ. وَالْمِيثَاقُ وَالتَّوْثِقَةُ: كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة. الْخَسَارُ: النُّقْصَانُ أَوِ الْهَلَاكُ، كَيْفَ: اسْمٌ، وَدُخُولُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا شَاذٌّ، وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِفْهَامًا، وَالشَّرْطُ بِهَا قَلِيلٌ، وَالْجَزْمُ بِهَا غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَا نُجِيزُهُ قِيَاسًا، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَقُطْرُبٍ، وَقَدْ ذُكِرَ خِلَافٌ فِيهَا: أَهِيَ ظَرْفٌ أَمِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ؟ وَالْأَوَّلُ عَزَوْهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ، والثاني إلى الأخفش والسيرافي، وَالْبَدَلُ مِنْهَا وَالْجَوَابُ إِذَا كَانَتْ مَعَ فِعْلٍ مُسْتَغْنٍ مَنْصُوبَانِ، وَمَعَ مَا لَا يُسْتَغْنَى مَرْفُوعٌ إِنْ كَانَ مُبْتَدَأً، وَمَنْصُوبٌ إِنْ كَانَ نَاسِخًا. أَمْوَاتًا: جَمْعُ مَيِّتٍ، وَهُوَ أَيْضًا جُمَعُ مَيْتَةٍ، وَجَمْعُهُمَا عَلَى أَفْعَالٍ شُذُوذٍ، وَالْقِيَاسُ فِي فَيْعَلٍ إِذَا كُسِرَ فَعَائِلٍ. الِاسْتِوَاءُ: الِاعْتِدَالُ وَالِاسْتِقَامَةُ، اسْتَوَى الْعُودُ وَغَيْرُهُ: إِذَا اسْتَقَامَ وَاعْتَدَلَ، ثُمَّ قِيلَ: اسْتَوَى إِلَيْهِ كَالسَّهْمِ الْمُرْسَلِ، إِذَا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عَلَى شَيْءٍ، وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ وَالتَّعْدِيلُ.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْثَالَ فِي كِتَابِهِ بِالْعَنْكَبُوتِ، وَالذُّبَابِ، وَالتُّرَابِ، وَالْحِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَحْقَرُ وَيُطْرَحُ.
قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَعَزُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُحَقَّرَاتِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، قَالُوا: لَمَّا ضَرَبَ(1/193)
اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ بِالْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لا بال لها، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، إِذِ اشْتَمَلَتْ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ إِنَّمَا هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى الْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1» ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا فِي إيذائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِقِينَ. وَقَدْ نَصَّ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا ذِكْرَ ثَلَاثِ طَوَائِفَ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، قَالَهُ الْقَفَّالُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَأَنَّ الْبَعُوضَةَ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، فَإِذَا شَبِعَتْ وَامْتَلَأَتْ مَاتَتْ. كَذَلِكَ مَثَلُ أهل الدنيا إذا امتلأوا مِنْهَا كَانَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ، وَقِيلَ: ضَرَبَ ذَلِكَ تَعَالَى مَثَلًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ مَا قَلَّ مِنْهَا أَوْ كثير لِيُجَازِيَ عَلَيْهَا ثَوَابًا أَوْ عقابا، وإلا ظهر فِي سَبَبِ النُّزُولِ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذِكْرِ الْمَثَلِ بِالْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ، وَنَزَلَ التَّمْثِيلُ بِالْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَهَلَةُ وَأَهْلُ الْعِنَادِ، وَاسْتَغْرَبُوا مَا لَيْسَ بِمُسْتَغْرَبٍ وَلَا مُنْكَرٍ، إِذِ التَّمْثِيلُ يَكْشِفُ الْمَعْنَى وَيُوَضِّحُ الْمَطْلُوبَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَائِدَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «2» ، وَالْعَاقِلُ إِذَا سَمِعَ التَّمْثِيلَ اسْتَبَانَ لَهُ بِهِ الْحَقُّ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ الْأَمْثَالَ بِالْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ، وَلِسَانُ الْعَرَبِ مَلْآنُ مِنْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَأَلْقَى مِنْ ذَوِي الضِّغْنِ مِنْهُمُ ... وَمَا أَصْبَحَتْ تَشْكُو مِنَ الْوَجْدِ سَاهِرَهُ
كَمَا لَقِيَتْ ذَاتُ الصَّفَا مِنْ حَلِيفِهَا ... وَمَا انْفَكَّتِ الْأَمْثَالُ فِي النَّاسِ سَائِرَهُ
فَذَكَرَ قِصَّةَ ذَاتِ الصَّفَا، وَهِيَ حَيَّةٌ كَانَتْ قَدْ قُتِلَتْ قُرَابَةَ حَلِيفِهَا، فَتَوَاثَقَا بِاللَّهِ على أنها تدي ذَلِكَ الْقَتِيلِ وَلَا تُؤْذِيهَا، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي ذَلِكَ الشِّعْرِ. وَالْأَمْثَالُ مَضْرُوبَةٌ فِي الْإِنْجِيلِ بِالْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ كَالنُّخَالَةِ وَالدُّودِ وَالزَّنَابِيرِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَرَأْتُ أَمْثَالًا فِي الزَّبُورِ. فَإِنْكَارُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ جَهَالَةٌ مُفْرِطَةٌ أَوْ مُكَابَرَةٌ وَاضِحَةٌ، وَمَسَاقُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُصَدَّرَةٌ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّوْكِيدِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَحْيِي بِيَاءَيْنِ، وَالْمَاضِي: اسْتَحْيَا، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا جَاءَ لِلْإِغْنَاءِ عَنِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ: كَاسْتَنْكَفَ، واستأثر، واستبد، واستعبر،
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 12.
(2) سورة البقرة: 2/ 17.(1/194)
وَهُوَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، وَهَذَا هُنَا مِنَ الْحَيَاءِ. وَفِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنِ اسْتَحْيَا لَيْسَ مُغْنِيًا عَنِ الْمُجَرَّدِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي أَيْضًا الَّذِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يُقَالُ حَيِيَ الرَّجُلُ كَمَا يُقَالُ: نَسِيَ وَخَشِيَ وَشَظِيَ الْفَرَسُ، إِذَا اعْتَلَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ جُعِلَ الْحَيِيُّ لِمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الِانْكِسَارِ، وَالتَّغَيُّرِ مُنْكَسِرُ الْقُوَّةِ مُنْتَقِضُ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالُوا: فُلَانٌ هَلَكَ حَيَاءً مِنْ كَذَا، وَمَاتَ حَيَاءً، وَرَأَيْتُ الْهِلَالَ فِي وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَذَابَ حَيَاءً، وَجَمُدَ فِي مَكَانِهِ خَجَلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ: مِنَ الْحَيَاءِ حَيِيَ الرَّجُلُ، فَيَكُونُ اسْتَحْيَا عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ، وَعَلَى مَا نَقَلْنَاهُ قَبْلُ يَكُونُ مُغْنِيًا عَنِ الْمُجَرَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَيَعْقُوبُ: يَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، يُجْرُونَهَا مَجْرَى يَسْتَبِي. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا تَسْتَحِي مِنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي ... مَحَارِمُنَا لَا يَبُوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ
وَالْمَاضِي: اسْتَحَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا استحين الْمَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ... كَرِعْنَ بست فِي إِنَاءٍ مِنَ الْوَرْدِ
وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي الْمَحْذُوفَةِ، فَقِيلَ لَامُ الْكَلِمَةِ، فَالْوَزْنُ يَسْتَفِعُ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْعَيْنِ إِلَى الْفَاءِ وَسَكَنَتِ الْعَيْنُ فَصَارَتْ يَسْتَفِعُ. وَقِيلَ الْمَحْذُوفُ الْعَيْنُ، فَالْوَزْنُ يَسْتَيْفِلُ ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ اللَّامِ إِلَى الْفَاءِ وَسَكَنَتِ اللَّامُ فَصَارَتْ يَسْتَفِلُ. وَأَكْثَرُ نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْعَيْنُ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَذْفُ مُخْتَصًّا بِالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، بَلْ يَكُونُ أَيْضًا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، كَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِمَّا نَقَلُوا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفِ جَرٍّ، يُقَالُ: اسْتَحْيَيْتُهُ وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَضْرِبَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ تَعَدَّى إِلَيْهِ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَفِي ذَلِكَ الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ «2» ، أَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ أَمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ؟.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُهُ، فَقِيلَ: المعنى
__________
(1) سورة الفاتحة 1/ 5.
(2) سورة البقرة: 2/ 25.(1/195)
لَا يَتْرُكُ، فَعَبَّرَ بِالْحَيَاءِ عَنِ التَّرْكِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْحَيَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَحْيَا مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ تَرَكَهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمُسَبَّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَخْشَى، وَسُمِّيَتِ الْخَشْيَةُ حَيَاءً لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِهِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ «1» ، أن معناه تستحيي مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِعُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ هِيَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى التَّأْوِيلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا فِي اللُّغَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَمُرَّ عَلَى مَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَتَأَوَّلُهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ صِفَاتَهُ تَعَالَى لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَاهِيَّتِهَا الْخَلْقُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، فَمَا صَحَّ فِي الْعَقْلِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ نَسَبْنَاهُ إِلَيْهِ، وَمَا اسْتَحَالَ أَوَّلْنَاهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، كَمَا نُؤَوِّلُ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، وَالْحَيَاءُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ أَوَّلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَدْ جَاءَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ مُثْبَتًا فِيمَا
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ يَدَيْهِ أَنْ بردهما صِفْرًا حَتَّى يَضَعَ فِيهِمَا خَيْرًا»
، وَأُوِّلَ بِأَنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ مِثْلُ تَرْكِهِ تَخْيِيبِ الْعَبْدِ مِنْ عَطَائِهِ لِكَرَمِهِ بِتَرْكِ مَنْ تَرَكَ رَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَيْضًا فِي الِاسْتِحْيَاءِ، فَنُسِبَ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ بِحَالٍ، كَالْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ قَبْلُ وَهُوَ:
إذا ما استحين الْمَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ قَالَ أبو التمام:
هُوَ اللَّيْثُ لَيْثُ الْغَابِ بَأْسًا وَنَجْدَةً ... وَإِنْ كَانَ أَحْيَا مِنْهُ وَجْهًا وَأَكْرَمَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَحْيِي عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، لِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: مَا يستحيي رَبُّ مُحَمَّدٍ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ
وَمَجِيءُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا قُوبِلَ بِهِ، شَائِعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» ، وَجَاءَ ذِكْرُ الِاسْتِحْيَاءِ مَنْفِيًّا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتُهُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُهُ، يَصِحُّ أَنْ ينفى
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 37.
(2) سورة الشورى: 42/ 40.(1/196)
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ «1» ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ «2» مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ «3» ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «4» ؟ وَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ. فَالْإِخْبَارُ بِانْتِفَاءِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الصِّدْقُ الْمَحْضُ، وَلَيْسَ انْتِفَاءُ الشَّيْءِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِهِ عَلَى مَنْ نُفِيَ عَنْهُ، وَلَا صِحَّةُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ. زَعَمَ أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ إِثْبَاتًا يَجِبُ أَنْ لَا يُطْلَقَ عَلَى طَرِيقِ النَّفْيِ، قَالَ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ بِصُورَةِ النَّفْيِ وَلَيْسَ بِنَفْيٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَثْرَةِ ذَلِكَ، أَعْنِي نَفْيَ الشَّيْءِ عَمَّا لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ، لَهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ لَا يُحْصَرُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ. وَيَضْرِبُ: قِيلَ مَعْنَاهُ: يُبَيِّنُ، وَقِيلَ: يَذْكُرُ، وَقِيلَ: يَضَعُ، مَنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَضُرِبَ الْبَعْثُ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، وَيَكُونُ يَضْرِبُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَقِيلَ يَضْرِبُ: فِي مَعْنَى يَجْعَلُ وَيَصِيرُ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِنًا، وَضَرَبْتُ الْفِضَّةَ خَاتَمًا. فَعَلَى هَذَا يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ضَرَبَ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَبُطْلَانُ هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَمَا: إِذَا نَصَبْتَ بَعُوضَةً زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ صِفَةٌ لِلْمَثَلِ تزيد الكرة شَيَاعًا، كَمَا تَقُولُ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ مَا، أَيْ: أَيُّ رَجُلٍ كَانَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ، وَالزَّجَّاجُ: أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً، وَيَنْتَصِبُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ بَعُوضَةً. وَاخْتُلِفَ فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَا، إِذَا جَعَلْنَا ما بدلا من مثل، وَمَثَلًا مَفْعُولٌ بِيَضْرِبُ، وَتَكُونُ مَا إِذْ ذَاكَ قَدْ وُصِفَتْ بِاسْمِ الْجِنْسِ الْمُتَنَكِّرِ لِإِبْهَامِ مَا، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَعُوضَةً عَطْفُ بَيَانٍ، وَمَثَلًا مَفْعُولٌ بِيَضْرِبَ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَثَلَ. الرَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِيَضْرِبَ، وَانْتَصَبَ مَثَلًا حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا. وَالْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا لِيَضْرِبَ ثَانِيًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَثَلُ عَلَى أَنَّ يَضْرِبَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِيَضْرِبَ، وَمَثَلًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَالسَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى تَقْدِيرِ إِسْقَاطِ الْجَارِّ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، وَحَكَوْا لَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَةً فَجَمَلًا، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَنَسَبَهُ الْمَهْدَوِيُّ لِلْكُوفِيِّينَ، وَنَسَبَهُ غَيْرُهُمَا لِلْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَيَكُونُ: مَثَلًا مَفْعُولًا بِيَضْرِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَنْكَرَ هَذَا النَّصْبَ، أَعْنِي نَصْبَ بَعُوضَةٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَبُو الْعَبَّاسِ. وَتَحْرِيرُ نَقْلِ هَذَا المذهب: أن الكوفيين
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 255.
(2) سورة الإخلاص: 112/ 3.
(3) سورة المؤمنون: 23/ 91.
(4) سورة الأنعام: 6/ 14.(1/197)
يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا تَكُونُ جَزَاءً فِي الْأَصْلِ وَتُحَوُّلُ إِلَى لَفْظِ الَّذِي، فَيَنْتَصِبُ مَا بَعْدَهَا، سَوَاءٌ كَانَ نَكِرَةً أَمْ غَيْرَ نَكِرَةٍ، وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ فَقَطْ، وَتَلْزَمُ وَلَا يَصْلُحُ مَكَانَهَا الْوَاوُ، وَلَا ثُمَّ، وَلَا أَوْ، وَلَا لَا، وَيَجْعَلُونَ النَّصْبَ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ بَيْنَ. فَلَمَّا حَذَفَ بَيْنَ، قَامَ هَذَا مَقَامَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَيُقَدِّرُونَ الْفَاءَ بِإِلَى، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. حَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: مُطِرْنَا مَا زُبَالَةٍ فَالثَّعْلَبِيَّةُ، وَمَا مَنْصُوبَةٌ بِمُطِرْنَا.
وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: هِيَ أحسن الناس ما قرنا، وَانْتِصَابُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَتَقُولُ: هِيَ حَسَنَةٌ مَا قَرَنَهَا إِلَى قَدَمِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْشَدَنَا أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ:
يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْنًا إِلَى قَدَمٍ ... وَلَا حِبَالِ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلِ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا نَظَرَ إِلَى الْهِلَالِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا إِهْلَالُكَ إِلَى سِرَارِكَ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: الشَّنْقُ مَا خُمَّا فَعِشْرِينَ. وَالْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا، وَمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تَسْقُطُ، فَخَطَأٌ أَنْ يَقُولَ: مُطِرْنَا زُبَالَةً فَالثَّعْلَبِيَّةُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ لَا يَعْرِفُهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَرَدُّهُ إِلَى قَوَاعِدِ الْبَصْرِيِّينَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعَارِيبِ أَنَّ ضَرَبَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَلِكَ الواحد هُوَ مَثَلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ضُرِبَ مَثَلٌ، وَلِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي التَّرْكِيبِ، وَصَالِحٌ لِأَنْ يَنْتَصِبَ بِيَضْرِبَ.
وَمَا: صِفَةٌ تَزِيدُ النَّكِرَةَ شَيَاعًا، لِأَنَّ زِيَادَتَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا تَنْقَاسُ. وَبَعُوضَةً: بَدَلٌ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي النَّكِرَاتِ، إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ، وَلِأَنَّ الصِّفَةَ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لَا تَنْقَاسُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي عَبْلَةَ، وَرُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ، وَقُطْرُبٌ: بَعُوضَةٌ بِالرَّفْعِ، وَاتَّفَقَ الْمُعْرِبُونَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ عَنْهُ خَبَرًا، فَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ بَعُوضَةٌ، وَفِي هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صِلَةٌ لِمَا، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَحَذْفُ هَذَا الْعَائِدِ وَهَذَا الْإِعْرَابُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي جَوَازِ حَذْفِ هَذَا الضَّمِيرِ طُولَ الصِّلَةِ. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ أَيٍّ مِنَ الْمَوْصُولَاتِ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمْ تَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ شَاذَّةٌ، وَيَكُونُ إِعْرَابُ مَا عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ بَدَلًا، التَّقْدِيرُ: مَثَلًا الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَا زَائِدَةٌ أَوْ صِفَةٌ وَهُوَ بَعُوضَةٌ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ، كَالتَّفْسِيرِ لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَلْفُوظٌ بِهِ وَهُوَ مَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً.(1/198)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لَمَّا اسْتَنْكَفُوا مِنْ تَمْثِيلِ اللَّهِ لِأَصْنَامِهِمْ بِالْمُحَقَّرَاتِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ لِلْأَنْدَادِ مَا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحَقَّرَةِ بَلْهَ فَمَا فَوْقَهَا، كَمَا يُقَالُ، فُلَانٌ لَا يُبَالِي بِمَا وَهَبَ مَا دِينَارٌ وَدِينَارَانِ، وَالْمُخْتَارُ الْوَجْهُ الثَّانِي لِسُهُولَةِ تَخْرِيجِهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ فَصِيحًا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالثَّانِي فِيهِ غَرَابَةٌ وَاسْتِبْعَادٌ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وما مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ بَعُوضَةً إِنْ نصبنا لما مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا الظَّرْفُ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَصِفَتُهَا الظَّرْفُ، وَالْمَوْصُوفَةُ أَرْجَحُ. وَإِنْ رَفَعْنَا بَعُوضَةً، وَكَانَتْ مَا مَوْصُولَةً فَعَطَفَ مَا الثَّانِيَةَ عَلَيْهَا أَوِ اسْتِفْهَامًا، فَذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، أَوْ كَانَتِ الْبَعُوضَةُ خَبَرًا لِهُوَ مَحْذُوفَةً، وَمَا زَائِدَةٌ، أَوْ صِفَةٌ فَعَطَفَ عَلَى الْبَعُوضَةِ، إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَمَا فَوْقَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي فِي الْحَجْمِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيَكُونُ ذِكْرُ الْبَعُوضَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الصِّغَرِ، وَمَا فَوْقَهَا تَنْبِيهًا عَلَى الْكِبَرِ، وَبِهِ قَالَ أَيْضًا قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَمَا فَوْقَهَا فِي الصِّغَرِ، أَيْ وَمَا يَزِيدُ عَلَيْهَا فِي الصِّغَرِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ أَنْذَلُ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَكَ: هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ، أَيْ أَبْلَغَ وَأَعْرَقَ فِي النَّذَالَةِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْكِسَائِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَوْقَ مَنِ الْأَضْدَادِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يُحْمَلُ عَلَى مَعَانِيهِ، يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْبَعُوضَةِ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ.
وَقِيلَ: أَرَادَ مَا فَوْقَهَا وَمَا دُونَهَا، فَاكْتَفَى بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَنِ الْآخَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، كَمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» عَنْ قَوْلِهِ: وَالْبَرْدَ، وَرُجِّحَ الْقَوْلُ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الصِّغَرِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّمْثِيلِ تَحْقِيرُ الْأَوْثَانِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ حَقَارَةً كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَكْمَلَ، وَبِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يَمْتَنِعُ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَبِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَصْغَرُ كَانَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِهِ أَصْعَبَ. فَإِذَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الصِّغَرِ لَمْ يُحِطْ بِهِ إِلَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَكَانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالْكَبِيرِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِجَرَيَانِ فَوْقَ عَلَى مَشْهُورِ مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي أَسْنَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَدَمُ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ أَجْلِهِ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَذِهِ الْمُصَغَّرَاتِ وَالْمُسْتَضْعَفَاتِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَعُوضَةَ قَدْ أَوْجَدَهَا عَلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْإِحْكَامِ وَحُسْنِ التَّأْلِيفِ وَالنِّظَامِ، وَأَظْهَرَ فِيهَا، مَعَ صِغَرِ حَجْمِهَا، مِنْ بَدَائِعِ الْحِكْمَةِ كَمِثْلِ مَا أَظْهَرَهُ فِي النيل الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وَعِظَمِ الْخِلْقَةِ. وَإِذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اسْتَوْفَى نِصَابَ حُسْنِ الصَّنْعَةِ وَبَدَائِعِ التَّأْلِيفِ وَالصَّنْعَةِ، فَضَرْبُ المثل بالصغير
__________
(1) سورة النحل: 16/ 81. [.....](1/199)
وَالْكَبِيرِ سِيَّانِ عِنْدَهُ إِذَا كَانَا فِي تَوْفِيَةِ الْحِكْمَةِ سَوَاءً. الثَّانِي: أَنَّ الْبَعُوضَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَصْغَرِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَصَّهَا بِالذِّكْرِ فِي الْقِلَّةِ، فلا يستحيي أَنْ يَضْرِبَ الْمَثَلَ فِي الشَّيْءِ الْكَبِيرِ بِالْكَبِيرِ وَالْحَقِيرِ بِالْحَقِيرِ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْبَعُوضَةِ، مَعَ صِغَرِ حَجْمِهَا وَضَعْفِ بُنْيَانِهَا، مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ وَدَقِيقِ الصُّنْعِ، مِنِ اخْتِصَارِ الْخَصْرِ وَدِقَّةِ الْخُرْطُومِ وَلَطِيفِ تَكْوِينِ الْأَعْضَاءِ وَلِينِ الْبَشَرَةِ، مَا يُعْجِزُ أَنْ يُحَاطَ بِوَصْفِهِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَبْضَعُ بِشَوْكَةِ خُرْطُومِهَا، مَعَ لِينِهَا، جِلْدَ الْجَامُوسِ وَالْفِيلِ، وَتَهْتَدِي إِلَى مُرَاقِ الْبَشَرَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يَسْتَحْيِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَضْرِبَ بِهَا الْمَثَلَ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهَا وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «1» . الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، أَتَى بِهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ التَّمْثِيلِ، وَأَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَهَا مَثَلًا لَهُمْ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَقَارَةِ، وَضَعْفِ الْقُوَّةِ، وَخِسَّةِ الذَّاتِ وَالْفِعْلِ، فَلَوْ شَبَّهَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مَا حَسُنَ مَوْقِعُ التَّشْبِيهِ، وَلَا عَذُبَ مَذَاقُ التَّمْثِيلِ، إِذِ الشَّيْءُ لَا يُشَبَّهُ إِلَّا بِمَا يُمَاثِلُهُ وَيُشَاكِلُهُ، وَمَنْ أَتَى بِالشَّيْءِ عَلَى وَجْهِهِ فَلَا يَسْتَحَيَا مِنْهُ. وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَتَيْنِ بِأَمَّا الَّتِي مَعْنَاهَا الشَّرْطُ مُشْعِرٌ بِالتَّوْكِيدِ، إِذْ هِيَ أَبْلَغُ مِنْ: فَالَّذِينَ آمَنُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَقُولُونَ، إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا بَرَزَ فِي حَيِّزِ أَمَّا مِنَ الْخَبَرِ كَانَ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ، وَمَا مُفِيدُ ذَلِكَ وَمُثِيرُهُ إِلَّا تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَضْرِبُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَعْلَمُونَ أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ من لَا يَسْتَحْيِي، أَيْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ انْتِفَاءَ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ ذكر الحق، وإلا ظهر الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فَمَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا بِالْمَثَلِ. وَالتَّقْسِيمُ وَرَدَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِلْمِ لِأَنَّهُ الْجَزْمُ الْمُطَابِقُ لِدَلِيلٍ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْكَافِرِينَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْجَارِي عَلَى اللِّسَانِ، وَجَعَلَ مُتَعَلِّقَهُ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَقْسَامِ مَاذَا، وَهِيَ هَاهُنَا تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرٌ عَنْ مَا.
وَأَرَادَ صِلَةً لِذَا الْمَوْصُولَةِ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، إِذْ فِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ ما الذي
__________
(1) سورة الحج: 22/ 73.(1/200)
أَرَادَهُ اللَّهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَتَرْكِيبُ ذَا مَعَ مَا، وَتَكُونُ مَفْعُولًا بِإِرَادَةِ التَّقْدِيرِ، أَيْ شَيْءٌ أَرَادَهُ اللَّهُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فَصِيحَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي مَاذَا فَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ اللَّهُ، وقيل: ما اسم وذا اسْمٌ آخَرُ بِمَعْنَى الَّذِي، فَمَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وذا خبره. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَظَاهِرُهُ اخْتِلَافُ النَّحْوِيِّينَ فِي مَاذَا هُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ هُمَا وَجْهَانِ سَائِغَانِ فَصِيحَانِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةَ خِلَافٍ عِنْدِ النَّحْوِيِّينَ، بَلْ كُلُّ مَنْ شَدَا طَرَفًا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ يُجَوِّزُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَاذَا هُنَا، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ ذَكَرُوا الْوَجْهَيْنِ فِي مَاذَا هُنَا. وَالْإِرَادَةُ بِالتَّفْسِيرِ اللُّغَوِيِّ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ، يَسْتَحِيلُ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْإِرَادَةُ مَاهِيَّةٌ يَجِدُهَا الْعَاقِلُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ الْبَدِيهِيَّةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَأَلَمِهِ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: إِنَّهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي رُجْحَانَ طَرَفَيِ الْجَائِزِ عَلَى الْآخَرِ فِي الْإِيقَاعِ، لَا فِي الْوُقُوعِ، وَاحْتَرَزَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقُدْرَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ أَزَلِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ بِذَاتِهِ، وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالنَّجَّارِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَبَعْضُ الرَّافِضَةِ نَفَوُا الصِّفَاتِ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَالْبَهْشَمِيَّةُ وَالْبَصْرِيُّونَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي مَحَلٍّ، وَالْكَرَّامِيَّةُ تَقُولُ بِحُدُوثِهَا فِيهِ تَعَالَى، وَإِنَّهَا إِرَادَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَكْثَرُهُمْ زَعَمُوا مَعَ الْقَوْلِ بِالْحُدُوثِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِيهَا الْعَدَمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجُوزُ عَدَمُهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، أَيْ مِنْ مَثَلٍ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ مُتَمَثِّلًا بِهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لِمَنْ حَمَلَ سِلَاحًا رَدِيئًا، مَاذَا أَرَدْتَ بِهَذَا سِلَاحًا، فَنَصْبُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: التَّمْيِيزُ وَالْحَالُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مُتَمَثِّلًا. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنَّ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْقَطْعِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ بِإِعْرَابِ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا لَمْ تُتْبِعْهُ فِي الْإِعْرَابِ وَقَطَعْتَهُ عَنْهُ نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ، وَجَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ.
وَعَالَيْنَ قُنْوَانًا مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا فَأَحْمَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْبُسْرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَطَعْتَهُ عَنْ إِعْرَابِهِ نَصَبْتَهُ عَلَى الْقَطْعِ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْبُسْرِ الْأَحْمَرِ، كَذَلِكَ قَالُوا: مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَثَلِ. فَلَمَّا لَمْ يُجَرَّ عَلَى إِعْرَابِ هَذَا، انْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى الْقَطْعِ، وَإِذَا قُلْتَ: عَبْدُ اللَّهِ فِي الْحَمَّامِ عُرْيَانًا، وَيَجِيءُ زَيْدٌ رَاكِبًا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ. وَفَرَّقَ الْفَرَّاءُ فَزَعَمَ أَنَّ مَا كَانَ فِيمَا قَبْلَهُ دَلِيلٌ(1/201)
عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْقَطْعِ، وَمَا لَا فَمَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يُثْبِتِ الْبَصْرِيُّونَ النَّصْبَ عَلَى الْقَطْعِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ مَذْكُورٌ فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ، وَالْمُخْتَارُ انْتِصَابُ مثل عَلَى التَّمْيِيزِ، وَجَاءَ عَلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُشِيرَ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ، فَجَاءَ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ مُؤَكِّدًا لِلِاسْمِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ.
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً: جُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ جَارِيَتَانِ مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِلْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ الْمُصَدَّرَتَيْنِ بِإِمَّا، وَوَصَفَ تَعَالَى الْعَالِمِينَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَالسَّائِلِينَ عَنْهُ سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1» ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ، فَالْمُهْتَدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ كَثِيرٌ، وَإِذَا وُصِفُوا بِالْقِلَّةِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الضَّلَالِ، أَوْ تَكُونُ الْكَثْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْقِلَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ، فَسُمُّوا كَثِيرًا ذَهَابًا إِلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّوا وَإِنْ كَثُرُوا
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً في موضع الصفة لمثل، وَكَانَ الْمَعْنَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُفَرِّقُ بِهِ النَّاسَ إِلَى ضَلَالٍ وَإِلَى هِدَايَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَهَذَا الْوَجْهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْهُ هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ مَا، أَيُّ مَثَلٍ: كَانَ بَعُوضَةً، أَوْ مَا فَوْقَهَا، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا سَأَلُوا سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ وَلَيْسُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، إِلَّا إِنْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيُمْكُنُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ كَمَا أَنَّ إِسْنَادَ الْهِدَايَةِ كَذَلِكَ، فَهُوَ خَالِقُ الضَّلَالِ وَالْهِدَايَةِ، وقد تؤول هُنَا الْإِضْلَالُ بِالْإِضْلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَالْإِضْلَالُ عَنِ الدِّينِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى تَقْبِيحِ الدِّينِ وَتَرْكِهِ، وَهُوَ الْإِضْلَالُ الْمُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَالْإِضْلَالُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ يَقُولُ: إِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ إِلَى السَّبَبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ فَضَلَّ بِهِ قَوْمٌ وَاهْتَدَى بِهِ قَوْمٌ تَسَبَّبَ لِضَلَالِهِمْ وَهُدَاهُمْ.
__________
(1) سورة سبأ: 34/ 13.
(2) سورة الشعراء: 26/ 227.(1/202)
وَقِيلَ: يُضِلُّ بِمَعْنَى يُعَذِّبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ «1» ، قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَرَدَّ الْقَفَّالُ هَذَا وَقَالَ: بَلِ الْمُرَادُ فِي الشَّاهِدِ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزَهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّهُ إِلْبَاسٌ فِي التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، أَوْ يَجْرِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَأَمَّا أَنْ يَجْرِيَ بَعْضُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِلْبَاسًا فِي التَّرْكِيبِ، وَكِتَابُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُضَلُّ بِهِ كَثِيرٌ وَيُهْدَى بِهِ كَثِيرٌ وَمَا يُضَلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقُونَ، فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ، فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ الظَّاهِرِ، مَفْتُوحَ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ: هَذِهِ قِرَاءَةُ الْقَدَرِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: يُضَلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَمَا يَضِلُّ بِهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْفَاسِقُونَ بِالْوَاوِ، وَكَذَا أَيْضًا فِي الْقِرَاءَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَاتٌ مُتَّجِهَةٌ إلى أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ فِي الثَّلَاثَةِ عَائِدٌ عَلَى مَثَلًا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ يَضْرِبُ الْمَثَلَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ، أَيْ بِالتَّكْذِيبِ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، أَيْ بِالتَّصْدِيقِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قُوَّةُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ.
وَمَعْنَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، أَيْ: وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلضَّلَالَةِ إِلَّا عِنْدَ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى يُضِلُّ وَيَهْدِي: الزِّيَادَةُ فِي الضَّلَالِ وَالْهُدَى، لَا أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ سَبَبٌ لِلضَّلَالَةِ وَالْهُدَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: نَزِيدُ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ وَكَفَرَ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانِهِ. وَالْفَاسِقِينَ: مَفْعُولُ يُضِلُّ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ منصوبا على الاستثناء. ويكون مَفْعُولُ يُضِلُّ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ أَحَدًا إِلَّا الْفَاسِقِينَ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ بَعْدَ إِلَّا:
إِمَّا أَنْ يُفَرَّغَ لَهُ الْعَامِلُ، فَيَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَامِلِ نَحْوَ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، وَمَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا بِزَيْدٍ، إِذَا جَعَلْتَ زَيْدًا وَبِزَيْدٍ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ قَبْلَ لَا، أَوْ لَا يُفَرَّغُ. وَإِذَا لَمْ يُفَرَّغْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ طَالِبًا مَرْفُوعًا، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا ذِكْرُهُ قَبْلَ إِلَّا، وَإِضْمَارُهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَرُ، أَوْ مَنْصُوبًا، أَوْ مَجْرُورًا، فَيَجُوزُ حَذْفُهُ لِأَنَّهُ فَضْلَةٌ وَإِثْبَاتُهُ. فَإِنْ حذفته كان الاسم
__________
(1) سورة القمر: 54/ 47.(1/203)
الَّذِي بَعْدَ إِلَّا مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَتَقُولُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، تُرِيدُ ما ضربت أحدا إلا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا عَمْرًا، تُرِيدُ مَا ضَرَبَتْ أَحَدًا إِلَّا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا عَمْرًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
نَجَا سَالِمٌ وَالنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ ... وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ وَمِئْزَرًا
يُرِيدُ وَلَمْ يَنْجُ بِشَيْءٍ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ، وَإِنْ أثبته، ولم يحذفه، فَلَهُ أَحْكَامٌ مَذْكُورَةٌ.
فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَدْ قَعَّدَهُ النَّحْوِيُّونَ يَجُوزُ فِي الْفَاسِقِينَ أن يكون معمولا ليضل، وَيَكُونَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَكُونَ مَعْمُولُ يُضِلُّ قَدْ حُذِفَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَالْفَاسِقُ هُوَ الْخَارِجُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ بِكُفْرٍ وَتَارَةً يَكُونُ بِعِصْيَانٍ غَيْرِ الْكُفْرِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَاسِقُ فِي الشَّرِيعَةِ: الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، وَهُوَ النَّازِلُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَيْ بَيْنِ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقَالُوا: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حَدَّ لَهُ هَذَا الْحَدَّ أَبُو حُذَيْفَةَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَشْيَاعِهِ. وَكَوْنُهُ بَيْنَ بَيْنَ، أَيْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ فِي أَنَّهُ يُنَاكَحُ، وَيُوَارَثُ، وَيُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ كَالْكَافِرِ فِي الذَّمِّ، وَاللَّعْنِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَاعْتِقَادِ عَدَاوَتِهِ، وَأَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ. وَمَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالزَّيْدِيَّةِ أَنَّ الصلاة لا تجزي خَلْفَهُ، وَيُقَالُ لِلْخُلَفَاءِ الْمَرَدَةِ مِنَ الْكُفَّارِ الْفَسَقَةِ، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِعْمَالَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ «1» ، يُرِيدُ اللَّمْزَ وَالتَّنَابُزَ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2» ، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، وَالَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَفَسَقَ بِمَعْصِيَةٍ دُونَ الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ فَاسِقٌ بِفِسْقِهِ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِفِسْقِهِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا بَلَغَ حَدَّ الْكُفْرِ. وَذَهَبَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَصَى وَأَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنْ أَذْنَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَدْ أَشْرَكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ نِفَاقٌ، وَإِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بَعْدَ التَّصْدِيقِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ. وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذُكِرَ أَنَّ لِأَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سُمُّوا مُعْتَزِلَةً، فَإِنَّهُمُ اعْتَزَلُوا قَوْلَ الأمة فيها، فَإِنَّ الْأُمَّةَ كَانُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَحْدَثُوا قَوْلًا ثَالِثًا فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً لِذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي أُصُولِ الدين.
__________
(1) سورة الحجرات: 49/ 11.
(2) سورة التوبة: 9/ 67.(1/204)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ: يَحْتَمِلُ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ. فَالنَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الِاتِّبَاعِ، وَإِمَّا عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ أَذُمُّ الَّذِينَ. وَالرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَإِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا إِلَّا عَلَى بُعْدٍ، فَالْأَوْلَى مِنْ هَذَا الْإِعْرَابِ الْأَعَارِيبُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَوْلَاهَا الْإِتْبَاعُ، وَتَكُونُ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةَ ذَمٍّ، وَهِيَ لَازِمَةٌ، إِذْ كُلُّ فَاسِقٍ يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَيَقْطَعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَهْدِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهْيُهُ لَهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلَةِ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ «1» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ كُفْرُ، بَعْضِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَبَعْضِهِمْ بِحُقُوقِ نِعْمَتِهِ. الثَّالِثُ: مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ وَالتَّصْدِيقِ لأنبيائه ورسله، وبما جاؤوا بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «2» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ نَبْذُهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَتَبْدِيلُ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الرَّابِعُ: مَا أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَمُتَّبِعِيهِمْ أَنْ لَا يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَلَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَنْصُرُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ «3» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ إِنْكَارُهُمْ لِنُبُوَّتِهِ وَتَغْيِيرُهُمْ لِصِفَتِهِ. الْخَامِسُ: إِيمَانُهُمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِسَالَتِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ وَنَقْضُهُمْ لَهُ جَحْدُهُمْ لِنُبُوَّتِهِ وَلِصِفَتِهِ. السَّادِسُ: مَا جَعَلَهُ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ، بِالنَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَصِدْقِهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَنَقْضُهُمْ هُوَ تَرْكُهُمُ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَقْلِيدُهُمْ لِآبَائِهِمْ. السَّابِعُ: الْأَمَانَةُ الْمَعْرُوضَةُ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ الَّتِي حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ، وَنَقْضُهُمْ تَرْكُهُمُ الْقِيَامَ بِحُقُوقِهَا. الثَّامِنُ: مَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَنَقْضُهُمْ عَوْدُهُمْ إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ. التَّاسِعُ: هُوَ الْإِيمَانُ وَالْتِزَامُ الشَّرَائِعِ، وَنَقْضُهُ كُفْرُهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ التِّسْعَةُ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ نَاقِضٍ لِلْعَهْدِ، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي وقع في
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 172.
(2) سورة آل عمران: 3/ 187.
(3) سورة آل عمران: 3/ 81.(1/205)
سَبَبِ النُّزُولِ، وَالْعُمُومِ هُوَ الظَّاهِرُ. فَكُلُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ أَوْ مُشْرِكٍ أَوْ كِتَابِيٍّ تَنَاوَلَهُ هَذَا الذم، ومن مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يَنْقُضُونَ، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ حَصَلَ عَقِيبَ تَوَثُّقِ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْعَهْدِ، فَأَثَرُ مَا اسْتَوْثَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ نَقَضُوهُ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْمِيثَاقُ مَفْعُولٌ مِنَ الْوَثَاقَةِ، وَهُوَ الشَّدُّ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالْيَمِينِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَنَى بِهِ عَنِ الِالْتِزَامِ وَالْقَبُولِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ اسْمٌ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ شُيَيْمٍ:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرُّتَاعَا
أَرَادَ بَعْدَ إِعْطَائِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ، بَلْ قَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّوْثِقَةِ، كَمَا أَنَّ الْمِيعَادَ بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَالْمِيلَادَ بِمَعْنَى الْوِلَادَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالْأَصْلُ فِي مِفْعَالٍ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا نَحْوَ: مِطْعَامٍ وَمِسْقَامٍ وَمِذْكَارٍ. وَقَدْ طَالَعْتُ كَلَامَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَاجِّ، وَكَلَامَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمَا مِنْ أَوْعَبِ النَّاسِ لِأَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ، فَلَمْ يَذْكُرَا مِفْعَالًا فِي أَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِيثَاقِهِ عَائِدٌ عَلَى الْعَهْدِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَأُجِيزَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مِنْ تَوْثِيقِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا وَثَّقَ بِهِ عَهْدَهُ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْمِيثَاقِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنْ أَعَدْتَ الْهَاءَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ كَانَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ أَعَدْتَهَا إِلَى الْعَهْدِ كَانَ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ عِنْدَهُ مَصْدَرٌ.
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ: وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَفِيهِ ضَعْفٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ مِنْ مَكَانِ مَا. الثَّانِي: الْقَوْلُ: أَمَرَ اللَّهِ أَنْ يُوصَلَ بِالْعَمَلِ فَقَطَعُوا بَيْنَهُمَا، قَالُوا: وَلَمْ يَعْمَلُوا، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «1» . الثَّالِثُ: التَّصْدِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، أُمِرُوا بِوَصْلِهِ فَقَطَعُوهُ بِتَكْذِيبِ بَعْضٍ وَتَصْدِيقِ بَعْضٍ. الرَّابِعُ: الرَّحِمُ وَالْقَرَابَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ، لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَدْلُولِهِ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَا دَلِيلَ واضح على الخصوص.
__________
(1) سورة الفتح: 48/ 11.(1/206)
وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا تَكُونُ مَوْصُوفَةً خُصُوصًا هُنَا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَيَقْطَعُونَ شَيْئًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يوصل، فَهُوَ مُطْلَقٌ وَلَا يَقَعَ الذَّمُّ الْبَلِيغُ وَالْحُكْمُ بِالْفِسْقِ وَالْخُسْرَانِ بِفِعْلٍ مُطْلَقٍ مَا، وَالْأَمْرُ هُوَ اسْتِدْعَاءُ الْأَعْلَى الْفِعْلَ مِنَ الْأَدْنَى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبَعْثهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ نُكْتَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ لَطِيفَةٌ، قَالَ: وَبِهِ سُمِّيَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ لَا يَتَوَلَّاهُ شُبِّهَ بِآمِرٍ يَأْمُرُهُ بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَمْرٌ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، كَمَا قِيلَ لَهُ: شَأْنٌ، وَالشَّأْنُ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ، يُقَالُ شَأَنْتُ شَأْنَهُ، أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَهُ، وَأَمْرٌ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وأن يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ تَقْدِيرُهُ بِهِ وَصْلُهُ، أَيْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بوصله، نحو قال الشَّاعِرِ:
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتُقَصِّرُ عَنْهَا حِقْبَةً وَتَبُوصُ
أَيْ أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى نَأْيُهَا.
وَأَجَازَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ أَنْ يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ مَا، أَيْ وَصْلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَقْطَعُونَ وَصْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَأَجَازَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدَّرَهُ الَمَهْدَوِيُّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُوصَلَ، فَيَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى الْقَطْعِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُوصَلَ. وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ وَجْهَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَقَدَّرَهُ لِئَلَّا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ أَنْ يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ هُوَ أَنْ يُوصَلَ. وَهَذِهِ الْأَعَارِيبُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَوْلَا شُهْرَةُ قَائِلِهَا لَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَالْأَوَّلُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَسِوَاهُ مِنَ الْأَعَارِيبِ، بَعِيدٌ عَنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ بَلْهَ أَفْصَحِ الْكَلَامِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ.
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: اسْتِدْعَاؤُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ، وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: إِخَافَتُهُمُ السَّبِيلَ، وَقَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ. الثَّالِثُ: نَقْضُ الْعَهْدِ. الرَّابِعُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ تَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَيُجَوِّزُونَ فِي الْأَفْعَالِ، إِذْ هِيَ بِحَسَبَ شَهَوَاتِهِمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الرَّابِعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا مَعْنَى فِي الْأَرْضِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى ذِكْرِ الْأَرْضِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «1» ، فَأَغْنَى عَنْ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 11.(1/207)
إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَبِيرَةُ نَوْعًا مِنَ الْبَدِيعِ يُسَمِّيهِ أَرْبَابُ الْبَيَانِ: بِالطِّبَاقِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فَإِنَّهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى الْحَقِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَفِي قَوْلِهِ: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وَجَاءَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ مُنَاسَبَةُ الطِّبَاقِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَوَّلٍ مِنْهَا كَائِنٌ بَعْدَ مُقَابِلِهِ، فَالضَّلَالُ بَعْدَ الْهِدَايَةِ
لِقَوْلِهِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ
، وَلِدُخُولِ أَوْلَادِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْجَنَّةَ إِذَا مَاتُوا قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالنَّقْضُ بَعْدَ التَّوْثِقَةِ، وَالْقَطْعُ بَعْدَ الْوَصْلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ تَنَاسَبَتْ فِي الطِّبَاقِ. وَفِي وَصْلِ الَّذِينَ بِالْمُضَارِعِ وَعَطْفِ الْمُضَارِعَيْنِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى تَجَدُّدِ النَّقْضِ وَالْقَطْعِ وَالْإِفْسَادِ، وَإِشْعَارٌ أَيْضًا بِالدَّيْمُومَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، وَبِنَاءُ يُوصَلُ لِلْمَفْعُولِ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ بنائه للفاعل، لأنه يشتمل مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يَصِلُوهُ أَوْ يَصِلَهُ غَيْرُهُمْ.
وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّلَاتِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ بَدَأَ أَوَّلًا بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ أَخَصُّ هَذِهِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ ثَنَّى بِقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْإِفْسَادِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقَطْعِ، وَكُلُّهَا ثَمَرَاتُ الْفِسْقِ، وَأَتَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ صِلَةً لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ لِيَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِهِمْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ وَصْفُ الْفِسْقِ لَهُمْ ثَابِتًا، وَتَكُونُ النَّتَائِجُ عَنْهُ مُتَجَدِّدَةً مُتَكَرِّرَةً، فَيَكُونُ الذَّمُّ لَهُمْ أَبْلَغَ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ وَتَجَدُّدِ فُرُوعِهِ وَنَتَائِجِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَوْصَافَ الْفَاسِقِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ، أَيْ: أُولَئِكَ الْجَامِعُونَ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ مِنَ النَّقْضِ وَالْقَطْعِ وَالْإِفْسَادِ.
هُمُ الْخاسِرُونَ: وَفُسِّرَ الْخَاسِرُونَ بَالنَّاقِصِينَ حُظُوظَهُمْ وَشَرَفَهُمْ، وَبِالْهَالِكِينَ، وَسَبَبُ خُسْرَانِهِمُ اسْتِبْدَالُهُمُ النَّقْضَ بِالْوَفَاءِ، وَالْقَطْعَ بِالْوَصْلِ، وَالْإِفْسَادَ بِالْإِصْلَاحِ، وَعِقَابَهَا بِالثَّوَابِ، وَقِيلَ: الْخَاسِرُونَ الْمَغْبُونُونَ بِفَوْتِ الْمَثُوبَةِ وَلُزُومِ الْعُقُوبَةِ وَقِيلَ: خَسِرُوا نَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: خَسِرُوا حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا، أَحْبَطُوهَا بِكُفْرِهِمْ. وَالْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ وَفِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي الظَّاهِرِ عَمَلَ الْمُخْلِصِينَ. قَالَ الْقَفَّالُ: الْخَاسِرُ اسْمٌ عَامٌّ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُجْزَى عَلَيْهِ. كَيْفَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ حَالٍ، وَصَحِبَهُ مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، فَخَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَقِيلَ: صَحِبَهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّعَجُّبُ، أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ وَالْمَرْجِعُ إِلَيْهِ آخِرًا فَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، لَا يَلِيقُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ. وَالْإِنْكَارُ بِالْهَمْزَةِ إِنْكَارٌ لِذَاتِ(1/208)
الْفِعْلِ، وَبِكَيْفَ إِنْكَارٌ لِحَالِهِ وَإِنْكَارُ حَالِهِ إِنْكَارٌ لِذَاتِهِ، لِأَنَّ ذَاتَهُ لَا تَخْلُو مِنْ حَالٍ يَقَعُ فِيهَا، فَاسْتَلْزَمَ إِنْكَارُ الْحَالِ إِنْكَارَ الذَّاتِ ضَرُورَةً، وَهُوَ أَبْلَغُ، إِذْ يَصِيرُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ حَيْثُ قُصِدَ إِنْكَارُ الْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ إِنْكَارُ وُقُوعِ ذَاتِ الْكُفْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ إِذَا أُنْكِرَ أَنْ يَكُونَ لِكُفْرِهِمْ حَالٌ يُوجَدُ عَلَيْهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَا يَنْفَكُّ مِنْ حَالٍ وَصِفَةٍ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوجَدَ تَغَيُّرُ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ، كَانَ إِنْكَارًا لِوُجُودِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الْخِطَابُ فِيهِ الْتِفَاتٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَبْلُ كَانَ بِصُورَةِ الْغَيْبَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهِ؟ وَفَائِدَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّ الْإِنْكَارَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَانَ أَبْلَغَ مَنْ تُوَجُّهِهِ إِلَى الْغَائِبِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَصِلَهُ الْإِنْكَارُ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا، فَإِنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ أَرْدَعُ لَهُ عَنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ. والناصب ل كَيْفَ تَكْفُرُونَ. وَأَتَى بِصِيغَةِ تَكْفُرُونَ مُضَارِعًا وَلَمْ يَأْتِ بِهِ مَاضِيًا وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الَّذِي أُنْكِرَ أَوْ تُعُجِّبَ مِنْهُ الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُضَارِعُ هُوَ الْمُشْعِرُ بِهِ وَلِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْكُفْرُ ثُمَّ آمَنَ، إِذْ لَوْ جَاءَ كَيْفَ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ لَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ مَنْ كفرتم آمَنَ كَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالْوَاوُ فِي قوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ: وَاوُ الْحَالِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «1» ، وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ «2» .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ فَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَهُوَ مَاضٍ؟ وَلَا يُقَالُ: جِئْتُ وقام الأسير، وَلَكِنْ: وَقَدْ قَامَ، إِلَّا أَنْ يُضْمَرَ قَدْ. قُلْتُ: لَمْ تَدْخُلِ الْوَاوُ عَلَى كُنْتُمْ أَمْوَاتًا وَحْدَهُ، وَلَكِنْ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ أَمْوَاتًا إِلَى تَرْجِعُونَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَقِصَّتُكُمْ هَذِهِ وَحَالُكُمْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ فَجَعَلَكُمْ أَحْيَاءً؟ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يُحَاسِبُكُمْ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، أَيْ وَقَدْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ. وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ عِنْدَنَا فِعْلِيَّةٌ. وَأَمَّا أَنْ نَتَكَلَّفَ وَنَجْعَلَ تِلْكَ الْجُمْلَةَ اسْمِيَّةً حَتَّى نَفِرَّ مِنْ إِضْمَارِ قَدْ، فَلَا نَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُ أَنَّ جميع الجمل مندرجة في الْحَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ، بَعْضُ الْقِصَّةِ مَاضٍ وَبَعْضُهَا مُسْتَقْبَلٌ، وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ حَالًا حَتَّى يَكُونَ فِعْلًا حَاضِرًا وَقْتَ وُجُودِ مَا هُوَ حَالٌ عَنْهُ، فما الحاضر الذي
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 45.
(2) سورة هود: 11/ 42.(1/209)
وَقَعَ حَالًا؟ قُلْتُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْقِصَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَبِأَوَّلِهَا وَبِآخِرِهَا؟ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْجُمَلِ مُنْدَرِجَةً فِي الْحَالِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ قوله: وكنتم أمواتا فأحياكم، وَيَكُونَ الْمَعْنَى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَقَدْ خَلَقَكُمْ فَعَبَّرَ عَنِ الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»
أَيْ أَنَّ مَنْ أَوْجَدَكَ بَعْدَ العدم الصرف حر أَنْ لَا تَكْفُرَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الِاخْتِرَاعَ، ثُمَّ نِعْمَةِ الِاصْطِنَاعِ، وَقَدْ شَمِلَ النِّعْمَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ لِأَنَّ بِالْإِحْيَاءِ حَصَلَتَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْإِيجَادَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْكَ بِالتَّرْبِيَةِ وَالنِّعَمِ إِلَى زَمَانِ أَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْكَ إِنْكَارُ الْكُفْرِ؟ وَلَمَّا كَانَ مَرْكُوزًا فِي الطِّبَاعِ وَمَخْلُوقًا فِي الْعُقُولِ أَنْ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» ، كَانَتْ حَالًا تَقْتَضِي أَنْ لَا تُجَامِعَ الْكُفْرَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ. أَنَّ الْحَالَ هُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَعَلَى هَذَا الَّذِي شَرَحْنَاهُ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ جُمَلًا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مُسْتَأْنَفَةً لَا دَاخِلَةً تَحْتَ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ غَايَرَ فِيهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَبِصِيغَةِ الْفِعْلِ عَمَّا قَبْلَهَا مِنَ الْحَرْفِ وَالصِّيغَةِ. وَمَنْ جَعَلَ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمَلِ هُوَ الْحَالَ، جَعَلَ تَمَكُّنَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي وَالرُّجُوعِ لِمَا نُصِبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ حُصُولِ الْعِلْمِ. فَحُصُولُهُ بِالْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءِ الْأَوَّلِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلِمُوا ثُمَّ عَانَدُوا، وَفِي تَرْتِيبِ هَاتَيْنِ الْمَوْتَتَيْنِ وَالْحَيَاتَيْنِ اللَّاتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: الْعَدَمُ السَّابِقُ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ:
الْخَلْقُ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَالْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ: الْبَعْثُ لِلْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: الْمَعْهُودُ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: هُوَ فِي الْقَبْرِ لِلْمَسْأَلَةِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: فِي الْقَبْرِ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ:
الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو صَالِحٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: كَوْنُهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: الْإِخْرَاجُ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ:
الْبَعْثُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: هُوَ الَّذِي اعْتَقَبَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ نَسَمًا كَالذَّرِّ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: إِخْرَاجُهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ: الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: مُفَارَقَةُ نطفة الرجل إلى
__________
(1) سورة الزخرف: 43/ 9. [.....](1/210)
الرَّحِمِ فَهِيَ مَيِّتَةٌ إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ فَيُحْيِيهَا بِالنَّفْخِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ هُوَ الْخُمُولُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: الذِّكْرُ وَالشَّرَفُ بِهَذَا الدِّينِ وَالنَّبِيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. السَّابِعُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: كَوْنُ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ فَحَيِيتُمْ بِحَيَاتِهِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ.
وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَقَالَ: هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ لِلْكُفَّارِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِ فِي أَوَّلِ تَرْتِيبِهِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا، وَإِسْنَادَهُ آخِرًا الْإِمَاتَةَ إِلَيْهِ، مِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَإِذَا أَذْعَنَتْ نُفُوسُ الْكُفَّارِ لِكَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا مَعْدُومِينَ ثُمَّ لِلْإِحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لِلْإِمَاتَةِ فِيهَا، قَوِيَ عَلَيْهِمْ لُزُومُ الْإِحْيَاءِ الْآخَرِ وَجَاءَ جَحْدُهُمْ لَهُ دَعْوَى لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
وَلِلْمَنْسُوبِينَ إِلَى عِلْمِ الْحَقَائِقِ أَقْوَالٌ تُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ: أَحَدُهَا: أَمْوَاتًا بِالشِّرْكِ فَأَحْيَاكُمْ بِالتَّوْحِيدِ. الثَّانِي: أَمْوَاتًا بِالْجَهْلِ فَأَحْيَاكُمْ بِالْعِلْمِ. الثَّالِثُ: أَمْوَاتًا بِالِاخْتِلَافِ فَأَحْيَاكُمْ بِالِائْتِلَافِ. الرَّابِعُ: أَمْوَاتًا بِحَيَاةِ نُفُوسِكُمْ وَإِمَاتَتُكُمْ بِإِمَاتَةِ نُفُوسِكُمْ وَإِحْيَاءِ قُلُوبِكُمْ.
الْخَامِسُ: أَمْوَاتًا عَنْهُ فَأَحْيَاكُمْ بِهِ، قَالَهُ الشِّبْلِيُّ. السَّادِسُ: أَمْوَاتًا بِالظَّوَاهِرِ فَأَحْيَاكُمْ بِمُكَاشَفَةِ السَّرَائِرِ، قَالَهُ ابْنُ عَطَاءٍ. السَّابِعُ: أَمْوَاتًا بِشُهُودِكُمْ فَأَحْيَاكُمْ بِمُشَاهَدَتِهِ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عَنْ شَوَاهِدِكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِقِيَامِ الْحَقِّ عَنْهُ ثم إليه ترجعون من جَمِيعِ مَا لَكُمْ، قَالَهُ فَارِسٌ.
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ كَوْنُهُمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَجَعَلَهُمْ أَحْيَاءً، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُمْ. وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي: الْإِحْيَاءَ فِي الْقَبْرِ، وَبِالرُّجُوعِ: النُّشُورَ، وَأَنْ يُرَادَ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي أَيْضًا النُّشُورُ، وَبِالرُّجُوعِ: الْمَصِيرُ إِلَى الْجَزَاءِ. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِحْيَاءُ فِي الْقَبْرِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْيَا لِلْمَسْأَلَةِ فِي الْقَبْرِ، وَلَا لِأَنْ يُنَعَّمَ فِيهِ أَوْ يُعَذَّبَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَهُ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَأَتْبَاعَهُمْ أَنْكَرُوا عَذَابَ الْقَبْرِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةُ أَثْبَتُوهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: يَحْيَا الْمَيِّتُ الْكَافِرُ فَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ، وَالْفَاسِقُ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ، وَالْكَرَّامِيَّةُ تَقُولُ: يُعَذَّبُ وَهُوَ مَيِّتٌ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ قَدِ اسْتَفَاضَتْ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ.
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَمْوَاتًا أَيْ تُرَابًا وَنُطَفًا، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِ آدَمَ(1/211)
مِنَ التُّرَابِ، وَخُلِقَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ، إِلَّا عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، مِنَ النُّطَفِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَمَادِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَنْ يَحُلُّهُ الْمَوْتُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا فِي الْعَادَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمَادِ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَفْسِيرُهُ الْأَمْوَاتَ بِالتُّرَابِ وَالنُّطَفِ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي التُّرَابِ، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ التُّرَابِ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَةِ الَّتِي أُنْكِرَتْ أَوْ تُعُجِّبَ مِنْهَا وَقْتًا قَطُّ، فَكَيْفَ يَنْدَرِجُ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً؟ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ كَوْنَهُمْ أمواتا، مِنْ وَقْتِ اسْتِقْرَارِهِمْ نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِلَى تَمَامِ الْأَطْوَارِ بَعْدَهَا، وَأَنَّ الْحَيَاةَ الْأُولَى نَفْخُ الرُّوحِ بَعْدَ تِلْكَ الْأَطْوَارِ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ وَاكْتِسَاءِ الْعِظَامِ لَحْمًا.
وَالْإِمَاتَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمَعْهُودَةُ، وَالْإِحْيَاءُ هُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيَكُونُ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ وَالْمَوْتُ الْأَوَّلُ، وَالْإِحْيَاءُ الثَّانِي حَقِيقَةً، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أَمْوَاتًا، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجَمَادَ يُوصَفُ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ حَقِيقَةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَجَازِ فَهُوَ مَجَازٌ سَائِغٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَوْجُودٌ، فَقَرُبَ اتِّصَافُهُ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُ مَعْدُومًا وَكَوْنُهُ فِي الصُّلْبِ. أَوْ حِينَ كَانَ آدَمُ طِينًا، فَإِنَّ الْمَجَازَ فِي ذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ عَدَمٌ صِرْفٌ، وَالْعَدَمُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودٌ يَبْعُدُ فِيهِ أَنْ يُسَمَّى مَوْتًا، أَلَا تَرَى مَا أَطْلَقَ عليه في اللغة لَفْظُ الْمَوْتِ مِمَّا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَيْفَ يَكُونُ مَوْجُودًا لَا عَدَمًا صِرْفًا؟ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «1» ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «2» ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى «3» ، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «4» ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَوَاتٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أن الموت الأول: هو الْخُمُولُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: هُوَ التَّنْوِيهُ وَالذِّكْرُ، فَمَجَازٌ بَعِيدٌ هُنَا، لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ الْقَرِيبِ كَانَ أَوْلَى.
وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ أَكْثَرُ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ يَبْعُدُ فِيهَا التَّعْقِيبُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ:
فَأَحْيَاكُمْ، لِأَنَّ بَيْنَ ذَاكَ الْمَوْتِ وَالْإِحْيَاءِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ تَكُونُ الْفَاءُ دَالَّةً عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ التَّعْقِيبِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: هُوَ الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ هُوَ لِلْمَسْأَلَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ الْمَاضِي قَدْ وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وُقُوعِهِ، أَيْ وَتَكُونُونَ أَمْوَاتًا فَيُحْيِيكُمْ، كَقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمٌ عَلَى نَفْيِ عَذَابِ الْقَبْرِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ تَعَالَى مَوْتَتَيْنِ وَحَيَاتَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَيَاةً بَيْنَ إِحْيَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَإِحْيَائِهِمْ فِي الآخرة.
__________
(1) سورة يس: 36/ 33.
(2) سورة فصلت: 41/ 39.
(3) سورة فصلت: 41/ 39.
(4) سورة الأنبياء: 21/ 30.(1/212)
قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ «1» ، لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَثْبَتُوا حَيَاةَ الذَّرِّ فِي صُلْبِ آدَمَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَيَاةِ لِلْمَسْأَلَةِ عَدَمُهَا قَبْلُ، وَأَيْضًا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هُوَ لِلْمَسْأَلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَعَطَفَ بِثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ.
وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَاصِلٌ عَقِبَ الْحَيَاةِ الَّتِي لِلْبَعْثِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ لِلْمَسْأَلَةِ.
قَالَ الْحَسَنُ: ذِكْرُ الموت مرتين هذا لِأَكْثَرِ النَّاسِ، وَأَمَّا بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَمَاتَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ»
، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «3» ، فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
«4» ، الْآيَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَدَلِيلٌ عَلَى النَّشْرِ وَالْحَشْرِ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّ الضَّمَائِرَ السَّابِقَةَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِلَى جَزَائِهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ. وَقِيلَ: عَائِدَةٌ عَلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: عَائِدَةٌ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَلَّى اللَّهُ الْحُكْمَ بَيْنَكُمْ فِيهِ. وَقِيلَ:
عَائِدَةٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَأَحْيَاكُمْ. وَشَرْحُ هَذَا أَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ بَعْدَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْحَالِ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا فِي ابْتِدَاءِ الْحَيَاةِ الْأُولَى، مِنْ كَوْنِكُمْ لَا تَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِكُمْ شَيْئًا. وَاسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ رَجَعَ الْمُتَعَدِّي.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزْوَانَ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ رَجَعَ اللَّازِمِ، لِأَنَّ رَجَعَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَفْصَحُ، لِأَنَّ الْإِسْنَادَ فِي الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ هُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، فَكَانَ سِيَاقُ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الرُّجُوعِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ كَانَ يُفَوِّتُ تَنَاسُبَ الْفَوَاصِلِ وَالْمَقَاطِعِ، إِذْ كَانَ يَكُونُ التَّرْتِيبُ:
ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ «5» ، فَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ حَتَّى لَا يَفُوتَ
__________
(1) سورة غافر: 40/ 11.
(2) سورة البقرة: 2/ 259.
(3) سورة البقرة: 2/ 243.
(4) سورة البقرة: 2/ 260.
(5) سورة الأنعام: 6/ 60.(1/213)
التَّنَاسُبُ اللَّفْظِيُّ. وَقَدْ حَصَلَ التَّنَاسُبُ الْمَعْنَوِيُّ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، إِذْ هُوَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَإِنَّهُ يَفُوتُ التَّنَاسُبُ الْمَعْنَوِيُّ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُجُوعِ الشَّخْصِ إِلَى شَيْءٍ أَنَّ غَيْرَهُ رَجَعَهُ إِلَيْهِ، إِذْ قَدْ يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ رَادٍّ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ بِنِسْبَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ فَاعِلُ الْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مِنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ مَا يَزِيدُ الْمُسِيءَ خَشْيَةً وَيَرُدُّهُ عَنْ بَعْضِ مَا يَرْتَكِبُهُ، وَيَزِيدُ الْمُحْسِنَ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَيَدْعُوهُ رَجَاؤُهُ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَمُنْكِرِي الْبَعْثِ، إِذْ هُوَ بِيَدِهِ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْبَعْثُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لما ذكر أن مَنْ كَانَ مُنْشِئًا لَكُمْ بَعْدَ الْعَدَمِ وَمُفْنِيًا لَكُمْ بَعْدَ الْوُجُودِ وَمُوجِدًا لَكُمْ ثَانِيَةً، إِمَّا فِي جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ، كَانَ جَدِيرًا أَنْ يُعْبَدَ وَلَا يجحد، ويشرك وَلَا يُكْفَرَ. ثُمَّ أَخَذَ يُذَكِّرُهُمْ عَظِيمَ إِحْسَانِهِ وَجَزِيلَ امْتِنَانِهِ مِنْ خَلْقِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَأَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالْعَالَمَ السُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ عَلَى السَّوَاءِ، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَلَفْظَةُ هُوَ مِنَ الْمُضْمَرَاتِ وُضِعَ لِلْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ، وَهُوَ كُلِّيٌّ فِي الْوَضْعِ كَسَائِرِ الْمُضْمَرَاتِ، جَرَى فِي النِّسْبَةِ الْمَخْصُوصَةِ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ، فَمَا مِنْ مُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ غَائِبٍ إِلَّا وَيَصِحُّ أَنْ يطلق عليه هو، لكن إِذَا أُسْنِدَ لِهَذَا الِاسْمِ شَيْءٌ تَعَيَّنَ. وَمَشْهُورُ لُغَاتِ الْعَرَبِ تَخْفِيفُ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً، وَشَدَّدَتْهَا هَمْدَانُ، وَسَكَّنَتْهَا أَسَدٌ وَقَيْسٌ، وَحَذْفُ الْوَاوِ مُخْتَصٌّ بِالشِّعْرِ. وَلِهَؤُلَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى عِلْمِ الْحَقَائِقِ وَإِلَى التَّصَوُّفِ كَلَامٌ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَعْقُولِنَا، رَأَيْتُ أَنْ أَذْكُرَهُ هُنَا لِيَقَعَ الذِّكْرُ فِيهِ.
قَالُوا: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُظْهَرَاتٌ، وَمُضْمَرَاتٌ، وَمُسْتَتِرَاتٌ.
فَالْمُظْهَرَاتُ: أَسْمَاءُ ذَاتٍ، وَأَسْمَاءُ صِفَاتٍ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مُشْتَقَّةٌ، وَأَسْمَاءُ الذَّاتِ مُشْتَقَّةٌ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَغَيْرُ الْمُشْتَقِّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ، وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ، بَلِ اسْمٌ مُرْتَجَلٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ. وَأَمَّا الْمُضْمَرَاتُ فَأَرْبَعَةٌ: أَنَا فِي مِثْلِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا «1» ، وأنت فِي مِثْلِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ «2» ، وهو فِي مِثْلِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ «3» ، ونحن فِي مِثْلِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ «4» . قَالُوا: فَإِذَا تَقَرَّرَ هذا فالله أعظم
__________
(1) سورة النحل: 16/ 2.
(2) سورة الأنبياء: 21/ 87.
(3) سورة البقرة: 2/ 29.
(4) سورة يوسف: 12/ 3.(1/214)
أَسْمَائِهِ الْمُظْهَرَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ، وَلَفْظَةُ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْمَائِهِ الْمُظْهَرَاتِ وَالْمُضْمَرَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَاتِهِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ الْمُشْتَقَّةَ كُلَّهَا لَفْظُهَا متضمن جواز الاشتراك لاجتماعها فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ حَقِيقَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا مِنَ الِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ينبىء عَنْ كُنْهِ حَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ. فَلَفْظَةُ هُوَ تُوَصِّلُكَ إِلَى الْحَقِّ وَتَقْطَعُكَ عَمَّا سِوَاهُ، فَإِنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ يُشْرَكَ مَعَ النَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهَذَا الِاسْمُ لِأَجْلِ دَلَالَتِهِ عَلَى الذَّاتِ يَنْقَطِعُ مَعَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَاهُ، اخْتَارَهُ الْجِلَّةُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ مَدَارًا لِذِكْرِهِمْ وَمَنَارًا لِكُلِّ أَمْرِهِمْ فَقَالُوا: يَا هُوَ، لِأَنَّ لَفْظَةَ هُوَ إِشَارَةٌ بِعَيْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْضُرَ هُنَاكَ شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَالْمُقَرَّبُونَ لَا يَخْطُرُ فِي عُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ مَوْجُودٌ آخَرُ سِوَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ إِشَارَتُهُ، وَهُوَ اسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا:
الْهَاءُ وَالْوَاوُ، وَالْهَاءُ أَصْلٌ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ سُقُوطِهَا فِي التَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ فِي هُمَا وَهُمْ، وَالْأَصْلُ حَرْفٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ. انْتَهَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرْنَاهُ فِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِمَا ذَكَرُوهُ وَمُعْتَقَدًا لِمَا خبروه. وَلَهُمْ فِي لَفْظَةِ أَنَا وَأَنْتَ وَهُوَ كَلَامٌ غَرِيبٌ جِدًّا بَعِيدٌ عَمَّا تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَحَدِيثُ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ لَمْ يُفْتَحْ لِي فِيهِ بِبَارِقَةٍ، وَلَا أَلْمَمْتُ فِيهِ إِلَى الْآنِ بِغَادِيَةٍ وَلَا طَارِقَةٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنَوِّرَ بَصَائِرَنَا بِأَنْوَارِ الْهِدَايَةِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَسَالِكَ الْغِوَايَةِ، وَأَنْ يُلْهِمَنَا إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا اتِّبَاعَ الْأَمْرَيْنِ النَّيِّرَيْنِ: السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ.
ولكم: متعلق بخلق، وَاللَّامُ فِيهِ، قِيلَ: لِلسَّبَبِ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ وَلِانْتِفَاعِكُمْ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ لِاعْتِبَارِكُمْ. وَقِيلَ: لِلتَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ، فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ خَاصًّا، وَهُوَ تَمْلِيكُ مَا يَنْتَفِعُ الْخَلْقُ بِهِ وَتَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لِلِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّمْلِيكِ، وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهَا عَلَى السَّبَبِ فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّهُ بِمَا فِي الْأَرْضِ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ الدِّينِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ. فَالدِّينِيُّ: النَّظَرُ فِيهِ وَفِيمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الصُّنْعِ وَلَطَائِفِ الْخَلْقِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ الصَّانِعِ وَحِكْمَتِهِ وَمِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَزَاءِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيُّ: فَظَاهِرٌ، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَنْكَحِ وَالْمَرْكَبِ وَالْمَنَاظِرِ الْبَهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ لَكُمْ، مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا، وَإِذَا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِغَيْرِ التَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْحَظْرِ، فَلَا يُقْدَمُ(1/215)
عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الوقف لنا تَعَارَضَ عِنْدَهُمْ دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ، وَدَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْحَظْرِ قَالُوا بِالْوَقْفِ. وَحَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ عَنِ ابْنِ الصَّائِغِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَخْلُ الْعَقْلُ قَطُّ مِنَ السَّمْعِ، فَلَا نَازِلَةٌ إِلَّا وَفِيهَا سَمْعٌ، أَوْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهِ أَثَرٌ لَهَا حَالٌ تُسْتَصْحَبُ، وَإِذَا جَعَلْنَا اللَّامَ لِلسَّبَبِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَعَلَ شَيْئًا لِسَبَبٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَفَعَلَهُ لَسَبَبٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ السَّبَبِ وَانْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، جَمِيعُ مَا كَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَقَرًّا لَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالْجِبَالِ، وَجَمِيعُ مَا كَانَ بِوَاسِطَةٍ مِنَ الْحِرَفِ وَالْأُمُورِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الطِّينِ، قَالَ: لِأَنَّهُ خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ دُونَ نَفْسِ الْأَرْضِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا الِامْتِنَانِ بِجَعْلِ الْأَرْضِ لَنَا فِرَاشًا، وَهُنَا امْتَنَّ بِخَلْقِ مَا فِيهَا لَنَا وَانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّ لَفْظَةَ مَا فِي الْأَرْضِ عَامٌّ، وَمَعْنَى جَمِيعًا الْعُمُومُ. فَهُوَ مُرَادِفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلَفْظَةِ كُلُّ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ مَعًا وَجَمِيعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَعَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ، الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا، فَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، لَكِنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً «1» ، فَانْتَظَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا خَلَقَ اللَّهِ ذَلِكَ لَنَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةَ دُونَ الْغَبْرَاءِ، كَمَا تُذْكَرُ السَّمَاءُ، وَيُرَادُ بِهَا الْجِهَاتُ الْعُلْوِيَّةُ، جَازَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَبْرَاءَ وَمَا فِيهَا وَاقِعَةٌ فِي الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَنْسُوبِينَ لِلْحَقَائِقِ: خَلَقَ لَكُمْ لِيَعُدَّ نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ، فَتَقْتَضِي الشُّكْرَ مِنْ نَفْسِكَ لِتَطْلُبَ الْمَزِيدَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَهَبَ لَكَ الْكُلَّ وَسَخَّرَهُ لَكَ لِتَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى سِعَةِ جُودِهِ وَتَسْكُنَ إِلَى مَا ضَمِنَهُ لَكَ مِنْ جَزِيلِ الْعَطَاءِ فِي الْمَعَادِ، وَلَا تَسْتَكْثِرَ كَثِيرَ بِرِّهِ عَلَى قَلِيلِ عَمَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدِ ابْتَدَأَكَ بِعَظِيمِ النِّعَمِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَقَبْلَ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: خَلَقَ لَكُمْ لِيَكُونَ الْكَوْنُ كُلُّهُ لَكَ وَتَكُونَ لِلَّهِ فَلَا تَشْتَغِلْ بِمَا لَكَ عَمَّا أَنْتَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِهَا، فَإِنَّ الْخَلْقَ عَبَدَةُ النِّعَمِ لِاسْتِيلَاءِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ ظَهَرَ لِلْحَضْرَةِ أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُنْعِمُ رُؤْيَةَ النِّعَمِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: أَعْلَى مَقَامَاتِ أَهْلِ الْحَقَائِقِ الِانْقِطَاعُ عَنِ العلائق ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ: وَالْعَطْفُ بِثُمَّ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ، وَلَا زَمَانَ إِذْ ذَاكَ، فَقِيلَ: أَشَارَ بِثُمَّ إِلَى التَّفَاوُتِ الْحَاصِلِ بَيْنَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ في القدر، وقيل:
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 22. [.....](1/216)
لَمَّا كَانَ بَيْنَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَعْمَالٌ مِنْ جَعْلِ الرَّوَاسِي وَالْبَرَكَةِ فِيهَا وَتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ عَطَفَ بِثُمَّ، إِذْ بَيْنَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ تَرَاخٍ يَدُلُّ عَلَى ذلك: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «1» ، الْآيَةَ. اسْتَوَى أَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى الْفَتْحِ، ونجد على الإمالة.
وقرىء فِي السَّبْعَةِ بِهِمَا، وَفِي الِاسْتِوَاءِ هُنَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَقْبَلَ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهَا وَقَصَدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِيدَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ خَلْقَ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى إِلَيْهِ كَالسَّهْمِ الْمُرْسَلِ، إِذَا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَيَّنَ مَا الَّذِي اسْتُعِيرَ مِنْهُ. الثَّانِي: عَلَا وَارْتَفَعَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْدِيدٍ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَا أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِلَى بِمَعْنَى عَلَى، أَيِ اسْتَوَى عَلَى السَّمَاءِ، أَيْ تَفَرَّدَ بِمِلْكِهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا كَالْأَرْضِ مِلْكًا لِخَلْقِهِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فلما علونا واستوينا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِيلَاءِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى تَحَوَّلَ أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَاسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالِاسْتِوَاءُ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ثُمَّ اسْتَوَى أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ، أَيِ اسْتَقَرَّ لِأَنَّ أَوَامِرَهُ وَقَضَايَاهُ تَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمَعْنَى اسْتَوَى بِخَلْقِهِ وَاخْتِرَاعِهِ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، ويؤول الْمَعْنَى إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. السَّادِسُ:
أَنَّ الْمَعْنَى كَمُلَ صُنْعُهُ فِيهَا، كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَى الْأَمْرُ، وَهَذَا يَنْبُو اللَّفْظُ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
السَّابِعُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي اسْتَوَى عَائِدٌ عَلَى الدُّخَانِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ «2» ، وَاخْتِلَافُ الضَّمَائِرِ وَعَوْدُهُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَلَا يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ.
وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا فِرَارٌ عَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ مِنْ أَنَّ الله تعالى يستحيل أن يَتَّصِفَ بِالِانْتِقَالِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَحِلَّ فِيهِ حَادِثٌ أَوْ يَحِلَّ هُوَ فِي حَادِثٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ: تعديل خلقهن وتقويمه وإحلاؤه مِنَ الْعِوَجِ وَالْفُطُورِ، أَوْ إِتْمَامُ خَلْقِهِنَّ وَتَكْمِيلُهُ مِنْ قولهم: درهم
__________
(1) سورة فصلت: 41/ 9.
(2) سورة فصلت: 41/ 11.(1/217)
سَوَاءٌ، أَيْ وَازِنٌ كَامِلٌ تَامٌّ، أَوْ جَعْلُهُنَّ سَوَاءً مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» أَوْ تَسْوِيَةُ سُطُوحِهَا بِالْإِمْلَاسِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَسَوَّاهُنَّ عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ سَمَاوَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَيَصْدُقُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمْعِ، وَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ هُنَا الْجَمْعُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالضَّمِيرُ فِي فَسَوَّاهُنَّ ضمير مبهم. وسَبْعَ سَماواتٍ تَفْسِيرُهُ كَقَوْلِهِمْ: رُبَّهُ رَجُلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِهِ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ. وَهَذَا الَّذِي يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ: مِنْهُ مَا يُفَسَّرُ بِجُمْلَةٍ، وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ أَوِ الْقِصَّةِ، وَشَرْطُهَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُصَرَّحَ بِجُزْأَيْهَا، وَمِنْهُ مَا يُفَسَّرُ بِمُفْرِدٍ، أَيْ غَيْرِ جُمْلَةٍ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِنِعْمَ وَبِئْسَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِرُبَّ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِأَوَّلِ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ خَبَرُهُ مُفَسِّرًا لَهُ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي أبدل منه مفسره في إِثْبَاتِ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ خِلَافٌ، وَذَلِكَ نَحْوَ: ضَرَبْتُهُمْ قَوْمُكَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الضَّمَائِرِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا، إِلَّا أَنْ تَخَيَّلَ فِيهِ أن يكون سبع سموات بَدَلًا مِنْهُ وَمُفَسِّرًا لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَشْبِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهُ بِرُبَّهُ رَجُلًا، وَأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، لَكِنَّ هَذَا يُضَعَّفُ بِكَوْنِ هَذَا التَّقْدِيرِ يَجْعَلُهُ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِمَا قَبْلَهُ ارْتِبَاطًا كُلِّيًّا، إِذْ يَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَضَمَّنُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ سوى سبع سموات عَقِيبَ اسْتِوَائِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِإِخْبَارَيْنِ:
أَحَدُهُمَا اسْتِوَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ والآخر: تسويته سبع سموات.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الَّذِي اسْتَوَى إِلَيْهِ هُوَ بِعَيْنِهِ المستوي سبع سموات. وَقَدْ أَعْرَبَ بَعْضُهُمْ سَبْعَ سموات بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ إِعْرَابٌ صَحِيحٌ، نَحْوَ: أَخُوكَ مَرَرْتُ بِهِ زَيْدٌ، وَأَجَازُوا فِي سبع سموات أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَسَوَّى منهن سبع سموات، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَإِنَّ سَوَّى لَيْسَ مِنْ بَابِ اخْتَارَ، فَيَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مِنْهُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يدل على أن السموات كَثِيرَةٌ، فَسَوَّى مِنْهُنَّ سَبْعًا، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذِ المعلوم أن السموات سَبْعٌ. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِسَوَّى، وَيَكُونُ مَعْنَى سَوَّى: صَيَّرَ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ تَعَدِّي سَوَّى لِوَاحِدٍ هُوَ الْمَعْلُومُ فِي اللُّغَةِ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ «2» ، قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ «3» . وَأَمَّا جَعْلُهَا
__________
(1) سورة الشعراء: 26/ 98.
(2) سورة الانفطار: 82/ 7.
(3) سورة القيامة: 75/ 4.(1/218)
بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ. وَأَجَازُوا أَيْضًا النَّصْبَ عَلَى الْحَالِ، فَتَلَخَّصَ فِي نصب سموات أَوْجُهُ الْبَدَلِ بِاعْتِبَارَيْنِ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ، وَمَفْعُولٌ ثَانٍ، وَحَالٌ، وَالْمُخْتَارُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْحَالُ، وَيَتَرَجَّحُ الْبَدَلُ بِعَدَمِ الِاشْتِقَاقِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَيِّهِمَا خُلِقَ قَبْلُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: السَّمَاءُ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَرْضُ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَكُلٌّ تَعَلَّقَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ لَنَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَسْوِيَةِ السَّمَاءِ سَبْعًا لَا غَيْرُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ جِرْمَ الْأَرْضِ خُلِقَ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَخُلِقَتِ السَّمَاءُ بَعْدَهَا، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ بَعْدَ خلق السماء، وبهذا يحصل الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ بعضهم: وإنما خلق السموات سَبْعًا، لِأَنَّ السَّبْعَةَ وَالسَبْعِينَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَضَاعِيفِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ ضُوعِفَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يُبَالِغُوا بِالسَّبْعَةِ وَالسَبْعِينَ مِنَ الْعَدَدِ، لِمَا فِي ذِكْرِهَا مِنْ دَلِيلِ الْمُضَاعَفَةِ. قَالَ تَعَالَى: ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً «1» ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «2» ، وَالسَّبْعَةُ تُذْكَرُ فِي جَلَائِلِ الْأُمُورِ: الأيام سبعة، والسموات سبع، والأرض سَبْعٌ، وَالنُّجُومُ الَّتِي هِيَ أَعْلَامٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا سَبْعَةٌ: زُحَلُ، وَالْمُشْتَرَى، وَعُطَارِدُ، وَالْمِرِّيخُ، وَالزُّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالْبِحَارُ سبعة، وأبواب جهنم سبعة. وَتَسْكِينُ الْهَاءِ فِي هُوَ وَهِيَ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ وَثُمَّ جَائِزٌ، وَقَلَّ بَعْدَ كَافِ الْجَرِّ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَنَدُرَ بَعْدَ لَكِنْ، فِي قِرَاءَةِ أَبِي حَمْدُونَ، لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي، وَهُوَ تَشْبِيهٌ بِتَسْكِينِ سَبْعٍ وَكَرْشٍ، شُبِّهَ الْكَلِمَتَانِ بِالْكَلِمَةِ. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
: وَقَرَأَ بِتَسْكِينِ وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَقَالُونُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَوَقَفَ يَعْقُوبُ عَلَى وَهُوَ بِالْهَاءِ نَحْوَ: وَهْوَهْ بِكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ التَّعَدِّي بِاللَّامِ حَالَةَ التَّقْدِيمِ، أَوْ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا حَالَةُ التَّأْخِيرِ فَبِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْثِلَةِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ حَدَثَ فِيهَا بِسَبَبِ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا لَيْسَ فِي فِعْلِهَا وَلَا فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَبْنِيَّ لِلْمُبَالَغَةِ الْمُتَعَدِّيَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفِ جَرٍّ تَعَدَّى الْمِثَالُ بِحَرْفِ الْجَرِّ نَحْوَ: زَيْدٌ صَبُورٌ عَلَى الْأَذَى زَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ صَبَرَ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وَزَهَدَ يَتَعَدَّى بِفِي، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يُفْهِمُ عِلْمًا وَجَهْلًا، أَوْ لَا. إِنْ كَانَ مِمَّا يُفْهِمُ عِلْمًا أَوْ جَهْلًا تَعَدَّى الْمِثَالُ بِالْبَاءِ نَحْوَ: زَيْدٌ عَلِيمٌ بِكَذَا، وَجَهُولٌ بِكَذَا، وَخَبِيرٌ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفْهِمُ عِلْمًا ولا جهلا
__________
(1) سورة الحاقة: 69/ 32.
(2) سورة التوبة: 9/ 80.(1/219)
فَيَتَعَدَّى بِاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «1» وَفِي تَعَدِّيهَا لِمَا بَعْدَهَا بِغَيْرِ الْحَرْفِ وَنَصْبِهَا لَهُ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، وَإِنَّمَا خَالَفَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ الَّتِي لِلْمُبَالَغَةِ أَفْعَالَهَا الْمُتَعَدِّيَةَ بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَشْبَهَتْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ حُكْمُهُ هَكَذَا.
قَالَ تَعَالَى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ «2» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَعْطَى لِفَارِهَةٍ حُلْوٌ مَرَاتِعُهَا وَقَالَ:
أَكِرُّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ فَإِنْ جَاءَ بَعْدَهُ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «3» ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا أُوِّلَ بِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ.
شَيْءٍ: قَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مَدْلُولِ شَيْءٍ. فَمَنْ أَطْلَقَهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ كَانَ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرًا، وَمَنْ خَصَّهُ بِالْمَوْجُودِ فَقَطْ كَانَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمَعْدُومِ مُسْتَفَادًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. عَلِيمٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِعَالِمٍ وَعَلِيمٍ وَعَلَّامٍ، وَهَذَانِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدْ أَدْخَلَتِ الْعَرَبُ الْهَاءَ لِتَأْكِيدِ الْمُبَالَغَةِ فِي عَلَّامَةٍ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ تَعَالَى. وَالْمُبَالَغَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْرِيرِ وُقُوعِ الْوَصْفِ سَوَاءٌ اتَّحَدَ مُتَعَلِّقُهُ أَمْ تَكَثَّرَ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ الْمُتَعَلِّقِ لَا تَكْثِيرِ الْوَصْفِ. وَمِنْ هَذَا الثَّانِي الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا تَكْثِيرَ فِيهِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ عِلْمُهُ تَعَالَى بِالْجَمِيعِ كُلِّيِّهِ وَجُزْئِيِّهِ دَقِيقِهِ، وَجَلِيلِهِ مَعْدُومِهِ وَمَوْجُودِهِ، وَصَفَ نَفْسَهَ تَعَالَى بِالصِّفَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَنَاسَبَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْوَصْفِ بِمُبَالَغَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْعِلْمِ الْكَامِلِ التَّامِّ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْعَلِيمُ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَالْعَالِمُ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ مُتَعَدِّيًا مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ نفسه بالعالم، ولم
__________
(1) سورة هود: 11/ 107.
(2) سورة الإسراء: 17/ 54.
(3) سورة الأنعام: 6/ 117.(1/220)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
يَكُنْ عِلْمُهُ بِتَعَلُّمٍ. وَفِي تَعْمِيمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِالْكُلِّيَّاتِ لَا بِالْجُزْئِيَّاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالُوا: عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى يَتَمَيَّزُ عَلَى عِلْمِ عِبَادِهِ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا يَعْلَمُ بِهِ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ، وَبِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِهَا، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ حَاسَّةٍ وَلَا فِكْرٍ، وَبِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لِثُبُوتِ امْتِنَاعِ زَوَالِهِ، وَبِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ عِلْمٌ عَنْ عِلْمٍ، وَبِأَنَّ مَعْلُومَاتِهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَفِي قَوْلِهِمْ لَا يَشْغَلُهُ عِلْمٌ عَنْ عِلْمٍ، يُرِيدُونَ، مَعْلُومٌ عَنْ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَلَا يَشْغَلُهُ تَعَلُّقُ عِلْمِ شَيْءٍ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ.
وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي إِلَى آخِرِ قَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:
أَنَّ مَا ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ: مِنْ مُسْتَوْقِدِ النَّارِ، وَالصَّيِّبِ، وَالذُّبَابِ، وَالْعَنْكَبُوتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، فِيهِ عَجَائِبُ مِنَ الْحِكَمِ الْخَفِيَّةِ، وَالْجَلِيَّةِ، وَبَدَائِعِ الْفَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمُوَافَقَةِ الْمَثَلِ لِمَا ضُرِبَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي مثله إلا مثله، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَمَدْحُ مَنْ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَذَمُّ مَنْ أَنْكَرَهُ وَعَابَهُ، وَأَنَّ فِي ضَرْبِهِ هُدًى لِمَنْ آمَنَ، وَضَلَالًا لِمَنْ صَدَّ عَنْهُ، وَذَمُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَقَطَعَ مَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، وَإِعْلَامُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ خُسْرَانِهِ، وَالْإِعْلَامُ أَنَّ نَاقِضِي عَهْدِهِ هُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَأَنَّهُ جَامِعُهُمْ وَبَاعِثُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ أَشَدُّ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ. ثُمَّ بَعْدَ التَّخْوِيفِ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ: مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ الْمُقِلَّةِ، وَالسَّمَاءِ الْمُظِلَّةِ، وَالْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، لِيَجْمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَوْعِظَةُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا ذُو الْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالذِّهْنِ الْمُسْتَقِيمِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بالفصل الْأَكْبَرِ مِنْ إِعْلَامِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الابتداء إلى الانتهاء.
[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)(1/221)
إِذْ: اسْمٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ مَبْنِيٌّ لِشَبَهِهِ بِالْحَرْفِ وَضْعًا أَوِ افْتِقَارًا، وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ لِلْمَاضِي، وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ فَعِلْيَةً قَبُحَ تَقْدِيمُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُصَدَّرَةِ بِالْمُضَارِعِ، وَعَمَلُ الْمُضَارِعِ فِيهِ مِمَّا يَجْعَلُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ إِلَّا أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ زَمَانٌ، وَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وَلَا حَرْفًا لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْمُفَاجَأَةِ، وَلَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَلَا زَائِدَةً، خِلَافًا لِزَاعِمِي ذَلِكَ، وَلَهَا أَحْكَامٌ غَيْرُ هَذَا ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ.
الْمَلَكُ: مِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ وَهُوَ فَعَلٌ مِنَ الْمَلْكِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَلَا حَذْفَ فِيهِ، وَجُمِعَ عَلَى فَعَائِلَةٍ شُذُوذًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ مَلَاكٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ، وَقَدْ جَمَعُوا فَعَالًا الْمُذَكَّرَ، وَالْمُؤَنَّثَ عَلَى فَعَائِلَ قَلِيلًا. وَقِيلَ وَزْنُهُ فِي الْأَصْلِ فَعْأَلٌ نَحْوَ شَمْأَلٍ ثُمَّ نَقَلُوا الْحَرَكَةَ وَحَذَفُوا، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ مَلْأَكٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَأَ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ زَائِدَةً فِي فَاءِ الْكَلِمَةِ وَعَيْنِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَاءُ لَامٌ، وَالْعَيْنُ هَمْزَةٌ، مِنْ لَاكَ إِذَا أَرْسَلَ، وَهِيَ لُغَةٌ مَحْكِيَّةٌ، فَمَلَكٌ أَصْلُهُ مَلْأَكٌ، فَخُفِّفَ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ وَالْحَذْفِ إِلَى فَعَلٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَسْتَ لَإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
فَجَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْفَتْحِ، وَمَلَائِكَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْفَاءُ هَمْزَةٌ، وَالْعَيْنُ لَامٌ مِنَ الْأَلُوكَةِ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا أَصُلُهُ مَأْلُكًا، وَيَكُونُ مَلْأَكٌ مَقْلُوبًا، جُعِلَتْ فَاؤُهُ مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ فَائِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي وَزْنِهِ مَعْلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَاءُ لَامٌ، وَالْعَيْنُ وَاوٌ، مِنْ لَاكَ الشَّيْءَ: أَدَارَهُ فِي فِيهِ، وَصَاحِبُ الرِّسَالَةِ يُدِيرُهَا فِي فِيهِ، فَهُوَ مَفَعْلٌ مِنْ ذَلِكَ، نَحْوَ: مَعَاذٌ، ثُمَّ حَذَفُوا الْعَيْنَ تَخْفِيفًا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ وَزْنُهُ مَعْلًا، وَمَلَائِكَةٌ عَلَى الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ، وَالْهَمْزَةُ أُبْدِلَتْ مِنْ وَاوٍ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي مَصَائِبَ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْمَلَكُ لَا تَشْتَقُّ الْعَرَبُ فِعْلَهُ وَلَا تَصْرِفُهُ، وَهُوَ مِمَّا فَاتَ عِلْمُهُ، انْتَهَى. وَالتَّاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ وَرَدَ بِغَيْرِ تَاءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنَا خَالِدٌ صَلَّتْ عَلَيْكَ الْمَلَائِكُ خَلِيفَةً: فَعِيلَةً، وَفَعِيلَةٌ تَأْتِي بِمَعْنَى الْفَاعِلِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْعَلِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالنَّطِيحَةِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. السَّفْكُ: الصَّبُّ وَالْإِرَاقَةُ، لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الدَّمِ، وَيُقَالُ:(1/222)
سَفَكَ وَسَفَّكَ وَأَسْفَكَ بِمَعْنًى، وَمُضَارِعُ سَفَكَ يَأْتِي عَلَى يَفْعِلُ وَيَفْعُلُ. الدِّمَاءَ: جَمْعُ دَمٍ، وَلَامُهُ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ مَحْذُوفَةٌ لِقَوْلِهِمْ: دَمَيَانِ وَدَمَوَانِ، وَقَصْرُهُ وَتَضْعِيفُهُ مَسْمُوعَانِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْمَحْذُوفُ اللَّامُ، قِيلَ: أَصْلُهُ فَعِلَ، وقيل: فعل، التسبح: تَنْزِيهُ اللَّهِ وَتَبْرِئَتُهُ عَنِ السُّوءِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّبْحِ، وَهُوَ الْجَرْيُ. وَالْمُسَبِّحُ جَارٍ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، التَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَمِنْهُ الْقَدَسُ:
السَّطْلُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَالْقُدَاسُ: الْجُمَانُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَنَظْمِ قُدَاسٍ سِلْكُهُ مُتَقَطِّعُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَدَسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ. عَلَّمَ: مَنْقُولٌ مِنْ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ فِي النَّقْلِ، فَعَدُّوا تِلْكَ بِالتَّضْعِيفِ، وَهَذِهِ بِالْهَمْزَةِ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشُّلُوبِينُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّرْحِ. آدَمَ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ كَآزَرَ وَعَابَرَ، مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَفْعَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُدْمَةِ، وَهِيَ كَالسُّمْرَةِ، أَوْ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَجْهُهَا، فَغَيْرُ صَوَابٍ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ نَصَّ التَّصْرِيفِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبْرِيٌّ مِنَ الْإِدَامِ، وَهُوَ التُّرَابُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فَاعِلٌ مِنْ أديم الأرض فخطؤه ظاهر لِعَدَمِ صَرْفِهِ، وَأَبْعَدَ الطَّبَرِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ فِعْلٌ رُبَاعِيٌّ سُمِّيَ بِهِ. الْعَرْضُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ حَتَّى تُعْرَفَ جِهَتُهُ. الْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ، وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ الْوَاحِدُ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَيُضَمَّنُ مَعْنَى أَعْلَمَ فَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ. هَؤُلَاءِ: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْقَرِيبِ، وَهَا: لِلتَّنْبِيهِ، وَالِاسْمُ أُولَاءِ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ، وَقَدْ تُبْدَلُ هَمْزَتُهُ هَاءً فَيُقَالُ:
هلاء، قد يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ فَيُقَالُ: أُولَاءُ، وَقَدْ تُشْبَعُ الضَّمَّةُ قَبْلَ اللَّامِ فَيُقَالُ: أُولَاءِ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَدْ يُقَالُ: هؤلاء بِحَذْفِ أَلِفِ هَا وَهَمْزَةِ أُولَاءِ وَإِقْرَارِ الْوَاوِ الَّتِي بَعْدَ تِلْكَ الْهَمْزَةِ، حَكَاهُ الأستاذ أبو علي الشلوبين، وَأَنْشَدَ قَوْلَهُ:
تَجَلَّدْ لَا تَقُلْ هَوْلَاءِ هَذَا ... بَكَى لَمَّا بَكَى أَسَفًا عَلَيْكَا
وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ: أَنَّ الْمَدَّ فِي أُولَاءِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْقَصْرَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةُ بَعْضِ قَيْسٍ وَأَسَدٍ، وَأَنْشَدَ لِلْأَعْشَى:
هؤلاء ثم هؤلاء كُلًّا ... أَعْطَيْتَ نِعَالًا مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ
وَالْهَمْزَةُ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ لَامُ الْفِعْلِ، فَفَاؤُهُ وَلَامُهُ هَمْزَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ(1/223)
وَقَعَتْ بَعْدَ أَلِفٍ فَقُلِبَتْ هَمْزَةً. سُبْحَانَكَ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهُكَ، وَسُبْحَانَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْتَصِبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَزِمَتِ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَيُضَافُ وَيُفْرَدُ، فَإِذَا أُفْرِدَ كَانَ مُنَوَّنًا، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سَبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ
فَقِيلَ: صَرَفَهُ ضَرُورَةً، وَقِيلَ: لِجَعْلِهِ نَكِرَةً وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أقول لما جاءني فخبره ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
جَعَلَهُ عَلَمًا فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ كَانَ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَعَادَ إِلَيْهِ التَّنْوِينُ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْحَكِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلِ، مِنْ أَحْكَمَ الشَّيْءَ: أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَمَّا يُرِيدُهُ. الْإِبْدَاءُ: الْإِظْهَارُ، وَالْكَتْمُ: الْإِخْفَاءُ.
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: لَمْ يَرِدْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ شَيْءٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَكَانَ قَبْلَهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَدْءِ خَلْقِهِمْ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِتَشْرِيفِ أَبِيهِمْ وَتَكْرِيمِهِ وَجَعْلِهِ خَلِيفَةً وَإِسْكَانِهِ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَإِسْجَادِ الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَكَانِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْعِلْمِ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الذَّاتِ وَتَمَامُ الصِّفَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْأَصْلِ إِحْسَانٌ إِلَى الْفَرْعِ، وَشَرَفُ الْفَرْعِ بِشَرَفِ الْأَصْلِ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي إِذْ، فَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى زِيَادَتِهَا، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ ضَعِيفَيْنِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ، التَّقْدِيرُ: وَقَدْ قَالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ بِاذْكُرْ، أَيْ وَاذْكُرْ: إِذْ قالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ إِخْرَاجَهَا عَنْ بَابِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الظَّرْفِيَّةِ، أَوْ بِإِضَافَةِ ظَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهَا.
وَأَجَازَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَنَاسٌ قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا ظَرْفٌ.
وَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: ابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، التَّقْدِيرُ: وَابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ، إِذْ قَالَ رَبُّكَ. وَنَاسَبَ هَذَا التَّقْدِيرَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ:
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا تَحْرِيرَ فِيهِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِنَا لَمْ يَكُنْ وقت قول الله لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْعَامِلَ في
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 29.(1/224)
الظَّرْفِ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَمَّا أَنْ يَسْبِقَهُ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ ظَرْفًا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ إِذْ مَنْصُوبٌ يقال بَعْدَهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ إِذْ مُضَافَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ نَصْبَهَا بأحياكم، تَقْدِيرُهُ:
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ «1» ، إِذْ قالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ حَذْفٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَيْسَ وَاقِعًا فِي وقت قول الله للملائكة، وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِ الصِّلَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ معمول لخلقكم مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ «2» إِذْ قالَ رَبُّكَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ زَائِدَةً، وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الَّتِي كَادَتْ أَنْ تَكُونَ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ، لِاسْتِبْدَادِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا بِمَا سِيقَتْ لَهُ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا التَّعَلُّقَ الْإِعْرَابِيَّ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهَا. وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ نَصْبُهُ بِقَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ، أَيْ وَقْتَ قَوْلِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَتَجْعَلُ، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: إِذْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، أَيْ وَقْتَ مَجِيئِكَ أَكْرَمْتُكَ، وَإِذْ قُلْتَ لِي كَذَا قُلْتُ لَكَ كَذَا. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْوَجْهِ السَّهْلِ الْوَاضِحِ، وَكَيْفَ لَمْ يُوَفَّقْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَارْتَبَكُوا فِي دَهْيَاءَ وَخَبَطُوا خَبْطَ عَشْوَاءَ. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى الرَّبِّ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالْبَيَانِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ، كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الرَّبِّ وَإِضَافَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِخِطَابِهِ، وَهَزٌّ لِاسْتِمَاعِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَرِيبِ افْتِتَاحِ هَذَا الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ، وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَمَآلِهِ. وَهَذَا تَنْوِيعٌ فِي الْخِطَابِ، وَخُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الْخِطَابِ الْخَاصِّ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُقْبَلَ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ لَهُ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ وَالْقِسْمُ الْأَوْفَرُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا، إِذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْظَمُ خُلَفَائِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ وَدُعَائِهِ وَجَعْلِ أَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ أَمَّ بِهِمْ لَيْلَةَ إِسْرَائِهِ، وَجَعَلَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ لِوَائِهِ، فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ وَفِي دَارَيْ تَكْلِيفِهِ وَجَزَائِهِ. وَاللَّامُ فِي لِلْمَلَائِكَةِ: لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا اللَّامُ، فَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ الْعُمُومُ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ عَامٌّ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ الْجَانِّ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُحَارِبُونَ مَعَ إِبْلِيسَ. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ إِنِّي جَاعِلٌ، وَكَانَ ذَلِكَ مُصَدَّرًا بأن، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا، وَأَنَّ هَذَا واقع لا محالة وإن تُكْسَرُ بَعْدَ الْقَوْلِ، وَلِفَتْحِهَا بعده عند
__________
(1) سورة الحج: 22/ 66.
(2) سورة البقرة: 2/ 21.(1/225)
أَكْثَرِ الْعَرَبِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ يَفْتَحُونَهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:
إِذَا قلت إني آئب أَهْلَ بَلْدَةٍ ... نَزَعْتُ بِهَا عَنْهَا الْوَلِيَّةَ بِالْهَجْرِ
جَاعِلٌ: اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَجُوزُ إِضَافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ إِلَّا إِذَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا كَهَذَا، فَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ إِعْمَالُهُ، فَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْإِضَافَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَحْسَنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ اخْتِيَارِنَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي الْجَعْلِ هُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَالثَّانِي هُوَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مُصَيِّرٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ سَائِغٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَجْوَدُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَوْ كَانَ الْجَعْلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَى التَّصْيِيرِ لَذَكَرَهُ ثَانِيًا، فَكَانَ: أَتَجْعَلُ فِيهَا خَلِيفَةً مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟ وَإِذَا لَمْ يَأْتِ كَذَلِكَ، كَانَ مَعْنَى الْخَلْقِ أَرْجَحَ. وَلَا احْتِيَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ خَلِيفَةً لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ، وَكَلَامٌ بِغَيْرِ إِضْمَارٍ أَحْسَنُ مِنْ كَلَامٍ بِإِضْمَارٍ، وَجُعِلَ الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ دُونَ التَّجَدُّدِ شَيْئًا شَيْئًا.
وَالْجَعْلُ: سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ أَوِ التَّصْيِيرِ، وَكَانَ آدَمُ هُوَ الْخَلِيفَةَ عَلَى أَحْسَنِ الْفُهُومِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا تَكَرُّرَ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَخْلُقْهُ أَوْ لَمْ يُصَيِّرْهُ خَلِيفَةً إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ: ظَاهِرُهُ الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: أَرْضُ مَكَّةَ.
وَرَوَى ابْنُ سَابِطٍ هَذَا التَّفْسِيرَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ، قِيلَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ وَسَطُهَا بَكَّةَ، لِأَنَّ الْأَرْضَ بُكَّتْ من تحتها، واختصت بلا ذكر لِأَنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَدُفِنَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ، وَتَكُونُ الألف واللام فيها للعهد نَحْوَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ «1» ، وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ «2» اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «3» ، وقال الشاعر:
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 80. [.....]
(2) سورة يوسف: 12/ 21.
(3) سورة القصص: 28/ 5.(1/226)
يَقُولُونَ لِي أَرْضُ الْحِجَازِ حديثة ... فَقُلْتُ وَمَا لِي فِي سِوَى الْأَرْضِ مَطْلَبُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَلِيفَةً، بِالْفَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَالِفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَخْلُوفِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَانَ مَعْنَاهُ: الْقَائِمُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي جُعِلَ إِلَيْهِ. وَالْخَلِيفَةُ، قِيلَ: هُوَ آدَمُ لِأَنَّهُ خَلِيفَةٌ عَنِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ عَنِ الْجِنِّ بَنِي الْجَانِّ، أَوْ عَنْ إِبْلِيسَ فِي مُلْكِ الْأَرْضِ، أَوْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابن عباس. وَالْأَنْبِيَاءُ هُمْ خَلَائِفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ أَبُو الْخَلَائِفِ، كَمَا اقْتُصِرَ عَلَى مُضَرٍ وَتَمِيمٍ وَقَيْسٍ، وَالْمُرَادُ الْقَبِيلَةُ. وَقِيلَ: وَلَدُ آدَمَ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: إِذَا هَلَكَتْ أُمَّةٌ خَلَفَتْهَا أُخْرَى، قَالَهُ الْحَسَنُ، فَيَكُونُ مُفْرَدًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، كَمَا جَاءَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «1» لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «2» . وَقِيلَ: الْخَلِيفَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ الرُّومَ: قَيْصَرٌ، وَالْفُرْسَ: كِسْرَى، وَالْيَمَنَ: تُبَّعٌ. وَفِي الْمُسْتَخْلَفِ فِيهِ آدَمُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ. الثَّانِي: عِمَارَةُ الْأَرْضِ، يَزْرَعُ وَيَحْصُدُ وَيَبْنِي وَيُجْرِي الْأَنْهَارَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو البرهسم عِمْرَانُ: خَلِيقَةً، بِالْقَافِ وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ.
وَخِطَابُ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً إِنْ كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَارَبُوا مَعَ إِبْلِيسَ الْجِنَّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَامَّا بِأَنَّهُ رَافِعُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَمُسْتَخْلَفٌ فِي الْأَرْضِ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ. وَرُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَ الْمَلَائِكَةَ السَّمَاءَ، وَالْجِنَّ الْأَرْضَ، فَعَبَدُوا دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ أَفْسَدُوا وَحَسَدُوا، فَاقْتَتَلُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ رَأَسَهُمْ إِبْلِيسُ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ، فَهَبَطُوا الْأَرْضَ وَطَرَدُوا الْجِنَّ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَسَكَنُوهَا، وَخَفَّفَ عَنْهُمُ الْعِبَادَةَ، وَأَعْطَى اللَّهُ إِبْلِيسَ مُلْكَ الْأَرْضِ وَمُلْكَ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَخِزَانَةَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَعْبُدُ تَارَةً فِي الْأَرْضِ وَتَارَةً فِي الْجَنَّةِ، فَدَخَلَهُ الْعُجْبُ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلَّا أَنِّي أَكْرَمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِجُنُودِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً بَدَلًا مِنْكُمْ وَرَافِعُكُمْ إِلَيَّ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْوَنَ الْمَلَائِكَةِ عِبَادَةً، وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ الْآيَةَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَلَائِكَةُ، جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ. فَسَبَبُ الْقَوْلِ: إِرَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُطْلِعَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مِنَ الْكِبْرِ وَأَنْ يُظْهِرَ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِهِ.
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 165.
(2) سورة النور: 24/ 55.(1/227)
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ: وَأَنْ يَبْلُوَ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ، أَوْ أَنْ يُعَظِّمَ آدَمَ بِذِكْرِ الْخِلَافَةِ قَبْلَ وُجُودِهِ، لِيَكُونُوا مُطْمَئِنِّينَ لَهُ إذا وجدوا، أَوْ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِخَلْقِهِ لِيَسْكُنَ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْ يُعَلِّمَنَا أَنْ نُشَاوِرَ ذَوِي الْأَحْلَامِ مِنَّا وَأَرْبَابَ الْمَعْرِفَةِ إِذِ اسْتَشَارَ الْمَلَائِكَةَ اعْتِبَارًا لَهُمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْخِطَابَ بِمَا ذُكِرَ فَيَحْصُلُ مِنْهُمُ الِاعْتِرَافُ وَالرُّجُوعُ عَمَّا كَانُوا يَظُنُّونَ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ عُلُوَّ قَدْرِ آدَمَ فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ لِآدَمَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، أَوْ أَنْ يُعَلِّمَنَا الْأَدَبَ مَعَهُ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ، عَقَلْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْقِلْهُ، لِتَحْصُلَ بِذَلِكَ الطَّاعَةُ الْمَحْضَةُ أَوْ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُ الْمَلَائِكَةِ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ فَخَافَتْ وَسَأَلَتْ: لِمَنْ خَلَقْتَ هَذَا؟ قَالَ: لِمَنْ عَصَانِي. إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا وُجُودَ خَلْقٍ سِوَاهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً: سَابِقُ الْعِنَايَةِ، لَا يُؤَثِّرْ فِيهِ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَحُطُّ عَنْ رُتْبَةِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّبَ آدَمَ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي أَرْضِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا يَحْدُثُ عنه مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ الْإِخْرَاجَ مِنْ دَارِ الْكَرَامَةِ وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَكْدَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْلُبْهُ مَا أَلْبَسَهُ مِنْ خُلَعِ كَرَامَتِهِ، وَلَا حَطَّهُ عَنْ رُتْبَةِ خِلَافَتِهِ، بَلْ أَجْزَلَ لَهُ فِي الْعَطِيَّةِ فَقَالَ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى «1» ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ... جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ
كَانَ عُمَرُ يَنْقُلُ الطَّعَامَ إِلَى الْأَصْنَامِ وَاللَّهُ يُحِبُّهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَظُنُّنِي مِنْ زَلَّةٍ أَتَعَتَّبُ ... قَلْبِي عَلَيْكَ أَرَقُّ مِمَّا تَحْسَبُ
وَيُقَالُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ مَا خَلَقَ وَلَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا قَالَ فِي حَدِيثِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَظَاهِرُ هَذَا الْخِطَابِ تَنْبِيهٌ لِشَرَفِ خَلْقِ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا، وَالْعَرْشِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ انْتِظَامِ الْأَجْزَاءِ وَكَمَالِ الصُّورَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي خَالِقٌ عَرْشًا أَوْ جَنَّةً أَوْ مُلْكًا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا لِآدَمَ. قَالُوا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي الْعَامِلِ إِذْ هُوَ، قَالُوا: وَمَعْمُولُهُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَجْعَلُ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا تَسْبِقُ بِالْقَوْلِ، لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها الْآيَةَ، إِلَّا عَنْ نَبَأٍ وَمُقَدَّمَةٍ، فَقِيلَ:
الْهَمْزَةُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ قَدْ صَحِبَهُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، قَالَهُ مَكِّيٌّ وغيره، كأنهم
__________
(1) سورة طه: 20/ 122.(1/228)
تَعَجَّبُوا مِنَ اسْتِخْلَافِ اللَّهِ مَنْ يَعْصِيهِ أَوْ مَنْ يعصيان مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فِي أَرْضِهِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْظَامِ، وَالْإِكْبَارِ لِلِاسْتِخْلَافِ وَالْعِصْيَانِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ قَدْ سَبَقَ، إِمَّا بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ بِمُشَاهَدَةٍ فِي اللَّوْحِ، أو يكون ومخلوق غَيْرُهُمْ وَهُمْ مَعْصُومُونَ، أَوْ قَالُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ فَأَفْسَدَ قَبْلَ سُكْنَى الْمَلَائِكَةِ، أَوِ اسْتَنْبَطُوا ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ خَلِيفَةً، إِذِ الْخَلِيفَةُ مَنْ يَكُونُ نَائِبًا فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ التَّظَالُمِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْضٌ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَقَدَّرَهُ: أَتَجْعَلُ هَذَا الْخَلِيفَةَ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْجِنِّ أَمْ لَا؟ وَفَسَّرَهُ أَبُو الْفَضْلِ التجلي: أَيْ أَمْ تَجْعَلُ مَنْ لَا يُفْسِدُ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُمَا، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ تتغير؟ فَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ لَا مُعَادِلَ لِلِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ مَذْهَبَ التَّعَجُّبِ أَوْ الِاسْتِعْظَامِ أَوِ التَّقْرِيرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ يَكُونُ الْمُعَادِلُ مَفْعُولَ أَتَجْعَلُ، وَهُوَ مَنْ يُفْسِدُ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الْخَامِسِ تَكُونُ الْمُعَادَلَةُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ قوله، ونحن نسبح بحمدك. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَسْفِكُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الْكَافِ. وَقَرَأَ أبو حياة وابن أبي عبلة:
بصم الفاء. وقرىء: وَيَسْفِكُ مِنْ أَسْفَكُ وَيُسَفِّكُ مَنْ سَفَّكَ مُشَدَّدُ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ:
وَيَسْفِكُ بِنَصْبِ الْكَافِ، فَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ عَطَفَ عَلَى يُفْسِدُ، وَمَنْ نَصَبَ فَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ:
هُوَ نَصْبٌ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ الْوَاوِ بِإِضْمَارِ أَنْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ تُقَدَّرُ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ، فَإِذَا قُلْتَ: أَتَأْتِينَا وَتُحَدِّثَنَا وَنَصَبْتَ، كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتُحَدِّثَنَا، أَيْ وَيَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ مَعَ حَدِيثٍ، وكذلك قوله:
أبيت رَيَّانَ الْجُفُونِ مِنَ الْكَرَى ... وَأَبِيتُ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ
مَعْنَاهُ: أَيَكُونُ مِنْكَ مَبِيتٌ رَيَّانٌ مَعَ مَبِيتِي مِنْكَ بِكَذَا، وَكَذَلِكَ هَذَا يَكُونُ مِنْكَ جَعْلُ مُفْسِدٍ مَعَ سَفْكِ الدِّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: النَّصْبُ بِوَاوِ الصَّرْفِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ مَنْ يَجْمَعُ أَنْ يُفْسِدَ وَأَنْ يَسْفِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالنَّصْبُ بِوَاوِ الصَّرْفِ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَمَعْنَى وَاوِ الصَّرْفِ: أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ يَسْتَحِقُّ وَجْهًا مِنَ الْإِعْرَابِ غَيْرَ النَّصْبِ فَيُصْرَفُ بِدُخُولِ الْوَاوِ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَابِ إِلَى النَّصْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ(1/229)
يُجادِلُونَ
«1» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وَكَذَلِكَ: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «2» . فَقِيَاسُ الْأَوَّلِ الرَّفْعُ، وَقِيَاسُ الثَّانِي الْجَزْمُ، فَصَرَفَتِ الْوَاوُ الْفِعْلَ إِلَى النَّصْبِ، فَسُمِّيَتْ وَاوَ الصَّرْفِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ. وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ أَوَّلًا وَثَنَّى بِقَوْلِ الَمَهْدَوِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَكَيْفَ يَكُونُ أَحْسَنَ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَقُولُ بِهِ الْبَصْرِيُّونَ وَفَسَادُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الصِّلَةُ يُفْسِدُ، وَهُوَ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْفَسَادِ. نَصُّوا عَلَى أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، لِأَنَّهُ بِهِ تَلَاشِي الْهَيَاكِلِ الْجُسْمَانِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهِ لَجَازَ أَنْ لَا يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ: يُفْسِدُ، وَكَرَّرَ فِيهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْعِبَادَةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ كَيْفَ يَصِيرُ مَحَلًّا لِلْفَسَادِ؟ كَمَا مَرَّ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «3» وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكْرِيرِ فِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَسْفِكُ، اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ وَتَنَكُّبًا أَنْ يكرروا فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ نَقَدُوا عَلَى أَبِي الطِّيبِ قَوْلَهُ:
وَنَهْبُ نُفُوسِ أَهْلِ النَّهْبِ أَوْلَى ... بِأَهْلِ النَّهْبِ مِنْ نَهْبِ الْقُمَاشِ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ: أَوْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ: وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوِ الصَّلَاةُ، أَيْ نُصَلِّي لَكَ، مِنَ الْمُسَبِّحِينَ: أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ التَّعْظِيمُ، أَيْ وَنَحْنُ نُعَظِّمُكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ تَسْبِيحٌ خَاصٌّ، وَهُوَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَيُعْرَفُ هَذَا بِتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِقَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ.
وَفِي حَدِيثٍ
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ قَالَ: «مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهُ وَبِحَمْدِهِ» .
بِحَمْدِكَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْحَالِ، أَيْ نُسَبِّحُ مُلْتَبِسِينَ بِحَمْدِكَ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ بِثِيَابِهِ، وَهِيَ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِأَنَّهَا حَالٌ فِي حَالٍ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ حَمْدِكَ، وَالْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ، وَالثَّنَاءُ نَاشِيءٌ عَنِ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ وَالْإِنْعَامِ عَلَى الْمُثَنَّى، فَنَزَلَ النَّاشِئُ عَنِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ فَقَالَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ بِحَمْدِكَ، أَيْ بِتَوْفِيقِكَ وَإِنْعَامِكَ، والحمد مصدر مضاف
__________
(1) سورة الشورى: 42/ 35.
(2) سورة آل عمران: 3/ 142.
(3) سورة البقرة: 2/ 11.(1/230)
إِلَى الْمَفْعُولِ نَحْوَ قَوْلِهِ: مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ، أَيْ بِحَمْدِنَا إِيَّاكَ. وَالْفَاعِلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَحْذُوفٌ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يحذف وليس ممنوع فِي الْمَصْدَرِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ لَا يُضْمَرُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَرُ إِلَّا فِيمَا جَرَى مَجْرَى الْفِعْلِ، إِذِ الْإِضْمَارُ أَصِلٌ فِي الْفِعْلِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ وَنُقَدِّسُ لَكَ بِحَمْدِكَ، فَاعْتُرِضَ بِحَمْدِكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ مِمَّا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِحَمْدِكَ بَعْدَ نُسَبِّحُ لِاخْتِلَاطِ التَّسْبِيحِ بِالْحَمْدِ. وَجَاءَ قَوْلُهُ بَعْدَ:
وَنُقَدِّسُ لَكَ كَالتَّوْكِيدِ، لِأَنَّ التَّقْدِيسَ هُوَ: التَّطْهِيرُ، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ: التَّنْزِيهُ وَالتَّبْرِئَةُ مِنَ السُّوءِ، فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَمَعْنَى التَّقْدِيسِ كَمَا ذَكَرْنَا التَّطْهِيرُ، وَمَفْعُولُهُ أَنْفُسَنَا لَكَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، أَوْ أَفْعَالَنَا مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، أَوِ الْمَعْنَى:
نُكَبِّرُكَ وَنُعَظِّمُكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ، أَوْ نُصَلِّي لَكَ، أَوْ نَتَطَهَّرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَعْنُونَ بَنِي آدَمَ. حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ نُطَهِّرُ قُلُوبَنَا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِكَ، واللام في لك قيل زَائِدَةٌ، أَيْ نُقَدِّسُكَ. وَقِيلَ: لَامُ الْعِلَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُقَدِّسُ، قِيلَ: أَوْ بَنُسَبِّحُ وَقِيلَ: معدية للفعل، كهي في سَجَدْتُ لِلَّهِ، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْبَيَانِ كَاللَّامِ بَعْدَ سَقْيًا لَكَ، فَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، أَيْ تَقْدِيسُنَا لَكَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْدِيَةً لِلْفِعْلِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ «1» ، وسَبَّحَ لِلَّهِ»
. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ، أَوْ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ نَتَغَيَّرُ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَيَحْذِفُ مُعَادِلَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ دُخُولُ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَمْ نَتَغَيَّرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ:
لَعَمْرِكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يُرِيدُ: أَبِسَبْعٍ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلَّقَ قَبْلَ بِسَبْعٍ وَالْجُزْءَ الْمُعَادِلَ بَعْدَهُ يَدُلَّانِ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، مِمَّا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجَاوِبُوا بِهِ اللَّهَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَكَانَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالِاعْتِرَاضِ، لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَشَوِيَّةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ
__________
(1) سورة الجمعة: 62/ 1، وسورة التغابن: 64/ 1.
(2) سورة الحديد: 57/ 1، وسورة الحشر 59/ 1، وسورة الصف: 61/ 1.(1/231)
عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَدَلَائِلُهَا مَبْسُوطَةٌ هُنَاكَ، احْتَاجَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِلَى إِخْرَاجِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا وَحَمَلَهَا كُلُّ قَائِلٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَى مَا سَبَّحَ لَهُ، وَقَوِيَ عِنْدَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ سَائِغٌ فِي عِلْمِ اللِّسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الْمَلَائِكَةُ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَهُمْ فِي مَقَامِ الْمَشُورَةِ بِأَنَّ لَهُمْ وَجْهَ الْمُصْلِحَةِ فِي بَقَاءِ الْخِلَافَةِ فِيمَنْ يُسَبِّحُ وَيُقَدِّسُ، وَأَنْ لَا يَنْقُلَهَا إِلَى مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ، فَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ النُّصْحِ فِي الِاسْتِشَارَةِ، وَالنُّصْحُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَشَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْحَكَمُ فِيمَا يَمْضِي مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ.
وَمِنْ أَنْدَرِ مَا وَقَعَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ (كِتَابِ فَكِّ الْأَزْرَارِ) ، وَهُوَ الشَّيْخُ صِفِيُّ الدِّينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحسين ابن الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْمَنْصُورِ الْخَزْرَجِيُّ، قال: في ذلك الكتاب ظَاهِرِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ يُشْعَرُ بِنَوْعٍ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْبَيَانُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا حِينَ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِمْ مُجْمَلِينَ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مُنْدَرِجًا فِي جُمْلَتِهِمْ، فَوَرَدَ مِنْهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا. فَلَمَّا انْفَصَلَ إِبْلِيسُ عَنْ جُمْلَتِهِمْ بِإِبَائِهِ وَظُهُورِ إِبْلِيسِيَّتِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ، انْفَصَلَ الْجَوَابُ إِلَى نَوْعَيْنِ: فَنَوْعُ الِاعْتِرَاضِ مِنْهُ كَانَ عَنْ إِبْلِيسَ، وَأَنْوَاعُ الطَّاعَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ كَانَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. فَانْقَسَمَ الْجَوَابُ إِلَى قِسْمَيْنِ، كَانْقِسَامِ الْجِنْسِ إِلَى جِنْسَيْنِ، وَنَاسَبَ كُلُّ جَوَابٍ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «1» ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ كُلُّهَا مَقُولَةٌ، وَالْقَائِلُ نَوْعَانِ، فَرُدَّ كُلُّ قَوْلٍ لِمَنْ نَاسَبَهُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ التَّمَدُّحِ إِلَى مَنْ لَهُ الْحُكْمُ فِي التَّوْلِيَةِ مِمَّنْ يَقْصِدُ الْوِلَايَةَ، إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْجَوْرَ وَالْحَيْفَ، وَرَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً.
وَلِذَلِكَ جَازَ لِيُوسُفَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، طَلَبَهُ الْوِلَايَةَ، وَمَدَحَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهَا فَقَالَ:
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «2» ، قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ، مُضَارِعُ عَلِمَ وَمَا مَفْعُولَةٌ بِهَا مَوْصُولَةٌ، قِيلَ: أَوْ نكرة موصوفة، وقد تقدم: أَنَا لَا نَخْتَارُ، كَوْنَهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَأَجَازَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنْ تَكُونَ أَعْلَمُ هُنَا اسْمًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِي مَا أَنْ تَكُونَ مَجْرُورَةً بِالْإِضَافَةِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَنْصَرِفُ، وأجاز بعضهم أن تكون أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَمَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَعْلَمُ، أَيْ عَلِمْتُ، وَأَعْلَمُ مَا لا تعلمون.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 135.
(2) سورة يوسف: 12/ 55.(1/232)
وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَادِّعَاءُ حَذْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَذْفُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْكُمْ. وَالثَّانِي: الْفِعْلُ النَّاصِبُ لِلْمَوْصُولِ، وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ مَكِّيُّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ غَيْرِ صَحِيحَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ادِّعَاءُ أَنَّ أَفْعَلَ تَأْتِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهَذَا قَالَ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَخَالَفَهُ النَّحْوِيُّونَ وَرَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَقَالُوا: لا يخلو أَفْعَلُ مِنَ التَّفْضِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يَخْلُو مِنَ التَّفْضِيلِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ جَوَازَ مَسْأَلَةِ يُوسُفُ أَفْضَلُ إِخْوَتِهِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي جَوَازِ اقْتِيَاسِهِ خِلَافًا، تَسْلِيمًا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مَسْمُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ: وَاسْتِعْمَالُهُ عَارِيًا دُونَ مِنْ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التفضيل، مؤولا بَاسِمِ فَاعِلٍ أَوْ صِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ، مُطَّرِدٌ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَالْأَصَحُّ قَصْرُهُ عَلَى السَّمَاعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا سُلِّمَ وُجُودُ أَفْعَلِ عَارِيًا مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَمْ لَا وَالْقَائِلُونَ بِوُجُودِ ذَلِكَ لَا يَقُولُونَ بِإِعْمَالِهِ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَّا بَعْضُهُمْ، فَأَجَازَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ كَوْنِ أَفْعَلَ لَا يَخْلُو مِنَ التَّفْضِيلِ، وَلَا مُبَالَاةَ بِخِلَافِ أَبِي عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ كَانَ يُضَعِّفُ فِي النَّحْوِ، وَلَا بِخِلَافِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ بِمَا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، ولو سلمنا إسماع ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَا نُسَلِّمُ اقْتِيَاسَهُ، لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أُورِدَتْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْقِلَّةِ، مَعَ أَنَّهَا قَدْ تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذَلِكَ، فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ يَعْمَلُ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَكَيْفَ نُثْبِتُ قَانُونًا كُلِّيًّا وَلَمْ نَسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ شَيْئًا مِنْ أَفْرَادِ تَرْكِيبَاتِهِ لَا يُحْفَظُ: هَذَا رَجُلٌ أَضْرَبُ عُمَرًا، بِمَعْنَى ضَارِبٌ عُمَرًا، وَلَا هَذِهِ امْرَأَةٌ أَقْتَلُ خَالِدًا، بِمَعْنَى قَاتِلَةٌ خَالِدًا، وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَكْسَى زَيْدًا جُبَّةً، بِمَعْنَى: كَاسٍ زَيْدًا جُبَّةً. وَهَلْ هَذَا إِلَّا إِحْدَاثُ تَرَاكِيبَ لَمْ تَنْطِقِ الْعَرَبُ بِشَيْءٍ مِنْ نَظِيرِهَا؟ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَكَيْفَ يَعْدِلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ الْوَاضِحِ مَنْ كَوْنِ أَعْلَمُ فِعْلًا مُضَارِعًا إِلَى هَذَا الَّذِي هُوَ؟ كَمَا رَأَيْتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا طَوَّلْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَجَنَّبَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ أَفْعَلَ عَارِيَةً مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَشْهُورٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَنَبَّهْتُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةُ الدلائل. تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مَا لَا تَعْلَمُونَ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنُ الْعِلْمِ دُونَهُمْ عِلْمُهُ مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مَعَ الْبَغْيِ وَالْمَعْصِيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَوْ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءٌ وَصَالِحُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ عِلْمُهُ بِمَنْ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ عِلْمُهُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَيَبْتَلِي مَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ مُطِيعٌ فَيُؤَدِّيِهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ،(1/233)
وَمَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاصٍ فَيُؤَدِّيِهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الطَّاعَةِ فَيُطِيعُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلْمُهُ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَاطِنُهَا، جَلِيُّهَا وَدَقِيقُهَا، عَاجِلُهَا وَآجِلُهَا، صَالِحُهَا وَفَاسِدُهَا، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ عِلْمًا حَقِيقِيًّا، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، أَوْ عِلْمُهُ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ وَلَا نَظَرَ وَلَا تَدَبُّرَ وَلَا فِكْرَ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ. أَوْ عِلْمُهُ بِأَنَّ مَعَهُمْ إِبْلِيسَ، أَوْ عِلْمُهُ بِاسْتِعْظَامِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ أَتُجْعَلُ فِيهَا بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ. وَأَبْهَمَ فِي إِخْبَارِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَعْلَمُهَا دُونَهُمْ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ لَهُ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ فِيمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَالرِّضَا بِذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ عَالِمٍ، جَلَّ اللَّهُ وَعَزَّ. وَالْأَحْسَنُ أَنَّ يُفَسَّرَ هَذَا الْمُبْهَمُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ.
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها: لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِ آدَمَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ لِيُظْهِرَ فَضْلَهُ وَقُصُورَهُمْ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ، فَتَأَكَّدَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ بِالتَّفْضِيلِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ هَذَا، لِأَنَّهُ بِهَا يَتِمُّ الْمَعْنَى وَيَصِحُّ هَذَا الْعَطْفُ، وَهِيَ: فَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْخَلِيفَةِ مَحْذُوفًا مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ، أَبْرَزَهُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ، نَاصًّا عَلَيْهِ وَمُنَوِّهًا بِذِكْرِهِ بِاسْمِهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ: وَعَلَّمَ آدَمَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ، قَالَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ. وَهَلِ التَّعْلِيمُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي السَّمَاءِ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى فِي الْأَرْضِ، أَوْ بِوَسَاطَةِ مَلَكٍ أَوْ بِالْإِلْهَامِ؟ أَقْوَالٌ أُظْهَرُهَا أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُعَلِّمُ، لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَا إِلْهَامٍ.
وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَيَزِيدُ الْيَزِيدِيُّ: وَعَلَّمَ آدَمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ به وَالتَّضْعِيفِ فِي عُلِّمَ لِلتَّعْدِيَةِ، إِذْ كَانَ قَبْلَ التَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَعَدَّى بِهِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَلَيْسَتِ التَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ مَقِيسَةً، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ السَّمَاعِ، سَوَاءً كَانَ الْفِعْلُ قَبْلَ التَّضْعِيفِ لَازِمًا أَمْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، نَحْوَ: عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى وَاحِدٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يُحْفَظُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ التَّعْدِيَةَ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى ثَلَاثٍ. وَقَدْ وَهِمَ الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيُّ فِي زَعْمِهِ فِي شَرْحِ الْمُلْحَةِ لَهُ أَنَّ عَلِمَ تَكُونُ مَنْقُولَةً مِنْ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَتَصِيرُ بِالتَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى اقْتِيَاسِ التَّعْدِيَةِ بِالتَّضْعِيفِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ(1/234)
أَبِي الرَّبِيعِ فِي (كِتَابِ التَّلْخِيصِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ: الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ النَّقْلَ بِالتَّضْعِيفِ سَمَاعٌ فِي الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمِ، وَفِيمَا عَلَّمَهُ أَقْوَالٌ: أَسْمَاءُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَوِ اسْمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعُزِيَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، أَوْ جَمِيعُ اللُّغَاتِ، ثُمَّ كَلَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ بِلُغَةٍ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَاخْتَصَّ كُلَّ فِرْقَةٍ بِلُغَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَفَرَّعَ مِنْهَا جَمِيعُ اللُّغَاتِ، أَوْ أَسْمَاءُ النُّجُومِ فَقَطْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَوْ أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ فَقَطْ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، أَوْ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زَيْدٍ، أَوْ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ وَالْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ أَوْ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي خَلَقَهَا، علما أَنَّ هَذَا اسْمُهُ فَرَسٌ، وَهَذَا اسْمُهُ بَعِيرٌ، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَعَلَّمَهُ أَحْوَالَهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ أَسْمَاءُ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوِ الْأَسْمَاءُ بِلُغَةٍ ثُمَّ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي سِوَاهَا، أَوْ عَلَّمَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى نَحْوَ سِيبَوَيْهِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ، أَوْ أَسْمَاءُ الله عز وجل، قاله الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، أَوْ أَسْمَاءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ الْمَخْزُونَةِ، فَعَلِمَ بِهَا جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، قَالَهُ الْجَرِيرِيُّ، أَوِ التَّسْمِيَّاتُ. وَمَعْنَى هَذَا عَلَّمَهُ أَنْ يُسَمِّيَ الْأَشْيَاءَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ الِاسْمِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَحَالَةُ تَعْلِيمِهِ تَعَالَى آدَمَ، هَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْمُسَمَّيَاتِ أَوْ وَصَفَهَا لَهُ وَلَمْ يَعْرِضْهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: قَالَ بَعْضُ مَنْ عَاصَرْنَاهُ: الْمُخْتَارُ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ، وَعَرَّفَهُ الْعَاصِي وَالْمُطِيعَ لِيَعْرِفَ الْمَلَائِكَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ رَدًّا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا يَحْتَمِلُ أَسْمَاءُ الْمُسَمَّيَاتِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِوَضٌ مِنْهُ اللَّامُ كَقَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1» ، انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ اللَّامَ عِوَضٌ مِنَ الإضافة ليس مذهب البصريين، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مقامه، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ التَّعْلِيمِ بِالْأَسْمَاءِ تَعَلَّقَ الْإِنْبَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، وَالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلَمْ يَقِلْ: أَنْبَئُونِي بِهَؤُلَاءِ، وَلَا أَنْبِئْهُمْ بِهِمْ. وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ إِذَا حَمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تَجْمَعُ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى عُودِهِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ «2» ، التَّقْدِيرُ: أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، فَعَادَ الضَّمِيرُ مِنْ يَغْشَاهُ عَلَى ذِي الْمَحْذُوفَةِ، الْقَائِمِ مَقَامَهَا فِي الْإِعْرَابِ ظُلُمَاتٍ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ
__________
(1) سورة مريم: 19/ 4.
(2) سورة النور: 24/ 40. [.....](1/235)
اللَّفْظِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَسْمَاءً مَخْصُوصَةً، بَلْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّها عَلَى الشُّمُولِ، وَالْحِكْمَةُ حَاصِلَةٌ بِتَعْلِيمِ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ مُسَمَّيَاتُهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَيُرَادُ بِهِ مَدْلُولُهُ.
ثُمَّ عَرَضَهُمْ: ثُمَّ: حَرْفُ تَرَاخٍ، وَمَهَلَةٍ عَلَّمَ آدَمَ ثُمَّ أَمْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى أَنْ قَالَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ لِيَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْمَعْلُومُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَمَّا تَحَقَّقَ بِهِ وَاسْتَيْقَنَهُ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَالَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ دُونَ مُهْلَةٍ أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُ لَهُمْ تَعْرِيفٌ لَمْ يُخْبِرُوا، وَلَمَّا تَقَدَّمَ لِآدَمَ التَّعْلِيمَ أَجَابَ وَأَخْبَرَ وَنَطَقَ إِظْهَارًا لِعِنَايَتِهِ السَّابِقَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ. عَرَضَهُمْ خَلَقَهُمْ وَعَرَضَهَمْ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ صَوَّرَهُمْ لِقُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ عَرَضَهُمْ وَهُمْ كَالذَّرِّ، أَوْ عَرَضَ الْأَسْمَاءَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ جَمْعُهَا بِلَفْظَةِ هُمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ فِي عِرَضَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْعُقَلَاءِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْمَعْنِيُ بِالْأَسْمَاءِ أَسْمَاءُ الْعَاقِلِينَ، أَوْ يَكُونَ فِيهِمْ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ. وَقَرَأَ أُبَيُّ ثُمَّ عَرَضَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ عَرَضَهُنَّ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ، فَتَكُونُ هِيَ الْمَعْرُوضَةَ، أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّيَاتِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْرُوضُ الْمُسَمَّيَاتُ لَا الْأَسْمَاءُ. عَلَى الْمَلائِكَةِ: ظَاهَرُهُ الْعُمُومُ، فَقِيلَ: هُوَ مُرَادٌ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ فِي الْأَرْضِ. فَقالَ: الْفَاءُ: لِلتَّعْقِيبِ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْعَرْضِ وَالْأَمْرِ مُهْلَةٌ بِحَيْثُ يَقَعُ فِيهَا تَرَوٍّ أَوْ فِكْرٍ، وَذَلِكَ أَجْدَرُ بِعَدَمِ الْإِضَافَةِ. أَنْبِئُونِي: أَمْرُ تَعْجِيزٍ لَا تَكْلِيفٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:
أَنْبُونِي، بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: أَنْبَئُونِي عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بِأَسْماءِ هؤُلاءِ:
ظَاهِرُهُ حُضُورُ أَشْخَاصٍ حَالَةَ الْعَرْضِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنِ الْمَعْرُوضَ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ فَقَطْ، جَعَلَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَشْخَاصِ الْأَسْمَاءِ وَهِيَ غَائِبَةٌ، إِذْ قَدْ حَضَرَ مَا هُوَ مِنْهَا بِسَبَبٍ وَذَلِكَ أَسْمَاؤُهَا وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: فِي كُلِّ اسْمٍ لِأَيِّ شَخْصٍ هَذَا الِاسْمَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرٍ دَاعِيَةٍ إِلَى ذَلِكَ.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: شَرْطُ جَوَابِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ فَأَنْبِئُونِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْبَئُونِي السَّابِقُ، وَلَا يَكُونُ أَنْبِئُونِي السَّابِقُ هُوَ الْجَوَابُ، هَذَا مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ، فَزَعَمُوا أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا هُوَ النَّقْلُ الْمُحَقَّقُ، وَقَدْ وَهِمَ الَمَهْدَوِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَزَعَمَا أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ، التَّقْدِيرُ: فَأَنْبِئُونِي، إِلَّا إِنْ كَانَا اطَّلِعَا عَلَى نَقْلٍ آخَرَ غَرِيبٍ عَنِ(1/236)
الْمُبَرِّدِ يُخَالِفُ مَشْهُورَ مَا حكان النَّاسُ، فَيُحْتَمَلُ. وَكَذَلِكَ وَهِمَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، فَزَعَمَا أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ تَقْدِيمُ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْبِئُونِي الْمُتَقَدِّمِ هُوَ الْجَوَابُ.
وَالصِّدْقُ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُصِيبِينَ، كَمَا يُطْلَقُ الْكَذِبُ عَلَى الْخَطَأِ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ الصِّدْقُ عَلَى الصَّوَابِ. وَمُتَعَلِّقُ الصِّدْقِ فِيهِ أَقْوَالٌ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» ، إِنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا، لَا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ هَجَسٌ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ فِيمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ خُلَفَائِيَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ فِيمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَوْ بِأُمُورِ مَنْ أَسْتَخْلِفُهُمْ بَعْدَكُمْ، أَوْ إِنِّي إِنِ اسْتَخْلَفْتُكُمْ فِيهَا سَبَّحْتُمُونِي وَقَدَّسْتُمُونِي، وَإِنِ اسْتَخْلَفْتُ غَيْرَكُمْ فِيهَا عَصَانِي، أَوْ فِي قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ لَا شَيْءَ مِمَّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الْخَلْقُ إِلَّا وَأَنْتُمْ تَصْلُحُونَ لَهُ وَتَقُومُونَ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ فِي ذَلِكَ إِنْبَاءٌ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ بِالْأَسْمَاءِ.
رُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَتْ: يَخْلُقُ رَبُّنَا مَا شَاءَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أَعْلَمُ مَنًّا وَلَا أَكْرَمُ عَلَيْهِ. فَأَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ مِنْ عِلْمِ آدَمَ وَكَرَامَتِهِ خِلَافَ مَا ظَنُّوا
، قَالُوا: وَلِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ، إِذْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالصِّدْقِ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ، لَجَازَ الِاجْتِهَادُ، كَمَا جَازَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ؟ وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ الْإِصَابَةَ فَلَمْ يُصِبْ وَلَمْ يُعَنَّفْ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصِّدْقَ هُنَا ضِدُّ الْكَذِبِ الْمُتَعَارَفِ لِعِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ إِنْ بِمَعْنَى إِذْ، فَأَخْرَجَهَا عَنِ الشَّرْطِيَّةِ إِلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَإِذَا الْتَقَتْ هَمْزَتَانِ مَكْسُورَتَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوَ: هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ، فَوَرْشٌ وَقَنْبُلُ يُبَدِّلَانِ الثَّانِيَةَ يَاءً مَمْدُودَةً، إِلَّا أَنَّ وَرْشًا فِي: هَؤُلَاءِ إن كنتم، وعلى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ، يَجْعَلُ الْيَاءَ مَكْسُورَةً، وَقَالُونَ وَالْبَزِّيَ يَلِينَانِ الْأُولَى وَيُحَقِّقَانِ الثَّانِيَةَ، وَعَنْهُمَا فِي بِالسُّوءِ إِلَّا وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي تَقَرَّرَ لَهُمَا. الثَّانِي: إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَاوًا مَكْسُورَةً وَإِدْغَامُ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا فِيهَا وَتَحْقِيقُ الثَّانِيَةِ. الثَّالِثُ: إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى يَاءً، نَحْوَ: بِالسُّويِ. الرَّابِعُ:
إِبْدَالُهَا وَاوًا مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ، نَحْوَ: السُّووُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِحَذْفِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ.
قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا: أَيْ تَنْزِيهُكَ عَنِ الِادِّعَاءِ وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهٌ لَكَ بَعْدَ تَنْزِيهٍ لَفْظُهُ لَفْظُ تَثْنِيَةً، وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي لَبَّيْكَ، وَمَعْنَاهُ: تَلْبِيَةً بَعْدَ تَلْبِيَةٍ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ يَلْزَمُ عَنْهُ أَنَّ مُفْرَدَهُ يَكُونُ سُبْحَا، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْصُوبًا بَلْ مَرْفُوعًا، وَأَنَّهُ لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، وَأَنَّهُ الْتَزَمَ فَتْحَهَا. وَالْكَافُ فِي سُبْحَانَكَ مَفْعُولٌ بِهِ أضيف
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 23.(1/237)
إِلَيْهِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى تَنَزَّهْتَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، حِينَ تكملنا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ بِفِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ وَاجِبُ الْحَذْفِ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ، وَيُبْطِلُهُ أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ دُخُولَ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُنَادَى لِجَازَ دُخُولُ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ لَنَا. وَلَمَّا سَأَلَ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِالْجَوَابِ، وَكَانُوا قَدْ سَبَقَ مِنْهُمْ قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الْآيَةَ، أَرَادُوا أَنْ يُجِيبُوا بِعَدَمِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ، فَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الْجَوَابِ تَنْزِيهَ اللَّهِ اعْتِذَارًا وَأَدَبًا مِنْهُمْ فِي الْجَوَابِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ قَبْلُ يَمْحُوهُ هَذَا التَّنْزِيهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ، ثُمَّ أَجَابُوا بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِلَفْظٍ لَا الَّتِي بُنِيَتْ مَعَهَا النَّكِرَةُ، فَاسْتَغْرَقَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَّمَهُمْ هُوَ تَعَالَى، فَقَالُوا: إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا، وَهَذَا غَايَةٌ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى وَالِاسْتِسْلَامِ التَّامِّ لِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو عُثْمَانُ الْمَغْرِبِيُّ: مَا بَلَاءُ الخلق إلا الدعاوى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، كَيْفَ رُدُّوا إِلَى الْجَهْلِ حَتَّى قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا؟ وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ
، وَخَبَرُ: لَا عُلِمَ، فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا عُلِمَ مِثْلُهُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع عَلَى الْبَدَلِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْرَاوِيِّ: أَنَّ مَوْضِعَ مَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا عَلَّمَتْنَا، نَصْبٌ بِعَلَّمْتَنَا، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَأَنَّ الصِّلَةَ: عَلَّمَتْنَا، وَأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَعْمَلُ فِي الموصول ولكن يتكلف له وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَيَكُونُ مَعْنَى إِلَّا: لَكِنْ، عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَتَكُونُ مَا شَرْطِيَّةً مَنْصُوبَةً بِعَلَّمْتَنَا، وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُمْ نَفَوْا أَوَّلًا سَائِرَ الْعُلُومِ ثُمَّ اسْتَدْرَكُوا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيَّ شَيْءٍ عَلَّمَهُمْ عَلِمُوهُ، وَيَكُونُ هَذَا أَبْلَغُ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى، إِذْ مَحُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ وَنَفُوا جَمِيعَهَا، فَلَمْ يَسْتَثْنُوا لَهُمْ شيئا سابقا ماضيا تحلوا بِهِ، بَلْ صَارُوا إِلَى الْجَهْلِ الصِّرْفِ وَالتَّبَرِّي مِنْ كُلِّ عِلْمٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَافِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمُهُمْ تَعَالَى، أَوْ عَلِمُوا بِاطِّلَاعٍ مِنَ اللَّوْحِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي نَفْيِ كُلِّ عِلْمٍ عَنْهُمْ، وَجَعَلُوا هَذَا الْعِلْمَ الْخَاصَّ كَالْمَعْدُومِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ، لَا عِلْمَ لَنَا تَوْبَةً، وَمَنِ اعْتَقَدَ بِعِصْمَتِهِمْ قَالَ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلِمُوا، أَوْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها الْآيَةَ، لِأَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَكَيْفَ(1/238)
يَعْلَمُونَهَا وَمَا أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ؟ وَلَمَّا نَفُوا الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَثْبَتُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ أَوْصَافِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ، ثُمَّ أَرْدَفُوا الْوَصْفَ بِالْعِلْمِ، الْوَصْفَ بِالْحِكْمَةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَمَّا صَدَرَ مِنْ هَذَا الْمَجْعُولِ خَلِيفَةً، مَا صَدَرَ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ تَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً.
فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْجَوَابِ كَيْفَ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ تَنْزِيهَ اللَّهِ، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِالْجَهْلِ، ثُمَّ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ، وَنَاسِبَ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، لِأَنَّهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ، أَنْبِئُونِي، لَا عِلْمَ لَنا. فَالَّذِي ظَهَرَتْ بِهِ الْمَزِيَّةُ لآدم والفضيلة هو العلم، فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ مُتَّصِلًا بِهِ، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِنَّمَا هِيَ آثار العلم وَنَاشِئَةٌ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ. وَلِأَنْ يَكُونَ آخِرُ مَقَالِهِمْ مُخَالِفًا لِأَوَّلِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ رُجُوعَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ ذُو الْحِكْمَةِ، يَكُونُ الْحَكِيمُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْمُحْكِمُ لِصَنْعَتِهِ يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ. وَأَنْتَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ مُبْتَدَأً فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْعَلِيمُ خَبَرُهُ، أَوْ فَضْلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ. فَعِنْدَ الْفَرَّاءِ مَوْضِعُهُ عَلَى حَسَبِ الِاسْمِ قَبْلَهُ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ عَلَى حَسَبِ الِاسْمِ بَعْدَهُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدْ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْعَلِيمُ بِمَا أَمَرْتَ وَنَهَيْتَ، الْحَكِيمُ فِيمَا قَدَّرْتَ وَقَضَيْتَ. وَقَالَ آخر: العلم بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْحَكِيمُ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ.
قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: نَادَى آدَمَ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ، وَهِيَ عَادَةُ اللَّهِ مَعَ أَنْبِيَائِهِ، قَالَ تعالى: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا «1» ، يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «2» ، يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «3» ، يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «4» ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ «5» ، وَنَادَى مُحَمَّدًا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ مِنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْبَاءِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ «6» يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ «7» . فَانْظُرْ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ هَذَا النداء
__________
(1) سورة هود: 11/ 48.
(2) سورة هود: 11/ 46.
(3) سورة الصافات: 37/ 104- 105.
(4) سورة القصص: 28/ 30.
(5) سورة المائدة: 5/ 110.
(6) سورة المائدة: 5/ 41.
(7) سورة الأنفال: 8/ 64 و 65 و 67.(1/239)
وَذَاكَ النِّدَاءِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنْبِئْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَفِي بِأَسْمَائِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَعْرُوضِينَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ آثَارِ الْعِنَايَةِ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ:
أَنْبِئُونِي، دَاخَلَهُمْ مِنْ هَيْبَةِ الْخِطَابِ مَا أَخَذَهُمْ عَنْهُمْ، لَا سِيَّمَا حِينَ طَالَبَهُمْ بِإِنْبَائِهِمْ إِيَّاهُ مَا لَمْ تَحِطْ بِهِمْ عُلُومُهُمْ. وَلِمَا كَانَ حَدِيثُ آدَمَ رَدَّهُ فِي الْإِنْبَاءِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، وَمُخَاطَبَةُ آدَمَ لِلْمَلَائِكَةِ لَمْ تُوجِبْ الِاسْتِغْرَاقَ فِي الْهَيْبَةِ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَسْمَاءِ مَا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُهُمْ، ظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ، يَعْنِي مَا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُ الْخَلْقِ وأسلم مَا تَبْدُونَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَكْتُمُونَ مِنَ اعْتِقَادِ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى آدَمَ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيِّ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَتْ مُرَتَّبًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى، فَالْأَصَحُّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا يُؤْتَى فِيهَا بِحَرْفِ تَرَتُّبٍ، اكْتِفَاءً بِالتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها، أَتَى بَعْدَهُ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ، وَنَحْوَ: قالُوا سُبْحانَكَ، قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ، وَنَحْوَ: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ «1» ، قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ «2» ، قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ «3» ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ «4» . وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ مَوْضِعًا فِي قِصَّةِ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمُحَاوَرَتِهِ مَعَهُ، وَمُحَاوَرَةِ السَّحَرَةِ، إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ، دُونَ ثَلَاثَةٍ، جَاءَ مِنْهَا اثْنَانِ جَوَابًا وَوَاحِدٌ كَالْجَوَابِ، وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
أَنْبِئْهُمْ بِالْهَمْزِ وَضَمَّ الْهَاءَ، وَهَذَا الْأَصْلُ كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْبِئْهُمْ بِالْهَمْزِ وَكَسَرِ الْهَاءَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الْهَاءِ لِحَرَكَةِ الْبَاءِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِالْهَمْزَةِ لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ، فَهِيَ حَاجِزٌ غَيْرُ حصين. وقرىء: أنبيهم، بإبدال الهمزة ياء وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَوَّاسِ: أَنْبِهِمْ، عَلَى وَزْنِ أَعْطِهِمْ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا عَلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، عَلَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَنْبَيْتُ، كَأَعْطَيْتُ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ لَا تَخْفِيفٌ. وَالْبَدَلُ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
حَكَى الْأَخْفَشُ فِي الْأَوْسَطِ: أَنَّ الْعَرَبَ تَحَوِّلُ مِنَ الْهَمْزَةِ مَوْضِعَ اللَّامِ يَاءٌ، فيقولون:
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 27.
(2) سورة البقرة: 2/ 259.
(3) سورة البقرة: 2/ 259.
(4) سورة البقرة: 2/ 260.(1/240)
قُرَيْتُ، وَأُخْطَيْتُ، وَتَوَضَّيْتُ، قَالَ: وَرُبَّمَا حَوَّلُوهُ إِلَى الْوَاوِ، وَهُوَ قَلِيلٌ، نَحْوَ: رَفَوْتُ، وَالْجَيِّدُ: رَفَأْتُ، وَلَمْ أَسْمَعْ: رَفَيْتُ. انْتَهَى كَلَامُ الْأَخْفَشِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: فَأَنْبَئَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ حُذِفَتْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ آدَمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَا لَمْ يُعْلِمْهُمْ مِنْ حَالِهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَبْلَ النَّفْخِ مُصَوَّرًا، فَلَمْ يَعْلَمُوا مَا هُوَ، وَعَلَى أَنَّهُ رَفَعَ دَرَجَةَ آدَمَ عِنْدَهُمْ، لِكَوْنِهِ قَدْ عَلَّمَ لِآدَمَ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُمْ، وَعَلَى إِقَامَتِهِ مَقَامَ الْمُفِيدِ الْمُعَلَّمِ، وَإِقَامَتِهِمْ مَقَامَ الْمُسْتَفِيدِينَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَسْمَاءَ الَّذِينَ عَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَدَبِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْأَدَبِ مِنْ حَيْثُ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها، فَإِنَّ الطَّوَاعِيَةَ الْمَحْضَةَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحِكْمَةِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَصْلَحَتِهِ وَمَفْسَدَتِهِ كَهُمْ مَعَ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ. وَكَانَ الِامْتِثَالُ وَالتَّسْلِيمُ، بِغَيْرِ تَعَجُّبٍ وَلَا اسْتِفْهَامٍ، أَلْيَقَ بِمَقَامِهِمْ لِطَهَارَةِ ذَوَاتِهِمْ وَكَمَالِ صِفَاتِهِمْ.
وَفِي كِتَابِ بَعْضِ مَنْ عَاصَرْنَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ظَهَرَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عِلْمِهِ بِالْأَسْمَاءِ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى حَوَّاءَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَبْعُوثًا إِلَى مَنْ تُوَجِّهُ التَّحَدِّيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا رُسُلًا، فَقَدْ يَجُوزُ الْإِرْسَالُ إِلَى الرَّسُولِ، كَبَعْثِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجُّوا بِكَوْنِهِ نَاقِضًا لِلْعَادَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُصُولُ الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ وَعَدَمُ حُصُولِهِ لِمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِلْعَادَةِ. وَأَيْضًا، فَالْمَلَائِكَةُ أَمَّا أَنْ عَلِمُوا وَضْعَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ للمسميات فلا مزية أو لا، فَكَيْفَ عَلِمُوا إِصَابَتَهُ فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ لُغَةً، ثُمَّ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ فَعَرَفَ كُلُّ صِنْفٍ إِصَابَتَهُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ بِأُسَرِهِمْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِأَسْرِهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُمُ الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ، وَلِمَ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ؟ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: صُدُورُ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ بَعْدُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّبِيِّ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَبْعُوثًا لَكَانَ إِلَى أَحَدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّبْلِيغُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمَلَائِكَةَ، لِأَنَّهُمْ أَفْضَلَ، وَلَا حَوَّاءَ، لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِلَا وَاسِطَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا، وَلَا الْجِنَّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي السَّمَاءِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْتَباهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِبَاءَ كَانَ بَعْدَ الزَّلَّةِ، وَالنَّبِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَبًى وَقْتَ كَوْنِهِ نَبِيًّا.(1/241)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ جَوَابُ فَلَمَّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي لَمَّا المقتضية للجواب، أهي حَرْفٌ أَمْ ظَرْفٌ؟ وَرَجَّحْنَا الْأَوَّلَ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ سيبويه. وألم: أَقُلْ تَقْرِيرٌ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ كَانَ الْكَلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تَقْرِيرًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» ؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «2» ؟ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «3» ؟ وَلِذَلِكَ جَازَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةٍ إِثْبَاتِيَّةٍ نَحْوَ: وَوَضَعْنَا، وَلَبِثْتَ، وَلَكُمْ فِيهِ، تَنْبِيهُهُمْ بِالْخِطَابِ وَهَزُّهُمْ لِسَمَاعِ الْمَقُولِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً «4» نَبَّهَهُ فِي الثَّانِيَةِ بِالْخِطَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّامَ فِي نَحْوِ: قُلْتُ لَكَ، أَوْ لِزَيْدٍ، لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيهَا. إِنِّي أَعْلَمُ: يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُتَحَرِّكِ مَا قَبْلُهَا، إِذَا لَقِيَتْ هَمْزَةَ الْقَطْعِ الْمَفْتُوحَةَ، جَازَ فِيهَا وَجْهَانِ: التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ، وقرىء بِالْوَجْهَيْنِ فِي السَّبْعَةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ. وَسَكَّنُوا فِي السَّبْعَةِ إِجْمَاعًا: تَفْتِنِّي أَلَا، أَرِنِي أَنْظُرْ «5» ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ «6» وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ «7» ، وَلَا يَظْهَرُ بِشَيْءٍ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ عِلَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الرِّوَايَةِ. وَالْخِلَافُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِ منصوبا أو مجرورا جار هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ هُنَاكَ فَلَا نُعِيدُهُ هُنَا.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
أَعْلَمُ اسْمًا بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ فِي الْعِلْمِ، فَتَكُونُ مَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا قُدِّرَ الْأَوَّلُ اسما، فلا بد بعده مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ يَنْصِبُ غَيْبَ، تَقْدِيرُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ كُلٍّ أَعْلَمُ غَيْبَ، وَكَوْنُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِعْلًا مُضَارِعًا أَخْصَرُ وَأَبْلَغُ. انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ وَهْمٌ. وَالَّذِي ذَكَرَ الَمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ، يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ مَا بِأَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَالِمٍ، أَوْ يَكُونُ مَا جَرًّا بِالْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ التَّنْوِينُ فِي أَعْلَمُ إِذَا قَدَّرْتَهُ بِمَعْنَى عَالِمٍ وَتَنْصِبُ مَا بِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى حَوَاجِ بَيْتِ اللَّهِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى أَنْ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزِ الْجَرُّ فِي مَا وَالنَّصْبُ، وَتَكُونُ أَفْعَلُ اسْمًا إِلَّا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا أَفْعَلَ تفضيل، ولا
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 172.
(2) سورة الشرح: 94/ 1. [.....]
(3) سورة الشعراء: 26/ 18.
(4) سورة الكهف: 18/ 75.
(5) سورة الأعراف: 7/ 141.
(6) سورة مريم: 19/ 43.
(7) سورة هود: 11/ 47.(1/242)
يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَا نقله ابن عطية عن الَمَهْدَوِيِّ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمُ أَفْعَلَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَخَفْضُ مَا بِالْإِضَافَةِ أَلْبَتَّةَ.
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْغَيْبِ هُنَا، فَقِيلَ: غَيْبُ السموات: أَكْلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ فِي السَّمَاءِ، وَغَيْبُ الْأَرْضِ: قَتَلُ قَابِيلَ هَابِيلَ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ:
غَيْبُ السموات مَا قَضَاهُ مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، وَغَيْبُ الْأَرْضِ مَا فَعَلُوهُ فِيهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. وقيل:
غيب السموات مَا غَابَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ أَسْرَارِ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى، وَغَيْبُ الْأَرْضِ مَا أَخْفَاهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ مِنْ أَسْرَارِ مَلَكُوتِهِ الْأَدْنَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ الأولى.
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: مَا تُبْدُونَ: الضَّمِيرُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ: يَعْنِي إِبْلِيسَ.
فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْجَمْعِ، وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ نَحْوَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ «1» .
وَرُوِيَ أَنَّ إِبْلِيسَ مَرَّ عَلَى جَسَدِ آدَمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقَالَ: لِأَمْرٍ مَا خُلِقَ هَذَا، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ لِأَنَّهُ أَجْوَفُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ فُضِّلَ هَذَا عَلَيْكُمْ وَأُمِرْتُمْ بِطَاعَتِهِ مَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: نُطِيعُ اللَّهَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ، وَلَئِنْ سُلِّطَ عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّهَ
، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ الْآيَةَ، يَعْنِي: مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ وَكَتْمِ إِبْلِيسَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَا أَبْدَوْهُ هُوَ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وَمَا كَتَمُوهُ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا، وَقِيلَ: مَا أَبْدَوْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وما كتموه أَضْمَرُوهُ مِنَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالسُّجُودِ لِآدَمَ. وَقِيلَ: مَا أَبْدَوْهُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْعَجْزِ، وَمَا كَتَمُوهُ الْكَرَاهِيَةُ لِاسْتِخْلَافِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِيمَا أَبْدَوْهُ وَمَا كَتَمُوهُ مِنْ كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَأَبْرَزَ الْفِعْلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ جُمْلَةً مَقْصُودَةً بِالْعَامِلِ، فَلَا يَكُونُ مَعْمُولُهَا مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْإِخْبَارِ، إِذْ جُعِلَ مُفْرَدًا بِعَامِلٍ غَيْرِ الْعَامِلِ، وَعَطْفُ قَوْلِهِ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي فِي الْإِخْبَارِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، جَهْرًا كَانَ أَوْ سِرًّا، وَوَصْلُ مَا بَكُنْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَتْمَ وَقَعَ فيما
__________
(1) سورة الحجرات: 49/ 4.(1/243)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
مَضَى، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَتَمُوا عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَأَعْلَمُ، فَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ هَجَسَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْءٌ لَمْ يُظْهِرْهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ إِبْلِيسَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي نَفْسِهِ: ما حكيناه قبل عَنْهُ، فَكَتَمَ ذَلِكَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ آخِرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ الطِّبَاقَ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قوله:
[سورة البقرة (2) : آية 34]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
السُّجُودُ: التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ الْمَيْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَجَدَ وَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ، وَأَسْجَدَ: مَيَّلَ رَأَسَهُ وَانْحَنَى، وَقَالَ الشاعر:
ترى ألا كم فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ يُرِيدُ أَنَّ الْحَوَافِرَ تَطَأُ الْأُكْمَ، فَجَعَلَ تَأَثُّرَ الْأُكْمِ لِلْحَوَافِرِ سُجُودًا مَجَازًا، وَقَالَ آخَرُ:
كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تُحَنَّفِ وَقَالَ آخَرُ:
سُجُودُ النَّصَارَى لِأَحْبَارِهَا يُرِيدُ الِانْحِنَاءَ.
إِبْلِيسُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَوَزْنُهُ فِعْلِيلُ، وَأَبْعَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبْلَاسِ، وَهُوَ الْإِبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَوَزْنُهُ عَلَى هَذَا، إِفْعِيلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ أَنَّ الِاشْتِقَاقَ الْعَرَبِيَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَاعْتَذَرَ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِقَاقِ فِيهِ عَنْ مَنْعِ الصَّرْفِ بِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الأسماء، وردّنا: غريض، وَإِزْمِيلٍ، وَإِخْرِيطٍ، وَإِجْفِيلٍ، وَإِعْلِيطٍ، وَإِصْلِيتٍ، وَإِحْلِيلٍ، وَإِكْلِيلٍ، وَإِحْرِيضٍ. وَقَدْ قِيلَ: شُبِّهَ بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَشِبْهِ الْعُجْمَةِ، وَشِبْهُ الْعُجْمَةِ هُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنَ الْإِبْلَاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَصَارَ خَاصًّا بِمَنْ أَطْلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ دَلِيلٌ فِي لِسَانِهِمْ، وَهُوَ عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ. وَقَدْ رُوِيَ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِبْلَاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ، وَمَا إِخَالُهُ يَصِحُّ. الْإِبَاءُ: الِامْتِنَاعُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَمَّا أَنْ تَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا ... فَشَرُّ مُوَاطِنِ الْحَسَبِ الْإِبَاءُ(1/244)
وَالْفِعْلُ مِنْهُ: أَبَى يَأْبَى، وَلَمَّا جَاءَ مُضَارِعُهُ عَلَى يَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَلَيْسَ بقياس أحرى، كَأَنَّهُ مُضَارِعُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَقَالُوا فِيهِ: يِئْبِي بِكَسْرِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهِ أَبِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَيَكُونُ يَأْبِي عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قِيَاسًا، وَوَافَقَ مَنْ قَالَ أَبَى بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَدْ زَعَمَ أَبُو الْقَاسِمِ السعدي أن أبي يأتي بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ حَكَى أَبِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ. وَقَدْ جَاءَ يَفْعَلُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِعْلًا وَمَاضِيهَا فَعَلَ، وَلَيْسَتْ عَيْنُهُ وَلَا لَامُهُ حَرْفَ حَلْقٍ. وَفِي بَعْضِهَا سُمِعَ أَيْضًا فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَفِي بَعْضِ مُضَارِعِهَا سُمِعَ أَيْضًا يَفْعِلُ وَيَفْعُلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، ذَكَرَهَا التَّصْرِيفِيُّونَ.
الِاسْتِكْبَارُ وَالتَّكَبُّرُ: وَهُوَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى تَفَعَّلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الاثنى عشر التي جاءت لَهَا اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي شَرْحِ نَسْتَعِينُ.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ لَمْ يُؤْثَرْ فِيهَا سَبَبُ نُزُولٍ سَمْعِيٌّ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا شَرَّفَ آدَمَ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَجَعَلَهُ مُعَلِّمًا لِلْمَلَائِكَةِ وَهُمْ مُسْتَفِيدُونَ مِنْهُ مَعَ قَوْلِهِمُ السَّابِقِ:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُكَرِّمَ هَذَا الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ بِأَنْ يُسْجِدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ مَزِيَّةَ الْعِلْمِ عَلَى مَزِيَّةِ الْعِبَادَةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قِصَّةُ إِبْلِيسَ تَقْرِيعٌ لِمَنْ أَشْبَهَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَمَعَ قِدَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ. وَإِذْ: ظَرْفٌ كَمَا سَبَقَ فَقِيلَ بِزِيَادَتِهَا. وَقِيلَ:
الْعَامِلُ فِيهَا فِعْلٌ مضمر يشيرون إلى ادكر. وَقِيلَ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، يَعْنِي قَوْلَهُ:
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ، وَيُضَعَّفُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ، وَالثَّانِي أَنَّهَا لَازِمٌ ظَرْفِيَّتُهَا، وَالثَّالِثُ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الْعَامِلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي إِذِ الْأُولَى فِي إِذْ هَذِهِ. وَقِيلَ:
الْعَامِلُ فِيهَا أَبَى، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إذ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَسَجَدُوا، تَقْدِيرُهُ: انْقَادُوا وَأَطَاعُوا، لِأَنَّ السُّجُودَ كَانَ نَاشِئًا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْأَمْرِ. وَفِي قَوْلِهِ: قُلْنا الْتِفَاتٌ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، إِذْ كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِصُورَةِ الْغَائِبِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وأتى بنا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وعلوّ القدر وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ، لِتَعَدُّدِ صِفَاتِهِ الْحَمِيدَةِ وَمَوَاهِبِهِ الْجَزِيلَةِ.
وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ وَكَوْنُهُ بِنُونِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ الْأَمْرُ لِلْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الِامْتِثَالُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَدْعَى لِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ وَلَا تَأَوُّلٍ لِشَغْلِ خَاطِرِهِ بِوُرُودِ مَا صَدَرَ(1/245)
مِنَ الْمُعَظَّمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ لِهَذَا، منها: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «1» ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا «2» ، قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً «3» ، وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: اسْكُنُوا الْأَرْضَ «4» ، وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ «5» ، وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا «6» . فَأَنْتَ تَرَى هَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا النَّهْيَ كَيْفَ تَقَدَّمَهُمَا الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، لِأَنَّ الْآمِرَ اقْتَضَى الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَظَهَرَ لِلْمَأْمُورِ بِصِفَةِ الْعَظَمَةِ، وَلَا أَعْظَمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَأْمُورُونَ بِالسُّجُودِ، قَالَ السُّدِّيُّ: عَامَّةُ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِلْمَلَائِكَةِ بِجَرِّ التَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ: بِضَمِّ التَّاءِ، إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْجِيمِ وَنُقِلَ أنها لغة أزدشنوءة. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: هَذَا خَطَأٌ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: لِأَنَّ كَسْرَةَ التَّاءِ كَسْرَةُ إِعْرَابٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، إِذَا كَانَ مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ سَاكِنًا صَحِيحًا نَحْوَ:
وَقالَتِ اخْرُجْ «7» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لاستهلاك الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ إِلَّا فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ كَقَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ نقل أنها لغة أزدشنوءة، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَطَّأَ الْقَارِئُ بِهَا وَلَا يُغَلَّطَ، وَالْقَارِئُ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَرْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ شَيْخُ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ عَلَّلَ ضَمَّ التَّاءِ لِشِبْهِهَا بِأَلِفِ الْوَصْلِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْهَمْزَةَ تَسْقُطُ فِي الدَّرَجِ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ بِأَصْلٍ، وَالتَّاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ تَسْقُطُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَصْلٍ. أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكُ؟ وَقِيلَ: ضُمَّتْ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكْرَهُ الضَّمَّةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ لِثِقَلِهَا.
اسْجُدُوا: أَمْرٌ، وَتَقْتَضِي هَذِهِ الصِّيغَةُ طَلَبَ إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمُطْلَقِ اسْتِقْبَالُهُ، وَلَا تُدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُتَّبِعِيهِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الفقه، وهذ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا تَدُلُّ قَرِينَةٌ عَلَى فَوْرٍ أَوْ تَأْخِيرٍ.
وَأَمَّا هُنَا فَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى تَعْقِيبِ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، فَتَكُونُ الملائكة قد
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 35.
(2) سورة البقرة: 2/ 36.
(3) سورة الأنبياء: 21/ 69.
(4) سورة الإسراء: 17/ 104.
(5) سورة النساء: 4/ 150.
(6) سورة النساء: 4/ 154.
(7) سورة يوسف: 12/ 31.(1/246)
فَهِمُوا الْفَوْرَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ، فَلِذَلِكَ بَادَرُوا بِالْفِعْلِ وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا. وَالسُّجُودُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَفْعُولُ إِيمَاءٌ وَخُضُوعٌ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ التَّذَلُّلِ، أَوْ إِقْرَارُهُمْ لَهُ بِالْفَضْلِ وَاعْتِرَافُهُمْ لَهُ بِالْمَزِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى السُّجُودِ اللُّغَوِيِّ، قَالَ: فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ لَكَ بِالْفَضْلِ فَقَدْ خَضَعَ لَكَ. لِآدَمَ: مَنْ قَالَ بِالسُّجُودِ الشَّرْعِيِّ قَالَ:
كَانَ السُّجُودُ تَكْرِمَةً وَتَحِيَّةً لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: عَلِيٌّ
وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، كَسُجُودِ أَبَوَيْ يُوسُفَ، لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَنَصَبَهُ اللَّهُ قِبْلَةً لِسُجُودِهِمْ كَالْكَعْبَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِلَى آدَمَ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسَجَدَ وَسَجَدُوا مُؤْتَمِّينَ بِهِ، وَشَرَّفَهُ بِأَنْ جَعَلَهُ إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ. وَالْمَعْنَى فِي: لِآدَمَ أَيْ مَعَ آدَمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، فَالسُّجُودُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالسُّجُودِ لَهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَالْقُرْآنُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ مَرَّتَيْنِ. قِيلَ: وَالْإِجْمَاعُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّجُودَ هُوَ بِالْجَبْهَةِ لِقَوْلِهِ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ»
. وَقِيلَ: لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْجَاثِيَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاقِعٌ، وَأَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِمَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: السُّجُودُ لِلَّهِ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ، وَلِلْبَشَرِ بِالِانْحِنَاءِ، انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْبَشَرِ غَيْرَ مُحَرَّمٍ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ السُّجُودَ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا هُوَ التَّحِيَّةُ، وَنُسِخَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: كَانَ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ جَائِزًا إِلَى زَمَنِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَمْ يُنْسَخْ إِلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثٍ عَرَضَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»
، وَأَنَّ مُعَاذًا سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: لَمَّا اسْتَعْظَمُوا تَسْبِيحَهُمْ وَتَقْدِيسَهُمْ أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِغَيْرِهِ لِيُرِيَهُمْ بِذَلِكَ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْهُمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ.
فَسَجَدُوا، ثَمَّ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَجَدُوا لَهُ، أَيْ لِآدَمَ. دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ:
اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَاللَّامُ فِي لِآدَمَ لِلتَّبْيِينِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي السَّبْعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ شَرْحِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. إِلَّا إِبْلِيسَ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَسَجَدُوا، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَتَرَجَّحُ النَّصْبُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وابن المسيب وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَالطَّبَرِيُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَلَكًا ثُمَّ أُبْلِسَ وَغُضِبَ عَلَيْهِ وَلُعِنَ فَصَارَ شَيْطَانًا. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنِ
__________
(1) سورة الحجر: 15/ 29. [.....](1/247)
ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: عَزَّازِيلُ، وَقِيلَ: الحرث. وَقِيلَ:
هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَأَنَّهُ أَبُو الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ مَلَكًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَقَاتَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَسَبَوْهُ صَغِيرًا وَتَعَبَّدَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَخُوطِبَ مَعَهُمْ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «1» فَعَمَّ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْكُفْرُ وَلَا الْفِسْقُ، كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَبِقَوْلِهِ:
لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «2» ، وَبِقَوْلِهِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ «3» وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَلَوْ لم يكن منهم لَمَا تَوَجَّهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ ذَمٌّ لِتَرْكِهِ فِعْلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَأَمَّا جَاعِلِ الملائكة رسلا، ولا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، فَهُوَ عَامٌ مَخْصُوصٌ، إِذْ عِصْمَتُهُمْ لَيْسَتْ لِذَاتِهِمْ، إِنَّمَا هِيَ بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَسَلَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى الصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةَ وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ الصِّفَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنَّةُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: سَبْطٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ، وَإِبْلِيسُ مِنْهُمْ، أَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِنِّ لِأَنَّهُ لَا يُرَى، كَمَا سَمَّى الْمَلَائِكَةَ جِنَّةً، أَوْ لِأَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَمَّى جِنًّا. قَالَ الْأَعْشَى فِي ذِكْرِ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ
أَبى: امْتَنَعَ وَأَنِفَ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ. وَاسْتَكْبَرَ: تَكَبَّرَ وَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ وَقَدَّمَ الْإِبَاءَ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِكْبَارُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَهُوَ التَّعَاظُمُ، وَيَنْشَأُ عَنْهُ الْإِبَاءُ مِنَ السُّجُودِ اعْتِبَارًا بِمَا ظَهَرَ عَنْهُ أَوَّلًا، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ السُّجُودِ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ السُّجُودُ، فَلَمَّا اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ كَانَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَرَكَ السُّجُودَ، أَوْ بِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْمَقْصُودُ:
الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَالَفَ حَالُهُ حَالَ الْمَلَائِكَةِ. فَنَاسَبَ أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلًا بِتَأْكِيدِ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، أَوْ بِإِنْشَاءِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالَّذِي يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْإِبَاءُ مِنَ السُّجُودِ. وَالْخِلَافُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَمَذْهَبُ
__________
(1) سورة فاطر: 35/ 1.
(2) سورة التحريم: 66/ 6.
(3) سورة الكهف: 18/ 50.(1/248)
الْكِسَائِيُّ أَنَّ التَّخْرِيجَ مِنَ الِاسْمِ، وَأَنَّ زَيْدًا غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَائِمٍ. وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا، وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ مُسْتَثْنًى مِنَ الِاسْمِ وَأَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْفِعْلِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَمَفْعُولُ أَبَى مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ معاقله
وَالتَّقْدِيرُ: أَبَى السُّجُودَ، وَأَبَى مِنَ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا النَّفْيُ، وَلِهَذَا يُفَرَّغُ مَا بَعْدَ إِلَّا كَمَا يُفَرَّغُ لِفِعْلِ الْمَنْفِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ «1» ، وَلَا يَجُوزُ:
ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا لِأَنَّ إِلَّا لَا تَدْخُلُ فِي الْوَاجِبِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى اللَّهُ إِلَّا عَدْلَهُ وَوَفَاءَهُ ... فَلَا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ وَلَا الْعُرْفُ ضَائِعُ
وَأَبَى زَيْدٌ الظُّلْمَ: أَبْلَغُ مِنْ لَمْ يَظْلِمْ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّخْصِ قَدْ يَكُونُ لِعَجْزٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: أَبَى زَيْدٌ كَذَا، دَلَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقِ الِامْتِنَاعِ وَالْأَنَفَةِ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبى، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ إِبْلِيسَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَخَلُّفُهُ عَنِ السُّجُودِ لِأَمْرٍ غَيْرِ الْإِبَاءِ، فَنَصَّ عَلَى سَبَبِ كَوْنِهِ لَمْ يَسْجُدْ وَهُوَ الْإِبَاءُ وَالْأَنَفَةُ.
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قِيلَ: كَانَ بِمَعْنَى صَارَ، وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا أَيْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ قَبْلَ كُفْرِهِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَيَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مِنَ الْعَاصِينَ، وَصِلَةُ أَلْ هُنَا ظَاهِرُهَا الْمَاضِي، فَيَكُونُ قَدْ سَبَقَ إِبْلِيسَ كُفَّارٌ، وَهُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ يَكُونُ إِبْلِيسُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ مُطْلَقًا، إِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ كُفَّارٌ قَبْلَهُ، وَإِنْ صَحَّ، فَيُفِيدُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، أَوْ يُرَادُ الْكُفْرُ الَّذِي هُوَ التَّغْطِيَةُ لِلْحَقِّ، وَكَفَرَ إِبْلِيسُ قِيلَ: جَهِلَ سَلَبَهُ اللَّهُ مَا كَانَ وَهَبَهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَخَالَفَ الْأَمْرَ وَنَزَعَ يَدَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: كُفْرُ عِنَادٍ وَلَمْ يُسْلَبِ الْعِلْمَ بَلْ كَانَ الْكِبْرُ مَانِعَهُ مِنَ السُّجُودِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْكُفْرُ عِنَادًا مَعَ بَقَاءِ الْعِلْمِ مُسْتَبْعَدٌ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدِي جَائِزٌ لَا يَسْتَحِيلُ مَعَ خَذْلِ اللَّهِ لِمَنْ شَاءَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَوَازُهُ وَاقِعٌ بِالْفِعْلِ. هَذَا فِرْعَوْنُ كَانَ عَالِمًا بوحدانية الله وربوبيته
__________
(1) سورة التوبة: 9/ 32.(1/249)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
دُونَ غَيْرِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ حَمَلَهُ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَالْإِعْجَابُ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْمُلْكِ، فَادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ مَعَ عِلْمِهِ. وَأَبُو جَهْلٍ، كَانَ يَتَحَقَّقُ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ، وَأَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ. وَكَذَلِكَ الْأَخْنَسُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَفَرَ عِنَادًا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِ الرُّسُلِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْكُفَّارَ إِلَى كَافِرٍ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، كَالدَّهْرِيَّةِ وَالْمُنْكِرِينَ رِسَالَةَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكَافِرٌ بِقَلْبِهِ مُؤْمِنٌ بِلِسَانِهِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ كَافِرٌ بِلِسَانِهِ، كَفِرْعَوْنَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَلَا يُنْكَرُ الْكُفْرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُنَافِقٌ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَإِنَّمَا كَفَرَ لِاسْتِكْبَارِهِ وَاعْتِقَادِ كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ التَّمَرُّدِ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ «1» . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ مُدَّةً فِي دَلَالِ طَاعَتِهِ يَخْتَالُ فِي مُرَادِ مُوَافَقَتِهِ، سَلَّمُوا لَهُ رُتْبَةَ التَّقَدُّمِ وَاعْتَقَدُوا فِيهِ اسْتِحْقَاقَ التَّخَصُّصِ، فَصَارَ أَمْرُهُ كَمَا قِيلَ:
وَكَانَ سِرَاجَ الْوَصْلِ أَزْهَرَ بَيْنَنَا ... فَهَبَّتْ بِهِ رِيحٌ مِنَ الْبَيْنِ فَانْطَفَا
سُئِلَ أَبُو الْفُتُوحِ أَحْمَدُ، أَخُو أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَالَ: لَمْ يَدْرِ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ أَنَّ أَظَافِيرَ الْقَضَاءِ إِذَا حَكَّتْ أَدْمَتْ وَقِسِيَّ الْقَدَرِ إِذَا رَمَتْ أَصَمَّتْ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
وَكُنَّا وَلَيْلَى فِي صُعُودٍ مِنَ الْهَوَى ... فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ وَزَلَّتِ
[سورة البقرة (2) : آية 35]
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
اسْكُنْ، أَقِمْ، وَمَصْدَرُهُ السُّكْنَى كَالرُّجْعَى، وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى السُّكُونِ، وَهُوَ عَدَمُ الْحَرَكَةِ. وَكَانَ السَّاكِنُ فِي الْمَكَانِ لِلُبْثِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمَاكِنِ. رَغَدًا: أَيْ وَاسِعًا كثير الاعناء فِيهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمًا ... يَأْمَنُ الْأَحْدَاثَ فِي عَيْشٍ رَغَدْ
وَتَمِيمٌ تُسَكِّنُ الْغَيْنَ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ ثُلَاثِيٍّ حَلْقِيِّ الْعَيْنِ صَحِيحِ اللَّامِ يَجُوزُ فِيهِ تَحْرِيكُ عَيْنِهِ وَتَسْكِينُهَا، مِثْلَ: بَحْرٍ وَبَحَرٍ، وَنَهْرٍ وَنَهَرٍ، فَأُطْلِقَ هَذَا الْإِطْلَاقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَا وُضِعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّسْكِينُ نَحْوَ: السحر
__________
(1) سورة ص: 38/ 76.(1/250)
لَا يُقَالُ فِيهِ السَّحْرُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي فَعْلٍ الْمَفْتُوحِ الْفَاءِ السَّاكِنِ الْعَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
ذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ فَتْحَ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا وُضِعَ عَلَى لُغَتَيْنِ، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَصْلٌ لِلْآخَرِ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُ ذُو لُغَتَيْنِ، وَبَعْضَهُ أَصْلُهُ التَّسْكِينُ ثُمَّ فُتِحَ. وَقَدِ اخْتَارَ أَبُو الْفَتْحِ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ، وَالِاسْتِدْلَالُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. حَيْثُ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ لَازِمُ الظَّرْفِيَّةِ، وَجَاءَ جَرُّهُ بِمِنْ كَثِيرًا وَبِفِي، وَإِضَافَةُ لَدَى إِلَيْهِ قَلِيلًا، وَلِإِضَافَتِهَا لَا يَنْعَقِدُ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا كَلَامٌ، وَلَا يَكُونُ ظَرْفَ زَمَانٍ خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ، وَلَا تَرْفَعُ اسْمَيْنِ نَائِبَةً عَنْ ظَرْفَيْنِ، نَحْوَ: زِيدٌ حَيْثُ عُمَرَ، وَخِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَلَا يُجْزَمُ بِهَا دُونَ مَا خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ، وَلَا تُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ، وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ حَكَمْنَا بِشُذُوذِهِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ وَتُعْتَقَبُ عَلَى آخِرِهَا الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ، وَيَجُوزُ: حَوْثَ، بِالْوَاوِ وبالحركات الثلاثة. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ إِعْرَابَهَا لُغَةُ بَنِي فَقْعَسٍ. الْقُرْبَانُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الدُّنُوُّ مِنَ الشَّيْءِ. هَذِهِ: تُكْسَرُ الْهَاءُ بِاخْتِلَاسٍ وَإِشْبَاعٍ، وَتُسَكَّنُ، وَيُقَالُ: هَذِي بِالْيَاءِ، وَالْهَاءِ فِيمَا ذكروا بدل مِنْهَا، وَقَالُوا: ذِ بِكَسْرِ الذَّالِ بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَا هَاءٍ، وَهِيَ تَأْنِيثُ ذَا، وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا التَّاءَ لِتَأْنِيثِ ذَا فَقَالُوا ذَاتِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْكَسْرِ. الشَّجَرَةَ: بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْجِيمِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ تَكْسِرُ الشِّينَ، وَإِبْدَالُ الْجِيمِ يَاءً مَعَ كَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا مَنْقُولٌ، وَخَالَفَ أَبُو الْفَتْحِ فِي كَوْنِ الْيَاءِ بَدَلًا، وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَأْلِيفِنَا (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) .
وَالشَّجَرُ: مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ، وَالنَّجْمُ: مَا نَجَمَ وَانْبَسَطَ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ سَاقٌ. الظُّلْمُ:
أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الشِّرْكِ، وَعَلَى الْجَحْدِ، وَعَلَى النَّقْصِ.
وَالْمَظْلُومَةُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُمْطَرْ، وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إلى النقص.
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ الْآيَةَ: لَمْ يُؤْثَرْ فِيهَا سَبَبُ نُزُولٍ سَمْعِيٌّ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَرَّفَ آدَمَ بِرُتْبَةِ الْعِلْمِ وَبِإِسْجَادِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، امْتَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ أَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ النَّعِيمِ. أَبَاحَ لَهُ جَمِيعَ مَا فِيهَا إِلَّا الشَّجَرَةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِيهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقُلْنَا: مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا: لَا عَلَى قُلْنَا وَحْدَهُ لِاخْتِلَافِ زَمَانَيْهِمَا، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ الْمُنَادَى وَمَا بَعْدَهُ، وَفَائِدَةُ النِّدَاءِ تَنْبِيهُ الْمَأْمُورِ له يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَتَحْرِيكُهُ لِمَا يُخَاطَبُ بِهِ، إِذْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ لَهَا الْبَالُ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ. قَالُوا: وَمَعْنَى الْأَمْرِ هُنَا إِبَاحَةُ السُّكْنَى وَالْإِذْنُ فِيهَا، مِثْلُ:
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «2» ، لأن الاستقرار
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 2.
(2) سورة الجمعة: 62/ 10.(1/251)
فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّعَبُّدِ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرُ وُجُوبٍ وَتَكْلِيفٍ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ، وَبِأَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَنَهَاهُ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّكْنَى وَمَا بَعْدَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ إِبَاحَةٌ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِجَمِيعِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى مَا هُوَ تَكْلِيفٌ، وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا نُهِى عَنْهُ. وَأَنْتَ: تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَسْتَكِنُ فِيهَا الضَّمِيرُ وُجُوبًا. وَزَوْجُكَ: مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ، وَحَسَّنَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ تَأْكِيدُهُ بِأَنْتَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ دُونَ تَأْكِيدٍ أَوْ فَصْلٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ، أَوْ فَصْلٍ بِلَا بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ، وَمَا سوى ذلك ضرورة وشاذ. وَقَدْ رُوِيَ: قُمْ وَزَيْدٌ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْعَطْفَ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ وَلَا فَصْلٍ.
وَتَظَافَرَتْ نُصُوصُ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُعْرِبِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ وَزَوْجُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، التَّقْدِيرُ: وَلْتُسْكِنْ زَوْجَكَ، وَحَذَفَ: وَلْتُسْكِنْ، لِدَلَالَةِ اسْكُنْ عَلَيْهِ، وَأَتَى بِنَظَائِرَ مِنْ هَذَا الْبَابِ نَحْوَ: لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَنَحْوَ: تَقُومُ أَنْتَ وَزَيْدٌ، وَنَحْوَ: ادْخُلُوا أَوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ، وَقَوْلُهُ:
نَطُوفُ مَا نَطُوفُ ثُمَّ يَأْوِي ... ذَوُو الْأَمْوَالِ مِنَّا وَالْعَدِيمُ
إِذَا أَعْرَبْنَاهُ بَدَلًا لَا تَوْكِيدًا، هُوَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، فَتَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ، وَلَا تُخْلِفُهُ أَنْتَ، وَيَقُومُ زَيْدٌ، وَلْيَدْخُلْ أَوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ، وَيَأْوِي ذَوُو الْأَمْوَالِ. وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَطْفِ فِي كِتَابِهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا مَا يَقْبُحُ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُظْهَرُ فَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ، وَذَلِكَ فَعَلْتُ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأَفْعَلُ وَعَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيلَ الْخَلِيلِ لِقُبْحِهِ، ثم قال: فإن نَعْتُهُ حَسَنٌ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُظْهَرُ، وَذَلِكَ قَوْلُكَ: ذَهَبْتَ أَنْتَ وَزَيْدٌ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «1» واسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، انْتَهَى.
فَهَذَا نَصٌّ مِنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى جَوَازِ: تَقُومُ عَائِشَةٌ وَزَيْدٌ، وَلَا يُمْكِنُ لِزَيْدٍ أَنْ يُبَاشِرَ الْعَامِلَ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَلِتَكْمِيلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَكَانٌ غَيْرُ هَذَا، وَتَوَجُّهُ الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى عَلَى زَوْجِ آدَمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 24.(1/252)
وَقْتِ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْأَسْمَاءَ وَأَنْبَأَهُمْ هُوَ إِيَّاهَا. نَامَ نَوْمَةً فَخُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَقْصَرِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَأَكْثَرُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا خُلِقَتْ بَعْدَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ. اسْتَوْحَشَ بَعْدَ لَعْنِ إِبْلِيسَ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ فَوَجَدَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ قَدْ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ، فَسَأَلَهَا: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: تَسْكُنُ إِلَيَّ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ، يَنْظُرُونَ مَبْلَغَ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ. قَالُوا: لَمْ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ زِيَادَاتٌ ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا مَدْلُولُ الْآيَةِ وَلَا تَفْسِيرُهَا.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ عَلَى الْمَعْدُومِ، لِأَنَّهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مَوْجُودٌ، وَيَكُونُ آدَمُ قَدْ سَكَنَ الْجَنَّةَ لَمَّا خُلِقَتْ أُمِرَا مَعًا بِالسُّكْنَى، لِتَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ وتطمئن بالقرآن فِي الْجَنَّةِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَحْكَامِ السُّكْنَى، وَالْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى، وَذُكِرَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَاخْتِلَافُهُمْ حِينَ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ.
الْجَنَّةَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، قِيلَ:
بِأَرْضِ عَدْنٍ. وَالْهُبُوطُ: الِانْتِقَالُ مِنْ بُقْعَةٍ إِلَى بُقْعَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً «1» ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَارَ الْخُلْدِ لَمَا لَحِقَهُ الْغُرُورُ مِنْ إِبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ «2» ، وَلِأَنَّ مَنْ دَخَلَ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «3» ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ مَلْعُونٌ، فَلَا يَصِلُ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ، وَلِأَنَّ دَارَ الثَّوَابَ لَا يَفْنَى نَعِيمُهَا لِقَوْلِهِ: أُكُلُها دائِمٌ «4» ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم، وَلِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَلَوْ كَانَ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ لَكَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: كَانَتْ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ لِقَوْلِهِ:
اهْبِطُوا، ثُمَّ الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ كَانَ مِنْ تِلْكَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ الْأُولَى، وَالْهُبُوطُ الثَّانِي كَانَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَتِ الْجُمْهُورُ: هِيَ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ دَارُ الثَّوَابِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْجَنَّةِ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، لِأَنَّ سُكْنَى جَمِيعِ الْجِنَانِ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمَعْهُودُ دَارُ الثَّوَابُ، وَلِأَنَّهُ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي مَحَاجَّةِ آدَمَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَشْقَيْتَ بَنِيكَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَلَمْ يُنَازِعْهُ آدَمُ فِي ذَلِكَ.
وَقِيلَ: هِيَ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 61.
(2) سورة طه: 20/ 120.
(3) سورة الحجر: 15/ 48.
(4) سورة الرعد: 13/ 35.(1/253)
السَّمَاءُ وَلَيْسَتْ دَارَ الثَّوَابِ، بَلْ هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ. وَقِيلَ: فِي السَّمَاءِ جَنَّةٌ غَيْرُ دَارِ الثَّوَابِ وَغَيْرُ جَنَّةِ الْخُلْدِ. وَرُدَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا بُسْتَانٌ فِي السَّمَاءِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ فِي السَّمَاءِ بَسَاتِينَ غَيْرَ بَسَاتِينِ الْجَنَّةِ. وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي الْأَرْضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «1» ولا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «2» ، وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «3» . وَقَدْ لَغَا إِبْلِيسُ فِيهَا وَكَذَبَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَارَ الْخُلْدِ لَمَا وَصَلَ إِلَيْهَا إِبْلِيسُ وَوَسْوَسَ لَهُمَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا، وَلِأَنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ دَارُ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ وَلَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ. وَقَدْ تكلف آدَمُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ نَارِ السَّمُومِ. وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الْكُفَّارِ الَّذِينَ طُرِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَتْ جنة الخلد لما دخلتها، وَلِأَنَّهَا مَحَلُّ تَطْهِيرٍ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْعِصْيَانُ وَالْمُخَالَفَةُ وَيَحِلَّ بِهَا غَيْرُ الْمُطَهَّرِينَ؟.
وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَاتِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِهِمْ بَعْدَ دُخُولِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْخُلُودِ، لَا عَلَى دُخُولِهِمْ على سبيل المرور والجوار. فَقَدْ صَحَّ دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنَّةَ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَفِي غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ رَآهَا فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ. وَأَمَّا دُخُولُ إِبْلِيسَ إِلَيْهَا فدخول تسليط تَكْرِيمٍ، وَذَلِكَ إِنْ صَحَّ قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ بَلْ وَقَفَ عَلَى بَابِهَا وَكَلَّمَهُمَا، وَأَرَادَ الدُّخُولَ فَرَدَّتْهُ الْخَزَنَةُ، وَقِيلَ: دَخَلَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ مُسْتَتِرًا. وَأَمَّا كَوْنُهَا لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ، فَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهَا لِلْإِقَامَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ وَالْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَأَمَّا الدُّخُولُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْخُرُوجُ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ، فَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ بَلْ لَا يَكُونُ خَالِيًا مِنْهُ.
وَكُلا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا بَعْدَ وُجُودِ حَوَّاءَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ لِلْمَعْدُومِ فِيهِ بُعْدٌ، إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، وَالْأَصْلُ فِي: كُلْ أُؤْكُلْ. الْهَمْزَةُ الْأُولَى هِيَ الْمُجْتَلَبَةُ لِلْوَصْلِ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، فَحُذِفَتِ الثَّانِيَةُ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ حَذْفَ شُذُوذٍ، فَوَلِيَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ الْكَافَ، وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ، وَإِنَّمَا اجْتُلِبَتْ لِلسَّاكِنِ، فَلَمَّا زَالَ مُوجِبُ اجْتِلَابِهَا زَالَتْ هِيَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: وَحُذِفَتِ النُّونُ مِنْ كُلَا لِلْأَمْرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّ فِعْلَ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرٌ بَارِزٌ كَانَتْ حَرَكَةُ آخِرِهِ مُنَاسِبَةٌ لِلضَّمِيرِ، فَتَقُولُ: كُلِي، وَكُلَا، وَكُلُوا، وَفِي الْإِنَاثِ
__________
(1) سورة الواقعة: 56/ 25- 26.
(2) سورة الطور: 52/ 23. [.....]
(3) سورة الحجر: 15/ 48.(1/254)
يَبْقَى سَاكِنًا نَحْوَ: كُلْنَ. وَلِلْمُعْتَلِّ حُكْمٌ غَيْرُ هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَقَوْلُهُ: وَكُلَا، لَمْ تَكُنْ فِيهِ نُونٌ فَتُحْذَفُ لِلْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ فِعْلَ الْأَمْرِ مُعْرَبٌ، وَأَنَّ أَصْلَ: كُلْ لِتَأْكُلَ، ثُمَّ عَرَضَ فِيهِ مِنَ الْحَذْفِ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ صَارَ: كُلْ.
فَأَصْلُ كُلَا: لِتَأْكُلَا، وَكَانَ قَبْلَ دُخُولِ لَامِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فِيهِ نُونٌ، إِذْ كَانَ أَصْلُهُ: تَأْكُلَانِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَتِمُّ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ النُّونَ مِنْ كُلَا حُذِفَتْ لِلْأَمْرِ.
مِنْها: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ مَطَاعِمِهَا، مِنْ ثِمَارِهَا وَغَيْرِهَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ لَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ، إِذْ لَمْ يُحْظَرُ عَلَيْهِمَا أَكْلٌ مَا، إِذْ قَالَ: رَغَداً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْغَيْنِ. وقرأ إبراهيم النخعي وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِسُكُونِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَانْتِصَابُ رَغَدًا، قَالُوا: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوف تقديره أَكْلًا رَغَدًا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِي كِلَا الْإِعْرَابَيْنِ نَظَرٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ يُخَالِفُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ جَعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّغَدُ الْكَثِيرُ الَّذِي لا يعنيك، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْوَاسِعُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي لَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: السَّالِمُ مِنَ الْإِنْكَارِ الْهَنِيُّ، يُقَالُ: رَغِدَ عَيْشُ الْقَوْمِ، وَرَغُدَ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا، إِذَا كَانُوا فِي رِزْقٍ وَاسِعٍ كَثِيرٍ، وَأَرْغَدَ الْقَوْمُ: أَخْصَبُوا وَصَارُوا فِي رَغَدٍ مِنَ الْعَيْشِ. وَقَالُوا عِيشَةٌ رَغْدٌ بِالسُّكُونِ أَيْضًا.
حَيْثُ شِئْتُما: أَبَاحَ لَهُمَا الْأَكْلَ حَيْثُ شَاءَا فَلَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا مَكَانًا مِنْ أَمَاكِنِ الْجَنَّةِ، كَمَا لَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا مَأْكُولًا إِلَّا مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ. وشاء فِي وَزْنِهِ خِلَافٌ، فَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ وَزْنَهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الشِّينِ فَسُكِّنَتْ، وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ لِلضَّمِيرِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ، فَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَكُسِرَتِ الشِّينُ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ يَاءٌ، كَمَا صُنِعَتْ فِي بِعْتُ.
وَلا تَقْرَبا: نَهَاهُمَا عَنِ الْقُرْبَانِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنِ الْقُرْبَانِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَكْلُ مِنْهَا؟ وَالْمَعْنَى: لَا تَقْرَبَاهَا بِالْأَكْلِ، لَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَقَعَتْ فِي الْأَكْلِ. وَحَكَى بَعْضُ مَنْ عَاصَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، يَعْنِي الماضي أَبَا بَكْرٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ يَقُولُ: إِذَا قُلْتَ: لَا تَقْرَبْ، بِفَتْحِ الراء معناه:
لا تلبس بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ معنى: لا تقرب زيد:
ألا تَدْنُ مِنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ التَّخْلِيطِ مَا يُتَعَجَّبُ مِنْ حَاكِيهَا، وَهُوَ(1/255)
قَوْلُهُ: سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَبَيْنَ النَّضْرِ وَالشَّاشِيِّ مِنَ السِّنِينَ مِئُونٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ ثَمَّ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِمَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ فيمكن. وقرىء: وَلَا تِقْرَبَا بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ فِي فَعَلَ يَفْعَلُ، يَكْسِرُونَ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ التَّاءَ وَالْهَمْزَةَ وَالنُّونَ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَكْسِرُ الْيَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ: يوحل، وكاسر، وَفَاتِحٌ، مَعَ إِقْرَارِ الْوَاوِ وَقَلْبِهَا أَلِفًا. هذِهِ: إِشَارَةٌ لِلْحَاضِرِ الْقَرِيبِ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: هَذِيِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْهَاءِ.
الشَّجَرَةَ: نَعْتٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيُحْتَمَلُ الْإِشَارَةُ أَنْ تَكُونَ إِلَى جِنْسٍ مِنَ الشَّجَرِ مَعْلُومٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِلَى شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِنْسِ الْمَعْلُومِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لِشَخْصِ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وابن جُبَيْرٍ وَجَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ: هِيَ الْكَرْمُ، وَلِذَلِكَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: السُّنْبُلَةُ، وَكَانَ حَبُّهَا كَكُلَى الْبَقَرِ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وَهْبٍ. وَلَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ جَعَلَهَا غِذَاءً لِبَنِيهِ. قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَقَتَادَةُ: التِّينُ،
وَقَالَ عَلِيٌّ: شَجَرَةُ الْكَافُورِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: شَجَرَةُ الْعِلْمِ، عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا عَلِمَ الْخَيْرِ وَالشَّرَّ. وَقَالَ وَهْبٌ:
شَجَرَةُ الْخُلْدِ، تَأْكُلُ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: شَجَرَةٌ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ: شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ. وقال أبو مالك: النخلة. وَقِيلَ: شَجَرَةُ الْمِحْنَةِ.
وَقِيلَ: شَجَرَةٌ لَمْ يُعْلِمْنَا اللَّهُ مَا هِيَ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِعِرْفَانِهَا كَبِيرُ أَمْرٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ إِعْلَامُنَا أَنَّ فِعْلَ ما نهينا عنه سبب للعقوبة. وقرىء: الشِّجَرَةَ بِكَسْرِ الشِّينِ، حَكَاهَا هَارُونُ الْأَعْوَرُ عَنْ بَعْضِ القراء. وقرىء أَيْضًا الشِّيَرَةَ، بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا، وَكَرِهَ أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ: يَقْرَأُ بِهَا بَرَابِرُ مَكَّةَ وَسُودَانُهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْرَهَهَا، لِأَنَّهَا لُغَةٌ مَنْقُولَةٌ، فِيهَا قَالَ الرِّيَاشِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا زَيْدٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الْمُفَضَّلِ وَعِنْدَهُ أَعْرَابٌ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ شِيَرَةٌ، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ لَهُمْ يُصَغِّرُونَهَا، فَقَالُوا شُيَيْرَةٌ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ:
نَحْسَبُهُ بَيْنَ الْأَنَامِ شِيَرَهْ وَفِي نَهْيِ اللَّهِ آدَمَ وَزَوْجَهُ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهُمَا فِي الْجَنَّةِ لَا تَدُومُ، لِأَنَّ الْمُخَلَّدَ لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى وَلَا يُمْنَعُ مِنْ شَيْءٍ. فَتَكُونَا مَنْصُوبُ جَوَابِ النَّهْيِ، وَنَصْبُهُ عِنْدَ سيبويه والبصريين بأن مُضْمَرَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَعِنْدَ الْجَرْمِيِّ بِالْفَاءِ نَفْسِهَا، وَعِنْدَ(1/256)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
الْكُوفِيِّينَ بِالْخِلَافِ. وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ يُذْكَرُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ فَتَكُونَا مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تَقْرَبَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَقُلْتُ لَهُ صَوِّبْ وَلَا تَجْهَدَنَّهُ ... فَيَذَرْكَ مِنْ أَعْلَى الْقَطَاةِ فَتَزْلَقِ
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِظُهُورِ السَّبَبِيَّةِ، وَالْعَطْفُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، مِنَ الظَّالِمِينَ: قِيلَ لِأَنْفُسِكُمَا بِإِخْرَاجِكُمَا مِنْ دَارِ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ، أَوْ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيتُمَا عَنْهَا، أَوْ بِالْفَضِيحَةِ بَيْنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، أَوْ بِمُتَابَعَةِ إِبْلِيسَ، أَوْ بِفِعْلِ الْكَبِيرَةِ، قَالَهُ الْحَشَوِيَّةُ، أَوْ بِفِعْلِ الصَّغِيرَةِ، قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ بِإِلْزَامِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّلَافِي، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، أَوْ بِحَطِّ بَعْضِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ، قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ، أَوْ بِتَرْكِ الْأَوْلَى، قَالَ قَوْمٌ: هُمَا أَوَّلُ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ قَبْلَهُمْ ظَالِمُونَ شُبِّهُوا بِهِمْ وَنُسِبُوا إِلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ لَا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، لِأَنَّ تَارِكَهُ لَا يُسَمَّى ظَالِمًا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ عَدَمُ السُّكُونِ إِلَى الْخَلْقِ، وَمَا زَالَ آدَمُ وَحْدَهُ بِكُلِّ خَيْرٍ وَبِكُلِّ عَافِيَةٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ الشَّكْلُ وَالزَّوْجُ، ظَهَرَ إِتْيَانُ الْفِتْنَةِ وَافْتِتَاحُ بَابِ الْمِحْنَةِ، وَحِينَ سَاكَنَ حَوَّاءَ أَطَاعَهَا فِيمَا أَشَارَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ، فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ. وَلَقَدْ قِيلَ:
دَاءٌ قَدِيمٌ فِي بَنِي آدَمَ ... صَبْوَةُ إِنْسَانٍ بِإِنْسَانٍ
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: كُلُّ مَا مُنِعَ مِنْهُ تَوَفَّرَتْ دَوَاعِي ابْنِ آدَمَ لِلِاقْتِرَابِ مِنْهُ. هَذَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُبِيحَ لَهُ الْجَنَّةُ بِجُمْلَتِهَا، وَنُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ أَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُبِيحَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ عِيلَ صَبْرُهُ حَتَّى ذَاقَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، هَكَذَا صِفَةُ الْخَلْقِ.
وَقَالَ: نَبَّهَ عَلَى عَاقِبَةِ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ مِنِ ارْتِكَابِهِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَإِذَا أَخْبَرَ تَعَالَى بِجَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ فِي الْجَنَّةِ؟ كَانَ آدَمُ لَا أَحَدَ يُوَفِّيهِ فِي الرُّتْبَةِ يَتَوَالَى عَلَيْهِ النِّدَاءُ: يَا آدَمُ! وَيَا آدَمُ! فَأَمْسَى وَقَدْ نُزِعَ عَنْهُ لِبَاسُهُ وَسُلِبَ اسْتِئْنَاسُهُ، وَالْقُدْرَةُ لَا تُكَابَرُ، وَحُكْمُ اللَّهِ لَا يُعَارَضُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لِلَّهِ دَرِّهِمْ مِنْ فِتْيَةٍ بَكَّرُوا ... مِثْلَ الْمُلُوكِ وَرَاحُوا كالمساكين
[سورة البقرة (2) : الآيات 36 الى 39]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)(1/257)
أَزَلَّ: مِنَ الزَّلَلِ، وَهُوَ عُثُورُ الْقَدَمِ. يُقَالُ: زَلَّتْ قَدَمُهُ، وَزَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ. وَالزَّلَلُ فِي الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ مَجَازٌ، وَأَزَالَ: مِنَ الزَّوَالِ، وَأَصْلُهُ التَّنْحِيَةُ. وَالْهَمْزَةُ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ.
الْهُبُوطُ: هُوَ النُّزُولُ، مَصْدَرُ هَبَطَ، وَمُضَارِعُهُ يَهْبِطُ وَيَهْبُطُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، وَالْهَبُوطُ بِالْفَتْحِ: مَوْضِعُ النُّزُولِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الْهَبُوطُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْبَلْدَةِ، وَهُوَ أَيْضًا الدُّخُولُ فِيهَا مِنَ الْأَضْدَادِ، وَيُقَالُ فِي انْحِطَاطِ الْمَنْزِلَةِ مَجَازًا، وَلِهَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَبُوطُ: الذُّلُّ، قال لبيد:
إن يقنطوا يُهْبَطُوا يَوْمًا وَإِنْ أَمِرُوا بَعْضٌ: أَصْلُهُ مَصْدَرُ بَعَضَ يَبْعَضُ بَعْضًا، أَيْ قَطَعَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْجُزْءِ، وَيُقَابِلُهُ كُلُّ، وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ لِصُدُورِ الْحَالِ مِنْهُمَا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، قَالُوا: مَرَرْتُ بِبَعْضٍ قَائِمًا، وَبِكُلٍّ جَالِسًا، وَيُنْوَى فِيهِمَا الْإِضَافَةُ، فَلِذَلِكَ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِمَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ، ولذلك خطئوا أَبَا الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيَّ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْدَلُ الْبَعْضُ مِنَ الْكُلِّ، وَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضٍ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ جَمْعٌ مُفْرَدًا وَمَجْمُوعًا. وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ وَالْحَالُ وَالْوَصْفُ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ إِذْ ذَاكَ وَجَمْعُهُ.
الْعَدُوُّ: مِنَ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، يُقَالُ: عَدَا فُلَانٌ طَوْرَهُ إِذَا جَاوَزَهُ، وَقِيلَ:
الْعَدَاوَةُ، التَّبَاعُدُ بِالْقُلُوبِ مِنْ عُدْوَيِ الْجَبَلِ، وَهُمَا طَرَفَاهُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: مِنْ عَدَا: أَيْ ظَلَمَ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَالْعَدُوُّ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَقَدْ جُمِعَ فَقِيلَ: أَعْدَاءٌ، وَقَدْ أُنِّثَ فقالوا: غدوة، وَمِنْهُ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَتِ الْعَرَبُ لِلْمَرْأَةِ: عَدُوَّةُ اللَّهِ، وَطَرَحَ بَعْضُهُمُ الْهَاءَ.
الْمُسْتَقَرُّ: مُسْتَفْعَلٌ مِنَ الْقَرَارِ، وَهُوَ اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ زَائِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفِ، فَيَكُونُ لِمَا ذُكِرَ بِصُورَةِ الْمَفْعُولَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْأَرْضُ:
الْقَرَارَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ
وَاسْتَفْعَلَ فِيهِ: بِمَعْنَى فَعَلَ اسْتَقَرَّ وَقَرَّ بِمَعْنًى. الْمَتَاعُ: الْبُلْغَةُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَتَعَ(1/258)
النَّهَارُ إِذَا ارْتَفَعَ، فَيَنْطَلِقُ عَلَى مَا يَتَحَصَّلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الزَّادِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِالنِّسَاءِ، وَمِنْهُ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ «1» ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَعَلَى الْكُسْوَةِ، وَمَتِّعُوهُنَّ «2» ، وَعَلَى التَّعْمِيرِ، يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً «3» ، قَالُوا: وَمِنْهُ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، أَيْ أَطَالَ اللَّهُ الْإِينَاسَ بِكَ، وَكُلُّهُ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْبُلْغَةِ، الْحِينُ: الْوَقْتُ وَالزَّمَانُ، وَلَا يَتَخَصَّصُ بِمُدَّةٍ، بَلْ وُضِعَ الْمُطْلَقُ مِنْهُ. تلقى: تفعل من اللقاء، نَحْوَ تَعَدَّى مِنَ الْعَدْوِ، قَالُوا: أَوْ بِمَعْنَى اسْتَقْبَلَ، وَمِنْهُ: تَلَقَّى فُلَانٌ فُلَانًا اسْتَقْبَلَهُ. وَيَتَلَقَّى الْوَحْيَ: أَيْ يَسْتَقْبِلُهُ وَيَأْخُذُهُ وَيَتَلَقَّفُهُ، وَخَرَجْنَا نَتَلَقَّى الْحَجِيجَ: نَسْتَقْبِلُهُمْ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وَقَالَ الْقَفَّالُ: التَّلَقِّي التَّعَرُّضُ لِلِّقَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْقَبُولِ وَالْأَخْذِ، وَمِنْهُ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ، تَلَقَّيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ فُلَانٍ: أَخَذْتُهَا مِنْهُ. الْكَلِمَةُ: اللَّفْظَةُ الموضوعة المعنى، وَالْكَلِمَةُ: الْكَلَامُ، وَالْكَلِمَةُ: الْقَصِيدَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ، وَيُجْمَعُ بِحَذْفِ التَّاءِ فَيَكُونُ اسْمَ جِنْسٍ، نَحْوَ: نَبْقَةٍ وَنَبْقٍ. التَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ، تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وَتَوْبَةً وَمَتَابًا، فَإِذَا عُدِّيَ بِعَلَى ضُمِّنَ مَعْنَى الْعَطْفِ. تَبِعَ: بِمَعْنَى لَحِقَ، وَبِمَعْنَى تَلَا، وَبِمَعْنَى اقْتَدَى. وَالْخَوْفُ: الْفَزَعُ، خَافَ، يَخَافُ خَوْفًا وتخوف تخوفا، فزع، وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزِ وَبِالتَّضْعِيفِ، وَيَكُونُ لِلْأَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَصْلُ الْحُزْنِ: غِلَظُ الْهَمِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُزْنِ: وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ: حَزِنَ يَحْزَنُ حُزْنًا وَحَزَنًا، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَبِالْفُتْحَةِ، نَحْوَ: شُتِرَتْ عَيْنُ الرَّجُلِ، وَشَتَرَهَا اللَّهُ، وَفِي التَّعْدِيَةِ بِالْفَتْحَةِ خِلَافٌ، وَيَكُونُ لِلْأَمْرِ الْمَاضِي. الْآيَةُ: العلامة، ويجمع آيات وَآيَاتٍ، قَالَ النَّابِغَةُ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وَوَزْنُهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ: فَعْلَةٌ، فَأُعِلَّتِ الْعَيْنُ وَسَلِمَتِ اللَّامُ شُذُوذًا وَالْقِيَاسُ الْعَكْسُ. وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ: فَاعِلَةٌ، حُذِفَتِ الْعَيْنُ لِئَلَّا يَلْزَمُ فِيهِ مِنَ الْإِدْغَامِ مَا لَزِمَ فِي دَابَّةٍ، فَتَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ: فَعْلَةٌ، فَأُبْدِلَتِ الْعَيْنُ أَلِفًا اسْتِثْقَالًا لِلتَّضْعِيفِ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قِيرَاطٍ وَدِيوَانٍ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ: فِعْلَةٌ: اسْتُثْقِلَ التَّضْعِيفُ فَقُلِبَتِ الْفَاءُ الْأُولَى أَلِفًا لِانْكِسَارِهَا وَتَحَرُّكِ مَا قَبْلَهَا، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُنْهَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. الصُّحْبَةُ: الِاقْتِرَانُ،
__________
(1) سورة النساء: 4/ 24.
(2) سورة البقرة: 2/ 236.
(3) سورة هود: 11/ 3.(1/259)
صَحِبَ يَصْحَبُ، وَالْأَصْحَابُ: جَمْعُ صَاحِبٍ، وَجَمْعُ فَاعِلٍ: عَلَى أَفْعَالٍ شَاذٌّ، وَالصُّحْبَةُ وَالصَّحَابَةُ: أَسْمَاءُ جُمُوعٍ، وَكَذَا صَحِبَ عَلَى الْأَصَحِّ خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ، وَهِيَ لِمُطْلَقِ الِاقْتِرَانِ فِي زَمَانٍ مَا.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها: الْهَمْزَةُ: كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَزَلَّ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: جَعَلَهُمَا زَلَّا بِإِغْوَائِهِ وَحَمَلَهَمَا عَلَى أَنْ زَلَّا وَحَصَلَا فِي الزَّلَّةِ، هَذَا أَصْلُ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى جَعَلَ أَسْبَابَ الْفِعْلِ، فَلَا يَقَعُ إِذْ ذَاكَ الْفِعْلُ. تَقُولُ: أَضْحَكْتُ زَيْدًا فَمَا ضَحِكَ وَأَبْكَيْتُهُ فَمَا بَكَى، أَيْ جَعَلْتُ لَهُ أسباب الضحك وأسباب البقاء فَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ضَحِكُهُ وَلَا بُكَاؤُهُ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ ... كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالْمُتَنَزِّلِ
مَعْنَاهُ: فِيمَا يَشْرَحُ الشُّرَّاحُ، يَزِلُّ اللِّبْدُ: يَزْلِقُهُ عَنْ وَسَطِ ظَهْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَزِلُّ الْغُلَامُ الْخُفَّ عَنْ صَهَوَاتِهِ: أَيْ يَزْلِقُهُ. وَقِيلَ أَزَلَّهُمَا: أَبْعَدَهُمَا. تَقُولُ: زَلَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، وَزَلَّ عَنِّي ذَاكَ، وَزَلَّ مِنَ الشَّهْرِ كَذَا: أَيْ ذَهَبَ وَسَقَطَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الزَّلَّةَ هِيَ سُقُوطٌ فِي الْمَعْنَى، إِذْ فِيهَا خُرُوجُ فَاعِلِهَا عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ، وَبُعْدُهُ عَنْهَا. فَهَذَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ تَعْدِيَةِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحَمْزَةُ: فَأَزَالَهُمَا، وَمَعْنَى الْإِزَالَةِ:
التَّنْحِيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ إِمَالَةُ فَأَزَالَهُمَا. وَالشَّيْطَانُ: هُوَ إِبْلِيسُ بِلَا خِلَافٍ هُنَا.
وَحَكَوْا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَرَأَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا، وَكَذَا مَا وَرَدَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّا خَالَفَ سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَأَكْثَرُ قِرَاءَاتِ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّمَا تُنْسَبُ لِلشِّيعَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ صَحَّ عِنْدَنَا بِالتَّوَاتُرِ قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ مَا يُنْقَلُ عَنْهُ مِمَّا وَافَقَ السَّوَادَ، فَتِلْكَ إِنَّمَا هِيَ آحَادٌ، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا، فَلَا تُعَارِضُ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوَصُّلِ إِبْلِيسَ إِلَى إِغْوَائِهِمَا حَتَّى أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ أَقَاوِيلُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وَالْجُمْهُورُ: شَافَهَهُمَا بِدَلِيلِ، وَقَاسَمَهُمَا، قِيلَ: فَدَخَلَ إِبْلِيسُ الْجَنَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ ابْتِلَاءً لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقِيلَ: دَخَلَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ. وَذَكَرُوا كَيْفَ كَانَتْ خِلْقَةُ الْحَيَّةِ وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ مُكَالَمَةُ إِبْلِيسَ لِآدَمَ. وَقَدْ قَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى أَحْسَنَ الْقَصَصِ وَأَصْدَقَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلْ إِبْلِيسُ الْجَنَّةَ، بَلْ كَانَ يَدْنُو مِنَ السَّمَاءِ فَيُكَلِّمُهُمَا. وَقِيلَ: قَامَ عِنْدَ الْبَابِ فَنَادَى. وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِسُلْطَانِهِ الَّذِي(1/260)
ابْتُلِيَ بِهِ آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ،
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» .
وَقِيلَ: خَاطَبَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَلَمْ يَصْعَدْ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ الطَّرْدِ وَاللَّعْنِ، وَكَانَ خِطَابُهُ وَسْوَسَةً، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي نَقْلِ قَصَصٍ كَثِيرٍ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَالْحَيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَتَكَلَّمُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَالِهِ حِينَ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّعَمُّدِ، أَمْ فِي حَالِ غَفْلَةِ الذِّهْنِ عَنِ النَّهْيِ بِنِسْيَانٍ، أَمْ بِسُكْرٍ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ، كَمَا ذَكَرُوا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ، لِأَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ «1» إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجَنَّةُ فِي الْأَرْضِ، عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ، فَيُمْكِنُ أن يكون خمرها يسكر. وَالَّذِينَ قَالُوا: بِالْعَمْدِ، قَالُوا: كَانَ النَّهْيُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ: كَانَ مَعَهُ مِنَ الْفَزَعِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ مَا صَيَّرَ هَذَا الْفِعْلَ صَغِيرَةً. وَقِيلَ: فَعَلَهُ اجْتِهَادًا، وَخَالَفَ لأنه تقدم الْإِشَارَةَ إِلَى الشَّخْصِ لَا إِلَى النَّوْعِ، فَتَرَكَهَا وَأَكَلَ أُخْرَى. وَالِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ لَا يُوجِبُ الْعِقَابَ. وَقِيلَ كَانَ الْأَكْلُ كَبِيرَةً، وَقِيلَ: أَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفَانِهَا، فَلَمْ يَعْرِفَاهُ، وَحَلِفَ لَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ. وَقِيلَ: نَسِيَ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ آدَمُ وَلا تَقْرَبا أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْقُرْبَانِ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَقْرَبَ، وَالَّذِي يُسْلَكُ فِيمَا اقْتَضَى ظَاهِرُهُ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَحْسَنِ مَحْمَلٍ، وَتَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ النَّقَائِصِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على ما يرد من ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ أبي الفضل المرسي مَا مُلَخَّصُهُ:
مَنَعَتِ الْأُمَّةُ وُقُوعَ الْكُفْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا الْفَضِيلِيَّةَ مِنَ الْخَوَارِجِ، قَالُوا: وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ، وَأَجَازَ الْإِمَامِيَّةُ إِظْهَارَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَلَا يَجُوزُ عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا وَأَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ خَطَئِهِمْ فِي الْفُتْيَا عَمْدًا وَاخْتَلَفُوا فِي السَّهْوِ. وَأَمَّا أَفْعَالُهُمْ فَقَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ: يَجُوزُ وُقُوعُ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: بِجَوَازِ الصَّغَائِرِ عَمْدًا إِلَّا فِي الْقَوْلِ، كَالْكَذِبِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ، وَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ. وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ فَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: مِنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: مِنْ وَقْتِ النُّبُوَّةِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ذَنْبٌ حَالَةَ النُّبُوَّةِ أَلْبَتَّةَ، لا
__________
(1) سورة الصافات: 37/ 47.(1/261)
الْكَبِيرَةَ وَلَا الصَّغِيرَةَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ صَدَرَ عَنْهُمُ الذَّنْبُ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ، لِعَظِيمِ شَرَفِهِمْ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَلِئَلَّا يَكُونُوا غَيْرَ مَقْبُولِي الشَّهَادَةِ، وَلِئَلَّا يَجِبُ زَجْرُهُمْ وَإِيذَاؤُهُمْ، وَلِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، وَلِئَلَّا يَفْعَلُونَ ضِدَّ مَا آمرون بِهِ، لِأَنَّهُمْ مُصْطَفَوْنَ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْإِغْوَاءِ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ الْمُنْتَخَبِ.
وَالْقَوْلُ فِي الدَّلَائِلِ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ، وَفِي إِبْطَالِ مَا يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ مِنْهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. عَنْهَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ.
وَالْمَعْنَى: فَحَمَلَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِهَا. وَتَكُونُ عَنْ إِذْ ذَاكَ لِلسَّبَبِ، أَيْ أَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا عَنِ الشَّجَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي «1» ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «2» . وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَذْكُورٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ: فَأَزَالَهُمَا، إِذْ يَبْعُدُ فَأَزَالَهُمَا الشَّيْطَانُ عَنِ الشَّجَرَةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الطَّاعَةِ، قَالُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ «3» ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِلَّا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا «4» لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَطِيعَانِي بِعَدَمِ قُرْبَانِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ التَّفَكُّهِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَالتَّبَوُّءِ مِنَ الْجَنَّةِ، حَيْثُ شَاءَا، وَمَتَى شَاءَا، وَكَيْفَ شَاءَا، بِدَلِيلِ، وَكُلا مِنْها رَغَداً «5» . وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ مِنْ نِعْمَةِ الْجَنَّةِ إِلَى شَقَاءِ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ رِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ إِلَى سُفْلِ مَكَانَةِ الذَّنْبِ، أَوْ رِضْوَانِ اللَّهِ، أَوْ جِوَارِهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: إِذَا جُعِلَ أَزَلَّهُمَا مِنْ زَلَّ عَنِ الْمَكَانِ، فَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ تَوْكِيدٌ. إِذْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَا عَنْ مَكَانٍ كَانَا فِيهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْجَنَّةِ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَسْبِهِمَا الزَّلَّةَ لَا يَكُونُ بِإِلْقَاءٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُنَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: فَأَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَيَعْنِي أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَتَقَدَّرُ قَبْلَ قَوْلِهِ:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ، وَنَسَبَ الْإِزْلَالَ وَالْإِزَالَةَ وَالْإِخْرَاجَ لِإِبْلِيسَ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَالْفَاعِلُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقُلْنَا اهْبِطُوا: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أبو حياة: اهْبُطُوا بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ. وَالْقَوْلُ فِي: وَقُلْنَا اهْبِطُوا مِثْلُ القول في: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «6» .
__________
(1) سورة الكهف: 18/ 82.
(2) سورة التوبة: 9/ 114.
(3) سورة طه: 20/ 121.
(4) سورة البقرة: 2/ 35.
(5) سورة البقرة: 2/ 35.
(6) سورة البقرة: 2/ 35.(1/262)
وَلَمَّا كَانَ أَمْرًا بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ انْحِطَاطُ رُتْبَةِ الْمَأْمُورِ، لَمْ يُؤْنِسْهُ بِالنِّدَاءِ، وَلَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِتَنْوِيهِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ. وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ، وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْحَيَّةُ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس، أو هَؤُلَاءِ وَإِبْلِيسُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ آدَمُ وَإِبْلِيسُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ هُمَا وَحَوَّاءُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ فَحَسْبُ. وَيَكُونُ الْخِطَابُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى التَّثْنِيَةِ نَحْوَ:
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «1» ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَسْوَسَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَذُرِّيَّتُهُمَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَالْمُرَادُ هُمَا وَذُرِّيَّتُهُمَا، وَرَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَصْلَ الْأِنْسِ وَمُتَشَعَّبَهُمْ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا الْأِنْسُ كُلُّهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «2» ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الْآيَةَ، وَمَا هُوَ إِلَّا حُكْمٌ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ، انْتَهَى. وَفِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ خِطَابُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، لِأَنَّ ذُرِّيَّتَهُمَا كَانَتْ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ. وَفِي قَوْلِ مَنْ أَدْخَلَ إِبْلِيسَ مَعَهُمَا فِي الْأَمْرِ ضَعْفٌ، لِأَنَّهُ كَانَ خَرَجَ قَبْلَهُمَا، وَيَجُوزُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ. قَالَ كَعْبٌ وَوَهْبٌ:
أُهْبِطُوا جُمْلَةً وَنَزَلُوا فِي بِلَادٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَقَالَ مُقَاتِلُ: أُهْبِطُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَهَبَطَ إِبْلِيسُ، قِيلَ بِالْأُبُلَّةِ، وَحَوَّاءُ بِجَدَّةَ، وَآدَمُ بِالْهِنْدِ، وَقِيلَ: بِسَرَنْدِيبَ بِجَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: وَاسِمٌ. وَقِيلَ: كَانَ غِذَاؤُهُ جَوْزَ الْهِنْدِ، وَكَانَ السَّحَابُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ فَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ صُلْعًا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحَيَّةَ أُهْبِطَتْ بِنَصِيبِينَ. وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ: بِأَصْبَهَانَ، وَالْمَسْعُودِيُّ: بِسِجِسْتَانَ، وَهِيَ أَكْثَرُ بِلَادِ اللَّهِ حَيَّاتٍ. وَقِيلَ: بِبِيسَانَ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الْهُبُوطَ الأول من الجنة إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ آدَمُ بِسَرَنْدِيبَ مِنَ الْهِنْدِ وَمَعَهُ رِيحُ الْجَنَّةِ، عَلِقَ بِشَجَرِهَا وَأَوْدِيَتِهَا، فَامْتَلَأَ مَا هُنَاكَ طِيبًا، فَمِنْ ثَمَّ يُؤْتَى بِالطِّيبِ مِنْ رِيحِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي إِخْرَاجِهِ كَيْفِيَّةً ضَرَبْنَا صَفْحًا عَنْ ذِكْرِهَا، قَالَ:
وَأُدْخِلَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ ضَحْوَةً، وَأُخْرِجَ مِنْهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَمَكَثَ فِيهَا نِصْفَ يَوْمٍ، وَالنِّصْفُ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، مِمَّا يَعُدُّ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: اهْبِطُوا أَمْرُ تَكْلِيفٍ، لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً بِسَبَبِ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ الْجَنَّةِ، إِلَى مَكَانٍ لَا تَحْصُلُ فِيهِ الْمَعِيشَةُ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ، وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّكْلِيفِ يَكُونُ بِسَبَبِ الثَّوَابِ. فَكَيْفَ يَكُونُ عِقَابًا مَعَ مَا فِي هُبُوطِهِ وَسُكْنَاهُ الْأَرْضَ مِنْ ظُهُورِ حِكْمَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ نشر
__________
(1) سورة الأنبياء: 21/ 78.
(2) سورة طه: 20/ 123.(1/263)
نَسْلِهِ فِيهَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فِي جَنَّةٍ وَنَارٍ. وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَكْلَةُ سَبَبَ هُبُوطِهِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَأَمَرَهُ بِالْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ لقوله ثانية: قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، إِنْ كَانَ الْمُخَاطِبُونَ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتَهُمَا، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، فَالْمُرَادُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ التَّعَادِي وَتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْبَعْضِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّهُمْ يُعَادِي كُلَّهُمْ، بَلِ الْبَعْضُ يُعَادِي الْبَعْضَ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا إِبْلِيسُ أَوِ الْحَيَّةُ، كَمَا قَالَهُ مُقَاتِلُ، فَلَيْسَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِمَا يُعَادِي ذُرِّيَّةَ آدَمَ، بَلْ كُلُّهُمْ أَعْدَاءٌ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ. ولكن بتحقق هَذَا بِأَنْ جَعَلَ الْمَأْمُورُونَ بالهبوط شيئا واحدا وجزّؤوا أَجْزَاءً، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنَ الَّذِينَ هَبَطُوا، وَالْجُزْءُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْبَعْضُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: كُلُّ جِنْسٍ مِنْكُمْ مُعَادٍ لِلْجِنْسِ الْمُبَايِنِ لَهُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِبْلِيسُ عَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: عَدَاوَةُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَهُ وَجَوَارِحُهُ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ اهْبِطُوا مُتَعَادِينَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا اهْبِطُوا. فَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي اهْبِطُوا، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْوَاوِ لِإِغْنَاءِ الرَّابِطِ عَنْهَا، وَاجْتِمَاعُ الْوَاوِ وَالضَّمِيرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ حَالًا أَكْثَرُ مِنَ انْفِرَادِ الضَّمِيرِ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «1» ، وَلَيْسَ مَجِيئَهَا بِالضَّمِيرِ دُونَ الْوَاوِ شَاذًّا، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَدْ رَوَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ كَلِمَتَهُ: فُوهُ إِلَى فِيَّ، وَرَجَعَ عُودُهُ عَلَى بَدْئِهِ، وَخَرَّجَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُودُهُ مبتدأ وعلى بَدْئِهِ خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، نُظْمُهَا وَنَثْرُهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ شَاذًّا. وَأَجَازَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أن تكون الجملة مستأنفة إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَأَنَّهُ فَرَّ مِنَ الْحَالِ، لِأَنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَيْدِ فِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، أَوْ كَالْمَأْمُورِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ قُمْ ضَاحِكًا كَانَ الْمَعْنَى الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ الْقِيَامِ مَصْحُوبًا بِالْحَالِ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا أَوْ كَالْمَأْمُورِ، لِأَنَّكَ لَمْ تُسَوِّغْ لَهُ الْقِيَامَ إِلَّا فِي حَالِ الضَّحِكِ وَمَا يُتَوَصَّلُ إِلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ إِلَّا بِهِ مَأْمُورٌ بِهِ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْعَدَاوَةِ وَلَا يَلْزَمُ مَا يُتَخَيَّلُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْحَالُ مَأْمُورًا بِهَا، لِأَنَّ النِّسْبَةَ الْحَالِيَّةَ هِيَ لَنِسْبَةٍ تَقْيِيدِيَّةٍ لَا نِسْبَةٍ إِسْنَادِيَّةٍ. فَلَوْ كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَلَا يُسَوَّغُ ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِذَا كَانَ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِذَلِكَ الْقَيْدِ، وَلَا يُمْكِنُ خِلَافُهُ، لم يكن ذلك
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 60. [.....](1/264)
الْقَيْدُ مَأْمُورًا بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ التَّكْلِيفِ، وَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَمَرَ بِهَا، وَهَذِهِ الْحَالُ مِنَ الْأَحْوَالِ اللَّازِمَةِ. وَقَوْلُهُ: لِبَعْضٍ مُتَعَلِّقٌ بُقُولِهِ عَدُوٌّ، وَاللَّامُ مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ عَدُوٌّ إِلَيْهِ، وَأَفْرَدَ عَدُوٌّ عَلَى لَفْظِ بَعْضُ أَوْ لِأَنَّهُ يُصْلِحُ لِلْجَمْعِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضُ وَعَلَى عَدُوٌّ حَالَةَ الْإِفْرَادِ.
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. لَكُمْ هُوَ الْخَبَرُ، وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِلْعَامِلِ فِي الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُنَا مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بمستقر، سَوَاءً كَانَ يُرَادُ بِهِ مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْمَصْدَرُ، أَيْ اسْتِقْرَارٌ، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ لَا يَعْمَلُ، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمَوْصُولَ لَا يُجَوِّزُ بَعْضُهُمْ تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، ولكم متعلق بمستقرّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مُسْتَقَرٌّ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذْ ذَاكَ فِيهَا يَكُونُ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، وَالْحَالُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَصَارَ نَظِيرَ: قَائِمًا زَيْدٌ فِي الدَّارِ، أَوْ قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ.
مُسْتَقَرٌّ: أَيْ مَكَانُ اسْتِقْرَارِكُمْ حَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَبْرُ، أَوِ اسْتِقْرَارٌ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
وَمَتاعٌ: الْمَتَاعُ مَا اسْتُمْتِعَ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، أَوِ الزَّادِ، أَوِ الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، أَوِ التَّعْمِيرِ. إِلى حِينٍ: إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَيَتَعَلَّقُ إِلَى بِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَمَتَاعٌ كَائِنٌ إِلَى حِينٍ، أَوْ بِمَتَاعٍ، أَيْ وَاسْتِمْتَاعٍ إِلَى حِينٍ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، أُعْمِلُ فِيهِ الثَّانِي وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِضْمَارٍ فِي الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَهُ فَضْلَةٌ، فَالْأَوْلَى حَذْفُهُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُحْذَفَ مِنَ الثَّانِي وَالْأَحْسَنُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَوْلَى. وَالْأَفْصَحُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ يَقْتَضِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِسَبَبِ أَنَّ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ إِلَى حِينٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْمَعْطُوفِ، وَالْمَصْدَرُ مَوْصُولٌ فلا يفصل بينه وبن مَعْمُولِهِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا لَا يَكُونُ مَوْصُولًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَصْدَرَ مِنْهُ مَا يُلْحَظُ فِيهِ الْحُدُوثُ فَيُتَقَدَّرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ مَعَ الْفِعْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْصُولُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْصُولًا بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِهِ بِذَلِكَ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ مَوْصُولٌ بِالْفِعْلِ، وَإِلَّا فَالْمَصْدَرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَصْدَرٌ لَا يَكُونُ مَوْصُولًا، وَمِنْهُ مَا لَا يُلْحَظُ فِيهِ الْحُدُوثُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: لِزَيْدٍ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، وَبَصَرٌ بِالطِّبِّ، وَلَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ. فَمِثْلَ هَذَا لَا يُتَقَدَّرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، حَتَّى ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ هَذَا(1/265)
الْمَصْدَرَ إِذَا أُضِيفَ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الِاسْمِ بَعْدَهُ، لَا بِرَفْعٍ وَلَا بِنَصْبٍ، قَالُوا: فَإِذَا قُلْتَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ، فَزَيْدٌ فَاعِلُ الْقِيَامِ تَأْوِيلُهُ يُعْجِبُنِي أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، وَمُمْكِنٌ أَنَّ زَيْدًا يَعْرَا مِنْهُ الْقِيَامُ، وَلَا يُقْصَدُ فِيهِ إِلَى إِفَادَةِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ فَعَلَ الْقِيَامَ فِيمَا مَضَى، أَوْ يَفْعَلُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، بَلْ تَكُونُ النِّيَّةُ فِي الْإِخْبَارِ كَالنِّيَّةِ فِي: يُعْجِبُنِي خَاتَمُ زَيْدٍ الْمَحْدُودُ الْمَعْرُوفُ بِصَاحِبِهِ وَالْمَخْفُوضُ بِالْمَصْدَرِ. عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِرَفْعٍ، وَلَا يُؤَكَّدُ، وَلَا يُنْعَتُ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمِثْلٍ مَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ الْمَخْفُوضَاتِ الصِّحَاحِ، انْتَهَى.
فَأَنْتَ تَرَى تَجْوِيزَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْصُولًا مَعَ الْمَصْدَرِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ، فَكَيْفَ مَعَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا نَحْوَ: مَا مَثَّلْنَا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ، وَبَصَرٌ بِالطِّبِّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَكُونُ مَوْصُولًا. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا، كَمَا مَثَّلْنَا فِي قَوْلِهِ: لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ يَعْمَلُ فِيهِمَا رَوَائِحُ الْأَفْعَالِ، حَتَّى الْأَسْمَاءُ الْأَعْلَامُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ، وَأَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إِذْ جَدَّ النَّقْرُ. وَأَمَّا أَنْ تَعْمَلَ فِي الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ بِهِ فَلَا. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا نُوِّنَ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، تَحَقَّقَتْ لَهُ الِاسْمِيَّةُ وَزَالَ عَنْهُ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَنْ يُحْدِثَ إِعْرَابًا، وَكَانَتْ قِصَّتُهُ قِصَّةَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَالرَّجُلِ وَالثَّوْبِ، فَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَعَلُّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ إِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ بِأَبْعَدَ فِي الْعَمَلِ فِي الظَّرْفِ أَوِ الْمَجْرُورِ مِنَ الِاسْمِ الْعَلَمِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ: مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ بِقَوْلِهِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ «1» ، وَفِي قَوْلِهِ: إِلى حِينٍ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْبَقَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَدَلِيلٌ عَلَى الْمَعَادِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّحْذِيرُ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ بِقَصْدٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تُزِيلُ عَنْ مَقَامِ الْوِلَايَةِ.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، تلقى: تفعل من اللقاء، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى التَّجَرُّدِ، أَيْ لَقِيَ آدَمُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: تَعَدَّاكَ هَذَا الْأَمْرُ، بِمَعْنَى عَدَّاكَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا تَفَعَّلَ، وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى مُطَاوِعَةً فَعَّلَ، نَحْوَ: كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وَالتَّكَلُّفُ نَحْوَ: تَحَلَّمَ، وَالتَّجَنُّبُ نَحْوَ: تَجَنَّبَ، وَالصَّيْرُورَةُ نَحْوَ: تَأَلَّمَ، وَالتَّلَبُّسُ بِالْمُسَمَّى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ نَحْوَ:
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 25.(1/266)
تَقَمَّصَ، وَالْعَمَلُ فِيهِ نَحْوَ: تَسَحَّرَ، وَالِاتِّخَاذُ نَحْوَ: تَبَنَّيْتُ الصَّبِيَّ، وَمُوَاصَلَةُ الْعَمَلِ فِي مَهَلَةٍ نَحْوَ: تَفَهَّمَ، وَمُوَافَقَةُ اسْتَفْعَلَ نَحْوَ: تَكَبَّرَ، وَمُوَافَقَةُ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ: تَعَدَّى الشَّيْءَ، أَيْ عَدَّاهُ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ نَحْوَ: تَكَلَّمَ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْ فِعْلٍ نَحْوَ: تَوْبَلَ، وَمُوَافَقَةُ فَعَّلَ نَحْوَ: تَوَلَّى، أَيْ وَلَّى، وَالْخِتْلُ، نَحْوَ: تَعَقَّلْتُهُ، وَالتَّوَقُّعُ نَحْوَ: تَخَوَّفَهُ، وَالطَّلَبُ نَحْوَ: تُنْجَزُ حَوَائِجُهُ، وَالتَّكْثِيرُ نَحْوَ: تُعْطِينَا. وَمَعْنَى تَلَقِّي الْكَلِمَاتِ: أَخْذُهَا وَقَبُولُهَا، أَوِ الْفَهْمُ، أَوِ الْفَطَانَةُ، أَوِ الْإِلْهَامُ أَوِ التَّعَلُّمُ وَالْعَمَلُ بِهَا، أَوْ الِاسْتِغْفَارُ وَالِاسْتِقَالَةُ مِنَ الذَّنْبِ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ: تَلَقَّنَ، فَأُبْدِلَتِ النُّونُ أَلِفًا ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّا كَانَ عَيْنُهُ وَلَامُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ نَحْوَ: تَظَنَّى، وَتَقَضَّى، وَتَسَرَّى، أَصْلُهُ: تَظَنَّنَ، وَتَقَضَّضَ، وَتَسَرَّرَ.
وَلَا يُقَالُ فِي تَقَبَّلَ: تَقَبَّى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ آدَمُ وَنَصْبِ الْكَلِمَاتِ، وَعَكَسَ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَمَعْنَى تَلَقِّي الْكَلِمَاتِ لِآدَمَ: وُصُولُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ تَلَقَّاكَ فَقَدْ تَلَقَّيْتَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَجَاءَتْ آدم من ربه كلمات. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كَلِمَاتٍ، أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَلِمٍ، أَوْ جُمَلٌ مِنَ الْكَلَامِ قَالَهَا آدَمُ، فَلِذَلِكَ قَدَّرُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: كَلِمَاتٍ، جُمْلَةً مَحْذُوفَةً وَهِيَ فَقَالَهَا فَتَابَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَقَدْ طَوَّلُوا بِذِكْرِهَا، وَلَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ بِهَا إِلَّا مُبْهَمَةً، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا كَمَا ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ كَعْبٍ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا «1» ، الْآيَةَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى الله ما قاله أبو ناحين: «اقْتَرَفَ الْخَطِيئَةَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» . وَسُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ الْمُذْنِبُ فَقَالَ: يَقُولُ مَا قَالَهُ أَبَوَاهُ: «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» وَمَا قَالَهُ يُونُسُ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبٍ أَنَّهَا: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هِيَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
وَحَكَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مَنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبُكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رب إن
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 23.(1/267)
تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَزَادَ قَتَادَةُ فِي هَذَا: «وَسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ إِلَيَّ قَبْلَ غَضَبِكَ؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، قَالَ: رَبِّ هَلْ كَتَبْتَ هَذَا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، فَقَالَ: رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قِيلَ لَهُ: «نَعَمْ» .
وَقَالَ قَتَادَةُ هِيَ: «أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، قَالَ: «يَا رَبِّ خَطِيئَتِي الَّتِي أَخْطَأَتُهَا أَشَيْءٌ كَتَبْتَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي؟ أَوْ شَيْءٌ ابْتَدَعْتُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي؟
قَالَ: بَلْ شَيْءٌ كَتَبْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ، قَالَ: «فَكَمَا كَتَبْتَ عَلَيَّ فَاغْفِرْ لِي» .
وَقِيلَ إِنَّهَا:
«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ» .
وَقِيلَ: رَأَى مَكْتُوبًا عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَتَشَفَّعَ بِذَلِكَ فَهِيَ الْكَلِمَاتُ.
وَقِيلَ: قَوْلُهُ حِينَ عَطَسَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» .
وَقِيلَ: هِيَ الدُّعَاءُ وَالْحَيَاءُ وَالْبُكَاءُ. وَقِيلَ: الِاسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ وَالْحُزْنُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَمَّاهَا كَلِمَاتٍ، مَجَازًا لِمَا هِيَ فِي خَلْقِهَا صَادِرَةٌ عَنْ كَلِمَاتٍ، وَهِيَ: «كُنْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ» ، وَهَذَا قَوْلٌ يَقْتَضِي أَنَّ آدَمَ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا إِلَّا الِاسْتِغْفَارَ الْمَعْهُودَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَتابَ عَلَيْهِ: أَيُّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ وَأَفْرَدَهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مُشَارِكَةً لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى وَالنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ وَتَلَقِّي الْكَلِمَاتِ وَالتَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَاجَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَكَمُلَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِهِ وَحْدَهُ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخِضْرِ، إِذْ جَاءَ حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ «1» ، فحملاهما بِغَيْرِ نَوْلٍ، وَكَانَ مَعَ مُوسَى يُوشَعُ، لَكِنَّهُ كَانَ تَابِعًا لِمُوسَى فَلَمْ يُذْكُرْهُ وَلَمْ يُجْمَعْ مَعَهُمَا فِي الضَّمِيرِ، أَوِ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، إِذْ كَانَ فِعْلُهُمَا وَاحِدًا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ»
، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «3» ، أَوْ طَوَى ذَكَرَهَا كَمَا طَوَاهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «4» .
وَقَدْ جَاءَ طَيُّ ذِكْرِ النِّسَاءِ فِي أَكْثَرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «5» ، وَإِنَّمَا لَمْ يُرَاعِ هَذَا السَّتْرَ فِي امْرَأَتَيْ نوح ولوط لأنهما كانتا كَافِرَتَيْنِ، وَقَدْ ضَرَبَ بِهِمَا الْمَثَلَ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ ذُنُوبَهُمَا كَانَتْ غَايَةً فِي الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ. وَالْكَافِرُ لَا يُنَاسِبُ السَّتْرَ عَلَيْهِ وَلَا الْإِغْضَاءَ عَنْ ذَنْبِهِ، بَلْ يُنَادِي عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَخْزَى له وأحط
__________
(1) سورة الكهف: 18/ 71.
(2) سورة التوبة: 9/ 62.
(3) سورة طه: 20/ 117.
(4) سورة طه: 20/ 121.
(5) سورة الأعراف: 7/ 23.(1/268)
لِدَرَجَتِهِ. وَحَوَّاءُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَعْصِيَتَهُمَا تَكَرَّرَتْ وَاسْتَمَرَّ مِنْهُمَا الْكُفْرُ وَالْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّوْبَةُ مُتَعَذِّرَةٌ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمَا لَا يَتُوبَانِ، وَلَيْسَتْ حَوَّاءُ كَذَلِكَ لِخِفَّةِ مَا وَقَعَ مِنْهَا، أَوْ لِرُجُوعِهَا إِلَى رَبِّهَا، وَلِأَنَّ التَّبْكِيتَ لِلْمُذْنِبِ شَرْعُ رَجَاءِ الْإِقْلَاعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْقُودٌ فِيهِمَا، وَذِكْرُهُمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى زَوْجَيْهِمَا فِيهِ مِنَ الشُّهْرَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي ذِكْرِ اسْمَيْهِمَا غَيْرَ مُضَافَيْنِ إِلَيْهِمَا. وَتَوْبَةُ الْعَبْدِ: رُجُوعُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ: رُجُوعُهُ عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي التَّوْبَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْعَبْدِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ النَّدَمُ، أَخْذًا بِظَاهِرِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»
وَقَالَ قَوْمٌ: شُرُوطُهَا ثَلَاثَةٌ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ. وَتَأَوَّلُوا: النَّدَمَ تَوْبَةً عَلَى مُعْظَمِ التَّوْبَةِ نَحْوَ: الْحَجُّ عَرَفَةٌ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي الشُّرُوطِ، يرد الْمَظَالِمِ إِذَا قَدَرَ عَلَى رَدِّهَا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْمَطْعَمُ الْحَلَّالُ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا بُدَّ مَعَ تِلْكَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِشْفَاقِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ أَتَى بِهَا كَمَا لَزِمَهُ، فَيَكُونُ خَائِفًا. وَلِهَذَا جَاءَ يُحَذِّرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ بَكَيَا عَلَى مَا فَاتَهُمَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ مِائَتَيْ سَنَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي كَثْرَةِ دُمُوعِ آدَمَ وَدَاوُدَ شَيْئًا يَفُوتُ الْحَصْرَ كَثْرَةً. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: بَلَغَنِي أَنَّ آدَمَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ مَكَثَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَ عَلَى آدَمَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّهُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ نَوْفَلُ بْنُ أَبِي عَقْرَبٍ: أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ فَتَحَ عَلَى التَّعْلِيلِ، التَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُ، فَالْمَفْتُوحَةُ مَعَ مَا بَعْدَهَا فَضْلَةٌ، إِذْ هِيَ فِي تَقْدِيرٍ مُفْرَدٍ ثَابِتٍ وَاقِعٍ مَفْرُوغٍ مِنْ ثُبُوتِهِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعُ مُنَازِعٍ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَهِيَ جُمْلَةٌ ثَابِتَةٌ تَامَّةٌ أُخْرِجَتْ مَخْرَجِ الْإِخْبَارِ الْمُسْتَقِلِّ الثَّابِتِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهَا رَبْطٌ مَعْنَوِيٌّ بِمَا قَبْلَهَا، كَمَا جَاءَتْ فِي: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ «1» ، اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ «2» ، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ «3» ، حَتَّى لَوْ وُضِعَتِ الْفَاءُ الَّتِي تُعْطِي الرَّبْطَ مَكَانَهَا أَغْنَتْ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ إِنَّ إِنَّمَا تَجِيءُ لِتَثْبِيتِ مَا يَتَرَدَّدُ الْمُخَاطَبُ فِي ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ، فَإِنْ قُطِعَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَيْسَ مِنْ مَظَانِّهَا، فَإِنْ وُجِدَتْ دَاخِلَةً عَلَى مَا قُطِعَ فِيهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 53.
(2) سورة الحج: 22/ 1.
(3) سورة التوبة: 9/ 103.(1/269)
الْمُتَرَدِّدِ فِيهِ لِأَمْرٍ مَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي نحو: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَمَّا دَخَلَتْ لِلتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، قَوِيَ التَّأْكِيدُ بِتَأْكِيدٍ آخَرَ، وَهُوَ لَفْظُهُ: هُوَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَتَهُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» . وَبُولِغَ أَيْضًا فِي الصِّفَتَيْنِ بَعْدَهُ، فَجَاءَ التَّوَّابُ: عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ، وَالرَّحِيمُ: عَلَى وَزْنٍ فَعِيلٍ، وَهُمَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي صِيغَتْ لِلْمُبَالَغَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَرْغِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ فِي التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَإِطْمَاعٌ فِي عَفْوِهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ. وَالتَّوَّابُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْقَبُولُ لِتَوْبَةِ الْعَبْدِ، أَوِ الْكَثِيرِ الْإِعَانَةِ عَلَيْهَا. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الِاسْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا، وَوَصَفَ بِهِ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا تَجَوُّزًا، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُوصَفُ تَعَالَى بتائب ولا آئب وَلَا رَجَّاعٍ وَلَا مُنِيبٍ، وَفُرِّقَ بَيْنَ إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ صِلَتَيْهِمَا.
أَلَا تَرَى: فَتَابَ عَلَيْهِ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ؟ فَالتَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ هِيَ الْعَطْفُ وَالتَّفَضُّلُ عَلَيْهِ، وَمِنَ الْعَبْدِ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى، لِطَلَبِ ثَوَابٍ، أَوْ خَشْيَةِ عِقَابٍ، أَوْ رَفْعِ دَرَجَاتٍ. وَأَعْقَبَ الصِّفَةَ الْأَوْلَى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ سَبَبُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، وَتَقَدُّمُ التَّوَّابِ لِمُنَاسَبَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ، وَلِحُسْنِ خَتْمِ الْفَاصِلَةِ بِقَوْلِهِ: الرَّحِيمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَسْمَلَةِ عَلَى لَفْظَةِ الرَّحِيمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ.
قُلْنَا اهْبِطُوا، كَرَّرَ الْقَوْلَ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ الْمَحْضِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْهُبُوطَ كَانَ أَوَّلَ مُخَالَفَةٍ، فَكَرَّرَ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَيْهِمَا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ عُلِّقَ بِهِ الْعَدَاوَةُ، وَالثَّانِي عُلِّقَ بِإِتْيَانِ الْهُدَى. وَأَمَّا لَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، بَلْ هُمَا هُبُوطَانِ حَقِيقَةً، الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالثَّانِي مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْوَجْهُ بِقَوْلِهِ فِي الْهُبُوطِ الْأَوَّلِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، وَلَمْ يَحْصُلْ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ إِلَّا بِالْهُبُوطِ الثَّانِي، فَكَانَ يَنْبَغِي الِاسْتِقْرَارُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ وَبِقَوْلِهِ فِي الْهُبُوطِ الثَّانِي مِنْهَا، وَظَاهِرُ الضَّمِيرِ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْهُبُوطَ الثَّانِي منها.
جَمِيعاً: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظَةِ جَمِيعًا وَأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فِي الْحُكْمِ، لَا الْمُقَارَنَةَ فِي الزَّمَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) سورة المؤمنون: 23/ 15.
(2) سورة التوبة: 9/ 88.(1/270)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» ، فَهُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ خُوطِبُوا بِالْهُبُوطِ، فَقَدْ دَلَّا عَلَى اتِّحَادِ زَمَانِ الْهُبُوطِ. وَأَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُ قَالَ هبوطا جميعا، أو هابطين جَمِيعًا، فَجَعَلَهُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ لِاسْمِ فَاعِلٍ مَحْذُوفٍ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ. قَالَ: لِأَنَّ جَمِيعًا لَيْسَ بِمَصْدَرٍ وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ، مَعَ مُنَافَاةِ مَا قَدَّرَهُ لِلْحُكْمِ الَّذِي صَدَّرَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَوَّلًا وَجَمِيعًا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا. فَإِذَا كَانَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا عَلَى مَا قَرَّرَ أَوَّلًا، فَكَيْفَ يُقَدَّرُ ثَانِيًا؟ كَأَنَّهُ قَالَ: هُبُوطًا جَمِيعًا، أَوْ هَابِطِينَ جَمِيعًا.
فَكَلَامُهُ أَخِيرًا يُعَارِضُ حُكْمَهُ أَوَّلًا، وَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ وُقُوعُهُ حَالًا حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ. وَأَبْعَدَ غَيْرَهُ أَيْضًا فِي زَعْمِهِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا مُجْتَمِعِينَ، فَهَبَطُوا جَمِيعًا، فَجَعَلَ ثُمَّ حَالًا مَحْذُوفَةً لِدِلَالَةِ جَمِيعًا عَلَيْهَا، وَعَامِلًا مَحْذُوفًا لِدِلَالَةِ اهْبِطُوا عَلَيْهِ. وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا التَّقْدِيرُ مَعَ مَا بَعْدَهُ إِلَّا عَلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ: أَيْ فَقُلْنَا: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَأْمُورِينَ بِالْهُبُوطِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هُبُوطًا ثَانِيًا، فَقِيلَ يَخُصُّ آدَمَ وَحَوَّاءَ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَا يَأْتِيهِ هُدًى، وَخُصَّا بِخِطَابِ الْجَمْعِ تَشْرِيفًا لَهُمَا. وَقِيلَ:
يَنْدَرِجُ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ مُخَاطَبٌ بِالْإِيمَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ وَمَا زَائِدَةٌ بَعْدَهَا لِلتَّوْكِيدِ، وَالنُّونُ فِي يَأْتِيَنَّكُمْ نُونُ التَّوْكِيدِ، وَكَثُرَ مَجِيءُ هَذَا النَّحْوِ فِي الْقُرْآنِ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ «2» ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ «3» ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ «4» . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الَمَهْدَوِيِّ: إِنَّ: هِيَ، الَّتِي لِلشَّرْطِ زِيدَتْ عَلَيْهَا مَا لِلتَّأْكِيدِ لِيَصِحَّ دُخُولُ النُّونِ لِلتَّوْكِيدِ فِي الْفِعْلِ، وَلَوْ سَقَطَتْ، يَعْنِي مَا لَمْ تَدْخُلِ النُّونُ، فَمَا تُؤَكَّدْ أَوَّلَ الْكَلَامِ، وَالنُّونُ تُؤَكَّدُ آخِرَهُ. وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذَا فَقَالَ: فَإِنْ هِيَ لِلشَّرْطِ، دَخَلَتْ مَا عَلَيْهَا مُؤَكِّدَةً لِيَصِحَّ دُخُولُ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، فَهِيَ بِمَثَابَةِ لَامِ الْقَسَمِ الَّتِي تَجِيءُ لِمَجِيءِ النُّونِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ النُّونَ لَازِمَةٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ إِذَا وصلت إن بما، هُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، زَعَمَا أَنَّهَا تَلْزَمُ تَشْبِيهًا بِمَا زِيدَتْ لِلتَّأْكِيدِ فِي لَامِ الْيَمِينِ نَحْوَ: وَاللَّهِ لَأَخْرُجَنَّ. وَزَعَمُوا أَنَّ حَذْفَ النُّونِ إِذَا زِيدَتْ مَا بَعْدَ إِنَّ ضَرُورَةٌ. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَارِسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِثْبَاتُ أَحْسَنَ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ حَذْفُ مَا وَإِثْبَاتُ النُّونِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُقْحِمِ النُّونَ، كَمَا أَنَّكَ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 29.
(2) سورة مريم: 29/ 29. [.....]
(3) سورة الأعراف: 7/ 200.
(4) سورة الزخرف: 43/ 41.(1/271)
إن شئت لم تجىء بما، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ كَثُرَ السَّمَاعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ إِمَّا، قَالَ الشَّنْفَرَى:
فَإِمَّا تَرَيْنِي كَابْنَةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا ... عَلَى رِقَّةٍ أَحْفَى وَلَا أَتَنَعَّلُ
وَقَالَ آخَرُ:
يَا صَاحِ إِمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ ذِي جَدَّةٍ ... فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الْإِخْوَانِ مِنْ شِيَمِي
وَقَالَ آخَرُ:
زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أنني إما أمت ... تسددا بينوها الْأَصَاغِرُ خُلَّتِي
وَالْقِيَاسُ يَقْبَلُهُ، لِأَنَّ مَا زِيدَتْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ دُخُولُ النُّونِ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِمَّا أَقَمْتُ وَإِمَّا كُنْتُ مُرْتَحِلًا ... فَاللَّهُ يَحْفَظُ مَا تُبْقِي وَمَا تَذَرُ
فَكَمَا جَاءَتْ هُنَا زَائِدَةً بَعْدَ إِنَّ، فَكَذَلِكَ فِي نَحْوِ: إِمَّا تَقُمْ يَأْتِيَنَّكُمْ، مَبْنِيٌّ مَفْتُوحُ الْآخِرِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْفَتْحَةِ أَهِيَ لِلْبِنَاءِ، أَمْ بُنِيَ عَلَى السُّكُونِ وَحُرِّكَ بِالْفَتْحَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) . مِنِّي: مُتَعَلِّقٌ بِيَأْتِيَنَّكُمْ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِالِالْتِفَاتِ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلْجَمْعِ، أَوِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، إِلَى الضَّمِيرِ الْخَاصِّ بِالْمُتَكَلِّمِ الْمُفْرَدِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حِكْمَةَ ذَاكَ الضَّمِيرِ فِي: قُلْنَا، عِنْدَ شرح قوله: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «1» ، وَحِكْمَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ هُنَا أَنَّ الْهُدَى لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ وَحْدَهُ تَعَالَى، فَنَاسَبَ الضَّمِيرُ الْخَاصُّ كَوْنَهُ لَا هَادِيَ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَأَعْطَى الْخَاصَّ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ الضَّمِيرَ الْخَاصَّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ تَعَالَى. وَفِي قَوْلِهِ: مِنِّي، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2» ، وقَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ «3» ، فَأَتَى بِكَلِمَةِ: مِنْ، الدَّالَّةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي الْأَشْيَاءِ، لِيُنَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَادِرٌ مِنْهُ وَمُبْتَدَأٌ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، وَأَتَى بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى مَا يُتَرَدَّدُ فِي وُقُوعِهِ، وَالَّذِي أنبهم زَمَانُ وُقُوعِهِ، وَإِتْيَانُ الْهُدَى وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُ أنبهم وَقْتَ الْإِتْيَانِ، أَوْ لِأَنَّهُ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ إِتْيَانُ رُسُلٍ مِنْهُ، وَلَا إِنْزَالُ كُتُبٍ بِذَلِكَ، بَلْ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ رُسُلًا، وَلَا أَنْزَلَ كُتُبًا، لَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا، وَذَلِكَ لِمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعَقْلِ، وَنَصَّبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَكَّنَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، كَمَا قَالَ:
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 35.
(2) سورة النساء: 4/ 174.
(3) سورة يونس: 10/ 57.(1/272)
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ إِنْشَادِ الشِّعْرِ، هُدىً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْهُدَى فِي قَوْلِهِ:
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» ، وَنَكَّرَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمُطْلَقُ، وَلَمْ يَسْبِقْ عَهْدٌ فِيهِ فَيُعَرَّفَ. وَالْهُدَى.
الْمَذْكُورُ هُنَا: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، أَوِ الرُّسُلُ، أَوِ الْبِيَانُ، أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ، أَوْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَالٌ. فَمَنْ تَبِعَ: الْفَاءُ مَعَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ.
وَقَالَ السَّجَاوِنْدِي: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَاتَّبِعُوهُ، انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ عَلَى رَأْيِهِ حُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. وَتَظَافَرَتْ نُصُوصُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ عَلَى أَنَّ: مَنْ، فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ، شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ جَوَابَ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ فِيهَا شَرْطَانِ. وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا خَوْفٌ جَوَابٌ لِلشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَتْقَنَّا مَسْأَلَةَ اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِيَّةً، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، بَلْ يَتَرَجَّحُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ فِي قَسِيمِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا «2» ، فَأَتَى بِهِ مَوْصُولًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَأَمَّا دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا، فَإِنَّ الشُّرُوطَ الْمُسَوِّغَةَ لِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ هُنَا.
وَفِي قوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، تَنْزِيلُ الْهُدَى مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ الْمُتَّبَعِ الْمُقْتَدَى بِهِ، فَتَكُونُ حَرَكَاتُ التَّابِعِ وَسَكَنَاتُهُ مُوَافَقَةً لِمَتْبُوعِهِ، وَهُوَ الْهُدَى، فَحِينَئِذٍ يَذْهَبُ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ.
وَفِي إِضَافَةِ الْهُدَى إِلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْهُدَى مَا لَا يَكُونُ فِيهِ لَوْ كَانَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَإِنْ كَانَ سَبِيلُ مِثْلِ هَذَا أَنْ يَعُودَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «3» ، وَالْإِضَافَةُ تُؤَدِّي مَعْنَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ التَّعْرِيفِ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِمَزِيَّةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: هُدَايْ بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَمَحْيَايْ، وَذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ أَبِي عمر: هديّ، بِقَلْبِ الْأَلِفِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، إِذْ لَمْ يُمْكِنْ كَسْرُ مَا قَبْلَ الْيَاءِ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ لَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، يَقْلِبُونَ أَلِفَ الْمَقْصُورِ يَاءً وَيُدْغِمُونَهَا فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:
سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتَخَرَّمُوا وَلِكُلِّ قَوْمٍ مَصْرَعُ
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الزهري وعيسى الثقفي
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 2.
(2) سورة البقرة: 2/ 29.
(3) سورة المزمل: 73/ 15- 16.(1/273)
وَيَعْقُوبُ بِالْفَتْحِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ الرَّفْعِ فِي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، فَرَفَعُوا لِلتَّعَادُلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالرَّفْعُ عَلَى إِعْمَالِهَا إِعْمَالَ لَيْسَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِعْمَالَ لَا عَمَلَ لَيْسَ قَلِيلٌ جِدًّا، وَيُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي صِحَّتِهِ، وَإِنْ صَحَّ فَيُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي اقْتِيَاسِهِ. وَالثَّانِي: حُصُولُ التَّعَادُلِ بَيْنَهُمَا، إِذْ تَكُونُ لَا قَدْ دَخَلَتْ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى مُبْتَدَأٍ وَلَمْ تَعْمَلْ فِيهِمَا. وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، فَيَنْفِي كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ مَدْلُولِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَيُجَوِّزُهُ وَلَيْسَ نَصًّا، فَرَاعَوْا مَا دَلَّ عَلَى الْعُمُومِ بِالنَّصِّ دُونَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالظَّاهِرِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ فَخَرَّجَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ إِعْمَالِ لَا عَمَلَ لَيْسَ، وَأَنَّهُ حَذَفَ التَّنْوِينَ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي إعمال لا عمل ليس، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، إِذَا كَانَ مَرْفُوعًا مُنَوَّنًا، وَحُذِفَ تَنْوِينُهُ كَمَا قَالَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُرِّيَ مِنَ التَّنْوِينِ لِأَنَّهُ عَلَى نِيَّةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَلَا الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ مِثْلَ مَا حَكَى الْأَخْفَشُ عَنِ الْعَرَبِ: سَلَامُ عَلَيْكُمْ، بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. قَالُوا: يُرِيدُونَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ هَذَا التَّخْرِيجُ أَوْلَى، إِذْ يَحْصُلُ التَّعَادُلُ فِي كَوْنِ لَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَعَارِفِ لَمْ تُجْرَ مَجْرَى لَيْسَ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ ذَلِكَ بَيْتٌ لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ، وَتَأَوَّلَهُ النُّحَاةُ وَهُوَ:
وَحَلَّتْ سَوَادَ الْقَلْبِ لَا أَنَا بَاغِيًا ... سِوَاهَا وَلَا فِي حُبِّهَا مُتَرَاخِيًا
وَقَدْ لَحَّنُوا أَبَا الطِّيبِ فِي قَوْلِهِ:
فَلَا الْحَمْدُ مَكْسُوبًا وَلَا الْمَالُ بَاقِيًا وَكَنَّى بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ وَالْإِحَاطَةِ، وَنَزَلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْجُرْمِ، وَنَفَى كَوْنَهُ مُعْتَلِيًا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِمْ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَوْفَ لَا يَنْتَفِي بِالْكُلِّيَّةِ، أَلَا تَرَى إِلَى انْصِبَابِ النَّفْيِ عَلَى كَيْنُونَةِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَيْنُونَةِ اسْتِعْلَاءِ الْخَوْفِ انْتِفَاءُ الْخَوْفِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَخَوْفِهَا عَنِ الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ عَنِ الْمُطِيعِينَ. فَإِذَا صَارُوا إِلَى رَحْمَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا، وَقَدَّمَ عَدَمَ الْخَوْفِ عَلَى عَدَمِ الْحُزْنِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ فِيمَا هُوَ آتٍ آكَدُ مِنِ انْتِفَاءِ الْحُزْنِ(1/274)
عَلَى مَا فَاتَ، وَلِذَلِكَ أُبْرِزَتْ جُمْلَتُهُ مُصَدَّرَةً بِالنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ أَوْغَلُ فِي بَابِ النَّفْيِ، وَأُبْرِزَتِ الثَّانِيَةُ مُصَدَّرَةً بِالْمَعْرِفَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِصَاصِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ يَحْزَنُ، وَلَوْ لَمْ يُشِرْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ: وَلَا يَحْزَنُونَ، كَافِيًا. وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ نَفْيَ الْحُزْنِ عَنْهُمْ وَإِذْهَابَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ «1» إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «2» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَمَا قَبْلَهُمَا مِنَ الْخَبَرِ مُخْتَصٌّ بِالَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «3» ، فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ يُحْزِنُهُ الْفَزَعُ، وَلَا يَذْهَبُ عَنْهُمُ الْحَزَنُ.
وَحُكِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا يَحْزَنُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ. الثَّانِي: لَا يَتَوَقَّعُونَ مَكْرُوهًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لِفَوَاتِ الْمَرْغُوبِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ. الثَّالِثُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِيمَا خَلْفَهُ. الرَّابِعُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا. الْخَامِسُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عِقَابٍ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى فَوَاتِ ثَوَابٍ. السَّادِسُ: إِنَّ الْخَوْفَ اسْتِشْعَارُ غَمٍّ لِفَقْدِ مَطْلُوبٍ، وَالْحُزْنَ اسْتِشْعَارُ غَمٍّ لِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ. السَّابِعُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْهَا. الثَّامِنُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِيهَا. التَّاسِعُ: أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ السُّرُورِ وَالْأَمْنِ، لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَلَا حُزْنٌ. الْعَاشِرُ: مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَمَامَهُمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ فِي صَدْرِ الَّذِي يَمُوتُ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَمَّنَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، ثُمَّ سَلَّاهُمْ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. الْحَادِي عَشَرَ: لَا خَوْفٌ حِينَ أَطْبَقَتِ النَّارُ، وَلَا حُزْنٌ حِينَ ذُبِحَ الْمَوْتُ فِي صُورَةِ كَبْشٍ عَلَى الصِّرَاطِ، فَقِيلَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ: خلود لا مَوْتٌ.
الثَّانِي عَشَرَ: لَا خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ عَلَى الدَّوَامِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عُمُومُ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، لَكِنْ يُخَصُّ بِمَا بَعْدَ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَدْ يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا من العموم لذلك.
__________
(1) سورة الأنبياء: 21/ 101.
(2) سورة الأنبياء: 21/ 103.
(3) سورة فاطر: 35/ 34.(1/275)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، وَهُوَ أبلغ من قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ «1» ، وَإِنْ كَانَ التَّقْسِيمُ اللَّفْظِيُّ يَقْتَضِيهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ يَكُونُ بِوُجُوهٍ، مِنْهَا: عَدَمُ الْقَابِلِيَّةِ بِخِلْقَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ، وَمِنْهَا تَعَمُّدُ تَرْكِ الشَّيْءِ، فَأُبْرِزَ الْقَسِيمُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فِي صُورَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ لِيَكُونَ مُزِيلًا لِلِاحْتِمَالِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ قَدْ يَعْنِي كُفْرَ النِّعْمَةِ وَكُفْرَ الْمَعْصِيَةِ بَيَّنَ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الشِّرْكُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، وَبِآيَاتِنَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا، وَهُوَ مِنْ إِعْمَالِ الثَّانِي، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ كَفَرُوا، يَطْلُبُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَطْلُبُهُ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْإِعْمَالِ، وَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْآيَاتُ هُنَا:
الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَوْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وأو الْقُرْآنُ، أَوْ دَلَائِلُ اللَّهِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ، أَقْوَالٌ. وأُولئِكَ: مُبْتَدَأٌ، وأَصْحابُ: خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ بَدَلًا وَعَطْفَ بَيَانٍ، فَيَكُونُ أَصْحَابُ النَّارِ، إِذْ ذَاكَ، خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَفِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ مَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ بِالنَّارِ. فَيُفْهَمُ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ.
وَكَانَ التَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى لَا خَوْفٌ وَلَا حَزْنٌ يَلْحَقُهُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَذَّبَ يَلْحَقُهُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ. فَكَأَنَّهُ حُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذَاكِرٍ فَتْرَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ
وَفِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الذَّوَاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَكَأَنَّ فِيهَا تَكْرِيرًا وَتَوْكِيدًا لِذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ السَّابِقِ. وَالصُّحْبَةُ مَعْنَاهَا: الِاقْتِرَانُ بِالشَّيْءِ، وَالْغَالِبُ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَى الْمُلَازَمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: أَنْ تَنْطَلِقَ عَلَى مُطْلَقِ الِاقْتِرَانِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْمُلَازَمَةُ الدَّائِمَةُ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً، كَمَا جَاءَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها «2» ، فَيَكُونُ، إِذْ ذَاكَ، لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ نَصْبٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُفَسِّرَةً لِمَا أَنَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، فَفَسَّرَ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الصُّحْبَةَ لَا يُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ الِاقْتِرَانِ، بَلِ الْخُلُودُ، فَلَا يَكُونُ لَهَا إِذْ ذَاكَ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانيا للمبتدأ
__________
(1) سورة فاطر: 35/ 34.
(2) سورة الأحقاف: 46/ 14.(1/276)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
الَّذِي هُوَ: أُولَئِكَ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِخِبْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُفْرَدٌ، وَالْآخَرُ جُمْلَةٌ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخُلُودِ، وَهَلْ هُوَ الْمُكْثُ زَمَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، أَوْ زَمَانًا له نهاية؟
[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
ابْنُ: مَحْذُوفُ اللَّامِ، وَقِيلَ: الْيَاءُ خِلَافٌ، وَفِي وَزْنِهِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: فِعْلٌ، وَقِيلَ: فَعِلٍ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ يَاءٌ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْبِنَاءِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ. وَالِابْنُ فَرْعٌ عَنِ الْأَبِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ قَوْلُهُمْ: الْبُنُوَّةُ شَاذٌّ كَالْفُتُوَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ وَاوٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ، جَعَلَ الْبُنُوَّةَ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَلِكَوْنِ اللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ وَاوًا أَكْثَرَ مِنْهَا يَاءٌ. وَجَمْعُ ابْنٍ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَقَالُوا: أَبْنَاءٌ، وَجَمْعُ سَلَامَةٍ، فَقَالُوا:
بَنُونَ، وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ، إِذْ لَمْ يَسْلَمْ فِيهِ بِنَاءُ الْوَاحِدِ، فَلَمْ يَقُولُوا: ابْنُونَ، وَلِذَلِكَ عَامَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا الْجَمْعَ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا مُعَامَلَةَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَأُلْحِقَتِ التَّاءُ فِي فِعْلِهِ، كَمَا أُلْحِقَتْ فِي فِعْلِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُو بَنِي أَسَدٍ ... يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لِأَقْوَامِ
وَقَدْ سُمِعَ الْجَمْعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِيهِ مُصَغَّرًا، قَالَ يُسَدِّدُ:
أَبَيْنُوهَا الْأَصَاغِرَ خُلَّتِي وَهُوَ شَاذٌّ أَيْضًا.
إِسْرَائِيلَ: اسْمٌ عَجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ إِسْرَا: وَهُوَ الْعَبْدُ، وَإِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ، فَيَكُونُ مِثْلَ: جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَى إِسْرَا: صَفْوَةٌ، وَإِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى، فَمَعْنَاهُ: صَفْوَةُ اللَّهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِسْرَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسْرِ، وَهُوَ الشَّدُّ، فَكَأَنَّ إِسْرَائِيلَ مَعْنَاهُ: الَّذِي(1/277)
شَدَّهُ اللَّهُ وَأَتْقَنَ خَلْقَهُ. وَقِيلَ: أَسْرَى بِاللَّيْلِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَسُمِّيَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: أَسَرَ جِنِّيًّا كان يطفىء سُرُجَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ اسْمُ الْجِنِّيِّ: إِيلَ، فَسُمِّيَ إِسْرَائِيلُ، وَكَانَ يَخْدُمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ، وَآخِرَ مَنْ يَخْرُجُ، قَالَهُ كَعْبٌ. وَقِيلَ: أَسْرَى بِاللَّيْلِ هَارِبًا مِنْ أَخِيهِ عَيْصُو إِلَى خَالِهِ، فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرُوهَا، فَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ أَقَاوِيلٌ ضِعَافٌ، وَفِيهِ تَصَرُّفَاتٌ لِلْعَرَبِ بقوله: إِسْرَائِيلُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ وياء بعدها، وهي قراءة الْجُمْهُورِ. وَإِسْرَايِيلُ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَالْأَعْشَى وَعِيسَى بْنُ عمر. وإسرائيل بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ ثُمَّ لَامٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ وَرْشٍ. وَإِسْرَاءَلُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَلَامٌ، وَإِسْرِئِلُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَإِسْرَالُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ خَفِيفَةٌ، وَإِسْرَالُ بِأَلِفٍ غَيْرِ مُمَالَةٍ، قَالَ أُمَيَّةَ:
لَا أَرَى مَنْ يُعَيِّشُنِي فِي حَيَاتِي ... غَيْرَ نَفْسِي إِلَّا بَنِي إِسْرَالَا
وَهِيَ رِوَايَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وغيرهم:
وإسرائين بَنُونٍ بَدَلَ اللَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَقُولُ أَهْلُ السُّوءِ لَمَّا جِينَا ... هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْرَائِينَا
كَمَا قَالُوا: سِجِّيلٌ، وَسِجِّينٌ، وَرَفْلٌ، وَرَفْنٌ، وَجِبْرِيلُ، وَجِبْرِينُ، أُبْدِلَتْ بِالنُّونِ كَمَا أُبْدِلَتِ النُّونُ بِهَا فِي أَصِيلَانِ قَالُوا: أَصِيلَالِ، وَإِذَا جَمَعْتَهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ قُلْتَ: أَسَارِيلُ، وَحُكِيَ:
أَسَارِلَةٌ وَأَسَارِلٌ. الذِّكْرُ: بِكَسْرِ الذَّالِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَبِالْكَسْرِ ضِدُّهُ: الصَّمْتُ، وَبِالضَّمِّ ضِدُّهُ: النِّسْيَانُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّيَقُّظِ وَالتَّنَبُّهِ، وَيُقَالُ: اجْعَلْهُ مِنْكَ عَلَى ذِكْرٍ. النِّعْمَةُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُنْعَمِ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ: كالذبح، والنقض، وَالرَّعْيِ، وَالطَّحْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْقَاسُ.
أَوْفَى، وَوَفَى، وَوَفَّى: لُغًى ثَلَاثٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَأْتِي أَوْفَى بِمَعْنَى: ارْتَفَعَ، قَالَ:
رُبَّمَا أَوْفَيْتُ فِي عِلْمٍ ... تَرْفَعْنَ ثَوْبِي شَمَالَاتٍ
وَالْمِيفَاتُ: مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: أَوْفَيْتُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: وَفَّيْتُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَفَى بِالْعَهْدِ، وَأَوْفَى بِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وَفَّى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ وَفَّيْتُ بِالْعَهْدِ، وَأَوْفَيْتُ بِهِ، وَأَوْفَيْتُ الْكَيْلَ لَا غَيْرُ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ. وَفَى الشَّيْءُ: تَمَّ، وَوَفَّى الْكَيْلَ وَأَوْفَيْتُهُ: أَتْمَمْتَهُ، وَوَفَّى رِيشُ الطَّائِرِ: بَلَغَ التَّمَامَ،(1/278)
وَدِرْهَمٌ وَافٍ: أَيْ تَامٌّ كَامِلٌ. الرَّهَبُ، وَالرُّهْبُ، وَالرَّهْبُ، وَالرَّهْبَةُ: الْخَوْفُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّهَابَةِ، وَهُوَ عَظْمُ الصَّدْرِ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْخَوْفُ. وَالرَّهَبُ: النَّصْلُ، لِأَنَّهُ يُرْهَبُ مِنْهُ، وَالرَّهْبَةُ وَالْخَشْيَةُ وَالْمَخَافَةُ نَظَائِرُ. التَّصْدِيقُ: اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَالتَّكْذِيبُ يُقَابِلُهُ.
أَوَّلُ: عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: أَفْعَلُ، وَفَاؤُهُ وَعَيْنُهُ وَاوَانِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ فِعْلٌ لِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ، فَهُوَ مِمَّا فَاؤُهُ وَعَيْنُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ إِلَّا: ددن، وقفس، وَبُبَنٌ، وَبَابُوسٌ. وَقِيلَ: إِنَّ بَابُوسًا أَعْجَمِيٌّ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ أَفْعَلُ مِنْ وَأَلَ إِذَا لَجَأَ، فَأَصْلُهُ أَوْأَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ بِالْإِدْغَامِ، وَهَذَا تَخْفِيفٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، إِذْ تَخْفِيفُ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ أَفْعَلُ من آل يؤل، فَأَصْلُهُ أَأُولُ، ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ أَوْأَلُ أَعْفَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ بِالْإِدْغَامِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَيُسْتَعْمَلُ أَوَّلُ اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، فَيَكُونَ مَصْرُوفًا، وَتَلِيهِ الْعَوَامِلُ نَحْوَ: أَفْكَلُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَدِيمٍ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ: ما تَرَكْتُ لَهُ أَوَّلًا وَلَا آخِرًا، أَيْ مَا تَرَكْتُ لَهُ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا. وَالِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي:
أَنْ يُجْرَى مَجْرَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَيُسْتَعْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَائِهِ مِنْ كَوْنِهِ بِمَنْ مَلْفُوظًا بِهَا، أَوْ مُقَدَّرَةً، وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَبِالْإِضَافَةِ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: ابْدَأْ بِهَذَا أَوَّلُ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ بِاتِّفَاقٍ، وَالْخِلَافُ فِي عِلَّةِ بِنَائِهِ ذَلِكَ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَّلُ الْأَشْيَاءِ، أَمْ لِشِبْهِ الْقَطْعِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَّلُ مَنْ كَذَا. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْقَطْعَ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْخِلَافُ إِذَا بُنِيَ، أَهْوَ ظَرْفٌ أَوِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ؟ وَهُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُبْنَى لِلْقَطْعِ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهِ، وَكُلُّ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الثَّمَنُ:
الْعِوَضُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ، وَقَالَ:
إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ ظَفِرْتَ بِهَا ... فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ
أَيْ مِنْ عِوَضٍ.
الْقَلِيلُ: يُقَابِلُهُ الْكَثِيرُ، وَاتَّفَقَا فِي زِنَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاخْتَلَفَا فِي زِنَةِ الْفِعْلِ، فَمَاضِي الْقَلِيلِ فَعَلَ، وَمَاضِي الْكَثِيرِ فَعُلَ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَنْ قَلَّ عَلَى فَاعِلٍ نَحْوَ: شَذَّ يَشِذُّ، فَهُوَ شَاذٌّ، لَكِنْ حُمِلَ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَمِثْلُ قَلَّ فَهُوَ قَلِيلٌ، صَحَّ فَهُوَ صَحِيحٌ.
اللَّبْسُ: الْخَلْطُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَبَسْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: خَلَطْتَهُ، وَالْتَبَسَ بِهِ: اخْتَلَطَ، وَقَالَ الْعَجَّاجُ:(1/279)
لِمَا لَبِسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي وَجَاءَ أَلْبَسَ بِمَعْنَى لَبَّسَ.
وَقَالَ آخَرُ:
وَكَتِيبَةٍ أَلْبَسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
الْكَتْمُ، وَالْكِتْمَانُ: الْإِخْفَاءُ، وَضِدُّهُ: الْإِظْهَارُ، وَمِنْهُ الْكَتْمُ: وَرَقٌ يُصْبَغُ بِهِ الشَّيْبُ.
الرُّكُوعُ: لَهُ مَعْنَيَانِ فِي اللُّغَةِ: أَحَدُهُمَا: التّطَامُنُ وَالِانْحِنَاءُ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَأَبِي زَيْدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أُخَبِّرُ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ ... أَدُبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ
وَالثَّانِي: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُفَضَّلِ وَالْأَصْمَعِيِّ، قَالَ الْأَضْبَطُ السَّعْدِيُّ:
لَا تُهِينُ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ ... تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ هَذَا افْتِتَاحُ الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُنَاسَبَةُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ هُنَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ فِيهِ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاوَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَذِكْرِ جُمَلٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ قَاطِبَةً بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ بِذِكْرِ أَصْلِهِمْ آدَمَ، وَمَا جَرَى لَهُ مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِبْلِيسُ. وَكَانَتْ هَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ: أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىَ، أَهْلَ كِتَابٍ، مُظْهِرِينَ اتِّبَاعَ الرُّسُلِ وَالِاقْتِدَاءَ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدِ انْدَرَجَ ذِكْرُهُمْ عُمُومًا فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا «1» ، فَجَرَّدَ ذِكْرَهُمْ هُنَا خُصُوصًا، إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ هُنَا، وَذَكَرُوا مَا يَقْتَضِي لَهُمُ الْإِيمَانَ بِهَذَا الْكِتَابِ، كَمَا آمَنُوا بِكُتُبِهِمُ السَّابِقَةِ، إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ عَلَى مَا سَيَأْتِي جُمْلَةً مُفَصَّلَةً. وَنَاسَبَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ قِصَّةَ آدَمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصلاة والسلام، لأنهم بعد ما أُوتُوا مِنَ الْبَيَانِ الْوَاضِحِ وَالدَّلِيلِ اللَّائِحِ، الْمَذْكُورِ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مِنْ الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، ظَهَرَ مِنْهُمْ ضِدُّ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّدَاءِ لِيُحَرِّكَهُمْ لِسَمَاعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، نَحْوَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا، وَيا آدَمُ اسْكُنْ «2» .
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 121. [.....]
(2) سورة البقرة: 2/ 35.(1/280)
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى لَفْظِ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَعْقُوبُ، وَلَمْ يَقُلْ:
يَا بَنِي يَعْقُوبَ، لِمَا فِي لَفْظِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ صَفْوَةُ اللَّهِ، وَذَلِكَ عَلَى أَحْسَنِ تَفَاسِيرِهِ، فَهَزَّهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ يَا بَنِي صَفْوَةِ اللَّهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ أَبِيهِمْ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: يَا ابْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَطِعِ اللَّهَ، فَتُضِيفُهُ إِلَى مَا يُحَرِّكُهُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَ آبَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَحْمُودًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَحْمُودًا؟ أَلَا تَرَى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «1» ، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا «2» ، وَفِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ انْتَمَى إِلَى شَخْصٍ، وَلَوْ بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ، يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَعَلَيْهِ يَا بَنِي آدَمَ «3» وَيُسَمَّى ذَلِكَ أَبًا. قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «4» ، وَفِي إِضَافَتِهِمْ إِلَى إِسْرَائِيلَ تَشْرِيفٌ لَهُمْ بِذِكْرِ نِسْبَتِهِمْ لِهَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ، وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خليل الرحمن. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ نبينا محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَانِ إِلَّا يَعْقُوبُ، فَإِنَّهُ يَعْقُوبُ، وَهُوَ إِسْرَائِيلُ. وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: أَنَّ الْمَسِيحَ اسْمُ عَلَمٍ لِعِيسَى، لَا اشْتِقَاقَ لَهُ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ خَمْسَةً من الأنبياء ذو واسمين: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِيسَى وَالْمَسِيحُ، وَإِسْرَائِيلُ وَيَعْقُوبُ، وَيُونُسُ وَذُو النُّونِ، وَإِلْيَاسُ وَذُو الْكِفْلِ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَمَا وَالَاهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَآمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَسْلَافُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُدَمَاؤُهُمْ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ لَا يُقَالُ لَهُ:
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، إِلَّا عَلَى ضَرْبٍ بَعِيدٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ لَا يُقَالُ لَهُ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: اذْكُرُوا الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى:
أَمِرُّوا النِّعَمَ عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهَا، فَإِنَّ إِمْرَارَهَا عَلَى اللِّسَانِ وَمُدَارَسَتَهَا سَبَبٌ فِي أَنْ لَا تُنْسَى. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: تَنَبَّهُوا لِلنِّعَمِ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ شُكْرِهَا. وَفِي النِّعْمَةِ الْمَأْمُورِ بِشُكْرِهَا أَوْ بِحِفْظِهَا أَقْوَالٌ: مَا اسْتُودِعُوا مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ وَإِيتَائِهِمُ التَّوْرَاةَ ونحو
__________
(1) سورة الزخرف: 43/ 22 و 23.
(2) سورة البقرة: 2/ 170.
(3) سورة الأعراف: 7/ 26 و 27 و 31 و 35.
(4) سورة الحج: 22/ 78.(1/281)
ذَلِكَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ، أَوْ إِدْرَاكُهُمْ مُدَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أَوْ عِلْمُ التَّوْرَاةِ، أَوْ جَمِيعُ النِّعَمِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَعَلَى سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى تَصَارِيفِ الْأَحْوَالِ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا اخْتَصَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ النِّعَمِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَنِعَمُ اللَّهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ: اسْتَنْقَذَهُمْ مِنْ بَلَاءِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ الْمُعَظَّمَةَ، وَظَلَّلَ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطَاهُمْ عَمُودًا مِنَ النُّورِ لِيُضِيءَ لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لَا تَتَشَعَّثُ، وَثِيَابُهُمْ لَا تَبْلَى. وَإِنَّمَا ذُكِّرُوا بِهَذِهِ النِّعَمِ لِأَنَّ فِي جُمْلَتِهَا مَا شَهِدَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَهُوَ:
التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ، ولئن يَحْذَرُوا مُخَالَفَةَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ السَّالِفَةِ يُطْمِعُ فِي النِّعَمِ الْخَالِفَةِ، وَذَلِكَ الطَّمَعُ يَمْنَعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ.
وَهَذِهِ النِّعَمُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى آبَائِهِمْ، فَهِيَ أَيْضًا نِعَمٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ حَصَلَ بِهَا النَّسْلُ، وَلِأَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى آبَاءٍ شُرِّفُوا بِنِعَمٍ تَعْظِيمٌ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ:
عَبِيدُ النِّعَمِ كَثِيرُونَ، وَعَبِيدُ الْمُنْعِمِ قَلِيلُونَ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ذكر المنعم فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1» ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِيَ، نَوْعُ الْتِفَاتٍ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ. وَفِي إِضَافَةِ النِّعْمَةِ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ قَدْرِهَا وَسَعَةِ بَرِّهَا وَحُسْنِ مَوْقِعِهَا، وَيَجُوزُ فِي الْيَاءِ مِنْ نِعْمَتِي الْإِسْكَانُ وَالْفَتْحُ، وَالْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَتْحِ. وَأَنْعَمْتُ: صِلَةُ الَّتِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: أَنْعَمْتُهَا عَلَيْكُمْ.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. الْعَهْدُ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لُغَةً فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ «2» ، وَيَحْتَمِلُ الْعَهْدُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْمُعَاهِدِ وَإِلَى الْمُعَاهَدِ. وَفِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْعَهْدَيْنِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرُسُلِهِ، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. الثَّانِي: مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: مَا ذُكِرَ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرَّابِعُ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَعَهْدُهُمْ قَبُولُهَا وَالْمُجَازَاةُ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: تَرْكُ الْكَبَائِرِ وَعَهْدُهُمْ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ. السَّادِسُ: إِصْلَاحُ الدِّينِ وَعَهْدُهُمْ إِصْلَاحُ آخِرَتِهِمْ. السَّابِعُ: مُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ وَعَهْدُهُمُ الْمَعُونَةُ عَلَى ذَلِكَ. الثَّامِنُ: إِصْلَاحُ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 152.
(2) سورة البقرة: 2/ 27.(1/282)
السَّرَائِرِ وَعَهْدُهُمْ إِصْلَاحُ الظَّوَاهِرِ. التَّاسِعُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ»
، قَالَهُ الْحَسَنُ.
الْعَاشِرُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «2» . الْحَادِي عَشَرَ: الْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَاتِ وَعَهْدُهُمْ إِيصَالُهُمْ إِلَى مَنَازِلِ الرِّعَايَاتِ. الثَّانِي عَشَرَ:
الْإِيمَانُ بِهِ وَطَاعَتُهُ، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ عَلَى الْحَسَنَاتِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: حِفْظُ آدَابِ الظَّوَاهِرِ وَعَهْدُهُمْ فِي السَّرَائِرِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: عَهْدُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي بَاعِثٌ من بني إسماعيل نَبِيًّا فَمَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ غَفَرْتُ لَهُ وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلْتُ لَهُ أَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: شَرْطُ الْعُبُودِيَّةِ وَعَهْدُهُمْ شَرْطُ الرُّبُوبِيَّةِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَوْفُوا فِي دَارِ مِحْنَتِي عَلَى بِسَاطِ خِدْمَتِي بِحِفْظِ حُرْمَتِي، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فِي دَارِ نِعْمَتِي عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِي بِقُرْبِي وَرُؤْيَتِي، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ. السَّابِعَ عَشَرَ: لَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ أُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ، قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ. الثَّامِنَ عَشَرَ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا «3» الْآيَةَ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَهْدُهُمْ إِدْخَالُهُمُ الْجَنَّةَ. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَوَصَايَاهُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. الْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي فِي التَّوَكُّلِ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فِي كِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ، قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي فِي حِفْظِ حُدُودِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بِحِفْظِ أَسْرَارِكُمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ غَيْرِي. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ:
عَهْدُهُ حِفْظُ الْمَعْرِفَةِ وَعَهْدُنَا إِيصَالُ الْمَعْرِفَةِ، قاله القشيري. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي الَّذِي قَبِلْتُمْ يَوْمَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أُوفِ بِعَهْدِكُمُ الَّذِي ضَمِنْتُ لَكُمْ يَوْمَ التَّلَاقِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي اكْتَفُوا مِنِّي بِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أَرْضَ عَنْكُمْ بِكُمْ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْعَهْدَيْنِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ الْمَعْنَى طَلَبُ الْإِيفَاءِ بِمَا الْتَزَمُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَرْتِيبُ إِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ عَهْدًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، أَوْ إِبْرَازًا لِمَا تَفَضَّلَ بِهِ تَعَالَى فِي صُورَةِ الْمَشْرُوطِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ فَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِيفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ «4» ، إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «5» ،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ لَهُ عَهْدًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» .
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: أُوَفِّ بِعَهْدِكُمْ مُشَدَّدًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 93.
(2) سورة آل عمران: 3/ 187.
(3) سورة المائدة: 5/ 12.
(4) سورة التوبة: 9/ 111.
(5) سورة مريم: 19/ 87.(1/283)
التَّكْثِيرُ، وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْثِيرُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ عَلَى لَفْظِ أُوفِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُبَالِغْ فِي إِيفَائِكُمْ، فَضَمِنَ تَعَالَى إِعْطَاءَ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» . وَانْجِزَامُ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْأَمْرِ نَحْوَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْأَمْرِ وَهُوَ طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا آخَرَ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فَتَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَبِ بِمَا هُوَ طَلَبُ شَيْءٍ أَصْلًا، لَكِنْ إِذَا لُوحِظَ مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَإِذَا قُلْتَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ضُمِّنَ اضْرِبْ مَعْنَى: إِنْ تَضْرِبْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ نَابَتْ مَنَابَ الشَّرْطِ، وَمَعْنَى النِّيَابَةِ أَنَّهُ كَانَ التَّقْدِيرُ: اضْرِبْ زَيْدًا، إِنْ تَضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ثُمَّ حُذِفَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَأُنِيبَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ مَنَابَهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، بَلْ عَمِلَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِ الشَّرْطِ، كَمَا عَمِلَتْ مِنْ الشَّرْطِيَّةِ الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى إِنْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَمِلَتِ الْجَزْمَ لِنِيَابَتِهَا مَنَابَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ، الْعَمَلُ إِنَّمَا هُوَ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَارِسِيِّ وَالسِّيرَافِيِّ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. إِيَّايَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرًا بَعْدَهُ لِانْفِصَالِ الضَّمِيرِ، وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ قَبْلَهُ، وَهُمْ مِنَ السَّجَاوِنْدِيِّ، إِذْ قَدَّرَهُ وَارْهَبُوا إِيَّايَ، وَفِي مَجِيئِهِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُنَاسَبَةً لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ أَمْرٌ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا، إِذِ الْكَلَامُ مَفْرُوغٌ فِي قَالَبِ جُمْلَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ ضَمِيرَ رَفْعٍ لَجَازَ، لَكِنْ يَفُوتُ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ.
وَحُذِفَتِ الْيَاءُ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ فَارْهَبُونِ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَوْكَدُ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ فِي التَّقْدِيرِ، وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ، جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ عِنْدَهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّا لَا نَذْهَبُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَارْهَبُونِ، دَخَلَتْ فِي جَوَابِ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مَا نَصُّهُ: تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، لِأَنَّ يَأْتِيكَ صفة هاهنا، كَأَنَّكَ قُلْتَ: كُلُّ رَجُلٍ صَالِحٍ فَاضْرِبْ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: قَوْلُهُ كُلَّ رجل
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 160.(1/284)
يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، بِمَنْزِلَةِ زَيْدًا فَاضْرِبْ، إِلَّا أَنَّ هُنَا مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَجْلِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْفِعْلِ، فَانْتَصَبَ كُلَّ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ: زَيْدًا فَاضْرِبْ، انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ لِي وجه إلا حسنية الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ خَرُوفٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ، أَعْنِي: زَيْدًا فَاضْرِبْ، تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الَّذِي ظَهَرَ فِيهَا بَعْدَ الْبَحْثِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي: زَيْدًا فَاضْرِبْ، تَنَبَّهْ:
فَاضْرِبْ زَيْدًا، ثُمَّ حُذِفَ تَنَبَّهْ فَصَارَ: فَاضْرِبْ زَيْدًا. فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفَاءُ صَدْرًا قَدَّمُوا الِاسْمَ إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ هُنَا لِتَرْبِطَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنْ كَلَامِهِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ دَخَلَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَتْ مُؤَخَّرَةً مِنْ تَقْدِيمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَتُنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ، ثُمَّ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ فَانْفَصَلَ، وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ حِينَ قُدِّمِ الْمَفْعُولُ وَفِعْلُ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ تَنَبَّهُوا مَحْذُوفٌ، فَالْتَقَى بَعْدَ حَذْفِهِ حَرْفَانِ: الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ وَالْفَاءُ، الَّتِي هِيَ جَوَابُ أَمْرٍ، فَتَصَدَّرَتِ الْفَاءُ، فَقُدِّمَ الْمَفْعُولَ وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، ثُمَّ أُعِيدَ الْمَفْعُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَلِتَكْمِيلِ الْفَاصِلَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْأَخِيرِ لَا يَكُونُ إِيَّايَ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، بَلْ مَعْمُولًا لِهَذَا الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ، وَلَا يَبْعُدُ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بِالضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، كَمَا أُكِّدَ الْمُتَّصِلُ بِالْمُنْفَصِلِ فِي نَحْوِ: ضَرَبْتُكَ إِيَّاكَ، وَالْمَعْنَى: ارْهَبُونِ أَنْ أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنْزَلَتُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ مَعْنَى فَارْهَبُونِ: أَنْ لَا تَنْقُضُوا عَهْدِي، وَفِي الْأَمْرِ بِالرَّهْبَةِ وَعِيدٌ بَالِغٌ، وَلَيْسَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «2» ، تَشْدِيدٌ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَطْلُوبٌ، وَاعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ غَيْرُ مَطْلُوبٍ فَافْتَرَقَا. وَقِيلَ: الْخَوْفُ خَوْفَانِ، خَوْفُ الْعُقَابِ، وَهُوَ نَصِيبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَيَزُولُ، وَخَوْفُ جَلَالٍ، وَهُوَ نَصِيبُ أَهْلِ الْقَلْبِ، وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: الرَّهْبَةُ: خَشْيَةُ الْقَلْبِ مِنْ رَدِيءِ خَوَاطِرِهِ. وَقَالَ سَهْلٌ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، مَوْضِعُ الْيَقِينِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، مَوْضِعُ الْعِلْمِ السَّابِقِ وَمَوْضِعُ الْمَكْرِ وَالِاسْتِدْرَاجِ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَفْرِدُونِي بِالْخَشْيَةِ لِانْفِرَادِي بِالْقُدْرَةِ عَلَى الإيجاد.
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 66. [.....]
(2) سورة فصلت: 41/ 40.(1/285)
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْمَأْمُورِينَ قَبْلُ هُمْ، وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَظَاهِرُهُ اتِّحَادُ الْمَأْمُورِ. وَقِيلَ: أُنْزِلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ، عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ كَعْبٌ وَمَنْ معه. وما فِي قَوْلِهِ: بِما أَنْزَلْتُ مَوْصُولَةٌ، أَيْ بِالَّذِي أَنْزَلْتُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْزَلْتُهُ، وَشُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، وَالَّذِي أَنْزَلَ تَعَالَى هُوَ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي مَعَهُمْ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِما أَنْزَلْتُ: مِنْ كِتَابٍ وَرَسُولٍ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَآمِنُوا بِإِنْزَالِي لِمَا مَعَكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَتَكُونُ اللَّامُ فِي لِمَا مِنْ تَمَامِ الْمَصْدَرِ لَا مِنْ تَمَامِ. مُصَدِّقاً. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ لِما مَعَكُمْ مِنْ تَمَامِ مُصَدِّقاً، وَاللَّامُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فِي لِمَا مُقَوِّيَةٌ لِلتَّعْدِيَةِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «1» . وَإِعْرَابُ مُصَدِّقًا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةً حَالٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: لِما مَعَكُمْ. وَلَا نَقُولُ: يَبْعُدُ ذَلِكَ لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ مُقَوٍّ لِلتَّعْدِيَةِ، فَهُوَ كَالْحَرْفِ الزَّائِدِ، وَصَارَ نَظِيرَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ، مُجَرَّدَةً لِهِنْدٍ، التَّقْدِيرُ: ضَارِبٌ هِنْدًا مُجَرَّدَةً، ثُمَّ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحَالُ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ الْحَالُ الْمُصَدَّرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْعُدُ وَصْفُ الْإِنْزَالِ بِالتَّصْدِيقِ إِلَّا أَنَّ يُتَجَوَّزَ بِهِ، وَيُرَادُ بِهِ الْمُنَزَّلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لِمَا مَعَكُمْ مِنْ تَمَامِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُنَزَّلُ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُصَدِّقًا حال مِنَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمَحْذُوفِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَنْزَلْتُ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: بِمَا أَنْزَلْتُ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ أَيْضًا.
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ غَيْرِ صِفَةٍ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وَالنَّكِرَةُ تُطَابِقُ مَا قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَانَ مُفْرَدًا، وَإِنْ كَانَ تَثْنِيَةً كَانَ تَثْنِيَةً، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا كَانَ جَمْعًا، فَتَقُولُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ، وَهِنْدٌ أَفْضَلُ امْرَأَةٍ، وَالزَّيْدَانِ أَفْضَلُ رَجُلَيْنِ، وَالزَّيْدُونَ أَفْضَلُ رِجَالٍ. وَلَا تَخْلُو تِلْكَ النَّكِرَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنْ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أَوْ غَيْرَ صِفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صِفَةٍ فَالْمُطَابَقَةُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاسِ:
إِخْوَتُكَ أَفْضَلُ رَجُلٍ، بِالْإِفْرَادِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ. وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ جَمْعٌ جَازَتِ الْمُطَابَقَةُ وَجَازَ الْإِفْرَادُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أنشده الفراء:
__________
(1) سورة هود: 11/ 107.(1/286)
وَإِذَا هُمْ طَعِمُوا فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ ... وَإِذَا هُمْ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ
فَأَفْرَدَ بِقَوْلِهِ: طَاعِمٍ، وَجَمَعَ بُقُولِهِ: جِيَاعِ. وَإِذَا أُفْرِدَتِ النَّكِرَةُ الصِّفَةُ، وَقَبْلَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ جَمْعٌ، فَهُوَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مُتَأَوَّلٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُهُ مَنْ طَعِمَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَدَّرُ وَصْفًا لِمُفْرَدٍ يُؤَدِّي مَعْنَى جَمْعٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ، وَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ، وَقَامَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، فَيَكُونُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ فِي التَّقْدِيرِ وَفْقَ مَا تَقَدَّمَهُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَكُونُ التَّجَوُّزُ فِي الْجَمْعِ، فَإِذَا قِيلَ مَثَلًا الزَّيْدُونَ أَفْضَلُ عَالِمٍ، فَالْمَعْنَى: كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّيْدِينَ أَفْضَلُ عَالِمٍ. وَهَذِهِ النَّكِرَةُ أَصْلُهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ التَّعْرِيفُ وَالْجَمْعُ، فَاخْتَصَرُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَبِنَاءَ الْجَمْعِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ هُوَ النَّكِرَةُ فِي الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ: أَبُوكَ أَفْضَلُ عَالِمٍ، فَتَقْدِيرُهُ: عِنْدَهُمْ أَبُوكَ الْأَفْضَلُ الْعَالِمُ، وَأُضِيفَ أَفْضَلُ إِلَى مَا هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنَى.
وَجَمِيعُ أَحْكَامِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ تَأَوَّلُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِمَنْ كَفَرَ، أَوْ أَوَّلَ حِزْبٍ كَفَرَ، أَوْ لَا يَكُنْ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَوَّلَ كَافِرٍ. وَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْكُفْرِ لَهُمْ ثَانِيًا أَوْ آخِرًا، فَمَفْهُومُ الصِّفَةِ هُنَا غَيْرُ مُرَادٍ. وَلَمَّا أُشْكِلَتِ الْأَوَّلِيَّةُ هُنَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَوَّلَ صِلَةٌ يَعْنِي زَائِدَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَكُونُوا كَافِرِينَ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا مَعْطُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا آخِرَ كَافِرٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَخَصَّ الْأَوَّلِيَّةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَفْحَشُ، لِمَا فِيهَا مِنَ الِابْتِدَاءِ بِهَا، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مِنْ أُنَاسٍ لَيْسَ فِي أَخْلَاقِهِمْ ... عَاجِلُ الْفُحْشِ وَلَا سُوءُ جَزَعْ
لَا يُرِيدُ أَنَّ فِيهِمْ فُحْشًا آجِلًا، بَلْ أَرَادَ لَا فُحْشَ عِنْدَهُمْ، لَا عَاجِلًا، وَلَا آجِلًا، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَلَا تَكُونُوا مِثْلَ أَوَّلِ كَافِرٍ بِهِ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ مَوْصُوفًا مِثْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَا كِتَابَ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ أَوَّلُ كَافِرٍ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ هُمْ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا مَظْنُونٌ بِهِمْ عِلْمٌ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفِ صِلَةٍ يَصِحُّ بِهَا الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ كُفْرَ قُرَيْشٍ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ شَبِيهٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ. وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَ صِلَةً غَيْرَ هَذِهِ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِكُمْ لِذِكْرِهِ، بَلْ تَثَبَّتُوا فِيهِ وَرَاجِعُوا عُقُولَكُمْ فِيهِ. وَقِيلَ:
ذِكْرُ الْأَوَّلِيَّةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مُؤْمِنٍ بِهِ، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَبِصِفَتِهِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمُبَشِّرِينَ بِزَمَانِهِ وَالْمُسْتَفْتِحِينَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ أَمْرُهُمْ عَلَى(1/287)
الْعَكْسِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَا تَسُنُّوا الْكُفْرَ سُنَّةً، فَإِنَّ وِزْرَ الْمُبْتَدِئِينَ فِيمَا يَسُنُّونَ أَعْظَمُ مِنْ وِزْرِ الْمُقْتَدِينَ فِيمَا يَتَّبِعُونَ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي بِمَا أَنْزَلْتُ، وَهُوَ القرآن، قاله ابن جريج، أَوْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُنَزَّلِ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ عَلَى النِّعْمَةِ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَ الضَّمِيرَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي لِمَا مَعَكُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَفَرُوا بِمَا يُصَدِّقُهُ، فَقَدْ كَفَرُوا بِهِ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، وَهُوَ مَنْطُوقٌ بِهِ مَقْصُودٌ لِلْحَدِيثِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ.
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. الِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِبْدَالُ، كَمَا قَالَ:
كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا وَقَالَ آخَرُ:
فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحُلْمَ بَعْدَكَ بِالْجَهْلِ وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِبْدَالِ، جَازَ أَنْ تَدْخُلَ الْبَاءُ عَلَى الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَا كَانَ ثَمَنًا، لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ، لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ جَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ يَكُونُ الْمَنْصُوبُ فِيهِ هُوَ الْحَاصِلَ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الزَّائِلُ، بِخِلَافِ مَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَوْلَكَ: بَدَّلْتُ أَوْ أَبْدَلْتُ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ مَعْنَاهُ: أَخَذْتُ الدِّينَارَ بَدَلًا عَنِ الدِّرْهَمِ، وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: وَلَا تَسْتَبْدِلُوا بِآيَاتِي الْعَظِيمَةِ أَشْيَاءَ حَقِيرَةً خَسِيسَةً. وَلَوْ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى الثَّمَنِ دُونَ الْآيَاتِ لَانْعَكَسَ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ هُمْ بَذَلُوا ثَمَنًا قَلِيلًا وَأَخَذُوا الْآيَاتِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ:
وَدُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْآيَاتِ كَدُخُولِهَا عَلَى الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَا عَيْنَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ دَخَلَتِ الْبَاءُ عَلَى الثَّمَنِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. انْتَهَى كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ وَمَعْنَاهُ:
أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَنَانِيرُ وَلَا دَرَاهِمُ فِي الْبَيْعِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَبْذُولِ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا، لَكِنْ يَخْتَلِفُ دُخُولُ الْبَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ نَسَبَ الشِّرَاءَ إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمُتَعَاقِدِينَ جَعَلَ مَا حَصَّلَ هُوَ الْمُثَمَّنَ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْبَاءُ، وَجَعْلَ مَا بَذَلَ هُوَ الثَّمَنَ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ، وَنَفْسُ الْآيَاتِ لَا يُشْتَرَى بِهَا، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: بِتَعْلِيمِ آيَاتِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقِيلَ: بِتَغْيِيرِ آيَاتِي، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: بِكِتْمَانِ آيَاتِي، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، بَلْ كَنَى بِالْآيَاتِ عَنِ الْأَوَامِرِ والنواهي.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 89.(1/288)
وَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَاتُ، مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ، أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَا أَوْضَحَ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، أَوِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى الْأَقَاوِيلِ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ، وَالْقَوْلِ بَعْدَهَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ثَمَنًا قَلِيلًا. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُضَافَ هُوَ التَّعْلِيمُ، قَالَ:
الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الْأُجْرَةُ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي شَرِيعَتِهِمْ، أَوِ الرَّاتِبُ الْمُرْصَدُ لَهُمْ عَلَى التَّعْلِيمِ، فَنُهُوا عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ التَّغْيِيرُ، قَالَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِهِمْ خَافُوا فَوَاتَهَا لَوْ صَارُوا أَتْبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ كِنَايَةً عَنِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، جَعَلَ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ هُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا الَّتِي اشْتَغَلُوا بِهَا عَنْ إِيقَاعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَوَصَفَ الثَّمَنَ بِالْقَلِيلِ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ عِوَضًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1» ، فَلَيْسَ وَصْفُ الثَّمَنِ بِالْقِلَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُخَصِّصُ النَّكِرَاتِ، بَلْ مِنَ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلثَّمَنِ الْمُحَصَّلِ بِالْآيَاتِ، إِذْ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عَلَى مَنْعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَقَدْ صَحَّ
أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَأْخُذُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ: «إِنَّ خَيْرَ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» .
وَقَدْ تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْكَرَاهَةُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً، وَلَا دَلِيلَ لِذَلِكَ الذَّاهِبِ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا.
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ: الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِعْرَابًا، كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَيَقْرُبُ مَعْنَى التَّقْوَى مِنْ مَعْنَى الرَّهْبَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الِاتِّقَاءُ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَزْمِ بِحُصُولِ مَا يُتَّقَى مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالرَّهْبَةِ لِأَجْلِ أَنَّ جَوَازَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى جَوَازِ الْعِقَابِ هُنَاكَ وَتَعْيِينِهِ هُنَا: أَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُجَوِّزُ الْعِقَابَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَرْكُ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشِرَاءُ الثَّمَنِ الْيَسِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُحَتِّمُ العقاب وتعينه، إذ
__________
(1) سورة النساء: 4/ 77.(1/289)
لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ: فَارْهَبُونِ، وَقِيلَ فِي هَذَا: فَاتَّقُونِ، أَيِ اتَّخِذُوا وِقَايَةً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَمْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ ارْهَبُونِ وَاتَقُونِ بِشَيْءٍ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ بِخَوْفِ اللَّهِ وَاتِّقَائِهِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا سِيقَ الْأَمْرُ عَقِيبَهُ دُخُولًا وَاضِحًا، فَكَانَ الْمَعْنَى: ارْهَبُونِ، إِنْ لَمْ تَذْكُرُوا نِعْمَتِي وَلَمْ تُوفُوا بِعَهْدِي، وَاتَّقَوْنِ، إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ وَإِنِ اشْتَرَيْتُمْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ: أَيِ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ التَّوْرَاةَ بِمَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ بِمَا بَدَّلُوا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ لِأَنَّهُمُ ائْتُمِنُوا عَلَى إِبْدَاءِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، فَخَانُوا فِي ذَلِكَ بِكِتْمَانِهِ وَتَبْدِيلِهِ، أَوِ الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَيْرِهِمْ وَجَحْدِهِمْ أَنَّهُ مَا بُعِثَ إِلَيْهِمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ إِيمَانَ مُنَافِقِي الْيَهُودِ بِإِبْطَانِ كُفْرِهِمْ، أَوْ صفة النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الدَّجَّالِ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْبَاطِلِ لِلْإِلْصَاقِ، كَقَوْلِكَ: خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ، فَكَأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فلا يتيمز الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَهِيَ فِي كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، قَالَ: كَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلُوا الْحَقَّ مُلْتَبِسًا مُشْتَبِهًا بِبَاطِلِكُمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ عَنْ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَصَرْفٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ.
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ: مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى تَلْبِسُوا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، كَمَا قَالُوا: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، بِالْجَزْمِ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَجُوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا على إِضْمَارِ أَنْ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَيُسَمَّى عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ النَّصْبُ عَلَى الصَّرْفِ. وَالْجَرْمِيُّ يَرَى أَنَّ النَّصْبَ بِنَفْسِ الْوَاوِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَمَا جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، مَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ بِالْمَفْهُومِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِالْتِبَاسِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ رُجِّحَ الْجَزْمُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَاتِمِينَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُثْبَتَةَ الْمُصَدَّرَةَ بِمُضَارِعٍ، إِذَا وَقَعَتْ حَالًا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ، وَالتَّقْدِيرُ الْإِعْرَابِيُّ هُوَ أَنْ تُضْمِرَ قَبْلَ(1/290)
الْمُضَارِعِ هُنَا مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَلَا يَظْهَرُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْحَالِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَالُ لَازِمَةً، وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقَعُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ إِلَّا وَيَكُونُ الْحَقُّ مَكْتُومًا، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَعَى عَلَيْهِمْ كَتْمَهُمُ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ، عَلَى مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ سِيبَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّنَاسُبُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ تَخْرِيجُ شُذُوذٍ. وَالْحَقُّ الَّذِي كَتَمُوهُ هُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، أَوِ الْإِسْلَامُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ يَكُونُ الْحَقُّ عَامًّا فَيَنْدَرِجُ فِيهِ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ، وَمَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتْمَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُظْهِرُونَ خِلَافَهُ.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ اقْتِصَارًا، إِذِ الْمَقْصُودُ:
وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ، فَلَا يُنَاسِبُ مَنْ كَانَ عَالِمًا أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ وَيُلْبِسَهُ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ قَدَّرُوا حَذْفَهُ حَذْفَ اخْتِصَارٍ، وَفِيهِ أَقَاوِيلُ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ هُوَ وَصِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. الثَّالِثُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ لِلنَّاسِ قَاطِبَةً. الرَّابِعُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي حَالِ عِلْمِكُمْ أَنَّكُمْ لَابِسُونَ كَاتِمُونَ، فَجَعَلَ مَفْعُولَ الْعِلْمِ اللَّبْسَ وَالْكَتْمَ الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، قَالَ: وَهُوَ أَقْبَحُ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْقَبِيحِ رُبَّمَا عُذِرَ رَاكِبُهُ، انْتَهَى. فَكَانَ مَا قَدَّرَهُ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قُبْحَ أَوْ تَحْرِيمَ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَلَمْ يَشْهَدْ تَعَالَى لَهُمْ بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ كِتْمَانِ مَا عَلِمُوا، انْتَهَى.
وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ هُوَ الْحَقَّ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَهُ، لِأَنَّ الْمَكْتُومَ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَغَيْرَ حَقٍّ، فَإِذَا كَانَ حَقًّا وَعَلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ، كَانَ كِتْمَانُهُ لَهُ أشد معصية وَأَعْظَمَ ذَنْبًا، لِأَنَّ الْعَاصِيَ عَلَى عِلْمٍ أَعْصَى مِنَ الْجَاهِلِ الْعَاصِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ بِعِلْمِ حَقٍّ مَخْصُوصٍ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُمْ بِعِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، قَالَ:
وَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ تَكُونُ مَعْطُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ ثُبُوتِيَّةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنَاسِبَةً فِي الْإِخْبَارِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي تَخْرِيجِنَا لِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَتَكْتُمُونَ.
وَالْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ كَوْنِ الْعِلْمِ حُذِفَ مَفْعُولُهُ حَذْفَ اقْتِصَارٍ،(1/291)
إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، لَا يَصْلُحُ لَهُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَلَا كِتْمَانُهُ. وَهَذِهِ الْحَالُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا أَنَّهَا قَيْدٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ، فَلَا تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى جَوَازِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ حَالَةَ الْجَهْلِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِحَالِ الشَّيْءِ لَا يَدْرِي كَوْنَهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا: أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْقَبِيحَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا أَفْحَشُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِهَا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَا تَتَوَهَّمُوا، أَنْ يَلْتَئِمَ لَكُمْ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ وَالْكَوْنُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحَلَّيْنِ، فَإِمَّا مَبْسُوطَةٌ بِحَقٍّ، وَإِمَّا مَرْبُوطَةٌ بِحَطٍّ، وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، تَدْلِيسٌ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ تَلْبِيسٌ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَقَّ الْحَقِّ تَقْدِيسٌ، انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كِتْمَانُهُ.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ «1» ، وَيَعْنِي بِذَلِكَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَكَاتَهُمْ، فَقِيلَ: هِيَ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: جِنْسُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قِيلَ: أَرَادَ الْمَفْرُوضَةَ، وَقِيلَ:
صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ: احْفَظُوا أَدَبَ الْحَضْرَةِ، فَحِفْظُ الْأَدَبِ لِلْخِدْمَةِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، زَكَاةَ الْهِمَمِ، كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النِّعَمِ، قَالَ قَائِلُهُمْ:
كُلُّ شَيْءٍ لَهُ زَكَاةٌ تُؤَدَّى ... وَزَكَاةُ الْجَمَالِ رَحْمَةُ مِثْلِي.
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ: خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ: الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الرُّكُوعُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ، وَأُمِرُوا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوعُ مُنْدَرِجًا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أُمِرُوا بِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهُ رُكُوعٌ فِي صَلَاتِهِمْ، فَنَبَّهَ بِالْأَمْرِ بِهِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِي صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: كَنَى بِالرُّكُوعِ عَنِ الصَّلَاةِ: أَيْ وَصَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ، كَمَا يُكْنَى عَنْهَا بِالسَّجْدَةِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِالْجُزْءِ، وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ مَعَ دَلَالَةٌ عَلَى إِيقَاعِهَا فِي جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِيقَاعُهَا فِي جَمَاعَةٍ.
وَالرَّاكِعُونَ: قِيلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْجِنْسَ مِنَ الرَّاكِعِينَ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَاتٍ بِالْوَاوِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي فِي الْوَضْعِ تَرْتِيبًا ترتيب
__________
(1) سورة التوبة: 9/ 71.(1/292)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
عَجِيبٌ، مِنْ حَيْثُ الْفَصَاحَةِ وَبِنَاءِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِذِكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ، إِذْ فِي ذَلِكَ مَا يَدْعُو إِلَى مَحَبَّةِ الْمُنْعِمِ وَوُجُوبِ إِطَاعَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِيفَاءِ الْعَهْدِ الَّذِي الْتَزَمُوهُ لِلْمُنْعِمِ، ثُمَّ رَغَّبَهُمْ بِتَرْتِيبِ إِيفَائِهِ هُوَ تَعَالَى بِعَهْدِهِمْ فِي الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْخَوْفِ مِنْ نِقْمَاتِهِ إِنْ لَمْ يُوفُوا، فَاكْتَنَفَ الْأَمْرَ بِالْإِيفَاءِ أَمْرٌ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمْرٌ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعِصْيَانِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِإِيمَانٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَرَغَّبَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ، فَلَيْسَ أَمْرًا مُخَالِفًا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ إِلَى الْمُوَافِقِ أَقْرَبُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُخَالِفِ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ اسْتِبْدَالِ الْخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِاتِّقَائِهِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ أَمْرًا بِتَرْكِ الضَّلَالِ، وَالنَّهْيُ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَكِتْمَانِ الْحَقِّ تَرْكًا لِلْإِضْلَالِ. وَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ نَاشِئًا عَنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ حَقًّا إِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ بَلَغَتِ الْمُسْتَتْبِعَ، وَإِمَّا عَنْ كِتْمَانِ الدَّلَائِلِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُ، أَشَارَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِلَا تَلْبِسُوا وَتَكْتُمُوا، ثُمَّ قَبَّحَ عَلَيْهِمْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، إِذِ الصَّلَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالزَّكَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى مَعَ جُمْلَةِ الْخَاضِعِينَ الطَّائِعِينَ.
فَكَانَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ النِّعَمِ وَاخْتِتَامُهَا بِالِانْقِيَادِ لِلْمُنْعِمِ، وَمَا بَيْنَهُمَا تَكَالِيفٌ اعْتِقَادِيَّةٌ وَأَفْعَالٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ. وَبِنَحْوِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الِافْتِتَاحِ وَالْإِرْدَافِ وَالِاخْتِتَامِ يَظْهَرُ فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فِي الصُّورَةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا هِيَ عَامَّةٌ فِي الْمَعْنَى، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ذِكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَالْإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
الْأَمْرُ: طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّأْنِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: أَمَرَ يَأْمُرُ، عَلَى:
فَعَلَ يَفْعُلُ، وَتُحْذَفُ فَاؤُهُ فِي الْأَمْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ لَامٍ، فَتَقُولُ: مُرْ زَيْدًا وَإِتْمَامُهُ قَلِيلٌ، أَوْ مُرْ زَيْدًا،(1/293)
فَإِنْ تَقَدَّمَ الْأَمْرَ وَاوٌ أَوْ فَاءٌ، فَإِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ أَجْوَدُ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِحَرْفِ جَرٍّ. وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالٍ مَحْصُورَةٍ تُحْذَفُ مِنْ ثَانِي مَفْعُولَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ جَوَازًا تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. الْبِرُّ: الصِّلَةُ، وَأَيْضًا: الطَّاعَةُ.
قَالَ الرَّاجِزُ:
لا همّ رَبِّ إِنَّ بَكْرًا دُونَكَا ... يَبَرُّكُ النَّاسُ وَيَفْخَرُونَكَا
وَالْبِرُّ: الْفُؤَادُ، وَوَلَدُ الثَّعْلَبِ وَالْهِرُّ، وَبَرَّ وَالِدَهُ: أَجَلَّهُ وَأَعْظَمَهُ. يَبَرُّهُ: عَلَى وَزْنِ فَعَلَ يَفَعْلُ، وَرَجُلٌ بَارٌّ، وَبَرٌّ، وَبَرَّتْ يَمِينُهُ، وَبَرَّ حَجُّهُ: أَجَلَّهَا وَجَمَعَ أَنْوَاعًا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْبِرُّ سَعَةُ الْمَعْرُوفِ وَالْخَيْرِ، وَمِنْهُ: الْبَرُّ وَالْبَرِّيَّةُ لِلسَّعَةِ. وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ خَيْرٍ، وَالْإِبْرَارُ: الْغَلَبَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَبَرُّونَ عَلَى الْآبِي الْمُبِرِّ النِّسْيَانُ: ضِدُّ الذِّكْرِ، وَهُوَ السَّهْوُ الْحَادِثُ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّرْكِ، وَضِدُّهُ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ: نَسِيَ يَنْسَى عَلَى فَعِلَ يَفْعَلُ، وَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَقَدْ يُعَلَّقُ نَسِيَ حَمْلًا عَلَى عَلِمَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ انْتُمُ ... وَرِيحُكُمُ مِنْ أَيِّ رِيحِ الْأَعَاصِرِ
وَفِي الْبَيْتِ احْتِمَالٌ، التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ الْآيَاتِ أَوِ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْحُرُوفَ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الذِّكْرِ. والتلو: التبع، وناقة مثل: يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا. الْعَقْلُ:
الْإِدْرَاكُ الْمَانِعُ مِنَ الْخَطَأِ، وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ، يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَالْمَعْقِلُ: مَكَانٌ يُمْتَنَعُ فِيهِ، وَالْعَقْلُ: الدِّيَةُ لِأَنَّ جِنْسَهَا إِبِلٌ تُعْقَلُ فِي فِنَاءِ الْوَلِيِّ، أَوْ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ قَتْلِ الْجَانِي، وَالْعَقْلُ: ثَوْبٌ مُوَشًّى، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَقْلًا وَرَقْمًا تَظَلُّ الطَّيْرُ تَتْبَعُهُ ... كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الْأَجْوَافِ مَدْمُومُ
وَالْعِقَالُ: زَكَاةُ الْعَامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا ... فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
وَرَمْلٌ عَقَنْقَلٌ: مُتَمَاسِكٌ عَنِ الِانْهِيَارِ. الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَالْفِعْلُ:
صَبَرَ يَصْبِرُ عَلَى فَعَلَ يَفْعِلُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ
وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. الكبيرة: مِنْ كَبُرَ يَكْبُرُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ(1/294)
فِي الْجِرْمِ وَفِي الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيَّ كَذَا، أَيْ شَقَّ، وَكَبُرَ يَكْبُرُ، فَهُوَ كَبِيرٌ مِنَ السِّنِّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر وَلَمْ يَكْبُرِ الْبَهْمُ
الْخُشُوعُ: قَرِيبٌ مِنَ الْخُضُوعِ، وَأَصْلُهُ: اللِّينُ وَالسُّهُولَةُ، وَقِيلَ: الِاسْتِكَانَةُ وَالتَّذَلُّلُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: الْخُضُوعُ فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعُ فِي الْبَدَنِ وَالْبَصَرِ وَالصَّوْتِ، وَالْخُشْعَةُ: الرَّمْلَةُ الْمُتَطَامِنَةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَتِ الْكَعْبَةُ خُشْعَةً عَلَى الْمَاءِ» .
الظَّنُّ: تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ بِالشَّكِّ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى التَّيَقُّنِ. وَفِي كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ يَدْخُلُ عَلَى مَا أَصْلُهُ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، خِلَافًا لِأَبِي زَيْدٍ السُّهَيْلِيِّ، إِذْ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نَوَاسِخِ الِابْتِدَاءِ. وَالظَّنُّ أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى:
التُّهْمَةِ، فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ لِوَاحِدٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الظَّنُّ يَقَعُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ.
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الْهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ وَضْعًا، وَشَابَهَا هُنَا التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ لِأَنَّ الْمَعْنَى: الْإِنْكَارُ، وعليهم توبيخهم عَلَى أَنْ يَأْمُرَ الشَّخْصُ بِخَيْرٍ، وَيَتْرُكَ نَفْسَهُ وَنَظِيرُهُ فِي النَّهْيِ، قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَيَقْبُحُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَأْمُرَ الْإِنْسَانُ بِخَيْرٍ وَهُوَ لَا يَأْتِيهِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنْ سُوءٍ وَهُوَ يَفْعَلُهُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْبِرِّ هُنَا أَقْوَالٌ: الثَّبَاتُ عَلَى دِينِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ، أَوِ اتِّبَاعُ التَّوْرَاةِ وَهُمْ يُخَالِفُونَهَا فِي جَحْدِهُمْ صِفَتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيِّ: أَوْ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَبْخَلُونَ، أَوْ عَلَى الصِّدْقِ وَهُمْ لَا يَصْدُقُونَ، أَوْ حَضُّ أَصْحَابِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَلَا يَأْتُونَهُمَا. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: أَتُطَالِبُونَ النَّاسَ بِحَقَائِقِ الْمَعَانِي وَأَنْتُمْ قُلُوبُكُمْ خَالِيَةٌ عَنْ ظَوَاهِرِ رُسُومِهَا؟ وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَتُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَى الْبِدَارِ وَتَرْضَوْنَ بِالتَّخَلُّفِ؟ وَقَالَ: أَتَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْنَا وَتَقْعُدُونَ عَنَّا؟ وَأَلْفَاظًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَتَى بِالْمُضَارِعِ فِي: أَتَأْمُرُونَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ: الدَّيْمُومَةُ وَكَثْرَةُ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ فِعْلِهِمْ بِالنِّسْيَانِ مُبَالَغَةً فِي(1/295)
التَّرْكِ، فَكَأَنَّهُ لَا يَجْرِي لَهُمْ عَلَى بَالٍ، وَعَلَّقَ النساء بِالْأَنْفُسِ تَوْكِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْغَفْلَةِ الْمُفْرِطَةِ.
وَتَنْسَوْنَ: مَعْطُوفٌ عَلَى تَأْمُرُونَ، وَالْمَنْعِيُّ عَلَيْهِمْ جَمْعُهُمْ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبِرِّ الَّذِي فِي فِعْلِهِ النَّجَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَتَرْكِ فِعْلِهِ حَتَّى صَارَ نَسْيًا مَنْسِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ. أَنْفُسَكُمْ، وَالْأَنْفُسُ هُنَا: ذَوَاتُهُمْ، وَقِيلَ: جَمَاعَتُهُمْ وَأَهْلُ مِلَّتِهِمْ، ثُمَّ قُيِّدَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ: أَيْ أَنَّكُمْ مُبَاشِرُو الْكِتَابِ وَقَارِئُوهُ، وَعَالِمُونَ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ، فَكَيْفَ امْتَثَلْتُمُوهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِكُمْ؟ وخالفتموه أَنْفُسِكُمْ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1» . وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَلَا يَخْفَى مَا فِي تَصْدِيرِهَا بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ
، مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُمْ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبَةِ بِخِلَافِهَا لَوْ كَانَتِ اسْمًا مُفْرَدًا. وَالْكِتَابُ هُنَا: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَفِيهِمَا النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ الذَّمِيمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ، قَالُوا: وَيَكُونُ قَدِ انْصَرَفَ مِنْ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ «2» ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ بُعْدٌ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خِطَابٌ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
أَفَلا تَعْقِلُونَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ كَانَ تَقْدِيمَ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى الْهَمْزَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِثْلِ أَوَلَمْ يَسِيرُوا أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْهَمْزَةُ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، قُدِّمَتْ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ هَلْ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْوَاوَ وَالْفَاءَ وَثُمَّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَهَا، وَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ، وَيَجْعَلُ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ جُمْلَةً مُقَدَّرَةً يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحَذْفَ أَوْلَى مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِنَا لِكِتَابِ التَّسْهِيلِ. فَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأَلَا تَعْقِلُونَ، وَعَلَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَتَعْقِلُونَ فَلَا تَعْقِلُونَ، أَمَكَثُوا فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ مَا كَانَ شِبْهَ هَذَا الْفِعْلِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَنَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ، عَلَى أَنَّ فِيهِمْ إِدْرَاكًا شَرِيفًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ قَبِيحِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِمْ بِالْخَيْرِ وَنِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ عَنْهُ، وَإِنَّ هَذِهِ حَالَةُ مَنْ سُلِبَ الْعَقْلَ، إِذِ الْعَاقِلُ سَاعٍ فِي
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 42.
(2) سورة يوسف: 12/ 29.(1/296)
تَحْصِيلِ مَا فِيهِ نَجَاتُهُ وَخَلَاصُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي خَلَاصِ غَيْرِهِ، ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ. وَمَرْكُوزٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يُحَصِّلْ لِنَفْسِهِ مَصْلَحَةً، فَكَيْفَ يُحَصِّلُهَا لِغَيْرِهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْزِنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ ... فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
فَإِذَا صَدَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ لِغَيْرِهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، كَانَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ، خُصُوصًا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُرْجَى بِسُلُوكِهَا النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَالْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ. وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ بِأَقْوَالٍ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ: أَفَلَا تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذِهِ الْحَالِ الْمُرْدِيَةِ بِكُمْ، أَوْ أَفَلَا تَفْهَمُونَ قُبْحَ مَا تَأْتُونَ مِنْ مَعْصِيَةِ رَبِّكُمْ فِي اتِّبَاعِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ، أَوْ أَفَلَا تَنْتَهُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَنْهَى عَنِ الْقَبِيحِ، أَوْ أَفَلَا تَرْجِعُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يُرَادُ إِلَى الْأَحْسَنِ، أَوْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّهُ حَقٌّ فَتَتَّبِعُونَهُ، أَوْ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ رَاجِعٌ، أَوْ أَفَلَا تَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمَعَاصِي، أَوْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، إِذْ لَيْسَ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ أَنْ تَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا تَأْتِيَهُ، أَوْ أَفَلَا تَفْطِنُونَ لِقُبْحِ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَصُدَّكُمُ اسْتِقْبَاحُهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَكَأَنَّكُمْ فِي ذَلِكَ مَسْلُوبُو الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعُقُولَ تَأْبَاهُ وَتَدْفَعُهُ. وَشَبِيهٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ «1» الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: الْإِرْشَادُ إِلَى الْمَنْفَعَةِ وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِشَوَاهِدِ الْعَقْلِ، فَمَنْ وَعَظَ وَلَمْ يَتَّعِظْ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مُتَنَاقِضٍ لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْوَعْظُ سَبَبًا لِلرَّغْبَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ:
لَوْلَا اطِّلَاعُ الْوَاعِظِ عَلَى أَنْ لَا أَصْلَ لِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَتَكُونُ النَّفْسُ نَافِرَةً عَنْ قَبُولِ وَعْظِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ، وَأَنْشَدُوا:
مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلَا ... حَتَّى يعيها قبله أَوَّلَا
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ.
وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَاصِي أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَلَا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: التَّوْبِيخُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا كَانُوا فَاعِلِي أَفْعَالِهِمْ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَهَذَا الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهُوَ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسْعٍ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعُوا عَلَى
__________
(1) سورة الصف: 61/ 2.(1/297)
نَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا لَهُمْ: قَدْ كُنْتُمْ تَأْمُرُونَنَا بِأَشْيَاءَ عَمِلْنَاهَا فَدَخَلْنَا الْجَنَّةَ، قَالُوا: كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِهَا وَنُخَالِفُ إِلَى غَيْرِهَا.
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، وَأَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الطَّلَبَ، وَأَنَّ اسْتَعَانَ مَعْنَاهُ طَلَبَ الْمَعُونَةَ، وَظَاهِرُ الصَّبْرِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ: الصَّوْمُ، وَالصَّوْمُ: صَبْرٌ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الطَّعَامِ، وَسُمِّيَ رَمَضَانُ: شَهْرَ الصَّبْرِ. وَالصَّلَاةُ: هِيَ الْمَفْرُوضَةُ مَعَ مَا يَتْبَعُهَا مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ وَقَدْ أضمر، والصبر صِلَةً تُقَيِّدُهُ، فَقِيلَ: بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُهُ نُفُوسُكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ، أَوْ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنِ الْمَعَاصِي، أَوْ عَلَى تَرْكِ الرِّيَاسَةِ، أَوْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ، أَوْ عَلَى حَوَائِجِكُمْ إِلَى اللَّهِ، أَوْ عَلَى الصَّلَاةِ. وَلَمَّا قُدِّرَ هَذَا التَّقْدِيرُ، أَعْنِي بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ، تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْقُرْآنِ، أَنَّ الْوَاوَ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ هُنَا بِمَعْنَى عَلَى، وَإِنَّمَا يُرِيدُ قَائِلُ هَذَا: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وبالصلاة، لِأَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى عَلَى، وَيَكُونُ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «2» وَأُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يُتْلَى فِيهَا مَا يُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنْ تَمْحِيصِ الذُّنُوبِ وَتَرْقِيقِ الْقُلُوبِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنْ إِزَالَةِ الْهُمُومِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حز به أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ» .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نُعِيَ إِلَيْهِ قُثَمٌ أَخُوهُ، فَقَامَ يُصَلِّي، وَتَلَا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ ذَكَرُوهَا. وَقُدِّمَ الصَّبْرُ عَلَى الصَّلَاةِ، قِيلَ: لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّبْرِ فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَتَأْثِيرَ الصَّلَاةِ فِي حُصُولِ مَا يَنْبَغِي، وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَدَّمَ الِاسْتِعَانَةَ بِهِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ تَكَالِيفٍ عَظِيمَةٍ شَاقٍّ فِرَاقُهَا عَلَى مَنْ أَلِفَهَا وَاعْتَادَهَا مِنْ ذِكْرِ مَا نَسُوهُ وَالْإِيفَاءِ بِمَا أَخْلَفُوهُ وَالْإِيمَانِ بِكِتَابٍ مُتَجَدِّدٍ وَتَرْكِ أَخْذِهِمُ الرِّشَا عَلَى آيَاتِ اللَّهِ وَتَرْكِهِمْ إِلْبَاسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكَتْمِ الْحَقِّ الَّذِي لَهُمْ بِذَلِكَ الرِّيَاسَةُ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِتْبَاعُ لِعَوَامِّهِمْ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَكَانَتِ الْبَدَاءَةُ بِالصَّبْرِ لِذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ هُوَ الصَّلَاةَ، وَبِهَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُشْرِكِ، أَتْبَعَ الصَّبْرَ بِهَا، إِذْ يَحْصُلُ بِهَا الِاشْتِغَالُ عَنِ الدُّنْيَا، وَبِالتِّلَاوَةِ فِيهَا الْوُقُوفُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ، وَمَصِيرُ الخلق
__________
(1) سورة الفاتحة: 1/ 5.
(2) سورة طه: 20- 132.(1/298)
إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ، فَيَرْغَبُ الْمُشْتَغِلُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَرْغَبُ عَنِ الدُّنْيَا. وَنَاهِيكَ مِنْ عِبَادَةٍ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَيَسْتَغْفِرُ ذَنْبَهُ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي أَنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَيَبْعُدُ دَعْوَى مَنْ قَالَ:
إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ يُنْكِرُهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ لَهُ اسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ أَوَّلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ يَقَعُ بَعْدُ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ صَرْفَ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ نَظْمِ الْفَصَاحَةِ.
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الصَّلَاةِ. هَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْقَاعِدَةُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ ضَمِيرَ الْغَائِبِ لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ الْأَقْرَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهُوَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا، فَيَكُونُ مِثْلَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «1» ، أَيْ الْعَدْلُ أَقْرَبُ، قَالَهُ الْبَجَلِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى إِجَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ مِمَّا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: عَلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا بِالْمَعْنَى ذِكْرُ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنُهُوا عَنْهَا، مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إِلَى وَاسْتَعِينُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَاكْتَفَى بِعَوْدِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّهُمَا كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «2» فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ، وَكَقَوْلِهِ:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأسود مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ فِيمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرُهَا مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، قَالَ مُؤَرِّجٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَهَمُّ وَأَغْلَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: انْفَضُّوا إِلَيْها «3» ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ مَيْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ انْصَرَفُوا فِي الْجُمُعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ أَهَمُّ وَأَغْلَبُ مِنْ مَيْلِهِمْ إِلَى اللَّهْوِ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ يَعْنِي أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْعَوْدِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُخَالِفُ الْعَطْفَ بَأَوْ، فَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ مُطَابَقَةُ الضَّمِيرِ لِمَا قَبْلَهُ فِي تَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، وَأَمَّا الْعَطْفُ بَأَوْ فَلَا يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ إِلَّا عَلَى أَحَدِ مَا سَبَقَ. وَمَعْنَى كِبَرِ الصَّلَاةِ: ثِقَلُهَا وصعوبتها
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 8.
(2) سورة التوبة: 9/ 34.
(3) سورة الجمعة: 62/ 11.(1/299)
عَلَى مَنْ يَفْعَلُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «1» ، أَيْ شَقَّ ذَلِكَ وَثَقُلَ.
إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، وَهُمُ الْمُتَوَاضِعُونَ الْمُسْتَكِينُونَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ، لِأَنَّهَا مُنْطَوِيَةٌ عَلَى أَوْصَافٍ هُمْ مُتَحَلُّونَ بِهَا لِخُشُوعِهِمْ مِنَ الْقِيَامِ لِلَّهِ وَالرُّكُوعِ لَهُ وَالسُّجُودِ لَهُ وَالرَّجَاءِ لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ. فَلَمَّا كَانَ مَآلُ أَعْمَالِهِمْ إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، سَهُلَ عَلَيْهِمْ مَا صَعُبَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لَهَا نَفْعًا. وَيَجُوزُ فِي الَّذِينَ الْإِتْبَاعُ وَالْقَطْعُ إِلَى الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ، وَذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ، فَالْقَطْعُ أَوْلَى بِهَا.
ويَظُنُّونَ مَعْنَاهُ: يُوقِنُونَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ مَنْ وُصِفَ بِالْخُشُوعِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ مُلَاقٍ رَبَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الْحُسْبَانُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى مُصَحِّحٍ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَا قَدَّرُوهُ مِنَ الْحَذْفِ، وَهُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ مُذْنِبِينَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمِثْلُهُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ «2» ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا. وَقَالَ دُرَيْدُ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سُرَاتُهُمْ فِي السَّائِرِيِّ الْمُسْرَدِ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوقَعُ الظَّنُّ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَحَقِّقَةِ، لَكِنَّهُ لَا يُوقَعُ فِيمَا قَدْ خَرَجَ إِلَى الْحِسِّ. لَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ مَرْئِيٍّ حَاضِرٍ: أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا، وَإِنَّمَا نَجِدُ الِاسْتِعْمَالَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِسِّ، انْتَهَى. وَالظَّنُّ فِي كِلَا اسْتِعْمَالَيْهِ مِنَ الْيَقِينِ، أَوِ الشَّكِّ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَتَأْتِي بَعْدَ الظَّنِّ أن الناصبة للفعل وإنّ النَّاصِبَةُ لِلِاسْمِ الرَّافِعَةُ لِلْخَبَرِ فَتَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنْ تَقُومَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَقُومُ. وَفِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ خِلَافٌ. مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ:
أَنَّ أَنْ وَإِنَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَذَلِكَ بِجَرَيَانِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ: أَنَّ أَنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ أَوَّلٍ، وَالثَّانِي مُقَدَّرٌ، فَإِذَا قُلْتَ: ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، فَتَقْدِيرُهُ: ظَنَنْتُ قِيَامَ زَيْدٍ كَائِنًا أَوْ وَاقِعًا. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، الْمُلَاقَاةُ: مُفَاعَلَةٌ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ لَاقَاكَ فَقَدْ لَاقَيْتَهُ.
وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمُلَاقَاةُ هُنَا، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهَا تقتضي التشريك،
__________
(1) سورة الشورى: 42/ 13. [.....]
(2) سورة الحاقة: 69/ 20.(1/300)
فَهِيَ مِنَ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِمْ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَعَافَاكَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَقِيَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى لَاقَى، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا، بَلْ فَعَلَ خِلَافٌ فِي الْمَعْنَى لِفَاعَلَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ مِنْ حَيْثُ أن مادة لقي تتضمن مَعْنَى الْمُلَاقَاةِ، بِمَعْنَى أَنَّ وَضْعَ هَذَا الْفِعْلِ، سَوَاءٌ كَانَ مُجَرَّدًا أَوْ عَلَى فَاعِلٍ، مَعْنَاهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ لَقِيَكَ فَقَدْ لَقِيتَهُ، فَهُوَ لِخُصُوصِ مادته يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةِ، وَيَسْتَحِيلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعَلَ يَكُونُ لِمُوَافَقَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي فَاعَلَ، وَهُوَ أَنْ يُوَافِقَ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، أَيْ لَيْسَتِ الْأَفْعَالُ مُجَرَّدُهَا بِمَعْنَى فَاعَلَ، بَلْ فَاعَلَ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَ خِلَافُ فَاعَلَ يَعْنِي بَلِ الْمُجَرَّدُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهُوَ خِلَافُ فاعل، لأنه يدل على الِاشْتِرَاكِ، فَضُعِّفَ بِأَنْ يَكُونَ فَاعَلَ مِنَ اللِّقَاءِ مِنْ بَابِ: عَاقَبْتُ اللِّصَّ، حَيْثُ إِنَّ مَادَّةَ اللِّقَاءِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، سَوَاءٌ كَانَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ أَوْ بِصِيغَةِ فَاعَلَ.
وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، لِأَنَّهَا إِضَافَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَوْ الِاسْتِقْبَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِعْمَالِهِ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ، وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ عَلَى أَيِّ مَحَامِلِهِ حَمَلْتَهُ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى الْإِحْسَانِ لِمَنْ يَرُبُّهُ، وَتَعَطُّفٌ بَيِّنٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ لَفْظِ الرَّبِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى مُلَاقَاةِ رَبِّهِمْ، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ وَلَا كِنَايَةٍ بِأَنَّ اللِّقَاءَ هُوَ رُؤْيَةُ الْبَارِي تَعَالَى، وَلَا لِقَاءَ أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَإِلَى اعْتِقَادِهَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جَزَاءُ رَبِّهِمْ، لِأَنَّ الْمُلَاقَاةَ بِالذَّوَاتِ مُسْتَحِيلَةٌ فِي غَيْرِ الرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ انْقِضَاءِ أَجْلِهِمْ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ ... مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ
وَكَنَى بِالْمُلَاقَاةِ عَنِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ ملاقات اللَّهِ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الْمَوْتِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُسَبَّبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ الْخُشُوعُ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَخَصَّ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الثَّوَابُ، أَيْ ثَوَابُ رَبِّهِمْ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ مِنْ كَوْنِهِ يُرَادُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ، أَوْ كَوْنِ الْمُلَاقَاةِ يُرَادُ بِهَا انْقِضَاءُ الْأَجَلِ، يَكُونُ الظَّنُّ يُرَادُ بِهِ التَّيَقُّنُ. وَقَدْ نَازَعَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَوْنِ لَفْظِ اللِّقَاءِ لَا يُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ وَلَا يُفِيدُهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:(1/301)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ «1» وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ؟ «2» وَيَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ؟
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرُوهُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا. وَمَسْأَلَةُ الرُّؤْيَةِ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ.
وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ: اخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي إِلَيْهِ عَلَى مَنْ يَعُودُ، فَظَاهِرُ الْكَلَامِ وَالتَّرْكِيبِ الْفَصِيحِ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الرَّبِّ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَلْفُوظٍ بِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللِّقَاءِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ مُلَاقُو رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَوْتِ.
وَقِيلَ: عَلَى الْإِعَادَةِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُلَاقُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الرُّجُوعِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقِيلَ: بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الرَّبِّ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ، فَيُحْتَاجُ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: إِلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. وَقِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِالرُّجُوعِ:
الْمَوْتُ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ بِالْإِعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ إِلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا لِغَيْرِهِ، كَمَا كَانُوا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ، فَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ دَلَالَةٌ لِلْمُجَسِّمَةِ وَالتَّنَاسُخِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْوَاحِ قَدِيمَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ. قَالُوا: لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّيْءِ الْمَسْبُوقِ بِالْكَوْنِ عِنْدَهُ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 49]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
الْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ، وَفِعْلُهُ فَعَلَ يفعل، وأصله أن يتعدى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى ثُمَّ بِحَذْفِ عَلَى، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ:
وَجَدْنَا نهشلا فضلت فقيما ... كفضل ابْنِ الْمَخَاضِ عَلَى الْفَصِيلِ
وَأَمَّا فِي الْفَضْلَةِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهِيَ الْبَقِيَّةُ، فَيُقَالُ: فَضَلَ يَفْضُلُ، كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ،
__________
(1) سورة التوبة: 9/ 77.
(2) سورة البقرة: 2/ 223.(1/302)
وَفَضِلَ يَفْضَلُ، نَحْوَ: سَمِعَ يَسْمَعُ، وَفَضِلَ يَفْضُلُ، بِكَسْرِهَا مِنَ الْمَاضِي، وَضَمِّهَا مِنَ الْمُضَارِعِ، وَقَدْ أُولِعَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ بِإِجَازَةِ فَتْحِ ضَادِ فَضَلْتُ فِي الْبَيْتِ وَكَسْرِهَا، وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ. الْجَزَاءُ: الْقَضَاءُ عَنِ الْمُفَضَّلِ وَالْمُكَافَأَةُ، قَالَ الرَّاجِزُ:
يَجْزِيِهِ رَبُّ الْعَرْشِ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيِّ الْعُلَا
وَالْإِجْزَاءُ: الْإِغْنَاءُ. قَبُولُ الشَّيْءِ: التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَالْفِعْلُ قَبِلَ يَقْبَلُ، وَالْقِبَلُ: مَا وَاجَهَكَ، قَالَ الْقُطَامِيُّ:
فَقُلْتُ لِلرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلَا بِهِمُ ... مِنْ عَنْ يَمِينِ الْحُبَيَّا نَظْرَةٌ قَبَلُ
الشَّفَاعَةُ: ضَمُّ غَيْرِهِ إِلَى وَسِيلَتِهِ، وَالشُّفْعَةُ: ضَمُّ الْمِلْكِ، الشَّفْعُ: الزَّوْجُ، وَالشَّفَاعَةُ مِنْهُ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ: شَفْعٌ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ:
كَانَ مَنْ لَامَنِي لِأَصْرِمَهَا ... كَانُوا لِلَيْلَى بِلَوْمِهِمْ شَفَعُوا
وَنَاقَةٌ شَفُوعٌ: خَلْفُهَا وَلَدٌ. وَقِيلَ: خَلْفُهَا وَلَدٌ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ. الْأَخْذُ: ضِدُّ التَّرْكِ، وَالْأَخْذُ: الْقَبْضُ وَالْإِمْسَاكُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: أَخِيذٌ، وَتُحْذَفُ فَاؤُهُ فِي الْأَمْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ لَامٍ، وَقَلَّ الْإِتْمَامُ. الْعَدْلُ: الْفِدَاءُ، وَالْعَدْلُ: مَا يُسَاوِيهِ قِيمَةً وَقَدَرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ: الْمُسَاوِي فِي الْجِنْسِ وَالْجِرْمِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ الْعَيْنَ مِنْ مَعْنَى الْفِدْيَةِ، وَوَاحِدُ الْأَعْدَالِ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرُ، وَالْعَدْلُ: الْمَقْبُولُ الْقَوْلِ مِنَ النَّاسِ، وَحُكِيَ فِيهِ أَيْضًا كَسْرُ الْعَيْنِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْعَدْلُ: الْكَفِيلُ وَالرَّشْوَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَقْبَلُ الصَّرْفَ فِيهَا نَهَابُ الْعَدْلَا النَّصْرُ: الْعَوْنُ، أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ: مَمْدُودَةٌ بِالْمَطَرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبُوكَ الَّذِي أَجْدَى عَلَيَّ بِنَصْرِهِ ... وَأَمْسَكَ عَنِّي بَعْدَهُ كُلُّ قَاتِلِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
إِذَا وَدَّعَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَوَدِّعِي ... بِلَادَ تَمِيمٍ وانصري أرض عامر
والصبر: الْعَطَاءُ، وَالِانْتِصَارُ: الِانْتِقَامُ. النَّجَاةُ: التَّنْجِيَةُ مِنَ الْهَلَكَةِ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَالْأَصْلُ: الْإِلْقَاءُ بِنَجْوَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَرَ لِلنُّعْمَانِ كَانَ بِنَجْوَةٍ ... مِنَ الشَّرِّ لَوْ أَنَّ امْرَأً كَانَ نَاجِيَا
الْآلُ: قِيلَ بِمَعْنَى الْأَهْلِ، وَزُعِمَ أَنَّ أَلِفَهُ بَدَلٌ عَنْ هَاءٍ، وَأَنَّ تَصْغِيرَهُ أُهَيْلٌ، وَبَعْضُهُمْ(1/303)
ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَلِفَهُ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَتِلْكَ الْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنْ هَاءٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَهْلِ لِأَنَّ الْأَهْلَ الْقَرَابَةُ، والآل من يؤول مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ مَذْهَبٍ، فَأَلِفُهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ.
وَلِذَلِكَ قَالَ يُونُسُ: فِي تَصْغِيرِهِ أُوَيْلٌ، وَنَقَلَهُ الْكِسَائِيُّ نَصًّا عَنِ الْعَرَبِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْبَاذِشِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْبَدَلِ أَنَّ الْهَاءَ تُبْدَلُ هَمْزَةً، كَمَا ذَكَرَ أَنَّ الْهَمْزَةَ تُبْدَلُ هَاءً فِي: هَرَقْتُ، وَهَيَا، وَهَرَحْتُ، وَهِيَّاكَ. وقد خصوا آلا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَلَمِ ذِي الْخَطَرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ غَالِبًا، فَلَا يُقَالُ: آلُ الْإِسْكَافِ وَالْحَجَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
نَحْنُ آلُ اللَّهِ فِي بَلْدَتِنَا ... لَمْ نَزَلْ آلًا عَلَى عَهْدِ إِرَمَ
قَالَ الْأَخْفَشُ: لا يضاف آل إِلَى الرَّئِيسِ الْأَعْظَمِ، نَحْوَ: آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ رَئِيسُهُمْ فِي الضَّلَالَةِ، قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ سُمِعَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْبُلْدَانِ فَقَالُوا: آلُ الْمَدِينَةِ، وَآلُ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ مِنْ آلِ الْبَصْرَةِ، وَلَا مِنْ آلِ الْكُوفَةِ، بَلْ يُقَالُ: مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، انْتَهَى قَوْلُهُ. وَقَدْ سُمِعَ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ الْجِنْسِ وَإِلَى الضَّمِيرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكَ وَقَالَ هُدْبَةُ:
أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي ... وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اقْتِبَاسِ جَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُضْمَرِ، فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَأَبُو بَكْرٍ الزَّبِيدِيُّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. وَجُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَبِالْيَاءِ وَالنُّونِ جَرًّا وَنَصْبًا، كَمَا جُمِعَ أَهْلُ فَقَالُوا: آلُونَ. وَالْآلُ: السَّرَابُ، يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ، قَالُوا: أَأْوَالٌ، وَالْآلُ: عَمُودُ الْخَيْمَةِ، وَالْآلُ: الشَّخْصُ، وَالْآلَةُ: الْحَالَةُ الشَّدِيدَةُ. فِرْعَوْنُ:
لَا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. سَامَهُ: كَلَّفَهُ الْعَمَلَ الشَّاقَّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا الْمَلِكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا ... أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الْخَسْفَ فِينَا
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُعَلِّمُونَكُمْ مِنَ السِّيمَاءِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَمِنْهُ: تَسْوِيمُ الْخَيْلِ. وَقِيلَ:
يُطَالِبُونَكُمْ مِنْ مُسَاوَمَةِ الْبَيْعِ. وَقِيلَ: يُرْسِلُونَ عَلَيْكُمْ مِنْ إِرْسَالِ الْإِبِلِ لِلرَّعْيِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُوَلُّونَكُمْ، يُقَالُ سَامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ: أَيْ أَوْلَاهُ إِيَّاهَا. السُّوءُ: مَصْدَرُ أَسَاءَ، يُقَالُ: سَاءَ يَسُوءُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَأَسَاءَ الرَّجُلُ: أَيْ صَارَ ذَا سُوءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:(1/304)
لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتِنِي بمساءة ... لقد سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ
وَمَعْنَى سَاءَهُ: أَحْزَنَهُ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُسْتَقْبَحُ، وَيُقَالُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ وَسُوءِ الْفِعْلِ: يُرَادُ قُبْحُهُمَا. الذَّبْحُ: أَصْلُهُ الشِّقُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا وَالْفَكِّ ... فَأْرَةُ مِسْكٍ ذُبِحَتْ فِي سَكِّ
وَقَالَ:
كَأَنَّمَا الصَّابُ فِي عَيْنَيْكَ مَذْبُوحُ وَالذَّبْحَةُ: دَاءٌ فِي الْحَلْقِ، يُقَالُ مِنْهُ: ذَبَحَهُ يَذْبَحُهُ ذَبْحًا، وَالذِّبْحُ: الْمَذْبُوحُ.
الِاسْتِحْيَاءُ: هُنَا الْإِبْقَاءُ حَيًّا، وَاسْتَفْعَلَ فِيهِ بِمَعْنَى أَفْعَلَ: اسْتَحْيَاهُ وَأَحْيَاهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أَبَلَّ وَاسْتَبَلَّ، أَوْ طَلَبَ الْحَيَاءَ، وَهُوَ الْفَرْجُ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، نَحْوَ:
اسْتَغْفَرَ، أَيْ تَطَلَّبَ الْغُفْرَانَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اسْتَحْيَا مِنَ الْحَيَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا «1» النِّسَاءُ: اسْمٌ يَقَعُ لِلصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِنِسْوَةٍ، وَنِسْوَةٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ، وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ، خِلَافًا لِابْنِ السَّرَّاجِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ فِعْلَةً اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُلْفَظْ لَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ لَفْظِهِ. وَالْوَاحِدَةُ: امْرَأَةٌ. الْبَلَاءُ:
الِاخْتِبَارُ، بَلَاهَ يَبْلُوهُ بَلَاءً: اخْتَبَرَهُ، ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَالشِّدَّةِ، يُقَالُ: أَصَابَ فُلَانًا بَلَاءٌ: أَيْ شِدَّةٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْبِلَى، كَأَنَّ الْمُبْتَلَى يؤول حَالُهُ إِلَى الْبِلَى، وَهُوَ الْهَلَاكُ وَالْفَنَاءُ. وَيُقَالُ: أَبْلَاهُ بِالنِّعْمَةِ، وَبَلَاهُ بِالشِّدَّةِ. وَقَدْ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيُقَالُ: بَلَاهُ بِالْخَيْرِ، وَأَبْلَاهُ بِالشَّرِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو
فَاسْتَعْمَلَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُبْنَى مِنْهُ افْتُعِلَ فَيُقَالُ: ابْتُلِيَ.
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ هَذَا، وَأُعِيدَ نِدَاؤُهُمْ ثَانِيًا عَلَى طَرِيقِ التَّوْكِيدِ، وَلِيُنَبَّهُوا لِسَمَاعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَتَفْصِيلِهَا نِعْمَةً نِعْمَةً، فَالنِّدَاءُ الْأَوَّلُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَالنِّدَاءُ الثَّانِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شُكْرِ النِّعَمِ. وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ: ثُمَّ عُطِفَ التَّفْضِيلُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ النِّعْمَةَ انْدَرَجَ تَحْتَهَا التَّفْضِيلُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ مَا انْفَرَدَتْ بِهِ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 26.(1/305)
الْوَاوُ دُونَ سَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَكَانَ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم بن الزبير الثقفي يَذْكُرُ لَنَا هَذَا النَّحْوَ مِنَ الْعَطْفِ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ، كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجًا وَلَبَانُهُ ... إِذَا مَا اشْتَكَى وَقْعَ الْقَنَاةِ تَحَمْحَمَا
دَعْلَجٌ: هُنَا اسْمُ فُرْسٍ، وَلَبَانُهُ: صَدْرُهُ، وَلِأَبِي الْفَتْحِ بْنِ جِنِّي كَلَامٌ فِي ذَلِكَ يَكْشِفُ مِنْ سِرِّ الصِّنَاعَةِ لَهُ. عَلَى الْعالَمِينَ: أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، أَوْ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعَلَهُمْ مُلُوكًا وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ خَاصَّةً لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَيَكُونُ عَامًّا وَالنِّعْمَةُ مَخْصُوصَةٌ. قَالُوا: وَيَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «1» ، أَوْ عَلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ النَّاسِ، يُقَالُ: رَأَيْتُ عَالَمًا مِنَ النَّاسِ، يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ. وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّفْضِيلُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ خَصَّ النِّعْمَةَ، وَلَا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ عَلَى كُلِّ عَالَمٍ بِشَيْءٍ خَاصٍّ التَّفْضِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْخُصُوصِ فَوَجْهُ عَدَمِ التَّفْضِيلِ مُطْلَقًا ظَاهِرٌ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَشْهَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضْلَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، وَأَشْهَدَ الْمُسْلِمِينَ فَضْلَ نَفْسِهِ فَقَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «2» ، فَشَتَّانَ بَيْنَ مَنْ مَشْهُودُهُ فَضْلُ رَبِّهِ، وَمَنْ مَشْهُودُهُ فَضْلُ نَفْسِهِ. فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي الثَّنَاءَ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي الْإِعْجَابَ، انْتَهَى. وَآخِرُهُ مُلَخَّصٌ مِنْ كَلَامِهِ.
وَاتَّقُوا يَوْماً أَمْرٌ بِالِاتِّقَاءِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذِكْرِ النِّعَمِ وَتَفْضِيلِهِمْ نَاسَبَ أَنَّ مَنْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ وَفُضِّلَ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلتَّقْوَى. فَأُمِرُوا بِالْإِدَامَةِ عَلَى التَّقْوَى، أَوْ بِتَحْصِيلِ التَّقْوَى، إِنْ عَرَضَ لَهُمْ خَلَلٌ وَانْتِصَابٌ يَوْمًا، إِمَّا عَلَى الظَّرْفِ وَالْمُتَّقَى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا الْعَذَابَ يَوْمًا، وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ اتِّسَاعًا أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَذَابَ يَوْمٍ، أَوْ هَوْلَ يَوْمٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: جِيئُوا مُتَّقِينَ، وَكَأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْحَظْ مُتَعَلِّقَ الِاتِّقَاءِ، فَإِذْ ذَاكَ يَنْتَصِبُ يَوْمًا عَلَى الظَّرْفِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْعَوَامُّ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِهِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْماً، وَاتَّقُوا النَّارَ «3» . وَالْخَوَاصُّ خَوَّفَهُمْ بِصِفَاتِهِ، فَقَالَ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ «4» ، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ الْآيَةَ. وَخَوَاصُّ الْخَوَاصِّ خَوَّفَهُمْ بنفسه، فقال:
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 110.
(2) سورة يونس: 10/ 58.
(3) سورة البقرة: 2/ 48.
(4) سورة التوبة: 9/ 105.(1/306)
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «1» وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَّاكِ الْعَدَوِيُّ لَا تَجْزِي مِنْ أَجْزَأَ، أَيْ أَغْنَى، وَقِيلَ جَزَا، وَأَجْزَأَ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْيَوْمِ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَا تَجْزِي فِيهِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ، فَيَكُونُ الْحَذْفُ بِتَدْرِيجٍ أَوْ عَدَّاهُ إِلَى الضَّمِيرِ أَوَّلًا اتِّسَاعًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ، وَإِيَّاهُ نَخْتَارُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَالْوَجْهَانِ، يَعْنِي تَقْدِيرَهُ: لَا تَجْزِي فِيهِ وَلَا تَجْزِيهِ جَائِزَانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا يَكُونُ الْمَحْذُوفُ إِلَّا لهاء، قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: هَذَا رَجُلٌ قَصَدْتُ، وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَرْغَبُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ قَصَدْتُ إِلَيْهِ وَأَرْغَبُ فِيهِ، انْتَهَى. وَحَذْفُ الضَّمِيرِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً جَائِزٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
فَمَا أَدْرِي أَغَيْرُهُمْ تَنَاءَ ... وَطُولُ الْعَهْدِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا
يُرِيدُ: أَصَابُوهُ، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ تَعْيِينِ الرَّبْطِ أَنَّهُ فِيهِ، أَوِ الضَّمِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ يَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ رَابِطٌ، وَلَا تَكُونَ الْجُمْلَةُ صِفَةً، بَلْ مُضَافٌ إِلَيْهَا يَوْمَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا يَوْمًا يَوْمَ لَا تَجْزِي، فَحُذِفَ يَوْمُ لِدَلَالَةِ يَوْمًا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَحْذُوفُ فِي الْإِضَافَةِ نَظِيرُ الْمَلْفُوظِ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ «2» ، وَنَظِيرُ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ، لَا تَحْتَاجُ الْجُمْلَةُ إِلَى ضَمِيرٍ، وَيَكُونُ إِعْرَابُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ بَدَلًا، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا ... بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ
فِي رِوَايَةِ مَنْ خَفَضَ التَّقْدِيرُ أَعْظُمِ طَلْحَةَ. وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: يُعْجِبُنِي الْإِكْرَامُ عِنْدَكَ سَعْدٌ، بِنِيَّةِ: يُعْجِبُنِي الْإِكْرَامُ إِكْرَامُ سَعْدٍ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: أَطْعَمُونَا لَحْمًا سَمِينًا شَاةً ذَبَحُوهَا، أَيْ لَحْمَ شَاةٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ الْعِلْمَ الْكَبِيرَةَ سِنُّهُ، الدَّقِيقَ عَظْمُهُ، على تقديره: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْكَبِيرَةِ سِنُّهُ، فَحُذِفَ الثَّانِي اعْتِمَادًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُجِزِ الْبَصْرِيُّونَ مَا أَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَتَرْكِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى خَفْضِهِ فِي: يُعْجِبُنِي الْقِيَامُ زَيْدٍ، وَلَا يَبْعُدُ تَرْجِيحُ حَذْفِ يَوْمَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَسْمُوعِ الَّذِي حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ. وَيُحَسِّنُ هَذَا التَّخْرِيجَ كَوْنُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ جُمْلَةً، فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا إِعْرَابٌ، فَيَتَنَافَرُ مَعَ إِعْرَابِ مَا قَبْلَهُ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي نَثْرِهِمْ مَعَ التَّنَافُرِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ مَعَ عَدَمِ التَّنَافُرِ أَوْلَى. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 28.
(2) سورة المرسلات: 77/ 35.(1/307)
خَرَّجُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ هَذَا التَّخْرِيجَ، بَلْ هُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِيَوْمٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الرَّابِطِ أَيْضًا مِنَ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى لَا تَجْزِي، أَيْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فِيهِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فِيهِ، وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ فِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّخْرِيجِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ هَذِهِ الرَّوَابِطِ.
نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً كِلَاهُمَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ. وَمَعْنَى التَّنْكِيرِ: أَنَّ نَفْسًا مِنَ الْأَنْفُسِ لَا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ إِقْنَاطٌ كُلِّيٌّ قَاطِعٌ مِنَ الْمَطَامِعِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنْ لَا شَفَاعَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّقْدِيرُ عَنْ نَفْسٍ كَافِرَةٍ، فَقَيَّدَهَا بِالْكُفْرِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وَذَلِكَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو السِّرَارِ الْغَنَوِيُّ: لَا تَجْزِي نَسَمَةٌ عَنْ نَسَمَةٍ، وَانْتِصَابُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ لَا يَقْضِي شَيْئًا، أَيْ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَلَا تَجْزِي شَيْئًا مِنَ الْجَزَاءِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِلَّةِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ شَيْئًا مِنَ الضَّرْبِ.
وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: وَلَا تُقْبَلُ بِالتَّاءِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَالْأَكْثَرُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ فَصِيحٌ لِمَجَازِ التَّأْنِيثِ، وَحَسَّنَهُ أَيْضًا الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ. وَقَرَأَ سُفْيَانُ: وَلَا يَقْبَلُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَنَصْبِ شَفَاعَةً عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفِي ذَلِكَ الْتِفَاتٌ وَخُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ وأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ فِي اللَّفْظِ أَعَمُّ، وَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى نَفْسٍ الْمُتَأَخِّرَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَيْ لَا يَقْبَلُ مِنَ النَّفْسِ الْمُسْتَشْفِعَةِ شَفَاعَةَ شَافِعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى نَفْسٍ الْأُولَى، أَيْ وَلَا يَقْبَلُ مِنَ النَّفْسِ الَّتِي لَا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا شَفَاعَةً، هِيَ بِصَدَدِ أَنْ لَوْ شَفَعَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَقَدْ يَظْهَرُ تَرْجِيحُ عَوْدِهَا إِلَى النَّفْسِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ، وَالنَّفْسُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلَةِ لَا الْعُمْدَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ نَفْيُ الْقَبُولِ وَوُجُودِ الشَّفَاعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ نَفَى الْقَبُولَ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا شَفَاعَةَ، فَتُقْبَلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ(1/308)
الْمُفَسِّرُونَ فِي فَهْمِ هَذَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَالْمُرَادُ:
الَّذِينَ قَالُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ، وَأَبْنَاءُ أَنْبِيَائِهِ، وَأَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأُويِسُوا مِنْهُ لِكُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ النَّفْسُ الْأَوْلَى مُؤْمِنَةً، وَالثَّانِيَةُ كَافِرَةً، وَالْكَافِرُ لَا تَنْفَعُهُ شَفَاعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «1» . الثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا يَجِدُونَ شَفِيعًا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ، لِعَجْزِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ لَا يُجِيبُ الشَّافِعُ الْمَشْفُوعَ فِيهِ إِلَى الشَّفَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ شَفَعَ لَشُفِّعَ. الرَّابِعُ: مَعْنَاهُ حَيْثُ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِذَنٍ مِنَ اللَّهِ بِتَقَدُّمِ الشَّافِعِ بِالشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ»
، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «3» . الْخَامِسُ:
مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا شَفَاعَةٌ، فَيَكُونُ لَهَا قَبُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ نَفْيٌ عَامٌّ، أَيْ لَا يُقْبَلُ فِي غَيْرِهَا، لَا مُؤْمِنَةً وَلَا كَافِرَةً، فِي مُؤْمِنَةٍ وَلَا كَافِرَةٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَأَجْمَعُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ شَفَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ تُقْبَلُ فِي الْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: الْكَبِيرَةُ تُخَلِّدُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ، وَأَنْكَرُوا الشَّفَاعَةَ، وَهُمْ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
طَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الشَّفَاعَةَ إِنْكَارًا كُلِّيًّا وَقَالُوا: لَا تُقْبَلُ شَفَاعَةُ أَحَدٍ فِي أَحَدٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ، وَخَصَّ تِلْكَ الظَّوَاهِرَ أَصْحَابُنَا بِالْكُفَّارِ لِثُبُوتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الشَّفَاعَةِ.
وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا تُقْبَلُ فِي الصَّغَائِرِ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةً فِي الْآخِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا لِمَنْ تَكُونُ.
فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ الثَّوَابَ، وَتَأْثِيرُهَا فِي أَنْ تُحَصِّلَ زِيَادَةً مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى قَدْرِ مَا اسْتَحَقُّوهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَأْثِيرُهَا فِي إِسْقَاطِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ، إِمَّا بِأَنْ لَا يَدْخُلُوا النَّارَ، وَإِمَّا فِي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا بَعْدَ دُخُولِهَا ويدخلون الْجَنَّةَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْكُفَّارِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوًا مِنْ سِتِّ أَوْرَاقٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِلطَّائِفَتَيْنِ، وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ.
وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ الْعَدْلُ: الْفِدْيَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَسُمِّيتْ عَدْلًا لِأَنَّ الْمُفْدَى يُعْدَلُ بِهَا: أَيْ يُسَاوِيهَا، أَوِ الْبَدَلُ: أَيْ رَجُلٌ مَكَانَ رَجُلٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ حَسَنَةٌ مَعَ الشِّرْكِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: أَتَى بِالضَّمِيرِ مجموعا على معنى
__________
(1) سورة المدثر: 74/ 48.
(2) سورة سبأ: 34/ 23.
(3) سورة الأنبياء: 21/ 28.(1/309)
نَفْسٍ، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1» ، وَأَتَى بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالنُّفُوسِ الْأَشْخَاصُ كَقَوْلِهِمْ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ، وَجُعِلَ حَرْفُ النَّفْيِ مُنْسَحِبًا عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِيَكُونَ الضَّمِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ، فَيَتَأَكَّدُ ذِكْرُ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ النَّصْرُ بِذِكْرِهِ مَرَّتَيْنِ، وَحَسَّنَ الْحَمْلَ عَلَى الْمَعْنَى كَوْنُ ذَلِكَ فِي آخِرِ فَاصِلَةٍ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّنَاسُبُ فِي الْفَوَاصِلِ، بِخِلَافِ أَنْ لَوْ جَاءَ وَلَا تُنْصَرُ، إِذْ كَانَ يَفُوتُ التَّنَاسُبُ.
وَيَحْتَمِلُ رَفْعُ هَذَا الضَّمِيرِ وَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَغْمَضُ الْوَجْهَيْنِ وَأَغْرَبُهُمَا أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، يُفَسِّرُ فِعْلَهُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَا هِيَ مِنَ الْأَدَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى بِالْفِعْلِ، كَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. فَكَمَا يَجُوزُ فِي: أَزْيَدٌ قَائِمٌ، وَأَزْيَدٌ يَضْرِبُ، الرَّفْعُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً.
وَالْحُكْمُ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَتْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَعُطِف عَلَيْهَا بِشَرْطِ الْعَطْفِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، فَالْأَفْصَحُ الْحَمْلُ عَلَى الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى نَفْسٍ الثَّانِيَةِ بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، إِذْ لَوْ كَانَ عَائِدًا عَلَى نَفْسٍ الْأُولَى لَكَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَجْزِي. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي وَلَا هُمْ عَائِدًا عَلَى النَّفْسَيْنِ مَعًا، قَالَ: لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ قَالُوا، وَفِي مَعْنَى النَّصْرِ لِلْمُفَسِّرِينَ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. الثَّانِي: لَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ وَلَا شَافِعًا يَشْفَعُ لَهُمْ. الثَّالِثُ: لَا يُعَاوَنُونَ عَلَى خَلَاصِهِمْ وَفِكَاكِهِمْ مِنْ مُوبِقَاتِ أَعْمَالِهِمْ.
وَثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ هَذِهِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَجَاءَ النَّفْيُ لِهَذِهِ الْجُمَلِ هنا بلا الْمُسْتَعْمَلَةِ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْأَكْثَرِ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مُسْتَقْبَلَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ.
وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، وَهِيَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِحَقٍّ، إِمَّا أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ الْحَقُّ فَيَخْلُصُ، أَوْ لَا يُقْضَى عَنْهُ فَيُشْفَعُ فِيهِ، أَوْ لَا يُشْفَعُ فِيهِ فَيُفْدَى، أَوْ لَا يُفْدَى فَيُتَعَاوَنُ بِالْإِخْوَانِ عَلَى تَخْلِيصِهِ.
فَهَذِهِ مَرَاتِبٌ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا. فَلِهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، جَاءَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي الذِّكْرِ هَكَذَا.
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مُخْتَلِفًا عِنْدَ النَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْفِدْيَةِ، فَمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ قَدَّمَ الشَّفَاعَةَ عَلَى الْفِدْيَةِ، وَمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الْمَالِ قَدَّمَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّفَاعَةِ، جاءت هذه
__________
(1) سورة الحاقة: 69/ 47. [.....](1/310)
الْجُمَلُ هُنَا مُقَدَّمًا فِيهَا الشَّفَاعَةُ، وَجَاءَتِ الْفِدْيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى اختلاف الأمرين. وبدىء هُنَا بِالشَّفَاعَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِعُلُوِّ النَّفْسِ، وَجَاءَ هُنَا بِلَفْظِ الْقَبُولِ، وَهُنَاكَ بِلَفْظِ النَّفْعِ، إِشَارَةٌ إِلَى انْتِفَاءِ أَصْلِ الشَّيْءَ، وَانْتِفَاءِ ما يترتب عليه.
وبدىء هُنَا بِالْقَبُولِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِلشَّيْءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ، فَأَعْطَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرَ الْمُتَقَدَّمِ وُجُودًا، وَأَخَّرَ هُنَاكَ النَّفْعَ إِعْطَاءً لِلْمُتَأَخِّرِ ذِكْرَ الْمُتَأَخَّرِ وُجُودًا.
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ «1» . وَمَنْ أَجَازَ نَصْبَ إِذْ هُنَاكَ مَفْعُولًا بِهِ بإضمار اذكر أو ادّعى زِيَادَتَهَا، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ هُنَاكَ إِجَازَتُهُ هُنَا، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ تَعْطِفُهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِنِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ إِذْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَعْمُولِ اذْكُرُوا، كَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَتَفْضِيلِي إِيَّاكُمْ، وَوَقْتَ تَنْجِيَتِكُمْ وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ الَّتِي هِيَ: وَاتَّقُوا يَوْماً. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّا لَا نَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ بِاذْكُرْ، لَا ظَاهِرَةً وَلَا مُقَدَّرَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِيهَا، وَهِيَ عِنْدَنَا مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا بِإِضَافَةِ اسْمِ زَمَانٍ إِلَيْهَا عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، تَقْدِيرُهُ: وَأَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَتَقْدِيرُ هَذَا الْفِعْلِ أَوْلَى مَنْ كُلِّ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: أَنْجَيْنَاكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمٍ فِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ، لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَدُوِّهِمْ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ، أَوْ أَعْظَمُ النِّعَمِ، فَنَاسَبَ الْأَعْظَمَ نِسْبَتُهُ لِلْمُعَظِّمِ نفسه. وقرىء: بأنجيناكم، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ، كالتضعيف في نجيناكم. ونسبة هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِلنَّخَعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَرَأَ: أَنْجَيْتُكُمْ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ مُوَافِقًا لِلضَّمِيرِ فِي نِعْمَتِي، وَالْمَعْنَى: خَلَّصْتُكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَجَعَلَ التَّخْلِيصَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُبَاشِرُونَهُمْ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وَآلُ فِرْعَوْنَ هُنَا أَهْلُ مِصْرَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ أَهْلُ بَيْتِهِ خَاصَّةً، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، أَوْ أَتْبَاعُهُ عَلَى ذَنْبِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَمِنْهُ: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ «2» ، وَهُمْ أَتْبَاعُهُ عَلَى ذَنْبِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، وَلَا بِنْتٌ، وَلَا ابْنٌ، وَلَا عَمٌّ، وَلَا أَخٌ، وَلَا عَصَبَةٌ، وَأَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ آلُكَ؟ فَقَالَ: «كُلُّ تَقِيٍّ» .
وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي:
لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. وَالْمُرَادُ بِالْآلِ هُنَا: آلُ عَقِيلٍ، وَآلُ عباس، وآل
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 30.
(2) سورة البقرة: 2/ 50، وسورة الأنفال: 8/ 54.(1/311)
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهِمْ. وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّ آلَهُ: أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم آلٌ عَامٌّ وَآلٌ خَاصٌّ.
وَفِرْعَوْنُ: عَلَمٌ لِمَنْ مَلَكَ الْعَمَالِقَةَ، كَمَا قِيلَ: قَيْصَرُ لِمَنْ مَلَكَ الرُّومَ، وَكِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَتُبَّعٌ لِمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ اسْمٌ لِكُلَّ مَنْ مَلَكَ الْقِبْطَ وَمِصْرَ، وَقَدِ اشْتُقَّ مِنْهُ: تَفَرْعَنَ الرَّجُلُ، إِذَا تَجَبَّرَ وَعَتَا، وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ فُنْطُوسُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، أَوْ مُغِيثٌ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ قَابُوسُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُرَّةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِيَ عَمْلِيقَ بْنِ لَاوِذَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ، وَرُدَّ إِلَى مِصْرَ فَصَارَ بِهَا مَلِكًا، لَا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، قَالَهُ الْمَسْعُودِيُّ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: فِرْعَوْنُ مُوسَى هُوَ فِرْعَوْنُ يُوسُفَ، قَالُوا: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ بَيْنَ دُخُولِ يُوسُفَ مِصْرَ وَدُخُولِ مُوسَى أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ.
يَسُومُونَكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَهِيَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الحال: أي سَائِمِيكُمْ، وَهِيَ حَالٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. وسُوءَ الْعَذابِ: أَشَقُّهُ وَأَصْعَبُهُ وَانْتِصَابُهُ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُرَادِ بِيَسُومُونَكُمْ، وَفِيهِ لِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ:
السَّوْمُ: بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ أَوِ الْإِبْلَاءِ، فَيَكُونُ سُوءَ الْعَذَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِسَامَ، أَيْ يُكَلِّفُونَكُمْ، أَوْ يُوَلُّونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، أَوْ بِمَعْنَى: الْإِرْسَالِ، أَوِ الْإِدَامَةِ، أَوِ التَّصْرِيفِ، أَيْ: يُرْسِلُونَكُمْ، أَوْ يُدِيمُونَكُمْ، أَوْ يَصْرِفُونَكُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، أَوْ بِمَعْنَى الرَّفْعِ، أَيْ يَرْفَعُونَكُمْ إِلَى سُوءِ الْعَذَابِ، أَوِ الْوَسْمِ، أَيْ: يُعَلِّمُونَكُمْ مِنَ الْعَلَامَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ لِكَثْرَةِ مُزَاوَلَتِهَا تَصِيرُ عَلَيْهِمْ عَلَامَةً بِتَأْثِيرِهَا فِي جُلُودِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ، كَالْحِدَادَةِ وَالنِّجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ وَسْمًا لَهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: يُعَلِّمُونَكُمْ بِسُوءِ الْعَذَابِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَسِمُونَكُمْ، وَهَذَا التَّضْعِيفُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَسْمِ، وَهُوَ مِنَ السيمياء، والسيماء مسوّمين فِي أَحَدِ تَفَاسِيرِهِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَأُصُولُ هَذَا سِينٌ وَوَاوٌ وَمِيمٌ، وَهِيَ أُصُولُ يَسُومُونَكُمْ، وَيَكُونُ فَعَلَ الْمُجَرَّدُ بِمَعْنَى فَعِلَ، وَهُوَ مَعَ الْوَسْمِ مِمَّا اتَّفَقَ مَعْنَاهُ وَاخْتَلَفَتْ أُصُولُهُ: كَدَمِثَ، وَدَمْثَرَ، وَسَبِطَ، وَسَبْطَرَ، أَوْ بِمَعْنَى الطَّلَبِ بِالزِّيَادَةِ مِنَ السَّوْمِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ: يَطْلُبُونَكُمْ بِازْدِيَادِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ.(1/312)
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَكُونُ سُوءَ الْعَذابِ مَفْعُولًا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَنْتَصِبُ سُوءَ الْعَذَابِ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ قَدَّرَهُ سَوْمًا شَدِيدًا. وَسُوءُ الْعَذَابِ: الْأَعْمَالُ الْقَذِرَةُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوِ الْحَرْثُ وَالزِّرَاعَةُ وَالْبِنَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. قَالَ: وَكَانَ قَوْمُهُ جُنْدًا مُلُوكًا، أَوِ الذَّبْحُ، أَوْ الِاسْتِحْيَاءُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَرُدَّ ذَلِكَ بِثُبُوتِ الْوَاوِ فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: وَيُذَبِّحُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِالذَّبْحِ وَبِغَيْرِ الذَّبْحِ. وَحُكِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدَمًا فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الْبِنَاءِ وَالتَّخْرِيبِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَمَنْ لَا يَعْمَلُ فَالْجِزْيَةُ، فَذَوُو الْقُوَّةِ يَنْحِتُونَ السَّوَارِيَ مِنَ الْجِبَالِ حَتَّى قُرِّحَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَدُبِّرَتْ ظُهُورُهُمْ مِنْ قَطْعِهَا وَنَقْلِهَا، وَطَائِفَةٌ يَنْقُلُونَ لَهُ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ وَيَبْنُونَ لَهُ الْقُصُورَ، وَطَائِفَةٌ يَضْرِبُونَ اللَّبِنَ وَيَطْبُخُونَ الْآجُرَّ، وَطَائِفَةٌ نَجَّارُونَ وَحَدَّادُونَ، وَالضَّعَفَةُ جُعِلَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجُ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَهَا كُلَّ يَوْمٍ. فَمَنْ غَرُبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا غُلَّتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ شَهْرًا. وَالنِّسَاءُ يَغْزِلْنَ الْكَتَّانَ وَيَنْسِجْنَ. وَأَصْلُ نَشْأَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمِصْرَ نُزُولُ إِسْرَائِيلَ بِهَا زَمَانَ ابْنِهِ يُوسُفَ بها عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ أَوْلَى لِظُهُورِ تَكْرَارِ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: يَذْبَحُونَ خَفِيفًا مِنْ ذَبَحَ الْمُجَرَّدِ اكْتِفَاءً بِمُطْلَقِ الْفِعْلِ، وَلِلْعِلْمِ بِتَكْرِيرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: يُقَتِّلُونَ بِالتَّشْدِيدِ مَكَانَ يُذَبِّحُونَ، وَالذَّبْحُ قَتْلٌ، وَيُذَبِّحُونَ بَدَلٌ مَنْ يَسُومُونَكُمْ، بَدَلُ الْفِعْلِ مِنَ الفعل، نحو: قوله تعالى:
يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «1» ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَتَّى تَأْتِنَا تُلَمِّمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْعَطْفِ لِثُبُوتِهِ فِي إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ لِحَذْفِهَا هُنَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي حُذِفَتْ فِيهِ الْوَاوُ تَفْسِيرٌ لِصِفَاتِ الْعَذَابِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْوَاوُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ مَسَّهُمُ الْعَذَابُ، غَيْرُ الذَّبْحِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُذَبِّحُونَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، مِنَ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي: يَسُومُونَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأَنَفًا. وَفِي سَبَبِ الذَّبْحِ وَالِاسْتِحْيَاءِ أَقْوَالٌ وَحِكَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَمُعْظَمُهَا يَدُلُّ عَلَى خَوْفِ فِرْعَوْنَ مِنْ ذَهَابِ مُلْكِهِ عَلَى يَدِ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْأَبْنَاءُ:
الْأَطْفَالُ الذُّكُورُ، يُقَالُ: إِنَّهُ قَتَلَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَبْنَاءِ: الرّجال، وسموا
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 68 و 69.(1/313)
أَبْنَاءً بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا قَبْلُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَالنِّسَاءُ هُنَا: الْبَنَاتُ، وَسُمُّوا نِسَاءً بِاعْتِبَارٍ مَا يَؤُلْنَ إِلَيْهِ، أَوْ بِالِاسْمِ الَّذِي فِي وَقْتِهِ يُسْتَخْدَمْنَ وَيُمْتَهَنَّ، وَقِيلَ: أَرَادَ: النِّسَاءَ الْكِبَارَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ: وَفُسِّرَ الِاسْتِحْيَاءُ بِالْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا عِنْدَ كَلَامِنَا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَتْرُكُونَ بَنَاتَكُمْ أَحْيَاءً لِلْخِدْمَةِ، أَوْ يُفَتِّشُونَ أَرْحَامَ نِسَائِكُمْ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُهُ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِذَلِكَ، ذُكِرَ أَنَّهُ وَكَّلَ بِكُلِّ عَشْرِ نِسَاءٍ رَجُلًا يَحْفَظُ مَنْ تَحْمِلُ مِنْهُنَّ. وَقِيلَ: وَكَّلَ بِذَلِكَ الْقَوَابِلَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ هُنَا مِنَ الْحَيَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقِحَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ النِّسَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْهُ الْحَيَاءُ، وَقُدِّمَ الذَّبْحُ عَلَى الِاسْتِحْيَاءِ لِأَنَّهُ أَصْعَبُ الْأُمُورِ وَأَشَقُّهَا، وَهُوَ أَنْ يُذْبَحَ وَلَدُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ كَانَا يَرْجُوَانِ النَّسْلَ مِنْهُ، وَالذَّبْحُ أَشَقُّ الْآلَامِ. وَاسْتِحْيَاءُ النِّسَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِعَذَابٍ، لَكِنَّهُ يَقَعُ الْعَذَابُ بِسَبَبِهِ مِنْ جِهَةِ إِبْقَائِهِنَّ خَدَمًا وَإِذَاقَتِهِنَّ حَسْرَةَ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ، إِنْ أُرِيدَ بِالنِّسَاءِ الْكِبَارُ، أَوْ ذَبْحُ الْإِخْوَةِ، إِنْ أُرِيدَ الْأَطْفَالُ، وَتَعَلُّقُ الْعَارِ بِهِنَّ، إِذْ يَبْقَيْنَ نِسَاءً بِلَا رِجَالٍ فَيَصِرْنَ مُفْتَرَشَاتٍ لِأَعْدَائِهِنَّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْمُبَاشِرَ لَهُ شَرِيكَانِ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ الْآمِرُ، وَآلَهُ وَهُمُ الْمُبَاشِرُونَ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ «1» ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبَلَاءِ: الشِّدَّةُ وَالْمَكْرُوهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ يَسُومُونَكُمْ مَعَ مَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْبَلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى التَّنْجِيَةِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: نَجَّيْنَاكُمْ، فَيَكُونُ الْبَلَاءُ هُنَا: النِّعْمَةُ وَيَكُونُ ذَلِكُمْ قَدْ أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ وَالْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ هو الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهُمَا. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنَ الشَّيْطَانِ وَوَصْفُهُ بِعَظِيمٍ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكُمْ إِشَارَةً إِلَى التَّنْجِيَةِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَلَا يَخْفَى مَا في ذلك
__________
(1) سورة الشورى: 42/ 43.(1/314)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
مِنْ عِظَمِ النِّعْمَةِ وَكَثْرَةِ الْمِنَّةِ، وَإِنْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى مَا بَعْدَ التَّنْجِيَةِ مِنَ السَّوْمِ، أَوِ الذَّبْحِ، وَالِاسْتِحْيَاءِ، فَذَلِكَ ابْتِلَاءٌ عَظِيمٌ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ، يُقَالُ إِنَّهُ سَخَّرَهُمْ فَبَنَوْا سَبْعَةَ حَوَائِطَ جَائِعَةً أَكْبَادُهُمْ عَارِيَةً أَجْسَادُهُمْ، وَذَبَحَ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفِ صَبِيٍّ. فَأَيُّ ابْتِلَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَكَوْنُهُ عَظِيمًا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ اتِّصَافُهُ بِالِاسْتِعْظَامِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ صَبَرَ فِي اللَّهِ عَلَى بَلَاءِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ صُحْبَةَ أَوْلِيَائِهِ. هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ صَبَرُوا عَلَى مُقَاسَاةِ الضُّرِّ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ مُلُوكًا، وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، انْتَهَى. وَلَمْ تَزَلِ النِّعَمُ تَمْحُو آثَارَ النِّقَمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
نَأْسُوا بِأَمْوَالِنَا آثار رائدينا وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِذِكْرِ النِّعَمِ مُجْمَلَةً فِيمَا سَبَقَ، أَمَرَهُمْ بِذِكْرِهَا ثَانِيَةً مُفَصَّلَةً، فَبَدَأَ مِنْهَا بِالتَّفْضِيلِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ يَوْمٍ لَا خَلَاصَ فِيهِ، لَا بِقَاضٍ حَقٍّ، وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا فِدْيَةٍ، وَلَا نَصْرٍ، لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ نِعَمَهُ، وَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَجْتَنِبْ نَهْيَهُ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاتِّقَاءِ مُهِمًّا هُنَا، لِأَنَّ مَنْ أُخْبِرَ بِأَنَّهُ فُضِّلَ عَلَى الْعَالَمِينَ رُبَّمَا اسْتَنَامَ إِلَى هَذَا التَّفْضِيلِ، فَأُعْلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ التَّقْوَى وَعَدَمِ الِاتِّكَالِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَأَكَ بِسَوَابِقِ نِعَمِهِ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَّقِيَ لَوَاحِقَ نِقَمِهِ. ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الْإِنْجَاءِ الَّذِي بِهِ كَانَ سَبَبُ الْبَقَاءِ بَعْدَ شِدَّةِ اللَّأْوَاءِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ تَفَاصِيلَ النَّعْمَاءِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ «1» ، فَكَانَ تَعْدَادُ الْآلَاءِ مِمَّا يُوجِبُ جَمِيلَ الذِّكْرِ وَجَلِيلَ الثَّنَاءِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ النِّعَمِ، نِعْمَةً نِعْمَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
الْفَرْقُ: الْفَصْلُ، فَرَقَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا: فَصَلَ، وَفَرَّقَ كَذَا: فَصَلَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ: الْفَرْقُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ، وَالْفَرِيقُ، وَالْفُرْقَانُ، وَالتَّفَرُّقُ، وَالْفَرْقُ، الْمَفْرُوقُ،
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 61.(1/315)
كَالطَّحْنِ. وَالْفَرْقُ ضِدُّهُ: الْجَمْعُ، وَنَظَائِرُهُ: الْفَصْلُ، وَضِدُّهُ: الْوَصْلُ، وَالشِّقُّ وَالصَّدْعُ:
وَضِدُّهُمَا اللَّأْمُ، وَالتَّمْيِيزُ: وَضِدُّهُ الِاخْتِلَاطُ. وَقِيلَ: يُقَالُ فَرَقَ فِي الْمَعَانِي، وَفَرَّقَ فِي الْأَجْسَامِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. الْبَحْرُ: مَكَانٌ مُطَمْئِنٌّ مِنَ الْأَرْضِ يَجْمَعُ الْمِيَاهَ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَبْحُرٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى بُحُورٍ وَبِحَارٍ، وَأَصْلُهُ قِيلَ: الشِّقُّ، وَقِيلَ: السَّعَةُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ:
الْبَحِيرَةُ، وَهِيَ الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَمِنَ الثَّانِي: الْبُحَيْرَةُ، الْمَدِينَةُ الْمُتَّسِعَةُ، وَفَرَسٌ بَحْرٌ:
وَاسْعُ الْعَدْوِ، وَتَبَحَّرَ فِي الْعِلْمِ: أَيِ اتَّسَعَ، وَقَالَ:
انْعِقْ بِضَأْنِكَ فِي بَقْلٍ تُبَحِّرُهُ ... مِنَ الْأَبَاطِحِ وأحبسها بخلدان
وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ الْحُلْوِ وَالْمَاءِ الْمِلْحِ، قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ «1» ، وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْمِلْحِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْأَصْلُ، فِيهِ أَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى:
وَقَدْ عَادَ عَذْبُ الْمَاءِ بَحْرًا فَزَادَنِي ... عَلَى مَرَضٍ أَنْ أَبْحَرَ الْمَشْرَبُ الْعَذْبُ
أَيْ صَارَ مِلْحًا. الْغَرَقُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَفْعَلُ بِالْفَتْحِ، قَالَ:
وَتَارَاتٍ يَجِمُّ فَيَغْرَقُ وَالتَّغْرِيقُ، وَالتَّعْوِيصُ، وَالتَّرْسِيبُ، وَالتَّغْيِيبُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. النَّظَرُ: تَصْوِيبُ الْمُقْلَةِ إلى المرثيّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى، وَيُعَلَّقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا، وَنَظَرَهُ وَانْتَظَرَهُ وَأَنْظَرَهُ: أَخَّرَهُ، وَالنَّظِرَةُ: التَّأْخِيرُ. وَعَدَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْوَعْدُ فِي الْخَيْرِ، وَأَوْعَدَ فِي الشَّرِّ، وَالْإِيعَادُ وَالْوَعِيدُ فِي الشَّرِّ. مُوسَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. يُقَالُ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ مُو: وهو الماء، وشاو: هو الشَّجَرُ. فَلَمَّا عُرِّبَ أَبْدَلُوا شِينَهُ سِينًا، وَإِذَا كَانَ أَعْجَمِيًّا فَلَا يَدْخُلُهُ اشْتِقَاقٌ عَرَبِيٌّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ، فَقَالَ مَكِّيٌّ: مُوسَى مُفْعَلٌ مَنْ أَوْسَيْتُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَاسَ يَمِيسُ، وَوَزْنُهُ: فُعْلًى، فأبدلت الياء واو الضمة مَا قَبْلَهَا، كَمَا قَالُوا: طُوبَى، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، لِأَنَّهَا مِنْ طَابَ يَطِيبُ. وَكَوْنُ وَزْنِهُ فُعْلًى هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْرِبِينَ. وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ وَزْنَ مُوسَى مُفْعَلٌ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَنْصَرِفُ. وَاحْتَجَّ سِيبَوَيْهِ فِي الْأَبْنِيَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ زِيَادَةَ الْمِيمِ أَوَّلًا أَكْثَرُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَلِفِ آخِرًا، وَاحْتَجَّ الْفَارِسِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُفْعَلًا لَا فُعْلًى، بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صَرْفِهِ نَكِرَةً، وَلَوْ كَانَ فُعْلًى لَمْ يَنْصَرِفْ نَكِرَةً لِأَنَّ الْأَلِفَ كَانَتْ تَكُونُ لِلتَّأْنِيثِ، وألف
__________
(1) سورة فاطر: 35/ 12.(1/316)
التَّأْنِيثِ وَحْدَهَا تَمْنَعُ الصَّرْفَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ. الْأَرْبَعُونَ: لَيْسَ بِجَمْعِ سَلَامَةٍ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ الَّذِي هُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَمَدْلُولُهُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ أُعْرِبَ إِعْرَابَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.
اللَّيْلَةُ: مَدْلُولُهَا مَعْرُوفٌ، وَتُكْسَرُ شَاذًّا عَلَى فَعَالِى، فَيُقَالُ: اللَّيَالِي، وَنَظِيرُهُ: الْكَيْكَةَ وَالْكَيَاكِي، كَأَنَّهُ جَمْعُ لَيْلَاهُ وَكَيْكَاهُ، وَأَهْلٍ وَالْأَهَالِي. وَقَدْ شَذُّوا فِي التَّصْغِيرِ كَمَا شَذُّوا فِي التَّكْسِيرِ، قَالُوا: لُيَيْلَةٌ. الِاتِّخَاذُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُبْدَلَ الْهَمْزَةُ إِلَّا يَاءً، فَتَقُولُ: إِيتَخَذَ كَهَمْزَةِ إِيمَانٍ إذ أصله: إئمان، وَكَقَوْلِهِمْ: ائْتَزَرَ: افْتَعَلَ مِنَ الْإِزَارِ، فَمَتَّى كَانَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ وَاوًا أَوْ يَاءً، وَبُنِيَتِ افْتَعَلَ مِنْهَا، فَاللُّغَةُ الْفُصْحَى إِبْدَالُهَا تَاءً وَإِدْغَامُهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ، فَتَقُولُ: اتَّصَلَ وَاتَّسَرَ مِنَ الْوَصْلِ وَالْيُسْرِ، فَإِنْ كَانَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ هَمْزَةً، وَبَنَيْتَ افْتَعَلَ، أَبْدَلْتَ تِلْكَ الْهَمْزَةَ يَاءً وَأَقْرَرْتَهَا. هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ تُبْدَلُ هَذِهِ الْيَاءُ تَاءً فَتُدْغَمُ، قَالُوا: اتَّمَنَ، وَأَصْلُهُ: ائْتَمَنَ. وَعَلَى هَذَا جَاءَ: اتَّخَذَ. وَمِمَّا عَلِقَ بِذِهْنِي مِنْ فَوَائِدِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بن أَبِي نَصْرٍ الْحَلَبِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ النَّحَّاسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ كَانَ الْمُشْتَهِرَ بِعِلْمِ النَّحْوِ فِي دِيَارِ مِصْرَ: أَنَّ اتَّخَذَ مِمَّا أُبْدِلَ فِيهِ الْوَاوُ تَاءً عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى، لِأَنَّ فِيهِ لُغَةً أَنَّهُ يُقَالُ: وَخَذَ بِالْوَاوِ، فَجَاءَ هَذَا عَلَى الْأَصْلِ فِي الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ اتَّمَنَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُغْرِبُ بِنَقْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْفَارِسِيُّ مَسْأَلَةَ اتَّخَذَ عَلَى أَنَّ التاء الأولى أصلية، إذ قُلْتَ: قَالَتِ الْعَرَبُ تَخِذَ بِكَسْرِ الْخَاءِ، بِمَعْنَى: أَخَذَ، قال: تعالى:
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً «1» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ، وَأَنْشَدَ الْفَارِسِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إِلَى جَنْبِ غَرْزِهَا ... نَسِيفًا كَأُفْحُوصِ الْقَطَاةِ الْمُطَوَّقِ
فَعَلَى قَوْلِهِ: التَّاءُ أَصْلٌ، وَبَنَيْتَ مِنْهُ افْتَعَلَ، فَقُلْتَ: اتَّخَذَ، كَمَا تَقُولُ: اتَّبَعَ، مَبْنِيًّا مِنْ تَبِعَ، وَقَدْ نَازَعَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ فِي تَخِذَ، فَزَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ: اتَّخَذَ، وَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ اتَّقَى، فَقَالُوا: تَقَيَ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: تَخِذَ بِفَتْحِ التَّاءِ مُخَفَّفَةً، كَمَا قَالُوا: يَتَّقِي وَيَتَّسِعُ بِحَذْفِ التَّاءِ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ فَاءِ الْكَلِمَةِ. وَرَدَّ السِّيرَافِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ مَحْذُوفًا مِنْهُ مَا كُسِرَتِ الْخَاءُ، بَلْ كَانَتْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً، كَقَافِ تَقَيَ، وَأَمَّا يَتَّخِذُ فَمَحْذُوفٌ مِثْلَ: يَتَّسِعُ، حُذِفَ مِنَ الْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي، وَتَخِذَ بِنَاءٌ أَصْلِيٌّ، انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
__________
(1) سورة الكهف: 18/ 77.(1/317)
الْفَارِسِيُّ وَالسِّيرَافِيُّ مِنْ أَنَّهُ بِنَاءٌ أَصْلِيٌّ عَلَى حَدِّهِ هُوَ الصَّحِيحُ، بِدَلِيلِ مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ وَهُوَ:
تَخِذَ يَتْخَذُ تَخْذًا، قَالَ الشاعر:
ولا تكثرن اتخذ العشار فإنها ... تريد مباآت فَسِيحًا بِنَاؤُهَا
وَذَكَرَ الَمَهْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَنَّ الْأَصْلَ وَاوٌ مُبْدَلَةٌ مِنْ هَمْزَةٍ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي التَّاءِ، فَصَارَ فِي اتَّخَذَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: التَّاءُ الْأُولَى أَصْلٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ أَصْلِيَّةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ تَاءٍ أُبْدِلَتْ مِنْ هَمْزَةٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ أُبْدِلَتْ مِنْ هَمْزَةٍ، وَاتَّخَذَ تَارَةً يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذَتْ بَيْتاً «1» ، وَتَارَةً لِاثْنَيْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «2» : بِمَعْنَى صَيَّرَ. الْعِجْلُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ وَلَدُ الْبَقَرَةِ الصَّغِيرُ الذَّكَرُ. بَعْدَ: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَأَصْلُهُ الْوَصْفُ، كَقَبْلَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ إِذَا قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَيُعْرَبُ بِحَرَكَتَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ: جِئْتُ بَعْدَ زَيْدٍ، فَالتَّقْدِيرُ: جِئْتُ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانِ مَجِيءِ زَيْدٍ، وَلَا يُحْفَظُ جَرُّهُ إِلَّا بِمِنْ وَحْدَهَا.
عَفَا: بِمَعْنَى كَثُرَ، فَلَا يَتَعَدَّى حَتَّى عَفَوْا، وَقَالُوا: وَبِمَعْنَى دَرَسَ، فَيَكُونُ لَازِمًا مُتَعَدِّيًا نَحْوَ:
عَفَتِ الدِّيَارُ، وَنَحْوَ: عَفَاهَا الريح، وعفى عَنْ زَيْدٍ: لَمْ يُؤَاخِذْهُ بِجَرِيمَتِهِ، وَاعْفُوا عَنِ اللِّحَى، أَيِ اتْرُكُوهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَرَجُلٌ عَفُوٌّ، وَالْجَمْعُ عُفْوٌ عَلَى فُعْلٍ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ، وَالْعِفَاءُ: الشَّعَرُ الْكَثِيرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عِفَاءٌ وَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الشَّخْصِ: عَلَيْهِ الْعَفَاءُ، قَالَ:
عَلَى آثَارِ مَنْ ذَهَبَ الْعَفَاءُ يُرِيدُ الدُّرُوسَ، وَتَأْتِي عَفَا: بِمَعْنَى سَهُلَ مِنْ قَوْلِهِمْ: خُذْ مَا عَفَا وَصَفَا، وَأَخَذْتُ عَفْوَهُ: أَيْ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ، مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «3» : أَيِ الْفَضْلَ الَّذِي يَسْهُلُ إِعْطَاؤُهُ، وَمِنْهُ: خُذِ العفو، وأي السَّهْلَ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَالْعَافِيَةُ: الْحَالَةُ السَّهْلَةُ السَّمْحَةُ.
الشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَى إِسْدَاءِ النِّعَمِ، وَفِعْلُهُ: شَكَرَ يَشْكُرُ شُكْرًا وَشُكُورًا، وَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَهُوَ قِسْمٌ بِرَأْسِهِ، تَارَةً يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ استحالة ذلك. وكان
__________
(1) سورة العنكبوت: 29/ 41.
(2) سورة الجاثية: 45/ 23.
(3) سورة البقرة: 2/ 219.(1/318)
شَيْخُنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ شَكَرَ أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، ثُمَّ أُسْقِطَ اتِّسَاعًا. وَقِيلَ: الشُّكْرُ: إِظْهَارُ النِّعْمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَكَرَتِ الرَّمْكَةُ مُهْرَهَا إِذَا أَظْهَرَتْهُ، وَالشَّكِيرُ: صِغَارُ الْوَرَقِ يَظْهَرُ مِنْ أَثَرِ الْمَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَيْنَا الْفَتَى يَهْتَزُّ لِلْعَيْشِ نَاضِرًا ... كَعُسْلُوجَةٍ يَهْتَزُّ مِنْهَا شَكِيرُهَا
وَأَوَّلُ الشَّيْبِ، قَالَ الرَّاجِزُ:
أَلَانَ ادِّلَاجٌ بِكَ الْعَتِيرُ ... وَالرَّأْسُ إِذْ صَارَ لَهُ شَكِيرُ
وناقة شكور تذر أَكْثَرَ مِمَّا رَعَتْ الْفُرْقَانُ: مَصْدَرُ فَرَّقَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَرَقَ.
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ: مَعْطُوفٌ عَلَى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ الْعَامِلُ فِي إِذْ تِلْكَ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: فَرَّقْنَا بِالتَّشْدِيدِ، وَيُفِيدُ التَّكْثِيرُ لِأَنَّ الْمَسَالِكَ كَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ مَسْلَكًا عَلَى عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمَنْ قَرَأَ: فَرَقْنَا مُجَرَّدًا، اكْتَفَى بِالْمُطْلَقِ، وَفُهِمَ التَّكْثِيرُ مِنْ تَعْدَادِ الْأَسْبَاطِ. بِكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِفَرَقْنَا، وَالْبَاءُ مَعْنَاهَا: السَّبَبُ، أَيْ بِسَبَبِ دُخُولِكُمْ، أَوِ الْمُصَاحَبَةِ: أَيْ مُلْتَبِسًا، كَمَا قَالَ:
تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبَا أَيْ مُلْتَبِسَةً بِنَا، أَوْ: أَيْ جَعَلْنَاهُ فَرْقًا بِكُمْ كَمَا يُفْرَقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ، أَوْ مَعْنَاهَا اللَّامُ، أَيْ فَرَقْنَا لَكُمُ الْبَحْرَ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، وَمَعْنَاهَا رَاجِعٌ لِلسَّبَبِ. وَيَحْتَمِلُ الْفَرْقُ أَنْ يَكُونَ عَرْضًا مِنْ ضَفَّةٍ إِلَى ضَفَّةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طُولًا، وَنُقِلَ كُلٌّ: وَعَلَى هَذَا الثَّانِي قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ بِقُرْبٍ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاةِ، وَلَا يُلْحَقُ فِي الْبِرِّ إِلَّا فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ بِسَبَبِ جِبَالٍ وَأَوْعَارٍ حَائِلَةٍ. وَذَكَرَ الْعَامِرِيُّ: أَنَّ مَوْضِعَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ بَرِيَّةِ فَلَسْطِينَ، وَهِيَ كَانَتْ طَرِيقَهُمْ. الْبَحْرُ: قِيلَ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ مِنْ بِحَارِ فَارِسَ، وَكَانَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ أَرْبَعَةُ فراسخ، وقيل: بَحْرٍ مِنْ بِحَارِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ أَسَافُ، وَيُعْرَفُ الْآنَ بِبَحْرِ الْقُلْزُمِ، قِيلَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنْ فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ بِعَدَدِ الْأَسْبَاطِ، اثَّنَي عَشَرَ مَسْلَكًا. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْمَفْرُوقِ بِهِمْ، وَعَدَدِ آلِ فِرْعَوْنَ، عَلَى أَقْوَالٍ يُضَادُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَحَكَوْا فِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَعَنُّتِهِمْ وَهُمْ فِي الْبَحْرِ مُقْتَحِمُونَ، وَفِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِ فِرْعَوْنَ بِجُنُودِهِ، حِكَايَاتٍ مُطَوَّلَةٍ جِدًّا لَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَيْهَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا.(1/319)
فَأَنْجَيْناكُمْ: يَعْنِي مِنَ الْغَرَقِ، وَمِنْ إِدْرَاكِ فِرْعَوْنَ لَكُمْ وَالْيَوْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفَرْقُ وَالنَّجَاةُ وَالْغَرَقُ كَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ؟ وَاسْتَطْرَدُوا إِلَى الْكَلَامِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَفِي صَوْمِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي الْفِقْهِ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَنْجَيْناكُمْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ وَتَبِعَكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فِي تَقَحُّمِهِ فَأَنْجَيْنَاكُمْ. وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَالْهَمْزَةُ فِي أَغْرَقْنَا لِلتَّعْدِيَةِ، وَيُعَدَّى أَيْضًا بِالتَّضْعِيفِ.
وَلَمْ يُذْكَرْ فِرْعَوْنُ فِيمَنْ غَرَقَ، لِأَنَّ وُجُودَهُ مَعَهُمْ مُسْتَقِرٌّ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْآلِ هُنَا، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، وَنَسَبَ تِلْكَ الصِّفَةَ الْقَبِيحَةَ إِلَيْهِمْ مَنْ سَوْمِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَذَابَ، وَذَبْحِهِمْ أَبْنَاءَهُمْ، وَاسْتِحْيَائِهِمْ نِسَاءَهُمْ، فَنَاسَبَ هَذَا إِفْرَادَهُمْ بِالْغَرَقِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى غَرَقَ فِرْعَوْنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مِنْهَا: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «1» ، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ «2» ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «3» . وَنَاسَبَ نَجَاتُهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ بِإِلْقَائِهِمْ فِي الْبَحْرِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهُ سَالِمِينَ، نَجَاةَ نَبِيِّهِمْ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الذَّبْحِ، بِإِلْقَائِهِ وَهُوَ طِفْلٌ فِي الْبَحْرِ، وَخُرُوجِهِ مِنْهُ سَالِمًا. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ نَصِيبٌ مِنْ نَبِيِّهَا. وَنَاسَبَ هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِالْغَرَقِ، هَلَاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِالذَّبْحِ، لِأَنَّ الذَّبْحَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْمَوْتِ بِإِنْهَارِ الدَّمِ، وَالْغَرَقُ فِيهِ إِبْطَاءُ الْمَوْتِ، وَلَا دَمَ خَارِجٌ، وَكَانَ مَا بِهِ الْحَيَاةُ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «4» سَبَبًا لِإِعْدَامِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ. وَلَمَّا كَانَ الْغَرَقُ مِنْ أَعْسَرِ الْمَوْتَاتِ وَأَعْظَمِهَا شِدَّةً، جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَكَالًا لِمَنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «5» ، إِذْ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ يَكُونُ الْعِقَابُ، وَيُنَاسِبُ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالِاعْتِلَاءِ انْحِطَاطُ الْمُدَّعِي وَتَغْيِيبُهُ فِي قَعْرِ الْمَاءِ.
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ مِنَ النَّظَرِ: بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ. وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ الْعَظِيمَةَ مِنْ فَرْقِ الْبَحْرِ بِكُمْ، وَإِنْجَائِكُمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَمِنْ أَعْدَائِكُمْ، وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِكُمْ بِالْغَرَقِ، وَقَعَ وَأَنْتُمْ تُعَايِنُونَ ذَلِكَ وَتُشَاهِدُونَهُ، لَمْ يَصِلْ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ بِنَقْلٍ، بَلْ بِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَدِ النَّبِيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ لِقُرْبِ بَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: إِلَى طَفْوِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ غَرْقَى. وَقِيلَ: إِلَيْهِمْ وَقَدْ لَفِظَهُمُ الْبَحْرُ وَهُمُ الْعَدَدُ الَّذِي لَا يَكَادُ
__________
(1) سورة القصص: 28/ 40، وسورة الذاريات: 51/ 40.
(2) سورة يونس: 10/ 90.
(3) سورة طه: 20/ 78.
(4) سورة الأنبياء: 21/ 30. [.....]
(5) سورة النازعات: 79/ 24.(1/320)
يَنْحَصِرُ، لَمْ يَتْرُكِ الْبَحْرُ فِي جَوْفِهِ مِنْهُمْ وَاحِدًا. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ أَيْ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّ بَعْضَ قَوْمِ مُوسَى قَالُوا لَهُ: أَيْنَ أَصْحَابُنَا؟ فَقَالَ:
سِيرُوا، فَإِنَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِ طَرِيقِكُمْ، قَالُوا: لَا نَرْضَى حَتَّى نَرَاهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قُلْ بِعَصَاكَ هَكَذَا، فَقَالَ بِهَا عَلَى الْحِيطَانِ، فَصَارَ بِهَا كُوًى، فَتَرَاءَوْا وَتَسَامَعُوا كَلَامَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ النَّظَرُ فِيهَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ: النَّظَرُ تَجَوَّزَ بِهِ عَنِ الْقُرْبِ، أَيْ وَأَنْتُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، أَيْ بِحَالٍ لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَيْهِمْ لَرَأَيْتُمُوهُمْ كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ مِنِّي بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ، أَيْ قَرِيبٌ بِحَيْثُ أَرَاكَ وَأَسْمَعُكَ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ نَظَرِ الْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ، وَمَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ بِمَصْرَعِهِمْ وَتَتَّعِظُونَ بِمَوَاقِعِ النِّقْمَةِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: النَّظَرُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ عَنِ النَّظَرِ، فَكَنَى بِهِ عَنْهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاعَدْنَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: وَعَدْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ هُنَا، وَفِي الْأَعْرَافِ وَطَهَ، وَيَحْتَمِلُ وَاعَدْنَا، أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى وَعَدْنَا، وَيَكُونُ صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ، ويحتمل أن يكون من اثْنَيْنِ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاعَلَةِ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ وَعَدَ مُوسَى الْوَحْيَ، وَيَكُونُ مُوسَى وَعَدَ اللَّهَ الْمَجِيءَ لِلْمِيقَاتِ، أَوْ يَكُونُ الْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ وَقَبُولُهُ كَانَ مِنْ مُوسَى، وَقَبُولُ الْوَعْدِ يُشْبِهُ الْوَعْدَ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْآدَمِيُّ يَعِدُ اللَّهَ بِمَعْنَى يُعَاهِدُهُ.
وَقِيلَ: وَعَدَ إِذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَوَاعَدَ إِذَا كَانَ عَنْ طَلَبٍ. وَقَدْ رَجَّحَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: وَعَدْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: وَاعَدْنَا بِالْأَلِفِ، وافقه عَلَى مَعْنَى مَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَمَكِّيٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُوَاعَدَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَكْثَرُ مَا تَكُونُ الْمُوَاعَدَةُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الْمُتَكَافِئِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعِدُ صَاحِبَهُ، وَقَدْ مَرَّ تَخْرِيجُ وَاعَدَ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ السَّابِقَةِ، وَلَا وَجْهَ لِتَرْجِيحِ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَوَاتِرٌ، فَهُمَا فِي الصِّحَّةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِأَلِفٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَنَافِعٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ. مُوسَى: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بن لاوي بن يعقوب بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ. وَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَبُو الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِوَّانِيُّ النَّسَّابَةُ: أَنَّ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ: مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بن قَاهِثَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظِ مُوسَى الْعَلَمِ. وَأَمَّا مُوسَى الْحَدِيدَةُ، الَّتِي يُحْلَقُ بِهَا الشَّعَرُ، فَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ عَرَبِيَّةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ: أَسَوْتُ الشَّيْءَ، إِذَا أَصْلَحْتَهُ، وَوَزْنُهَا مُفْعَلٌ، وَأَصْلُهَا الْهَمْزُ، وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ: أَوْسَيْتُ إِذَا حَلَقْتُ، وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ أَشْبَهُ بِهَا، وَلَا أَصْلَ لِلْوَاوِ فِي الْهَمْزِ عَلَى هَذَا. أَرْبَعِينَ لَيْلَةً: ذُو(1/321)
الْحِجَّةِ وَعَشْرٌ مِنَ الْمُحَرَّمِ، أَوْ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِكَسْرِ بَاءِ أَرْبِعِينَ شَاذًّا اتِّبَاعًا، وَنُصِبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَاعَدْنَا، عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمَوْعُودَةُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ تَمَامَ، أَوِ انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ إِعْرَابَهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، فَيَكُونُ مِثْلَ قوله:
فواعديه سر حتى مَالِكِ ... أَوِ النَّقَا بَيْنَهُمَا أسهلا
أي إتيان سر حتى مَالِكٍ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ أَرْبَعِينَ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مَعْدُودٌ، فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْعَامِلِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالْمُوَاعَدَةُ لَمْ تَقَعْ كَذَلِكَ. وَلَيْلَةً: مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ الْجَائِي بَعْدَ تَمَامِ الِاسْمِ، وَالْعَامِلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّمْيِيزِ اسْمُ الْعَدَدِ قَبْلَهُ شَبَّهَ أَرْبَعِينَ بِضَارِبِينَ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّمْيِيزِ عَلَى اسْمِ الْعَدَدِ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالْمَجْرُورِ إِلَّا ضَرُورَةً، نَحْوَ:
على أنني بعد ما قَدْ مَضَى ... ثَلَاثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلًا كَمِيلَا
وَعِشْرِينَ مِنْهَا أُصْبُعًا مِنْ وَرَائِنَا وَلَا تَعْرِيفَ لِلتَّمْيِيزِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الطَّرَاوَةِ. وَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدِ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَا فَعَلَتِ الْعِشْرُونَ الدِّرْهَمَ، وَمَا جَاءَ نَحْوَ: هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّعْرِيفِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَكَانَ تَفْسِيرُ الْأَرْبَعِينَ بِلَيْلَةٍ دُونَ يَوْمٍ، لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ لَيْلَةُ الْهِلَالِ، وَلِهَذَا أُرِّخَ بِاللَّيَالِي، وَاعْتِمَادُ الْعَرَبِ عَلَى الْأَهِلَّةِ، فَصَارَتِ الْأَيَّامُ تَبَعًا لِلَّيَالِي، أَوْ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ أَقْدَمُ مِنَ الضَّوْءِ بِدَلِيلِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» ، أَوْ دَلَالَةً عَلَى مُوَاصَلَتِهِ الصَّوْمَ لَيْلًا وَنَهَارًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّفْسِيرُ بِالْيَوْمِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا نَصَّ عَلَى اللَّيَالِي اقْتَضَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ وَاصَلَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِأَيَّامِهَا. وَهَذِهِ الْمُوَاعَدَةُ لِلتَّكَلُّمِ، أَوْ لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جَاوَزَ الْبَحْرَ، وَسَأَلَهُ قَوْمُهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ إِلَى الطُّورِ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَعِدَ الْجَبَلَ وَوَاعَدَهُمْ إِلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَعَدُوا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ عِشْرِينَ يَوْمًا وَعَشَرَةَ لَيَالٍ، فَقَالُوا: قَدْ أَخْلَفَنَا مَوْعِدَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِصْرَ، بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، وَعَدَ اللَّهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةَ، وَضَرَبَ لَهُ مِيقَاتًا، انتهى.
__________
(1) سورة يس: 36/ 37.(1/322)
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ: الْجُمْهُورُ عَلَى إِدْغَامِ الذَّالِ فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ مِنَ السَّبْعَةِ: بِالْإِظْهَارِ، وَيَحْتَمِلُ اتَّخَذَ هُنَا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً لِوَاحِدٍ، أَيْ صَنَعْتُمْ عِجْلًا، كَمَا قَالَ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ «1» ، عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَتَقْدِيرُهَا:
وَعَبَدْتُمُوهُ إِلَهًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، وَالْأَرْجَحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، إِذْ لَوْ كَانَ مِمَّا يَتَعَدَّى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِاثْنَيْنِ لَصَرَّحَ بِالثَّانِي، وَلَوْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ إِلَى اثْنَيْنِ بَلْ إِلَى وَاحِدٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى، وَفِي: اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ «2» ، وَفِي: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ «3» ، وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا:
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ «4» ، لَكِنَّهُ يُرَجَّحُ الْقَوْلُ الثَّانِي لِاسْتِلْزَامِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَذْفَ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الثَّانِي إِلَّا حَذْفَ الْمَفْعُولِ، وَحَذْفُ الْمُفْرَدِ أَسْهَلُ مِنْ حَذْفِ الْجُمْلَةِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيهِ ذَمُّ الْجَمَاعَةِ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الَّذِي عَمِلَ الْعِجْلَ هُوَ السَّامِرِيُّ، وَسَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، الْكَلَامُ فِيهِ وَفِي اسْمِهِ وَحِكَايَةِ إِضْلَالِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «5» ، وَذَلِكَ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ الْقَبِيلَةَ بِمَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِيهِ ذَمُّهُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعِجْلِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَهْدٌ فِيهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لِلْعَهْدِ السَّابِقِ، إِذْ كَانُوا قَدْ صَنَعُوا عِجْلًا ثُمَّ اتَّخَذُوا ذَلِكَ الْعِجْلَ إِلَهًا، وَكَوْنُهُ عِجْلًا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا، فَيَكُونُ عِجْلًا حَقِيقَةً وَيَكُونُ نِسْبَةُ الْخُوَارِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ:
هُوَ مَجَازٌ، أَيْ عِجْلًا فِي الصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، لِأَنَّ السَّامِرِيَّ صَاغَهُ عَلَى شَكْلِ الْعِجْلِ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرُوا صَائِغًا، وَيَكُونُ نِسْبَةُ الْخُوَارِ إِلَيْهِ مَجَازًا، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا ذُهِبَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعِجْلِ أَنَّهُ سُمِّيَ عِجْلًا لِأَنَّهُمْ عَجَّلُوا بِهِ قَبْلَ قُدُومِ مُوسَى، فَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ سُمِّي هَذَا عِجْلًا، لِقِصَرِ مُدَّتِهِ.
مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ: تُفِيدُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ، وَيَتَعَارَضُ مَدْلُولُهَا مَعَ مَدْلُولِ ثُمَّ، لِأَنَّ ثُمَّ
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 148.
(2) سورة الأعراف: 7/ 148.
(3) سورة الأعراف: 7/ 152.
(4) سورة البقرة: 2/ 54.
(5) سورة طه: 20/ 85.(1/323)
تَقْتَضِي وُقُوعَ الِاتِّخَاذِ بَعْدَ مهلة من المواعدة، ومن تَقْتَضِي ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ فِي التَّعْدِيَةِ الَّتِي تَلِي الْمُوَاعَدَةَ، إِذِ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مُوسَى، وَلَا تُتَصَوَّرُ التَّعْدِيَةُ فِي الذَّاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ، وَأَقْرَبُ مَا يُحْذَفُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ وَاعَدْنَا، أَيْ مِنْ بَعْدِ مُوَاعَدَتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَجَازِ فِي أَحَدِ الْحَرْفَيْنِ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ مَحْذُوفٌ غَيْرُ الْمُوَاعَدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنْ بَعْدِ ذَهَابِهِ إِلَى الطُّورِ، فَيَزُولُ التَّعَارُضُ، إِذِ الْمُهْلَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ وَالِاتِّخَاذِ. وَيُبَيِّنُ الْمُهْلَةَ قِصَّةُ الْأَعْرَافِ، إِذْ بَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ وَالِاتِّخَاذِ هُنَاكَ جُمَلٌ كَثِيرَةٌ، وَابْتِدَاءُ الْغَايَةِ يَكُونُ عَقِيبَ الذَّهَابِ إِلَى الطُّورِ، فَلَمْ تَتَوَارَدِ الْمُهْلَةُ وَالِابْتِدَاءُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَزَالَ التَّعَارُضُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَعْدِهِ يَعُودُ عَلَى الذَّهَابِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ الذَّهَابِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ تَقْتَضِي الذَّهَابَ، فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، بَلْ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» ، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «2» أَيْ تَوَارَتِ الشَّمْسُ، إِذْ يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: بِالْعَشِيِّ، وَأَيْ فَأَثَرْنَ بِالْمَكَانِ، إِذْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْعادِياتِ «3» فَالْمُورِياتِ
«4» ، فَالْمُغِيراتِ «5» ، إِذْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي مَكَانٍ فَاقْتَضَتْهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْإِنْجَاءِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ الْإِنْجَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الْهُدَى، أَيْ مِنْ بَعْدِ الْهُدَى، وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ.
وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمُتَعَلِّقُ الظُّلْمِ. قِيلَ: ظَالِمُونَ بِوَضْعِ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَقِيلَ: بِتَعَاطِي أَسْبَابِ هَلَاكِهَا، وَقِيلَ: بِرِضَاكُمْ فِعْلَ السَّامِرِيِّ فِي اتِّخَاذِهِ الْعِجْلَ، وَلَمْ تُنْكِرُوا عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ غَيْرَ حَالٍ، بَلْ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ: أَيْ سَجِيَّتُهُمُ الظُّلْمُ، وَهُوَ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. وَكَانَ الْمَعْنَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَكُنْتُمْ ظَالِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ. وَأَبْرَزَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي صُورَةِ ابْتِدَاءٍ وَخَبَرٍ، لِأَنَّهَا أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَلِمُوَافَقَةِ الْفَوَاصِلِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعُمُومُ، وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ إِلَّا هَارُونَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ثَمَانِيَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَقِيلَ: كُلُّهُمْ عَبَدُوهُ إِلَّا هَارُونَ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، قِيلَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: إِلَّا هَارُونَ وَالسَّبْعِينَ رَجُلًا الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى. وَاتِّخَاذُ السَّامِرِيِّ الْعِجْلَ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يعكفون
__________
(1) سورة ص: 38/ 32.
(2) سورة العاديات: 100/ 4.
(3) سورة العاديات: 100/ 1.
(4) سورة العاديات: 100/ 2.
(5) سورة العاديات: 100/ 3.(1/324)
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ وَكَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ، فَقَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً، فَهَجَسَ فِي نَفْسِ السَّامِرِيِّ أَنْ يَفْتِنَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَاتَّخَذَ لَهُمُ الْعِجْلَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، وَكَانَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِمُوسَى، فَاتَّخَذَ عِجْلًا مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَعْبُدُهُ، وَفِي اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجَسِّمَةً أَوْ حُلُولِيَّةً، إِذْ مَنِ اعْتَقَدَ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَاسْتِحَالَةَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ، تَبَيَّنَ لَهُ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ فَسَادُ دَعْوَى أَنَّ الْعِجْلَ إِلَهٌ. وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وغيرهما قَصَصًا كَثِيرًا مُخْتَلِفًا فِي سَبَبِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَكَيْفِيَّةِ اتِّخَاذِهِ، وَانْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، إِذْ لَمْ يَشْهَدْ بِصِحَّتِهَا كِتَابٌ وَلَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَتَرَكْنَا نَقْلَ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ.
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ: تَقَدَّمَتْ مَعَانِي عَفَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَفَا عَنْهُ مِنْ بَابِ الْمَحْوِ وَالْإِذْهَابِ، أَوْ مِنْ بَابِ التَّرْكِ، أَوْ مِنْ بَابِ السُّهُولَةِ، وَالْعَفْوُ وَالصَّفْحُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُسْتَعْمَلُ الْعَفْوُ بِمَعْنَى الصَّفْحِ إِلَّا فِي الذَّنْبِ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ أَوِ التَّسْهِيلِ، فَيَكُونُ عَنْكُمْ عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا كَانَ عَمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَحْوِ، كَانَ عَامًّا لَفْظًا وَمَعْنًى، فَإِنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَى مَنْ قُتِلَ، وَعَلَى مَنْ بَقِيَ، قَالَ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1» .
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى بَعْدَ قَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَنِّي قَبِلْتُ تَوْبَتَهُمْ فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ لَمْ يُقْتَلْ فَقَدْ تُبْتُ عَلَيْهِ وَغَفَرْتُ لَهُ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: عَفَوْنَا عَنْكُمْ، أَيْ بِسَبَبِ إِتْيَانِكُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَقِيلَ: إِلَى قَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. لَعَلَّكُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، لُغَةً وَدَلَالَةَ مَعْنًى بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. تَشْكُرُونَ: أَيْ تُثْنُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى بِإِسْدَائِهِ نِعَمَهُ إِلَيْكُمْ، وَتُظْهِرُونَ النِّعْمَةَ بِالثَّنَاءِ، وَقَالُوا: الشُّكْرُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ بِنِعْمَةِ الْمُنْعِمِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَبِالْقَلْبِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ حَقِّ الْمُنْعِمِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَبِالْعَمَلِ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «2» ، وَبِاللَّهِ أَيْ شُكْرًا لِلَّهِ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَشْكُرُهُ حَقَّ شُكْرِهُ إِلَّا هُوَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
وَشُكْرُ ذَوِي الْإِحْسَانِ بِالْقَوْلِ تَارَةً ... وَبِالْقَلْبِ أُخْرَى ثُمَّ بِالْعَمَلِ الْأَسَنَّى
وَشُكْرِي لِرَبِّي لَا بِقَلْبِي وَطَاعَتِي ... وَلَا بِلِسَانِي بَلْ بِهِ شُكْرُهُ عنا
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 54.
(2) سورة سبأ: 34/ 13. [.....](1/325)
وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: أَيْ عَفْوَ اللَّهِ عَنْكُمْ، لِأَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي الشُّكْرَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ تُظْهِرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي الْعَفْوِ، أَوْ تَعْتَرِفُونَ بِنِعْمَتِي، أَوْ تُدِيمُونَ طَاعَتِي، أَوْ تُقِرُّونَ بِعَجْزِكُمْ عَنْ شُكْرِي أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشُّكْرُ طَاعَةُ الْجَوَارِحِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الشُّكْرُ هُوَ الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: التَّوَاضُعُ تَحْتَ رُؤْيَةِ الْمِنَّةِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَنْ لَا تَعْصِيَ اللَّهَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ أَنْ تَعْرِفَ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ:
الشُّكْرُ لِمَنْ فَوْقَكَ بِالطَّاعَةِ، وَلِنَظِيرِكَ بِالْمُكَافَأَةِ، وَلِمَنْ دُونَكَ بِالْإِحْسَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
سُرْعَةُ الْعَفْوِ عَنْ عَظِيمِ الْجُرْمِ دَالَّةٌ عَلَى حَقَارَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1» ، وَهُؤَلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»
، وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «3» ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَاسَبَ تَرَجِّي الشُّكْرِ إِثْرَ ذِكْرِ الْعَفْوِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الزَّلَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ اتِّخَاذُ الْعِجْلِ إِلَهًا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ، أَوْ أَعْظَمُ إِسْدَاءِ النِّعَمِ، فَلِذَلِكَ قَالَ:
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: هُوَ التَّوْرَاةُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْفُرْقانَ: هُوَ التَّوْرَاةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ آتَاهُ جَامِعًا بَيْنَ كَوْنِهِ كِتَابًا وَفُرْقَانَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ: الْمَكْتُوبُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِذِكْرِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: كَرَّرَ الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّهُ زَادَ مَعْنَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَفْظَةُ كِتَابٍ لَا تُعْطِي ذَلِكَ، أَوِ الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، أَيْ زَائِدَةٌ، وَهُوَ نَعْتٌ لِلْكِتَابِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ، وَابْنِ الْهُمَامِ، وَلَيْثِ: مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلِذَلِكَ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي، أَوِ النَّصْرُ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْوَلِيِّ فِي الْغَرَقِ وَالنَّجَاةِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِيَوْمِ بَدْرٍ: يَوْمَ الْفُرْقَانِ، قاله ابن عباس، أو سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْعَصَا وَالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ، أَوِ الشَّرْعُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوِ الْبُرْهَانُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ،
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 30.
(2) سورة البقرة: 2/ 52.
(3) سورة الزلزلة: 99/ 8.(1/326)
قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ وَابْنُ زيد، أو الفرح مِنَ الْكُرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ مَعَ الْقِبْطِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «1» ، أَيْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ لِمَعْنَى النَّصْرِ أَوِ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ آتَى مُوسَى ذِكْرَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى آمَنَ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوِ الْقُرْآنُ عَلَى حَذْفِ مَفْعُولٍ، التَّقْدِيرُ: وَمُحَمَّدًا الْفُرْقَانَ، وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْفَرَّاءِ وَقُطْرُبٍ وَثَعْلَبٍ، وَقَالُوا: هُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا التَّقْدِيرُ: وَكَحَّلْنَ الْعُيُونَ. وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ مَكِّيٌّ وَالنَّحَّاسُ وَجَمَاعَةٌ، لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، وَيَصِيرُ نَظِيرَ: أَطْعَمْتُ زَيْدًا خُبْزًا وَلَحْمًا، وَيَكُونُ: اللَّحْمُ أَطْعَمْتَهُ غَيْرَ زَيْدٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ أَنَّهُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ، إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْحُرُوفِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِثْلَ مَا مَثَّلُوا بِهِ مِنْ: وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَ، لِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ جَاءَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً «2» ، وَذَكَرُوا جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى لِأَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوِ انْفِرَاقُ الْبَحْرِ، قَالَهُ يَمَانٌ وَقُطْرُبٌ، وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ بِسَبْقِ ذِكْرِ فَرْقِ الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ فَرَقْنا «3» ، وَبِذِكْرِ تَرْجِيَةِ الْهِدَايَةِ عَقِيبَ الْفُرْقَانِ، وَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكِتَابِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ، وَإِنْ سَبَقَ ذِكْرُ الِانْفِلَاقِ، فَأُعِيدَ هُنَا وَنُصَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ آيَةٌ لِمُوسَى مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَنَاسَبَ ذِكْرَ الْهِدَايَةِ بَعْدَ فَرْقِ الْبَحْرِ لِأَنَّهُ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِدْقِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ هُوَ الْهِدَايَةُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ، وَبِفَرْقِ الْبَحْرِ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ لَهُمْ نِعْمَةَ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّيَانَاتِ لَهُمْ، وَنِعْمَةَ النَّجَاةِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. فَهَذِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَقَالَةً لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالْفُرْقَانِ هُنَا.
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: تَرْجِيَةٌ لِهِدَايَتِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَعَلَّ. وَفِي لَفْظِ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي لَعَلَّ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ قَبْلُ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَنَّهُ تَوَقُّعٌ، وَالَّذِي تَقَرَّرَ فِي النَّحْوِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُ لَعَلَّ مَحْبُوبًا، كَانَتْ لِلتَّرَجِّي، فَإِنْ كَانَ مَحْذُورًا، كَانَتْ لِلتَّوَقُّعِ، كَقَوْلِكَ: لَعَلَّ الْعَدُوَّ يُقْدِمُ. وَالشُّكْرُ وَالْهِدَايَةُ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَبَّرَ عَنْ مَعْنَى لَعَلَّ هُنَا إِلَّا بِالتَّرَجِّي. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فُرْقَانُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي اخْتُصُّوا بِهِ نُورٌ فِي قُلُوبِهِمْ، يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
__________
(1) سورة الأنفال: 8/ 29.
(2) سورة الأنبياء: 21/ 38.
(3) سورة البقرة: 2/ 50.(1/327)
الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، اتَّقُوا فَرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «1» ، وَذَلِكَ الْفُرْقَانُ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْإِحْسَانِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَاسَبَ تَرَجِّي الْهِدَايَةِ إِثْرَ ذِكْرِ إِتْيَانِ مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ، لِأَنَّ الْكِتَابَ بِهِ تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «2» ، ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً «3» ، وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ «4» . وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذِكْرِ الِامْتِنَانِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فُصُولًا مِنْهَا:
فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ كَوْنِهِ صَارَ اثْنَيْ عَشَرَ مَسْلَكًا عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ وَبَيْنَ كُلِّ سِبْطٍ حَاجِزٌ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِازْدِحَامِ دُونَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ فِي ذَلِكَ اسْتِيحَاشٌ، لِأَنَّهُ صَارَ فِي كُلِّ حَاجِزٍ كُوًى بِحَيْثُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى مَا نُقِلَ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا الْفَرْقُ هُوَ النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ، لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ التَّفْضِيلُ، وَالثَّانِيَةَ هِيَ الْإِنْجَاءُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَالثَّالِثَةَ هِيَ هَذَا الْفَرْقُ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ وَإِغْرَاقِ أَعْدَائِهِمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّونَ فِي هَلَاكِهِمْ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ النِّعْمَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ الْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ اتَّفَقَ ذَلِكَ لِغَيْبَةِ مُوسَى عَنْهُمْ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى قِصَرِ مُدَّةِ غَيْبَتِهِ انْخَدَعُوا بِمَا فَعَلَهُ السَّامِرِيُّ هَذَا، وَلَمْ يَطُلْ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَخَلِيفَةُ مُوسَى فِيهِمْ أَخُوهُ هَارُونُ يَنْهَاهُمْ فَلَا يَنْتَهُونَ، وَمَعَ هَذِهِ الزَّلَّةِ الْعَظِيمَةِ عَفَا عَنْهُمْ وَتَابَ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ النِّعْمَةَ الْخَامِسَةَ، وَهِيَ ثَمَرَةُ الْوَعْدِ، وَهُوَ إِتْيَانُ مُوسَى التَّوْرَاةَ الَّتِي بِهَا هِدَايَتُهُمْ، وَفِيهَا مَصَالِحُ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ. وَجَاءَ تَرْتِيبُ هَذِهِ النِّعَمِ مُتَنَاسِقًا يَأْخُذُ بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ، وَهُوَ تَرْتِيبٌ زَمَانِيٌّ، وَهُوَ أَحَدُ التَّرْتِيبَاتِ الخمس الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، فَهُوَ أَوَّلٌ ثُمَّ وَقَعَتِ النِّعَمُ بَعْدَهُ، وَهِيَ أَفْعَالٌ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا. فَأَوَّلُهَا الْإِنْجَاءُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ، ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ بِإِخْرَاجِ مُوسَى إِيَّاهُمْ مِنْ مِصْرَ، بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ وَلَا لِقَوْمِهِ عَلَيْهِمْ تَسْلِيطٌ بَعْدَ هَذَا الْخُرُوجِ، وَالْإِنْجَاءِ، ثُمَّ فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ وَإِرَائِهِمْ عِيَانًا هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ وَعْدُ اللَّهُ لِمُوسَى بِمُنَاجَاتِهِ وَذَهَابُهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ الْعَفْوُ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِيتَاءُ مُوسَى التَّوْرَاةَ. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذِهِ الْفُصُولِ الَّتِي انْتَظَمَتِ انْتِظَامَ الدُّرِّ فِي أَسْلَاكِهَا، وَالزَّهْرِ فِي أَفْلَاكِهَا، كُلُّ فَصْلٍ مِنْهَا قَدْ ختم
__________
(1) سورة الأنفال: 8/ 29.
(2) سورة المائدة: 5/ 44.
(3) سورة البقرة: 2/ 2.
(4) سورة المائدة: 5/ 46.(1/328)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
بِمُنَاسِبِهِ، وَارْتَقَى فِي ذُرْوَةِ الفصاحة إلى أعلا مَنَاصِبِهِ، وَارِدًا مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ أَمِينِهِ لِسَانِ مَنْ لَمْ يَتْلُ مِنْ قَبْلُ كِتَابًا وَلَا خطه بيمينه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 57]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
الْقَوْمُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا وَاحِدُهُ امْرُؤٌ، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ، وَشَذَّ جَمْعُهُ، قَالُوا: أَقْوَامٌ، وَجَمْعُ جَمْعِهِ قَالُوا: أَقَاوِيمٌ فَقِيلَ يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ. قَالَ تَعَالَى:
لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ «1» ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ «2» . وَقَالَ زُهَيْرٌ:
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَقَالَ آخَرُ:
قَوْمِي هُمْ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي ... فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي
وَقَالَ آخَرُ:
لَا يَبْعُدُنَّ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ
وَقِيلَ: لَا يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ بَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ «3» ، وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ «4» . كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: أَمَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَيَبْطُلُ الْعُمُومُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُخَصَّصَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَيَكُونُ انْدِرَاجُ النِّسَاءِ فِي الْقَوْمِ على سبيل الاستتباع
__________
(1) سورة الحجرات: 49/ 11.
(2) سورة الحجرات: 49/ 11.
(3) سورة نوح: 71/ 1.
(4) سورة غافر: 40/ 41. [.....](1/329)
وَتَغْلِيبِ الرِّجَالِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ. وَسُمِّيَ الرِّجَالُ قَوْمًا لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِالْأُمُورِ.
الْبَارِئُ: الْخَالِقُ، بَرَأَ يَبْرَأُ: خَلَقَ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْبَارِئِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «1» ، مَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَايُنِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: الْبَارِئُ هُوَ الْمُبْدِعُ الْمُحْدِثُ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ النَّاقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بَرَأَ وَأَنْشَأَ وَأَبْدَعَ نَظَائِرُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ تَبَرَّى الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ انْفِصَالُهُ مِنْهُ، فَالْخَلْقُ قَدْ فُصِلُوا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، انْتَهَى. وَقَالَ أُمَيَّةُ: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فِي الْأَرْحَامِ مَاءً حَتَّى يَصِيرَ دَمًا. الْقَتْلُ:
إِزْهَاقُ الرُّوحِ بِفِعْلِ أَحَدٍ، مِنْ طَعْنٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ ذَبْحٍ أَوْ خَنْقٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ فَهُوَ مَوْتُ هَلَاكٍ، وَالْمُقَتَّلُ: الْمُذَلَّلُ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِسَهْمَيْكَ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ شَرَحُوهُ: بِالْمُذَلَّلِ.
خَيْرٌ: هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهَا شُذُوذًا فِي الْكَلَامِ فَنَقَصَ بِنَاؤُهَا فَانْصَرَفَتْ، كَمَا حَذَفُوهَا شُذُوذًا فِي الشِّعْرِ مِنْ أحب للتي لِلتَّفْضِيلِ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ:
وَزَادَنِي كَلَفًا بِالْحُبِّ أَنْ مُنِعْتُ ... وَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا
وَقَدْ نَطَقُوا بِالْهَمْزَةِ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بِلَالٌ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الْأَخْيَرِ وَتَأْتِي خَيْرٌ أَيْضًا لَا، بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، تَقُولُ: فِي زَيْدٍ خَيْرٌ، تُرِيدُ بِذَلِكَ خَصْلَةً جَمِيلَةً، وَمُخَفَّفًا مِنْ خَيِّرٍ: رَجُلٌ خَيْرٌ، أَيْ فِيهِ خَيْرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. حَتَّى: حَرْفٌ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ، فِيهِ الْغَايَةُ، وَتَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِبْدَالُ حَائِهَا عَيْنًا لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَسُمِعَ فِيهَا الْإِمَالَةُ قَلِيلًا، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي النَّحْوِ. الرُّؤْيَةُ الْإِبْصَارُ، وَالْمَاضِي رَأَى، عَيْنُهُ هَمْزَةٌ تُحْذَفُ فِي مُضَارِعِهِ، وَالْأَمْرِ مِنْهُ وَبِنَاءِ أَفْعَلَ، وَالْأَمْرِ مِنْهُ، وَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، تَقُولُ: يَرَى وَتَرَى وَنَرَى وَأَرَى زَيْدًا، وَأَرَيْتُ زَيْدًا، وَرِ زَيْدًا، وَمَرِ زَيْدًا، وَمَرِيَ. وَتَثْبُتُ فِي الرُّؤْيَةِ وَالرَّأْيِ وَالرُّؤْيَا وَالْمَرْأَى وَالْمَرْئِيِّ وَالْمَرْأَةُ وَاسْتَرْأَى وَأَرْأَى مِنْ كَذَا، وَفِي مَا أَرْأَهُ وَأَرْئِهِ فِي التَّعَجُّبِ. وَهَذَا الْحَذْفُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ إِذَا كَانَ مَدْلُولُ رَأَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِبْصَارِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ الِاعْتِقَادِ، فَإِنْ كَانَتْ رَأَى بِمَعْنَى أَصَابَ رِئَتَهُ، فلا تحذف
__________
(1) سورة الحشر: 59/ 24.(1/330)