فالماء العذب ينتفع به في الشراب للناس والدواب والنبات.. والماء الملح ينتفع به في أشياء أخرى، كاستخراج الملح منه، وفي غير ذلك من المنافع..
ومن بديع صنع الله في هذا الكون، أنك تشاهد البحار الهائلة على سطح الأرض، والأنهار الكثيرة، ومع ذلك فكل نوع منهما باق على خصائصه، مع أن كلا منهما قد يلتقى بالآخر.
قال بعض العلماء: والمقصود بالبحرين ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات. وبحر العجم، المسمى اليوم بالخليج الفارسي. والتقاؤهما: انصباب ماء الفرات في الخليج الفارسي، في شاطئ البصرة، والبلاد التي على الشاطئ العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البحرين لذلك.
والمراد بالبرزخ بينهما: الفاصل بين الماءين: الحلو والملح بحيث لا يغير أحد البحرين طعم الآخر بجواره وذلك بسبب ما في كل منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به وهذا من مسائل الثقل النوعي.
وذكر البرزخ تشبيه بليغ، أى: بينهما مثل البرزخ، ومعنى لا يبغيان: أى لا يبغى أحدهما على الآخر، أى: لا يغلب عليه فيفسد طعمه، فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغي.. «1» .
وقال صاحب الظلال- رحمه الله-: والبحران المشار إليهما هما البحر المالح، والبحر العذب، ويشمل الأول البحار والمحيطات، ويشمل الثاني الأنهار. ومرج البحرين: أرسلهما وتركهما يلتقيان. ولكنهما لا يبغيان، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر، ووظيفته المقسومة، وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله- تعالى-.
وتصب جميع الأنهار- تقريبا- في البحار، وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض، فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغى عليها، ومستوى سطوح الأنهار أعلى- في العادة- من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغى البحر على الأنهار التي تصب فيه. ولا يغمر مجاريها بمائه الملح..
وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله، فلا يبغيان.
فلا عجب أن يذكر- سبحانه- البحرين، وما بينهما من برزخ، في مجال الآلاء والنعم.. «2» .
ثم يذكر- سبحانه- بعض نعمه المختبئة في البحرين فيقول: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ.
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير ج 27 ص 246 للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(2) راجع في ظلال القرآن ج 27 ص 3452.(14/137)
واللُّؤْلُؤُ- في أصله- حيوان، وهو أعجب ما في البحار، فهو يهبط إلى الأعماق، وهو داخل صدفة جيرية تقيه من الأخطار.. ويفرز مادة لزجة تتجمد مكونة «اللؤلؤ» .
والمرجان- أيضا- حيوان يعيش في البحار ... ويكون جزرا مرجانية ذات ألوان مختلفة:
صفراء برتقالية، أو حمراء قرنفلية، أو زرقاء زمردية «1» .
ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ الحلي الغالية الثمن، العالية القيمة، التي تتحلى بها النساء..
والآية الكريمة صريحة في أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين- الملح والعذب- إلا أن كثيرا من المفسرين ساروا على أنه- أى: اللؤلؤ والمرجان- يخرج من أحدهما فحسب، وهو البحر الملح..
قال الآلوسى ما ملخصه: واللؤلؤ صغار الدر، والمرجان كباره.. وقيل: العكس..
والمشاهد أن خروج «اللؤلؤ والمرجان» من أحدهما وهو الملح.. لكن لما التقيا وصارا كالشىء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما، كما يقال: يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميعه، ولكن من بعضه، كما تقول: خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلة من محاله، بل من دار واحدة من دوره، وقد يسند إلى الإثنين ما هو لأحدهما، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم.. «2» .
والحق أن ما سار عليه الإمام الآلوسى وغيره: من أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحر الملح لا من البحر العذب، مخالف لما جاء صريحا في قوله- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ... «3» .
فإن هذه الآية صريحة في أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من كلا البحرين الملح والعذب، وقد أثبتت البحوث العلمية صحة ذلك، فقد عثر عليهما في بعض الأنهار العذبة، التي في ضواحي ويلز واسكتلاندا في بريطانيا.. «4» .
ثم بين- سبحانه- نعمة أخرى من نعمة التي مقرها البحار فقال: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
__________
(1) راجع «كتاب الله والعلم الحديث» ص 105 للأستاذ عبد الرازق نوفل. [.....]
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 22 ص 106.
(3) سورة فاطر الآية 12.
(4) راجع دائرة معارف الشعب المصرية العدد 73 ص 537.(14/138)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
والجوار: أى السفن الجارية، فهي صفة لموصوف محذوف دل عليه متعلقه، وهو قوله- تعالى- فِي الْبَحْرِ.
والمنشآت: جمع منشأة- اسم مفعول- أى: مرفوعة الشراع، وهو ما يسمى بالقلع، من أنشأ فلان الشيء، إذا رفعه عن الأرض، وأنشأ في سيرة إذا أسرع ...
أى: وله- سبحانه- وحده لا لغيره، التصرف المطلق في السفن المرفوعة القلاع والتي تجرى في البحر، وهي تشبه: الجبال في ضخامتها وعظمتها.
والتعبير: بقوله- تعالى- وَلَهُ للإشعار بأن كونهم هم الذين صنعوها لا يخرجها عن ملكه- تعالى- وتصرفه، إذ هو الخالق الحقيقي لهم ولها، وهو الذي سخر تلك السفن لتشق ماء البحر بأمره.
ومن الآيات الكثيرة التي تشبه هذه الآية في دلالتها على قدرة الله- تعالى- وعلى مننه على عباده بهذه السفن التي تجرى في البحر بأمره. قوله- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ «1» .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله- تعالى-، ونعمه على عباده ... جاء الحديث عن تفرده- تعالى- بالبقاء، بعد فناء جميع المخلوقات التي على ظهر الأرض، وعن افتقار الناس إليه وحده- سبحانه- وغناه عنهم فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 36]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
__________
(1) سورة الشورى الآيات 32- 34.(14/139)
والضمير في عَلَيْها يعود إلى الأرض بقرينة المقام، والمراد بمن عليها: كل من يعيش فوقها، ويدخل فيهم دخولا أوليا بنو آدم، لأنهم هم المقصودون بالخطاب، ولذا جيء بمن الموصولة الخاصة بالعقلاء.
أى: كل من على الأرض من إنسان وحيوان وغيرهما سائر إلى الزوال والفناء وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ وذاته بقاء لا تغير معه ولا زوال، فهو- سبحانه- ذُو الْجَلالِ أى: ذو العظمة والاستغناء المطلق وَالْإِكْرامِ أى: والفضل التام، والإحسان الكامل..
وقال- سبحانه-: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ولم يقل ويبقى وجه ربكما. كما في قوله:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما....
لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التكريم والتشريف، ويدخل تحته كل من يتأتى له الخطاب على سبيل التبع.
قال القرطبي: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض. فنزلت كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فأيقنت الملائكة بالهلاك.
وقوله: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أى: ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته، قال الشاعر:
قضى على خلقه المنايا ... فكل شيء سواه زائل
وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا.. «1» .
وقوله- تعالى-: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ بيان لغناه المطلق عن غيره، واحتياج غيره إليه.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 17 ص 165.(14/140)
والمراد باليوم هنا: مطلق الوقت مهما قل زمنه، والشأن: الأمر العظيم، والحدث الهام..
أى: أنه- سبحانه- يسأله من في السموات والأرض، سؤال المحتاج إلى رزقه، وفضله، وستره، وعافيته.. وهو- عز وجل- في كل وقت من الأوقات، وفي كل لحظة من اللحظات، في شأن عظيم. وأمر جليل، حيث يحدث ما يحدث من أحوال في هذا الكون، فيحيى ويميت، ويعز ويذل، ويغنى ويفقر، ويشفى ويمرض.. دون أن يشغله شأن عن شأن..
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أى: كل وقت من الأوقات، هو في شأن من الشئون، التي من جملتها إعطاء ما سألوا. فإنه- تعالى- لا يزال ينشئ أشخاصا، ويفنى آخرين، ويأتى بأحوال، ويذهب بأحوال، حسبما تقتضيه إرادته المبنية على الحكم البالغة..
أخرج البخاري في تاريخه، وابن ماجة، وجماعة عن أبى الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: «من شأنه: أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويخفض آخرين» .
وسأل بعضهم أحد الحكماء، عن كيفية الجمع بين هذه الآية، وبين ما صح من أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فقال: «شئون يبديها لا شئون يبتديها» ..
وانتصب «كل يوم» على الظرفية، والعامل فيه هو العامل في قوله- تعالى-: فِي شَأْنٍ وهو ثابت المحذوف، فكأنه قيل: هو ثابت في شأن كل يوم.. «1» .
ثم هدد- سبحانه- الذين يخالفون عن أمره تحذيرا شديدا، فقال: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وجيء بحرف التنفيس الدال على القرب وهو السين للإشعار بتحقق ما أخبر به- سبحانه-.
وقوله: سَنَفْرُغُ من الفراغ، وهو الخلو عما يشغل..
والمراد به هنا: القصد إلى الشيء والإقبال عليه، يقال: فلان فرغ لفلان وإليه، إذا قصد إليه لأمر ما ...
والثقلان: تثنية ثقل- بفتحتين-، وأصله كل شيء له وزن وثقل، والمراد بهما هنا:
الإنس والجن.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 110.(14/141)
والمعنى: سنقصد يوم القيامة إلى محاسبتكم على أعمالكم، وسنجازيكم عليها بما تستحقون، وسيكون هذا شأننا- أيها الثقلان- في هذا اليوم العظيم.
قال صاحب الكشاف: قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ مستعار من قول الرجل لمن يتهدده، سأفرغ لك، يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، حتى لا يكون لي شغل سواه، والمراد: التوفر على النكاية فيه، والانتقام منه.
ويجوز أن يراد ستنتهى الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله- تعالى-: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فلا يبقى إلا شأن واحد، وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل ... «1» .
وقوله- سبحانه-: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ... مقول لقول محذوف، دل عليه ما قبله.
والمعشر- برنة مفعل- اسم للجمع الكثير الذي يعد عشرة فعشرة.
وقوله: تَنْفُذُوا من النفاذ بمعنى الخروج من الشيء، والأمر منه وهو قوله:
فَانْفُذُوا مستعمل في التعجيز. والأقطار: جمع قطر- بضم القاف وسكون الطاء- وهو الناحية الواسعة..
والمعنى: سنقصد إلى محاسبتكم ومجازاتكم على أعمالكم يوم القيامة، وسنقول لكم على سبيل التعجيز والتحدي. يا معشر الجن والإنس، إن استطعتم أن تنفذوا وتخرجوا من جوانب السموات والأرض ومن نواحيهما المتعددة.. فانفذوا واخرجوا، وخلصوا أنفسكم من المحاسبة والمجازاة..
وجملة: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ بيان للتعجيز المتمثل في قوله- تعالى- فَانْفُذُوا، والسلطان المراد به هنا: القدرة والقوة.
أى: لا تنفذون من هذا الموقف العصيب الذي أنتم فيه إلا بقدرة عظيمة، وقوة خارقة، تزيد على قوة خالقكم الذي جعلكم في هذا الموقف، وأنى لكم هذه القوة التي أنتم أبعد ما تكونون عنها؟.
فالمقصود بالآية الكريمة، تحذير الفاسقين والكافرين، من التمادي في فسقهم وكفرهم، وبيان أنهم سيكونون في قبضة الله- تعالى- وتحت سلطانه، وأنهم لن يستطيعوا الهروب من قبضته وقضائه فيهم بحكمه العادل.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 47.(14/142)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ «1» .
وقوله- سبحانه-: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ استئناف في جواب سؤال مقدر عما سيصيبهم إذا ما حاولوا الفرار.
والشواظ: اللهب الذي لا يخالطه دخان، لأنه قد تم اشتعاله فصار أشد إحراقا.
والنحاس: المراد به هنا الدخان الذي لا لهب فيه، ويصح أن يراد به: الحديد المذاب.
أى: أنتم لا تستطيعون الهرب من قبضتنا بأى حال من الأحوال، وإذا حاولتم ذلك، أرسلنا عليكم وصببنا على رءوسكم لهبا خالصا فأحرقكم، ودخانا لا لهب معه فكتم أنفاسكم، وفي هذه الحالة لا تنتصران. ولا تبلغان ما تبغيانه، ولا تجدان من يدفع عنكم عذابنا وبأسنا.
هذا والمتأمل في تلك الآيات الكريمة. يراها قد صورت بأسلوب بديع تفرد الله- تعالى- بالملك والبقاء، وافتقار الخلائق جميعا إلى عطائه، وأنهم جميعا في قبضته، ولن يستطيعوا الهروب من حكمه فيهم..
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة، ومن العذاب الذي يحيط بالمجرمين، وينزل بهم، فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
__________
(1) سورة القيامة الآيات 7، 12.(14/143)
وجواب «إذا» في قوله- سبحانه-: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ محذوف لتهويل أمره..
وقوله- سبحانه-: فَكانَتْ وَرْدَةً تشبيه بليغ، أى: فكانت كالوردة في الحمرة.
والوردة جمعها ورود، وهي زهرة حمراء معروفة ذات أغصان شائكة. والدهان: ما يدهن به الشيء.. أى: فإذا انشقت السماء، فصارت حين انشقاقها وتصدعها، كالوردة الحمراء في لونها، وكالدهان الذي يدهن به الشيء في ذوبانها وسيلانها، رأيت ما يفزع القلوب، ويزلزل النفوس من شدة الهول.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً «1» .
وقوله- سبحانه-: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ.. «2» .
وقوله- عز وجل-: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ، وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «3» .
ثم بين- سبحانه- ما يترتب على هذا الانشقاق والذوبان للسماء من أهوال فقال:
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ. أى: ففي هذا اليوم العصيب، وهو يوم الحشر، لا يسأل عن ذنبه أحد، لا من الإنس ولا من الجن.
أى: أنهم لا يسألون عن ذنوبهم عند خروجهم من قبورهم، وإنما يسألون عن ذلك في موقف آخر، وهو موقف الحساب والجزاء، إذ في يوم القيامة مواقف متعددة.
وبذلك يجاب عن الآيات التي تنفى السؤال يوم القيامة، والآيات التي تثبته، كقوله- تعالى-: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
وبعضهم يرى أن السؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام، والسؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع.. عن الأسباب التي جعلتهم ينحرفون عن الطريق المستقيم، ويسيرون في طريق الفسوق والعصيان ...
__________
(1) سورة الفرقان الآيتان 25، 26.
(2) سورة الحاقة الآيات 13- 16.
(3) سورة المعارج الآيات 8- 10.(14/144)
ثم بين- سبحانه- ما يحل بالمجرمين في هذا اليوم من عذاب فقال: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وقوله: بِسِيماهُمْ أى: بعلاماتهم التي تدل عليهم، وهي زرقة العيون. وسواد الوجوه، كما في قوله- تعالى-: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ... «1» .
وكما في قوله- سبحانه-: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ... «2» .
والنواصي: جمع ناصية، وهي مقدم الرأس. والأقدام: جمع قدم، وهو ظاهر الساق، و «أل» في هذين اللفظين عوض عن المضاف إليه.
والمراد بالطواف في قوله: يَطُوفُونَ بَيْنَها.. كثرة التردد والرجوع إليها بين وقت وآخر.
والحميم: الماء الشديد الغليان والحرارة.
وآنٍ: أى: قد بلغ النهاية في شدة الحرارة، يقال: أنى الحميم، أى انتهى حره إلى أقصى مداه، فهو آن وبلغ الشيء أناه- بفتح الهمزة وكسرها- إذا وصل إلى غاية نضجه وإدراكه، ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أى: نضجه..
أى: في هذا اليوم، وهو يوم الحساب والجزاء يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بسواد وجوههم، وزرقة عيونهم، وبما تعلو أفئدتهم من غبرة ترهقها قترة. فتأخذ الملائكة بالشعر الذي في مقدمة رءوسهم، وبالأمكنة الظاهرة من سيقانهم، وتقذف بهم في النار، وتقول لهم على سبيل الإهانة والإذلال: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها في الدنيا أيها المجرمون، فترددوا بين مائها الحار، وبين سعيرها البالغ النهاية في الشدة.
وفي قوله: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ إشارة إلى التمكن منهم تمكنا شديدا، بحيث لا يستطيعون التفلت أو الهرب.
وقد ختمت كل آية من هذه الآيات السابقة بقوله- تعالى-: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لأن عقاب العصاة المجرمين، وإثابة الطائعين المتقين، يدل على كمال عدله
__________
(1) سورة الزمر الآية 60.
(2) سورة طه الآية 102.(14/145)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
- سبحانه-، وعلى فضله ونعمته على من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
قال الإمام ابن كثير: ولما كان معاقبة العصاة المجرمين، وتنعيم المتقين، من فضله.
ورحمته، وعدله، ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم من عذابه وبأسه، مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك قال ممتنا بذلك على بريته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «1» .
وكعادة القرآن الكريم في قرن أحوال الأخيار، بأحوال الأشرار، أو العكس: جاء الحديث عما أعده- سبحانه- للمتقين من جزيل الثواب، بعد الحديث عما سينزل بالمجرمين من عقاب فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ... شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة على المتقين، بعد بيان سوء عاقبة المكذبين.
ومَقامَ مصدر ميمى بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل. أى: ولمن خاف قيام ربه عليه وكونه مراقبا له، ومهيمنا عليه فالقيام هنا مثله في قوله- تعالى- أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِ
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 287. [.....](14/146)
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ... أو هو اسم مكان. والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب.. إذ الخلق جميعا قائمون له- تعالى- كما في قوله- سبحانه-: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» .
والمعنى: ولكل من خاف القيام بين يدي ربه للحساب، وخشي هيمنته- سبحانه- عليه، ومجازاته له ... لكل من خاف ذلك وقدم في دنياه العمل الصالح، جَنَّتانِ يتنقل بينهما، ليزداد سروره، وحبوره.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قال: جَنَّتانِ؟ قلت الخطاب للثقلين، فكأنه قيل لكل خائفين منكما جنتان. جنة للخائف الإنسى، وجنة للخائف الجنى.
ويجوز أن يقال: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، لأن التكليف دائر عليهما، وأن يقال: جنة يثاب بها وأخرى تضم إليها على وجه التفضل، كقوله- تعالى-: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «2» .
وقوله: ذَواتا أَفْنانٍ صفة للجنتين. والأفنان جمع فنن- بفتحتين- وهو الغصن.
أى: جنتان صاحبتا أغصان عظيمة. تمتاز بالجمال واللين والنضرة.
ثم وصفهما- سبحانه- بصفات أخرى كريمة فقال: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ أى: في كل جنة منهما عين تجرى بالماء العذب الفرات ...
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أى: وفيهما كذلك من كل نوع من أنواع الفاكهة صنفان، ليتفكه المتقون ويتلذذوا بتلك الفواكه الكثيرة، التي لا هي مقطوعة، ولا هي ممنوعة.
ثم بين- سبحانه- حسن مجلسهم فقال: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ.
والجملة الكريمة حال من قوله- تعالى-: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ...
وعبر- سبحانه- بالاتكاء لأنه من صفات المتنعمين الذين يعيشون عيشة راضية، لاهم معها ولا حزن.
والفرش: جمع فراش- ككتب وكتاب- وهو ما يبسط على الأرض للنوم أو الاضطجاع.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 27 ص 115.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 49.(14/147)
والبطائن: جمع بطانة، وهي ما قابل الظهارة من الثياب، ومشتقة من البطن المقابلة للظهر، ومن أقوالهم: أفرشنى فلان ظهره وبطنه، أى: أطلعنى على سره وعلانيته.
والإستبرق: الديباج المصنوع من الحرير السميك، وهو من أجود أنواع الثياب.
والمعنى: أن هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى، يعيشون في الجنات حالة كونهم، متكئين في جلستهم على فرش بطائنها الداخلية من الديباج السميك. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ أى: وما يجنى ويؤخذ من الجنتين قريب التناول، دانى القطاف.
فالمراد بقوله- تعالى-: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ ما يجتنى من ثمارهما ودانٍ من الدنو بمعنى القرب.
أى: أنهم لا يتعبون أنفسهم في الحصول على تلك الفواكه، وإنما يقطفون ما يشاءون منها، وهم متكئون على فراشهم الوثير.
ثم بين- سبحانه- ألوانا أخرى من نعيمهم فقال: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ.
وقوله- سبحانه-: قاصِراتُ الطَّرْفِ صفة لموصوف محذوف. والطمث: كناية عن افتضاض البكارة. يقال: طمث الرجل امرأته- من باب ضرب وقتل-، إذا أزال.
بكارتها. وأصل الطمث: الجماع المؤدى إلى خروج دم الفتاة البكر، ثم أطلق على كل جماع وإن لم يكن معه دم.
أى: في هاتين الجنتين اللتين أعدهما- سبحانه- لمن خاف مقامه.. نساء قاصرات عيونهن على أزواجهن، ولا يلتفتن إلى غيرهم. وهؤلاء النساء من صفاتهن- أيضا- أنهن أبكار، لم يلمسهن ولم يزل بكارتهن أحد قبل هؤلاء الأزواج ... وكأن هؤلاء النساء في صفائهن وجمالهن وحمرة خدودهن ... الياقوت والمرجان.
ثم ختم- سبحانه- هذه النعم بقوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ والاستفهام لنفى أن يكون هناك مقابل لعمل الخير، سوى الجزاء الحسن، فالمراد بالإحسان الأول، القول الطيب، والفعل الحسن، والمراد بالإحسان الثاني: الجزاء الجميل الكريم على فعل الخير.
أى: ما جزاء من آمن وعمل صالحا، وخاف مقام ربه، ونهى نفسه عن الهوى.. إلا أن يجازى الجزاء الحسن، ويقدم له العطاء الذي يشرح صدره وتقر به عينه.
وقد عقب- سبحانه- بعد كل آية من تلك الآيات السابقة بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما(14/148)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
تُكَذِّبانِ
لأن كل آية قد اشتملت على نعمة أو نعم عظيمة من شأن العاقل أن يشكر الله- تعالى- عليها شكرا جزيلا.
ثم واصلت السورة حتى نهايتها، حديثها عن النعم التي منحها- سبحانه- لمن خاف مقام ربه، فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
وقوله- سبحانه-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ.
ولفظ دون هنا يحتمل أنه بمعنى غير. أى: ولمن خاف مقام ربه جنتان، وله- أيضا- جنتان أخريان غيرهما، فهو من باب قوله- سبحانه- لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ.
قالوا: ويشهد لهذا الاحتمال. أن الله- تعالى- قد وصف هاتين الجنتين بما يقارب وصفه للجنتين السابقتين، وأن تكرير هذه الأوصاف من باب الحض على العمل الصالح الذي يوصل الى الظفر بتلك الجنات، وما اشتملت عليه من خيرات.(14/149)
ويحتمل أن لفظ دون هنا: بمعنى أقل، أى: وأقل من تلك الجنتين في المنزلة والقدر، جنتان أخريان..
وعلى هذا المعنى سار جمهور المفسرين، ومن المفسرين الذين ساروا على هذا الرأى الإمام ابن كثير، فقد قال- رحمه الله- هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة، بنص القرآن، فقد قال- تعالى-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ..
فالأوليان للمقربين، والأخريان: لأصحاب اليمين..
والدليل على شرف الأولين على الأخريين وجوه:
أحدها: أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء، ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ وهذا ظاهر في شرف المتقدم، وعلوه على الثاني.
وقال هناك ذَواتا أَفْنانٍ وهي الأغصان، أو الفنون في الملاذ: وقال هاهنا مُدْهامَّتانِ أى: سوداوان من شدة الري من الماء.. «1» .
وقال الإمام القرطبي: فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين، كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟.
قيل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه. إلا أن الخائفين مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد منزلة في الخوف من الله- تعالى-، والجنتان الأخريان لمن قصرت حاله في الخوف من الله- تعالى- «2» .
وقال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ وخبر أى: ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان والأكثرون على أن الأوليين للسابقين، وهاتين لأصحاب اليمين ...
وقوله: مُدْهامَّتانِ صفة للجنتين.. أى: هما شديدتا الخضرة، والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري.. «3» .
ثم فصل- سبحانه- أوصاف هاتين الجنتين فقال: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
أى:
فوارتان بالماء الذي لا ينقطع منهما من النضخ وهو فوران الماء من العيون مع حسنه وجماله.
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وعطف- سبحانه- النخل والرمان على الفاكهة مع أنهما منها، لفضلهما، فكأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 279.
(2) راجع تفسير القرطبي ج 17 ص 184.
(3) تفسير الآلوسى ج 27 ص 121.(14/150)
أو- كما يقول صاحب الكشاف-: لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ولذا قال أبو حنيفة- رحمه الله- إذا حلف لا يأكل فاكهة، فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث ... «1» .
والضمير في قوله- تعالى-: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ يعود إلى الجنات الأربع:
الجنتين المذكورتين في قوله- تعالى-: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ والجنتين المذكورتين هنا في قوله- سبحانه-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ.
ولفظ خَيْراتٌ صفة لموصوف محذوف. أى: نساء خيرات حسان.
أى: في هذه الجنات نساء فاضلات الأخلاق، حسان الخلق والخلق.
قال الجمل: قوله: خَيْراتٌ فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين- يقال: امرأة خيرة، وأخرى شرة، والثاني. أنه جمع خيرة المخفف من خيرة بالتشديد، ويدل على ذلك قراءة خيرات- بتشديد الياء.. «2» .
وقوله حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ بدل من خيرات. والحور: جمع حوراء، وهي المرأة ذات الحور، أى: ذات العين التي اشتد بياضها واشتد سوادها في جمال وحسن..
ومقصورات: جمع مقصورة أى: محتجبة في بيتها. قد قصرت نفسها على زوجها ... فهي لا تجرى في الطرقات.. بل هي ملازمة لبيتها، وتلك صفة النساء الفضليات اللاتي يزورهن من يريدهن، أما هن فكما قال الشاعر:
ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتل عن إتيانهن فتعذر
أى: في تلك الجنات نساء خيرات فضليات جميلات مخدرات. ملازمات لبيوتهن، لا يتطلعن إلى غير رجالهن..
هؤلاء النساء لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أى: لم يلمسهن ويباشرهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ.
أى: لم يجامعهن أحد لا من الإنس ولا من الجن قبل الرجال الذين خصصهن الله- تعالى- لهم..
وقوله: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ... حال من قوله- تعالى-:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ....
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 50.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 266.(14/151)
والرفرف: مأخوذ من الرّف بمعنى الارتفاع، وهو اسم جمع واحده رفرفة، أو اسم جنس جمعى وخُضْرٍ صفة له..
والعبقري: وصف لكل ما كان ممتازا في جنسه. نادر الوجود في صفاته والمراد به هنا الثوب الموشى بالذهب، والبالغ النهاية في الجودة والجمال..
قال القرطبي: العبقري: ثياب منقوشة تبسط.. قال القتيبي: كل ثوب وشى عند العرب فهو عبقري. وقال أبو عبيد: هو منسوب الى أرض يعمل فيها الوشي..
ويقال: عبقر قرية باليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الأنبارى: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: في عمر ابن الخطاب: فلم أر عبقريا يفرى فريه.. «1» .
أى: هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم، قد أسكناهم بفضلنا الجنات العاليات حالة كونهم فيها على الفرش الجميلة المرتفعة. وعلى الأبسطة التي بلغت الغاية في حسنها وجودتها ودقة وشيها..
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ.
أى: جل شأن الله- تعالى-، وارتفع اسمه الجليل عما لا يليق بشأنه العظيم، فهو- عز وجل- صاحب الجلال. أى: العظمة والاستغناء المطلق، والإكرام. أى: الفضل التام، والإحسان الذي لا يقاربه إحسان.
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الرحمن» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الدوحة- قطر صباح الأحد 6 من رجب 1406 هـ 16 من مارس 1986 م.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 192.(14/152)
تفسير سورة الواقعة(14/153)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الواقعة» هي السورة السادسة والخمسون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول، فقد كان نزولها بعد سورة «طه» وقبل سورة «الشعراء» .
وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة، فعن ابن عباس قال: قال أبو بكر- رضى الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله قد شبت. قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت.
وعن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ... » «1» .
2- وعدد آياتها ست وتسعون آية عند الكوفيين. وسبع وتسعون عند البصريين، وتسع وتسعون عند الحجازيين والمدنيين.
3- وسورة «الواقعة» من السور المكية الخالصة، واستثنى بعضهم بعض آياتها، وعدها من الآيات المدنية، ومن ذلك قوله- تعالى-: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
وقوله- سبحانه-: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ... إلى قوله- تعالى-:
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
والذي تطمئن إليه النفس أن السورة كلها مكية، وأن ما استثنى منها لم يقم دليل يعتد به على صحته.
4- وقد افتتحت سورة «الواقعة» بالحديث عن أهوال يوم القيامة، وعن أقسام الناس في هذا اليوم..
قال- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ....
5- وبعد أن فصل- سبحانه- الحديث عن كل قسم من هذه الأقسام، وبين ما أعد له
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 281.(14/155)
من جزاء عادل ... أتبع ذلك بالحديث عن مظاهر قدرته، وسعة رحمته، وعظيم فضله، فقال- تعالى-: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ....
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ....
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ.
6- وكما افتتحت السورة الكريمة ببيان أهوال يوم القيامة، وبيان أنواع الناس في هذا اليوم.. اختتمت- أيضا- بالحديث عن أقسام الناس يوم الحساب، وعاقبة كل قسم، قال- تعالى-: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.
7- هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة، يراها قد ساقت بأسلوب بليغ مؤثر، ما يحمل الناس على حسن الاستعداد ليوم القيامة، عن طريق الإيمان العميق، والعمل الصالح، وما يبين لهم عن طريق المشاهدة مظاهر قدرة الله- تعالى- ووحدانيته، وما يكشف لهم النقاب عن أقسام الناس في يوم الحساب، وعن عاقبة كل قسم، وعن الأسباب التي وصلت بكل قسم منهم إلى ما وصل إليه من جنة أو نار..
وما يريهم عجزهم المطلق أمام قدرة الله- تعالى- وأمام قضائه وقدره.. فهم يرون بأعينهم أعز إنسان عندهم، تنتزع روحه من جسده.. ومع ذلك فهم عاجزون عن أن يفعلوا شيئا..
وصدق الله إذ يقول: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ..
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من عباده المقربين.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الدوحة قطر مساء الاثنين 7 من رجب سنة 1406 هـ 17 من مارس سنة 1986 م د. محمد سيد طنطاوى(14/156)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
افتتحت سورة «الواقعة» بتقرير الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن يوم القيامة حق وأن الحساب حق، وأن الجزاء حق..(14/157)
وقد اختير الافتتاح بالظرف المتضمن معنى الشرط، لأنه ينبه الأذهان ويحرك النفوس لترقب الجواب.
والواقعة من أسماء القيامة كالقارعة، والحاقة، والآزفة..
قال الجمل: وفي إِذا هنا أوجه: أحدها: أنها ظرف محض، ليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها ليس، من حيث ما فيها من معنى النفي، كأنه قيل: ينتفى التكذيب بوقوعها إذا وقعت.
والثاني: أن العامل فيها اذكر مقدرا. الثالث: أنها شرطية وجوابها مقدر، أى: إذا وقعت الواقعة كان، كيت وكيت، وهو العامل فيها.. «1» .
وقال بعض العلماء: والذي يظهر لي صوابه، أن إذا هنا: هي الظرفية المتضمنة معنى الشرط، وأن قوله الآتي: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا بدل من قوله: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وأن الجواب إذا هو قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ....
وعليه فالمعنى: إذا قامت القيامة، وحصلت هذه الأحوال العظيمة، ظهرت منزلة أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة.. «2» .
وقوله- تعالى-: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ مؤكد لما قبله، من أن وقوع يوم القيامة حق لا ريب فيه.
وكاذبة: صفة لموصوف محذوف، وهي اسم فاعل بمعنى المصدر..
أى: عند ما تقع القيامة، لا تكذبها نفس من النفوس التي كانت تجحدها في الدنيا، بل كل نفس حينئذ تكون مصدقة لها.
قال القرطبي: قوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ. الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر، كقوله- تعالى-: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أى:
لغو..
أى: ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف، بل هي واقعة يقينا..
أو الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أى: ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة.. «3»
__________
(1) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 270.
(2) راجع أضواء البيان ج 7 ص 761 للشيخ الشنقيطى- رحمه الله.
(3) تفسير القرطبي ج 17 ص 194.(14/158)
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.. «1» .
وقوله- سبحانه-: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ «2» .
ثم بين- سبحانه- ما يترتب على قيام الساعة من أحوال فقال: خافِضَةٌ رافِعَةٌ أى: هي خافضة للأشقياء إلى أسفل الدركات: وهي رافعة للسعداء إلى أعلى الدرجات.
والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة. وفي العز والإهانة.. ونسب- سبحانه- الخفض والرفع إلى القيامة على سبيل المجاز.
والمقصود بالآية الكريمة ترغيب الصالحين في الازدياد من العمل الصالح، لترفع منزلتهم يوم القيامة، وترهيب الفاسقين من سوء المصير الذي ينتظرهم، إذا ما استمروا في فسقهم وعصيانهم.
ويرى بعضهم أن المراد بالخفض والرفع في هذا اليوم، ما يترتب عليه من تناثر النجوم، ومن تبدل الأرض غير الأرض، ومن صيرورة الجبال كالعهن المنفوش..
وعلى هذا يكون المقصود بالآية: التهويل من شأن يوم القيامة، حتى يستعد الخلق لاستقباله، بالإيمان والعمل الصالح، حتى لا يصيبهم فيه ما يصيب العصاة المفسدين، من خزي وهوان..
والآية الكريمة تسع المعنيين، لأن في هذا اليوم يرتفع الأخيار وينخفض الأشرار، ولأن فيه- أيضا- تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ....
والمراد بالرج في قوله- تعالى- بعد ذلك: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ... التحريك الشديد، والاضطراب الواضح. يقال: رج فلان الشيء رجا، إذا حركه بعنف وزلزلة بقوة..
وقوله وَبُسَّتِ من البس بمعنى التفتيت والتكسير الدقيق، ومنه قولهم: بس فلان السويق، إذا فتته ولته وهيأه للأكل ...
أى: إذا رجت الأرض وزلزلت زلزالا شديدا، وفتت الجبال تفتيتا حتى صارت كالسويق
__________
(1) سورة النساء الآية 87.
(2) سورة غافر الآية 84. [.....](14/159)
الملتوت.. فكانت تلك الجبال كالهباء المنبث أى: المتفرق الذي يلوح من خلال شعاع الشمس إذا ما دخل من نافذة..
إذا ما حدث كل ذلك، وجد كل إنسان جزاءه من خير أو شر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
فجواب الشرط ما ذكرته الآيات بعد ذلك من حسن عاقبة أصحاب الميمنة وسوء عاقبة أصحاب المشأمة.
ومن الآيات الكثيرة، التي وردت في معنى هذه الآيات قوله- تعالى-: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا «1» .
والخطاب في قوله- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً للناس جميعا، وكان بمعنى صار، والأزواج بمعنى الأصناف والأنواع..
أى: وصرتم- أيها الناس- في هذا اليوم الهائل الشديد، أصنافا ثلاثة، على حسب أحوالكم في الدنيا..
ثم فصل- سبحانه- الحديث عن الأزواج الثلاثة فقال: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ.
والمراد بأصحاب الميمنة، أولئك السعداء الذين يؤتون كتبهم يوم القيامة بأيمانهم، أو لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة..
أو سموا بذلك، لأنهم ميامين، أى: أصحاب بركة على أنفسهم، لأنهم أطاعوا ربهم وخالفوا أهواءهم.. فكانت عاقبتهم الجنة.
وسمى الآخرون بأصحاب المشأمة، لأنهم مشائيم، أى: أصحاب شؤم على أنفسهم، لأنهم طغوا وآثروا الحياة الدنيا، فكانت عاقبتهم النار.
أو سموا بذلك، لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم. أو لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار..
والعرب تسمى الشمال شؤما، كما تسمى اليمين يمنا.
والتعبير بقوله: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ للتفخيم والإعلاء من شأنهم، كما أن التعبير بقوله- تعالى-: ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ للتحقير والتعجيب من حالهم.
وجملة: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مكونة من مبتدأ- وهو ما الاستفهامية-، وخبر وهو
__________
(1) سورة المزمل الآية 14.(14/160)
ما بعدها، وهذه الجملة خبر لقوله فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. ووضع فيها الاسم الظاهر موضع الضمير للتفخيم، بخلاف وضعه في أصحاب المشأمة، فهو للتشنيع عليهم.
وشبيه بهذا الأسلوب قوله- تعالى-: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ والْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ ولا يؤتى بمثل هذا التركيب إلا في مواضع التفخيم، أو التعجيب..
والمعنى: فأصحاب الميمنة، أى شيء هم في أحوالهم وصفاتهم الكريمة، وأصحاب المشأمة، أى شيء هم في أحوالهم وصفاتهم القبيحة؟.
وقد ترك هذا الاستفهام التعجيبى على إبهامه، لتذهب النفس فيه كل مذهب من الثواب أو العقاب..
وقوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هؤلاء هم الصنف الثالث، وهم الذين سبقوا غيرهم إلى كل قول أو فعل فيه طاعة لله- تعالى- وتقرب إلى جلاله.
والأظهر في إعراب مثل هذا التركيب، أنه مبتدأ وخبر، على عادة العرب في تكريرهم اللفظ، وجعلهم الثاني خبرا عن الأول، ويعنون بذلك أن اللفظ المخبر عنه، معروف خبره، ولا يحتاج إلى تعريفه، كما في قول الشاعر:
أنا أبو النجم، وشعري شعري
يعنى: أن شعري هو الذي أتاك خبره، وانتهى إليك وصفه..
والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم. وعرفت منزلتهم، وبلغت من الرفعة مبلغا لا يفي به إلا الإخبار عنهم بهذا الوصف.
وحذف- سبحانه- المتعلق في الآية لإفادة العموم، أى: هم السابقون إلى كل فضل ومكرمة وطاعة..
وأخرهم- سبحانه- عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، لتشويق السامع إلى معرفة أحوالهم، وبيان ما أعد لهم من ثواب عظيم، فصله بعد ذلك في قوله- تعالى-: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ... أى: والسابقون غيرهم إلى كل فضيلة وطاعة، أولئك هم المقربون عند الله- تعالى- وأولئك هم الذين مقرهم جنات النعيم.
فالجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا، لأنها جواب يثيره في النفوس قوله- تعالى- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ وأُولئِكَ مبتدأ، وخبره ما بعده. وما فيه من معنى البعد، مع قرب العهد بالمشار إليه، للإشعار يسمو منزلتهم عند الله- تعالى- ولفظ الْمُقَرَّبُونَ(14/161)
مأخوذ من القربة بمعنى الحظوة، وهو أبلغ من القريب، لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء..
أى: أولئك هم المقربون من ربهم- عز وجل- قربا لا يعرف أحد مقداره.
وقوله- سبحانه-: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بيان لمظهر من مظاهر آثار هذا التقرب.
قال الآلوسى: وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بقوله الْمُقَرَّبُونَ أو بمضمر هو حال من ضميره، أى كائنين في جنات النعيم.
وعلى الوجهين. فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة، لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده، بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم، ولا يرد عليهم أمر أو نهى، ولذا قيل جَنَّاتِ النَّعِيمِ دون جنات الخلود ونحوه.. «1» .
ثم قال- تعالى-: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ والثلة: الجماعة الكثيرة من الناس، وأصلها: القطعة من الشيء.. وهي خبر لمبتدأ محذوف، وللمفسرين في المراد بالثلة من الأولين، وبالقليل من الآخرين، اتجاهان:
أولهما: يرى أصحابه أن المراد بقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ: أولئك السابقون من الأمم الكثيرة السابقة على الأمة الإسلامية، وهم الذين صدقوا أنبياءهم وعزروهم ونصروهم.
والمراد بقوله: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ المؤمنون من هذه الأمة الإسلامية.
وعلى هذا المعنى سار صاحب الكشاف. فقد قال: الثلاثة، الأمة الكثيرة من الناس، قال الشاعر:
وجاءت إليهم ثلة خندقية ... بجيش كتيار من السيل مزبد
وقوله- عز وجل-: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ كفى به دليلا على الكثرة- أى في لفظ ثُلَّةٌ- وهو من الثل وهو الكسر-.. كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم.
والمعنى: أن السابقين من الأولين كثير، وهم الأمم من لدن آدم- عليه السلام- إلى محمد صلى الله عليه وسلم.. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم «2» .
وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه، أن الخطاب في قوله- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً للأمة الإسلامية خاصة، وأن المراد بقوله ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ صدر هذه الأمة الاسلامية.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 27 ص 133.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 53.(14/162)
وأن المراد بقوله- تعالى-: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أتى بعد صدر هذه الأمة إلى يوم القيامة.
وقد أفاض الإمام ابن كثير في ترجيح هذا القول، فقال ما ملخصه: وقد اختلفوا في المراد بقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية، وبالآخرين من هذه الأمة.. وهو اختيار ابن جرير.
وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر، بل هو قول ضعيف، لأن هذه الأمة، هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة ...
فالقول الراجح أن يكون المراد بقوله- تعالى- ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أى: من صدر هذه الأمة.
والمراد بقوله: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أى: من هذه الأمة..
وروى عن الحسن أنه قال: أما السابقون فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين.
وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال ما ملخصه: وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا.
كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله- تعالى- بعد ذلك: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
وظاهر القرآن يفيد في هذا المقام: أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية.
والآخرين فيهما من هذه الأمة.
وأن قوله- تعالى-: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ في السابقين خاصة.
وأن قوله- تعالى-: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ في أصحاب اليمين خاصة.
وذلك لشمول الآيات لجميع الأمم، إذ قوله- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً خطاب لجميع أهل المحشر، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين. منهم من هو من الأمم السابقة، ومنهم من هو من هذه الأمة..
ولا غرابة في أن يكون السابقون من الأمم السابقة أكثر.. لأن الأمم الماضية أمم كثيرة..
وفيهم أنبياء كثيرون.(14/163)
وأما أصحاب اليمين من هذه الأمة، فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جمع الأمم، لأن الثلة تتناول العدد الكثير وقد يكون أحد العددين.. الكثيرين، أكثر من الآخر، مع أنهما كلاهما كثير.
ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير. لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة.. «1» .
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهؤلاء السابقين بالخيرات من عطاء كريم، فقال: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ.
والسرر: جمع سرير، وهو ما يستعمله الإنسان لنومه أو الاتكاء عليه في جلسته.
والموضونة: أى المنسوجة بالذهب نسجا محكما، لراحة الجالس عليها ولتكريمه. يقال:
وضن فلان الغزل يضنه، إذا نسجه نسجا متقنا جميلا.
أى: مستقرين على سرر قد نسجت أطرافها بالذهب وبما يشبهه، نسجا بديعا يشرح الصدر. فقوله: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ حال من المقربين..
ومثله قوله: مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أى: مضطجعين عليها اضطجاع الذي امتلأ قلبه بالراحة، وفراغ البال من كل ما يشغله، وقد قابل وجه كل واحد منهم وجه الآخر، ليتم سرورهم ونعيمهم، إذ تقابل وجوه الأحباب يزيد الأنس والبهجة.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أى: يدور عليهم من أجل خدمتهم غلمان، شبابهم باق لا يتغير، وهيئتهم الجميلة على حالها لا تتبدل، فهم دائما على تلك الهيئة المنعوتة بالشباب والمنظر الحسن.
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أى: يطوفون عليهم، بأكواب أى: بأقداح لا عرى لها، وأباريق، أى: وبأوان ذات عرا وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أى: وبإناء مملوء بالخمر الكثير الجاري فقوله مَعِينٍ من المعن بمعنى الكثرة.
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها.. أى لا يصيبهم صداع أو تعب بسبب شرب هذه الخمر. فعن هنا بمعنى باء السببية.
قوله: وَلا يُنْزِفُونَ أى: ولا تذهب الخمر عقولهم، كما تفعل خمر الدنيا بشاربيها، مأخوذ من النزف، بمعنى اختلاط العقل.
__________
(1) راجع أضواء البيان ج 7 ص 719 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.(14/164)
وقوله: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أى: ويطاف عليهم بفاكهة يتلذذون بأكلها، وهذه الفاكهة تأتيهم من كل نوع، على حسب ما يريدون ويشتهون.
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ مما يحبونه ويختارونه من هذه اللحوم الطيبة المحببة إلى النفوس، يطاف عليهم به- أيضا- وقوله: وَحُورٌ عِينٌ معطوف على قوله وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أى: ويطوف عليهم- أيضا- نساء عيونهن شديدة البياض والسواد في سعة وجمال.
وهؤلاء الحور العين كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أى: يشبهن اللؤلؤ المكنون الذي لم تلمسه الأيدى، في صفاء بياضهن، وفي شدة جمالهن.
وقوله- سبحانه-: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بيان للأسباب التي أوصلتهم إلى هذا النعيم الكبير..
ولفظ جَزاءً منصوب على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف، أى: أعطيناهم هذا العطاء الجزيل، جزاء مناسبا بسبب ما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال صالحة.
قوله- تعالى-: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً تتميم للنعم التي أنعم- سبحانه- عليهم بها في الجنة.
واللغو: الكلام الساقط الذي لا فائدة منه، ولا وزن له. يقال: لغا فلان يلغو. إذا قال كلاما يلام عليه.
والتأثيم: مصدر إثم، إذا نسب غيره إلى الإثم وفعل ما لا يليق.
أى: أن هؤلاء المقربين لا يسمعون في الجنة كلاما لا يعتد به، ولا يسمعون- أيضا- كلاما سيئا أو قبيحا، بأن ينسب بعضهم إلى بعض ما لا يليق به، وإنما الذي يسمعونه هو الكلام الطيب المشتمل على الأمان المتكرر، والتحية الدائمة.
ولفظ سَلاماً الأول، بدل من قوله قِيلًا أو نعت له.. أى: سالما من العيوب.
والتكرير لهذا اللفظ القصد منه التأكيد، والإشعار بكثرة تحيتهم بهذا اللفظ الدال على المحبة والوئام.
أى: لا يسمعون في الجنة إلا سلاما إثر سلام، وتحية في أعقاب تحية، ومودة تتلوها مودة.
والاستثناء منقطع، لأن السلام لا يندرج تحت اللغو، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، وقِيلًا بمعنى: قولا، وهو منصوب على الاستثناء..(14/165)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وإلى هنا نجد الآيات الكريمة، قد بينت أقسام الناس يوم القيامة. وفصلت ما أعده- سبحانه- للسابقين، من عطاء جزيل، وفضل عميم.
وبعد هذا الحديث الزاخر بالخيرات والبركات عن السابقين.. جاء الحديث عن أصحاب اليمين وعما أعده الله- تعالى- لهم من ثواب فقال- سبحانه-:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ... شروع في بيان تفاصيل شئونهم، بعد بيان شئون السابقين.
وأصحاب: مبتدأ وقوله: ما أَصْحابُ الْيَمِينِ جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم، والتعجب من حالهم، وهي خبر المبتدأ.. أو معترضة، والخبر قوله: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ... «1» .
والسدر: شجر النبق، واحده سدرة، ومخضود. أى: منزوع الشوك، يقال: خضد فلان الشجر، إذا قطع الشوك الذي به فهو خضيد ومخضود، أو مخضود بمعنى ملئ بالثمر حتى تثنت أغصانه، من خضدت الغصن، إذا ثنيته وأملته إلى جهة أخرى.
أى: وأصحاب اليمين، المقول فيهم ما أصحاب اليمين على سبل التفخيم، مستقرون يوم القيامة في حدائق مليئة بالشجر الذي خلا من الشوك وامتلأ بالثمار الطيبة، التي تثنت أغصانها لكثرتها ...
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 27 ص 139.(14/166)
قال القرطبي: وذكر ابن المبارك قال: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم. قال: أقبل أعرابى يوما فقال: يا رسول الله، لقد ذكر الله في القرآن: شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذى صاحبها؟
فقال صلى الله عليه وسلم: وما هي؟ قال: السدر، فإن له شوكا مؤذيا، فقال: صلى الله عليه وسلم: ألم يقل الله- تعالى- فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ؟ خضد الله- تعالى- شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة «1» .
وقوله- تعالى-: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ بيان لنعمة ثانية. والطلح: قالوا هو شجر الموز.
واحدة طلحة، والمنضود: المتراكب بعضه فوق بعض، بحيث صار ثمره متراصا على هيئة جميلة تسر الناظرين.
فقوله مَنْضُودٍ اسم مفعول من النضد وهو الرص. يقال نضد فلان متاعه، - من باب ضرب- إذا وضع بعضه فوق بعض بطريقة منسقة جميلة، ومنه قوله- تعالى-:
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ.
وقوله- سبحانه-: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أى: متسع منبسط، بحيث لا يزول كما يزول الظل في الدنيا، ويحل محله ضوء الشمس.
أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها عاما- وفي رواية مائة عام- اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «2» .
وقوله- سبحانه- وَماءٍ مَسْكُوبٍ أى: وفيها ماء كثير مصبوب يجرى على الأرض، ويأخذون منه ما شاءوا، بدون جهد أو تعب.
يقال: سكب فلان الماء سكبا، إذا صبه بقوة وكثرة.
وقوله- تعالى-: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أى: وهم بجانب كل ذلك يتلذذون في الجنة بفاكهة كثيرة، هذه الفاكهة ليست مقطوعة عنهم في وقت من الأوقات، ولا تمتنع عن طالبها متى طلبها.
وجمع- سبحانه- بين انتفاء قطعها ومنعها، للإشعار بأن فاكهة الجنة ليست كفاكهة الدنيا
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 207.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 289.(14/167)
فهي تارة تكون مقطوعة، لأنها لها أوقاتا معينة تظهر فيها، وتارة تكون موجودة ولكن يصعب الحصول عليها، لامتناع أصحابها عن إعطائها.
وقوله- تعالى-: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أى: وفيها- أيضا- فرش منضدة، قد ارتفعت عن الأرض، ليتكئ عليها أهل الجنة وأزواجهم.
والضمير في قوله- تعالى-: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ... عائد إلى غير مذكور، إلا أنه يفهم من سياق الكلام. لأن الحديث عن الفرش المرفوعة يشير إلى من يجلس عليها، وهم الرجال ونساؤهم، أى: نساؤهم من أهل الدنيا أو الحور العين، ويرى بعضهم أنه يعود إلى مذكور، لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمى المرأة لباسا، وإزارا، وفراشا.
والإنشاء: الخلق والإيجاد. فيشمل إعادة ما كان موجودا ثم عدم، كما يشمل الإيجاد على سبيل الابتداء.
أى: إنا أنشأنا هؤلاء النساء المطهرات من كل رجس حسى أو معنوي، إنشاء جميلا، يشرح الصدور.
فَجَعَلْناهُنَّ بقدرتنا أَبْكاراً أى: فصيرناهن أبكارا ليكون ذلك أكثر تلذذا بهن.
قال الآلوسى: وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أبى سعيد مرفوعا إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم، عدن أبكارا «1» .
وقوله: عُرُباً أَتْراباً صفة أخرى من صفات هؤلاء النساء الفضليات الجميلات.
وقوله: عُرُباً جمع عروب- كرسل ورسول- من أعرب فلان في قوله إذا نطق بفصاحة وحسن بيان.
وأترابا: جمع ترب- بكسر التاء وسكون الراء- وترب الإنسان هو ما كان مساويا له في السن.
أى: إنا أنشأنا هؤلاء النساء على تلك الصورة الجميلة، فجعلناهن أبكارا كما جعلناهن- أيضا- محببات إلى أزواجهن، ومستويات في سن واحدة.
روى الترمذي عن الحسن قال: أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله- تعالى- أن يدخلني الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكى» .
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 27 ص 142.(14/168)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
فقال صلى الله عليه وسلم: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله- تعالى- يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً ... «1» .
واللام في قوله: لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلقة بأنشأناهن، أو جعلناهن.
أى: أنشأناهن كذلك، ليكن في صحبة أصحاب اليمين، على سبيل التكريم لهم..
وقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ خبر لمبتدأ محذوف. أى: أصحاب اليمين جماعة كبيرة منهم من الأمم الماضية، وجماعة كبيرة أخرى من هذه الأمة الإسلامية.
وبذلك نرى أن الله- تعالى- قد ذكر لنا ألوانا من النعم التي أنعم بها على أصحاب اليمين. كما ذكر قبل ذلك ألوانا أخرى مما أنعم به على السابقين.
قال الآلوسى: ولم يقل- سبحانه- في حق أصحاب اليمين: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
كما قال- سبحانه- ذلك في حق السابقين، رمزا إلى أن الفضل في حقهم متمحض، كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين، لم يعتبر اعتباره.
ثم الظاهر أن ما ذكر من أصحاب اليمين، هو حالهم الذي ينتهون إليه فلا ينافي أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها، ومات غير تائب عنها، ثم يدخل الجنة.. «2» .
وبعد هذا الحديث الذي يشرح الصدور، ويقر العيون، وترتاح له الأفئدة. عن السابقين وعن أصحاب اليمين.. جاء الحديث عن أصحاب الشمال، وهم الذين استحبوا العمى على الهدى وآثروا الغي على الرشد، فقال- تعالى-:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 291.
(2) تفسير الآلوسى ج 27 ص 143.(14/169)
وقوله- تعالى-: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ. أى: ما قصة هؤلاء القوم؟ وما حالهم؟ وما جزاؤهم؟ ..
ثم بين- سبحانه- ذلك فقال: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ والسموم: الريح الشديدة الحرارة. التي تدخل في مسام الجسد، فكأنها السم القاتل.
والحميم: الماء الذي بلغ النهاية في الغليان. أى: هم في الآخرة مستقرون فيما يهلكهم من الريح الحارة، والماء الشديد الغليان.
وهم كذلك في ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أى: في دخان أسود شديد يخنق أنفاسهم، والعرب يقولون لكل شيء شديد السواد: أسود يحموم، مأخوذ من الشيء الأحم، وهو الأسود من كل شيء، ومثله الحمم.
ومِنْ في قوله: مِنْ يَحْمُومٍ للبيان. إذ الظل هنا هو نفس اليحموم وتسميته ظلا من باب التهكم بهم.
وقوله- تعالى-: لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ صفتان للظل. أى: هذا الظل لا شيء فيه من البرودة التي يستروح بها من الحر. ولا شيء فيه من النفع لمن يأوى إليه.
فهاتان الصفتان لبيان انتفاء البرودة والنفع عنه، ومتى كان كذلك انتفت عنه صفات الظلال التي يحتاج إليها.
قال صاحب الكشاف: قوله- تعالى-: لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ نفى لصفتى الظل عنه، يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوى إليه من أذى الحر، ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه. والمعنى: أنه ظل حار ضار، إلا أن للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات، وفيه تهكم بأصحاب المشأمة، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم، الذي هو لأضدادهم في الجنة.. «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 50.(14/170)
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت بهؤلاء الأشقياء إلى هذا المصير الأليم، فقال- تعالى- إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ أى: إنهم كانوا قبل ذلك العذاب الذي حل بهم، أى: كانوا في الدنيا مُتْرَفِينَ أى: متنعمين بطرين، متبعين لهوى أنفسهم، وسالكين خطوات الشيطان. دون أن يصدهم عن ذلك صاد، أو يردعهم رادع.
فالمراد بالترف هنا: بطر النعمة، وعدم شكر الله- تعالى- عليها، والمترف: هو الذي يتقلب في نعم الله- تعالى-، ولكنه يستعملها في المعاصي لا في الطاعات، وفي الشرور لا في الخيرات.
وقوله- سبحانه-: وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ بيان لسبب آخر من الأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ.
والحنث: الذنب الكبير، والمعصية الشديدة، ويندرج تحته الإشراك بالله- تعالى-، وإنكار البعث والجزاء، والحلف الكاذب مع تعمد ذلك.
أى: وكانوا في الدنيا يصرون على ارتكاب الذنوب العظيمة، ويتعمدون إتيانها بدون تحرج أو تردد، ومن مظاهر ذلك أنهم أقسموا بالأيمان المغلظة أنه لا بعث ولا حساب، ولا جزاء، كما قال- تعالى-: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ... «1» .
ثم حكى- سبحانه- لونا من أقوالهم الباطلة، وحججهم الداحضة فقال: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
أى: أنهم فوق ترفهم وإصرارهم على ارتكاب الآثام كانوا يقولون- على سبيل الإنكار- لمن نصحهم باتباع الحق: أإذا متنا، وانتهت حياتنا ووضعنا في القبور، وصرنا ترابا وعظاما، أإنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى؟ وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون- أيضا-؟.
ولا شك أن قولهم هذا دليل على انطماس بصائرهم، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله- تعالى- التي لا يعجزها شيء، والتي من آثارها إيجادهم من العدم.
ولذا لقن الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذي يخرس ألسنتهم فقال- سبحانه-: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- إن الأمم السابقة التي من جملتها آباؤكم. والأمم
__________
(1) سورة النحل آية 38.(14/171)
اللاحقة التي من جملتها أنتم. الكل مجموعون ومسوقون إلى المحشر في وقت واحد محدد في علم الله- تعالى-. وعند ما يأتى هذا الوقت ماله من دافع.
فالميقات هنا: بمعنى الوقت والأجل، والمراد به هنا: يوم القيامة.
ووصفه- سبحانه- بأنه معلوم، للإشعار بكونه معينا وواقعا وقوعا لا ريب فيه، ولكن في الوقت الذي يشاؤه الله- تعالى- ويختاره.
ثم بين- سبحانه- ما سيحل بهم من عذاب في هذا اليوم فقال: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ....
والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى-: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ ...
وداخلة في حيز القول. وثُمَّ للتراخي الزمانى أو الرتبى والخطاب للمشركين الذين أعرضوا عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومِنْ في قوله: مِنْ شَجَرٍ ابتدائية، وفي قوله: مِنْ زَقُّومٍ بيانية.
وشجر الزقوم: لا وجود له في الدنيا، وإنما يخلقه الله- تعالى- في النار كما يخلق غيره من أصناف العذاب، كالحيات والعقارب..
وقيل: هو شجر سام، متى مسه جسد إنسان، تورم هذا الإنسان ومات ويوجد هذا الشجر في الأراضي المجدبة المجاورة للصحراء.
والزقوم من التزقم، وهو ابتلاع الشيء الكرية، بمشقة شديدة..
والمعنى: ثم قل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل التقريع والتبكيت: إنكم أيها الضالون عن الحق. المكذبون بالبعث والجزاء، لآكلون يوم القيامة من شجر، هو شجر الزقوم، الذي هو أخبث الشجر وأبشعه ...
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أى: فمالئون من هذه الشجرة الخبيثة بطونكم، لشدة الجوع الذي حل بكم..
وجاء الضمير مؤنثا في قوله: مِنْهَا لأن الشجر هنا بمعنى الشجرة، أو لأن ضمائر الجمع لغير العاقل تأتى مؤنثة في الغالب.
ثم قال- تعالى-: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ والضمير في قوله: عَلَيْهِ يعود على الأكل المستفاد من قوله: لَآكِلُونَ..
أى: ثم إنكم أيها الضالون المكذبون بعد هذا الأكل الخبيث من شجرة الزقوم.. تشربون.
عليه في بطونكم- ماء- قد بلغ أقصى درجات الحرارة، فصرتم في شرابكم كالإبل العطاش(14/172)
التي لا يرويها الماء مهما كثر لأنها مصابة بداء، هذا الداء يمنعها من الشبع منه، فما تزال تشرب منه حتى تهلك.
فقوله: الْهِيمِ صفة لموصوف محذوف، أى: الإبل الهيم، جمع أهيم للمذكر. وهيماء للمؤنث.
والهيام- بضم الهاء- داء يصيب الإبل، يجعلها تشرب فلا تشبع، وما تزال تشرب حتى تهلك، أو تسقم سقما شديدا يؤدى إلى موتها، والفاء في قوله- تعالى-: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ عطف على لَآكِلُونَ ... لإفادة أن شربهم مع عطشهم الشديد، يأتى بعد أكلهم من الزقوم، بدون مهلة أو استراحة.
وقوله: فَشارِبُونَ شُرْبَ ... تأكيد لما قبله، للتنبيه على أن هذا الشراب- مع فظاعته وقبحه- لا مفر لهم منه، ولا انفكاك لهم عنه.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات بقوله: هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ والنزل: ما يعد للضيف من منزل حسن، ومأكل حسن لإكرامه.
أى: هذا المذكور من أنواع العذاب المهين.. نزلهم ومسكنهم ومقرهم أول قدومهم يوم الجزاء ...
فالإشارة بقوله: هذا إلى ما ذكر قبل ذلك من عذاب مهين، من مظاهره أكلهم من الزقوم، وشربهم من الحميم..
والتعبير عما أعد لهم من عذاب بالنزل، على سبل التهكم، كما في قول الشاعر:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وبذلك نرى الآيات الكريمة، وقد بينت ما أعد لأصحاب الشمال، من عذاب مهين، بأسلوب تقشعر من هوله الأبدان ...
وبعد هذا الحديث الجامع عن أقسام الناس يوم القيامة، وعن جزاء كل قسم ... أخذت السورة الكريمة في إقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلى كمال قدرته ...
وجاءت هذه الأدلة لا عن طريق أمور تخييلية، أو فلسفية، أو غيبية ... وإنما عن طريق أمور يحسونها بأنفسهم، ويشاهدونها بأعينهم.. عن طريق خلقهم، وزروعهم التي يزاولونها بأيديهم، والماء الذي يشربونه، والنار التي يوقدونها..
لنستمع إلى السورة الكريمة، وهي تحكى كل ذلك فتقول:(14/173)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
وقوله- تعالى-: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ رد على إنكار المشركين للبعث والجزاء، ولولا هنا للتحضيض، والفاء لترتيب التحضيض على ما قبله.
أى: نحن الذين خلقناكم- أيها الجاحدون- هذا الخلق الأول بقدرتنا وحدها، فهلا صدقتم بذلك، وأطعتم رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما جاءكم به من عندنا، وأيقنتم بأن الأولين والآخرين سيقفون أمامنا يوم القيامة للحساب؟.
فالمراد بقوله- تعالى-: خَلَقْناكُمْ: خلقهم من سلالة من طين، ثم جعلهم نطفة في قرار مكين كما قال- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، فَكَسَوْنَا(14/174)
الْعِظامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
«1» .
فإن قيل: إنهم كانوا يعترفون بأن الله- تعالى- قد خلقهم، بدليل قوله- تعالى-:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ... فما فائدة قوله- سبحانه- نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ... ؟
فالجواب أنهم لما كان اعترافهم بمنزلة العدم، حيث أشركوا مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة قيل لهم على سبيل الإلزام والتبكيت: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ....
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك أربعة أدلة على صحة هذا البعث وإمكانه، أما الدليل الأول فتراه في قوله- تعالى-: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ....
وقوله: تُمْنُونَ مأخوذ من أمنى بمعنى قذف المنى، يقال: أمنى الرجل النطفة، إذا قذفها. والاستفهام للتقرير، والرؤية علمية. وما موصولة وهي المفعول الأول لقوله أَفَرَأَيْتُمْ والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد إلى الموصول محذوف. وجملة: أأنتم تخلقونه ... هو المفعول الثاني.
والضمير المنصوب في قوله: تَخْلُقُونَهُ يعود إلى الاسم الموصول في قوله:
ما تُمْنُونَ. أى: أخبرونى- أيها المشركون عما تصبونه وتقذفونه من المنى في أرحام النساء؟ أأنتم تخلقون ما تمنونه من النطف علقا فمضغا.. أم نحن الذين خلقنا ذلك؟ لا شك أنكم تعرفون بأننا نحن الذين خلقنا كل ذلك، وما دام الأمر كما تعرفون، فلماذا عبدتم مع الله- تعالى- آلهة أخرى.
فالاستفهام للتقرير حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأن الله- تعالى- وحده خلق الإنسان في جميع أطواره.
قال الجمل: وأَمْ في هذه المواضع الأربعة منقطعة، لوقوع جملة بعدها، والمنقطعة تقدر ببل والهمزة الاستفهامية، فيكون الكلام مشتملا على استفهامين، الأول: أأنتم تخلقونه؟ وجوابه: لا. والثاني: مأخوذ من أَمْ أى: بل أنحن الخالقون؟ وجوابه نعم «2» .
ثم أكد سبحانه- خلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء. فقال- تعالى- نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ.
أى نحن وحدنا الذين قدرنا لموتكم آجالا مختلفة، وأعمارا متفاوتة، فمنكم من يموت
__________
(1) سورة المؤمنون الآيات 12- 14.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 278. [.....](14/175)
صغيرا، ومنكم من يموت كبيرا، وما نحن بمسبوقين، أى: وما نحن بمغلوبين على ذلك، بل نحن قادرون قدرة تامة على تحديد آجالكم، فمن حضره أجله فلن يستطيع أن يتأخر عنه ساعة، أو يتقدم عنه ساعة. كما قال- تعالى-: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ.
وقوله- تعالى-: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
متعلق بقوله: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ....
والمراد بتبديل أمثالهم: إيجاد قوم آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا.
والمعنى: نحن وحدنا الذين قدرنا بينكم الموت وحددناه على حسب مشيئتنا ونحن الذين في قدرتنا أن نبدل من الذين ماتوا منكم أشباها لهم، نوجدهم بقدرتنا- أيضا- كما قال- سبحانه-: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ، كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ «1» .
ويصح أن يكون قوله- تعالى-: قَدَّرْنا بمعنى قضينا وكتبنا، ويكون قوله:
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
متعلق بقوله بِمَسْبُوقِينَ، ويكون المراد بتبديل أمثالهم. إيجاد قوم آخرين سواهم.
والمعنى: نحن الذين وحدنا كتبنا عليكم الموت، وقضيناه على جميع الخلق فكل نفس ذائقة الموت، وما نحن بمغلوبين على إهلاككم، وعلى خلق أمثالكم بدلا منكم كما قال- تعالى-:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ «2» .
وقوله- سبحانه-: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
بيان للون آخر من ألوان قدرته- تعالى-.
أى: نحن لسنا بعاجزين ولا بمغلوبين.. على أن نهلككم ونأتى بدلا منكم بغيركم. ولسنا- أيضا- بعاجزين على أن ننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور، والهيئات، والصفات.
قال صاحب الكشاف: قوله- تعالى-: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أى: قدرناه تقديرا، وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط ...
__________
(1) سورة الأنعام الآية 123.
(2) سورة فاطر الآية 15- 17.(14/176)
وقوله: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ يقال: سبقته على الشيء إذا أعجزته عنه، وغلبته عليه، ولم تمكنه منه، فمعنى قوله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه. وأمثالكم جمع مثل- بسكون الثاء- أى: على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق
وَعلى أن نُنْشِئَكُمْ
في خلق لا تعلمونها وما عهدتم مثلها. يعنى أنا نقدر على الأمرين جميعا: على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم.
ويجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل، بفتحتين أى: على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم، وننشئكم في صفات لا تعلمونها.. «1» .
ثم لفت- سبحانه- أنظارهم إلى ما يعلمونه من حالهم فقال: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ.
أى: والله لقد علمتم النشأة الأولى من خلقكم، حيث أوجدناكم من نطفة فعلقة فمضغة ...
فهلا تذكرتم ذلك وعقلتموه، وعرفتم أن من قدر على خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا.. قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى؟.
فالمقصود بهذه الآيات الكريمة إقامة الأدلة الساطعة، على إمكانية البعث وعلى أن من قدر على خلق الإنسان مع العدم قادر على إعادته.
قال القرطبي: وفي الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى. وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة، وهو لا يسعى لدار القرار «2» .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان الدليل الثاني على صحة البعث وإمكانيته. فقال- تعالى-: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ.
والحرث: شق الأرض من أجل زراعتها، والمراد به هنا: وضع البذر فيها بعد حرثها.
أى: أخبرونى عن البذور التي تلقون بها في الأرض بعد حرثها، أأنتم الذين تنبتونها وتصيرونها زرعا بهيجا نضرا أم نحن الذين نفعل ذلك؟ لا شك أنا نحن الذين نصير هذه البذور زروعا ونباتا يانعا، ولو نشاء لجعلنا هذا النبات حُطاماً أى مكسرا مهشما يابسا لا نفع فيه، فظللتم بسبب ذلك تَفَكَّهُونَ أى: فصرتم بسبب ما أصاب زرعكم من هلاك، تتعجبون مما أصابه، وتتحسرون على ضياع أموالكم، وتندمون على الجهد الذي بذلتموه من غير فائدة..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 56.
(2) تفسير القرطبي ج 47 ص 216.(14/177)
وأصل التفكه: التنقل في الأكل من فاكهة إلى أخرى، ثم استعير للتنقل من حديث إلى آخر، وهو هنا ما يكون من أحاديثهم المتنوعة بعد هلاك الزرع.
والمراد بالتفكه هنا: التعجب والندم والتحسر على ما أصابهم.
وقوله- سبحانه-: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ مقول لقول محذوف. أى: فصرتم بسبب تحطيم زروعكم تتعجبون، وتقولون على سبيل التحسر: إنا لمهلكون بسبب هلاك أقواتنا، من الغرام بمعنى الهلاك. أو إنا لمصابون بالغرم والاحتياج والفقر، بسبب ما أصاب زرعنا. من الغرم وهو ذهاب المال بلا مقابل.
وتقولون- أيضا-: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ من منافع هذا الزرع الذي كنا نعلق الآمال على الانتفاع به، والاستفادة بثماره..
قال الإمام القرطبي- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآيات: والمستحب لكل من يلقى البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ... الآيات. ثم يقول: بل الله الزارع، والمنبت والمبلغ. اللهم صل على محمد، وارزقنا ثمر هذا الزرع، وجنبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك فيه يا رب العالمين ... «1» .
ثم ذكر- سبحانه- الدليل الثالث على إمكانية البعث، وعلى كمال قدرته- تعالى- فقال: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ.
أى: وأخبرونى- أيضا- عن الماء الذي تشربونه، أأنتم الذين أنزلتموه من الْمُزْنِ أى. من السحاب أم نحن الذين أنزلناه؟.
لا شك أننا نحن الذين أنزلناه، ولا تستطيعون إنكار ذلك، لأن إنكاركم لذلك يعتبر نوعا من المكابرة المكشوفة، والمغالطة المفضوحة.
وتخصيص هذا الوصف، وهو الَّذِي تَشْرَبُونَ بالذكر، مع كثرة منافع الماء، لأن الشرب أهم المقاصد التي من أجلها أنزل- سبحانه- الماء من السحاب.
وقوله- سبحانه-: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ... بيان لمظهر من مظاهر رحمته- سبحانه- ومفعولي المشيئة هنا وفي ما قبله إلى قوله لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ... محذوف، للاكتفاء عنه بجواب الشرط.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 218.(14/178)
والماء الأجاج: هو الماء الشديد الملوحة والمرارة في وقت واحد.
أى: لو نشاء أن نجعل هذا الماء النازل من المزن لشربكم، ماء جامعا بين الملوحة والمرارة لفعلنا، ولكنا لم نشأ ذلك رحمة بكم، وفضلا منا عليكم.
وقوله: فَلَوْلا تَشْكُرُونَ حض على الشكر لله- تعالى- أى: فهلا شكرتم الله- تعالى- على هذه النعم، وأخلصتم له العبادة والطاعة ووضعتم نعمه في مواضعها.
فالمراد بالشكر هنا: أن يواظب العبد على شكر ربه، وعلى المداومة على ما يرضيه وعلى استعمال النعم فيما خلقت له.
أما شكر الرب- عز وجل- لعبده فمعناه: منحه الثواب الجزيل، على عمله الصالح:
ومنه قوله- تعالى-: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
قال بعض العلماء: واعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارة، وإلى المنعم أخرى.
فإن عديت إلى النعمة، تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر، كقوله- تعالى-: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ....
وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام، كقوله- تعالى-:
وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ.. «1» .
وقال- سبحانه- هنا: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً وقال في الآيات السابقة: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ... بلام التأكيد، لأن إنزال الماء من السماء وتحويله من ماء عذب إلى ماء ملح، مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه سوى الله- تعالى- لذا لم يحتج الأمر إلى تأكيد..
أما جفاف الزرع بعد نضارته، حتى يعود حطاما، فمما يحتمل أنه من فعل الزارع، أو لأى سبب آخر، كآفة زراعية، لذا أكد- سبحانه- أنه هو الفاعل لذلك على الحقيقة، وأنه- تعالى- قادر على تحطيمه بعد نموه وريعانه.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الدليل الرابع على قدرته- تعالى- على البعث والنشور، فقال- تعالى-: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ. نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.
وقوله: تُورُونَ أى: توقدون، من أورى النار إذا قدحها وأوقدها. ويقال: ورى الزند يرى وريا، إذا خرجت ناره- وفعله من باب وعى- وأوراه غيره إذا استخرج النار منه.
__________
(1) أضواء البيان ج 7 ص 794 للشيخ محمد الأمين الشنتيطى.(14/179)
وقوله: لِلْمُقْوِينَ مأخوذ من أقوى الرجل إذا دخل في القواء، وهو الفضاء الخالي من العمران، والمراد بهم هنا المسافرون، لأنهم في معظم الأحيان يسلكون في سفرهم الصحارى والفضاء من الأرض.
وخصهم- سبحانه- بالذكر، لأنهم أكثر من غيرهم انتفاعا بالنار، وأحوج من غيرهم إليها.
والمراد بشجرة النار: المرخ والعفار، وهما شجرتان، يقدح غصن إحداهما بغصن الأخرى فتتولد النار منهما بقدرة الله- تعالى- ...
ومن أمثال العرب: لكل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار. أى: وعلا على غيرهما المرخ والعفار لأنهما أكثر الشجر نصيبا في استخراج النار. فهو مثل يضرب في تفضيل الشيء على غيره.
والمعنى: وأخبرونى- أيضا- عن النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب الأخضر، أأنتم خلقتم شجرتها، واخترعتم أصلها، أم نحن الخالقون لها وحدنا؟.
لا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره، أننا نحن الذين أنشأنا شجرتها لا أنتم.
ونحن الذين جعلناها تذكرة، نذكر الناس بها في دار الدنيا إذا أحسوا بشدة حرارتها، بنار الآخرة التي هي أشد وأبقى، حتى يقلعوا عن الأقوال والأفعال التي تؤدى بهم إلى نار الآخرة.
ونحن- أيضا- الذين جعلنا هذه النار مَتاعاً أى منفعة لِلْمُقْوِينَ أى للمسافرين، والذين هم في حاجة إليها في شئونهم المختلفة.
والفاء في قوله- تعالى-: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
أى: وما دام الأمر كذلك، فسبح- أيها العاقل- باسم ربك العظيم، بأن تنزهه عن الشريك والولد، وبأن تخلص له العبادة والطاعة.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة، قد ذكرت أربعة أدلة على إمكانية البعث: الأول عن طريق خلق الإنسان. والثاني عن طريق إنبات النبات، والثالث عن طريق إنزال الماء من السحاب: والرابع عن طريق إنشاء الشجر الذي تستخرج منه النار.
وإنها لأدلة واضحة على كمال قدرة الله- تعالى- ووحدانيته لكل عبد منيب.
وبعد أن ساق- سبحانه- هذه الأدلة المتنوعة على كمال قدرته وعلى صحة البعث..(14/180)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
التفت- سبحانه- بالحديث إلى أولئك الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين.. فرد عليهم بما يخرس ألسنتهم، ونعت القرآن بنعوت جليلة فقال- تعالى-:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
قال بعض العلماء: ورد القسم على هذا النحو في القرآن الكريم كثيرا، ومن ذلك قوله- تعالى-: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وقوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ....
وقد جاء على غير هذه الصورة، أى: من غير لا النافية، ومن غير الفعل «أقسم» كما في قوله- تعالى-: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ.. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ....
وتارة يكون القسم بأشياء مختلفة من خلقه- تعالى- كالصافات، والطور، والتين، والقرآن «1» . والفاء في قوله- تعالى-: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ للتفريع على ما تقدم من أدلة البعث.
وفَلا عند أكثر المفسرين في هذا التركيب وأمثاله: مزيدة للتأكيد، كما في قوله- تعالى-: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ ... أى ليعلم أهل الكتاب. والمعنى هنا: فأقسم بمواقع النجوم..
قالوا: وزيادتها هنا جاءت جريا على سنن العرب من زيادتها قبل القسم، كما في قولهم:
لا وأبيك، كأنهم ينفون ما سوى المقسم عليه، فيفيد الكلام التأكيد.
ويرى بعضهم أن لا هنا: للنفي فيكون المعنى: فلا أقسم بمواقع النجوم، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أصلا فضلا عن هذا القسم العظيم.
قال الآلوسى ما ملخصه: فَلا أُقْسِمُ ... لا مزيدة للتأكيد مثلها في قوله- تعالى-:
__________
(1) راجع تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 96، للشيخ محمد على السائس.(14/181)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أو هي لام القسم- بعينها- أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف أى: فلأقسم..
وقيل إن لا هنا للنفي والرد على ما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر. كأنه قيل: فلا صحة لما يقولون فيه، ثم استؤنف فقيل أقسم..
وقال بعضهم إن «لا» كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح، كما في قولهم لا وأبيك..
وقال أبو مسلم وجمع: إن الكلام على ظاهره المتبادر منه. والمعنى: لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم. أى: لا يحتاج إلى قسم أصلا، فضلا عن هذا القسم العظيم.. «1» .
والمواقع: جمع موقع، وموقع الشيء ما يوجد فيه، وما يسقط من مكان مرتفع.
فالمراد بمواقع النجوم: مساقطها التي تسقط فيها عند غروبها.. وقيل: مواضعها من بروجها في السماء، ومنازلها منها.. وقيل: المراد مواقعها يوم القيامة عدما تنتشر وتتفرق..
وأقسم- سبحانه- بذلك، للتنوية بشأنها، ولما فيها من الدلالة على أن لهذا الكون خالقا قادرا حكيما، يسير كواكبه بدقة ونظام بديع، لا اختلال معه ولا اضطراب.. إذ كل نجم من هذه النجوم المتناثرة في الفضاء، له مجاله الذي يغيب فيه، وله مكانه الذي لا يصطدم فيه بغيره.
قال بعض العلماء: إن هذه النجوم والكواكب، التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة، دون أن تراه كلها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد أى احتمال أن يقترب مجال مغناطيسى لنجم، من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر.. «2» .
ومن العلماء من يرى أن المراد بمواقع النجوم أوقات نزول القرآن نجما نجما، وطائفة من الآيات تلى طائفة أخرى..
قال ابن كثير: واختلفوا في معنى قوله «بمواقع النجوم» فعن ابن عباس أنه يعنى نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر، من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا بعد ذلك..
وعن قتادة: «مواقع النجوم» منازلها.. وقال مجاهد: مطالعها ومشارقها.. وعن الحسن:
انتشارها يوم القيامة.. «3» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 152.
(2) من كتاب «الله والعلم الحديث» ص 33 للأستاذ عبد الرازق نوفل.
(3) تفسير ابن كثير ج 4 ص 399.(14/182)
ويبدو لنا أن تفسير النجوم هنا، بنجوم السماء هو الأرجح، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة.
وقوله- سبحانه-: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ كلام معترض بين القسم وجوابه والضمير في «وإنه» يعود إلى القسم المذكور في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أو يعود إلى بِمَواقِعِ النُّجُومِ بتأويله بمعنى المذكور..
قال صاحب الكشاف: بِمَواقِعِ النُّجُومِ أى: بمساقطها، ومغاربها.. واستعظم ذلك بقوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.. وهو اعتراض في اعتراض، لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم عليه، وهو قوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ واعترض بقوله- لو تعلمون- بين الموصوف وصفته.. «1» .
وجواب «لو» إما محذوف بالكلية لأنه لا يتعلق بذكره غرض، إذ المقصود هو نفى علمهم، أى: أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم عظيم، ولكنكم لا تعلمون قيمته ومنزلته.
وإما أن يكون جوابها مقدرا، فيكون المعنى: أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم عظيم لو كان عندكم علم نافع، لعظمتموه، ولآمنتم بما أقسمنا عليه، ولكنكم لم تعظموه ولم تؤمنوا لجهلكم، ولانطماس بصائركم..
والضمير في قوله- سبحانه-: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ راجع إلى غير مذكور في الكلام إلا أن علم المخاطبين به واستحضارهم له، نزل منزلة ذكره..
أى: أقسم بمواقع النجوم، إن هذا الذي يتلوه عليكم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقرآن كريم.
أى: رفيع القدر طاهر الأصل، كثير المنافع، ظاهر الفضل، لأن الناس يجدون فيه كل ما يريدونه من سعادة وخير..
وليس أمره- كما زعمتم- من أن الشياطين تنزلت به، أو أنه من أساطير الأولين..
وقوله- سبحانه-: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ وصف آخر للقرآن الكريم، والمكنون:
المستور والمحجوب عن أنظار الناس، بحيث لا يعلم كنهه إلا الله- تعالى-، والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ. أى: أن هذا القرآن الكريم قد جعله الله- تعالى- في كتاب مصون من غير الملائكة المقربين، بحيث لا يطلع عليه أحد سواهم..
وقوله- سبحانه-: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ: صفة للكتاب الذي هو اللوح المحفوظ. أى: أن هذا القرآن قد اقتضت حكمتنا أن نجعله في كتاب مصون بحيث لا يطلع
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 59.(14/183)
عليه قبل نزوله. من اللوح المحفوظ ولا يمسه أحد، إلا الملائكة المطهرون من كل ما يوجب الطهارة.
وعلى هذا التفسير يكون الغرض من الآيات الكريمة، نفى ما زعمه المشركون من أن القرآن تنزلت به الشياطين، وإثبات أن هذا القرآن مصون في كتاب مستور عن الأعين، هو اللوح المحفوظ. وأن الملائكة المطهرين وحدهم هم الذين يطلعون على هذا القرآن من اللوح المحفوظ، وهم وحدهم الذين ينزلون به على الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما قال- تعالى-: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.. «1» .
وكما قال- سبحانه-: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ... «2» .
ومنهم من يرى أن قوله- تعالى-: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صفة أخرى للقرآن الكريم، فيكون المعنى: إن هذا القرآن الكريم. لا يصح أن يمسه إلا المطهرون من الناس، عن الحدث الأصغر، والحدث الأكبر، فيكون المراد بالطهارة: الطهارة الشرعية..
وقد رجح العلماء الرأى الأول الذي يرى أصحابه أن قوله- تعالى-: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صفة للوح المحفوظ المعبر عنه بأنه كتاب مكنون، وأن المراد بالمطهرين:
الملائكة المقربون..
وقالوا في تأييد ما ذهبوا إليه: إن الآيات مسوقة لتنزيه القرآن عن أن تنزل به الشياطين، وأنه في مكان مأمون لا يصل إليه إلا الملائكة المقربون.
والآيات- أيضا- مكية، والقرآن المكي أكثر اهتمامه كان موجها إلى إبطال شبهات المشركين، وليس إلى الأحكام الفرعية، التي تحدث عنها القرآن المدني كثيرا.
كذلك قالوا: إن وصف الكتاب بأنه مَكْنُونٍ يدل على شدة الصون والستر عن الأعين، بحيث لا تناله أيدى البشر، وهذا لا ينطبق إلا على اللوح المحفوظ، أما القرآن فيمسه المؤمن وغير المؤمن.. «3» .
قال الإمام القرطبي ما ملخصه قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ اختلف في معنى
__________
(1) سورة الشعراء الآيات 192- 195.
(2) سورة الشعراء الآيات 210- 212.
(3) راجع تفسيرنا آيات الأحكام ج 4 ص 103. [.....](14/184)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
لا يَمَسُّهُ هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في الْمُطَهَّرُونَ من هم؟ ..
فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة..
وقيل المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر، وقد روى مالك وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في كتابه الذي كتبه إلى شرحبيل بن كلال ... «ألا يمس القرآن إلا طاهر» .
وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فقام واغتسل. ثم أخذ الصحيفة التي بيدها، وفيها القرآن.
ثم قال: واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء: فالجمهور على المنع ...
وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن. لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبى وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على طهارة، جاز أن يحمله محدثا «1» .
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة بقوله: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أى: هذا الكتاب الكريم منزل من رب العالمين، لا رب سواه، ولا خالق غيره، وبذلك يرى: أن هذه الآيات الكريمة، قد وصف الله- تعالى- فيها القرآن الكريم، بجملة من الصفات الجليلة، فقد وصفه- سبحانه- بأنه كريم، ووصفه بأنه مصون ومحفوظ من أن يمسه أحد سوى ملائكته المقربين، وسوى عباده المطهرين من الأحداث، ووصفه بأنه منزل من عنده لا من عند أحد سواه كما زعم أولئك الجاهلون.
ثم تتحدث السورة في أواخرها. بأسلوب مؤثر، عن لحظات الموت. وعن اللحظات التي يفارق الإنسان فيها هذه الحياة، وأحباؤه من حوله لا يملكون له نفعا.. وعن بيان الحالة التي يكون عليها هذا المفارق لهم، فتقول:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 96]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 326.(14/185)
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ للإنكار والتوبيخ.
وهو داخل على مقدر.
والمراد بالحديث: القرآن الكريم، وما تضمنه من هدايات وإرشادات وتشريعات..
وقوله: مُدْهِنُونَ من الإدهان وأصله جعل الجلد ونحوه مدهونا بشيء من الدهن ليلين، ثم صار حقيقة عرفية في الملاينة والمسايرة والمداراة ومنه قوله- تعالى-: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.
والمراد به هنا: تظاهر المشركين بمهادنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من قرآن كريم، وإبداؤهم من اللين خلاف ما يبطنون من المكر والبغضاء.
ويصح أن يكون الإدهان هنا: بمعنى التكذيب والنفاق، إذ أن هذه المعاني- أيضا- تتولد عن المداهنة والمسايرة.
أى: أتعرضون- أيها المشركون- عن الحق الذي جاءكم به رسولنا صلى الله عليه وسلم فتظهرون أمامه بمظهر المداهن والمهادن، الذي يلين أمام خصمه، ولا يقابله بالشدة والحزم: مع أنه في الوقت نفسه يضمر له أشد أنواع السوء والكراهية؟ ..
إذا كان هذا شأنكم، فاعلموا أن تصرفكم هذا لا يخفى علينا؟! ..
وقوله- سبحانه- وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون معطوف على ما قبله من باب عطف الجملة على الجملة. والكلام على حذف مضاف.
والمعنى: أتعرضون عن هذا القرآن على سبل المداهنة والملاينة، وتجعلون شكر نعمة رزقنا(14/186)
لكم به. وبالمطر الذي لا حياة لكم بدونه، أنكم تكذبون بكونهما من عند الله- تعالى- فتقولون في شأن القرآن، أساطير الأولين، وتقولون إذا ما أنزلنا المطر عليكم: مطرنا بسبب نوء كذا. أى: بسبب سقوط النجم في جهة المغرب من الفجر.
قال الآلوسى: قوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أى: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون، تقولون أمطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا وأكثر الروايات أن قوله- تعالى-: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ نزل في القائلين: مطرنا بنوء كذا.. أخرج مسلم- في صحيحه- عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:
أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
ثم قال الإمام الآلوسى: والآية على القول بنزولها في قائلى ذلك: ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان، فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر، وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله- تعالى-، وأن النوء ميقات وعلامة فإنه ليس بكفر.. «1» .
وقد ذكر المفسرون هنا جملة من الأحاديث في هذا المعنى فارجع إليها إن شئت.. «2» .
ثم انتقلت الآيات إلى توبيخهم على أمر آخر، وهو غفلتهم عن قدرة الله- تعالى- ووحدانيته وهم يشاهدون آثار قدرته أمام أعينهم فقال- تعالى-: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ، فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
ولو في الموضعين للتحضيض على التذكر والاعتبار، ولإبراز عجزهم في أوضح صورة، إذ إظهار عجزهم هو المقصود هنا بالحض..
وقوله إِذا بَلَغَتِ ظرف متعلق بقوله تَرْجِعُونَها أى: تردونها، وقد قدم عليه لتهويله، والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه، وهو إرجاع الروح إلى صاحبها.
والضمير في بَلَّغْتَ يعود إلى الروح، وهي وإن كانت لم تذكر إلا أنها مفهومه من الكلام.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 156.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 299. وتفسير القرطبي ج 17 ص 228.(14/187)
والحلقوم: مجرى الطعام وأل فيه للعهد الجنسي.
وجملة: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ حال من ضمير بَلَغَتِ، ومفعول تَنْظُرُونَ محذوف والتقدير: تنظرون وتبصرون صاحب الروح وهو في تلك الحالة العصيبة.
وجملة تَرْجِعُونَها ... جواب الشرطين في قوله: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ وفي قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وجملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ مستأنفة لتأكيد توبيخهم على جهالاتهم وعدم اعتبارهم حتى في أوضح المواقف التي تدل على قدرة خالقهم- عز وجل-.
والمعنى: إذا كنتم- أيها الجاحدون المكذبون- لم تعتبروا ولم تتعظوا بكل ما سقناه لكم من ترغيب وترهيب على لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فهلا اعتبرتم واتعظتم وآمنتم بوحدانيتنا وقدرتنا.. حين ترون أعز وأحب إنسان إليكم، وقد بلغت روحه حلقومه، وأوشكت على أن تفارق جسده ...
وَأَنْتُمْ أيها المحيطون بهذا المحتضر العزيز عليكم حِينَئِذٍ أى: حين وصل الأمر به إلى تلك الحالة التي تنذر بقرب نهايته، أنتم تَنْظُرُونَ إلى ما يقاسيه من غمرات الموت، وتبصرون ما فيه من شدة وكرب، وتحرصون كل الحرص على إنجائه مما حل به ولكن حرصكم يذهب أدراج الرياح.
وَنَحْنُ في هذه الحالة وغيرها، أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أى: ونحن أقرب إليه منكم بعلمنا وبقدرتنا، حيث إنكم لا تعرفون حقيقة ما هو فيه من أهوال ولا تدركون عظيم ما فيه من كرب، ولا تقدرون على رفع شيء من قضائنا فيه وفي غيره.
وقوله: وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ استدراك للكلام السابق. أى: ونحن أقرب إلى هذا المحتضر منكم، ولكنكم لا تدركون ذلك لجهلكم بقدرتنا النافذة، وحكمتنا البالغة..
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أى: فهلا إن كنتم غير عاجزين عن رد قضائنا في هذا المحتضر الحبيب إليكم، وغير مربوبين لنا، وخاضعين لسلطاننا.. يقال: دان السلطان الرعية، إذا ساسهم وأخضعهم لنفوذه.
هلا إن كنتم غير خاضعين لنا تَرْجِعُونَها أى: ترجعون الروح إلى صاحبها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في اعتقادكم بأن آلهتكم تستطيع الدفاع عنكم وفي اعتقادكم أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت، وفي توهمكم أن هناك قوة سوى قوة الله- عز وجل- يمكنها أن تساعدكم عند الشدائد والمحن.(14/188)
وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة، تقيم أوضح الأدلة وأكثرها تأثيرا في النفوس، على كمال قدرة الله- تعالى- وعلى نفاذ مشيئته وإرادته ...
فهي تتحدى البشر جميعا أن يعيدوا الروح إلى أحب الناس إليهم، وهم واقفون من حوله وقفة الحائر المستسلم. العاجز عن فعل أى شيء من شأنه أن يدفع عن هذا المحتضر ما فيه من كرب، أو أن يؤخر انتزاع روحه من جسده، ولو لزمن قليل..
ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك، في بيان مصير هذه الروح، التي توشك أن تستدبر الحياة الفانية، وتستقبل الحياة الباقية فتقول: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ.
والروح: بمعنى الراحة والأمان والاطمئنان والريحان شجر طيب الرائحة.
أى: فأما إن كان صاحب هذه النفس التي فارقت الدنيا، من المقربين إلينا السابقين بالخيرات.. فله عندنا راحة لا تقاربها راحة، وله رحمة واسعة، وله طيب رائحة عند قبض روحه، وعند نزوله في قبره، وعند وقوفه بين أيدينا للحساب يوم الدين، وله جنات ينعم فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وَأَمَّا إن كان هذا الإنسان مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وهم الذين ثقلت موازين حسناتهم..
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أى: فتقول له الملائكة عند قبض روحه وفي قبره، وفي الجنة، سلام لك يا صاحب اليمين، من أمثالك أصحاب اليمين.
قال الآلوسى: وقوله: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ قيل هو على تقدير القول.
أى: فيقال لذلك المتوفى منهم: سلام لك يا صحاب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين.
وجوز أن يكون المعنى: فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم في خير. أى: كن فارغ البال من جهتهم فإنهم بخير.
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة، كلام يفيد عظمة حالهم، كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان، إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل.. «1» .
وَأَمَّا إِنْ كانَ هذا المتوفى مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ وهم أصحاب الشمال فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ أى: فله نزل- أى: مكان- مِنْ حَمِيمٍ أى: من ماء قد بلغ أقصى
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 160.(14/189)
درجات الحرارة وعبر عن المكان الذي ينزل فيه بالنزل، على سبل التهكم، إذا النزل في الأصل يطلق على ما يقدم للضيف على سبل التكريم..
وقوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أى: وله- أيضا- إدخال في نار جهنم التي تشوى جسده وتحرقه.
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أى: إن هذا الذي قصصناه عليك- أيها الرسول الكريم- في هذه السورة وغيرها، لهو الحق الثابت الذي لا يحوم حوله شك أو ريب..
فقوله: حَقُّ الْيَقِينِ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أى: لهو اليقين الحق..
أو هو من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين، كما في قوله- تعالى-: حَبْلِ الْوَرِيدِ إذ الحبل هو الوريد، والقصد من مثل هذا التركيب التأكيد.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- فنزه ربك العظيم في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، عن كل ما لا يليق به..
وبعد فهذا تفسير لسورة «الواقعة» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الدوحة- قطر صباح الأربعاء 16 من رجب سنة 1406 هـ 26/ 3/ 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(14/190)
تفسير سورة الحديد(14/191)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الحديد» هي السورة السابعة والخمسون في ترتيب المصحف، وسميت بذلك لقوله- تعالى- فيها: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.
وعدد آياتها تسع وعشرون آية في المصحف الكوفي، وثمان وعشرون في غيره.
2- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية، فابن كثير والقرطبي يقولان بأنها مدنية، ولا يذكران خلافا في ذلك.
بينما نرى صاحب الكشاف يقول إنها مكية، ولا يذكر- أيضا- خلافا في ذلك.
ومن المفسرين من يرى بأن سورة الحديد منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني.
قال الآلوسى: أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره: هي مدنية بإجماع المفسرين، ولم يسلم له ذلك، فقد قال قوم إنها مكية.
وقال ابن عطية: لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا. لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا..
ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده، والطبراني وابن مردويه.. عن عمر- رضى الله عنه- أنه دخل على أخته قبل أن يسلم، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد، فقرأه حتى بلغ قوله- تعالى-: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فأسلم «1» .
والذي يبدولنا- بعد تدبرنا لهذه السورة الكريمة- أنها يغلب عليها طابع القرآن المدني، الذي يتحدث عن الجهاد في سبيل الله، وعن الإنفاق من أجل إعلاء كلمته، وعن سوء مصير المنافقين، وعن إرشاد المؤمنين إلى كيفية إقامة الدولة القوية العادلة.. وهذا لا يمنع من أن يكون من بين آياتها ما هو مكي، متى ثبت ذلك عن طريق النقل الصحيح.
3- وقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن الله- تعالى- قد نزهه عن كل ما لا يليق به، جميع ما في السموات وما في الأرض، وأنه- عز وجل- هو مالكها، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن والمحيي والمميت والخالق لكل شيء، والعليم بكل شيء.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 164.(14/193)
قال- تعالى-: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
4- ثم حضت السورة الكريمة المؤمنين على الثبات على إيمانهم، وعلى الإنفاق في سبيل الله، ووعدتهم على ذلك بأجزل الثواب.
قال- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
5- ثم تتحدث السورة الكريمة بعد ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر، عن حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المنافقين، فتحكى جانبا مما يدور بين الفريقين من محاورات فتقول:
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ، يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا: بَلى، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
6- وبعد أن تنتقل السورة الكريمة إلى حث المؤمنين على الخشوع لله، وعلى تذكر الموت، وعلى البذل في سبيل الله ... بعد كل ذلك تبين لهم مصير الحياة الدنيا، وتدعوهم إلى إيثار الآجلة على العاجلة، والباقية على الفانية فتقول: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ، سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
7- ثم تقرر السورة بعد ذلك أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأنه- سبحانه- قد أرسل رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم بنشر العدل بين الناس، كما أمرهم بإعداد القوة لإرهاب أعداء الحق، لأن الناس في كل زمان ومكان فيهم المهتدون، وفيهم الضالون، كما قال- تعالى-: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
8- ثم ختم- سبحانه- السورة بهذا النداء الحكيم للمؤمنين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.(14/194)
9- وبعد، فهذا عرض مجمل لسورة «الحديد» ومنه نرى أنها زاخرة بالحديث عن مظاهر قدرة الله- تعالى-، وعن صفاته الجليلة.. وعن دعوة المؤمنين إلى التمسك بتعاليم دينهم، تمسكا يكون مقدما على كل شيء من زينة هذه الحياة الدنيا، لأن هذا التمسك يجعلهم يعيشون سعداء في دنياهم، وينالون بسببه الفوز والفلاح في أخراهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الدوحة- قطر مساء الأربعاء 16 من رجب سنة 1406 هـ 26/ 3/ 1986 د. محمد سيد طنطاوى(14/195)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
افتتحت سورة «الحديد» بتنزيه الله- تعالى- عن كل ما لا يليق به، وبالثناء عليه- تعالى- بما هو أهله، وببيان جانب من صفاته الجليلة، الدالة على وحدانيته، وقدرته، وعزته، وحكمته، وعلمه المحيط بكل شيء.
افتتحت بقوله- عز وجل-: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقوله: سَبَّحَ من التسبيح، وأصله الإبعاد عن السوء، من قولهم سبح فلان في الماء، إذا توغل فيه، وسبح الفرس، إذا جرى بعيدا وبسرعة.(14/196)
قالوا: وهذا الفعل سَبَّحَ قد يتعدى بنفسه، كما في قوله- تعالى-: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وقد يتعدى باللام كما هنا. وهي للتأكيد والتبيين أى: سبح لله لا لغيره.
والمراد بالتسبيح هنا: تنزيه الله- تعالى- عن كل مالا يليق بجلاله وكماله.
والمعنى: نزه الله- تعالى- وعظمه وخضع له، وانقاد لمشيئته.. جميع ما في السموات والأرض من كائنات ومخلوقات.. لا يعلمها إلا هو- سبحانه-.
وقد جاء التسبيح تارة بصيغة الفعل الماضي كما في هذه السورة، وكما في سورتي الحشر والصف، وتارة بصيغة المضارع، كما في سورتي الجمعة والتغابن، وتارة بصيغة الأمر كما في سورة الأعلى، وتارة بصيغة المصدر كما في سورة الإسراء.
جاء التسبيح بهذه الصيغ المتنوعة، للإشعار بأن تسبيح هذه المخلوقات لله- تعالى- شامل لجميع الأوقات والأحوال.
قال- تعالى- تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «1» .
وختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، والعزيز: هو الغالب على كل شيء، إذ العزة معناها: الغلبة على الغير، ومنه قوله تعالى-: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى: غلبني في الخصام.
وفي أمثال- العرب: من عزّ بزّ، أى: من غلب غيره تفوق عليه.
والحكيم مأخوذ من الحكمة، وهي وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها.
أى: وهو- سبحانه- الغالب الذي لا يغلبه شيء- الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها السليمة.
ثم ذكر- سبحانه- صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أى. له- سبحانه- وحده دون أن يشاركه مشارك، ملك السموات والأرض، إذ هو- تعالى- المتصرف فيهما، والخالق لهما، إن شاء أبقاهما وإن شاء أزالهما.
وملكه- سبحانه- للسموات والأرض، ملك حقيقى، لأنه لا ينازعه فيه منازع، ولا يشاركه مشارك.. بخلاف ملك غيره لبعض متاع الدنيا، فإنه ملك زائل مهما طال، ومفتقر إلى من يحميه ويدافع عنه.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 44.(14/197)
وقوله: يُحْيِي وَيُمِيتُ صفة أخرى من صفاته- عز وجل- أى: هو الخالق للحياة لمن شاء أن يحييه، وهو الخالق للموت لمن أراد أن يميته.
وهذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف، وهي في الوقت نفسه بدل اشتمال مما قبلها إذ الإحياء والإماتة، مما يشتمل عليه ملك السموات والأرض.
وخص- سبحانه- هاتين الصفتين بالذكر، لأنه هو المتفرد بهما، ولا يستطيع أحد أن يدعى أن له عملا فيهما، ومن ادعى ذلك كانت دعواه من قبيل المغالطة والمجادلة بالباطل، إذ الموجد الحقيقي لهما هو الله- عز وجل- وما سواه فهو سبب لهما.
وقوله- تعالى-: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما قبله. أى: وهو- سبحانه- على كل شيء من الأشياء التي من جملتها ما ذكر- قدير على إيجادها أو إعدامها.
ثم ذكر- سبحانه- صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أى: هو- سبحانه- الأول والسابق على جميع الموجودات، إذ هو موجدها ومحدثها ابتداء. فهو موجود قبل كل شيء وجودا لا حد ولا وقت لبدايته.
وَالْآخِرُ أى: الباقي بعد هلاك وفناء جميع الموجودات، كما قال- تعالى-:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
وآثر لفظ الْآخِرُ على لفظ الباقي ليتم الطباق بين الوصفين المتقابلين ...
وهو الظَّاهِرُ أى: الظاهر وجوده عن طريق مخلوقاته التي أوجدها بقدرته إذ من المعروف عند كل عاقل أن كل مخلوق لا بد له من خالق، وكل موجود لا بد له من موجد.
فلفظ الظَّاهِرُ مشتق من الظهور الذي هو ضد الخفاء، والمراد به هنا ظهور الأدلة العقلية والنقلية على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه.
ويجوز أن يكون مشتقا من الظهور، بمعنى الغلبة والعلو على الغير، كما في قوله- تعالى-: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ...
وعليه يكون المعنى: وهو الغالب العالي على كل شيء.
وهو الْباطِنُ من البطون بمعنى الخفاء والاستتار، أى: وهو- سبحانه- المحتجب يكنه ذاته عن أن تدركه الأبصار، أو أن تحيط بحقيقة ذاته العقول، كما قال- تعالى-(14/198)
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «1» .
ويصح أن يكون الْباطِنُ بمعنى العالم بما بطن وخفى من الأمور يقال: فلان أبطن بهذا الأمر من غيره، أى: أعلم بهذا الشيء من غيره.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أى: وهو- سبحانه- عليم بكل ما في هذا الكون، لا تخفى عليه خافية من شئونه، كما قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «2» .
قال ابن كثير: وهذه الآية هي المشار إليها في حديث عرباض بن معاوية أنها أفضل من ألف آية.
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية على نحو بضعة عشر قولا وقال البخاري:
قال يحيى: الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما.
وروى الإمام مسلم- في صحيحه-، والإمام أحمد- في مسنده- عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم فيقول: «اللهم رب السموات ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر..» «3» .
ثم ساق- سبحانه- ألوانا أخرى من الأدلة التي تدل على وحدانيته وقدرته فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ.
والأيام: جمع يوم، واليوم في اللغة مطلق الوقت، أى: في ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله- تعالى-. وقيل: هذه الأيام من أيام الدنيا.
والاستواء في اللغة: يطلق على الاستقرار، كما في قوله- تعالى- وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ أى استقرت سفينة نوح- عليه السلام- عند ذلك الجبل المسمى بذلك الاسم..
كما يطلق بمعنى القصد، ومنه قولهم: استوى إلىّ يخاصمني، أى: قصد لي. كما يطلق بمعنى الاستيلاء والقهر، ومنه قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 104.
(2) سورة آل عمران الآية 3.
(3) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 402.(14/199)
وعرش الله، مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم أما حقيقته وكيفيته فلا يعلمها إلا الله- تعالى-.
وقد ذكر العرش في إحدى وعشرين آية من القرآن الكريم، كما ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.
أى: هو- سبحانه- الذي خلق السموات والأرض في ستة أوقات، ثم استوى على العرش، استواء يليق به- تعالى-. بلا كيف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، لاستحالة اتصافه- تعالى: بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
قال الإمام مالك- رحمه الله- الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ثم بين- سبحانه- شمول علمه فقال: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها.
وقوله: يَلِجُ من الولوج بمعنى الدخول، يقال: ولج فلان بيته، إذا دخله.
وقوله: يَعْرُجُ من العروج وهو الذهاب في صعود، والسماء، جهة العلو مطلقا.
أى أنه- سبحانه- يعلم ما يلج في الأرض، وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء، ومن جواهر وكنوز قد طويت في باطنها، ومن بذور ومعادن في طياتها.
ويعلم- أيضا- ما يَخْرُجُ مِنْها من نبات وحبوب وكنوز، وغير ذلك من أنواع الخيرات، ويعلم- كذلك- ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من أمطار، وثلوج، وبرد، وصواعق، وبركات، من عنده- تعالى- لأهل الأرض.
ويعلم- أيضا- ما يصعد فيها من الملائكة، ومن الأعمال الصالحة، كما قال- تعالى- إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
وعدى العروج بحرف في، لتضمنه معنى الاستقرار، وهو في الأصل يعدى بحرف إلى، كما في قوله- تعالى-: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وقوله- سبحانه-: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أى: وهو معكم بعلمه ولطفه ورحمته..
أينما كنتم وحيثما وجدتم.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: وهو معكم أينما كنتم تمثيل لإحاطة علمه- تعالى-(14/200)
بهم، وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا، وقيل المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السياق واللحاق مع استحالة الحقيقة.
وقد أول السلف هذه الآية بذلك، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها: عالم بكم أينما كنتم.
وأخرج- أيضا- عن سفيان الثوري انه سئل عنها فقال: علمه معكم.
وفي البحر: أنه أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أقوالكم أو أفعالكم.. بل هو مطلع عليكم اطلاعا تاما.
ثم أكد- سبحانه- كمال قدرته فقال لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: له- سبحانه- التصرف الكلى في السموات والأرض. وفيما فيهما من موجودات، من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أى: وإلى الله- تعالى- وحده لا إلى غيره، مرد الأمور كلها، والحكم عليها، والتصرف فيها.. وليس إلى أحد غيره لا على سبيل الاستقلال، ولا على سبيل الاشتراك.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أى: يدخل- سبحانه- طائفة من الليل في النهار، فيقصر الليل ويزيد النهار ويدخل طائفة من النهار في الليل، فيقصر النهار، ويزيد الليل، ثم يسيران على هذا النظام البديع، دون أن يسبق أحدهما الآخر.
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ و «ذات» هنا مؤنث ذو بمعنى صاحب.
أى: وهو- سبحانه- عليم علما تاما بمكنونات الصدور، وما تضمره من خير أو شر وما يتردد فيها من خواطر وأفكار.
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا، يراها قد اشتملت على بضع عشرة صفة، من صفات الله عز وجل- الدالة على وجوب إخلاص العبادة له، والانقياد لأمره ونهيه.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 168.(14/201)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
ثم- دعا- سبحانه- عباده المؤمنين إلى التمسك بهذا الإيمان، وإلى تنفيذ تكاليفه، ووعدهم على ذلك بأجزل الثواب، فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
والخطاب في قوله- تعالى-: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الناس جميعا ويدخل فيه المؤمنون دخولا أوليا، ويكون المقصود بدعوتهم إلى الإيمان المداومة عليه والتمسك بتعاليمه، وتنفيذ توجيهاته.. كما قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ، وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ «1» .
وقوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ بيان لما يقتضيه هذا الإيمان.
وقوله: مُسْتَخْلَفِينَ اسم مفعول من الاستخلاف، بمعنى أن يخلف الإنسان غيره، أو أن يخلفه غيره من بعده.
__________
(1) سورة النساء الآية 136.(14/202)
أى: آمنوا- أيها الناس- بالله- تعالى- وبرسوله صلى الله عليه وسلم إيمانا حقا، وإن من مقتضيات هذا الإيمان، أن تنفقوا من أموالكم في وجوه الخير، فإن هذه الأموال هي عارية في أيديكم، فقد ورثتموها من غيركم، وغيركم سيرثها عنكم، وهي في جميع الأحوال ملك لله- تعالى- وحده على الحقيقة.
قال القرطبي: قوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ دليل على أن أصل الملك لله- سبحانه- وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضى الله فيثيبه على ذلك بالجنة، فمن أنفق منها في حقوق الله، وهان عليه الإنفاق منها، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الأجر الجزيل.
وقال الحسن: مستخلفين فيه: ورثتكم إياه عمن كان قبلكم.
وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق، قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم «1» .
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهؤلاء المنفقين فقال: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ إيمانا حقا..
وَأَنْفِقُوا أموالهم فيما يرضى الله- تعالى- لَهُمْ منه- عز وجل- أَجْرٌ كَبِيرٌ لا يعلم مقداره إلا الله- تعالى-.
ثم رغبهم- سبحانه- في الثبات على الإيمان بالله ورسوله فقال: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أى: وأى مانع يمنعكم من الثبات على الإيمان. ومن القيام بتكاليفه، ومن إخلاص العبادة له- تعالى- وحده، والحال أن الرسول صلى الله عليه وسلم بينكم صباح مساء، يدعوكم إلى الإيمان بربكم، وقد أخذ- سبحانه- عليكم العهود والمواثيق على هذا الإيمان، عن طريق ما ركب فيكم من عقول تعقل، وعن طريق ما نصب لكم من أدلة متنوعة كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله الواحد القهار.
قال: الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: أى: وأى شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به. وقد روينا في الحديث من طرق، في أوائل شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: «أى المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟» قالوا: الملائكة.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 17 ص 238.(14/203)
قال: «ومالهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟» قالوا: فالأنبياء قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحى ينزل عليهم» قالوا: فنحن، قال: «فما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم، يجدون صحفا يؤمنون بما فيها» .
وقوله- تعالى-: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ كما قال- تعالى-: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ، إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا.. ويعنى بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وزعم ابن جرير: أن المراد بذلك: الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم «1» .
وجواب الشرط في قوله- تعالى-: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ محذوف لدلالة ما قبله عليه.
أى: إن كنتم مؤمنين لسبب من الأسباب، فعلى رأس هذه الأسباب وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينكم يدعوكم إلى هذا الإيمان ويقنعكم بوجوب الاعتصام به.
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم وعليهم فقال: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
والرءوف: مبالغة في الاتصاف بالرأفة، ومعناها: كراهية إصابة الغير بما يضره أو يؤذيه.
والرحيم: مبالغة في الاتصاف بصفة الرحمة. ومعناه: محبة إيصال الخير والنفع إلى الغير.
أى: هو- سبحانه- وحده الذي ينزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم آياتٍ بَيِّناتٍ أى: حججا واضحات، ودلائل باهرات، لكي يخرجكم من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم.
وإن الله- تعالى- بكم- أيها الناس- لكثير الرأفة والرحمة، حيث أنزل إليكم كتابه، وأرسل إليكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكما حضهم- سبحانه- على الثبات على الإيمان.. حضهم أيضا مرة أخرى على الإنفاق في سبيله بأبلغ أسلوب، فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
والاستفهام في قوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا.. للتعجيب من حال من يمسك عن الإنفاق في سبيل الله، مع أن كل المقتضيات تدعوه إلى هذا الإنفاق. والكلام في قوله
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 305.(14/204)
- تعالى-: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على حذف مضاف، والجملة حال من فاعل أَلَّا تُنْفِقُوا، أو من مفعوله المعلوم مما تقدم.
وإضافة ميراث إلى السموات والأرض، من إضافة المصدر إلى المفعول أى: وأى سبب يحملكم على البخل وعدم الإنفاق في سبيل إعلاء كلمة الله، والحال أن لله- تعالى- ميراث أهل السموات وأهل الأرض.
إنه لا عذر لكم في الشح والإمساك بعد أن بينت لكم ما بينت من وجوب الإنفاق في سبيل الله.
قال الآلوسى: قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال، على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما، لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف. وجوز أن يراد: يرثهما وما فيهما، واختير الأول، لأنه يكفى لتوبيخهم، إذ لا علاقة لأخذ السموات والأرض هنا.. والجملة مؤكدة للتوبيخ، فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر، ومع تحقيق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح، وأدخل في الإنكار «1» .
ثم قال- تعالى-: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا.
والمراد بمن أنفق من قبل الفتح وقاتل: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين أنفقوا الكثير من أموالهم، قيل فتح مكة ... وقيل: المراد بالفتح: صلح الحديبية.
وإنما كان الذين أنفقوا وقاتلوا قبل هذا الوقت، أعظم درجة ممن فعل ذلك بعد هذا الوقت، لأن الأيام التي سبقت الفتح تعرض المسلمون خلالها لكثير من المصائب والخوف والجوع ونقص الثمرات.. فكان الإنفاق والجهاد فيها أشق على النفس، والثواب على قدر المشقة.
أى: لا يستوي منكم- أيها المؤمنون- في الفضيلة والدرجة من أنفق الكثير من ماله، من قبل أن تفتح مكة، وجاهد في سبيل الله- تعالى- جهادا كبيرا، أولئك الذين فعلوا ذلك، أعظم درجة ومنزلة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد أن فتحت مكة.
فالجملة الكريمة بيان لتفاوت الدرجات، على حسب تفاوت الأحوال والأعمال، وعطف- سبحانه- القتال في قوله وَقاتَلُوا على الإنفاق في قوله: أَنْفَقُوا للإشعار بشدة ارتباطهما، وأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 171. [.....](14/205)
قال القرطبي: أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح: فتح مكة. وقال الشعبي والزهري:
فتح الحديبية ... وفي الكلام حذف. أى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقائل، فحذف لدلالة الكلام عليه.
وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النصب «1» .
وقوله- تعالى-: مَنْ أَنْفَقَ.. عام يشمل جميع من بذل ماله قبل الفتح في سبيل الله.
وقيل: المراد به أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق.
وقوله- عز وجل-: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى مدح للفريقين، ودفع للتوهم من أن يظن ظان أن الفريق الثاني وهو الذي أنفق من بعد الفتح وقاتل، محروم من الأجر.
أى: وكلا الفريقين وعده الله- تعالى- المثوبة الحسنى وهي الجنة، إلا أن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد ذلك.
فهذه الآية أصل في تفاضل أهل الفضل فيما بينهم، وأن الفضل ثابت لهم جميعا إلا أنهم تفاوتوا على حسب أعمالهم وجهادهم وسبقهم.
ثم حتم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أى: أنه- تعالى- لا تخفى عليه خافية من أعمالكم الظاهرة أو الباطنة فأخلصوا أقوالكم وأفعالكم لله- تعالى- لتنالوا أجره وثوابه.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث التي تدل على فضل الصحابة- رضوان الله عليهم- ومنها ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا أصحابى، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» «2» .
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة، بتحريض أشد وأقوى على الإنفاق في وجوه الخير، فقال- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 17 ص 240.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 306.(14/206)
قال القرطبي: القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، وأقرض فلان فلانا، أى:
أعطاه ما يتجازاه واستقرضت من فلان أى: طلبت منه القرض فأقرضنى، واقترضت منه أى: أخذت منه القرض. وأصل الكلمة: القطع. ومنه المقراض، وأقرضته، أى: قطعت له من مالي قطعة يجازى عليها.
ثم قال: والتعبير بالقرض في هذه الآية، إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغنى الحميد، لكنه- تعالى- شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء» «1» .
والقرض الحسن: هو الإنفاق من المال الحلال، مع صدق النية، دون رياء أو سمعة. أو منّ أو أذى مع تحرى أوسط الأموال.
والاستفهام: للحض على البذل والعطاء، والتحريض على التحلي بمكارم الأخلاق.
ومَنْ اسم استفهام مبتدأ، وذَا اسم إشارة خبره، والَّذِي وصلته صفة لاسم الإشارة، أو بدل منه.
والمعنى: من هذا المؤمن القوى الإيمان، الذي يقدم ماله في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، وفي غير ذلك من وجوه الخير كمعاونة المحتاجين، وسد حاجة البائسين ... فَيُضاعِفَهُ لَهُ أى: فيعطيه- سبحانه- أجره على إنفاقه أضعافا مضاعفة.
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ، أى: ولهذا المنفق- فضلا عن كل ذلك- أجر كريم عند خالقه، لا يعلم مقداره إلا هو- تعالى-.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد اشتملت على ألوان من الحض على الإنفاق في وجوه الخير.
ومن ذلك التعبير بالاستفهام في ذاته، لأنه للتنبيه وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة.
ومن ذلك- أيضا- التعبير بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي.. إذ لا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكأن المخاطب لعظم شأنه، من شأنه أن يشار إليه، وأن يجمع له بين اسم الإشارة وبين الاسم الموصول.
ومن ذلك تسميته ما يبذله الباذل قرضا، ولمن هذا القرض؟ إنه لله الذي له خزائن السموات والأرض.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 3 ص 239.(14/207)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
فكأنه- تعالى- يقول: أقرضونى مما أعطيتكم، وسأضاعف لكم هذا القرض أضعافا مضاعفة، يوم القيامة يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً.
ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة، وضم الأجر الكريم إليها.
ومن ذلك التعبير عن الإنفاق بالقرض، إذ القرض معناه: إخراج المال. وانتظار ما يقابله من بدل.
والخلاصة أن هذه الآية وما قبلها، فيها ما فيها من الدعوة إلى الإنفاق في وجوه الخير، وإلى الجهاد في سبيل الله.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب، وساق جانبا مما يدور بينهم وبين المنافقين من محاورات.. فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
وقوله- تعالى- يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ منصوب بفعل مقدر، والرؤية بصرية، والخطاب لكل من يصلح له.(14/208)
والمعنى: واذكر- أيها العاقل- لتتعظ ولتعتبر، يوم تبصر المؤمنين والمؤمنات يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ. والأيمان: جمع يمين. والمراد جهة اليمين.
أى: يتحرك نورهم معهم من أمامهم، ومن جهة يمينهم، على سبيل التشريف والتكريم لهم.
قال ابن كثير: يقول- تعالى- مخبرا عن المؤمنين المتصدقين، أنهم يوم القيامة، يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، ويمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم «1» .
وعطف- سبحانه- الْمُؤْمِناتِ على الْمُؤْمِنِينَ للتنبيه على أن كلا من الذكر والأنثى. له أجره على عمله الصالح، بدون إجحاف أو محاباة لجنس على جنس، كما قال- تعالى-: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «2» .
والباء في قوله: وَبِأَيْمانِهِمْ بمعنى عن. واقتصر على ذكر الأيمان على سبيل التشريف لتلك الجهة، والمراد أن نورهم يحيط بهم من جميع جوانبهم.
وقوله: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ مقول لقول محذوف.
وقوله: بُشْراكُمُ اسم مصدر من بشر. أى: أخبر بما يسر.
والمعنى: تقول لهم الملائكة على سبيل التكريم والتحية: نبشركم اليوم بجنات عظيمة.
تجرى من تحت ثمارها وأشجارها الأنهار العذبة، حالة كونكم خالدين فيها خلودا أبديا، وذلك الذي أنتم فيه من نور يسعى بين أيديكم، ومن جنات أنتم خالدون فيها.. هو الفوز العظيم، الذي لا يعادله فوز أو فلاح.
وقوله- عز وجل-: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بدل من قوله- تعالى- يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.
أى: واذكر- أيها العاقل- أيضا- يوم يقول المنافقون والمنافقات، الذين أظهروا الإسلام، وأبطنوا الكفر، يقولون للذين آمنوا، على سبيل التذلل والتحسر.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 308.
(2) سورة النحل الآية 97.(14/209)
انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أى انتظرونا وتريثوا في سيركم لكي نلحق بكم، فنستنير بنوركم الذي حرمنا منه، وننتفع بالاقتباس من نوركم الذي أكرمكم الله- تعالى- به.
قال الآلوسى: انْظُرُونا أى: انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه، وذلك بأن يلحقوا بهم، فيستنيروا به.. وأصل الاقتباس طلب القبس، أى الجذوة من النار.
وقولهم للمؤمنين ذلك، لأنهم في ظلمة لا يدرون كيف يمشون فيها. وروى أن ذلك يكون على الصراط «1» .
وقوله- سبحانه- قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً حكاية لما يرد به عليهم المؤمنون، أو الملائكة.
أى: قال المؤمنون في ردهم على هؤلاء المنافقين: ارجعوا وراءكم حيث الموقف الذي كنا واقفين فيه فالتمسوا منه النور، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا، عن طريق تحصيل سببه وهو الإيمان، أو ارجعوا خائبين فلا نور لكم عندنا.
وهذا القول من المؤمنين لهم، على سبيل التهكم بهم، إذ لا نور وراء المنافقين.
وقوله: وَراءَكُمْ تأكيد لمعنى ارْجِعُوا إذ الرجوع يستلزم الوراء.
ثم بين- سبحانه- ما حدث للمنافقين بعد ذلك فقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ.
أى: فضرب بين المؤمنين وبين المنافقين يحاجز عظيم، هذا الحاجز العظيم، والسور الكبير لَهُ بابٌ باطن هذا الباب مما يلي المؤمنين فِيهِ الرَّحْمَةُ أى: فيه الجنة، وظاهر هذا الباب مما يلي المنافقين مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ.
أى: يأتى من جهته العذاب. قالوا: وهذا السور، هو الحجاب المذكور في سورة الأعراف في قوله- تعالى-: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.
والمقصود بهذه الآية الكريمة، بيان أن المؤمنين في مكان آمن تحيط به الجنة، أما المنافقون ففي مكان مظلم يؤدى بهم إلى النار وبئس القرار.
ثم حكى- سبحانه- أن المنافقين لم يكتفوا بهذا الرجاء للمؤمنين، بل أخذوا ينادونهم في تحسر وتذلل فيقولون لهم- كما حكى القرآن عنهم-: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 176.(14/210)
أى: ينادى المنافقون المؤمنين نداء كله حسرة وندامة، فيقولون لهم: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلى كما تصلون، وننطق بالشهادتين كما تنطقون؟
قالُوا بَلى أى: قال المؤمنون للمنافقين: بل كنتم معنا في الدنيا تنطقون بالشهادتين.
وَلكِنَّكُمْ في الدنيا فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أى: أظللتم أنفسكم بالنفاق الذي هو كفر باطن، وإسلام ظاهر.
وَتَرَبَّصْتُمْ والتربص: الانتظار والترقب، أى: وانتظرتم وقوع المصائب بالمؤمنين.
وَارْتَبْتُمْ أى: وشككتم في الحق الذي جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم وأعرضتم عنه.
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ والأمانى: جمع أمنية، وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل.
كزعمهم أنهم مصلحون، وأنهم على الحق، وأن المسلمين على الباطل.
حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أى: بقيتم على الفتنة، والارتياب، والتربص، والاغترار بالباطل، حتى جاءكم أمر الله، وهو قضاؤه فيكم بالموت.
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أى: وخدعكم في سعة رحمة الله الشيطان. فأطمعكم بأنكم ستنجون من عقابه- تعالى- مهما فتنتم أنفسكم وتربصتم بالمؤمنين وارتبتم في كون الإسلام حق.
وها أنتم الآن ترون سوء عاقبة نفاقكم، وإصراركم على كفركم.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيها المنافقون فِدْيَةٌ وهي ما يبذل من أجل افتداء النفس من العذاب.
وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى: ولا يؤخذ- أيضا- من الذين كفروا ظاهرا وباطنا فداء.
مَأْواكُمُ جميعا النَّارُ. أى: المكان الذي تستقرون فيه، هو النار.
هِيَ مَوْلاكُمْ أى: هذه النار هي أولى بكم من غيرها. والأصل هي مكانكم الذي يقال فيه أولى بكم.
ويجوز أن يكون المعنى: هذه النار: هي ناصركم، من باب التهكم بهم، على حد قول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع ... أى: لا ناصر لكم إلا النار.
والمراد نفى الناصر لهم على سبيل القطع، بعد نفى أخذ الفدية منهم. «1»
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 476.(14/211)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
قال صاحب الكشاف: قوله: هِيَ مَوْلاكُمْ قيل: هي أولى بكم ... وحقيقة مولاكم، أى: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم، أى مكان لقول القائل إنه لكريم.
ويجوز أن يراد: هي ناصركم. أى: لا ناصر لكم غيرها. والمراد: نفى الناصر على البتات، ونحوه قولهم أصيب فلان بكذا فاستنصر بالجزع. ومنه قوله- تعالى- وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ.
وقيل: هي مولاكم، أى تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
وعطف- سبحانه- الذين كفروا على المنافقين في عدم قبول الفدية، لاتحادهم في التكذيب بيوم الدين، وفي الاستهزاء بالحق الذي جاءهم من عند الله- تعالى-.
والمخصوص بالذم في قوله- تعالى-: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ محذوف والتقدير: وبئس المصير جهنم التي هي المكان الذي تصيرون إليه.
فأنت ترى أن المؤمنين قد بينوا للمنافقين، أنهم يوافقونهم على أنهم كانوا معهم في الدنيا.
ولكن الذي أدى بهؤلاء المنافقين إلى هذا المصير الأليم هو: فتنة أنفسهم، والتربص بالمؤمنين، والارتياب في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم والاغترار بخداع الشيطان.. فما نزل بهم من عذاب إنما هو بسبب أفعالهم القبيحة.
وبعد هذا الحديث المؤثر عن المؤمنين ونورهم، وعن المنافقين وظلماتهم وعن تلك المحاورات التي تدور بينهم.. بعد كل ذلك حرض- سبحانه- المؤمنين، على أن يروضوا أنفسهم على خشية الله- تعالى- وحذرهم من أن ينهجوا نهج أهل الكتاب في قسوة القلب، ووعد- سبحانه- المؤمنين الصادقين بالأجر الجزيل، وبالنور العظيم، فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)(14/212)
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَلَمْ يَأْنِ للتقرير، و «يأن» فعل مضارع، يقال:
أنى الشيء- كرمى- أنيا وأناء- بالفتح- وإنى- بالكسر- إذا حان أناه، أى: وقته، فهو فعل معتل حذفت منه الياء لسبقه بلم الجازمة، ومنه قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أى غير ناظرين حلول وقته.
والخطاب في الآية يحتمل أن يكون من باب العتاب لطائفة من المؤمنين، أصابهم بعض الفتور أو التكاسل، فيما أمروا به من الاجتهاد في طاعة الله- تعالى- بعد أن فتح الله- تعالى- لهم أقطار الأرض ورزقهم بالكثير من لين العيش، وخيرات الدنيا.
ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المبارك، وعبد الرازق، وابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا. بعد أن كان لهم من الجهد- وشظف العيش فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فعوتبوا على ذلك فنزلت هذه الآية.
ويحتمل أن يكون الخطاب في الآية لجميع المؤمنين، على سبيل الحض على المداومة على طاعة الله- تعالى-، والتحذير من التقصير.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى-: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ.
استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه، والمعاتب- على ما قاله الزجاج- طائفة منهم، وإلا فإن من المؤمنين من لم يزل خاشعا منذ أن أسلم إلى أن لقى ربه «1» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 179.(14/213)
والخشوع: التذلل والخضوع، واللام في قوله لِذِكْرِ اللَّهِ للتعليل، والمراد بذكر الله- تعالى-: ما يشمل كل قول أو فعل يؤدى إلى الخوف من الله- تعالى- بحيث يظهر أثر ذلك على الجوارح.
وقيل: المراد به: القرآن الكريم، فيكون قوله- تعالى- بعد ذلك وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ من باب عطف الشيء على نفسه، لاختلاف اللفظين، كما في قوله- تعالى-:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى.
والمعنى: لقد آن الأوان أن تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله- تعالى- وأن تلين قلوبهم لما أنزله- سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن، تقشعر منه جلود الذين يخافون ربهم، وترق له مشاعرهم ونفوسهم.
وبعد هذا التحريض للمؤمنين على المسارعة في طاعة الله- تعالى- وخشيته والإكثار من ذكره: نهاهم- سبحانه- عن التشبه بأهل الكتاب، الذين طال عليهم الأمد في الانغماس في شهوات الدنيا فقست قلوبهم فقال- تعالى- وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، وبالكتاب: التوراة والإنجيل.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى-: تَخْشَعَ والأمد: الغاية من زمان أو مكان. والمراد به هنا: الزمان الطويل.
أى: لقد آن الأوان أن تخشع قلوب الذين آمنوا لذكر الله وما نزل من الحق، وآن الأوان- أيضا- أن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم، حيث طال عليهم الوقت وهم منغمسون في الشهوات والملذات، فقست قلوبهم، وصارت لا تتأثر لا بالترغيب ولا بالترهيب، ولا تفرق بين الحرام والحلال. وأصبح كثير منهم خارجين عن الصراط المستقيم.
فأنت ترى الآية الكريمة قد حضت المؤمنين على الركون إلى ذكر الله- تعالى- بشدة ومداومة.. ونهتهم عن التشبه بأهل الكتاب في عدم الخشوع وفي قسوة القلوب، بسبب استيلاء المطامع والشهوات على قلوبهم.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله- تعالى-: أَلَمْ يَأْنِ من أنى الأمر إذا جاء أناه أى: وقته.. والآية نهى للمؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب، وذلك ان بنى إسرائيل، كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا ورقت(14/214)
قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان، غلبهم الجفاء والقسوة، واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره.
فإن قلت: ما معنى لذكر الله وما نزل من الحق؟ قلت: يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق القرآن، لأنه جامع للأمرين: الذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء.
وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله. وإذا تلى القرآن، كقوله- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً «1» .
والآية الكريمة تشير إلى أن الإهمال لذكر الله، والاسترسال في الشهوات كل ذلك يؤدى إلى فسوة القلوب، وإلى الفسوق عن أمر الله- تعالى-.
ولذا وجدنا كثيرا من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، تحض على الإكثار من ذكر الله- تعالى- قال- سبحانه-: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
وفي الحديث الشريف: يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يقعد قوم يذكرون الله- تعالى- إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم فيمن عنده» .
ولقد كان سماع الآية الكريمة، بتدبر وتفكر وخشوع، على رأس الأسباب التي أدت إلى توبة بعض العصاة توبة صادقة نصوحا.
فهذا هو الفضل بن عياض يذهب ليلا لارتكاب ما نهى الله عنه، فيسمع قارئا يقرأ هذه الآية، فيرتجف ويعود أدراجه وهو يقول: بلى والله قد آن أوان الخشوع لذكر الله.. اللهم إنى تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام «2» .
ثم وجه- سبحانه- خطابه إلى المؤمنين فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
وافتتاح الآية بقوله- تعالى-: اعْلَمُوا. يؤذن بأن ما سيلقى على مسامعهم من توجيهات، جدير بالانتباه إلى مضمونه، وإلى الامتثال لما اشتمل عليه من أمر أو نهى.
وليس المقصود من الآية إخبار المؤمنين بأن الله- تعالى- قادر على إحياء الأرض بعد موتها، فذلك أمر يعتقدونه، ولا يتم إيمانهم إلا به.
وإنما المقصود من هذه الآية الكريمة، بيان أن المواظبة على ذكر الله- تعالى- وعلى تلاوة
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 64.
(2) تفسير القرطبي ج 17 ص 251.(14/215)
كتابه، كل ذلك يكون له أثره في خشوع النفوس، وفي طهارة القلوب ... كأثر المطر عند ما ينزل على الأرض الجدباء المقفرة ... فما تلبث إلا أن تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
قال الإمام الرازي: قوله- تعالى-: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. فيه وجهان:
الأول: أنه تمثيل. والمعنى: أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة، المواظبة على الذكر سبب لعودة حياة الخشوع إليها، كما يحيى الله- تعالى- الأرض بالغيث.
والثاني: أن المراد من قوله: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، بعث الأموات فذكر ذلك ترغيبا في الخشوع والخضوع، وزجرا عن القساوة «1» .
والمراد بالآيات في قوله- تعالى-: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته، وعلمه- سبحانه-.
أى: قد بينا لكم الدلائل والبراهين الناطقة بقدرتنا وحكمتنا.. لعلكم بهذا البيان تعقلون ما أرشدناكم إليه، وتعملون بموجب ما عقلتموه، وبذلك تنالون الفلاح والسعادة، وتخشع قلوبكم لذكرنا ولآياتنا.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للمؤمنين الذين يبذلون أموالهم في سبيله. والذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فقال: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، يُضاعَفُ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
وقراءة: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بتشديد الصاد- من التصدق، فأدغمت التاء في الصاد بعد قلبها صادا لقرب مخرجيهما ... وأصل الكلام: المتصدقين والمتصدقات.
وقرأ ابن كثير وغيره إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ- بتخفيف الصاد- على أنه من التصديق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: علام عطف قوله: وَأَقْرَضُوا؟
قلت: على معنى الفعل في المصدقين، لأن «أل» بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى:
اصّدقوا، فكأنه قيل: «إن الذين أصدقوا وأقرضوا» «2» .
والمعنى: إن المؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا بأموالهم في وجوه الخير والدين وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن أنفقوا أموالهم الحلال في سبيل الله بدون من أو أذى.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 29 ص 231. طبعة دار الفكر- بيروت.
(2) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 65.(14/216)
هؤلاء الذين فعلوا ذلك يُضاعَفُ لَهُمْ أجرهم عند الله- تعالى- أضعافا كثيرة.
وَلَهُمْ فضلا عن كل ذلك، أجر كريم، لا يعلم مقداره إلا هو- سبحانه-.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مبتدأ.
وقوله: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ خبره، والذين آمنوا بالله ورسله إيمانا حقا- لهم منزلة الصديقين: منزلة المبالغين في الصدق واليقين.
فالصديق- بتشديد الدال- هو المبالغ في الصدق بما جاءه به الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تنفيذ ما كلف به تنفيذا تاما.
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ وهم الذين استشهدوا في سبيل الله- تعالى-: لَهُمْ أَجْرُهُمْ العظيم عند الله- تعالى- وَنُورُهُمْ الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة لهم كذلك.
فعلى هذا التفسير يكون قوله: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ مبتدأ، وجملة لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ، خبره، ويكون الوقف على الصِّدِّيقُونَ وقفا تاما.. والضمائر في لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ للشهداء.
ويصح أن يكون قوله وَالشُّهَداءُ معطوف على الصِّدِّيقُونَ عطف المفرد على المفرد، فهو عطف على الخبر. أى: وهم الشهداء عند ربهم.. ويكون الوقف على الشهداء تاما، وأخبر- سبحانه- عن الذين آمنوا بالله ورسله، أنهم صديقون وشهداء.
والمعنى على هذا الوجه: والذين آمنوا بالله ورسله، أولئك هم الذين في حكمه- تعالى- بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة، ورفعة الدرجة.
وقوله- تعالى- عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أى: للذين آمنوا بالله ورسله عند ربهم، مثل أجر الصديقين والشهداء ولهم مثل نورهم يوم القيامة، وناهيك به من أجر عظيم، ونور عميم.
وحذف ما يفيد التشبيه في الجملتين، للتنبيه على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: يريد أن المؤمنين بالله ورسله، هم عند الله- تعالى- بمنزلة الصديقين والشهداء، وهم الذين سبقوا إلى التصديق، واستشهدوا في سبيل الله.
وقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أى: لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم.
فإن قلت: كيف يسوى بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ قلت: المعنى أن الله(14/217)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
- تعالى- يعطى الذين آمنوا بالله ورسله أجرهم. ويضاعفه لهم بفضله. حتى يساوى أجرهم مع أضعافه، أجر أولئك، أى: أجر الصديقين والشهداء.
ويجوز أن يكون قوله: وَالشُّهَداءُ مبتدأ، وقوله، لَهُمْ أَجْرُهُمْ خبره ... «1» .
وقوله- تعالى-: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ بيان لسوء عاقبة الكافرين، بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين.
أى: والذين كفروا بالله ورسله، وكذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا أولئك أصحاب الجحيم، الملازمون لها ملازمة الشيء لصاحبه.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حضت المؤمنين على المواظبة على ذكر الله- تعالى- وطاعته ونهتهم عن التشبه بالذين قست قلوبهم، وبشرت المصدقين والمصدقات، والذين آمنوا بالله- تعالى- وبرسله إيمانا حقا.. بالأجر العظيم، وبالعطاء الجزيل.
ثم بين- سبحانه- حال الحياة، التي ركن إليها الكافرون، واطمأنوا بها.. ودعا المؤمنين إلى أن تكون هممهم متجهة نحو الآخرة، عن طريق التسلح بالأعمال الصالحة. فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 65.(14/218)
أى: اعْلَمُوا- أيها المؤمنون علم استجابة وامتثال لما آمركم به- أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا التي تعيشون فيها ما شاء الله لكم أن تعيشوا.. لَعِبٌ واللعب: هو قضاء الوقت في قول أو فعل لا فائدة من ورائه.
وَلَهْوٌ واللهو: اسم لفعل أو قول يقصد من ورائه التلذذ والتمتع، وصرف الآلام والهموم عن النفس.
وَزِينَةٌ الزينة اسم لما يتزين به الإنسان من ملبس أو مسكن أو ما يشبههما مما يفعله من أجل أن يكون في أعين الناس مهيبا جميلا.
وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ أى: وتفاخر فيما بينكم بالأموال والمناصب والأحساب والأعمال..
وتكاثر في الأموال والأولاد، والتكاثر تفاعل من الكثرة- كما أن التفاخر تفاعل من الفخر- وصيغة التفاعل جيء بها هنا، للمبالغة في إظهار ما يتفاخرون به، وما يتكاثرون فيه، حتى لكأنه ينافس غيره في ذلك ويريد الظهور عليه.
والحرص على التفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد، من طبيعة كثير من الناس، كما قال- تعالى-: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ.
ثم بين- سبحانه- حال الحياة الدنيا، التي يلعب الناس فيها، ويلهون ويتفاخرون.
ويتكاثرون.
فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ.
أى: هذه الحياة الدنيا حالها وصفتها ومثلها كمثل مطر أعجب الكفار وراقهم وسرهم، ما ترتب على هذا المطر، من نبات جميل نبت من الأرض بعد هطول الغيث عليها.
فقوله- تعالى-: كَمَثَلِ خبر لمبتدأ محذوف، أى: مثلها كمثل مطر.
والمراد بالكفار هنا: الجاحدون لنعم الله- تعالى- الساترون لها، وخصوا بالذكر، لأنهم أشد إعجابا وسرورا وانغماسا في زينة الحياة الدنيا من غيرهم.
وروى عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- أن المراد بالكفار هنا: الزراع الذين يزرعون الأرض بعد نزول المطر عليها، ويبذرون فيها البذور سموا كفارا من الكفر بمعنى(14/219)
الستر والإخفاء، يقال: كفر الزارع بذره أو زرعه إذا أخفاه في الأرض، حتى لا يتعرض للتلف أو الضياع.
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً.
والهيجان: الاضطراب والثوران، ومنه سميت الحرب بالهيجاء، لأن فيها يضطرب المقاتلون، ويثور بعضهم على بعض.
ويرى بعضهم أن معنى يَهِيجُ هنا: ييبس ويجف.
وعطف- سبحانه- جملة يَهِيجُ بحرف ثُمَّ لإفادة التراخي الرتبى، إذ أن وصول النبات إلى درجة من الهيجان وبلوغ منتهاه، لا يتأتى إلا بعد زمن طويل من بدء زراعته.
ولم يرتض بعض المحققين هذا المعنى فقال: تفسير يَهِيجُ بييبس فيه تسامح، فإن حقيقته أن يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له. أى: من الطول والغلظ «1» .
أى: ثم يتحرك هذا النبات الذي أعجب الكفار إلى أقصى ما يتأتى له من طول وقوة، ثم يبدأ في الضعف، فتراه- أيها الناظر إليه- نباتا مصفرا متغيرا عما كان عليه من النضرة، آخذا في الذبول وفي التهيؤ للحصاد، ثم يكون بعد ذلك حطاما، أى: نباتا محطما مكسرا.
والمقصود بقوله- تعالى- كَمَثَلِ غَيْثٍ.. إلخ التقرير والتأكيد لما وصفت به الدنيا من كونها لعبا ولهوا وزينة.
وتشبيهها في سرعة زوالها، وانقضاء نعيمها، وقلة فائدتها.. بحال نبات ظهر على الأرض بعد هطول المطر عليها، واستمر في ظهوره وجماله ونضرته وهيجانه، لفترة مّا من الحياة، أعجب خلالها الكفار به، ثم حل بهذا النبات اليانع الاصفرار والاضمحلال حتى صار حطاما مفتتا تذروه الرياح.
والمقصود بهذا التشبيه، زجر الناس عن الركون إلى الحياة الدنيا ركونا ينسون معه فرائض الله- تعالى- وتكاليفه التي كلفهم بها- سبحانه-.
وعطف- سبحانه-: فَتَراهُ مُصْفَرًّا بالفاء للإشعار بقصر المسافة، مهما طالت في عرف الناس- بين نضرة الزرع واستوائه، وبين اصفراره ونهايته.
قال صاحب الكشاف- رحمه الله-: أراد- سبحانه- أن الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور، وهي اللعب واللهو ... وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 292. [.....](14/220)
وشبه حال الدنيا بسرعة تقضّيها، مع قلة جدواها، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتمل، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله، فيما رزقهم من الغيث، والنبات.. فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاما «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان عظم الآخرة، وهوان الدنيا فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أى: لمن كفر بالله- تعالى- وفسق عن أمره.
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أى: لمن آمن بالله- تعالى- واتبع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وحافظ على أداء ما كلف به بإخلاص وحسن اقتداء.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أى: وما أحوال الحياة الدنيا وما اشتملت عليه من شهوات، إلا متاع زائل، لا يقدم عليه، ولا يتشبع به إلا من خدع بزخرفه، واغتر بمظهره.
فالمراد بالغرور: الخديعة، مصدر غره. أى: خدعه وأطمعه بالباطل.
ثم أمرهم- سبحانه- بالمسارعة الى ما يسعدهم، بعد أن بين لهم حال الحياة الدنيا فقال: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.
وقوله- تعالى- سابِقُوا من المسابقة وهي محاولة أن يسبق الإنسان غيره.
ومِنْ في قوله مِنْ رَبِّكُمْ ابتدائية، والجار والمجرور صفة المغفرة.
أى: سارعوا- أيها المؤمنون- مسارعة السابقين لغيرهم، إلى مغفرة عظيمة كائنة من ربكم.
فالتعبير بقوله: سابِقُوا لإلهاب الحماس وحض النفوس إلى الاستجابة لما أمروا به، حتى لكأنهم في حالة مسابقة يحرص كل قرين فيها إلى أن يسبق قرينه.
وقوله: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ... معطوف على المغفرة. أى:
سابقوا غيركم- أيها المؤمنون- إلى مغفرة عظيمة من ربكم، وإلى جنة كريمة هذه الجنة عرضها وسعتها ورحابتها.. كسعة السماء والأرض.
وهذه الجنة قد أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إيمانا حقا، جعلهم لا يقصرون في أداء واجب من الواجبات التي كلفهم- سبحانه- بها.
قال الإمام الفخر الرازي ما ملخصه: في كون الجنة عرضها كعرض السماء والأرض وجوه:.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 65.(14/221)
منها: أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا ... لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله- تعالى-.
ومنها: أن المقصود المبالغة في الوصف بالسعة للجنة، وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما «1» .
وخص- سبحانه- العرض بالذكر، ليكون أبلغ في الدلالة على عظمها، واتساع طولها، لأنه إذا كان عرضها كهذا، فإن العقل يذهب كل مذهب في تصور طولها، فقد جرت العادة أن يكون الطول أكبر من العرض.
قال الإمام ابن كثير: وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل- ملك الروم- كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار» «2» .
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعود إلى الذي وعد الله- تعالى- به عباده المؤمنين من المغفرة والجنة.
أى: ذلك العطاء الجزيل فضل الله- تعالى- وحده وهو صاحب الفضل العظيم لا يعلم مقداره إلا هو- عز وجل-.
فأنت ترى أن الله- تعالى- بعد أن بين حال الحياة الدنيا. دعا المؤمنين إلى المسابقة إلى العمل الصالح، الذي يوصلهم الى ما هو أكرم وأبقى ... وهو الجنة.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ... «3» .
ثم بين- سبحانه- أن كل شيء في هذه الحياة، خاضع لقضاء الله- تعالى- وقدره، وأن على المؤمن الصادق أن يكون شاكرا عند الرخاء، صابرا عند البلاء ... فقال- تعالى-:
__________
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 4.
(2) تفسير ابن كثير ج 1 ص 404.
(3) سورة آل عمران الآيات 14- 17.(14/222)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
وما في قوله- تعالى- ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ نافية، ومِنْ مزيدة لتأكيد هذا النفي وإفادة عمومه. ومفعول «أصاب» محذوف. وقوله فِي الْأَرْضِ، إشارة إلى المصائب التي تقع فيها من فقر وقحط، وزلازل.
وقوله: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ للإشارة إلى ما يصيب الإنسان في ذاته، كالأمراض، والهموم.
والاستثناء في قوله- تعالى- إِلَّا فِي كِتابٍ من أعم الأحوال، والمراد بالكتاب:
اللوح المحفوظ، أو علمه- عز وجل- الشامل لكل شيء.
وقوله: نَبْرَأَها من البرء- بفتح الباء- بمعنى الخلق والإيجاد، والضمير فيه يعود إلى النفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ما ذكره الله- تعالى- من خلق المصائب في الأرض والأنفس.
والمعنى: واعلموا- أيها المؤمنون علما يترتب عليه آثاره من العمل الصالح- أنه ما أصابكم أو ما أصاب أحدا مصيبة، هذه المصيبة كائنة في الأرض- كالقحط والزلازل- أو في أنفسكم- كالأسقام والأوجاع- إلا وهذه المصائب مسجلة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ... وهذا التسجيل كائن من قبل أن نخلق هذه الأنفس، وهذه المصائب.
وكرر- سبحانه- حرف النفي في قوله وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ للإيماء إلى أن المصائب التي تتعلق بذات الإنسان، يكون أشد تأثرا واهتماما بها، أكثر من غيرها.
واسم الإشارة في قوله: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعود إلى الكتابة في الكتاب.
أى: إن ذلك الذي أثبتناه في لوحنا المحفوظ وفي علمنا الشامل لكل شيء.. قبل أن نخلقكم، وقبل أن نخلق الأرض.. يسير وسهل علينا، لأن قدرتنا لا يعجزها شيء، وعلمنا لا يعزب عنه شيء.(14/223)
فالآية الكريمة صريحة في بيان أن ما يقع في الأرض وفي الأنفس من مصائب- ومن غيرها من مسرات- مكتوب ومسجل عند الله- تعالى- قبل خلق الأرض والأنفس.
وخص- سبحانه- المصائب بالذكر، لأن الإنسان يضطرب لوقوعها اضطرابا شديدا، وكثيرا ما يكون إحساسه بها، وإدراكه لأثرها، أشد من إحساسه وإدراكه للمسرات.
ومن الآيات التي تشبه هذه الآية في معناها قوله- تعالى-: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا، هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «1» .
ثم بين- سبحانه- الحكم التي من أجلها فعل ذلك فقال: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.
فاللام في قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا.. متعلقة بمحذوف. وقوله: تَأْسَوْا من الأسى، وهو الحزن والضيق الشديد. يقال: أسى فلان على كذا- كفرح- فهو يأسى أسى، إذا حزن واغتم لما حدث، ومنه قوله- تعالى- حكاية عن شعيب- عليه السلام-: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ «2» .
أى: فعلنا ما فعلنا من إثبات ما يصيبكم في كتاب من قبل خلقكم، وأخبرناكم بذلك، لكي لا تحزنوا على ما أصابكم من مصائب حزنا يؤدى بكم إلى الجزع، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره ولكي لا تفرحوا بما أعطاكم الله- تعالى- من نعم عظمى وكثيرة.. فرحا يؤدى بكم إلى الطغيان وإلى عدم استعمال نعم الله- تعالى- فيما خلقت له.. فإن من علم ذلك علما مصحوبا بالتدبر والاتعاظ ... هانت عليه المصائب، واطمأنت نفسه لما قضاه الله- تعالى- وكان عند الشدائد صبورا، وعند المسرات شكورا.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: يعنى: أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله، قلّ أساكم على الفائت، وفرحكم على الآتي، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة، لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال، لم يعظم فرحه عند نيله.
فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها، أن لا يحزن ولا يفرح؟
__________
(1) سورة التوبة الآية 51.
(2) سورة الأعراف الآية 93.(14/224)
قلت: المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله- تعالى- ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغى الملهى عن الشكر.
فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله، والاعتداد بها مع الشكر، فلا بأس بهما «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ.
أى: والله- تعالى- لا يحب أحدا من شأنه الاختيال بما آتاه- سبحانه- من نعم دون أن يشكره- تعالى- عليها، ومن شأنه- أيضا- التفاخر والتباهي على الناس بما عنده من أموال وأولاد.. وإنما يحب الله- تعالى- من كان من عباده متواضعا حليما شاكرا لخالقه- عز وجل-.
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد سكبتا في قلب المؤمن، كل معاني الثقة والرضا بقضاء الله في كل الأحوال.
وليس معنى ذلك عدم مباشرة الأسباب التي شرعها الله- تعالى- لأن ما سجله الله في كتابه علينا قبل أن يخلقنا، لا علم لنا به. وإنما علمه مرده إليه وحده- تعالى-.
وهو- سبحانه- لا يحاسبنا على ما نجهله، وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به، أو نهانا عنه عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكما سجل- سبحانه- أحوالنا قبل أن يخلقنا، فقد شرع الأسباب وأمرنا بمباشرتها.
وبين لنا في كثير من آياته، أن جزاءنا من خير أو شر على حسب أعمالنا.
وعند ما قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: أفلا نتكل على ما قدره الله علينا؟
أجابهم بقوله: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» .
وقوله- سبحانه- بعد ذلك: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بدل من قوله- تعالى-: كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ والمراد بالذين يبخلون: كل من يبخل بماله أو بعلمه..
فكأنه- تعالى- يقول: والله لا يحب الذين يبخلون بما أعطاهم من فضله، بخلا يجعلهم لا ينفقون شيئا منه في وجوه الخير، لأن حبهم لأموالهم جعلهم يمسكونها ويشحون بها شحا شديدا.. ولا يكنفون بذلك، بل يأمرون غيرهم بالبخل والشح.
وعلى رأس هؤلاء الذين لا يحبهم الله- تعالى- المنافقون، فقد كانوا يبخلون بأموالهم عن إنفاق شيء منها في سبيل الله، وكانوا يتواصون بذلك فيما بينهم، فقد قال- سبحانه-
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 66.(14/225)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
في شأنهم: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا. وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ «1» .
وقوله- سبحانه-: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تذييل المقصود به ذم هؤلاء البخلاء على بخلهم.
وجواب الشرط محذوف، أغنت عنه جملة فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ والغنى: هو الموصوف بالغنى- وهي صفة من صفات الله- عز وجل- إذ هو الغنى غنى مطلقا، والخلق جميعا في حاجة إلى عطائه- سبحانه- والحميد: وصف مبالغة من الحمد. والمراد به أنه- تعالى- كثير الحمد والعطاء للمنفقين في وجوه الخير.
أى: ومن يعرض عن هدايات الله- تعالى- وعن إرشاداته ... فلن يضر الله شيئا، فإن الله- تعالى- هو صاحب الغنى المطلق الذي لا يستغنى عن عطائه أحد، وهو- سبحانه- كثير الحمد والعطاء لمن استجاب لأمره فأنفق مما رزقه الله بدون اختيال أو تفاخر أو أذى.
ثم بين- سبحانه- أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسله إلى الناس، ليهدوهم إلى طريق الحق، وأن الناس منهم من اتبع الرسل، ومنهم من أعرض عنهم، ومنهم من ابتدع أمورا من عند نفسه لم يرعها حق رعايتها.. فقال- تعالى-:
[سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
__________
(1) سورة المنافقون الآية 7.(14/226)
والمراد بالبينات في قوله- تعالى-: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ الحجج والدلائل التي تشهد لهم بأنهم رسل من عند الله- تعالى- وتدخل فيها المعجزات دخولا أوليا.
والمراد بالكتاب: جنس الكتب. وتشمل التوراة والإنجيل وغيرهما.
والميزان: الآلة المعروفة بين الناس لاستعمالها في المكاييل وغيرها.. والمراد بها العدل بين الناس في أحكامهم ومعاملاتهم.
وشاع إطلاق الميزان على العدل، باستعارة لفظ الميزان على العدل، على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس، والمراد بإنزاله: تبليغه ونشره بين الناس.
أى: بالله لقد أرسلنا رسلنا، وأيدناهم بالحجج والبراهين الدالة على صدقهم، وأنزلنا معهم كتبنا السماوية، بأن بلغناهم إياها عن طريق وحينا، وأنزلنا معهم العدل بأن أرشدناهم إلى طرقه، وإلى إعطاء كل ذي حق حقه.
قال ابن كثير: يقول الله- تعالى-: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أى:
بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وهو النقل الصدق وَالْمِيزانَ وهو العدل أو وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة «1» .
وأكد- سبحانه- هذا الإرسال، للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ولبيان أنه واحد من هؤلاء الرسل الكرام، وأن رسالته إنما هي امتداد لرسالتهم..
وقوله- تعالى-: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ علة لما قبله. أى: أرسلنا الرسل. وأنزلنا الكتاب وشرعنا العدل، ليقوم الناس بنشر ما يؤدى إلى صلاح بالهم، واستقامة أحوالهم، عن طريق التزامهم بالحق والقسط في كل أمورهم.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 314.(14/227)
قال الآلوسى: «والقيام بالقسط» أى: بالعدل، يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب، وهو- أى: القسط- لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به، معاشا ومعادا «1» .
وقوله- تعالى-: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ معطوف على ما قبله.
والمراد بإنزال الحديد: خلقه وإيجاده. وتهيئته للناس، والإنعام به عليهم، كما في قوله- سبحانه- وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ «2» .
والمراد بالبأس الشديد: القوة الشديدة التي تؤدى إلى القتل وإلحاق الضرر بمن توجه إليه، أى: لقد أرسلنا رسلنا بالأدلة الدالة على صدقهم، وأنزلنا معهم ما يرشد الناس إلى صلاحهم.
وأوجدنا الحديد، وأنعمنا به عليكم، ليكون قوة شديدة لكم في الدفاع عن أنفسكم، وفي تأديب أعدائكم، وليكون كذلك مصدر منفعة لكم في مصالحكم وفي شئون حياتكم.
فمن الحديد تكون السيوف وآلات الحرب.. ومنه- ومعه غيره- تتكون القصور الفارهة، والمبانى العالية الواسعة، والمصانع النافعة.. وآلات الزراعة والتجارة.
فالآية الكريمة تلفت أنظار الناس إلى سنة من سنن الله- تعالى- قد أرسل الرسل وزودهم بالهدايات السماوية التي تهدى الناس إلى ما يسعدهم.. وزودهم- أيضا- بالقوة المادية التي تحمى الحق الذي جاءوا به وترد كيد الكائدين له في نحورهم، وترهب كل من يحاول الاعتداء عليه، كما قال- تعالى-: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «3» .
ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: ما ملخصه: أى: وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق، وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، تنزل عليه السور المكية، لبيان أن دين الله حق.
فلما قامت الحجة على من خالفه، شرع الله القتال بعد الهجرة، حماية للحق، وأمرهم بضرب رقاب من عاند الحق وكذبه.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 188.
(2) سورة الزمر الآية 6.
(3) سورة الأنفال الآية 60.(14/228)
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له. وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
ولهذا قال- تعالى-: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعنى السلاح كالسيف والحراب.
وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أى: في معايشهم كالفأس والقدوم.. وغير ذلك «1» .
هذا، ومن المفسرين الذين فصلوا القول في منافع الحديد، وفي بيان لماذا خصه الله- تعالى- بالذكر: الإمام الفخر الرازي فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه: ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة، جعله الله سهل الوجدان، كثير الوجود. والذهب لما كانت حاجة الناس إليه قليلة، جعله الله- تعالى- عزيز الوجود.
وبهذا تتجلى رحمة الله على عباده، فإن كل شيء كانت حاجتهم إليه أكثر جعل الحصول عليه أيسر.
فالهواء- وهو أعظم ما يحتاج الإنسان إليه- جعل الله تعالى- الحصول عليه سهلا ميسورا.. فعلمنا من ذلك أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر، كان وجدانه أسهل.
ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله- تعالى- أشد من الحاجة إلى كل شيء، فنرجوه من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا، كما قال الشاعر:
سبحان من خص العزيز بعزة ... والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي ... نفس، فمحتاج إلى أنفاسه «2»
وقوله: - سبحانه-: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ.. معطوف على محذوف يدل عليه السياق.
والمراد بقوله: وَلِيَعْلَمَ أى: وليظهر علمه- تعالى- للناس، حتى يشاهدوا آثاره.
أى: وأنزل- سبحانه- الحديد لكي يستعملوه في الوجوه التي شرعها الله وليظهر- سبحانه- أثر علمه حتى يشاهد الناس، من الذي سيتبع الحق منهم، فينصر دين الله- تعالى- وينصر رسله، ويستعمل نعمه فيما خلقت له حالة كونه لا يرى الله- تعالى-
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 315.
(2) راجع تفسير الفخر الرازي ج 29 ص 243. [.....](14/229)
بعينيه، وإنما يتبع أمره، ويؤمن بوحدانيته ووجوده وعلمه وقدرته.. عن طريق ما أوحاه- سبحانه- إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: بِالْغَيْبِ حال من فاعل يَنْصُرُهُ.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أى: أن الله- تعالى- هو المتصف بالقوة التي ليس بعدها قوة وبالعزة التي لا تقاربها عزة.
وختمت الآية بهذا الختام، لأنه هو المناسب لإرسال الرسل، ولإنزال الكتب والحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس.
فكان هذا الختام تعليل لما قبله. أى: لأن الله- تعالى- قوى في أخذه عزيز في انتقامه فعل ما فعل من إرسال الرسل، ومن إنزال الحديد.
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ.. معطوف على جملة: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ عطف الخاص على العام.
أى: لقد أرسلنا رسلا كثيرين.. وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم، وجعلنا في ذريتهما عددا من الأنبياء، وأوحينا إليهم كتبنا، التي تهدى أقوامهم إلى طريق الحق، كالتوراة التي أنزلناها على موسى، وكالزبور الذي أنزلناه على داود.
وخص- سبحانه- نوحا وإبراهيم- عليهما السلام- بالذكر، لشهرتهما ولأن جميع الأنبياء من نسلمها.
والضمير في قوله- تعالى-: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أى: فمن ذريتهم من اهتدى إلى الدين الحق، وآمن به، وقام بأداء تكاليفه. وكثير من أفراد هذه الذرية فاسقون. أى: خارجون عن الاهتداء إلى الحق، منغمسون في الكفر والضلال.
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال: قفا فلان أثر فلان.. إذا اتبعه، وقفى على أثره بفلان، إذا اتبعه إياه.. وأصله من القفا وهو مؤخر العنق.. فكأن الذي يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه.
وضمير الجمع في قوله عَلى آثارِهِمْ يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب.
أى: ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول. حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أى: أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه.(14/230)
قالوا: والإنجيل كلمة يونانية من النجل وهو الأصل، يقال: رحم الله ناجليه، أى:
والديه، وقيل: الإنجيل مأخوذ من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته. ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجل. وقيل هو من النجل الذي هو سعة العين، ومنه قولهم: طعنة نجلاء، أى: واسعة.
وسمى الإنجيل بهذا الاسم، لأنه سعة ونور وضياء، أنزله الله- تعالى- على نبيه عيسى، ليكون بشارة وهداية لقومه «1» .
وأعاد- سبحانه- مع عيسى- عليه السلام- كلمة وَقَفَّيْنا للإشعار بأن المسافة التي كانت بين عيسى- عليه السلام- وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة.
ثم بين- سبحانه- بعض السمات التي كانت واضحة في أتباع عيسى فقال: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ.
والرأفة: اللين وخفض الجناح، والرحمة. العطف والشفقة.
قالوا: وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص، لأن الرأفة، رحمة خاصة، تتعلق بدفع الأذى والضر. أما الرحمة فهي أشمل وأعم، لأنها عطف وشفقة على كل من كان في حاجة إليها.
و «الرهبانية» معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان. وهم النصارى المبالغون في الرهبة والخوف من الله- تعالى- والزهد في متاع الحياة الدنيا.
قال بعض العلماء: والرهبانية: اسم للحالة التي يكون عليها الراهب متصفا بها في غالب شئون دينه، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس، لأن قياس النسب إلى الراهب: الراهبية، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة، كما زيدت في قولهم: شعرانى، لكثير الشعر، ولحياني لعظيم اللحية «2» .
وقوله- تعالى-: ورهبانية ابتدعوها.. منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
أى: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فهو من باب الاشتغال.
ويصح أن يكون معطوفا على قوله: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وقوله: ابْتَدَعُوها في موضع
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 171.
(2) تفسير التحرير والتنوير ج 27 ص 241 للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. - رحمه الله-.(14/231)
الصفة، والكلام على حذف مضاف، أى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة لهم.
وجملة: ما كتبناها عليهم، مستأنفة مبينة لجملة ابْتَدَعُوها.
والاستثناء في قوله: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ منقطع.
والضمير في قوله: فَما رَعَوْها يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية.
والمعنى: ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر، حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به رَأْفَةً أى لينا وخفض جناح وَرَحْمَةً أى: شفقة وعطفا، وحب رهبانية مبتدعة منهم، أى: هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم، زهدا في متاع الحياة الدنيا.
ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ولكنهم بمرور الأيام، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف.. بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم.
ولذا ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
أى: أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى- عليه السلام- وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده.. فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة.
وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- حيث كفروا به وقالوا: الله ثالث ثلاثة، أو قالوا: المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب.
وقوله: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذي جاء به عيسى- عليه السلام- وفسقوا عن أمر ربهم.. أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا.
قال الإمام ابن جرير: واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها.
فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، ولم يقوموا بها، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهودوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حتى رعايتها، لأنهم كانوا كفارا.. فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق(14/232)
رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك لأن الله- تعالى- قد أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم، فدل ذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها.
وكثير منهم- أى: من الذين ابتدعوا الرهبانية- أهل معاص، وخروج عن طاعة الله- تعالى- وعن الإيمان به «1» .
وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه: وقوله- تعالى- ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة.
وقوله- سبحانه-: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أى: ما فرضناها نحن عليهم رأسا، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله- تعالى-: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ما حافظوا عليها حق المحافظة، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر، وهو عهد مع الله- تعالى- يجب رعايته، لا سيما إذا قصد به رضاه- عز وجل.
وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل. أى: ما قضيناها عليهم لشيء من الأشياء، إلا ليبتغوا بها رضوان الله، ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها.. إلا أنهم لم يحافظوا عليها، ولم يرعوها حق رعايتها.
والفرق بين الوجهين: أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا، وأن الثاني يقتضى أنهم أمروا بها، لابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها.
والظاهر أن الضمير في قوله فَما رَعَوْها يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم، أى: فما رعاها كلهم بل بعضهم «2» .
فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى- عليه السلام- فطهروا أرواحهم من كل دنس، وزهدوا في متع الحياة الدنيا.. وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- وقالوا الأقوال الباطلة في شأنه، وفعلوا الأفعال القبيحة التي تغضب الله- تعالى-:
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذا النداء للمؤمنين فقال- تعالى:
__________
(1) راجع تفسير ابن جرير ج 27 ص 238.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 27 ص 191.(14/233)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، اتقوا الله في كل ما تأتون وما تذرون، وداوموا على الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم واثبتوا على ذلك.
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أى: يعطكم بسبب ذلك نصيبين وضعفين من رحمته- سبحانه- وفضله.
وأصل الكفل- كما يقول القرطبي- كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط.. أى يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي، كما يحفظ الكفل الراكب من السقوط «1» .
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ أى: ويجعل لكم بفضله نورا تمشون به يوم القيامة. كما قال- تعالى-: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ أى: ما فرط منكم من ذنوب، بأن يزيلها عنكم.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى: واسع المغفرة والرحمة لمن اتقاه وأطاعه.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وعد المؤمنين على تقواهم وعلى إيمانهم برسوله، أن يؤتيهم نصيبين من رحمته.. وأن يجعل لهم نورا يمشون به، فيهديهم إلى ما يسعدهم في كل شئونهم، وأن يغفر لهم ما سبق من ذنوبهم.. فضلا منه وكرما.
قالوا: وأعطى الله- تعالى- للمؤمنين نصيبين من الأجر، لأن أولهما بسبب إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وثانيهما: بسبب إيمانهم بالرسل السابقين، كما أعطى مؤمنى أهل الكتاب نصيبين من
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 266.(14/234)
الأجر: أحدهما للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والثاني للإيمان- بعيسى- عليه السلام- الذي نسخت شريعته بالشريعة المحمدية.
وقوله- سبحانه-: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ...
رد على مزاعم أهل الكتاب أنهم شعب الله المختار، وأنهم أفضل من الأمة الإسلامية.
قال الجمل ما ملخصه: لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله- تعالى- أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ... قالوا للمسلمين: أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابنا وكتباكم. ومن لم يؤمن منا بكتابكم فله أجر كأجركم، فبأى شيء فضلتم علينا؟ فأنزل الله هذه الآية.
ولا زائدة، واللام متعلقة بمحذوف، هو معنى الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط، إذ التقدير: إن تتقوا وتؤمنوا برسوله، يؤتكم الله من فضله كذا وكذا- وقد أعلمناكم بذلك- لكي يعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضل الله.
أى: أنهم لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله.. كالكفلين من رحمته وكمغفرة الذنوب- لأنهم لم يؤمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ولم يخلصوا العبادة له- عز وجل-.. «1» .
وقوله- سبحانه- وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مؤكد لما قبله، ومقرر له.
أى: ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على الظفر بشيء من فضل الله إلا إذا آمنوا بالله ورسله.. وليعلموا- أيضا- أن الفضل والعطاء بيد الله- تعالى- وحده، يمنحه لمن يشاء ويختار من عباده، وهو- سبحانه- صاحب الفضل الواسع العظيم.
وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون المقصود من الآيتين تحريض المؤمنين من هذه الأمة على الثبات على تقوى الله- تعالى- واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، وتبشيرهم بالعطاء الجزيل إذا ما فعلوا ذلك.
والرد على المتفاخرين من أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم ليس أحد أفضل منهم، وأن الأجر ثابت لهم سواء آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم أم استمروا على كفرهم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 298.(14/235)
مرتين، أنزل الله هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ... في حق هذه الأمة.
وهي كقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ومما يؤيد هذا القول- أى: أن هذه الآية في حق هذه الأمة- ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود.
ثم قال: من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى.
ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم فغضبت النصارى واليهود، وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء. قال:
هل ظلمتكم من أجركم شيئا، قالوا لا: قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء «1» .
ويرى بعض المفسرين أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب، فيكون المعنى: يا من آمنتم بموسى وبعيسى وبمحمد- عليهم الصلاة والسلام- اتقوا الله وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم واثبتوا على ذلك، يؤتكم الله- تعالى- كفلين من رحمته.
وليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب، أنهم لن ينالوا شيئا مما ناله المؤمنون منهم.
ومن المفسرين الذين ساروا على هذا التفسير الإمام ابن جرير، فقد قال- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: يقول- تعالى ذكره-: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، خافوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم..
أى: يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى وبمحمد- عليهما الصلاة والسلام- «2» .
ويبدو لنا أن الخطاب في هذه الآية للمؤمنين من هذه الأمة، على سبيل الحض والتبشير، وأن قوله- تعالى- بعد ذلك: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ... واضح في ذلك، وان جعل الخطاب لمؤمنى أهل الكتاب لا دليل عليه.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 267.
(2) تفسير ابن جرير ج 27 ص 242.(14/236)
ولذا قال بعض المحققين: هذه الآية الكريمة من سورة الحديد، في المؤمنين من هذه الأمة، وأن سياقها واضح في ذلك، وأن من زعم من أهل العلم أنها في أهل الكتاب فقد غلط، وان ما وعد الله به المؤمنين من هذه الأمة، أعظم مما وعد به مؤمنى أهل الكتاب «1» .
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الحديد» نسأل الله- تعالى- ان يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده- وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فندق الشيراتون بالدوحة- قطر صباح الخميس 24 من رجب 1406 هـ 3 من أبريل 1986 م كتبه الراجي عفو ربه محمد سيد طنطاوى
__________
(1) راجع أضواء البيان ج 7 ص 816 الشيخ محمد أمين الشنقيطى.(14/237)
تفسير سورة المجادلة(14/239)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «المجادلة» - بفتح الدال وكسرها والثاني أظهر، لأن افتتاح السورة في المرأة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في شأن زوجها-.
وهذه السورة: هي السورة الثامنة والخمسون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة «المنافقون» ، وقبل سورة «التحريم» .
وعدد آياتها ثنتان وعشرون آية في المصحف الكوفي والبصري والشامي، وإحدى وعشرون آية في المصحف المكي والمدني.
2- وهي من السور المدنية الخالصة. ومن قال بأن فيها آيات مكية، لم يأت بدليل يعتمد عليه في ذلك.
قال القرطبي: «هذه السورة مدنية في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي. وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة. غير قوله- تعالى-:
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ نزلت بمكة» «1» .
3- وقد افتتحت سورة «المجادلة» بالحديث عن المرأة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في شأن زوجها، وقد أصدر- سبحانه- حكمه العادل في مسألتها، مبينا حكم الظهار فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً، ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ.
4- ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن الذين يحادون الله ورسوله فبينت سوء عاقبتهم، لأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فهو- سبحانه- ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 269.(14/241)
مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
5- ثم وجه- سبحانه- ثلاثة نداءات إلى المؤمنين، أمرهم في أول نداء بأن يتناجوا بالبر والتقوى.. وأمرهم في النداء الثاني أن يفسح بعضهم لبعض في المجالس.. وأمرهم في النداء الثالث إذا ما ناجوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً، ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
6- وبعد أن عجبت السورة الكريمة من أحوال المنافقين، وبينت سوء عاقبتهم، وكيف أن الشيطان قد استحوذ عليهم، فأنساهم ذكر الله.
بعد كل ذلك ختمت السورة الكريمة ببيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين وببيان صفاتهم الكريمة، فقال- عز وجل- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
7- هذا، والمتأمل في سورة المجادلة، يراها قد بينت حكم الظهار، وأبطلت ما كان شائعا من أن الرجل إذا ظاهر من زوجته لا تحل له.. وساقت جانبا من فضل الله- تعالى- على عباده، حيث أجاب دعاء امرأة قد اشتكت إليه، وقضى في مساءلتها قبل أن تقوم من مكانها، وهي بجانب النبي صلى الله عليه وسلم تجادله في شأن زوجها.
كما يراها قد كشفت القناع عن المنافقين، وفضحتهم على أقوالهم الباطلة، وأفعالهم الذميمة، وموالاتهم لأعداء الله ورسوله.
كما يراها قد ساقت ألوانا متعددة من الآداب التي يجب على المؤمنين أن يتحلوا بها، وبشرتهم برضا الله- تعالى- عنهم، متى أخلصوا له- سبحانه- العبادة والطاعة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدوحة- قطر صباح الأحد: 27 من رجب سنة 1406 هـ 6/ 4/ 1986 م د. محمد سيد طنطاوى(14/242)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما أخرجه الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة بنت ثعلبة قالت: فىّ والله وفي- زوجي- أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة.
قالت: كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت: فدخل على يوما فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنت على كظهر أمى.(14/243)
قالت: ثم خرج فجلس في نادى قومه ساعة، ثم رجع، فإذا هو يريدني عن نفسي، فقالت له: كلا والذي نفس خولة بيده لا تخلص إلىّ، وقلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه..
قالت: فواثبنى، فامتنعت عنه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عنى.
ثم خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابا، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه، فذكرت له صلى الله عليه وسلم ما لقيت من زوجي، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه.
قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير فاتقى الله فيه» .
قالت: فو الله ما برحت حتى نزل فىّ قرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سرى عنه، فقال لي: «يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا» . ثم قرأ على هذه الآيات.
وفي رواية: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سنى، ونثرت بطني، جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله فحدثني بها.
فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت بشيء في شأنك حتى الآن» وفي رواية أنه قال لها: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» .
فقالت: يا رسول الله، إنه ما ذكر طلاقا، وأخذت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم ثم قالت:
اللهم إنى أشكو إليك فاقتي، وشدة حالي، وإن لي من زوجي أولادا صغارا، إن ضمّهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلى جاعوا.
قالت: وما برحت حتى نزل القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا خولة أبشرى» ثم قرأ على هذه الآيات «1» .
و «قد» في قوله- تعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ للتحقيق ولتوقع الإجابة من الله- تعالى- على ما جادلت فيه تلك المرأة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت ما معنى «قد» في قوله: قَدْ سَمِعَ..؟
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 318، وتفسير ابن جرير ج 28 ص 2.(14/244)
قلت: «معناه التوقع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله- تعالى- مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج كربها» «1» .
والسماع في قوله- تعالى-: سَمِعَ بمعنى علم الله- تعالى- التام بما دار بين تلك المرأة، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابته- سبحانه- لشكواها، وحكمه في تلك المسألة، بما يبطل ما كان شائعا بشأنها قبل نزول هذه الآية.
وقوله: تُجادِلُكَ من المجادلة، وهي المفاوضة على سبيل المغالبة والمنازعة، وأصلها من جدلت الحبل: إذا أحكمت فتله.
وقوله: تَشْتَكِي من الشكو، وأصله فتح الشّكوة- وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء- وإظهار ما فيها، ثم شاع هذا الاستعمال في إظهار الإنسان لما يؤلمه ويؤذيه، وطلب إزالته.
والمعنى: قد سمع الله- تعالى- سماعا تاما، قول هذه المرأة التي تجادلك- أيها الرسول الكريم- في شأن ما دار بينها وبين زوجها، وفيما صدر عنه في حقها من الظهار، وسمع- سبحانه- شكواها إليه، والتماسها منه- عز وجل- حل قضيتها، وتفريج كربتها، وإزالة ما نزل بها من مكروه.
وقال- سبحانه- الَّتِي تُجادِلُكَ بأسلوب الاسم الموصول للإشعار بأنها كانت في نهاية الجدال والشكوى، وفي أقصى درجات التوكل على ربها، والأمل في تفريج كربتها، رحمة بها وبزوجها وبأبنائها.
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما جملة حالية، والتحاور: مراجعة الكلام من الجانبين. يقال: حاور فلان فلانا في الكلام إذا راجعه فيما يقوله.
أى: والحال أن الله- تعالى- يسمع ما يدور بينك- أيها الرسول الكريم- وبين تلك المرأة، من مراجعة في الكلام، ومن أخذ ورد في شأن قضيتها.
والمقصود بذلك، بيان الاعتناء بشأن هذا التحاور، والتنويه بأهميته، وأنه- تعالى- قد تكرم وتفضل بإيجاد التشريع الحكيم لحل هذه القضية.
وعبر- سبحانه- بصيغة المضارع، لزيادة التنويه بشأن ذلك التحاور، واستحضار صورته في ذهن السامع، ليزداد عظة واعتبارا.
وجملة: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تذييل قصد به التعليل لما قبله بطريق التحقيق.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 70.(14/245)
أى: أنه- سبحانه- يسمع كل المسموعات، ويبصر كل المبصرات، على أتم وجه وأكمله، ومن مقتضيات ذلك، أن يسمع تحاوركما، ويبصر ما دار بينكما.
قال القرطبي: «أخرج ابن ماجة أن عائشة- رضى الله عنها- قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى على بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله!! أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سنى.. ظاهر منى!! اللهم إنى أشكو إليك.
وفي البخاري عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله- تعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «1» .
ثم شرع- سبحانه- في بيان شأن الظهار في ذاته، وفي بيان حكمه المترتب عليه شرعا فقال: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ.
وقوله: يَظْهَرُونَ من الظهار، وهو لغة مصدر ظاهر، وهو مفاعلة من الظهر.
قال الآلوسى: والظهار يراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض، فيقال: ظاهر زيد عمرا، أى: قابل ظهره بظهره حقيقة، وكذا إذا غايظه ...
وظاهره إذا ناصره باعتبار أنه يقال: قوى ظهره إذا نصره» «2» .
والمراد به هنا: أن يقول الرجل لزوجته: أنت على كظهر أمى، قاصدا بذلك تحريم زوجته على نفسه كتحريم أمه عليه.
وكان هذا القول من الرجل لامرأته يؤدى إلى طلاقها منه، بحيث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقيل: إلى طلاقها منه طلاقا مؤبدا لا تحل له بعده.
وقيل: إن هذا القول لم يكن طلاقا من كل وجه، بل كانت الزوجة تبقى بعده معلقة، فلا هي مطلقة، ولا هي غير مطلقة.
و «من» في قوله مِنْ نِسائِهِمْ بيانية، لإفادة أن هذا تشريع عام، وليس خاصا بخولة بنت ثعلبة، التي نزلت في شأنها هذه الآيات.
وجملة: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ قائمة مقام الخبر، ودالة عليه.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 17 ص 270.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 4. [.....](14/246)
والمعنى: الذين يظاهرون منكم- أيها المؤمنون- من نسائهم بأن يقولوا لهن: أنتن علينا كظهر أمهاتنا، مخطئون فيما يقولون، فإن زوجاتهم لسن بأمهاتهم.
إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أى: ليس أمهاتهم على سبيل الحقيقة والواقع إلا النساء اللائي ولدنهم وأرضعنهم، وقمن برعايتهم في مراحل الطفولة والصبا والشباب.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً.
أى: وإن هؤلاء الرجال الذين يقولون لأزواجهم: أنتن علينا كظهور أمهاتنا في الحرمة، ليتفوهون بما هو منكر من القول، في حكم الشرع وفي حكم العقل، وفي حكم الطبع. وفضلا عن كل ذلك فهو قول كاذب وباطل إذ لم يحرم الله- تعالى- الزوجة على زوجها، كما حرم عليه أمه. فعلاقة الأزواج بأمهاتهم، تختلف اختلافا تاما عن علاقتهم بزوجاتهم.
وإذا فالمقصود بهذه الجملة الكريمة: التوبيخ على هذا القول، وهو قول الرجل لزوجته:
أنت على كظهر أمى، وذم من ينطق به، لأنه يعرض مقام الأمهات- وهو مقام في أسمى درجات الاحترام والتبجيل- إلى تخيلات قبيحة تصاحب النطق بهذا الكلام.
وكعادة القرآن الكريم في قرن الترهيب بالترغيب، حتى لا تيأس النفوس من رحمة الله، ختمت الآية الكريمة بما يدل على فضله- تعالى-.
فقال: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أى: وإن الله- تعالى- لكثير العفو والمغفرة، لمن تاب إليه- سبحانه- وأناب وأقلع عن تلك الأقوال والأفعال التي يبغضها- سبحانه-.
ثم أخذت السورة الكريمة في تفصيل حكم الظهار، بعد بيان كونه منكرا من القول وزورا، فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
وقد اختلف العلماء في معنى قوله- تعالى-: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا.
فمنهم من يرى أن المراد منه، ثم يرجعون عما قالوا، قاصدين معاشرة زوجاتهم..
أو قاصدين تحليل ما حرموه على أنفسهم بالنسبة لزوجاتهم بسبب الظهار.
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة: العودة إلى ما كانوا يقولونه في الجاهلية، بعد أن هداهم الله- تعالى- إلى الإسلام، فيكون المعنى: ثم يعودون إلى ما كانوا يقولونه في الجاهلية من ألفاظ الظهار، التي يبغضها الله- تعالى-.
وهذا القول يبدو عليه الضعف من جهة: جعله الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال وهو يَظْهَرُونَ، بمعنى الماضي المنقطع، ومن جهة جعلهم أن المظاهر بعد الإسلام، كان(14/247)
قد ظاهر في الجاهلية، مع أن هذا ليس بلازم. إذ لم يثبت أن «أوس بن الصامت» كان قد ظاهر من زوجته في الجاهلية، وهذا الحكم إنما هو حق المظاهر في الإسلام.
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة: تكرار لفظ الظهار، فمعنى ثم يعودون لما قالوا: ثم يعودون إلى تكرار لفظ الظهار مرة أخرى.
وكان أصحاب هذا القول يرون، أن الكفارة لا تكون إلا بتكرار ألفاظ الظهار، وهو قول لا يؤيده دليل، لأنه لم يثبت أن خولة- أو غيرها- كرر عليها زوجها لفظ الظهار أكثر من مرة، بل الثابت أنه عند ما قال لها: أنت على كظهر أمى، ذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقصت عليه ما جرى بينها وبين زوجها.
وقد رجح الإمام ابن جرير الرأى الأول فقال: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معنى اللام في قوله: لِما قالُوا بمعنى إلى أو في، لأن معنى الكلام: ثم يعودون لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه، وإن قيل: ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا، أو في تحليل ما حرموا فصواب، لأن كل ذلك عود له، فتأويل الكلام: ثم يعودون لتحليل ما حرموا على أنفسهم مما أحله الله لهم «1» .
والمعنى: والذين يظاهرون منكم- أيها المؤمنون- من نسائهم، ثم يندمون على ما فعلوا، ويريدون أن يعودوا عما قالوه، وأن يرجعوا إلى معاشرة زوجاتهم.
فعليهم في هذه الحالة إعتاق رقبة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أى: من قبل أن يستمتع أحدهما بالآخر، أى يحرم عليهما الجماع ودواعيه قبل التكفير.
والمراد بالرقبة: المملوك، من تسمية الكل باسم الجزء.
واسم الإشارة في قوله- سبحانه- ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعود إلى الحكم بالكفارة.
أى: ذلكم الذي شرعنا لكم- أيها المؤمنون- وهو الحكم بالكفارة إنما شرعناه من أجل أن تتعظوا به، وتنزجروا عن النطق بالألفاظ التي تؤدى إلى الظهار، والله- تعالى- خبير ومطلع على كل ما تقولونه من أقوال، وما تفعلونه من أفعال- وسيحاسبكم على ذلك حسابا دقيقا.
وما دام الأمر كذلك، فافعلوا ما أمركم به، واجتنبوا ما نهاكم عنه.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 28 ص 8.(14/248)
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر يسره في أحكامه فقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
أى، فمن لم يجد منكم- أيها المؤمنون- رقبة يعتقها، أو يجد المال الذي يشترى به الرقبة فيعتقها.. فعليه في هذه الحالة، أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يستمتع أحدهما بالآخر.
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أى: فمن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين، لسبب من الأسباب كمرض أو غيره فعليه في هذه الحالة أن يطعم ستين مسكينا، بأن يقدم لهم طعاما يكفى لغدائهم وعشائهم بصورة مشبعة.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إشارة إلى ما سبق الحديث عنه، من تشريع يتعلق بالظهار. ومحله إما الرفع على الابتداء، أو النصب بمضمر معلل بما بعده.
أى: ذلك واقع، أو فعلنا ذلك ليزداد إيمانكم بالله ورسوله، وعملكم بشريعة الإسلام، وتنفيذكم للتكاليف التي كلفكم الله- تعالى- بها.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أى: وتلك الأحكام التي ذكرناها لكم هي حدود الله- تعالى- التي لا يجوز تعديها، فالزموها وقفوا عندها، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يقفون عندها، عذاب شديد الألم على من ينزل به.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- أن الدعاء متى صدر عن لسان صادق، وعن قلب عامر باليقين.. أجابه الله- تعالى- لصاحبه في الحال أو في الوقت الذي يريده- سبحانه-.
والدليل على ذلك أن السيدة خولة بنت ثعلبة، عند ما تضرعت إلى الله- تعالى- بالدعاء، أن يكشف كربها، وأن يحل قضيتها.. أجاب- سبحانه- دعاءها، وأنزل قرآنا يتلى، وأحكاما يعمل بها في شأن الظهار.
ورضى الله عن السيدة عائشة فقد قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت. ما أسمع ما تقول، فأنزل الله- عز وجل-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... الآيات.
وقال القرطبي: «المرأة التي اشتكت هي خولة بنت ثعلبة.. وقد مر بها عمر بن الخطاب في خلافته، والناس معه فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك يا عمر، ثم قيل لك يا أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإن من أيقن بالموت خاف(14/249)
الفوت، ومن أيقن الحساب خاف العذاب.
فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف هذا الوقوف لتلك المرأة العجوز؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة. أتدرون من هذه؟ إنها خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر» «1» .
2- أخذ العلماء من قوله- تعالى-: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ... أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شيء.. لأن الحل والعقد، والتحليل والتحريم في النكاح، إنما هو بيد الرجل لا بيد المرأة.
ويرى بعضهم أن عليها كفارة يمين، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها من مجامعتها. كما أخذ الحنفية والحنابلة والمالكية من هذه الآية، أن الظهار خاص بالمسلمين، لأنهم هم المخاطبون، ولأن غيرهم من الذميين ليسوا من أهل الكفارة.
وقال الشافعية: كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، يصح ظهار الذمي وتترتب عليه أحكامه.. كذلك أخذ العلماء من هذه الآية: صحة ظهار العبد من زوجته، لأن أحكام النكاح في حقه ثابتة، وإذا تعذر عليه العتق والإطعام. فإنه قادر على الصوم.
3- يؤخذ من قوله- تعالى-: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أن الظهار حرام، لأن الله- تعالى- قد وصفه بأنه منكر من القول، وبأنه زور.
والفعل الذي يوصف بهذا الوصف، يجب على المؤمن أن يتنزه عنه.
4- يرى الحنفية والظاهرية أنه يكفى في الكفارة بالنسبة للظهار تحرير رقبة حتى ولو كانت كافرة، لأن الله- تعالى- يقول: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ولو كان الإيمان شرطا لبينه كما بينه في كفارة القتل. فوجب أن يطلق ما أطلقه، وأن يقيد ما قيده، ويعمل بكل منهما في موضعه.
ويرى جمهور الفقهاء اشتراط الإيمان في الرقبة، لأنه من المعروف حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه، وما دام قد ورد النص على كون الرقبة مؤمنة في بعض الآيات، فيجب حمل بقية الآيات على ذلك.
5- دل قوله- تعالى- مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا على حرمة الجماع قبل التكفير.
وألحق بعضهم بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه، لأن الأصل في الأحكام أنه إذا حرم شيء منها، أن يلحق بذلك الشيء المحرم ما يوصل إليه إذ طريق المحرم محرم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 269.(14/250)
ويرى بعضهم أن المحرم إنما هو الجماع فقط، لأن حرمة الجماع ليست لمعنى يخل بالنكاح، وعليه فلا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه، فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه.
قال القرطبي: ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بشيء حتى يكفّر، خلافا للشافعي في أحد قوليه.. فإن وطئها قبل أن يكفر، استغفر الله- تعالى- وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة.
وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان «1» .
6- قوله- تعالى-: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ.. صريح في وجوب تتابع الصوم من غير انقطاع بين الأيام، فلو أفطر يوما من الشهرين من غير عذر انقطع التتابع، ولزمه استئناف الصوم من جديد.
أما الإفطار بعذر- كمرض ونحوه- فيرى بعضهم وجوب الاستئناف، لزوال التتابع الذي صرحت به الآية.
ويرى فريق آخر من العلماء، أن الإفطار بعذر لا يمنع التتابع.
7- أخذ العلماء من قوله- تعالى- فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أن المطلوب من المظاهر أن يطعم هؤلاء المساكين إطعاما يشبعهم في الغداء والعشاء، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة، فأيهما وقع من المكفر أجزأه، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين.
وأوجب الشافعية تمليك المساكين.. بأن يملك لكل مسكين مدّا أو صاعا من غالب قوت البلد الذي يسكنه من عليه الكفارة.
أما حكم من عجز عن الكفارة، فيرى جمهور العلماء أنها لا تسقط عنه، بل تستقر في ذمته حتى يتمكن من أدائها، كسائر الديون والحقوق، فإنها لا تسقط، وإنما تبقى في ذمة من عليه، حتى يتمكن من أدائها.
قال القرطبي: «وقد ذكر الله- تعالى- الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام» «2» .
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 17 ص 278.
(2) راجع تفسير القرطبي ج 17 ص 285.(14/251)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
هذا، ومن أراد التوسع في هذه الأحكام الفقهية، فعليه يكتب الفروع وببعض كتب التفسير «1» .
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة الذين يحاربون الله ورسوله، ولا يدركون أنه- سبحانه- معهم أينما كانوا، ويعلم ما يتناجون به من إثم وعدوان ومعصية للرسول صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى-:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
وقوله- سبحانه-: يُحَادُّونَ من المحادة بمعنى المعاداة والمباغضة، وأصلها أن تكون أنت في حد- أى: في جانب- وعدوك في حد آخر، فكنى بها عن المعاداة لأنها لازمة لها.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 3 وما بعدها.(14/252)
وقوله: كُبِتُوا من الكبت بمعنى الخزي والذل، يقال: كبت الله العدو كبتا- من باب ضرب- إذا أهانه وأذله وأخزاه.
قال الجمل: والذين يحادون الله هم الكافرون، وهذه الآية وردت في غزوة الأحزاب.
والمقصود منها البشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بأن أعداءهم المتحزبين القادمين عليهم، سيصيبهم الكبت والذل، وسيتفرق جمعهم.. «1» .
والمعنى: إن الذين يحاربون دين الإسلام الذي شرعه الله- تعالى-. وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم كُبِتُوا وأصابهم الخزي والذل كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أعداء الحق.
وأوثر هنا الفعل يُحَادُّونَ لوقوعه عقب الكلام عن حدود الله- تعالى- في قوله- عز وجل- وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم.
وقوله- تعالى-: كُبِتُوا بمعنى سيكبتون، وعبر عن ذلك بالماضي، للإشعار بتحقق الذل والخسران، لأولئك المتحزبين الذين جمعوا جموعهم لمحاربة الله ورسوله.
وقد حقق الله- تعالى- وعده، إذ ردهم بغيظهم دون أن ينالوا خيرا.
وجملة: وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ ... حال من الضمير في كُبِتُوا.. أى: كبتوا لمجادلتهم للحق، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات، تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه، وتشهد بأن أعداءه على الباطل والضلال.
وَلِلْكافِرِينَ الذين أعرضوا عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاربوها عَذابٌ مُهِينٌ أى عذاب يهينهم ويذلهم ويخزيهم.
وقوله- تعالى-: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يصح أن يكون متعلقا بقوله: مُهِينٌ كما يصح أن يكون منصوبا فعل مقدر.
أى: اذكر- أيها العاقل- لتتعظ وتعتبر، يوم يبعث الله- تعالى- هؤلاء الكافرين جميعا من قبورهم، فينبئهم ويخبرهم بما عملوا من أعمال سيئة.
والمراد بالإنباء في قوله: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا المجازاة والمحاسبة وإنزال حكمه بهم.
وجملة: أَحْصاهُ اللَّهُ مستأنفة، لأنها بمنزلة الجواب عما قبلها، فكأن سائلا سأل وقال: كيف ينبئهم الله بأعمالهم؟ فكان الجواب: أحصى الله- تعالى- عليهم عملهم، وسجله عليهم تسجيلا تاما.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 301.(14/253)
وجملة وَنَسُوهُ حال من مفعول أحصى أى: والحال أنهم قد نسوا ما عملوه، لتهاونهم به حين اقترفوه، ولاعتقادهم بأنهم لن يسألوا عنه يوم القيامة، فهم قد أنكروا البعث والحساب والثواب والعقاب.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أى: والله- تعالى- مشاهد لكل شيء في هذا الكون، ولا تخفى عليه خافية من أحوال خلقه.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «1» .
ثم أقام- سبحانه- الأدلة على شمول علمه فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ.
والاستفهام في قوله: أَلَمْ تَرَ.. للتقرير، والرؤية بمعنى العلم والإدراك القلبي..
والخطاب لكل من هو أهل له.
والنجوى: اسم مصدر بمعنى المسارة، يقال: نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة، أى:
ساررته بكلام على انفراد. وأصله: ان تخلو بمن تناجيه بسر معين في نجوة من الأرض، أى:
في مكان مرتفع منفصل عما حوله.
وقيل: أصله من النجاة، لأن الإسرار بالشيء فيه معاونة على النجاة.
وتطلق النجوى على القوم المتناجين، كما في الآية التي معنا.
قال الآلوسى: وقوله- تعالى-: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه- تعالى-، و «يكون» من كان التامة. و «من» مزيدة و «نجوى» فاعل، وإضافتها إلى ثلاثة من إضافة المصدر إلى فاعله.. والاستثناء في قوله إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ مفرغ من أهم الأحوال ... «2» .
والمعنى: لقد علمت- أيها العاقل- علما لا يخالطه شك أو تردد، أن الله- تعالى- يعلم علما تاما، ما في السموات وما في الأرض من كائنات مختلفة الأجناس والأنواع.. وأنه- سبحانه- ما يقع من تناجى ثلاثة فيما بينهم إلا وهو تعالى- يعلمه، كأنه حاضر معهم، ومشاهد لهم، كما يعلمه الرابع حين يكون معهم في التناجي.
وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ أى: ولا يكون التناجي بين خمسة إلا وهو- سبحانه- معهم، يعلم ما يتناجون به كما يعلم ذلك سادسهم فيما لو كان التناجي بين ستة.
__________
(1) سورة الكهف الآية 49.
(2) تفسير الآلوسى ج 28 ص 23.(14/254)
وقوله- تعالى- وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا بيان لشمول علمه لجميع الأحداث.
أى: ولا يقع التناجي بين ما هو أقل من ذلك العدد أو أكثر- كالاثنين والستة- إلا وهو- سبحانه- يعلم علما تاما ما يجرى بينهم في أى مكان كانوا، وعلى أية حالة وجدوا.
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أى: ثم يخبرهم- سبحانه- يوم القيامة بما عملوه في الدنيا من أعمال كبيرة أو صغيرة، ويجازيهم عليها بما يستحقونه من ثواب أو عقاب.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والمقصود بهذه الآية الكريمة، بيان شمول علم الله- تعالى- لكل شيء، وأنه- سبحانه- يحصى على الناس أعمالهم إحصاء الحاضر معهم، المشاهد لهم، الذي لا يعزب عنه شيء من حركاتهم أو سكناتهم، ولذا افتتح- سبحانه- الآية بالعلم، واختتمها بالعلم- أيضا-.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: ذكر- سبحانه- الثلاثة والخمسة لوجوه: أحدها: أن هذه إشارة إلى كمال رحمته، وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا، فإذا أخذ اثنان في التناجي والمشاورة بقي الواحد ضائعا وحيدا، فيضيق قلبه فيقول الله- تعالى- له: أنا جليسك وأنيسك.
وثانيها: أن العدد الفرد أشرف من الزوج، لأن الله وتر يحب الوتر، فخص الأعداد الفردية بالذكر للتنبيه على شرفها.
وثالثها: أن الآية نزلت في قوم من المنافقين، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العددين: أى كانوا في مرة ثلاثة وفي مرة أخرى خمسة- فنزلت الآية الكريمة بيانا للواقع «1» .
ويبدو لنا أن ذكر العدد إنما هو من باب التمثيل، وأن المقصود الأصلى من الآية الكريمة، بيان أن علم الله- تعالى- يشمل كل كبير وصغير، وكثير وقليل، ولذا قال- سبحانه-:
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا.
قال القرطبي: قال الفراء: المعنى غير مقصود، والعدد غير مقصود، لأنه- تعالى- إنما قصد- وهو أعلم- أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا، ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد، دون بعض.. «2» .
__________
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 28 ص 226.
(2) تفسير القرطبي ج 17 ص 290.(14/255)
ثم عجّب الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم من حال قوم يؤثرون الغي على الرشد، وينصحون فلا يستجيبون للنصيحة، وينهون عن الشرور فيأبون إلا الانغماس فيها، فقال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ، وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ.
قال الآلوسى: قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون دون المؤمنين، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم، يوهمونهم عند أقاربهم أنهم أصابهم شر، فلما كثر ذلك منهم. شكا المؤمنون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن التناجي دون المؤمنين، فعادوا لمثل فعلهم.
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والهمزة للتعجب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرار فعلهم، وتجدده، واستحضار صورته الغريبة «1» .
والمعنى: إن شئت أن تعجب- أيها الرسول الكريم- فاعجب من حال هؤلاء اليهود والمنافقين الذين نهيتهم أنت عن التناجي فيما بينهم، بما يقلق المؤمنين ويغيظهم ... ولكنهم لم يستجيبوا لنصحك ونهيك، بل استمروا على تناجيهم بما هو إثم وعدوان ومعصية لك، ولما جئتهم به من عند الله- تعالى-.
وعبر بقوله- تعالى-: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ للإشعار بأنهم قوم لا تؤثر فيهم النصائح وإنما هم يستمعون إليها، ثم يهجرون العمل بها. ويعودون إلى فجورهم وفسقهم.
ووصف تناجيهم بأنه كان مشتملا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، لا على الإثم فقط أو على العدوان فقط.. لبيان أن تناجيهم مشتمل على كل أنواع السوء والفحشاء، فهم يتناجون بكلام هو إثم وشر في ذاته، وبأقوال مشتملة على ظلم المؤمنين والاعتداء على دينهم وعلى أعراضهم، وبأفعال هي معصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يستجيبوا لنهيه إياهم عن المناجاة بما يؤذى المؤمنين ويحزنهم.. بل استمروا في طغيانهم يعمهون.
والباء في قوله: بِالْإِثْمِ للملابسة، أى يتناجون متلبسين بالإثم وبالعدوان وبمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم من اليهود، لم يكتفوا بتلك المناجاة القبيحة التي كانوا يديرونها فيما بينهم، لإغاظة المؤمنين، بل أضافوا إلى ذلك النطق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالكلام السيئ وبالعبارات التي تدل على سوء طويتهم، فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 25.(14/256)
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ.
أى: وإذا جاء هؤلاء المنافقون واليهود إلى مجلسك- أيها الرسول الكريم- ألقوا إليك بتحية، هذه التحية لم يأذن بها الله- تعالى- ولم يخاطبك بها.
وقد كان المنافقون عند ما يدخلون على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقولون له كلمة: «السلام عليكم» - وهي تحية الإسلام، إنما يقولون له: أنعم صباحا أو مساء.. متجنبين النطق بتحية الإسلام، ومستعملين تحية الجاهلية.
روى الشيخان عن عائشة: أن ناسا من اليهود، دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام- أى: الموت- عليك يا أبا القاسم. فقال صلى الله عليه وسلم «وعليكم» .
قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم.
فقال صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش.
فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟ فقال صلى الله عليه وسلم «أو سمعت قولي: عليكم» فأنزل الله- تعالى- وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «1» .
ثم بين- سبحانه- رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ.
والمراد بأنفسهم هنا: أى فيما بينهم وفي مجامعهم، أو فيما بينهم وبين أنفسهم.
أى: إذا جاءك هؤلاء المنافقون ومن على شاكلتهم في الضلال، نطقوا أمامك بتحية لم يحيك بها الله- تعالى- ولا يكتفون بذلك، بل يقولون فيما بينهم على سبيل التباهي والجحود للحق لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أى: هلا يعذبنا الله بسبب ما قلناه لو كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من عنده- تعالى- أى: أنهم ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم لأنها- في زعمهم لو كانت حقا، لعذبهم الله- تعالى- بسبب إساءتهم إليه، وإعراضهم عن نهيه لهم.
وقد رد الله- تعالى- عليهم بما يكبتهم، وبما يسلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أى: لا تحزن- أيها الرسول الكريم- لمسالك هؤلاء المنافقين معك ومع أصحابك، فإن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم، كافيهم من العذاب جهنم يصلونها ويقاسون حرها، فبئس المصير جهنم لو كانوا يعلمون.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 26.(14/257)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
وبعد أن فضح الله- تعالى- المنافقين ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال، وبين سوء عاقبتهم بسبب مسالكهم الخبيثة.. بعد كل ذلك وجه الله- تعالى- ثلاث نداءات إلى المؤمنين، أدبهم فيها بأدبه السامي.. فقال- تعالى-:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 9 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
فقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ تعليم وإرشاد منه- سبحانه- للمؤمنين، لكي يكون حديثهم فيما بينهم، يقوم على الخير لا على الشر، وعلى الطاعة لا على المعصية، وعلى البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، حتى لا يتشبهوا بالمنافقين، الذين كانوا على النقيض من ذلك.(14/258)
أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، إِذا تَناجَيْتُمْ بأن أسر بعضكم إلى بعض حديثا فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ كما هو شأن المنافقين ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال.
وَتَناجَوْا فيما بينكم بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى والبر ضد الإثم والعدوان، وهو يعم جميع أفعال الخير التي أمر الله- تعالى- بها.
والتقوى: الامتثال لأمر الله- تعالى- وصيانة النفس عن كل مالا يرضاه.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أى:
وراقبوا الله- تعالى- في كل أحوالكم، فإنه وحده يكون مرجعكم يوم القيامة، وسيبعثكم ويجمعكم للحساب والجزاء.
والمراد بالنجوى في قوله- تعالى- بعد ذلك: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا..: نجوى المنافقين فيما بينهم، وهي التي عبر عنها- سبحانه- قبل ذلك بقوله:
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ.
فأل في قوله- تعالى-: النَّجْوى للعهد، أى: إنما النجوى المعهودة التي كان يتناجى المنافقون بها فيما بينهم، كائنة من الشيطان لا من غيره، لأنه هو الذي حرضهم وأغراهم، بأن يتساروا بالإثم والعدوان.
وقوله: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ الجمهور: لِيَحْزُنَ- بفتح الياء وضم الزاى- مضارع حزن، فيكون الَّذِينَ آمَنُوا فاعل، والحزن: الهم والغم.
أى: زين الشيطان للمنافقين هذه النجوى السيئة، لكي يحزن المؤمنون ويغتموا، بسبب ظنهم أن من وراء هذه النجوى أخبارا سيئة تتعلق بهم أو بذوبهم.
وقرأ نافع لِيَحْزُنَ- بضم الياء وكسر الزاى- فيكون الَّذِينَ آمَنُوا مفعولا.
أى: فعل الشيطان ما فعل مع المنافقين، لكي يدخل الحزن والغم على المؤمنين.
وأسند- سبحانه- النجوى إلى الشيطان، باعتبار أنه هو الذي يوسوس بها، ويزينها في قلوب هؤلاء المنافقين وأشباههم.
وجملة: وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ معترضة لتثبيت المؤمنين، وتسليتهم عما أصابهم من المنافقين.
واسم ليس: الشيطان أو التناجي، والاستثناء مفرغ من أهم الأحوال، و «شيئا» منصوب على المفعول المطلق.(14/259)
أى: لا تحزنوا- أيها المؤمنون- لمسالك المنافقين معكم، ولا تخافوا من تناجيهم فيما بينهم، فإنها نجوى زينها لهم الشيطان، واعلموا أن كيد الشيطان لن يضركم شيئا من الضرر في حال من الأحوال إلا في حال إرادة الله- تعالى- ومشيئته.
وما دام الأمر كما بينت لكم، فاجعلوا توكلكم- أيها المؤمنون- على الله- تعالى- وحده، ولا تبالوا بالمنافقين، ولا بتناجيهم، ولا بما يسوله الشيطان لهم من قبائح، فإن كل شيء بقضاء الله وقدره.
قال الآلوسى ما ملخصه: وحاصل هذا الكلام أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين. إن وقع فهو إرادة الله- تعالى- ومشيئته، ولا دخل للمنافقين فيه، وما دام الأمر كذلك، فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلوا على الله- عز وجل- ولا يخافوا من تناجيهم.
ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه» .
ومثل التناجي في ذلك، أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث، إن كان يحزنه ذلك «1» .
وروى الإمام مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه» «2» .
والخلاصة أن تعاليم الإسلام، تنهى عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة في القلوب، وتزعزع الثقة بين الأفراد والجماعات.
وهذا النهى لون من الأدب الحكيم الذي يحفظ للمؤمنين مودتهم ومحبتهم ويبعد عن نفوسهم الشكوك والريب، ويطرد عن قلوبهم نزغات الشيطان الذي يجرى من ابن آدم مجرى الدم.
ثم لفت- سبحانه- أنظار المؤمنين إلى أدب رفيع فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روى عن قتادة أنه قال: نزلت
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 27.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 324. [.....](14/260)
هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا، ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا في المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم السلام، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم.
فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم، فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان.
فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم.
فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء.. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا، ونزلت هذه الآية «1» .
وقوله تَفَسَّحُوا من التفسح، وهو تفعل بمعنى التوسع، يقال: فسح فلان لفلان في المجلس- من باب نفع- إذا أوجد له فسحة في المكان ليجلس فيه.
والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، إذا قيل لكم توسعوا في مجالسكم لتسع أكبر قدر من إخوانكم فامتثلوا واستجيبوا. لأن فعلكم هذا يؤدى إلى أن يفسح الله- تعالى- لكم في رحمته، وفي منازلكم في الجنة، وفي كل شيء تحبونه.
وحذف- سبحانه- متعلق يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ليشمل كل ما يرجو الناس أن يفسح الله لهم فيه من رزق، ورحمة، وخير دنيوى وأخروى.
والمراد بالمجالس: مجالس الخير، كمجالس الذكر، والجهاد، والصلاة، وطلب العلم، وغير ذلك من المجالس التي يحبها الله- تعالى-.
وقراءة الجمهور: «إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس» ، بالإفراد على إرادة الجنس..
أى: قيل لكم تفسحوا في أى مجلس خير فافسحوا.. لأن هذا التوسع يؤدى إلى ازدياد المحبة والمودة بينكم. وقرأ عاصم بصيغة الجمع.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 324.(14/261)
ثم أرشدهم- سبحانه- إلى نوع آخر من الأدب السامي فقال: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا.
والنشوز الارتفاع عن الأرض. يقال: نشز ينشز وينشز- من بابى نصر وضرب- إذا ارتفع من مكانه.
أى: وإذا قبل لكم- أيها المؤمنون- انهضوا من أماكنكم، للتوسعة على المقبلين عليكم، فانهضوا ولا تتكاسلوا.
وقوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ جواب الأمر في قوله: فَانْشُزُوا.
وعطف «الذين أوتوا العلم» على «الذين آمنوا» من باب عطف الخاص على العام، على سبيل التعظيم والتنويه بقدر العلماء.
أى: وإذا قيل لكم ارتفعوا عن مواضعكم في المجالس فارتفعوا، فإنكم إن تفعلوا ذلك، يرفع الله- تعالى- المؤمنين الصادقين منكم درجات عظيمة في الآخرة، ويرفع العلماء منكم درجات أعظم وأكبر.
ويرى بعضهم أن المراد بالموصولين واحد، والعطف في الآية لتنزيل التغاير في الصفات، منزلة التغاير في الذات.
والمعنى: يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات عظيمة لا يعلم مقدارها إلا الله- تعالى-.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه فقال: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أى: والله- تعالى- مطلع اطلاعا تاما على نواياكم، وعلى ظواهركم وبواطنكم، فاحذروا مخالفة أمره، واتبعوا ما أرشدكم إليه من أدب وسلوك.
هذا: ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: أن إفساح المؤمن لأخيه المؤمن في المجلس، من الآداب الإسلامية التي ينبغي التحلي بها، لأن هذا الفعل بجانب رفعه للدرجات فإنه سبب للتوادد والتعاطف والتراحم.
قال القرطبي ما ملخصه: والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء أكان مجلس حرب، أم ذكر، أم مجلس يوم الجمعة ... ولكن بدون أذى،(14/262)
فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه» .
وعن ابن عمر- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ان يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه آخر، «ولكن تفسحوا وتوسعوا» «1» .
وعلى أية حال فإن الآية الكريمة ترشد المؤمنين في كل زمان ومكان، إلى لون من مكارم الأخلاق، ألا وهو التوسعة في المجالس، وتقديم أهل العلم والفضل، وإنزالهم منازلهم التي تليق بهم في المجالس.
كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أنه يجوز القيام للقادم.
قال الإمام ابن كثير: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء- على أقوال:
فمنهم من رخص في ذلك محتجا بحديث: «قوموا إلى سيدكم» .
ومنهم من منع من ذلك، محتجا بحديث: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما. فليتبوأ مقعده من النار» .
ومنهم من فضل فقال: يجوز القيام للقادم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقبله النبي صلى الله عليه وسلم حاكما في بنى قريظة، فرآه مقبلا قال للمسلمين: «قوموا إلى سيدكم» ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه- والله أعلم-.
فأما اتخاذه- أى القيام- دينا، فإنه من شعار الأعاجم.. وفي الحديث المروي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس، وكان الصحابة يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبا عثمان وعلى لأنهما كانا ممن يكتب الوحى، وكان يأمرهما بذلك.. «2» .
كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، فضل العلماء وسمو منزلتهم.
قال صاحب الكشاف: عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية، ولترغبكم في العلم. وفي الحديث الشريف: «بين العالم والعابد مائة درجة» وفي حديث آخر: «فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم» .
وعن بعض الحكماء أنه قال: ليت شعري أى شيء أدرك من فاته العلم، وأى شيء فات من أدرك العلم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 298.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 325.(14/263)
وعن الأحنف: كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل يصير «1» .
ثم أرشدهم- سبحانه- إلى لون ثالث من الأدب السامي، فناداهم للمرة الثالثة بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
والمراد بقوله- تعالى- إِذا ناجَيْتُمُ: إذا أردتم المناجاة، كما في قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ.
والمراد بقوله: بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ أى: قبل مناجاتكم للرسول صلى الله عليه وسلم بقليل، والكلام من باب الاستعارة التمثيلية. حيث شبهت هيئة قرب الشيء من آخر. بهيئة وصول الشخص إلى من يريد الوصول إليه، على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ يعود إلى تقديم الصدقة، والجملة بمنزلة التعليل للأمر بتقديمها.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، إذا أردتم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم والحديث معه في أمر ما على سبيل السر، فقدموا صدقة للفقراء قبل مناجاته صلى الله عليه وسلم فذلك التقديم خير لكم لما فيه من الثواب، وأكثر طهرا لنفوسكم، فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به قبل مناجاتكم له صلى الله عليه وسلم فلا تحزنوا فإن الله- تعالى- واسع المغفرة والرحمة.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات، منها: ما جاء عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه قال: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله- تعالى- أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم فلما نزلت هذه الآية، كف كثير من الناس، ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها «2» .
وقال بعض العلماء: إن هذا الأمر قد اشتمل على فوائد كثيرة:
منها: تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإكبار شأن مناجاته، كأنها شيء لا ينال بسهولة.
ومنها: التخفيف عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتقليل من المناجاة، حتى يتفرغ صلى الله عليه وسلم للمهام العظمى التي كلفه- سبحانه- بها.
ومنها: تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 76.
(2) تفسير القرطبي ج 17 ص 301.(14/264)
فإنهم إذا علموا أن قرب الأغنياء من الرسول صلى الله عليه وسلم ومناجاتهم له، تسبقها الصدقة، لم يضجروا.
ومنها: عدم شغل الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يكون مهما من الأمور، فيتفرغ للرسالة. فإن الناس وقد جبلوا على الشح بالمال، يقتصدون في المناجاة التي تسبقها الصدقة.
ومنها: تمييز محب الدنيا من محب الآخرة، فإن المال محك الدواعي «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر لطفه بعباده فقال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ.
الإشفاق معناه: أن يتوقع الإنسان عدم حصوله على ما يريده والمراد به هنا: الخوف.
والاستفهام مستعمل فيما يشبه اللوم والعتاب، لتخلف بعضهم عن مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب تقديم الصدقة.
و «إذ» في قوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ظرفية مفيدة للتعليل.
والمعنى: أخفتم- أيها المؤمنون- أن تقدموا قبل مناجاتكم للرسول صلى الله عليه وسلم صدقة فيصيبكم بسبب ذلك الفقر، إذا ما واظبتم على ذلك.
فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أى: فحين لم تفعلوا ما كلفناكم به من تقديم الصدقة قبل مناجاتكم للرسول صلى الله عليه وسلم، وتاب الله- تعالى- عليكم، بأن رخص لكم في هذه المناجاة بدون تقديم صدقة، وخفف عنكم ما كان قد كلفكم به- سبحانه- والفاء في قوله:
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ. وَآتُوا الزَّكاةَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ معطوفة على كلام محذوف.
أى: فحين خففنا عنكم الصدقة- بفضلنا ورحمتنا- فداوموا على إقامة الصلاة، وعلى إعطاء الزكاة لمستحقيها، وأطيعوا الله ورسوله، في كل ما أمركم به أو نهاكم عنه.
واعلموا أن الله- تعالى- خبير بما تعملون، ولا يخفى عليه شيء من أقوالكم أو أفعالكم، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها، لأنها أسقطت وجوب تقديم الصدقة الذي أمرت به الآية السابقة.
وقد لخص الإمام الآلوسى كلام العلماء في هذه المسألة تلخيصا حسنا فقال: «واختلف في أن الأمر للندب أو للوجوب، لكنه نسخ بقوله- تعالى-: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا ...
__________
(1) تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 131 للشيخ محمد على السائس.(14/265)
وهو وإن كان متصلا به تلاوة، لكنه غير متصل به نزولا. وقيل نسخ بآية الزكاة. والمعول عليه الأول.
ولم يعين مقدار الصدقة، ليجزئ القليل والكثير. أخرج الترمذي عن على بن أبى طالب قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً....
قال لي النبي: صلى الله عليه وسلم: «ما ترى في دينار» قلت: لا يطيقونه قال: «نصف دينار» قلت: لا يطيقونه، قال: «فكم» ؟ قلت: شعيرة. قال: «فإنك لزهيد» .
فلما نزلت: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا ... قال صلى الله عليه وسلم: «خفف الله عن هذه الأمة» ولم يعمل بها- على المشهور- غير على- كرم الله وجهه.
واختلف في مدة بقاء هذا الأمر. أى: الأمر بتقديم الصدقة: فعن مقاتل: عشرة أيام.
وقال قتادة: ساعة من نهار ... «1» .
قال بعض العلماء: «والآية الناسخة متأخرة في النزول، وإن كانت تالية للآية المنسوخة في التلاوة.
والظاهر- والله أعلم- أن الحادثة من باب الابتلاء والامتحان، ليظهر للناس محب الدنيا من محب الآخرة، والله بكل شيء عليم» «2» .
وقال أحد العلماء: «ولا يشتم من قوله- تعالى-: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ.... أن الصحابة قد وقع منهم تقصير. فإن التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت هناك مناجاة لم تصحبها صدقة، والآية قالت: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أى: ما أمرتم به من الصدقة، وقد يكون عدم الفعل، لأنهم لم يناجوا، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا.
وأما التعبير بالإشفاق من جانبهم، فلا يدل على تقصيرهم، فقد يكون الله- تعالى- علم- أن كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة في المستقبل لو دام الوجوب، فقال الله- تعالى- لهم أَأَشْفَقْتُمْ.
وكذلك ليس في قوله وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ما يدل على أنهم قصروا، فإنه يحمل على أن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة ... » «3» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 31.
(2) صفوت البيان ج 2 ص 412 لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.
(3) راجع تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 133.(14/266)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن المنافقين وأشباههم، فتصور أحوالهم، وتبين سوء مصيرهم، وتكشف القناع عن الأسباب التي أدت بهم إلى الخسران والهلاك فقال- تعالى-:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 19]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا ... للتعجيب من حال هؤلاء المنافقين، حيث اتخذوا اليهود حلفاء لهم، ينقلون إليهم أسرار المؤمنين ...
أى: ألم ينته إلى علمك- أيها الرسول الكريم- حال أولئك المنافقين، الذين اتخذوا اليهود أولياء، يناصحونهم ويطلعونهم على أخباركم.
فالمراد بالقوم الذين غضب الله عليهم: اليهود، ووصفهم بذلك للتنفير منهم، ولبيان أن المنافقين قد بلغوا النهاية في القبح والسوء، حيث والوا وناصروا من غضب الله عليهم، لا من رضى الله عنهم.
ثم دمغ- سبحانه- هؤلاء المنافقين برذيلة أخرى فقال: ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أى: أن هؤلاء المنافقين بمسلكهم هذا، صاروا بمنزلة الذين ليسوا منكم- أيها المؤمنون- وليسوا- أيضا- منهم، أى: من اليهود.(14/267)
وإنما هم دائما لا مبدأ لهم ولا عقيدة، فهم كما قال- سبحانه- مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ....
وفي الحديث الشريف: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين- أى المترددة بين قطيعين- لا تدرى أيهما تتبع» .
قال الجمل: وقوله: ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ فيه أوجه. أحدها: أن هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، فقد أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخلص، ولا من الكافرين الخلص، بل هم كقوله- تعالى-: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ....
والضمير في قوله ما هُمْ يعود على المنافقين، وفي قوله مِنْهُمْ يعود على اليهود.
الثاني: أنها حال من فاعل «تولوا» والمعنى على ما تقدم.
الثالث: أنها صفة ثانية لقوله «قوما» ، وعليه يكون الضمير في قوله:
«ما هم» يعود على اليهود، والضمير في قوله: «منهم» يعود على المنافقين.
يعنى: أن اليهود ليسوا منكم- أيها المؤمنون- ولا من المنافقين. ومع ذلك تولاهم «المنافقون» ... إلا أن في هذا الوجه تنافرا بين الضمائر، فإن الضمير في «ويحلفون» عائد على المنافقين، وعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر» «1» .
ثم دمغهم- سبحانه- برذيلة ثالثة أشد نكرا من سابقتيها فقال: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أى: أنهم ينقلون إلى اليهود أسرار المؤمنين، مع أنهم لا تربطهم باليهود أية رابطة، لا من دين ولا من نسب ... وفضلا عن كل ذلك، فإن هؤلاء المنافقين يواظبون ويستمرون على الحلف الكاذب المخالف للواقع، والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون علما لا يخالطه شك أو ريب.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد ذم هؤلاء المنافقين. بجملة من الصفات القبيحة، التي على رأسها تعمدهم الكذب، وإصرارهم عليه.
قال صاحب الكشاف: «قوله: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أى: يقولون: والله إنا لمسلمون، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن المحلوف عليه كذب بحت.
فإن قلت: فما فائدة قوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟ قلت: الكذب أن يكون لا على وفاق
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 307.(14/268)
المخبر عنه، سواء علم المخبر أم لم يعلم.. فالمعنى أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه، وهم عالمون بذلك متعمدون له، كمن يحلف بالغموس ... » «1» .
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنها نزلت في رجل يقال له: عبد الله بن نبتل- وكان من المنافقين الذين يجالسون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفعون حديثه إلى اليهود، وفي يوم من الأيام كان صلى الله عليه وسلم جالسا في إحدى حجراته، فقال لمن حوله: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبار، وينظر بعيني شيطان» فدخل ابن نبتل، - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية- فقال له صلى الله عليه وسلم: «علام تشتمني أنت وأصحابك» ؟.
فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية «2» .
ومن الآيات الكثيرة التي صرحت بأن المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة على سبيل التعمد قوله- تعالى-: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «3» .
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهم من عذاب فقال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ...
أى: هيأ الله- تعالى- لهؤلاء المنافقين عذابا قد بلغ النهاية في الشدة والألم.
وجملة إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ تعليل لنزول العذاب الشديد بهم، أى: إن هذا العذاب الشديد المهيأ لهم سببه سوء أعمالهم في الدنيا، واستحبابهم العمى على الهدى.
وقوله- سبحانه- اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... بيان لرذيلة رابعة أو خامسة، لا تقل في قبحها عما سبقها من رذائل، وقوله: أَيْمانَهُمْ جمع يمين بمعنى الحلف.
وقوله: جُنَّةً من الجنّ بمعنى الستر عن الخاصة، وهذه المادة وما اشتق منها تدور حول الستر والخفاء. وتطلق الجنة على الترس الذي يضعه المقاتل على صدره أو على ذراعيه ليتقى به الضربات من عدوه.
ومفعول فَصَدُّوا: محذوف للعلم به.
أى: أن هؤلاء المنافقين قد اتخذوا أيمانهم الكاذبة. وهي حلفهم للمسلمين بأنهم معهم، وبأنهم لا يضمرون شرا لهم.. اتخذوا من كل ذلك وقاية وسترة عن المؤاخذة، كما يتخذ المقاتل الترس وقاية له من الأذى..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 77.
(2) تفسير القرطبي ج 17 ص 304.
(3) سورة التوبة الآية 42.(14/269)
فَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى: عن دينه الحق، وطريقه المستقيم.
فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أى: فترتب على تسترهم خلف الأيمان الفاجرة، وعلى صدهم غيرهم عن الحق، أن أعد الله- تعالى- لهم عذابا يهينهم ويذلهم.
وقوله- سبحانه-: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ... رد على ما كانوا يزعمونه من أنهم لن يعذبوا، لأنهم أكثر أموالا وأولادا من المؤمنين.
قال القرطبي: «قال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذا فو الله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة، فنزلت» «1» .
ومن المعروف أن عبد الله بن أبى بن سلول- زعيم المنافقين-، كان من أغنياء المدينة، وكان يوطن نفسه على أن يكون رئيسا للمدينة قبيل- الإسلام، وهو القائل- كما حكى القرآن عنه-: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ...
أى: أن هؤلاء المنافقين المتفاخرين بأموالهم وأولادهم، لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من الغناء.
أُولئِكَ المنافقون هم أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ خلودا أبديا، ثم بين- سبحانه- حالهم يوم القيامة، وأنهم سيكونون على مثل حالهم في الدنيا من الكذب والفجور.. فقال- تعالى- يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ.
أى: اذكر- أيها الرسول الكريم- يوم يبعث الله- تعالى- هؤلاء المنافقين جميعا للحساب والجزاء «فيحلفون» لله- تعالى- في الآخرة بأنهم مسلمون «كما» كانوا «يحلفون لكم» في الدنيا بأنهم مسلمون.
«ويحسبون» في الآخرة- لغبائهم وانطماس بصائرهم «أنهم» بسبب تلك الأيمان الفاجرة «على شيء» من جلب المنفعة أو دفع المضرة.
أى يتوهمون في الآخرة أن هذه الأيمان قد تنفعهم في تخفيف شيء من العذاب عنهم.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أى الذين بلغوا في الكذب حدا لا غاية وراءه.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن هؤلاء المنافقين في الدنيا، قد بعثوا والنفاق ما زال في قلوبهم، وسلوكهم القبيح لا يزال متلبسا بهم. فهم لم يكتفوا بكذبهم على المؤمنين في الدنيا، بل وفي الآخرة- أيضا- يحلفون لله- تعالى- بأنهم كانوا مسلمين.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 305. [.....](14/270)
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «2» .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: يعنى ليس العجب من حلفهم لكم- في الدنيا بأنهم مسلمون- فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر. ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة- بأنهم كانوا مسلمين في الدنيا.
والمراد وصفهم بالتوغل في نفاقهم، ومرونهم عليه، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل» «3» .
وقال بعض العلماء ما ملخصه: وقوله: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ حذفت صفة شيء، لظهور معناها من المقام، أى: ويحسبون أنهم على شيء نافع.
وهذا يقتضى توغلهم في النفاق، ومرونتهم عليه، وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم، لأن نفوسهم خرجت من الدنيا متخلقة به، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا في عالم التكليف.
وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن رجلا من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع، فيقول الله له: أولست فيما شئت؟ قال: بلى يا ربي ولكن أحب أن أزرع، فأسرع وبذر، فيبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال.
وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا نجد هذا الرجل إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن- أى أهل البوادي- فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقرارا لما فهمه الأعرابى.
وفي حديث جابر بن عبد الله الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يبعث كل عبد على ما مات عليه.
قال عياض: هو عام في كل حالة مات عليها المرء، وقال السيوطي: يبعث الزمار بمزماره، وشارب الخمر بقدحه.
__________
(1) سورة الأنعام آية 23.
(2) سورة الأنعام الآية 28.
(3) تفسير الكشاف ج 4 ص 78.(14/271)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قلت: «ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه، إذ تصير العلوم على الحقيقة» «1» .
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي جعلت المنافقين ينغمسون في نفاقهم فقال: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ...
وقوله: اسْتَحْوَذَ من الحوذ: وهو أن يتبع السائق حاذيى البعير، أى: أدبار فخذه ثم يسوقه سوقا عنيفا، لا يستطيع البعير الفكاك منه ... والمراد به هنا: شدة الاستيلاء والغلبة ... ومنه قول السيدة عائشة في عمر- رضى الله عنهما-: «كان أحوذيا» أى: كان ضابطا للأمور، ومستوليا عليها استيلاء تاما ...
والمعنى: إن هؤلاء المنافقين قد استولى عليهم الشيطان استيلاء تاما، بحيث صيرهم تابعين لوساوسه وتزيينه، فهم طوع أمره، ورهن إشارته، فترتب على طاعتهم له أن أنساهم طاعة الله- تعالى-، وحسابه، وجزاءه، فعاشوا حياتهم يتركون ما هو خير، ويسرعون نحو ما هو شر ...
أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات القبيحة حِزْبُ الشَّيْطانِ أى: جنوده وأتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ خسارة لا تقاربها خسارة، لأنهم آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، والضلال على الهدى ...
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببيان سنة من سننه في خلقه، وهي أن الذلة والصغار لأهل الباطل، والعزة والغلبة لأهل الحق ... الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، فقال- تعالى-:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
__________
(1) راجع تفسير التحرير والتنوير، ج 28 ص 53 للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.(14/272)
أى: إن الذين يحادون دين الله- تعالى-، ويحاربون ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، أولئك الذين يفعلون ذلك ...
«في الأذلين» أى: في عداد أذل خلق الله- تعالى- وهم المنافقون ومن لف لفهم، من الكافرين وأهل الكتاب.
وقال- سبحانه-: أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ للإشعار بأنهم مظروفون وكائنون، في ذروة أشد خلق الله ذلا وصغارا.
ثم بشر- سبحانه- من هم على الحق بأعظم البشارات فقال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
أى: أثبت الله- تعالى- ذلك في اللوح المحفوظ وقضاه، وأراد وقوعه في الوقت الذي يشاؤه.
فالمراد بالكتابة: القضاء والحكم. وعبر بالكتابة للمبالغة في تحقق الوقوع.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية، أنه لما فتح الله- تعالى- للمؤمنين ما فتح من الأرض، قال المؤمنون: إنا لنرجو أن يفتح الله لنا فارس والروم.
فقال بعض المنافقين: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي تغلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا، من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت.
قال الآلوسى: كَتَبَ اللَّهُ أى: أثبت في اللوح المحفوظ، أو قضى وحكم.. وهذا التعبير جار مجرى القسم، ولذا قال- سبحانه-: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أى: بالحجة والسيف وما يجرى مجراه، أو بأحدهما.. «1» .
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر رسله وأوليائه عَزِيزٌ لا يغلبه غالب بل هو القاهر فوق عباده.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 34.(14/273)
والمقصود بالآية الكريمة: تقرير سنة من سننه- تعالى- التي لا تتخلف، وأن النصر سيكون حليفا لأوليائه، في الوقت الذي علمه وأراده.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «1» .
وقوله- تعالى- وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «2» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة لصفات المؤمنين الصادقين فقال:
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وقوله: يُوادُّونَ من الموادة بمعنى حصول المودة والمحبة.
أى: لا تجد- أيها الرسول الكريم- قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان، يوالون ويحبون من حارب دين الله- تعالى- وأعرض عن هدى رسوله.
والمقصود من هذه الآية الكريمة النهى عن موالاة المنافقين وأشباههم، وإنما جاءت بصيغة الخبر، لأنه أقوى وآكد في التنفير عن موالاة أعداء الله، إذ الإتيان بصيغة الخبر تشعر بأن القوم قد امتثلوا لهذا النهى، وأن الله- سبحانه- قد أخبر عنهم بذلك.
وافتتحت الآية بقوله: لا تَجِدُ قَوْماً لأن هذا الافتتاح يثير شوق السامع لمعرفة هؤلاء القوم.
وقوله: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ تصريح بوجوب ترك هذه الموادة لمن حارب الله ورسوله، مهما كانت درجة قرابة هذا المحارب.
أى: من شأن المؤمنين الصادقين أن يبتعدوا عن موالاة أعداء الله ورسوله، ولو كان هؤلاء الأعداء. آباءَهُمْ الذين أتوا إلى الحياة عن طريقهم أَوْ أَبْناءَهُمْ الذين هم قطعة منهم. أَوْ إِخْوانَهُمْ الذين تربطهم بهم رابطة الدم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ التي ينتسبون إليها، وذلك لأن قضية الإيمان يجب أن تقدم على كل شيء.
وقدم الآباء لأنهم أول من تجب طاعتهم، وثنى بالأبناء لأنهم ألصق الناس بهم، وثلث بالإخوان لأنهم الناصرون لهم، وختم بالعشيرة لأن التناصر بها يأتى في نهاية المطاف.
__________
(1) سورة غافر الآية 51.
(2) سورة الصافات الآيات 171- 173.(14/274)
ثم أثنى- سبحانه- على هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين لم يوالوا أعداء الله مهما بلغت درجة قرابتهم فقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ.
أى: أولئك الذين لا يوادون أعداء الله مهما كانوا، هم الذين كتب الله- تعالى- الإيمان في قلوبهم، فاختلط بها واختلطت به، فصارت قلوبهم لا تحب إلا من أحب دين الله، ولا تبغض إلا من أبغضه.
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أى: وثبتهم وقواهم بنور من عنده- سبحانه- فصاروا بسبب ذلك أشداء على الكفار، رحماء بينهم.
وَيُدْخِلُهُمْ- سبحانه- يوم القيامة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها خلودا أبديا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بسبب طاعتهم له، وَرَضُوا عَنْهُ بسبب ثوابه لهم.
أُولئِكَ الموصوفون بذلك حِزْبُ اللَّهِ الذي يشرف من ينتسب إليه.
أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فلاحا ونجاحا ليس بعدهما فلاح أو نجاح.
وقد ذكروا روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية الكريمة، منها: أنها نزلت في أبى عبيدة عامر بن الجراح، فقد قتل أباه- وكان كافرا- في غزوة بدر.
والآية الكريمة تصدق على أبى عبيدة وغيره ممن حاربوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم، عند ما استحب هؤلاء الآباء والأبناء الكفر على الإيمان.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، وجوب عدم موالاة الكفار والفساق والمنافقين والمجاهرين بارتكاب المعاصي ... مهما بلغت درجة قرابتهم، ومهما كانت منزلتهم.
ومن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة» «1» .
وبعد فهذا تفسير لسورة «المجادلة» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدوحة- قطر مساء الجمعة غرة شعبان سنة 1406 هـ 11/ 4/ 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 330.(14/275)
تفسير سورة الحشر(14/277)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الحشر» من السور المدنية الخالصة، وقد عرفت بهذا الاسم منذ العهد النبوي، وسماها ابن عباس بسورة «بنى النضير» فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر. قال: «سورة بنى النضير» ولعل ابن عباس- رضى الله عنهما- سماها بهذا الاسم لحديثها المفصل عن غزوة بنى النضير.
2- وعدد آياتها أربع وعشرون آية، وكان نزولها بعد سورة «البينة» وقبل سورة «النصر» أى: أنها تعتبر من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من سور قرآنية فهي السورة الثامنة والتسعون في ترتيب النزول.
أما ترتيبها في المصحف، فهي السورة التاسعة والخمسون.
3- وقد افتتحت سورة «الحشر» بتنزيه الله- تعالى- عما لا يليق به، ثم تحدثت عن غزوة «بنى النضير» ، فذكرت جانبا من نصره لعباده المؤمنين ومن خذلانه لأولئك الضالين..
قال- تعالى-: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ...
4- ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن تقسيم أموال بنى النضير، وعن حكمة الله- تعالى- في إرشاده النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا التقسيم، فقال- سبحانه-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 5- وبعد أن أثنت السورة الكريمة على المهاجرين لبلائهم وإخلاصهم وعفة نفوسهم، كما أثنت على الأنصار لسخائهم، وطهارة قلوبهم ... بعد كل ذلك أخذت السورة في التعجيب من حال المنافقين، الذين تحالفوا مع اليهود ضد المؤمنين، وذكرت جانبا من أقوالهم الكاذبة، ووعودهم الخادعة..(14/279)
فقال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
6- ثم وجهت السورة في أواخرها نداء إلى المؤمنين، أمرتهم فيه بتقوى الله، ونهتهم عن التشبه بالفاسقين عن أمر الله، الذين تركوا ما أمرهم به- سبحانه-، فكانت عاقبة أمرهم خسرا..
وختمت بذكر جانب من أسماء الله- تعالى- وصفاته، فقال- تعالى-: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
7- وبذلك نرى السورة الكريمة قد طوفت بنا مع بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع التشريعات الحكيمة التي شرعها الله- تعالى- في تقسيم الغنائم، ومع صور زاهية كريمة من أخلاق المهاجرين والأنصار، ومع صور قاتمة كريهة من أخلاق المنافقين وإخوانهم من اليهود..
ومع جانب من أسماء الله- تعالى- وصفاته، التي تليق به- عز وجل-.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...
الدوحة- قطر صباح الأحد: 2 من شعبان سنة 1406 هـ 12/ 4/ 1986 م د. محمد سيد طنطاوى(14/280)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
افتتحت سورة «الحشر» بالثناء على الله- تعالى- وبتنزيهه عن كل ما لا يليق بذاته الجليلة، فقال- عز وجل-: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وأصل التسبيح لغة: الإبعاد عن السوء. وشرعا: تنزيه الله- تعالى- عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.(14/281)
والذي يتدبر القرآن الكريم، يجد أن الله- تعالى- قد ذكر فيه أن كل شيء في هذا الكون يسبح بحمده- تعالى-، كما في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ كما ذكر- سبحانه- أن الملائكة تسبح له، كما في قوله: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ....
وكذلك الرعد، كما في قوله: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ....
وكذلك الجبال والطير قال- تعالى-: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ «1» .
وقد سبق أن ذكرنا خلال تفسيرنا لقوله- تعالى-: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... أن الرأى الذي تطمئن إليه النفس، أن التسبيح حقيقى، ولكن بلغة لا يعلمها إلا الله- تعالى- «2» .
والمعنى: سبح لله- تعالى- ونزهه عن كل ما لا يليق به، جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض من كائنات ومخلوقات. وهو- عز وجل- الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه غالب الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله.
وقد افتتحت بعض السور- كسورة الحديد والحشر والصف- بالفعل الماضي، لإفادة الثبوت والتأكيد، وأن التسبيح قد تم فعلا.
وافتتحت بعض السور، كسورة الجمعة والتغابن- بالفعل المضارع «يسبح» لإفادة تجدد هذا التسبيح في كل وقت، وحدوثه في كل لحظة.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين، حيث نصرهم على أعدائهم، فقال: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ....
والمراد بالذين كفروا من أهل الكتاب هنا: يهود بنى النضير، وقصتهم معروفة في كتب السنة والسيرة، وملخصها: أن هؤلاء اليهود كانوا يسكنون في ضواحي المدينة فذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعين بهم في دفع دية لقتيلين قتلهما بعض المسلمين خطأ، فاستقبلوه استقبالا حسنا، وأظهروا له صلى الله عليه وسلم استعدادهم للمساعدة فيما يطلبه منهم، ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن منكم يصعد إلى أعلى هذا البيت الذي يجلس تحته محمد صلى الله عليه وسلم فيلقى عليه حجرا فيريحنا منه.
__________
(1) سورة ص آية 18، 19.
(2) راجع تفسيرنا لسورة الإسراء الآية 44 ص 361.(14/282)
فتعهد واحد منهم بذلك، وقبل أن يتم فعله، نزل جبريل- عليه السلام- على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما أضمره اليهود من غدر وخيانة فرجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة- وأخبر أصحابه بما أضمره له يهود بنى النضير، ونزل قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «1» .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يستعدوا لحصار بنى النضير، وتأديبهم على غدرهم..
فحاصرهم المؤمنون بضعا وعشرين ليلة، وانتهى الأمر بإجلائهم، عن المدينة، فمنهم من ذهب إلى خبير، ومنهم من ذهب إلى غيرها.
واللام في قوله- تعالى-: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلقة بأخرج، والحشر: الجمع، يقال:
حشر القائد جنده إذا جمعهم، ومنه قوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.
أى: هو- سبحانه- الذي أخرج- بقدرته- الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وهم يهود بنى النضير عند مبدأ الحشر المقدر لهم في علمه، بأن مكنكم- أيها المؤمنون- من محاصرتهم وجمعهم في مكان واحد، ثم طردهم من المدينة المنورة إلى أماكن أخرى، بسبب غدرهم وسوء صنيعهم.
قال صاحب الكشاف: اللام في قوله: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ تتعلق بأخرج، وهي مثل اللام في قوله: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي وفي قولك: جئته لوقت كذا..
والمعنى: أخرج الذين كفروا عند أول الحشر. ومعنى أول الحشر: أن هذا أول حشرهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط.. أو المعنى: هذا أول حشرهم، وآخر حشرهم: إجلاء عمر- رضى الله عنه- لهم من خيبر إلى الشام.
وقيل معناه: أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم، لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. «2» .
وقصر- سبحانه- إخراجهم عليه فقال: هو الذي أخرج الذين كفروا، مع أن المسلمين قد اشتركوا في إخراجهم عن طريق محاصرتهم للإشعار بأن السبب الحقيقي في إخراجهم من ديارهم، هو ما قذفه الله- تعالى- في قلوبهم من الرعب.. أما محاصرة المؤمنين لهم فهي
__________
(1) سورة المائدة الآية 11.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 79.(14/283)
أسباب فرعية، قد تؤدى إلى إخراجهم، وقد لا تؤدى، وللإشعار- أيضا- بأن كل شيء إنما هو بقضاء الله وقدره..
ووصفهم- سبحانه- بالكفر وبأنهم من أهل الكتاب، للتشنيع عليهم وزيادة مذمتهم، حيث إنهم جمعوا بين رذيلتين: رذيلة الكفر بالحق، ورذيلة عدم العمل بكتابهم الذي أمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، والذي يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.
و «من» في قوله- تعالى-: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للبيان، حتى لا يظن بأن المراد بالذين كفروا هنا، مشركو قريش، وإن كان الجميع يشتركون في الكفر والفسوق والعصيان.
وقوله- تعالى-: ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ... تذكير للمؤمنين بنعم الله- تعالى- عليهم.
أى: ما ظننتم- أيها المؤمنون- أن يهود بنى النضير سيخرجون من ديارهم بتلك السهولة، وذلك لتملكهم لألوان من القوة، كقوة السلاح، وكثرة العدد، ووجود من يحميهم ممن يسكنون معكم في المدينة، وهم حلفاؤهم من بنى قومهم، كبني قريظة وغيرهم، ومن غير بنى قومهم كالمنافقين الذين وعدوهم ومنوهم.
وقوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ معطوف على ما قبله.
أى: أنتم- أيها المؤمنون- ظننتم أن اليهود لن يخرجوا من ديارهم لما معهم من قوة، وهم- أيضا- ظنوا أن حصونهم ستمنع بأس الله عنهم، وأنها ستحول بينهم وبين خروجهم منها، ونصركم عليهم.
وقوله- سبحانه-: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ... متفرع عن الظن السابق، الذي ظنه المؤمنون، والذي ظنه أعداؤهم وهم بنو النضير.
أى: أنتم ظننتم أنهم لن يخرجوا من ديارهم، وهم ظنوا- أيضا- أن حصونهم ستمنعهم من نصركم عليهم، فكانت النتيجة أن أتاهم بأس الله وعقابه من حيث لم يحتسبوا ومن حيث لم يخطر ببال، بأن قذف في قلوبهم الرعب والفزع فخرجوا من حصونهم التي تمنعوا بها، ومن ديارهم التي سكنوها زمنا طويلا صاغرين أذلاء.
والتعبير بقوله: مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا إشارة إلى أن ما نزل بهم من هزيمة، لم يكونوا يتوقعونها أصلا، إذ الاحتساب مبالغة في الحسبان، أى: أتاهم عقاب الله- تعالى- من المكان الذي كانوا يعتقدون أمانهم فيه، وفي زمان لم يكونوا أصلا يتوقعون حلول هزيمتهم عنده.(14/284)
وعبر- سبحانه- بالقذف، لأنه كناية عن الرمي بقوة وعنف وسرعة. والرعب: شدة الخوف والفزع، وأصله: الامتلاء. تقول: رعبت الحوض إذا ملأته.
أى: وقذف- سبحانه- في قلوبهم الرعب الذي ملأها بالجزع والفزع فاستسلموا بسبب ذلك لما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم.
ثم بين- سبحانه- ما حدث منهم خلال جلائهم فقال: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ والتخريب: إسقاط البناء وهدمه أو إفساده.
أى: أن هؤلاء اليهود، بلغ من سوء نيتهم، ومن اضطراب أمرهم، أنهم عند ما أجمعوا أمرهم على الرحيل عن المدينة، أخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم، عن طريق إسقاط بنائها، وهدم السليم منها، وإزالة ما اشتملت عليه من أبواب وغيرها.. حتى لا ينتفع المسلمون بها من بعدهم..
وأخذوا يخربونها- أيضا- بأيدى المؤمنين، أى: بسبب أن المؤمنين كانوا يزيلون من طريقهم كل عقبة حتى يقتحموا عليهم ديارهم، فترتب على ذلك أن هدموا بعض بيوت بنى النضير من الخارج، ليستطيعوا التمكن منهم.
قال صاحب الكشاف: ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين؟ قلت: لما عرّضوهم لذلك، وكانوا السبب فيه. فكأنهم أمروهم به، وكلفوهم إياه ... «1» .
أى: أن يهود بنى النضير بسبب تحصنهم في ديارهم، ومحاولتهم عدم النزول على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم حملوا المؤمنين على تخريب هذه الحصون من الخارج، ليدخلوا عليهم..
والخطاب في قوله- تعالى-: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ لكل من يصلح له.
قال الجمل في حاشيته: والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة، لأنها تنتقل من العين إلى الخد. وسمى علم التعبير بذلك، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.
ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء، وجهات دلالتها، ليعرف بالنظر فيها شيء آخر.. «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 81.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 311. [.....](14/285)
أى: إذا كان الأمر كما بينا لكم- أيها الناس-، فاعتبروا واتعظوا يا أصحاب العقول السليمة، والعيون الناظرة، بما جرى لهؤلاء اليهود، حيث دبر الله- تعالى أمر إخراجهم من ديارهم تدبيرا حكيما، ونصر المؤمنين عليهم بأيسر طريق، وجعل ديارهم من بعدهم، خير عبرة وعظة لكل ذي بصر، فقد خلفوها من بعدهم شاهد صدق على أن الغدر نهايته الخسران.. وعلى أن النصر إنما هو لمن اتبع الصدق والوفاء بالعهد..
قال الآلوسى: واشتهر الاستدلال بهذه الجملة، على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: لأنه- تعالى- أمر فيها بالاعتبار، وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع.. «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من حكمته في إخراجهم فقال: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ.
ولفظ «لولا» هنا حرف امتناع لوجود أى: امتنع وجود جوابها لوجود شرطها.. و «أن» مصدرية، وهي مع ما في حيزها في محل رفع على الابتداء. لأن لولا الامتناعية لا يليها إلا المبتدأ، والخبر محذوف.
والجلاء: الإخراج. يقال: جلا فلان عن مكان كذا، إذا خرج منه. وأجلاه عنه غيره، إذا أخرجه عنه:
قال القرطبي: والجلاء مفارقة الوطن، يقال جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء، والفرق بين الجلاء والإخراج- وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا- من وجهين:
أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة ... «2» .
أى: ولولا أن الله- تعالى- قد قدر على هؤلاء اليهود، الجلاء عن ديارهم، لولا أن ذلك موجود، لعذبهم في الدنيا عذابا شديدا، استأصل معه شأفتهم.
ولكن الله- تعالى- كتب عليهم الجلاء دون القتل والإهلاك لمصلحة اقتضتها حكمته، لعل من مظاهرها أن يغنم المسلمون ديارهم وأموالهم، دون أن تراق دماء من الفريقين، ودون أن يعرض المؤمنون أنفسهم لمخاطر القتال.
وجملة «ولهم في الآخرة عذاب النار» مستأنفة. أى: أن هؤلاء اليهود إن نجوا من القتل
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 41.
(2) تفسير القرطبي ج 18 ص 6.(14/286)
والإهلاك في الدنيا، فلن ينجوا في الآخرة من العذاب الذي يذلهم ويهينهم، بل سيحل بهم عذاب مقيم، لا فكاك لهم منه.
واسم الإشارة في قوله- تعالى- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعود إلى ما نزل وسينزل بهم من عذاب.
وقوله- تعالى-: شَاقُّوا من المشاقة بمعنى المعاداة والمخاصمة، حتى لكأن كل واحد من المتخاصمين في شق ومكان يخالف شق صاحبه ومكانه.
أى: ذلك الذي حل بهم في الدنيا من عقاب، والذي سيحل بهم في الآخرة من عذاب، سببه أن هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب، عادوا الله- تعالى- وخالفوا دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ بأن يخالف ما أمر به، أو نهى عنه. يعذبه الله- تعالى- ويخذله، فإنه- سبحانه- شديد العقاب.
وجملة فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ قائمة مقام جواب الشرط، أى: ومن يخالف أمر الله- تعالى- عذبه، فإنه- سبحانه- شديد العقاب، لمن أعرض عن طاعته وذكره.
ثم ساق- سبحانه- ما يغرس الطمأنينة في قلوب المؤمنين، الذين اشتركوا في تخريب ديار بنى النضير، وفي قطع نخيلهم، فقال- تعالى-: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ.
و «ما» شرطية في موضع نصب، بقوله: قَطَعْتُمْ وقوله: مِنْ لِينَةٍ بيان لها..
وقوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ جزاء الشرط. واللام في قوله- تعالى-: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلقة بمحذوف.
واللينة: واحدة اللين، وهو النخل كله، أو كرام النخل فقط.
قال الآلوسى ما ملخصه: اللينة هي النخلة مطلقا.. وهي فعلة من اللّون، وياؤها مقلوبة عن واو لكسر ما قبلها- فأصل لينة: لونة ...
وقيل: اللينة: النخلة مطلقا.. وقيل: هي النخلة القصيرة، وقيل: الكريمة من النخل..
ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة ... «1» .
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أن المسلمين عند ما أخذوا في تقطيع نخيل
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 43.(14/287)
اليهود، قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع النخيل؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: إن المسلمين بعد أن قطعوا بعض النخيل، ظنوا أنهم قد أخطئوا في ذلك، فقالوا:
لنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وقيل: إن المسلمين نهى بعضهم بعضا عن قطع النخيل، وقالوا إنما هي مغانم المسلمين، فنزلت هذه الآية لتصديق من نهى عن القطع، وتحليل من قطع من الإثم.
والمعنى: لا تختلفوا- أيها المؤمنون- في شأن ما فعلتموه بنخيل بنى النضير، فإن الذي قطع شيئا من هذه النخيل لا إثم عليه، والذي لم يقطع لا إثم عليه- أيضا- لأن كلا الأمرين بإذن الله- تعالى- ورضاه، وفي كليهما مصلحة لكم.
لأن من قطع يكون قد فعل ما يغيظ العدو ويذله، ويحمله على الاستسلام والخضوع لأمركم..
ومن ترك يكون قد فعل ما يعود بالخير عليكم، لأن تلك النخيل الباقية، منفعتها ستئول إليكم ...
وقد شرع- سبحانه- لكم كلا الأمرين في هذا المقام وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ عن أمره، وهم يهود بنى النضير، ومن ناصرهم، وأيدهم، وسار على طريقتهم في الخيانة والغدر.
فالآية الكريمة المقصود بها: إدخال المسرة والبهجة في قلوب المؤمنين، حتى لا يتأثروا بما حدث منهم بالنسبة لنخيل بنى النضير، وحتى يتركوا الخلاف في شأن هذه المسألة، بعد أن صدر حكم الله- تعالى- فيها، وهو أن القطع والترك بإذنه ورضاه، لأن كلا الأمرين يغرس الحسرة في قلوب الأعداء..
وعبر- سبحانه- باللينة عن النخلة، لأن لفظ «لينة» أخف لفظا، وأدخل في كونها نخلة من كرام النخل.
وقال- سبحانه-: أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها لتصوير هيئتها وحسنها وأن فروعها قد بقيت قائمة على أصولها، التي هي جذورها وجذوعها.
قال الآلوسى: وقوله: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلق بمقدر على أنه علة له، وذلك المقدر عطف على مقدر آخر. أى: ليعز المؤمنين، وليخزى الفاسقين أى: ليذلهم..
والمراد بالفاسقين: أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب. ووضع الظاهر موضع المضمر،(14/288)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
إشعارا بعلة الحكم- أى أن فسقهم هو السبب في إخزائهم.. «1» .
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية: أن تخريب ديار العدو، وقطع الأشجار التي يملكها، وهدم حصونه ومعسكراته.. جائز مادام في ذلك مصلحة تعود على المسلمين، وما دامت هناك حرب بينهم وبين أعدائهم.
ثم بين- سبحانه- حكم الفيء الذي أفاءه على المسلمين في غزوة بنى النضير وفيما يشبهها من غزوات، وأمر المؤمنين بأن يطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه، وأثنى- سبحانه- على المهاجرين والأنصار لقوة إيمانهم، ولنقاء قلوبهم وسخاء نفوسهم.. فقال- تعالى-:
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 43.(14/289)
وقوله: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ...
معطوف على قوله- تعالى-: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ... لبيان نعمة أخرى من النعم التي أنعم بها- سبحانه- على المؤمنين، في غزوة بنى النضير.
وأَفاءَ من الفيء بمعنى الرجوع، يقال: فاء عليه، إذا رجع، ومنه قوله- تعالى- في شأن الإيلاء: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ..
والمراد به هنا معناه الشرعي: وهو ما حصل عليه المؤمنون من أموال أعدائهم بدون قتال، كأن يكون هذا المال عن طريق الصلح، كما فعل بنو النضير، فقد صالحوا المؤمنين على الخروج من المدينة، على أن يكون لكل ثلاثة منهم حمل بعير- سوى السلاح- وأن يتركوا بقية أموالهم للمسلمين.
والضمير في قوله مِنْهُمْ يعود إلى بنى النضير، الذي عبر- سبحانه- عنهم بقوله:
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ....
وقوله: فَما أَوْجَفْتُمْ ... من الإيجاف بمعنى الإسراع في السير يقال: وجف الفرس يجف وجفا ووجيفا، إذا أسرع في سيره. والجملة خبر «ما» الموصولة في قوله: وَما أَفاءَ ... وما في قوله فَما أَوْجَفْتُمْ نافية.
والركاب: اسم جمع للإبل التي تركب، وفي الكلام حذف أغنى عنه قوله- سبحانه-:
فَما أَوْجَفْتُمْ....
والمعنى: اعلموا- أيها المؤمنون- أن ما أعطاه الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم من أموال بنى النضير التي صالحوه عليها، فلا حق لكم فيها لأنكم لم تنالوها بقتالكم لهم على الخيل أو الإبل، وإنما تفضل بها- سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم بلا قتال يذكر، فقد كانت(14/290)
ديار بنى النضير على بعد ميلين من المدينة، فذهب إليها المسلمون راجلين، وحاصروها حتى تم استسلام بنى النضير لهم..
قال الآلوسى: روى أن بنى النضير لما أجلوا عن أوطانهم، وتركوا رباعهم وأموالهم.
طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر، فأنزل الله- تعالى-: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ... فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
فقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: كانت أموال بنى النضير، مما أفاء الله- تعالى-: على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله- تعالى-.
وقال الضحاك: كانت أموال بنى النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فآثر بها المهاجرين. وقسمها عليهم، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة منهم أعطاهم لفقرهم.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ... استدراك على النفي في قوله- تعالى-: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ....
أى: ليس لكم الحق- أيها المؤمنون- في أموال بنى النضير، لأنكم لم تظفروا بها عن طريق قتال منكم لهم، ولكن الله- تعالى- سلط رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم وعلى ما في أيديهم، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم، والله- تعالى- قدير على كل شيء ...
وما دام الأمر كذلك، فاتركوا رسولكم صلى الله عليه وسلم يتصرف في أموال بنى النضير بالطريقة التي يريدها ويختارها بإلهام من الله- عز وجل-.
وقوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ... يرى كثير من العلماء أنه وارد على سبيل الاستئناف الابتدائى، وأنه سيق لبيان حكم شرعي جديد، يختلف عن الحكم الذي أوردته الآية السابقة على هذه الآية..
إذ أن الآية السابقة، واردة في حكم أموال بنى النضير بصفة خاصة، وهذه في حكم الفيء بعد ذلك بصفة عامة.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 45.(14/291)
وعليه يكون المعنى: لقد بينت لكم- أيها المؤمنون- حكم أموال بنى النضير، وهي أنها لرسولنا صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء.
أما ما أفاءه الله- تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال أهل القرى الأخرى، كقريظة وفدك وغيرهما فحكم هذا الفيء أنه يقسم إلى خمسة أقسام:
قسم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأهله وما تبقى منه يكون في مصالح المسلمين.
وقسم لأقاربه صلى الله عليه وسلم وهم: بنو هاشم وبنو المطلب..
وقسم لليتامى: وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم عنهم قبل أن يبلغوا.
وقسم للمساكين: وهم الذين ليس لهم مال يكفيهم ضروريات الحياة.
وقسم لأبناء السبيل: وهم المسافرون المنقطعون عن مالهم في سفرهم، ولو كانوا أغنياء في بلدهم..
وقد رجح الإمام ابن جرير هذا الرأى، فقال بعد استعراضه للأقوال: والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التي قبلها وذلك أن الآية التي قبلها، مال جعله الله- عز وجل- لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره. لم يجعل فيه لأحد نصيبا..
فإذا كانت هذه الآية التي قبلها مضت، وذكر المال الذي خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجعل لأحد منه شيئا، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذي جعله الله لأصناف شتى، كان معلوما بذلك أن المال الذي جعله لأصناف من خلقه. غير المال الذي جعله للنبي صلى الله عليه وسلم «1» .
وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: قوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ... بيان لحكم ما أفاءه الله على رسوله من قرى الكفار على العموم، بعد بيان حكم ما أفاءه من بنى النضير ...
فالجملة جواب سؤال مقدر ناشئ مما فهم من الكلام السابق، فكأن قائلا يقول: قد علمنا حكم ما أفاءه الله- تعالى- من بنى النضير، فما حكم ما أفاء الله- عز وجل- من غيرهم؟ ...
فقيل: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى. ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه ...
__________
(1) راجع تفسير ابن جرير ج 28 ص 38.(14/292)
وسهمه- سبحانه- وسهم رسوله واحد، وذكره- تعالى-: افتتاح كلام للتيمن والتبرك. فإن لله ما في السموات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأهل القرى المذكورون في الآية هم: أهل الصفراء، وينبع، ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب، التي تسمى قرى عرينة، وحكمها مخالف لحكم أموال بنى النضير «1» .
ومن العلماء من يرى أن الآية التي معنا، بمنزلة البيان والتفسير للآية التي قبلها، لأن الآية الأولى لم تبين المستحقين للفيء الذي أفاءه الله- تعالى- على رسوله من أموال بنى النضير، فجاءت الآية الثانية وبينت المستحقين له.
وعلى رأس المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى صاحب الكشاف، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية:
لم يدخل- سبحانه- العاطف على هذه الجملة- وهي قوله: ما أَفاءَ ... - لأنها بيان للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها. بين لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاءه الله عليه، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم، مقسوما على الأقسام الخمسة «2» .
وقال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى: أى جميع البلدان التي تفتح هكذا، فحكمها حكم أموال بنى النضير، ولهذا قال: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.. «3» .
ومن هذا نرى أن أصحاب الرأى الأول، يقولون: إن الآيتين في حكمين مختلفين، لأن الآية الأولى في بيان حكم أموال بنى النضير، وأن الله- تعالى- قد جعلها للرسول صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء، وأما الآية الثانية فهي في حكم أموال القرى الأخرى التي أفاءها الله- تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله- تعالى- قد حدد له وجوه صرفها، فقال: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى....
وأما أصحاب الرأى الثاني فيرون أن الآية الثانية مفصلة لما أجملته الآية الأولى، وأن كل فيء يقسم بالطريقة التي بينتها الآية الثانية.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأن الثابت في السنة الصحيحة: أن أموال بنى النضير، لم يخمسها صلى الله عليه وسلم بل كانت له خاصة، يوزعها كما يشاء، وقد آثر بها المهاجرين، وقسمها عليهم: ولم يعط الأنصار منها شيئا سوى ثلاثة رجال منهم، كانت بهم
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 45.
(2) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 82.
(3) تفسير ابن كثير ج 4 ص 335.(14/293)
حاجة فأعطاهم، وبذلك نرى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقيد في التوزيع لهذه الأموال، بمن ورد ذكرهم في الآية الثانية.
وما دام الأمر كذلك، فلا حاجة إلى القول بأن الآية الثانية، بيان وتفصيل للآية الأولى.
هذا وهناك أقوال أخرى في معنى هذه الآية، مبسوطة في كتب الفقه والتفسير، فليرجع إليها من شاء المزيد من الأحكام الفقهية.. «1» .
وقوله- سبحانه-: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ... بيان لحكمة هذا التشريع الذي شرعه- سبحانه- بالنسبة للأموال التي أتت عن طريق الفيء.. والضمير المستتر في قوله: يَكُونَ للفيء.
و «الدّولة» بضم الدال المشددة اسم لما يتداوله الناس فيما بينهم من أموال، فيكون في يد هذا تارة، وفي يد ذاك تارة أخرى.
والدّولة- بفتح الدال المشددة- اسم للنوبة من الظفر والنصر في الحرب وغيرها.
يقال: لفلان على فلان دولة، أى: غلبة ونصر.
وبعضهم يرى أن الدولة- بالضم والفتح- بمعنى واحد، وهو ما يدور ويدول للإنسان من الغنى والنصر.
والمعنى: شرعنا لكم هذه الأحكام المتعلقة بتقسيم الفيء، كي لا يكون المال الناجم عنه، متداولا بين أيدى أغنيائكم دون فقرائكم.
والمقصود بهذه الجملة الكريمة، إبطال ما كان شائعا في الجاهلية، من استئثار قواد الجيوش، ورؤساء القبائل، بالكثير من الغنائم دون غيرهم ممن اشترك معهم في الحروب، كما قال أحد الشعراء، لأحد الرؤساء أو القادة:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنّشيطة والفضول
أى: لك- أيها القائد وحدك- من الغنيمة ربعها، والصفايا أى: والنفيس منها، ولك- أيضا ما تحكم به على العدو، ولك النشيطة، وهي ما يصيبه الجيش من العدو قبل الحرب، ولك- كذلك- الفضول، أى: ما يبقى بعد قسمة الغنائم.
وقد أبطل الإسلام كل ذلك، حيث جعل مصارف الفيء، تعود إلى المسلمين جميعا، بطريقة عادلة، بينها- سبحانه- في هذه الآية وفي غيرها..
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 12.(14/294)
قال بعض العلماء: والجدير بالذكر هنا: أن دعاة المذاهب الاقتصادية الفاسدة، يحتجون بهذه الآية على مذهبهم الفاسد، ويقولون: ويجوز للدولة أن تستولى على مصادر الإنتاج ورءوس الأموال، لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء، وما يسمونهم طبقة العمال، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادى، وفساد اجتماعي، قد ثبت خطؤه وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال.
لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة، من الإنفاق على المجاهدين، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور، وليس يعطى للأفراد كما يقولون، ثم- هو أساسا- مال جاء غنيمة للمسلمين، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه الحلال.
ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص، ولا هو- أيضا- كسب لشخص معين، تحقق فيه العموم في مصدره، وهو الغنيمة، والعموم في مصرفه وهو عموم مصالح الأمة، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه، فشتان بين هذا الأصل في التشريع، وهذا الفرع في التضليل.. «1» .
ثم أمر- سبحانه- المسلمين أن يمتثلوا أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم امتثالا تاما، فقال:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
وقوله: آتاكُمُ من الإتيان، والمقصود به هنا ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من هدايات وتشريعات، وآداب. ويدخل في ذلك دخولا أوليا قسمته لفيء بنى النضير بين المهاجرين، دون الأنصار.
أى: ما أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله- أيها المؤمنون- فافعلوه، وما نهاكم عن فعله فاجتنبوه، واتقوا الله في كل أحوالكم، فإنه- سبحانه- شديد العقاب لمن خالف أمره.
ومنهم من جعل آتاكُمُ هنا بمعنى أعطاكم من الفيء، وجعل نَهاكُمْ بمعنى نهاكم عن الأخذ منه، وكأن صاحب هذا الرأى يستعين على ما ذهب إليه بفحوى المقام.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ من قسمة غنيمة أو فيء فخذوه وما نهاكم عنه، أى: عن أخذه منه فَانْتَهُوا عنه.
والأجود أن يكون- الأمر والنهى- عاما في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في عمومه.. «2» .
__________
(1) راجع تفسير أضواء البيان ج 8 ص 54 للشيخ الشنقيطى- رحمه الله-.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 82.(14/295)
وقال الإمام ابن كثير: وقوله- تعالى-: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
أى: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وينهى عن شر.
أخرج الشيخان عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، والمغيرات لخلق الله- عز وجل- فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: بلغني انك قلت كذا وكذا، فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله.
فقالت: لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت:
بلى.
قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت: إنى لأظن أهلك يفعلونه!! ..
قال: اذهبي فانظرى، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا. فجاءت فقالت: ما رأيت شيئا. قال: لو كان كذا لم تجامعنا.. «1» .
وقال بعض العلماء وفي الآية دليل على وجوب الأخذ بالسنن الصحيحة في كل الأمور.
وعن أبى رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى!! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ... »
وهذا الحديث من أعلام النبوة، فقد وقع ذلك بعد من الجاهلين بكتاب الله، وبمنصب الرسالة، ومن الزنادقة الصادين عن سبيل الله.. «2» .
ثم أثنى- سبحانه- على المهاجرين الذين فارقوا أموالهم وعشيرتهم، من أجل إعلاء كلمته- تعالى- فقال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ.
قال الإمام الرازي: اعلم أن هذا بدل من قوله- تعالى-: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... كأنه قيل: أعنى بأولئك الأربعة، هؤلاء الفقراء المهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 336.
(2) «تفسير صفوت البيان» ج 2 ص 416 لفضيلة للشيخ حسنين مخلوف. [.....](14/296)
ثم إنه- تعالى- وصفهم بأمور، أولها: أنهم فقراء، ثانيها: أنهم مهاجرون وثالثها:
أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يعنى أن الكفار أجبروهم على الخروج ... ورابعها: أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، والمراد بالفضل ثواب الجنة، وبالرضوان: قوله:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ.
وخامسها: قوله: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى: بأنفسهم وأموالهم.
وسادسها: قوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يعنى أنهم لما هجروا لذّات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين، ظهر صدقهم في دينهم.. «1» .
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف المهاجرين في سبيله، بجملة من المناقب الحميدة.
التي استحقوا بسببها الفلاح والفوز برضوان الله.
ثم مدح- سبحانه- بعد ذلك الأنصار، الذين يحبون من هاجر إليهم فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ.
والجملة الكريمة معطوفة على الْمُهاجِرِينَ أو مبتدأ وخبره: يُحِبُّونَ والتبوؤ:
النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل الذي ينزل فيه الإنسان.
والمراد بالدار: المدينة المنورة، وأل للعهد. أى: الدار المعهودة المعروفة وهي دار الهجرة.
وقوله: وَالْإِيمانَ منصوب بفعل مقدر. أى: وأخلصوا الإيمان.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى عطف الإيمان على الدار، ولا يقال: تبوأوا الإيمان؟ ..
قلت معناه: تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان. كقوله: علفتها تبنا وماء باردا.
أى: وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم، لتمكنهم منه، واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك.
أو أراد: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه..
أو سمى المدينة- لأنها دار الهجرة، ومكان ظهور الإيمان- بالإيمان.. «2» .
وقوله: مِنْ قَبْلِهِمْ أى: من قبل المهاجرين، وهو متعلق بقوله تَبَوَّؤُا.
__________
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 29 ص 287.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 83.(14/297)
وقوله: يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ خبر المبتدأ، أو حال من الذين تبوأوا الدار ...
أى: هذه هي صفات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ... وهذا هو جزاؤهم ...
أما الذين سكنوا دار الهجرة وهي المدينة المنورة، من قبل المهاجرين، وأخلصوا إيمانهم وعبادتهم لله- تعالى-، فإن من صفاتهم أنهم يحبون إخوانهم الذين هاجروا إليهم حبا شديدا، لأن الإيمان ربط قلوبهم برباط المودة والمحبة. وقوله: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا صفة أخرى من صفات الأنصار.
ومعنى: يَجِدُونَ هنا: يحسون ويعلمون، والضمير للأنصار، وفي قوله أُوتُوا للمهاجرين. والحاجة في الأصل: اسم مصدر بمعنى الاحتياج، أى الافتقار إلى الشيء.
والمراد بها هنا: المأرب أو الرغبة الناشئة عن التطلع إلى ما منحه النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين دون الأنصار، من فيء أو غيره.
أى: أن من صفات الأنصار- أيضا- أنهم لا تتطلع نفوسهم إلى شيء مما أعطى للمهاجرين من الفيء أو غيره، لأن المحبة التي ربطت قلوب الأنصار بالمهاجرين، جعلت الأنصار يرتفعون عن التشوف إلى شيء مما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين وحدهم ...
ثم وصفهم- سبحانه- بصفة ثالثة كريمة فقال: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ....
والإيثار معناه: أن يؤثر الإنسان غيره على نفسه، على سبيل الإكرام والنفع، والخصاصة: شدة الحاجة، وأصلها من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتحات.
أى: أن من صفات الأنصار أنهم كانوا يقدمون في النفع إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، ولو كانوا في حاجة ماسة، وفقر واضح، إلى ما يقدمونه لإخوانهم المهاجرين.
ولقد ضرب الأنصار- رضى الله عنهم- أروع الأمثال وأسماها في هذا المضمار، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبى هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابنى الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله» ؟ فقال رجل من الأنصار- وفي رواية أنه أبو طلحة- فقال: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، فقال لامرأته: أكرمى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية!! قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالى فأطفئى السراج، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت.(14/298)
ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة» وأنزل الله فيهما: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تذييل قصد به حض الناس على التحلي بفضيلة السخاء والكرم.
والشح: يرى بعضهم أنه بمعنى البخل، ويرى آخرون أن الشح غريزة في النفس تحملها على الإمساك والتقتير، وأما البخل فهو المنع ذاته، فكأن البخل أثر من آثار الشح.
قال صاحب الكشاف: «الشح» - بالضم والكسر وقد قرئ بهما-: اللؤم، وأن تكون نفس المرء كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر:
يمارس نفسا بين جنبيه كزّة ... إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا
وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، ومنه قوله- تعالى-: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ... «2» .
أى: ومن يوق- بتوفيق الله وفضله- شح نفسه وحرصها على الإمساك، فيخالفها فيما تأمره به من المنع والتقتير. فأولئك الذين يخالفونها هم المفلحون، الفائزون برضا الله- عز وجل-.
ومن الأحاديث التي وردت في النهى عن الشح، ما أخرجه مسلم- في صحيحه- عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» «3» .
ثم مدح- سبحانه- كل من سار على نهج المهاجرين والأنصار في قوة الإيمان، وفي طهارة القلب، وسماحة النفس فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا....
قال الآلوسى: قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ... عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين، والمراد بهؤلاء: قيل: الذين هاجروا حين قوى الإسلام، فالمجىء حسى، وهو مجيئهم إلى المدينة، وضمير من بعدهم، للمهاجرين الأولين.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 52. وراجع تفسير القرطبي ج 18 ص 24.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 84.
(3) تفسير ابن كثير ج 4 ص 339.(14/299)
وقيل هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، فالمجىء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للفريقين: المهاجرين والأنصار.
وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر- رضى الله عنه- وكلام كثير من السلف كالصريح فيه، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين.. «1» .
ويبدو لنا أن هذا الرأى الثاني، وهو كون الذين جاءوا من بعدهم يشمل المؤمنين الصادقين جميعا، أقرب إلى الصواب، لأنهم هم التابعون بإحسان للمهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، كما قال- تعالى-: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ... «2» .
وعليه يكون المعنى: والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار، واتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة يَقُولُونَ على سبيل الدعاء لأنفسهم ولإخوانهم في العقيدة، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا
أى: يا ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر، لإخواننا في الدين الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ فهم أسبق منا إلى الخير والفضل.. وَلا تَجْعَلْ يا ربنا فِي قُلُوبِنا غِلًّا أى: حسدا وحقدا لِلَّذِينَ آمَنُوا أى: يا ربنا لا تجعل في قلوبنا أى غل أو حسد لإخواننا المؤمنين جميعا.
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أى: يا ربنا إنك شديد الرأفة بعبادك واسع الرحمة بهم.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أن من حق الصحابة- رضى الله عنهم- على من جاءوا بعدهم، أن يدعوا لهم، وأن ينزلوهم في قلوبهم منزلة الاحترام والتبجيل والتكريم..
ورحم الله الإمام القرطبي فقد أفاض في بيان هذا المعنى، فقال ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ... يعنى التابعين، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة.
قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوأوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل.
وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة..
وقال الإمام الرازي: واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون، أو الأنصار، أو الذين جاءوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 54.
(2) سورة التوبة الآية 100.(14/300)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
المهاجرين والأنصار، أن يذكر السابقين، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك، بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين، بحسب نص هذه الآية.. «1» .
وبعد أن رسمت السورة الكريمة، تلك الصورة الوضيئة للمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.. بعد كل ذلك أخذت في رسم صورة أخرى، متباينة تمام المباينة مع صورة هؤلاء الصادقين، ألا وهي صورة المنافقين، الذين انضموا إلى كل مناوئ للدعوة الإسلامية، فقال- تعالى-:
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 29 ص 289.(14/301)
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا ... حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلف طبقاتهم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب.
والآية- كما روى عن ابن عباس- نزلت في رهط من بنى عوف منهم عبد الله بن أبى بن سلول ... بعثوا إلى بنى النضير بما تضمنته الجمل المحكية، بقوله- تعالى-: يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... «1» .
والمراد بالأخوة في قوله- سبحانه-: يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ: أخوة في الكفر والفسوق والعصيان ...
والمعنى: ألم يصل إلى علمك- أيها الرسول الكريم- حال أولئك المنافقين الذين أظهروا الإسلام، وأبطنوا الكفر، وهم يقولون لإخوانهم في الكفر من أهل الكتاب، وهم: يهود بنى النضير، أثناء محاصرتكم- أيها المؤمنون- لهم.
يقولون لهم: «والله لئن أخرجتم» من دياركم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ أى: لنخرجن من ديارنا معكم، لنكون مصاحبين لكم حيثما سرتم.
ويقولون لهم: - أيضا- وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ... أى: ولا نطيع في شأنكم أحدا أبدا، يريد العدوان عليكم، أو يريد منعنا من الخروج معكم ومؤازرتكم..
ويقولون لهم- كذلك-: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أى: وإن قاتلكم المسلمون، لنقفن إلى جواركم، ولنقدمن العون الذي يؤدى إلى نصركم.
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ رد عليهم، وإبطال لمزاعمهم.
أى: والله- تعالى- يشهد بأن هؤلاء المنافقين لكاذبون في أقوالهم، وفي عهودهم..
ثم أبطل- سبحانه- أقوالهم بصورة أكثر تفصيلا فقال: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 56.(14/302)
أى: والله لئن أخرج المؤمنون اليهود من ديارهم، فإن هؤلاء المنافقين لا يخرجون معهم، ولئن قاتل المؤمنون اليهود، فإن المنافقين لن ينصروا اليهود، ولئن نصروهم- على سبيل الفرض والتقدير- ليولين المنافقون الأدبار فرارا منكم- أيها المؤمنون-، ثم لا ينصرون بعد ذلك، لا هم ولا من قاموا بنصرهم، لأن الفريقين اجتمعوا على الباطل واتحدت قلوبهم في الجبن والخور والحرص على الحياة..
فأنت ترى أن هاتين الآيتين الكريمتين، قد وصفتا المنافقين، بالكفر والعصيان. وبالتحالف مع كل محارب للدعوة الإسلامية، وبنقض العهود، وخلف الوعود، وبالجبن الخالع، والكذب الواضح ...
وقد تحقق ما أخبرت عنه الآيتان عن هؤلاء المنافقين. فإن يهود بنى النضير عند ما جد الجد، وحالت ساعة رحيلهم.. أرسلوا إلى المنافقين يطلبون عونهم، فما كان من المنافقين إلا أن خذلوهم، وتحللوا من وعودهم لهم..
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قيل: وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ.. يعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم؟ قلت: معناه، ولئن نصروهم على سبيل الفرض والتقدير.. كقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وكما يعلم- سبحانه- ما يكون فهو يعلم ما لا يكون.
والمعنى: ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك. أى يهلكهم الله- تعالى- ولا ينفعهم نفاقهم، لظهور كفرهم، أو لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصر المنافقين لهم.
وفيه دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب.. «1» .
وبعد أن بشر الله- تعالى- المؤمنين بهزيمة أعدائهم أمامهم، أتبع ذلك ببشارة أخرى، وهي أن هؤلاء المنافقين وإخوانهم في الكفر، يخشون المؤمنين خشية شديدة، فقال- سبحانه-: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ....
والرهبة: مصدر رهب، بمعنى خاف، يقال: رهب فلان فلانا، إذا خافه خوفا شديدا من داخل نفسه..
أى: لأنتم- أيها المؤمنون- أشد خوفا في نفوس هؤلاء المنافقين واليهود، من ربهم الذي خلقهم وأوجدهم.
__________
(1) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 58.(14/303)
وقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ تعليل لسبب جبنهم وخوفهم، واسم الإشارة يعود إلى كون المؤمنين أشد رهبة في صدور المنافقين واليهود من الله- تعالى-.
أى: أنتم أشد رهبة في قلوبهم من الله- تعالى-: بسبب أنهم قوم لا يفقهون الحق، ولا يعلمون شيئا عن عظمة الله- سبحانه- وجلاله وقدرته..
والمقصود من هذه الآية الكريمة، تهوين أمر هؤلاء الأعداء في نفوس المؤمنين وبيان أن هؤلاء الأعداء قد بلغ الجبن والخور فيهم مبلغا كبيرا، لدرجة أن خشيتهم لكم، أشد من خشيتهم لله- تعالى-.
والتعبير بالرهبة للإشعار بأنها رهبة خفية لا يعلمها إلا الله- تعالى- وأن هؤلاء المنافقين واليهود، مهما تظاهروا أمام المؤمنين بالبأس والقوة. فهم في قرارة نفوسهم يخافون المؤمنين خوفا شديدا ...
قال صاحب الكشاف: رهبة مصدر رهب المبنى للمفعول، كأنه قيل أشد مرهوبية.
وقوله: فِي صُدُورِهِمْ دلالة على نفاقهم. يعنى: أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله، وأنتم أهيب في صدورهم من الله- تعالى-.
فإن قلت: كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشد؟.
قلت: معناه أن رهبتهم في السر منكم، أشد من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم.
وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله ... «1» .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد قررت حقيقة راسخة في نفوس المنافقين وأشباههم، وإن كانوا يحاولون إخفاءها وسترها، وهي أن خشيتهم من الناس أشد من خشيتهم من الله- تعالى-.
ثم يقرر- سبحانه- حقيقة أخرى، أيدتها التجارب والمشاهد الواقعية، فقال- تعالى-: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى....
والآية الكريمة بدل اشتمال من التي قبلها، لأن شدة الخوف من المؤمنين جعلت اليهود وحلفاءهم، لا يقاتلون المسلمين، إلا من وراء الخنادق والحصون..
والجدر: جمع جدار، وهو بناء مرتفع يحتمي به من يقاتل من خلفه. وجَمِيعاً بمعنى مجتمعين كلهم..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 85.(14/304)
أى: أن هؤلاء اليهود وحلفاءهم من المنافقين، لا يقاتلونكم مجتمعين كلهم في موطن من المواطن إلا في قرى محصنة بالخنادق وغيرها، أو يقاتلونكم من وراء الجدران التي يتسترون بها، لأنهم يعجزون عن مبارزتكم، وعن مواجهتكم وجها لوجه، لفرط رهبتهم منكم..
قال ابن كثير: يعنى أنهم في جبنهم وهلعهم، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام، بالمبارزة والمقاتلة، بل إما في حصون، أو من وراء جدر محاصرين، فيقاتلونكم للدفع عنهم ضرورة ... «1» .
وقوله- تعالى-: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ جملة مستأنفة، كأن قائلا قال: ولماذا لا يقاتلون المؤمنين إلا على هذه الصورة؟ فكان الجواب: بأسهم بينهم شديد. أى: عداوتهم فيما بينهم عداوة شديدة، بحيث لا يتفقون على رأى، وقوتهم يستعملونها فيما بينهم استعمالا واسعا، فإذا ما التقوا بكم تحولت هذه القوة إلى جبن وهلع..
قال صاحب الكشاف: يعنى أن البأس الشديد الذي يوصفون به، إنما هو فيما بينهم إذا اقتتلوا، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة، لأن الشجاع يجبن والعزيز يذل، عند محاربة الله ورسوله.. «2» .
وقوله- تعالى-: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى استئناف آخر للإجابة عما يقال: من أنه كيف تكون عداوتهم فيما بينهم شديدة، ونحن نراهم متفقين؟.
فكان الجواب: ليس الأمر كما يظهر من حالهم من أن بينهم تضامنا وترابطا.. بل الحق أنهم متدابرون مختلفون متباغضون.. وإن كانت ظواهرهم تدل على خلاف ذلك..
أى: تحسبهم أيها الناظر إليهم مؤتلفين.. والحال أن قلوبهم متفرقة، ومنازعهم مختلفة وبواطنهم تباين ظواهرهم.. وما دام الأمر كذلك فلا تبالوا بهم- أيها المؤمنون-، بل أغلظوا عليهم، وجاهدوهم بكل قوة وجسارة..
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ يعود إلى ما سبق ذكره، من شدة عداوتهم فيما بينهم، ومن مخالفة بواطنهم لظواهرهم.
أى: ذلك الذي ذكرناه لكم من شدة بأسهم فيما بينهم، ومن مخالفة بواطنهم لظواهرهم، سببه أنهم قوم لا يعقلون الحق والهدى والرشاد.. وإنما هم ينساقون وراء أهوائهم بدافع من الأحقاد والمطامع والشهوات، بدون إدراك لعواقب الأمور، أو للفهم الصحيح..
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 340.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 85.(14/305)
ثم ساق- سبحانه- مثلين زيادة في تثبيت المؤمنين، وفي التهوين من شأن أعدائهم فقال- تعالى-: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وقوله: كَمَثَلِ ... خبر لمبتدأ محذوف. والمراد بالذين من قبلهم: يهود بنى قينقاع، وكفار قريش الذين حل بهم ما حل من هزائم في غزوة بدر.
والوبال: المرعى الضار الذي ترعاه الماشية، دون أن تدرك سوء عاقبته.
أى: مثل هؤلاء اليهود والمنافقين، وحالهم العجيبة.. كمثل الذين من قبلهم، وهم يهود بنى قينقاع، الذين أخرجوا من المدينة بسبب غدرهم، وكان خروجهم قبل خروج بنى النضير بزمن ليس بالطويل، وكمثل مشركي قريش الذين حلت بهم الهزيمة في غزوة بدر، فإن هؤلاء وهؤلاء قد ذاقوا في الدنيا سوء عاقبة كفرهم بدون إمهال..
أما في الآخرة فلهم عذاب شديد الألم والإهانة.
ووجه الشبه بين السابقين واللاحقين، أن الجميع قد اغتروا بمالهم وقوتهم، فتطاولوا على المؤمنين، ونقضوا عهودهم معهم.. فكانت عاقبتهم جميعا أن أذلهم الله- تعالى- في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى..
وأما المثل الثاني فيتجلى في قوله- تعالى-: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ...
أى: مثل المنافقين في تزيينهم الشر والفساد ليهود بنى النضير.. كمثل الشيطان إذ قال للإنسان في الدنيا اكفر بالله- تعالى- فلما كفر ذلك الإنسان ومات على الكفر، وبعث يوم القيامة، ووجد مصيره السيئ.. ندم وألقى التبعة على الشيطان الذي قال له: إنى برىء منك ومن كفرك، إنى أخاف الله رب العالمين، ووجه الشبه: أن المنافقين تبرأوا من معاونتهم ومن مناصرتهم.. عند ما حانت ساعة الجد ... كما يتبرأ الشيطان من كفر الكافر يوم القيامة.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.. «1» .
وقوله- سبحانه-: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها.. من تمام المثل الذي ضربه الله- تعالى- للمنافقين واليهود ...
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 22. [.....](14/306)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
أى: فكان عاقبة ذلك الشيطان وذلك الإنسان، أنهما في النار، حالة كونهما خالدين فيها خلودا أبديا، وكذلك حال المنافقين واليهود ...
وَذلِكَ الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ الذين تجاوزوا حدود الله- تعالى- وحاربوا أولياءه- سبحانه-.
والمراد بالشيطان والإنسان جنسهما، وقد ذكر بعضهم هنا قصصا تدل على أن المراد بالإنسان شخص معين، وقد أضربنا عنها صفحا لضعفها.. «1» .
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذمت المنافقين واليهود ذما شنيعا، وأضعفت من شأنهم، وساقت لهم من الأمثلة ما يجعل المؤمنين يستخفون بهم، ويجاهدونهم بغلظة وشدة.
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بتقواه وبتقديم العمل الصالح الذي ينفعهم يوم يلقونه، ونهاهم عن التشبه بالقوم الفاسقين.. فقال- تعالى-:
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
والمراد بالغد في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... يوم القيامة..
أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان اتَّقُوا اللَّهَ أى صونوا أنفسكم عن كل ما يغضب الله- تعالى-، وراقبوه في السر والعلن. وقفوا عند حدوده فلا تتجاوزوها.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 341، وتفسير القرطبي ج 18 ص 38.(14/307)
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أى: ولتنظر كل نفس، ولتتأمل في الأعمال التي عملتها في الدنيا. والتي ستحاسب عليها في يوم القيامة، فإن كانت خيرا ازدادت منها، وإن كانت غير ذلك أقلعت عنها.
وعبر- سبحانه- عن يوم القيامة بالغد، للإشعار بقربه، وأنه آت لا ريب فيه، كما يأتى اليوم الذي يلي يومك. والعرب تخبر عن المستقبل القريب بالغد كما في قول الشاعر:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب
وقال- سبحانه-: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ لإفادة العموم، أى: كل نفس عليها أن تنظر نظرة محاسبة ومراجعة في أعمالها بحيث لا تقدم إلا على ما كان صالحا منها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت: أما تنكير النفس فاستقلالا للأنفس النواظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأما تنكير الغد، فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه.
وعن مالك بن دينار: مكتوب على باب الجنة: وجدنا ما عملنا، وربحنا ما قدمنا، وخسرنا ما خلفنا ... «1» .
وكرر- سبحانه- الأمر بالتقوى فقال: واتَّقُوا اللَّهَ للتأكيد. أى: اتقوا الله بأن تؤدوا ما كلفكم به من واجبات، وبأن تجتنبوا ما نهاكم عنه من سيئات.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ تعليل للحض على التقوى أى:
اتقوه في كل ما تأتون وما تذرون، لأنه- تعالى- لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، بل هو- سبحانه- محيط بها إحاطة تامة، وسيجازيكم عليها بما تستحقون يوم القيامة.
وقد جاء الأمر بتقوى الله- تعالى- في عشرات الآيات من القرآن الكريم، لأن تقوى الله- تعالى- هي جماع كل خير، وملاك كل بر، ومن الأدلة على ذلك. أننا نرى القرآن يبين لنا أن تقوى الله قد أمر بها كل نبي قومه، قال- تعالى-: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ....
وتارة نجد القرآن الكريم يبين لنا الآثار الطيبة التي تترتب على تقوى الله في الدنيا والآخرة، فيقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ....
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 508.(14/308)
ويقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
ويقول- سبحانه-: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ.
ويقول- عز وجل-: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
وبعد هذا الأمر المؤكد بالتقوى، جاء النهى عن التشبه بمن خلت قلوبهم من التقوى، فقال- تعالى-: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ....
أى: تمسكوا- أيها المؤمنون- بتقوى الله- تعالى- ومراقبته والبعد عن كل مالا يرضيه. واحذروا أن تكونوا كأولئك الذين تركوا التكاليف التي كلفهم الله- تعالى- بها، فتركهم- سبحانه- إلى أنفسهم، بأن جعلهم ناسين لها، فلم يسعوا إلى ما ينفعها، بل سعوا فيما يضرها ويرديها.
فالمراد بالنسيان هنا: الترك والإهمال، والكلام على حذف مضاف. أى: نسوا حقوق الله- تعالى- وما أوجب عليهم من تكاليف.
والفاء في قوله: فَأَنْساهُمْ للسببية، أى: أن نسيانهم لما يجب عليهم نحو أنفسهم من تهذيب وتأديب.. كان سببه نسيانهم لما يجب عليهم نحو خالقهم من طاعته وخشيته.
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم فقال: أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أى: أولئك الذين تركوا ما يجب عليهم نحو خالقهم ونحو أنفسهم، هم الفاسقون عن أمره، الخارجون على شريعته ودينه، الخالدون يوم القيامة في العذاب المهين.
ثم حذر- سبحانه- المؤمنين من نسيان طاعته، وخشيته بأسلوب آخر فقال:
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ....
أى: لا يستوي في حكم الله- تعالى- وفي جزائه أَصْحابُ النَّارِ الذين استحقوا الخلود فيها وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ الذين ظفروا برضوانه- تعالى- بسبب إيمانهم وعملهم الصالح..
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بالسعادة التي ليس بعدها سعادة، وبالنعيم الذي لا يقاربه نعيم.
وقال- سبحانه-: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ... بدون بيان مالا يستويان فيه، للإشعار بالبون الشاسع بين الفريقين، في سلوكهم وفي أعمالهم، وفي تفكيرهم، وفي نظرتهم إلى الحياة، وفي العاقبة التي ينتهى إليها كل فريق ...
قال صاحب الكشاف: هذا تنبيه للناس، وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم، وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة، واتباع الشهوات: كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة(14/309)
والنار، والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز مع أصحاب الجنة، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، كما تقول لمن يعق أباه، هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه، فتنبهه بذلك على حق الأبوة، الذي يقتضى البر والتعطف.. «1» .
ومن الآيات الكثيرة التي تشبه هذه الآية في معناها، قوله- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ «2» .
ثم نوه- سبحانه- بشأن القرآن الكريم، المشتمل على ألوان من الهدايات والمواعظ، والآداب والأحكام، التي في اتباعها سعادة الناس وفوزهم فقال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ، لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ....
والمراد بالجبل: حقيقته والكلام على سبيل الفرض والتقدير، واختير الجبل، لأنه أشد الأشياء صلابة، وقلة تأثر بما ينزل به.
أى: لو أنزلنا- على سبل الفرض والتقدير- هذا القرآن العظيم الشأن على جبل من الجبال العالية الشامخة الصلبة وخاطبناه به.. لرأيت- أيها العاقل- هذا الجبل الذي هو مثال في الشدة والغلظة والضخامة وعدم التأثر. لرأيته خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
أى: لرأيته متذللا متشققا من شدة خوفه من الله- تعالى- ومن خشيته.
قال الآلوسى: وهذا تمثيل لعلو شأن القرآن، وقوة تأثيره، والغرض- من هذه الآية- توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن الكريم، وتدبر ما فيه من القوارع، وهو الذي لو أنزل على جبل- وقد ركب فيه العقل- لخشع وتصدع.
ويشير إلى كونه تمثيلا، قوله- تعالى-: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «3» .
أى: وتلك الأمثال الباهرة التي اشتمل عليها هذا القرآن العظيم، نضربها ونسوقها للناس، لكي يتفكروا فيها، ويعملوا بما تقتضيه من توجيهات حكيمة ومن مواعظ سديدة، ومن إرشادات نافعة.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالثناء على ذاته- تعالى- وببيان بعض أسمائه الحسنى فقال- تعالى-:
__________
(1) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 508.
(2) سورة غافر الآية 58.
(3) راجع تفسير الآلوسى ج 27 ص 62.(14/310)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
[سورة الحشر (59) : الآيات 22 الى 24]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قال الجمل: لما وصف- تعالى- القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف، أتبع ذلك بوصف عظمته- تعالى- فقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أى: هو الله الذي وجوده من ذاته، فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بهذا غيره، لأنه هو الموجود أزلا وأبدا، فهو حاضر في كل ضمير، غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدع الجبل من خشيته.
أى: هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له، الذي لا إله إلا هو، فإنه لا مجانس له، ولا يليق ولا يصح، ولا يتصور، أن يكافئه أو يدانيه شيء ... «1» .
وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أى: هو- سبحانه- العليم علما تاما بما غاب عن أذهان الخلائق وعقولهم، وبما هو حاضر ومشاهد أمام أعينهم.
فالمراد بالغيب: كل ما غاب عن إحساس الناس وعن مداركهم..
والمراد بالشهادة: ما يشاهدونه بعيونهم، ويدركونه بعقولهم..
والتعريف فيهما للاستغراق الحقيقي، لأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء في هذا الكون.
وقوله- تعالى-: هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ أى: هو العظيم الرحمة الدائمة، لأن لفظ
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 321.(14/311)
الرَّحْمنُ صيغة مبالغة لكثرة الشيء وعظمته، ولفظ الرَّحِيمُ صيغة تدل على الدوام والاستمرار.
وقوله- سبحانه-: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... تأكيد لأمر التوحيد لأن مقام التعظيم يقتضى ذلك.
ثم عدد- سبحانه- بعد ذلك بعض أسمائه الحسنى، وصفاته الجليلة فقال: الْمَلِكُ أى: المالك لجميع الأشياء، والحاكم على جميع المخلوقات والمتصرف فيها تصرف المالك في ملكه.
الْقُدُّوسُ أى: المنزه عن كل نقص، البالغ أقصى ما يتصوره العقل في الطهارة وفي البعد عن النقائص والعيوب، وعن كل ما لا يليق.
من القدس بمعنى الطهارة، والقدس- بفتح الدال- اسم للإناء الذي يتطهر به ومنه القادوس.
وجاء لفظ القدوس بعد لفظ الملك، للإشعار بأنه- تعالى- وإن كان مالكا لكل شيء، إلا أنه لا يتصرف فيما يملكه تصرف الملوك المغرورين الظالمين، وإنما يتصرف في خلقه تصرفا منزها عن كل ظلم ونقص وعيب..
السَّلامُ أى: ذو السلامة من كل ما لا يليق، أو ذو السلام على عباده في الجنة، كما قال- تعالى-: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ.
الْمُؤْمِنُ أى: الذي وهب لعباده نعمة الأمان والاطمئنان، والذي صدق رسله بأن أظهر على أيديهم المعجزات التي تدل على أنهم صادقون فيما يبلغونه عنه.
الْمُهَيْمِنُ أى: الرقيب على عباده، الحافظ لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، من الأمن، ثم قلبت همزته هاء، وقيل أصله هيمن بمعنى رقب، فهاؤه أصلية.
الْعَزِيزُ أى: الذي يغلب غيره، ولا يتجاسر على مقامه أحد..
الْجَبَّارُ أى: العظيم القدرة، القاهر فوق عباده.
قال القرطبي: قال ابن عباس: الجبار: هو العظيم. وجبروت الله عظمته. وهو على هذا القول صفة ذات، من قولهم: نخلة جبارة..
وقيل هو من الجبر وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم فجبر، إذا أصلحته بعد الكسر، فهو فعال من جبر، إذا أصلح الكسير وأغنى الفقير.. «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 46.(14/312)
الْمُتَكَبِّرُ أى: الشديد الكبرياء، والعظمة والجلالة. والتنزه عما لا يليق بذاته.
وهاتان الصفتان- الجبار المتكبر- صفتا مدح بالنسبة لله- تعالى-، وصفتا ذم بالنسبة لغيره- تعالى-، وفي الحديث الصحيح عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيما يرويه عن ربه: «الكبرياء ردائي. والعظمة إزارى. فمن نازعنى في واحد منهما قصمته. ثم قذفته في النار» .
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أى: تنزه- سبحانه وتقدس عن إشراك المشركين. وكفر الكافرين.
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ لكل شيء الموجد لهذا الكون على مقتضى حكمته..
الْبارِئُ أى: المبدع المخترع للأشياء. والمبرز لها من العدم إلى الوجود.
الْمُصَوِّرُ أى: المصور للأشياء والمركب لها، على هيئات مختلفة، وأنواع شتى من التصوير، وهو التخطيط والتشكيل..
لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى والحسنى تأنيث الأحسن. أى: له الأسماء التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أفضل المعاني. من تحميد. وتقديس. وقدرة. وسمع.. وغير ذلك من الأسماء الكريمة، والصفات الجليلة.
يُسَبِّحُ لَهُ- تعالى- وينزهه عن كل سوء ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من مخلوقات..
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى: وهو- عز وجل- الغالب لغيره. الحكيم في كل تصرفاته.
قال الإمام ابن كثير: وفي الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما- مائة إلا واحدا- من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر..
ثم ذكر- رحمه الله- هذه الأسماء نقلا عن سنن الترمذي فقال: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلى، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوى، المتين، الولي، الحميد، المحصى، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواحد، الماجد، الواجد، الصمد، القادر،(14/313)
المقتدر، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنى، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد الصبور.
ثم قال الإمام ابن كثير: وسياق ابن ماجة- لهذا الحديث- بزيادة ونقصان، وتقديم وتأخير.. والذي عول عليه جماعة من الحفاظ، أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه- أى: ذكر الراوي في الحديث كلاما لنفسه أو لغيره من غير فصل بين ألفاظ الحديث وألفاظ الراوي- وأن أهل العلم جمعوا هذه الأسماء من القرآن الكريم.
ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين، بدليل ما رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إنى عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فىّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أعلمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري. وجلاء حزنى، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا» .
فقيل يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: «بلى، ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها» وذكر أبو بكر بن العربي أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة ألف اسم لله- تعالى- «1» .
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الحشر» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مساء الخميس 22 من شعبان 1406 هـ 1/ 5/ 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 3 ص 515 وج 8 ص 106.(14/314)
تفسير سورة الممتحنة(14/315)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الممتحنة» هي السورة الستون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة الأحزاب، وقبل سورة النساء، وهي من السور المدنية الخالصة، وعدد آياتها ثلاث عشرة آية.
واشتهرت بهذا الاسم منذ العهد النبوي، إلا أن منهم من يقرؤها بفتح الحاء، على أنها صفة للمرأة التي نزلت فيها، ومنهم من يقرؤها بكسر الحاء على أنها صفة للسورة.
قال القرطبي: الممتحنة- بكسر الحاء- أى: المختبرة، أضيف الفعل إليها محازا، كما سميت سورة براءة بالفاضحة، لما كشفت من رذائل المنافقين، ومن قال في هذه السورة الممتحنة- بفتح الحاء- فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها. وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط. قال الله- تعالى-: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن «1» .
وقال صاحب الإتقان: وتسمى «سورة الامتحان» و «سورة المودة» .
2- وقد افتتحت هذه السورة بتوجيه نداء إلى المؤمنين، نهتهم فيه عن اتخاذ أعداء الله وأعدائهم أولياء، وبينت لهم ما جبل عليه هؤلاء الأعداء من كراهية للحق، كما بينت لهم سوء عاقبة من يوالى هؤلاء الأعداء.
قال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي. وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
3- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى دعوتهم إلى الاقتداء بأبيهم إبراهيم- عليه السلام- الذي قطع صلته بأقرب الناس إليه، عند ما رآه مصرا على كفره، وأعلن أنه عدو لكل من أشرك مع الله- تعالى- في العبادة آلهة أخرى.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 49.(14/317)
قال- تعالى-: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
4- ثم بشر- سبحانه- المؤمنين، بأنه- بفضله وكرمه- سيجمع شملهم بأقاربهم الذين تشددوا في عداوتهم، بأن يهدى هؤلاء الأقارب إلى الحق، فيتصل حبل المودة بينهم جميعا، ببركة اجتماعهم تحت كلمة الإسلام، فقال- تعالى-: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
5- وبعد أن رخص للمؤمنين في مودة الكفار الذين لم يقاتلوهم ولم يلحقوا بهم أذى..
ونهاهم عن مودة الكفار الذين قاتلوهم وآذوهم.. بعد كل ذلك وجه- سبحانه- نداء ثانيا إلى المؤمنين بين لهم حكم النساء اللائي أتين مؤمنات إليهم، بعد أن تركن أزواجهن الكفار، وفصل- سبحانه- هذه الأحكام حرصا على النساء المؤمنات.
فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
6- ثم أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبايع النساء المؤمنات على ما بايع عليه الرجال، وأن يأخذ عليهن العهود على الطاعة لله- تعالى- والبعد عن محارمه.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
7- ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتوجيه نداء ثالث إلى المؤمنين نهاهم فيه مرة أخرى عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.. فقال- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ.
8- هذا والمتأمل في هذه السورة الكريمة، يراها قد ساقت للمؤمنين ألوانا من التربية التي تغرس العقيدة السليمة في قلوبهم، وتجعلهم يضحون من أجلها بكل شيء، ويقدمونها في تصرفاتهم على محبة الآباء والأبناء والعشيرة والأموال، وتكشف لهم عن سوء نيات الكافرين نحوهم، وعن حرصهم على إنزال الضرر بهم، كما ضربت لهم الأمثال بإبراهيم- عليه السلام- لكي يقتدوا به في قوة إيمانه، وفي إخلاصه لدينه، كما بينت لهم من يجوز لهم مودتهم(14/318)
من الكافرين، ومن لا يجوز لهم ذلك منهم.. ثم ختمت ببيان بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء المؤمنات المتزوجات من الكافرين، وبالنساء اللائي جئن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يبايعنه على الإيمان والطاعة.
وسنفصل القول في هذه الأحكام خلال تفسيرنا لهذه السورة الكريمة،.
نسأل الله- تعالى- أن يلهمنا الرشد، وأن يجنبنا الزلل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم القاهرة- مدينة نصر 3 من شعبان سنة 1406 هـ 2/ 5/ 1986 م د. محمد سيد طنطاوى(14/319)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
افتتحت سورة «الممتحنة» بهذا النداء للمؤمنين، وقد تضمن هذا النداء نهيهم عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها، ما ذكره الإمام الآلوسى فقال: نزلت في حاطب بن أبى بلتعة.. فقد أخرج الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وجماعة عن على بن أبى طالب- رضى الله عنه- قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ- وهو مكان بين مكة والمدينة- فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها فأتونى به فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا لها: أخرجى الكتاب. فقالت: ما معى(14/320)
من كتاب، فقلنا: أخرجى الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة، إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال صلى الله عليه وسلم «ما هذا يا حاطب،؟» فقال حاطب: لا تعجل علىّ يا رسول الله إنى كنت إنسانا ملصقا في قريش، ولم أكن منها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيها، أن أصطنع إليهم يدا، يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن الإسلام.
فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال، صلى الله عليه وسلم: «إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فنزلت هذه الآيات «1» .
وقد ذكروا أن هذه القصة كانت في الوقت الذي أعد فيه النبي صلى الله عليه وسلم العدة لأجل العمرة، سنة صلح الحديبية. وقيل كانت هذه القصة في الوقت الذي تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وكان من بين الذين علموا ذلك حاطب بن أبى يلتعة.
والمراد بالعدو هنا: الأعداء عموما، ويدخل فيهم دخولا أوليا كفار قريش، الذين أرسل إليهم حاطب بن أبى بلتعة خطابه، لكي يحذرهم من مهاجمة المسلمين لهم.
والمراد بالعداوة: العداوة الدينية التي جعلت المشركين، يحرصون كل الحرص على أذى المسلمين، أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- إيمانا حقا، احذروا أن تتخذوا أعدائى وأعداءكم أولياء وأصدقاء وحلفاء. بل جاهدوهم وأغلظوا عليهم، واقطعوا الصلة التي بينكم وبينهم.
وناداهم بصفة الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة الدينية في قلوبهم ولحضهم على الاستجابة لما نهاهم عنه.
وقدم- سبحانه- عداوته للمشركين، على عداوة المؤمنين لهم، لأن عداوة هؤلاء المشركين لله- تعالى- أشد وأقبح، حيث عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم وآذوهم.
وفي الحديث القدسي: «إنى والجن والإنس في نبأ عظيم. أخلق ويعبد غيرى، وأرزق ويشكر سواي.. خيرى إلى العباد نازل، وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم.
ويتبغضون إلى بالمعاصي» .
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 65. وتفسير ابن كثير ج 8 ص 108.(14/321)
وعبر- سبحانه- بالاتخاذ الذي هو افتعال من الأخذ، للمبالغة في نهيهم عن موالاة هؤلاء الأعداء، إذ الاتخاذ يشعر بشدة الملابسة والملازمة.
والمفعول الأول لقوله تَتَّخِذُوا قوله: عَدُوِّي والمفعول الثاني قوله:
أَوْلِياءَ.
وقوله- سبحانه-: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفسير وتوضيح لهذه المولاة التي نهوا عنها أو في موضع الحال من ضمير لا تَتَّخِذُوا.
وحقيقة الإلقاء: قذف ما في اليد على الأرض أو في الفضاء، والمراد به هنا: إيصال ما يدخل السرور على قلوب أعدائهم. والباء في قوله: بِالْمَوَدَّةِ لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله.
أى: احذروا أن تعاملوا أعدائى وأعداءكم معاملة الأصدقاء والحلفاء، بأن تظهروا لهم المودة والمحبة.
ويصح أن تكون الباء للسببية فيكون المعنى: تلقون إليهم بأخباركم التي لا يجوز لكم إظهارها لهم، بسبب مودتكم لهم.
وقد ذكروا أن حاطبا أرسل بهذه الرسالة إلى أهل مكة، عند ما تجهز النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للذهاب إليها لأجل العمرة عام الحديبية، أو لأجل فتح مكة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: تُلْقُونَ بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يتعلق بقوله:
لا تَتَّخِذُوا حالا من ضميره.. ويجوز أن يكون استئنافا.
والإلقاء: عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم يقال: ألقى إليه خراشى صدره- أى أسرار صدره- وأفضى إليه بقشوره.
والباء في بِالْمَوَدَّةِ إما زائدة مؤكدة للتعدى مثلها في قوله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف، ومعناه: تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم «1» .
ثم ساق- سبحانه- الأسباب التي من شأنها تحمل المؤمنين على عدم موالاة أعداء الله وأعدائهم، فقال: وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أى: لا تتخذوا- أيها المؤمنون- هؤلاء الأعداء أولياء، وتلقون إليهم بالمودة، والحال أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بما جاءكم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 512.(14/322)
على لسان رسولكم صلى الله عليه وسلم من الحق الذي يتمثل في القرآن الكريم، وفي كل ما أوحاه- سبحانه- إلى رسوله.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة، تصوير هؤلاء الكافرين، بما ينفر المؤمنين من إلقاء المودة إليهم.
وقوله- تعالى-: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ بيان لسبب آخر من الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى مقاطعة أعدائهم الكافرين.
وجملة: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ يصح أن تكون مستأنفة لبيان كفرهم، أو في محل نصب حال من فاعل كَفَرُوا وقوله: وَإِيَّاكُمْ معطوف على الرسول، وقدم عليهم على سبيل التشريف لمقامه صلى الله عليه وسلم وجملة أَنْ تُؤْمِنُوا في محل نصب مفعول لأجله.
أى: أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بكفرهم بما جاءكم- أيها المؤمنون- من الحق، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولة إخراج رسولكم صلى الله عليه وسلم وإخراجكم من مكة، من أجل إيمانكم بالله ربكم، وإخلاصكم العبادة له- تعالى- وأسند- سبحانه- محاولة الإخراج إلى جميع الأعداء، لأنهم كانوا راضين بهذا الفعل.
ومتواطئين على تنفيذه بعضهم عن طريق التخطيط له، وبعضهم عن طريق التنفيذ الفعلى.
والمتأمل في هذه الجمل الكريمة، يراها قد ساقت أقوى الأسباب وأعظمها، للتشنيع على مشركي قريش، ولإلهاب حماس المؤمنين من أجل عدم إلقاء المودة إليهم.
وجواب الشرط في قوله- تعالى-: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي محذوف لدلالة ما قبله عليه أى: إن كنتم- أيها المؤمنون- قد خرجتم من مكة من أجل الجهاد في سبيلي، ومن أجل طلب مرضاتي، فاتركوا اتخاذ عدوى وعدوكم أولياء، واتركوا مودتهم ومصافاتهم.
فالمقصود من الجملة الكريمة، زيادة التهييج للمؤمنين، حتى لا يبقى في قلوبهم أى شيء من المودة نحو الكافرين.
وقوله- سبحانه-: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بدل من قوله- تعالى-: قبل ذلك:
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ. بدل بعض من كل. لأن إلقاء المودة أعم من أن تكون في السر أو في العلن.
ويصح أن يكون بدل اشتمال، لأن الإسرار إليهم بالمودة، مما اشتمل عليه إلقاء المودة إليهم.(14/323)
وهذه الجملة جيء بها على سبيل العتاب والتعجيب ممن في قلبه مودة لهؤلاء الكافرين، بعد أن بين الله- تعالى- له، ما يوجب قطع كل صلة بهم.
ومفعول تُسِرُّونَ محذوف. أى: ترسلون إليهم أخبار المسلمين سرا، بسبب مودتكم لهم؟ وجملة: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ هي مناط التعجيب ممن يتخذ هؤلاء الأعداء أولياء. أو من يسر إليهم بالمودة، وهي حالية من فاعل تُلْقُونَ وتُسِرُّونَ.
أى: تفعلون ما تفعلون من إلقاء المودة إلى عدوى وعدوكم، ومن إسراركم بها إليهم والحال أنى أعلم منهم ومنكم بما أخفيتموه في قلوبكم، وما أعلنتموه، ومخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم بذلك.
وما دام الأمر كذلك فكيف أباح بعضكم لنفسه، أن يطلع عدوى وعدوكم على ما لا يجوز اطلاعه عليه؟! قال الآلوسى: قوله: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ في موضع الحال وأَعْلَمُ أفعل تفضيل. والمفضل عليه محذوف. أى: منكم ... وما موصولة أو مصدرية، وذكر ما أَعْلَنْتُمْ مع الاستغناء عنه، للإشارة إلى تساوى العلمين في علمه- عز وجل-.
ولذا قدم بِما أَخْفَيْتُمْ. وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل: تسرون إليهم بالمودة والحال أنى أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، ومطلع رسولي على ما تسرون، فأى فائدة وجدوى لكم في الإسرار؟ «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة من يخالف أمره فقال: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
والضمير في قوله: يَفْعَلْهُ يعود إلى الاتخاذ المفهوم من قوله لا تَتَّخِذُوا.
أى ومن يفعل ذلك الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء. ويلقى إليهم بالمودة، فقد أخطأ طريق الحق والصواب. وضل عن الصراط المستقيم.
ثم بين- سبحانه- حال هؤلاء الأعداء عند ما يتمكنون من المؤمنين فقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ.
ومعنى يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم، ويدركوا طلبتهم منكم. وأصل الثقف: الحذق في
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 68.(14/324)
إدراك الشيء وفعله، ومنه رجل ثقف إذا كان سريع الفهم، ويقال: ثقفت الرجل في الحرب إذا أدركته وظفرت به.
أى: إن يظفر بكم هؤلاء الأعداء- أيها المؤمنون- ويتمكنوا منكم، يظهروا لكم ما انطوت عليه قلوبهم نحوكم من بغضاء: ولا يكتفون بذلك، بل يمدون إليكم أيديهم بما يضركم، وألسنتهم مما يؤذيكم.
ثم هم بعد كل ذلك يودون ويتمنون أن تصيروا كفارا مثلهم.
فأنت ترى أن الآية الكريمة، قد وضحت أن هؤلاء الكافرين، قد سلكوا في عداوتهم للمؤمنين كل مسلك، فهم عند تمكنهم من المؤمنين يظهرون حقدهم القديم، ويؤذونهم بأيديهم وألسنتهم، ويتمنون في جميع الأحوال أن يردوهم بعد إيمانهم كافرين.
وقال- سبحانه-: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ.. للإشعار بكثرة ما ينزلونه بالمؤمنين من أذى، إذ التعبير بالبسط يدل على الكثرة والسعة.
وقوله: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ معطوف على جملة الشرط والجزاء، ويكون- سبحانه- قد أخبر عنهم بخبرين:
أحدهما: ما تضمنته الجملة الشرطية من عداوتهم للمؤمنين.
وثانيهما: تمنيهم ارتدادهم من الإيمان إلى الكفر.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعا مثله، ثم قال:
وَوَدُّوا بلفظ الماضي؟
قلت: الماضي وإن كان يجرى في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب. فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم. يعنى: أنهم يريدون ان يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا، من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض، وردكم كفارا.
وهذا الرد إلى الكفر أسبق المضار عندهم وأولها، لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذالون لها دونه. والعدو أهم شيء عنده، أن يقصد أعز شيء عند صاحبه «1» .
ثم بين- سبحانه- الآثار السيئة التي تترتب على ضلالهم عن سواء السبيل فقال:
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ. وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ....
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 513.(14/325)
والأرحام: جمع رحم والمراد بهم الأقارب، الذين كان بعض المؤمنين يوالون المشركين من أجلهم.
أى: منكم- أيها المؤمنون- من أفشى أسراركم للكافرين، خوفا على أقاربه أو أولاده الذين يعيشون في مكة مع هؤلاء الكافرين، والحق أنه لن تنفعكم قراباتكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين من أجلهم شيئا من النفع يوم القيامة، لأنه في هذا اليوم يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أى يفرق بينكم وبين أقاربكم وأولادكم يوم القيامة، كما قال- تعالى-: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وكما قال- سبحانه-: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.
وخص- سبحانه- الأولاد بالذكر مع أنهم من الأرحام، لمزيد المحبة لهم- والحنو عليهم.
قال الشوكانى:، وجملة يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم. ومعنى يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يفرق بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة.
ويدخل أهل معصيته النار، وقيل: المراد بالفصل بينهم، أنه يفر كل منهم من الآخر من شدة الهول.. قيل: ويجوز أن يتعلق يَوْمَ الْقِيامَةِ بما قبله. أى: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ بقوله يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ والأولى أن يتعلق بما بعده- أى: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أَوْلادُكُمْ ويبتدأ بيوم القيامة «1» .
وقراءة الجمهور يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ- بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد- على البناء للمجهول. وقرأ عاصم يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بفتح الياء وكسر الصاد- على البناء للفاعل، وقرأ حمزة والكسائي يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ- بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الكسر- بالبناء للفاعل- أيضا-.
وقرأ ابن عامر يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ- بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الفتح- على البناء للمجهول.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، بل هو مطلع عليها اطلاعا تاما وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه من ثواب أو عقاب.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من الآيات الكريمة ما يأتى:
__________
(1) فتح القدير للشوكانى ج 5 ص 211. [.....](14/326)
1- أن هذه الآيات أصل في النهى عن موالاة الأعداء ومصافاتهم بأية صورة من الصور، وشبيه بها قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً «1» .
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ «2» .
2- أن هذه الآيات الكريمة تتجلى فيها رحمة الله- تعالى- بعباده المؤمنين، حيث ناداهم بهذه الصفة مع وقوع بعضهم في الخطأ الجسيم، وهو إفشاء أسرار المؤمنين لأعدائهم قالوا: وفي هذا رد على المعتزلة الذين يقولون: إن المعصية تنافى الإيمان.
3- أن هذه الآيات الكريمة فيها ما فيها من الأساليب الحكيمة في الدعوة إلى الفضائل واجتناب الرذائل، لأن الله- تعالى- عند ما نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم، ساق لهم الأسباب التي تحملهم على قطع كل صلة بهؤلاء الأعداء. بأن ذكر لهم أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بالحق، وحرصوا على إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم، وأنهم إن يتمكنوا من المؤمنين، فسينزلون بهم أشد ألوان الأذى.
وهكذا يجب أن يتعلم الدعاة إلى الله- تعالى- أن على رأس الوسائل التي توصلهم إلى النجاح في دعوتهم، أن يأتوا في دعوتهم بالأسباب المقنعة لاعتناق الحق، واجتناب الباطل.
4- أن هذه الآيات الكريمة صريحة في أن ما يتعلق بالدين والعقيدة، يجب أن يقدم على ما يتعلق بالأرحام والأولاد، لأن الأرحام والأولاد لن تنفع يوم القيامة، وإنما الذي ينفع هو ما يتعلق بالاستجابة لما يفرضه الدين علينا من واجبات وتكاليف.
وبعد هذا النهى للمؤمنين عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.. ساقت لهم السورة الكريمة، جانبا من قصة إبراهيم- عليه السلام- الذي تبرأ من كل صلة تربطه بغيره سوى صلة الإيمان، وإخلاص العبادة لله- تعالى-، وأمرتهم بأن يقتدوا به في ذلك لينالوا رضا الله- عز وجل- فقال- تعالى-:
__________
(1) سورة النساء الآية 144.
(2) سورة آل عمران الآية 118.(14/327)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 6]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
والأسوة كالقدوة، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها، قال- تعالى-:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ تأكيد لأمر الإنكار عليهم، والتخطئة في موالاة الكفار، بقصة إبراهيم- عليه السلام- ومن معه، ليعلم أن الحب في الله- تعالى- والبغض فيه- سبحانه- من أوثق عرا الإيمان، فلا ينبغي أن يغفل عنها.
والأسوة- بضم الهمزة وكسرها- بمعنى الائتساء والاقتداء، وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها، وعلى نفس الشخص المؤتسى به «1» .
والمعنى: قد كان لكم- أيها المؤمنون- أسوة حسنة، وخصلة حميدة، ومنقبة كريمة، في قصة أبيكم إبراهيم- عليه السلام-، وفي قصة الذين آمنوا معه.
وافتتح- سبحانه- الكلام بقوله: قَدْ كانَتْ لتأكيد الخبر، فإن هذا الأسلوب المشتمل على قد وفعل الكون، يفيد التأكيد بموجب الخبر، والتعريض بغفلة من يخالفه.
ووصف- سبحانه- الأسوة بالحسن، على سبيل المدح لها والتحريض على الاقتداء بصاحبها.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 69.(14/328)
وعطف- سبحانه- على إبراهيم الذين آمنوا معه، ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم أى: كونوا- أيها المؤمنون- متأسين ومقتدين برسولكم صلى الله عليه وسلم ومطيعين له، ومستجيبين لتوجيهاته، كما كان أتباع أبيكم إبراهيم كذلك.
ثم بين- سبحانه- ما يجب عليهم الاقتداء به من حال إبراهيم- عليه السلام- والمؤمنين معه، فقال: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وإِذْ ظرف زمان بمعنى وقت وحين، وهو بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه. أو خبر لكان.
وبُرَآؤُا جمع برىء. يقال: برئ فلان من كذا يبرأ براء وبراءة. إذا ابتعد عنه، لكراهته له.
أى: قد كان لكم- أيها المؤمنون- أسوة حسنة في إبراهيم- عليه السلام- وفي الذين آمنوا معه، وقت أن قالوا لقومهم الكافرين، بشجاعة وقوة: إنا برآء منكم، ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله- عز وجل- وإننا قد كفرنا بكم وبمعبوداتكم وَبَدا أى:
وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغض على سبيل التأييد والاستمرار، ولن نتخلى عن ذلك معكم، حتى تؤمنوا بالله- تعالى- وحده، وتتركوا عبادتكم لغيره- تعالى-.
فأنت ترى أن إبراهيم- عليه السلام- والمؤمنين معه، قد أعلنوا بكل شجاعة وشدة، إيمانهم الكامل بالحق، وبراءتهم وكراهيتهم واحتقارهم، لكل من أشرك مع الله- تعالى- في العبادة آلهة أخرى.
وأنهم لم يكتفوا بالتغيير القلبي للمنكر، بل جاهروا بعداوتهم له، وبالتنزه عن اقترابهم منه. وبتجافيهم عنه ... ولعل هذا هو أقصى ما كانوا يملكونه بالنسبة لتغيير هذا المنكر في ذلك الوقت.
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن إبراهيم- عليه السلام- لم يكتف بذلك، بل حطم الأصنام التي كان يعبدها قومه وقال لهم: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
قال صاحب الكشاف: أى: كان فيهم- أى: في إبراهيم ومن آمن معه- مذهب حسن مرضى، جدير بأن يؤتسى به، ويتبع أثره، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا، حيث كاشفوهم بالعداوة، وقشروا لهم العصا، وأظهروا لهم البغضاء والمقت، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم، ليس إلا كفرهم بالله.
وما دام هذا السبب قائما، كانت العداوة قائمة، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده،(14/329)
انقلبت العداوة موالاة، والبغضاء مودة، والمقت محبة- فأفصحوا عن محض الإخلاص.. «1» .
وقوله- تعالى-: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.. كلام معترض بين الأقوال التي حكاها- سبحانه- عن إبراهيم- عليه السلام-.
والاستثناء يترجح أنه منقطع، لأن هذا القول من إبراهيم لأبيه، ليس من جنس الكلام السابق، الذي تبرأ فيه هو ومن معه مما عليه أقوامهم الكافرون.
والمعنى: اقتدوا- أيها المؤمنون- بأبيكم إبراهيم- عليه السلام- وبالذين آمنوا معه، في براءتهم من الشرك والمشركين.. ولكن لا تقتدوا به في استغفاره لأبيه الكافر، لأن استغفاره له كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
قال الإمام الشوكانى ما ملخصه: قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.. هو استثناء متصل من قوله: فِي إِبْراهِيمَ بتقدير مضاف.. أى: قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم، إلا في قوله لأبيه: لأستغفرن لك.
ويصح أن يكون استثناء متصلا من قوله: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة، فكأنه قيل: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله، إلا في قوله لأبيه لأستغفرن لك.
أو هو استثناء منقطع، أى: اقتدوا بإبراهيم في كل أقواله وأحواله، لكن لا تقتدوا به في قوله لأبيه المشرك: لأستغفرن لك، بأن تستغفروا لآبائكم المشركين، لأن استغفار إبراهيم لأبيه المشرك كان عن موعدة وعدها إياه، أو أنه ظن أن أباه قد أسلم.. «2» .
وقوله- سبحانه- وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ حكاية لبقية كلام إبراهيم لأبيه، وليس الاستثناء متوجها إليه، لأن هذه الجملة بيان لما تحلى به إبراهيم- عليه السلام- من آداب مع ربه- تعالى- حيث فوض الأمر إليه- سبحانه-.
أى: وعد إبراهيم أباه بالاستغفار له، أملا في هدايته، وقال له: يا أبت إنى لا أملك لك من أمر قبول الاستغفار شيئا، بل الأمر كله لله، إن شاء عذبك وإن شاء عفا عنك، والجملة الكريمة في محل نصب على الحال من فاعل لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أى: لأستغفرن لك حالة كوني لا أملك من أمر المغفرة أو غيرها شيئا، وإنما الذي يملك ذلك هو الله- عز وجل-.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك جانبا مما تضرع به إبراهيم- عليه السلام- إلى خالقه فقال: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 514.
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 5 ص 212.(14/330)
أى: يا ربنا عليك وحدك فوضنا أمورنا، وإليك وحدك قبول توبتنا، وإليك لا إلى أحد سواك مرجعنا ومصيرنا.
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا والفتنة هنا مصدر بمعنى المفتون، أى: المعذب، مأخوذ من فتن فلان الفضة إذا أذابها.
أى: يا ربنا لا تجعلنا مفتونين معذبين لهؤلاء الكافرين، بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نستطيع صده، كما قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... أى:
عذبوهم وحاولوا إنزال الضرر والأذى بهم.
ويصح أن يكون المعنى: يا ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، بأن تعذبنا بأيديهم، فيظنوا بسبب ذلك أنهم على الحق، ونحن على الباطل، ويزعموا أننا لو كنا على الحق ما انتصروا علينا.
ولبعض العلماء رأى آخر في فهم هذه الآية، وهو أن المراد بالفتنة هنا: اضطراب حال المسلمين وفساده. وكونهم لا يصلحون أن يكونوا قدوة لغيرهم في وجوه الخير ... فيكون المعنى: يا ربنا لا تجعل أعمالنا وأقوالنا سيئة. فيترتب على ذلك أن ينفر الكافرون من ديننا، بحجة أنه لو كان دينا سليما، لظهر أثر ذلك على أتباعه، ولكانوا بعيدين عن كل تفرق وتباعد وتأخر.
قال بعض العلماء ما ملخصه: قوله: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا. الفتنة:
اضطراب الحال وفساده، وهي اسم مصدر، فتجيء بمعنى المصدر، كقوله- تعالى-:
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.
وتجيء وصفا للمفتون والفاتن.
ومعنى جعلهم فتنة للذين كفروا: جعلهم مفتونين يفتنهم الذين كفروا، فيصدق ذلك بأن يتسلط عليهم الذين كفروا فيفتنون.
ويصدق- أيضا- بأن تختل أمور دينهم بسبب الذين كفروا. أى: بسبب محبتهم والتقرب منهم.
وعلى الوجهين، فالفتنة من إطلاق المصدر على اسم المفعول.. واللام في «للذين كفروا» على الوجهين- أيضا- للملك، أى: مفتونين مسخرين لهم.
ويجوز عندي أن تكون «فتنة» مصدرا بمعنى اسم الفاعل، أى: لا تجعلنا فاتنين، أى:
سبب فتنة للذين كفروا، فيكون كناية عن معنى: لا تغلب الذين كفروا علينا، واصرف عنا(14/331)
ما يكون من اختلال أمرنا، وسوء الأحوال، كي لا يكون شيء من ذلك فاتنا للذين كفروا.. أى: يزيدهم كفرا، لأنهم يظنون أنا على الباطل وأنهم على الحق «1» .
وقوله: وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى: واغفر لنا يا ربنا ذنوبنا، إنك أنت الغالب الذي لا يغالب، الحكيم في كل أقواله وأفعاله.
وقوله- سبحانه-: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ تأكيد لقوله- تعالى- قبل ذلك: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ والغرض من هذا التأكيد، تحريض المؤمنين على التأسى بالسابقين في قوة إيمانهم وشدة إخلاصهم.
أى: لقد كان لكم- أيها المؤمنون- أسوة حسنة، وقدوة طيبة، في أبيكم إبراهيم- عليه السلام- وفيمن آمن به، وهذه القدوة إنما ينتفع بها من كان يرجو لقاء الله- تعالى- ورضاه، ومن كان يرجو ثوابه وجزاءه الطيب.
وجيء بلام القسم في قوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ.. على سبيل المبالغة في التأكيد بوجوب التأسى بإبراهيم، وبمن آمن معه.
وجملة لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ بدل من قوله لَكُمْ بدل اشتمال.
وفائدة هذا البدل: الإيذان بأن من يؤمن بالله واليوم الآخر، لا يترك الاقتداء بإبراهيم- عليه السلام- وبمن آمن معه، وأن ترك ذلك من علامات عدم الإيمان الحق.
كما ينبئ عنه التحذير في قوله- تعالى- بعد ذلك: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
أى: ومن يعرض عن هذا التأسى، فوبال إعراضه عليه وحده، فإن الله- تعالى- هو الغنى عن جميع خلقه، الحميد لمن يمتثل أمره.
والمتدبر في هذه الآيات الكريمة، من أول السورة إلى هنا، يجد أن الله- تعالى- لم يترك وسيلة للتنفير من موالاة أعدائه، إلا أظهرها وكشف عنها.
ثم فتح- سبحانه- لعباده باب رحمته وفضله، فبشرهم بأنه قد يهدى إلى الإسلام قوما من الأعداء الذين تربط بينهم وبين المؤمنين رابطة الدم والقرابة وحدد لهم القواعد التي عليها يبنون مودتهم وعداوتهم لغيرهم، فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير ج 28 ص 139 للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.(14/332)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 7 الى 9]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
«عسى» فعل مقاربة يدل على الرجاء، وإذا صدر من الله- تعالى- كان متحقق الوقوع، لصدوره من أكرم الأكرمين.
قال صاحب الكشاف: «عسى» وعد من الله على عادات الملوك، حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعل، فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك، أو قصد به إطماع المؤمنين «1» .
وقال الجمل في حاشيته: لما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار، عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة. وعلم الله شدة ذلك على المؤمنين، فوعد- سبحانه- المسلمين بإسلام أقاربهم الكفار، فيوالونهم موالاة جائزة، وذلك من رحمته- سبحانه- بالمؤمنين، ورأفته بهم، فقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً «2» .
والمعنى: عسى الله- تعالى- أن يجعل بينكم- أيها المؤمنون- وبين الذين عاديتموهم من أقاربكم الكفار، مودة ومحبة.. بأن يهديهم إلى الدخول في دين الإسلام، فتتحول عداوتكم لهم، إلى أخوة صادقة. وصلة طيبة، ومحبة شديدة.
وقد أنجز الله- تعالى- وعده، فهدى كثيرا من كفار قريش إلى الدخول في الإسلام،
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 515.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 328.(14/333)
والتقوا هم وأقاربهم الذين سبقوهم إلى الإسلام، على طاعة الله ومحبته، والدفاع عن دينه، وبذل أنفسهم وأموالهم في سبيله.
وَاللَّهُ قَدِيرٌ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى: والله- تعالى- شديد القدرة على أن يغير أحوال القلوب، فيصبح المشركون مؤمنين، والأعداء أصدقاء، والله- تعالى- واسع المغفرة والرحمة، لمن استجاب لأمره ونهيه، وأقلع عن المعصية إلى الطاعة، ونبذ الكفر وتحول إلى الإيمان.
فالآية الكريمة بشارة عظيمة للمؤمنين، بأنه- سبحانه- كفيل بأن يجمع شملهم بكثير من أقاربهم الكافرين، وبأن يحول العداء الذي بينهم، إلى مودة ومحبة، بسبب التقاء الجميع على طاعة الله- تعالى- وإخلاص العبادة له.
وقد تم ذلك بصورة موسعة، بعد أن فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
ثم بين- سبحانه- للمؤمنين القاعدة التي يسيرون عليها في مودتهم وعداوتهم وصلتهم ومقاطعتهم. فقال- تعالى-: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية والتي بعدها روايات منها، ما أخرجه البخاري وغيره عن أسماء بنت أبى بكر الصديق قالت: أتتنى أمى راغبة- أى: في عطائي- وهي مشركة في عهد قريش ... فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ فأنزل الله- تعالى-:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم صلى أمك» .
وروى الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى- وهي مشركة- على ابنتها أسماء بنت أبى بكر بهدايا، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، أو تدخلها بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة، لكي تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، فسألته، فأنزل الله- تعالى- لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ.
وقال الحسن وأبو صالح: نزلت هذه الآية في قبائل من العرب كانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه.
وقال مجاهد: نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا، فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم، لتركهم فرض الهجرة.
قال الآلوسى- بعد أن ذكر هذه الروايات وغيرهما-: والأكثرون على أنها في كفرة(14/334)
اتصفوا بما في حيز الصلة.. «1» .
والذي تطمئن إليه النفس أن هاتين الآيتين، ترسمان للمسلمين المنهج الذي يجب أن يسيروا عليه مع غيرهم، وهو أن من لم يقاتلنا من الكفار، ولم يعمل أو يساعد على إلحاق الأذى والضرر بنا، فلا يأس من بره وصلته.
ومن قاتلنا، وحاول إيذاءنا منهم. فعلينا أن نقطع صلتنا به، وأن نتخذ كافة الوسائل لردعه وتأديبه، حتى لا يتجاوز حدوده معنا.
والمعنى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ- تعالى- أيها المؤمنون- عَنِ مودة وصلة الكافرين الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ، فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أى: لم يقاتلوكم من أجل أنكم مسلمون، ولم يحاولوا إلحاق أى أذى بكم، كالعمل على إخراجكم من دياركم.
لا ينهاكم الله- تعالى- عن أَنْ تَبَرُّوهُمْ أى: عن أن تحسنوا معاملتهم وتكرموهم.
وعن أن تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أى تقضوا إليهم بالعدل، وتعاملوهم بمثل معاملتهم لكم، ولا تجوروا عليهم في حكم من الأحكام.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أى العادلين في أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم، الذين ينصفون الناس، ويعطونهم العدل من أنفسهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم.
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ- تعالى- عَنِ بر وصلة الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ أى قاتلوكم لأجل أنكم على غير دينهم وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ التي تسكنونها وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ.
أى: وعاونوا غيرهم على إخراجكم من دياركم، يقال: ظاهر فلان فلانا على كذا، إذا عاونه في الوصول إلى مطلبه.
وقوله: أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل اشتمال عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ أى: ينهاكم- سبحانه- عن موالاة، ومواصلة، وبر الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم.
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أى: ومن يبر منكم- أيها المؤمنون- هؤلاء الذين قاتلوكم فَأُولئِكَ الذين يفعلون ذلك هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم ظلما شديدا يستحقون بسببه العقاب الذي لا يعلمه إلا هو- سبحانه-.
فأنت ترى أن الآية الأولى قد رخصت لنا في البر والصلة- قولا وفعلا- للكفار الذين لم يقاتلونا لأجل ديننا، ولم يحاولوا الإساءة إلينا، بينما الآية الثانية قد نهتنا عن البر أو الصلة
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 74.(14/335)
لأولئك الكافرين، الذين قاتلونا من أجل مخالفتنا لهم في العقيدة، وحاولوا إخراجنا من ديارنا أو أخرجوا بعضنا بالفعل- وعاونوا غيرهم على إنزال الأذى بنا.
هذا، ويرى بعض العلماء أن الآية الأولى منسوخة.
قال القرطبي: قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة، وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ هذا الحكم.
قال قتادة: نسخها قوله- تعالى- فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» .
والذي عليه المحققون من العلماء، أن الآية محكمة وليست منسوخة، لأنها تقرر حكما يتفق مع شريعة الإسلام في كل زمان ومكان، وهو أننا لا نؤذى إلا من آذانا، ولا نقاتل إلا من أظهر العداوة لنا بأية صورة من الصور.
وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله تؤيد عدم النسخ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود التي تأتيه لمناقشتها في بعض الأمور الدينية، مقابلة كريمة، ويتجلى ذلك فيما فعله مع وفد نجران، ووفد تميم وغيرهما.
كذلك مما يؤيد عدم النسخ، أنه لا تعارض بين هذه الآية، وبين آية السيف، لأن الأمر بالقتال إنما هو بالنسبة لقوم يستحقونه، بأن يكونوا قد قاتلونا أو أخرجونا من ديارنا، كما جاء في الآية الثانية.
وأما الرخصة في البر والصلة، فهي في شأن الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، وهذا ما صرحت به الآية الأولى.
ورحم الله الإمام ابن جرير فقد قال بعد أن ذكر الآراء في ذلك: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله- تعالى-: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ.. جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم.. ويشمل ذلك من كانت تلك صفته، دون تخصيص لبعض دون بعض.
ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب، ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب، غير محرم، ولا منهى عنه، إذا لم يكن في ذلك، دلالة له أو لأهل الحرب، على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح «2» .
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 59.
(2) راجع تفسير ابن جرير ج 28 ص 43.(14/336)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء المؤمنات، اللاتي تركن أزواجهن الكفار، ورغبن في الهجرة إلى دار السلام فقال- تعالى-:
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
قال الإمام القرطبي: قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ: لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين، واقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبين- سبحانه- أحكام مهاجرة النساء.
قال ابن عباس: جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد، فأقبل زوجها- وكان كافرا.. فقال: يا محمد، اردد على امرأتى، فإنك شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية.
وقيل: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها.
وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ردها علينا للشرط، فقال: «كان الشرط في الرجال لا في(14/337)
النساء» فأنزل الله هذه الآية «1» .
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، من دار الكفر إلى دار الإيمان، وراغبات في فراق الكافرين، والبقاء معكم.
فَامْتَحِنُوهُنَّ أى: فاختبروهن اختبارا يغلب معه الظن بأنهن صادقات في هجرتهن وفي إيمانهن، وفي موافقة قلوبهن لألسنتهن.
وقد ذكر ابن جرير في كيفية امتحانهن صيغا منها: ما جاء عن ابن عباس أنه قال: كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفها بأنها ما خرجت بغضا لزوجها، ولا رغبة في الانتقال من أرض إلى أرض، ولا التماسا لدنيا، وإنما خرجت حبا لله ولرسوله «2» .
وجملة: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ معترضة لبيان أن معرفة خفايا القلوب، مردها إلى الله- تعالى- وحده.
قال صاحب الكشاف: قوله: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أى: منكم، لأنكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم، وإن استحلفتموهن ودرستم أحوالهن، وعند الله حقيقة العلم به «3» .
والمراد بالعلم في قوله- تعالى-: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ الظن الغالب.
أى: فإن غلب على ظنكم بعد امتحانهن أنهن مؤمنات صادقات في إيمانهن، فأبقوهن عندكم، ولا ترجعوهن إلى أزواجهن أو إلى أهلهن من الكفار.
وسمى الظن القوى علما للإيذان بأنه كالعلم في وجوب العمل بمقتضاه، وإنما رد الرسول صلى الله عليه وسلم الرجال الذين جاءوه مؤمنين بعد صلح الحديبية، ولم يرد النساء المؤمنات، لأن شرط الرد كان في الرجال ولم يكن في النساء- كما سبق أن ذكرنا نقلا عن القرطبي-، ولأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة، من إصابة المشرك إياها، وتخويفها، وإكراهها على الردة.
قال بعض العلماء: قال كثير من المفسرين: إن هذه الآية مخصصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية، والتي كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه إلى المشركين، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين، لا يردونه على المسلمين، فأخرجت الآية النساء من المعاهدة،
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 61.
(2) تفسير ابن جرير ج 28 ص 45.
(3) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 517. [.....](14/338)
وأبقت الرجال، من باب تخصيص العموم.
وتخصيص السنن بالقرآن، وتخصيص القرآن بالسنن، أمر معلوم.
ومن أمثلة تخصيص السنة بالكتاب، قوله: صلى الله عليه وسلم: «ما أبين من حي فهو ميت» أى: فهو محرم، فقد جاء تخصيص هذا العموم بقوله- تعالى-: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها أى: ليس محرما، ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قوله- تعالى-:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فقد جاء تخصيص هذا العموم بحديث: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالكبد والطحال» .
وقال بعض المفسرين: إنها ليست مخصصة للمعاهدة، لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء، وإنما كانت في حق الرجال فقط.
والذي يظهر- والله أعلم- أنها مخصصة لمعاهدة الحديبية، وهي من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن- كما قال الإمام ابن كثير «1» .
وقوله- سبحانه-: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ تعليل للنهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى دار الكفر، أو إلى أزواجهن الكفار.
أى: لا ترجعوا- أيها المؤمنون- النساء المؤمنات المهاجرات إليكم من أرض الكفر إلى أزواجهن الكافرين، فإن هؤلاء المؤمنات صرن بسبب إيمانهن لا يصح ارتباطهن بأزواجهن الكفار، كما لا يصح لهؤلاء الكافرين الارتباط بالنساء المؤمنات.
فالجملة الكريمة المقصود بها تأكيد النهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى أرض الكفر، ووجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر في جميع الأحوال.
قال ابن كثير: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين وقد كان ذلك جائزا في أول الإسلام، أن يتزوج المشرك المؤمنة.. «2» .
وقوله- تعالى-: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا بيان لمظهر من مظاهر عدالة الإسلام في أحكامه. والخطاب لولاة الأمور. وهذا الإيتاء إنما هو للأزواج المعاهدين، أما إذا كانوا حزبيين فلا يعطون شيئا.
أى: وسلموا إلى المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات، ما دفعوه لهن من مهور، قال
__________
(1) راجع أضواء البيان ج 8 ص 160.
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 118.(14/339)
القرطبي: قوله: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا: أمر الله- تعالى- إذا أمسكت المرأة المسلمة، أن يرد إلى زوجها المشرك ما أنفق، وذلك من الوفاء بالعهد، لأنه لما منع من أهله، بحرمة الإسلام، أمر- سبحانه- برد المال إليه، حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة والمال «1» .
فالمراد بقوله- تعالى- ما أَنْفَقُوا: ما دفعه المشركون لأزواجهم المؤمنات.
وعبر عن هذه المهور بالنفقة، للإشعار بأن هؤلاء الزوجات المؤمنات، أصبحت لا صلة لهن بأزواجهن المشركين.
وقوله- سبحانه-: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ تكريم لهؤلاء النساء المسلمات اللائي فررن بدينهن من أزواجهن المشركين.
أى: ولا حرج عليكم- أيها المؤمنون- في نكاح هؤلاء المؤمنات، بعد فراقهن لأزواجهن المشركين، وبعد استبرائكم لأرحامهن، وعليكم أن تدفعوا لهن مهورهن كاملة غير منقوصة.
ونص على دفع المهر لهن- مع أنه أمر معلوم- لكي لا يتوهم متوهم، أن رد المهر الى الزوج الكافر، يغنى عن دفع مهر جديد لهن إذا تزوجن بعد ذلك بأزواج مسلمين، إذ المهر المردود للكفار، لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم إذا ما تزوج بامرأة مسلمة فارقت زوجها الكافر.
والمراد بالإيتاء: ما يشمل الدفع العاجل، والتزام الدفع في المستقبل.
ثم نهى الله- تعالى- المسلمين عن إبقاء الزوجات المشركات في عصمتهم فقال:
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
والعصم: جمع عصمة، والمراد بها هنا: عقد النكاح الذي يربط بين الزوج والزوجة، والكوافر: جمع كافرة، كضوارب جمع ضاربة.
أى: ولا يصح لكم- أيها المؤمنون- أن تبقوا في عصمتكم، زوجاتكم اللائي آثرن الكفر على الإيمان، وأبين الهجرة معكم من دار الكفر إلى دار الإسلام، وقد بادر المسلمون بعد نزول هذه الآية بتطليق زوجاتهم الكافرات فطلق عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- امرأتين له كانتا مشركتين، وطلق طلحة بن عبيد الله إحدى زوجاته وكانت مشركة.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 65.(14/340)
وهذه الجملة الكريمة تأكيد لقوله- تعالى- قبل ذلك: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
ثم بين- سبحانه- حكما آخر من الأحكام التي تدل على عدالة الإسلام في تشريعاته فقال: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا.
أى: كما أنى شرعت لكم أن تعطوا الأزواج المشركين، مهور نسائهم المسلمات اللائي فررن إليكم، وتركن أزواجهن الكفار، فكذلك شرعت لكم أن تطلبوا مهور نسائكم المشركات اللائي انفصلتم عنهن لكفرهن، ولحقن بهؤلاء المشركين، وليطلب المشركون منكم مهور نسائهم المؤمنات اللائي انفصلن عنهم وهاجرن إليكم.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآية الكريمة ببيان أن هذه الأحكام، إنما هي من الله- تعالى- العليم بأحوال النفوس، الحكيم في أقواله وأفعاله، فقال: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أى: ذلكم الذي ذكرناه لكم من تشريعات تتعلق بالمؤمنات المهاجرات هي أحكام من الله- تعالى- فاتبعوها، فهو- سبحانه- صاحب الحكم المطلق بينكم، وهو- سبحانه- عليم بأحوال عباده، حكيم في كل تصرفاته وتشريعاته.
وقوله- سبحانه-: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ بيان لحكم آخر يتعلق بالنساء اللائي التحقن بالمشركين، وتركن أزواجهن المسلمين، وأبى المشركون أن يدفعوا للمسلمين مهور هؤلاء الزوجات.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا.
وقد ذكروا أن المسلمين لما نزل قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ.. الآية. كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية.
فامتنع المشركون عن دفع مهور النساء اللائي ذهبن إليهم، بعد أن تركن أزواجهن المسلمين، فنزل قوله- تعالى-: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ «1» .
قال ابن كثير: أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوها
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 68.(14/341)
على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين، فقال الله- تعالى- للمؤمنين به، وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية «1» .
وقوله فاتَكُمْ من الفوت بمعنى الفراق والترك والهرب ... يقال: فاتنى هذا الشيء، إذا لم أتمكن من الحصول عليه، وعدى بحرف إلى لتضمنه معنى الفرار.
ولفظ «شيء» هنا المراد به بعض، وقوله: مِنْ أَزْواجِكُمْ بيان للفظ شيء.
وقوله: فَعاقَبْتُمْ يرى بعضهم أنه من العقوبة.
وعليه يكون المعنى: وإن تفلتت وفرت امرأة من أزواجكم- أيها المؤمنون- إلى الكفار، وامتنعوا عن دفع مهرها لكم. فَعاقَبْتُمْ أى: فغزوتم أنتم بعد ذلك هؤلاء الكافرين وانتصرتم عليهم وظفرتم بمغانم منهم.
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ منكم إلى الكفار من هذه المغانم مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أى: مثل المهور التي أنفقوها على زوجاتهم اللائي فررن إلى المشركين.
ويرى بعضهم أن قوله فَعاقَبْتُمْ صيغة تفاعل من العقبة- بضم العين وسكون القاف وهي النوبة، بمعنى أن يصير الإنسان في حالة تشبه حالة غيره.
قال الآلوسى: قوله: فَعاقَبْتُمْ من العقبة لا من العقاب، وهي في الأصل النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده: أى: فجاءت عقبتكم أى نوبتكم من أداء المهر.
شبه الحكم بالأداء المذكور، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب.
وحاصل المعنى: إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار، أو فاتكم شيء من مهورهن.
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تعطوا شيئا لزوجها الكافر، ليكون قصاصا «2» .
وعبر عن هؤلاء الزوجات اللائي تركن أزواجهن المؤمنين، وفررن إلى المشركين، بلفظ «شيء» لتحقير هؤلاء الزوجات، وتهوين أمرهن على المسلمين، وبيان أنهن بمنزلة الشيء الضائع المفقود الذي لا قيمة له.
قال صاحب الكشاف: وجميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 121.
(2) تفسير الآلوسى ج 38 ص 79.(14/342)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين مهور نسائهم- اللاحقات بالمشركين- من الغنيمة «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أى:
واتقوا الله- تعالى- أيها المؤمنون- في كل شئونكم، ونفذوا ما أمركم به أو نهاكم عنه، فإن الإيمان الحق به- عز وجل- يستلزم منكم ذلك.
فالمقصود بهذا التذييل، الحض على الوفاء بما أمر الله- تعالى- به، بدون تهاون أو تقاعس.
وبعد أن بين- سبحانه- حكم النساء المؤمنات المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام، أتبع ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمبايعتهن وغيرهن على عدم الإشراك بالله تعالى-، وعلى اجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فقال- تعالى-:
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
فهذه الآية الكريمة، اشتملت على أحكام متممة للأحكام المشتملة عليها الآيتان السابقتان عليها.
فكأن الله- تعالى- يقول: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ- اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ- فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ.. وبايعهن أيها الرسول الكريم على إخلاص العبادة لله- تعالى-.
قال القرطبي ما ملخصه: وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بهذه الآية.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلقن فقد بايعتكن» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 519.(14/343)
ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام.. وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: «قد بايعتكن كلاما» «1» .
والمعنى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ أى: مبايعات لك، أو قاصدات مبايعتك، ومعاهدتك على الطاعة لما تأمرهن به، أو تنهاهن عنه.
وأصل المبايعة: مقابلة شيء بشيء على سبيل المعاوضة. وسميت المعاهدة مبايعة، تشبيها لها بها، فإن الناس إذا التزموا قبول ما شرط عليهم من التكاليف الشرعية، - طمعا في الثواب، وخوفا من العقاب، وضمن لهم صلى الله عليه وسلم ذلك في مقابلة وفائهم بالعهد- صار كأن كل واحد منهم باع ما عنده في مقابل ما عند الآخر.
والمقتضى لهذه المبايعة بعد الامتحان لهن، أنهن دخلن في الإسلام، بعد أن شرع الله- تعالى- ما شرع من أحكام وآداب.. فكان من المناسب أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عليهن العهود، بأن يلتزمن بالتكاليف التي كلفهن الله- تعالى- بها.
ثم بين- سبحانه- ما تمت عليه المبايعة فقال: عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أى:
يبايعنك ويعاهدنك على عدم الإشراك بالله- تعالى- في أى أمر من الأمور التي تتعلق بالعقيدة أو بالعبادة أو بغيرهما.
وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ. أى ويبايعنك- أيضا- على عدم ارتكاب فاحشة السرقة، أو فاحشة الزنا، فإنهما من الكبائر التي نهى الله- تعالى- عنها.
وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أى: ويبايعنك كذلك، على عدم قتلهن لأولادهن.
والمراد به هنا: النهى عن قتل البنات، وكان ذلك في الجاهلية يقع تارة من الرجال، وأخرى من النساء، فكانت المرأة إذا حانت ولادتها حفرت حفرة، فولدت بجانبها، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وسوتها بالتراب، وإذا ولدت غلاما أبقته.
قال ابن كثير: وقوله وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبل، إما لغرض فاسد، أو ما أشبهه «2» .
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 71. وتفسير ابن كثير ج 8 ص 122.
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 126.(14/344)
وقوله: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ معطوف على ما قبله وداخل تحت النهى.
والبهتان: الخبر الكاذب الصريح في كذبه، والذي يجعل من قيل فيه يقف مبهوتا ومتحيرا من شدة أثر هذا الكذب السافر.
والافتراء: اختلاق الكذب واختراع الشخص له من عند نفسه.
وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال، منها: أن المرأة في الجاهلية كانت تلتقط المولود وتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك هو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، لأن الولد إذا وضعته الأم، سقط بين يديها ورجليها.
ويرى بعضهم أن معنى الجملة الكريمة: ولا تأتوا بكذب شنيع تختلقونه من جهة أنفسكم، فاليد والرجل كناية عن الذات، لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل لمن ارتكب جناية قولية أو فعلية: هذا جزاء ما كسبت يداك «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ من الأقوال الجامعة لكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بفعله، أو ينهى عن الاقتراب منه.
ويشمل ذلك النهى عن شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعوى الجاهلية وغير ذلك من المنكرات التي نهى الإسلام عنها.
وقوله- سبحانه-: فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ جواب إِذا التي في أول الآية.
أى: إذا جاءك المؤمنات قاصدات لمبايعتك على الالتزام بتعاليم الإسلام، فبايعهن على ذلك ... واستغفر لهن الله- تعالى- عما فرط منهن من ذنوب. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى: إن الله- تعالى- واسع المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين.
وهذه المبايعة يبدو أنها وقعت منه صلى الله عليه وسلم للنساء أكثر من مرة: إذ منها ما وقع في أعقاب صلح الحديبية، بعد أن جاءه بعض النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام، كما حدث من أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، ومن سبيعة الأسلمية، ومن أميمة بنت بشر، ومن غيرهن من النساء اللائي تركن أزواجهن الكفار، وهاجرن إلى دار الإسلام.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 80.(14/345)
ومنها ما وقع في أعقاب فتح مكة، فقد جاء إليه صلى الله عليه وسلم بعد فتحها نساء من أهلها ليبايعنه على الإسلام.
قال الآلوسى: والمبايعة وقعت غير مرة، ووقعت في مكة بعد الفتح، وفي المدينة.
وممن بايعنه صلى الله عليه وسلم في مكة، هند بنت عتبة، زوج أبى سفيان.. فقرأ عليهن صلى الله عليه وسلم الآية، فلما قال. وَلا يَسْرِقْنَ قالت: والله إنى لأصيب الهنة من مال أبى سفيان ولا أدرى أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى فهو حلال لك..
فلما قرأ صلى الله عليه وسلم وَلا يَزْنِينَ قالت: أو تزنى الحرة؟ ..
فلما قرأ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا. وفي رواية أنها قالت: قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد.
فلما قرأ صلى الله عليه وسلم: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ قالت: والله إن البهتان لقبيح، ولا يأمر الله- تعالى- إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
فلما قرأ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
والتقييد بالمعروف، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به، للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق.
وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن، لكثرة وقوعها فيما بينهن «1» .
وقد ذكر الإمام ابن كثير، جملة من الأحاديث التي تدل على أن هذه البيعة قد تمت في أوقات متعددة، وفي أماكن مختلفة، وأنها شملت الرجال والنساء.
ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الإمام أحمد عن سلمى بنت قيس- إحدى نساء بنى عدى بن النجار- قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه، في نسوة من الأنصار، فشرط علينا: ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.. ثم قال صلى الله عليه وسلم «ولا تغششن أزواجكن» . قالت: فبايعناه، ثم انصرفنا.
فقلت لامرأة منهن: ارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه: ما غش أزواجنا؟ فسألته فقال: «تأخذ ماله فتحابى به غيره» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 81.(14/346)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم.. فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه «1» .
وكما افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بنداء للمؤمنين، نهاهم فيه عن موالاة أعدائه وأعدائهم، اختتمها- أيضا- بنداء لهم، نهاهم فيه مرة أخرى عن مصافاة قوم قد غضب الله عليهم، فقال- تعالى-:
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
والمراد بالقوم الذين غضب الله عليهم: المشركون، بصفة عامة، ويدخل فيهم دخولا أوليا اليهود، لأن هذا الوصف كثيرا ما يطلق عليهم.
فقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية، أن قوما من فقراء المؤمنين، كانوا يواصلون اليهود.
ليصيبوا من ثمارهم، وربما أخبروهم عن شيء من أخبار المسلمين، فنزلت الآية لتنهاهم عن ذلك.
أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، ينهاكم الله- تعالى- عن أن تتخذوا الأقوام الذين غضب الله عليهم أولياء، وأصفياء، بأن تفشوا إليهم أسرار المسلمين، أو بأن تطلعوهم على ما لا يصح الاطلاع عليه.
وقوله- تعالى-: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ تعليل للنهى عن موالاتهم، وتنفير من الركون إليهم.
واليأس: فقدان الأمل في الحصول على الشيء، أو في توقع حدوثه.
والكلام على حذف مضاف، أى قد يئس هؤلاء اليهود من العمل للآخرة وما فيها من ثواب، وآثروا عليها الحياة الفانية.. كما يئس الكفار من عودة موتاهم إلى الحياة مرة أخرى
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 124.(14/347)
للحساب والجزاء، لاعتقادهم بأنه لا بعث بعد الموت، ولا ثواب ولا عقاب- كما حكى القرآن عنهم ذلك في آيات كثيرة منها قوله- تعالى- قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ.
فالمقصود من الآية الكريمة، تشبيه حال هؤلاء اليهود في شدة إعراضهم عن العمل للآخرة.. بحال أولئك الكفار الذين أنكروا إنكارا تاما، أن هناك بعثا للأموات الذين فارقوا الحياة، ودفنوا في قبورهم.
وعلى هذا الوجه يكون قوله- تعالى-: مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ متعلق بقوله يَئِسُوا ومِنَ لابتداء الغاية.
ويصح أن يكون قوله- تعالى-: مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ بيانا للكفار، فيكون المعنى: قد يئسوا من الآخرة، وما فيها من جزاء ... كما يئس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور، من أن ينالوا شيئا- ولو قليلا- من الرحمة، أو تخفيف العذاب عنهم، أو العودة إلى الدنيا ليعملوا عملا صالحا غير الذي أرادهم وأهلكهم.
وعلى كلا القولين، فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن موالاة قوم غضب الله عليهم، بأبلغ أسلوب، وأحكم بيان.
حيث وصفت هؤلاء القوم، بأنهم قد أحاط بهم غضب الله- تعالى- بسبب فسوقهم عن أمره، وإعراضهم عن طاعته، وإنكارهم للدار الآخرة وما فيها من جزاء.
وبعد فهذا تفسير لسورة «الممتحنة» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر صباح السبت: 2 من رمضان 1406 هـ 10 من مايو 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(14/348)
تفسير سورة الصّفّ(14/349)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الصف» من السور المدنية الخالصة، وقد اشتهرت بهذا الاسم منذ عهد النبوة.
فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا: أيكم يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله عن أحب الأعمال إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة، يعنى سورة الصف كلها «1» .
قال الآلوسى: وتسمى- أيضا- سورة الحواريين، وسورة عيسى- عليه السلام-.
وعدد آياتها أربع عشرة آية، وكان نزولها بعد سورة «التغابن» وقبل سورة «الفتح» .
2- وقد افتتحت بتسبيح الله- تعالى- عن كل ما لا يليق به، ثم وجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه أن يقولوا قولا لم تطابقه أفعالهم، فقال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
وبعد أن ذكر- سبحانه- جانبا مما قاله موسى- عليه السلام- لقومه، وما قاله عيسى- عليه السلام- لقومه، أتبع ذلك ببيان ما جبل عليه الكافرون من كذب على الحق ومن كراهية لظهور نوره، فقال- تعالى- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
3- ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، دعاهم فيه- بأبلغ أسلوب- إلى الجهاد في سبيله، بالأنفس والأموال، وحضهم على أن يقتدوا بالحواريين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ، قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ، فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 8 ص 131.(14/351)
4- وهكذا نجد السورة الكريمة تفتتح بتنزيه الله- تعالى- عن كل نقص، وتنهى عن أن تكون الأقوال مخالفة للأفعال، وتبشر الذين يجاهدون في سبيل الله- تعالى- بمحبته ورضوانه، وتذم الذين آذوا رسل الله- تعالى- وأنكروا نبوتهم بعد أن جاءوهم بالبينات، وترشد إلى التجارة الرابحة التي توصل إلى الفوز العظيم.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا جميعا من الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر 2 من رمضان 1406 هـ 10/ 5/ 1986 م د. محمد سيد طنطاوى(14/352)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
التفسير قال الله تعالى: -
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
افتتحت سورة «الصف» - كما افتتحت قبلها سورة الحديد والحشر بتنزيه الله- تعالى- عن كل ما لا يليق به.
أى: نزه الله- تعالى- وقدسه، جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض من مخلوقات، وهو- عز وجل- الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه غالب الْحَكِيمُ في كل أقواله وأفعاله.
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما روى عن ابن عباس أنه قال: كان أناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله- عز وجل- دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه، إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به.
فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فنزلت هذه الآيات.(14/353)
وقال قتادة والضحاك: نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون: قتلنا، ضربنا، طعنّا، وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك «1» .
والاستفهام في قوله- تعالى-: لِمَ تَقُولُونَ للإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان قولا لا يؤيده فعله، لأن هذا القول إما أن يكون كذبا، وإما أن يكون خلفا للوعد، وكلاهما يبغضه الله- تعالى-.
ولِمَ مركبة من اللام الجارة، وما الاستفهامية، وحذفت ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر، تخفيفا لكثرة استعمالها معا، كما في قولهم: بم، وفيم، وعمّ.
أى: يا من آمنتم بالله واليوم الآخر..لماذا تقولون قولا، تخالفه أفعالكم، بأن تزعموا بأنكم لو كلفتم بكذا لفعلتموه، فلما كلفتم به قصرتم فيه، أو أن تقولوا بأنكم فعلتم كذا وكذا، مع أنكم لم تفعلوا ذلك.
وناداهم بصفة الإيمان الحق، لتحريك حرارة الإيمان في قلوبهم، وللتعريض بهم، إذ من شأن الإيمان الحق أن يحمل المؤمن على أن يكون قوله مطابقا لفعله.
وقوله- سبحانه-: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ بيان للآثار السيئة التي تترتب على القول الذي يخالفه الفعل.
وقوله: كَبُرَ بمعنى عظم، لأن الشيء الكبير، لا يوصف بهذا الوصف، إلا إذا كان فيه كثرة وشدة في نوعه.
والمقت: البغض الشديد، ومنه قوله- تعالى- وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا، وهو منصوب على التمييز المحول عن الفاعل: للإشعار بأن قولهم هذا مقت خالص لا تشوبه شائبة من الرضا.
أى: كبر وعظم المقت الناشئ عن قولكم قولا لا تطابقه أفعالكم.
وقال- سبحانه-: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ للإشعار بشناعة هذا البغض من الله تعالى- لهم، بسبب مخالفة قولهم لفعلهم، لأنه إذا كانت هذه الصفة عظيمة الشناعة عند الله، فعلى كل عاقل أن يجتنبها، ويبتعد عنها.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم وهذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه. وقصد في «كبر» التعجب من غير لفظه ... ومعنى التعجب: تعظيم
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 132. [.....](14/354)
الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله وأسند إلى أَنْ تَقُولُوا ونصب مَقْتاً على التمييز، للدلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، لفرط تمكن المقت منه. واختير لفظ المقت، لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه قيل: نكاح المقت- وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه-.
وإذا ثبت كبر مقته عند الله، فقد تم كبره وشدته، وانزاحت عنه الشكوك.. «1» .
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد ذم الذين يقولون ما لا يفعلون ذما شديدا، ويندرج تحت هذا الذم، الكذب في القول، والخلف في الوعد، وحب الشخص للثناء دون أن يكون قد قدم عملا يستحق من أجله الثناء.
وبعد أن وبخ- سبحانه- الذين يقولون ما لا يفعلون، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله- تعالى- فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ.
ومحبة الله- تعالى- لشخص، معناها: رضاه عنه، وإكرامه له.
والصف يطلق على الأشياء التي تكون منتظمة في مظهرها، متناسقة في أماكنها، والمرصوص: هو المتلاصق الذي انضم بعضه إلى بعض. يقال: رصصت البناء، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة.
والمعنى: أن الله- تعالى- يحب الذين يقاتلون في سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا، حتى لكأنهم في ثباتهم، واجتماع كلمتهم، وصدق يقينهم.. بنيان قد التصق بعضه ببعض، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه.
فالمقصود بالآية الكريمة: الثناء على المجاهدين الصادقين، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل.
قال الإمام الرازي: أخبر الله- تعالى- أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه، كثبوت البناء المرصوص.
ويجوز أن يكون على أن يستوي أمرهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة، وموالاة بعضهم بعضا، كالبنيان المرصوص «2» .
__________
(1) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 523.
(2) راجع تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 139.(14/355)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
ثم ساق- سبحانه- جانبا مما قاله موسى- عليه السلام- لقومه. وكيف أنهم عند ما انصرفوا عن الحق، عاقبهم- سبحانه- بما يستحقون من عقاب فقال:
[سورة الصف (61) : آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
وموسى- عليه السلام- هو ابن عمران، وهو واحد من أولى العزم من الرسل، وينتهى نسبه إلى إبراهيم- عليه السلام-.
وقد أرسله الله- تعالى- إلى فرعون وقومه وإلى بنى إسرائيل، وقد لقى- عليه السلام- من الجميع أذى كثيرا.
ومن ذلك أن فرعون وقومه وصفوه بأنه ساحر، وبأنه مهين، ولا يكاد يبين.
وأن بنى إسرائيل قالوا له عند ما أمرهم بطاعته: سمعنا وعصينا، وقالوا له: أرنا الله جهرة وقالوا له: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. وقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
وقالوا عنه: إنه مصاب في جسده بالأمراض، فبرأه الله- تعالى- مما قالوا.
قال ابن كثير: وفي هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال: «رحمة الله على موسى، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر» .
وفيه نهى للمؤمنين عن أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أو يوصلوا إليه أذى، كما قال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً «1» .
أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- وذكر أتباعك ليتعظوا ويعتبروا، وقت أن قال موسى- عليه السلام- لقومه على سبيل الإنكار والتعجيب من حالهم.
يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي: قال لهم: يا أهلى ويا عشيرتي لماذا تلحقون الأذى بي؟.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 135.(14/356)
«وقد» في قوله- تعالى-: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ للتحقيق، والجملة حالية، وجيء بالمضارع بعد «قد» للدلالة على أن علمهم بصدقه متجدد بتجدد ما يأتيهم به من آيات ومعجزات.
قال الجمل: قوله: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قد للتحقيق. أى: تحقيق علمهم. أى: لا للتقريب ولا للتقليل، وفائدة ذكرها التأكيد، والمضارع بمعنى الماضي.
أى: وقد علمتم، وعبر بالمضارع ليدل على استصحاب الحال، وعلى أنها مقررة للإنكار.
فإن العلم برسالته يوجب تعظيمه، ويمنع إيذاءه لأن من عرف الله- تعالى- وعظمته، عظّم رسوله «1» .
ثم بين- سبحانه- ما ترتب على إيثارهم الغي على الهدى، فقال: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.
والزيغ: هو الميل عن طريق الحق، يقال: زاغ يزيغ زيغا وزيغانا، إذا مال عن الجادة، وأزاغ فلان فلانا، إذا حوله عن طريق الخير إلى طريق الشر.
أى: فلما أصروا على الميل عن الحق مع علمهم به. واستمروا على ذلك دون أن تؤثر المواعظ في قلوبهم ... أمال الله- تعالى- قلوبهم عن قبول الهدى. لإيثارهم الباطل على الحق، والضلالة على الهداية.
كما قال- تعالى-: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً «2» .
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل قصد به التقرير لما قبله، من أن الزيغ يؤدى إلى عدم الهداية، وبيان سنة من سنن الله في خلقه، وهي أن من استحب العمى على الهدى، وأصر على ذلك.. كانت عاقبته الخسران.
أى: وقد اقتضت حكمة الله- تعالى- أن لا يهدى القوم الخارجين عن طريق الحق، إلى ما يسعدهم في حياتهم وبعد مماتهم، لأنهم هم الذين اختاروا طريق الشقاء، وأصروا على سلوكها.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 336.
(2) سورة النساء الآية 115.(14/357)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
ثم ذكر- سبحانه- جانبا مما قاله عيسى- عليه السلام- لبنى إسرائيل، فقال- تعالى-:
[سورة الصف (61) : آية 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
أى: واذكر- أيضا- أيها الرسول الكريم- وذكّر الناس ليعتبروا ويتعظوا، وقت أن قال عيسى ابن مريم، مخاطبا من أرسله الله إليهم بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ لكي أخرجكم من ظلمات الكفر والشرك، إلى نور الإيمان والتوحيد.
ولم يقل لهم يا قوم- كما قال لهم- موسى- عليه السلام- بل قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ لأنه لا أب له فيهم، وإن كانت أمه منهم، والأنساب إنما تكون من جهة الآباء، لا من جهة الأمهات.
وفي قوله إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ إخبار صريح منه لهم، بأنه ليس إلها وليس ابن إله- كما زعموا وإنما هو عبد الله ورسوله.
وقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ جملة حالية لإثبات حقيقة رسالته، وحضهم على تأييده وتصديقه والإيمان به.
أى: إنى رسول الله- تعالى- إليكم بالكتاب الذي أنزله الله علىّ وهو الإنجيل، حال كوني مصدقا للكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على نبيه موسى- عليه السلام- وهذا الكتاب هو التوراة، وما دام الأمر كذلك فمن حقي عليكم، أن تؤمنوا به، وأن تتبعوني، لأنى لم آتكم بشيء يخالف التوراة، بل هي مشتملة على ما يدل على صدقى، فكيف تعرضون عن دعوتي.
وقوله: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ فيه نوع مجاز، لأن ما بين يدي الإنسان هو ما أمامه، فسمى ما مضى كذلك لغاية ظهوره واشتهاره. واللام في «لما» لتقوية العامل، نحوه قوله- تعالى- فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ.
وقوله- سبحانه-: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ معطوف على ما قبله.(14/358)
والتبشير: الإخبار بما يسر النفس ويبهجها، بحيث يظهر أثر ذلك على بشرة الإنسان، وكان إخباره بأن نبيا سيأتى من بعده اسمه أحمد تبشيرا، لأنه سيأتيهم بما يسعدهم، ويرفع الأغلال عنهم، كما قال- تعالى-: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
ولفظ أَحْمَدُ اسم من أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم وهو علم منقول من الصفة، وهذه الصفة يصح أن تكون مبالغة من الفاعل. فيكون معناها: أنه صلى الله عليه وسلم أكثر حمدا لله- تعالى- من غيره.
ويصح أن تكون من المفعول، فيكون معناها أنه يحمده الناس لأجل ما فيه من خصال الخير، أكثر مما يحمدون غيره.
قال الآلوسى: وهذا الاسم الجليل، علم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصح من رواية مالك، والبخاري، ومسلم.. عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب» «1» .
وبشارة عيسى- عليه السلام- بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة ثبوتا قطعيا بهذه الآية الكريمة، وإذا كانت بعض الأناجيل قد خلت من هذه البشارة، فبسبب ما اعتراها من تحريف وتبديل على أيدى علماء أهل الكتاب.
ومع ذلك فقد وجدت هذه البشارة في بعض الأناجيل، كإنجيل يوحنا، في الباب الرابع عشر، قال الإمام الرازي: في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: وأنا أطلب لكم إلى أبى، حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد.
والفارقليط هو روح الحق واليقين «2» .
ومنهم من يرى أن لفظ فارقليط معناه باليونانية: أحمد أو محمد «3» .
ومن أصرح الأدلة على أن صفات الرسول صلى الله عليه وسلم موجودة في التوراة والإنجيل، قوله- تعالى- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «4» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 86.
(2) راجع تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 139.
(3) راجع تفسير القاسمى- 16 ص 5788.
(4) راجع تفسيرنا لسورة الأعراف الآية 157 ص 390.(14/359)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
وقوله- سبحانه-: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ بيان لموقف بنى إسرائيل الجحودى من أنبياء الله- تعالى-.
والضمير في قوله جاءَهُمْ يرى بعضهم أنه يعود لعيسى، ويرى آخرون أنه يعود لمحمد صلى الله عليه وسلم أى: فلما جاء عيسى- عليه السلام- أو محمد صلى الله عليه وسلم إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات الدالة على صدقه، قالوا على سبيل العناد والجحود: هذا سحر واضح في بابه. لا يخفى على أى ناظر أو متأمل.
ومن المعروف أن بنى إسرائيل قد كذبوا عيسى- عليه السلام- وكفروا به، ونسبوا إلى أمه الطاهرة، ما هي بريئة منه، ومنزهة عنه.
كما كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وكفروا به، وصدق الله إذ يقول: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
ووصفوا ما جاء به بأنه سحر مبين، على سبيل المبالغة فكأنهم يقولون إن ما جاء به هو السحر بعينه، مع أنهم يعرفون أن ما جاء به هو الحق كما يعرفون أبناءهم، ولكن ما جبلوا عليه من جحود وعناد، حال بينهم وبين النطق بكلمة الحق.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين هم أشد الناس ظلما للحق، وأنه- سبحانه- سيظهره لا محالة، رضوا بذلك أم كرهوا وأن هذا الدين سيظهره الله- تعالى- على بقية الأديان، مهما كره الكافرون. فقال- تعالى-:
[سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 9]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
والاستفهام في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ للإنكار والنفي.
والافتراء: اختلاق الكذب واختراعه من جهة الشخص دون أن يكون له أساس من الصحة، وقوله: وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ جملة حالية.(14/360)
أى: ولا أحد أشد ظلما من إنسان يختلق الكذب من عند نفسه على دين الله- تعالى- وشريعته، والحال أن هذا الإنسان يدعوه الداعي إلى الدخول في دين الإسلام الذي لا يرتضى الله- تعالى- سواه دينا.
وَاللَّهُ- تعالى- لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى ما فيه فلاحهم، لسوء استعدادهم، وإيثارهم الباطل على الحق.
ثم بين- سبحانه- ما يهدف إليه هؤلاء الظالمون من وراء افترائهم الكذب على الدين الحق، فقال- تعالى-: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ.
والمراد بنور الله: دين الإسلام الذي ارتضاه- سبحانه- لعباده دينا، وبعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وقيل المراد به: حججه الدالة على وحدانيته- تعالى- وقيل المراد به: القرآن..
وهي معان متقاربة.
والمراد بإطفاء نور الله: محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه، وكتحريضهم لمن كان على شاكلتهم في الضلال على محاربته.
والمراد بأفواههم: أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له من الكلام.
والمعنى: يريد هؤلاء الكافرون بالحق، أن يقضوا على دين الإسلام، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم، من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه، أو أصل تستند إليه، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة.
قال صاحب الكشاف: مثّل حالهم في طلبهم إبطال نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبثق في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة، ليطفئه بنفخه ويطمسه «1» .
والجملة الكريمة فيها ما فيها من التهكم والاستهزاء بهؤلاء الكافرين، حيث شبههم- سبحانه- في جهالاتهم وغفلتهم، بحال من يريد إطفاء نور الشمس الوهاج، بنفخة من فمه الذي لا يستطيع إطفاء ما هو دون ذلك بما لا يحصى من المرات.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 265.(14/361)
وقوله- تعالى-: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بشارة للمؤمنين بأن ما هم عليه من حق، لا بد أن يعم الآفاق.
أى: والله- تعالى- بقدرته التي لا يعجزها شيء، متم نوره، ومظهر دينه ومؤيد نبيه صلى الله عليه وسلم ولو كره الكافرون ذلك فإن كراهيتهم لظهور دين الله- تعالى- لا أثر لها ولا قيمة. فالآية الكريمة وعد من الله- تعالى- للمؤمنين، بإظهار دينهم، وإعلاء كلمتهم، لكي يزيدهم ذلك ثباتا على ثباتهم، وقوة على قوتهم.
ثم أكد- سبحانه- وعده بإتمام نوره، وبين كيفية هذا الإتمام فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ....
والمراد بالهدى: القرآن الكريم: المشتمل على الإرشادات السامية، والتوجيهات القويمة، والأخبار الصادقة، والتشريعات الحكيمة.
والمراد بدين الحق: دين الإسلام الذي هو خاتم الأديان.
وقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان، والسيادة والسلطان.
والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه.
والضمير في «ليظهره» يعود على الدين الحق، أو على الرسول صلى الله عليه وسلم أى: هو الله- سبحانه- الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن الهادي للتي هي أقوم. وبالدين الحق الثابت الذي لا ينسخه دين آخر، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة.
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذلك، فإن كراهيتهم لا أثر لها في ظهوره، وفي إعلائه على جميع الأديان.
ولقد أنجز الله- تعالى- وعده، حيث جعل دين الإسلام، هو الدين الغالب على جميع الأديان، بحججه وبراهينه الدالة على أنه الدين الحق الذي لا يحوم حوله باطل.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تؤيد ذلك، ومنها: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها» «1» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 349.(14/362)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، أرشدهم فيه إلى ما يسعدهم، وينجيهم من كل سوء، فقال- تعالى-:
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
وهذه الآيات الكريمة جواب عما قاله بعض المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناها، كما سبق. أن ذكرنا في سبب قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ.
فكأنه- سبحانه- بعد أن نهاهم عن أن يقولوا قولا، تخالفه أفعالهم، وضرب لهم الأمثال بجانب من قصة موسى وعيسى- عليهما السلام- وبشرهم بظهور دينهم على سائر الأديان.
بعد كل ذلك أرشدهم إلى أحب الأعمال إليه- سبحانه- فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.
والتجارة في الأصل معناها: التصرف في رأس المال، وتقليبه في وجوه المعاملات المختلفة، طلبا للربح.
والمراد بها هنا: العقيدة السليمة، والأعمال الصالحة، التي فسرت بها بعد ذلك في قوله- تعالى- تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
والاستفهام في قوله- تعالى-: هَلْ أَدُلُّكُمْ للتشويق والتحضيض إلى الأمر المدلول عليه.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألا تريدون أن(14/363)
أدلكم على تجارة رابحة، تنجيكم مزاولتها ومباشرتها، من عذاب شديد الألم؟ إن كنتم تريدون ذلك، فهاكم الطريق إليها، وهي: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.
فقوله- سبحانه-: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ استئناف مفسر وموضح لقوله هَلْ أَدُلُّكُمْ؟ فكأن سائلا قال: وما هذه التجارة؟ دلنا عليها، فكان الجواب: تؤمنون بالله ورسوله.
أى: تداومون مداومة تامة على الإيمان بالله- تعالى- وبرسوله صلى الله عليه وسلم وتجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه بأموالكم وأنفسكم.
قالوا: وقوله تُؤْمِنُونَ خبر في معنى الأمر، ويدل عليه قراءة ابن مسعود: آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيله.
وفائدة العدول إلى الخبر: الإشعار بأنهم قد امتثلوا لما أرشدوا إليه، فكأنه- سبحانه- يخبر عن هذا الامتثال الموجود عندهم.
وجاء التعبير بقوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ لإفادة أن ما يذكر بعد ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى من يهدى إليها، لأنها أمور مرد تحديدها إلى الله- تعالى-.
وتنكير لفظ التجارة، للتهويل والتعظيم، أى: هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن ... ؟
وأطلقت التجارة هنا على الإيمان والعمل الصالح، لأنهما يتلاقيان ويتشابهان في أن كليهما المقصود من ورائه الربح العظيم، والسعى من أجل الحصول على المنافع.
وقدم- سبحانه- هنا الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس، لأن المقام مقام تفسير وتوضيح لمعنى التجارة الرابحة عن طريق الجهاد في سبيل الله، ومن المعلوم أن التجارة تقوم على تبادل الأموال، وهذه الأموال هي عصب الجهاد، فعن طريقها تشترى الأسلحة والمعدات التي لا غنى للمجاهدين عنها، وفي الحديث الشريف «من جهز غازيا فقد غزا» .
وقدم- سبحانه- في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.. «1» قدم الأنفس على الأموال، لأن الحديث هناك، كان في معرض الاستبدال والعرض والطلب، والأخذ والعطاء ... فقدم- سبحانه- الأنفس لأنها أعز ما يملكه الإنسان، وجعل في مقابلها الجنة لأنها أعز ما يوهب، وأسمى ما تتطلع إلى نيله النفوس.
__________
(1) سورة التوبة الآية 111.(14/364)
واسم الإشارة في قوله: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعود إلى ما سبق ذكره من الإيمان والجهاد. أى: ذلكم الذي أرشدناكم إلى التمسك به من الإيمان والجهاد في سبيل الله، هو خير لكم من كل شيء إن كنتم من أهل العلم والفهم.
فقوله تَعْلَمُونَ منزل منزلة الفعل اللازم، للإشعار بأن من يخالف ذلك لا يكون لا من أهل العلم، ولا من أهل الإدراك.
وجعله بعضهم فعلا متعديا، ومفعوله محذوف، والتقدير: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فافعلوه، ولا تتقاعسوا عن ذلك.
وقوله- سبحانه-: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ مجزوم على أنه جواب لشرط مقدر، أى:
إن تمتثلوا أمره- تعالى- يغفر لكم ذنوبكم.
ويصح أن يكون مجزوما على أنه جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر في قوله- تعالى- قبل ذلك تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ. لأنهما- كما قلنا- وإن جاءا بلفظ الخبر، إلا أنهما في معنى الأمر، أى: آمنوا وجاهدوا.
أى: آمنوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمته بأموالكم وأنفسكم، يغفر لكم- سبحانه- ذنوبكم، بأن يزيلها عنكم، ويسترها عليكم.
وَيُدْخِلْكُمْ فضلا عن ذلك جَنَّاتٍ عاليات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى:
تجرى من تحت مساكنها وبساتينها الأنهار.
ويعطيكم مَساكِنَ طَيِّبَةً أى: قصورا مشتملة على كل ما هو طيب ونافع.
وخصت المساكن الطيبة بالذكر، لأن المجاهدين قد فارقوا مساكنهم، ومنهم من استشهد بعيدا عنها، وفيها أهله وماله ... فوعدهم- سبحانه- بما هو خير منها.
وقوله فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أى: هذه المساكن الطيبة كائنة في جنات باقية خالدة، لا تزول ولا تنتهي، بل أصحابها يقيمون فيها إقامة دائمة، يقال: عدن فلان بالمكان، إذا أقام فيه إقامة مؤبدة.
ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أى: ذلك الذي منحناكم إياه من مغفرة لذنوبكم، ومن خلودكم في الجنة ... هو الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز، ولا يدانيه ظفر.
وقوله- سبحانه-: وَأُخْرى تُحِبُّونَها بيان لنعمة أخرى يعطيهم- سبحانه- إياها، سوى ما تقدم من نعم عظمى.(14/365)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
ولفظ «أخرى» مبتدأ خبره دل عليه ما تقدم، وقوله: تُحِبُّونَها صفة للمبتدأ.
أى: ولكم- فضلا عن كل ما تقدم- نعمة أخرى تحبونها وتتطلعون إليها.
وهذه النعمة هي: نَصْرٌ عظيم كائن مِنَ اللَّهِ- تعالى- لكم وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أى: عاجل وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أى: وبشر- أيها الرسول الكريم- المؤمنين بذلك، حتى يزدادوا إيمانا على إيمانهم، وحتى تزداد قلوبهم انشراحا وسرورا.
ويدخل في هذا النصر والفتح القريب دخولا أوليا: فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا.
وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن الكريم. الراجعة إلى الإخبار بالغيب، حيث أخبر- سبحانه- بالنصر والفتح، فتم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، في أكمل صورة، وأقرب زمن.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بنداء ثالث وجهه إلى المؤمنين، دعاهم فيه إلى التشبه بالصالحين الصادقين من عباده فقال:
[سورة الصف (61) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
والحواريون: جمع حوارى. وهم أنصار عيسى- عليه السلام- الذين آمنوا به وصدقوه، وأخلصوا له ولازموه، وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق، وكانوا اثنى عشر رجلا.
يقال: فلان حوارى فلان، أى: هو من خاصة أصحابه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الزبير بن العوام: «لكل نبي حوارى، وحواريي الزبير» .
وأصل الحور: شدة البياض والصفاء، ومنه قولهم في خالص لباب الدقيق: الحوارى، وفي النساء البيض الحسان: الحواريات والحوريات.(14/366)
وسمى الله- تعالى- أصفياء عيسى وأنصاره بذلك لشدة إخلاصهم له، وطهارة قلوبهم من الغش والنفاق، فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص.
والأنصار: جمع نصير، وهو من ينصر غيره نصرا شديدا مؤزرا.
والمراد بنصر الله- تعالى-: نصر دينه وشريعته ونبيه الذي أرسله بالهدى، ودين الحق.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: كونوا أنصارا لله.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان داوموا وواظبوا على أن تكونوا أنصارا لدين الله في كل حال، كما كان الحواريون كذلك، عند ما دعاهم عيسى- عليه السلام- إلى نصرته والوقوف إلى جانبه.
فالكلام محمول على المعنى، والمقصود منه حض المؤمنين على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الاستجابة التامة لما يدعوهم إليه، كما فعل الحواريون مع عيسى، حيث ثبتوا على دينهم، وصدقوا مع نبيهم، دون أن تنال منهم الفتن أو المصائب.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه- وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى لهم مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ.
قلت التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح، والمراد كونوا أنصار الله، كما كان الحواريون أنصار عيسى كذلك حين قال لهم: من أنصارى إلى الله.
فإن قلت: فما معنى قوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قلت: يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والذي يطابقه أن يكون المعنى: من جندي متوجها إلى نصرة دين الله «1» .
والاستفهام في قوله- تعالى-: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ للحض على نصرته والوقوف إلى جانبه.
وأضافهم- عليه السلام- إليه، باعتبارهم أنصار دعوته ودينه.
وقوله: إِلَى اللَّهِ متعلق بأنصارى، ومعنى «إلى» الانتهاء المجازى.
أى: قال عيسى للحواريين على سبيل الامتحان لقوة إيمانهم: من الجند المخلصون الذين أعتمد عليهم بعد الله- تعالى- في نصرة دينه، وفي التوجه إليه بالعبادة والطاعة وتبليغ رسالته ... ؟
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 528.(14/367)
فأجابوه بقولهم: نحن أنصار دين الله- تعالى- ونحن الذين على استعداد أن نبذل نفوسنا وأموالنا في سبيل تبليغ دعوته- عز وجل- ومن أجل إعلاء كلمته.
وقوله- تعالى-: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ مفرع على ما قبله، لبيان موقف قومه منه.
أى: قال الحواريون لعيسى عند ما دعاهم إلى اتباع الحق: نحن أنصار دين الله، ونحن الذين سنثبت على العهد.. أما بقية بنى إسرائيل فقد افترقوا إلى فرقتين: فرقة آمنت بعيسى وبما جاء به من عند الله- تعالى-، وفرقة أخرى كفرت به وبرسالته.
وقوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بيان للنتائج التي تحققت لكل طائفة من الطائفتين: المؤمنين والكافرين.
وقوله: ظاهِرِينَ من الظهور بمعنى الغلبة، يقال: ظهر فلان على فلان، إذا تغلب عليه وقهره.
أى: كان من قوم عيسى من آمن به، ومنهم من كفر به، فأيدنا وقوينا ونصرنا الذين آمنوا به، على الذين كفروا به، فصار المؤمنون ظاهرين ومنتصرين على أعدائهم بفضله- تعالى- ومشيئته.
والمقصود من هذا الخبر حض المؤمنين في كل زمان ومكان، على الإيمان والعمل الصالح، لأن سنة الله- تعالى- قد اقتضت أن يجعل العاقبة لهم، كما جعلها لأتباع عيسى المؤمنين، على أعدائهم الكافرين.
قال بعض العلماء: وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين: إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى- عليه السلام-، هم المسيحيون إطلاقا، من استقام، ومن دخلت في عقيدته الانحرافات، وقد أيدهم الله- تعالى- على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا، كما حدث في التاريخ.
وإما أن الذين آمنوا: هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى، والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد.
ومعنى: أنهم أصبحوا ظاهرين، أى: بالحجة والبرهان، أو أن التوحيد الذي هم عليه، هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير- أى: دين الإسلام- وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض. كما وقع في التاريخ.(14/368)
هذا المعنى الأخير هو الأرجح والأقرب في هذا السياق «1» .
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الصف» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة: مدينة نصر مساء الخميس 7 من رمضان سنة 1406 هـ الموافق 15/ 5/ 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير في ظلال القرآن ج 28 ص 89. [.....](14/369)
تفسير سورة الجمعة(14/371)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الجمعة» من السور المدنية الخالصة.
قال الآلوسى: هي مدنية، كما روى عن ابن عباس وابن الزبير، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وإليه ذهب الجمهور.
وقال ابن يسار: هي مكية، وحكى ذلك عن ابن عباس ومجاهد: والأول هو الصحيح. لما رواه البخاري وغيره عن أبى هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ... قال له رجل: يا رسول الله- من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي، وقال:
«والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء ... » .
ومن المعروف أن إسلام أبى هريرة كان بعد الهجرة بمدة بالاتفاق.. «1» .
2- وعدد آياتها إحدى عشرة آية، وكان نزولها بعد سورة «التحريم» ، وقبل سورة «التغابن» .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الجمعة، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة «الجمعة والمنافقون» .
وأخرج ابن حيان والبيهقي عن جابر بن سمرة أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة بسورة «الكافرون» وبسورة «قل هو الله أحد ... » ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة من ليلة الجمعة، بسورة «الجمعة» ، وبسورة «المنافقون» ..
وسميت بهذا الاسم لحديثها عن يوم الجمعة، وعن وجوب السعى إلى صلاتها.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 92.(14/373)
3- وقد اشتملت السورة الكريمة، على الثناء على الله- عز وجل-، وعلى مظاهر نعمه على عباده، حيث أرسل فيهم رسولا كريما، ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة..
كما اشتملت على توبيخ اليهود وذمهم، لعدم عملهم بالكتاب الذي أنزله- سبحانه- لهدايتهم وإصلاح حالهم..
كما اشتملت على دعوة المؤمنين، إلى المحافظة على صلاة الجمعة، وعلى المبادرة إليها دون أن يشغلهم عنها شاغل.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من المحافظين على فرائضه وتكاليفه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
القاهرة 5 من شوال 1406 هـ 11/ 6/ 1986 م د. محمد سيد طنطاوى(14/374)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
افتتحت سورة «الجمعة» كغيرها من أخواتها «المسبحات» بالثناء على الله- تعالى- وببيان أن المخلوقات جميعها، تسبح بحمده- تعالى- وتقدس له.
والتسبيح: تنزيه الله- تعالى- عما لا يليق به، اعتقادا وقولا وعملا مأخوذ من السبح وهو المر السريع في الماء أو الهواء، لأن المسبح لله، - تعالى- مسرع في تنزيهه- تعالى- وتبرئته من كل سوء.
وقوله: الْقُدُّوسِ من التقديس بمعنى التعظيم والتطهير وغير ذلك من صفات الكمال.
أى: أن التسبيح: نفى ما لا يليق بذاته- تعالى-، والتقديس: إثبات ما يليق بجلاله- سبحانه- والمعنى: ينزه الله- تعالى- ويبعده عن كل نقص، جميع ما في السموات، وجميع ما في الأرض من مخلوقات، فهو- سبحانه- الْمَلِكِ أى: المدبر لشئون هذا الكون، المتصرف فيه تصرف المالك فيما يملكه ...(14/375)
الْقُدُّوسِ أى: البليغ في الطهارة وفي التنزه عن كل نقص، من القدس- بضم القاف وسكون الدال- بمعنى الطهر، وأصله القدس- بفتح القاف والدال- وهو الإناء الذي يكون فيه ما يتطهر به، ومنه القادوس وهو إناء معروف.
الْعَزِيزِ الذي لا يغلبه غالب الْحَكِيمِ في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.
هذا، ومن الآيات الكثيرة الدالة على أن جميع من في السموات ومن في الأرض، يسبحون لله- تعالى- قوله- عز وجل-: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً.. «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على خلقه، فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ....
وقوله: الْأُمِّيِّينَ جمع أمى، وهو صفة لموصوف محذوف. أى: في الناس أو في القوم الأميين، والمراد بهم العرب، لأن معظمهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة.
وسمى من لا يعرف القراءة والكتابة بالأمى، لغلبة الأمية عليه، حتى لكأن حاله بعد تقدمه في السن، كحاله يوم ولدته أمه في عدم معرفته للقراءة والكتابة.
و «من» في قوله- تعالى-: مِنْهُمْ للتبعيض، باعتبار أنه واحد منهم، ويشاركهم في بعض صفاتهم وهي الأمية.
وقوله: يَتْلُوا ... من التلاوة، وهي القراءة المتتابعة المرتلة، التي يكون بعضها تلو بعض.
وقوله: وَيُزَكِّيهِمْ من التزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح.
والمراد بالكتاب: القرآن، والمراد بتعليمه: بيان معانيه وحقائقه، وشرح أحكامه وأوامره ونواهيه..
والمراد بالحكمة: العلم النافع، المصحوب بالعمل الصالح، وفي وضعها إلى جانب الكتاب إشارة إلى أن المقصود بها السنة النبوية المطهرة، إذ بالكتاب وبالسنة، يعرف الناس أصلح الأقوال والأفعال، وأعدل الأحكام وأقوم الآداب، وأسمى الفضائل..
أى: هو- سبحانه- وحده، الذي بَعَثَ بفضله وكرمه، فِي العرب الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا كريما عظيما، كائنا مِنْهُمْ أى: من جنسهم يعرفون حسبه ونسبه وخلقه.. هذا
__________
(1) سورة الإسراء آية 44.(14/376)
الرسول الكريم أرسلناه إليهم، ليقرأ عليهم آيات الله- تعالى- التي أنزلها عليه لهدايتهم وسعادتهم، متى آمنوا بها، وعملوا بما اشتملت عليه من توجيهات سامية..
وأرسلناه إليهم- أيضا- ليزكيهم، أى: وليطهرهم من الكفر والقبائح والمنكرات وليعلمهم الكتاب، بأن يحفظهم إياه، ويشرح لهم أحكامه، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه.
وليعلمهم- أيضا- الحكمة. أى: العلم النافع المصحوب بالعمل الطيب وصدر- سبحانه- الآية الكريمة بضمير اسم الجلالة، لتربية المهابة في النفوس، ولتقوية ما اشتملت عليه من نعم وأحكام، إذ هو- سبحانه- وحده الذي فعل ذلك لا غيره.
وعبر- سبحانه- بفي المفيدة للظرفية في قوله- تعالى-: فِي الْأُمِّيِّينَ. للإشعار بأن هذا الرسول الكريم الذي أرسله إليهم، كان مقيما فيهم، وملازما لهم، وحريصا على أن يبلغهم رسالة الله- تعالى- في كل الأوقات والأزمان.
والتعبير بقوله: مِنْهُمْ فيه ما فيه من دعوتهم إلى الإيمان به، لأن هذا الرسول الكريم، ليس غريبا عنهم، بل هو واحد منهم شرفهم من شرفه، وفضلهم من فضله..
وهذه الآية الكريمة صريحة في أن الله- تعالى- قد استجاب دعوة نبيه إبراهيم- عليه السلام- عند ما دعاه بقوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.. «1» .
وقد جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها في أسمى درجات البلاغة والحكمة، لأن أول مراحل تبليغ الرسالة، يكون بتلاوة القرآن، ثم ثنى- سبحانه- بتزكيه النفوس من الأرجاس، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس.
ولذا قالوا: إن تعليم الكتاب غير تلاوته، لأن تلاوته معناها، قراءته قراءة مرتلة، أما تعليمه فمعناه: بيان أحكامه، وشرح ما خفى من ألفاظه وأحكامه..
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد اشتملت على جملة من الصفات الجليلة التي منحها- سبحانه- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك حال الناس قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فقال: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 129.(14/377)
وهذه الجملة الكريمة في موضع الحال من قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ ... و «إن» في قوله وَإِنْ كانُوا ... مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف..
أى: هو- سبحانه- بفضله وكرمه، الذي بعث في الأميين رسولا منهم، وحالهم أنهم كانوا قبل إرسال هذا الرسول الكريم فيهم، في ضلال واضح لا يخفى أمره على عاقل، ولا يلتبس قبحه على ذي ذوق سليم. وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه، في ضلال واضح، وظلام دامس، من حيث العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات..
فكان من رحمة الله- تعالى- بهم، أن أرسل فيهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لكي يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان.
ثم بين- سبحانه- أن رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لن يكون نفعها مقصورا على المعاصرين له والذين شاهدوه ... بل سيعم نفعها من سيجيئون من بعدهم، فقال- تعالى-:
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ....
وقوله: وَآخَرِينَ جمع آخر بمعنى الغير، والجملة معطوفة على قوله قبل ذلك فِي الْأُمِّيِّينَ ... فيكون المعنى:
هو- سبحانه- الذي بعث في الأميين رسولا منهم، كما بعثه في آخرين منهم.
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أى: لم يجيئوا بعد، وهم كل من يأتى بعد الصحابة من أهل الإسلام إلى يوم القيامة، بدليل قوله- تعالى-: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ... «1» .
أى: وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة، ولأنذر به جميع من بلغه هذا الكتاب، ووصلت إليه دعوته من العرب وغيرهم إلى يوم القيامة ...
وفي الحديث الشريف: «بلغوا عن الله- تعالى- فمن بلغته آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله» .
وعن محمد بن كعب قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ... «2» .
ويصح أن يكون قوله: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ... معطوف على الضمير المنصوب في قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ ... فيكون المعنى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19.
(2) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام ص 53.(14/378)
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويعلم آخرين منهم لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أى: لم يجيئوا بعد وسيجيئون ... وهم كل من آمن بالرسول من بعد الصحابة إلى يوم القيامة.
قال صاحب الكشاف: وقوله: وَآخَرِينَ مجرور عطف على الأميين يعنى: أنه بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين الذين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة.
وقيل: لما نزلت قيل: من هم يا رسول الله، فوضع يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء» .
وقيل: هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة.
ويجوز أن ينتصب عطفا على المنصوب في وَيُعَلِّمُهُمُ أى يعلمهم ويعلم آخرين، لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه.. «1» .
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تشير إلى أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ستبلغ غير المعاصرين له صلى الله عليه وسلم وأنهم سيتبعونها، ويؤمنون بها، ويدافعون عنها..
وهذا ما أيده الواقع، فقد دخل الناس في دين الله أفواجا من العرب ومن غير العرب، ومن أهل المشارق والمغارب..
فالآية الكريمة تخبر عن معجزة من معجزات القرآن الكريم، ألا وهي الإخبار عن أمور مستقبلة أيدها الواقع المشاهد.
وقوله- تعالى-: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تذييل المقصود به بيان أن قدرته- تعالى- لا يعجزها شيء، وأن حكمته هي أسمى الحكم وأسداها.
أى: وهو- سبحانه- العزيز الذي لا يغلب قدرته شيء، الحكيم فيما يريده ويقدره ويوجده.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ... يعود إلى ما تقدم ذكره من كرمه- تعالى- على عباده، حيث اختص رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة الجامعة لكل خير وبركة، وحيث وفق من وفق من الأميين وغيرهم، إلى اتباع هذا الرسول الكريم..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 530.(14/379)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
أى: ذلك البعث منا لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لكي يهدى الناس بإذننا إلى الصراط المستقيم، هو فضلنا الذي نؤتيه ونخصه لمن نشاء اختصاصه به من عبادنا..
وَاللَّهُ- تعالى-: هو ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي لا يقاربه فضل، ولا يدانيه كرم.
كما قال- سبحانه-: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «1» .
ثم انتقلت السورة الكريمة- بعد هذا البيان- لفضل الله- تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى من أرسله لهدايتهم، إلى الحديث عن جانب من رذائل اليهود. وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم وأن يرد على أكاذيبهم.. فقال- تعالى-:
[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
والمراد بالمثل في قوله- تعالى-: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ... الصفة والحال ...
والمراد بالذين حملوا التوراة: اليهود الذين كلفهم الله- تعالى- بالعمل بما اشتملت عليه التوراة من هدايات وأحكام وآداب ... ولكنهم نبذوها وتركوا العمل بها..
__________
(1) سورة آل عمران الآيتان 73 و 74.(14/380)
والأسفار: جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المشتمل على ألوان من العلم النافع، وسمى بذلك لأنه يسفر ويكشف عما فيه من المعاني المفيدة للمطلع عليها.
والمعنى: حال هؤلاء اليهود الذين أنزل الله- تعالى- عليهم التوراة لهدايتهم.. ولكنهم لم ينتفعوا بها.. كحال الحمار الذي يحمل كتب العلم النافع، ولكنه لم يستفد من ذلك شيئا، لأنه لا يفقه شيئا مما يحمله..
ففي هذا المثل شبه الله- تعالى- اليهود الذين لم ينتفعوا بالتوراة التي فيها الهداية والنور، بحال الحمار الذين يحمل كتب العلوم النافعة دون أن يستفيد بها.
ووجه الشبه بين الاثنين: هو عدم الانتفاع بما من شأنه أن ينتفع به انتفاعا عظيما، لسمو قيمته، وجلال منزلته.
قال صاحب الكشاف: شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها، ولا بمنتفعين بآياتها ... بالحمار، حمل أسفارا، أى: كتبا كبارا من كتب العلم، فهو يمشى بها، ولا يدرى منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وبئس المثل.. «1» .
وقال الإمام ابن كثير: يقول- تعالى- ذامّا لليهود الذين أعطوا التوراة فلم يعملوا بها، إن مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.. فهو يحملها حملا حسيا ولا يدرى ما عليه، وكذلك هؤلاء. لم يعملوا بمقتضى ما في التوراة بل أولوه وحرفوه، فهم أسوأ من الحمار، لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها، ولهذا قال- تعالى-: في آية أخرى:
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.. «2» .
وقال القرطبي: وفي هذا المثل تنبيه من الله- تعالى- لمن حمل الكتاب، أن يتعلم معانيه، ويعمل بما فيه، لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء اليهود، قال الشاعر:
زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيّدها، إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدرى البعير إذا غدا ... بأوساقه، أو راح ما في الغرائر «3»
وعبر- سبحانه- عن تكليفهم العمل بالتوراة وعن تركهم لذلك بقوله: حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها للإشعار بأن هذا التكليف منه- تعالى- لهم، كان عهدا مؤكدا عليهم، حتى لكأنهم تحملوه كما يتحمل الإنسان شيئا قد وضع فوق ظهره أو كتفيه. ولكنهم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 530.
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 143.
(3) تفسير القرطبي ج 18 ص 94.(14/381)
نبذوا هذا العهد، وألقوا بما فوق أكتافهم من أحمال، وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم انقياد الأعمى لقائده..
ولفظ «ثم» في قوله ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها للتراخي النسبي، لأن عدم وفائهم بما عهد إليهم، أشد عجبا من تحملهم لهذه العهود.
وشبههم، بالحمار الذي هو مثل في البلادة والغباء، لزيادة التشنيع عليهم، والتقبيح لحالهم، حيث زهدوا وأعرضوا عن الانتفاع بأثمن شيء نافع، - وهو كتاب الله- كما هو شأن الحمار الذي لا يفرق فيما يحمله على ظهره بين الشيء النافع والشيء الضار.
وجملة «يحمل أسفارا» في موضع الحال من الحمار، أو في موضع جر على أنها صفة للحمار، باعتبار أن المقصود به الجنس، فهو معرفة لفظا، نكرة معنى.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: «يحمل» ما محله؟ قلت: محله النصب على الحال، أو الجر على الوصف، لأن لفظ الحمار هنا، كلفظ اللئيم في قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني.. «1» .
ثم أضاف- سبحانه- إلى ذم هؤلاء اليهود ذما آخر فقال: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ....
وبِئْسَ فعل ذم، وفاعله ما بعده وهو قوله: مَثَلُ الْقَوْمِ وقد أغنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوص بالذم، لحصول العلم بأن المذموم هو حال هؤلاء القوم الذين وصفهم- سبحانه- بأنهم قد كذبوا بآياته.
أى: بئس المثل مثل هؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات الله- تعالى- الدالة على وحدانيته وقدرته، وعلى صدق أنبيائه فيما يبلغونه عنه- تعالى-.
وقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تذييل قصد به بيان الأسباب التي أدت إلى عدم توفيق الله- تعالى- لهم إلى الهداية.
أى: والله- تعالى- قد اقتضت حكمته، أن لا يهدى إلى طريق الخير، من ظلم نفسه، بأن آثر الغي على الرشد، والعمى على الهدى، والشقاوة على السعادة، لسوء استعداده، وانطماس بصيرته.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتحدى اليهود، وأن يرد على مزاعمهم ردا يخرس
__________
(1) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 530.(14/382)
ألسنتهم، ويكشف عن أكاذيبهم.. فقال- سبحانه-: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
قال الآلوسى: وأمر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك، إظهارا لكذبهم، فإنهم كانوا يقولون:
نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ويدعون أن الآخرة خالصة لهم عند الله.
وروى أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب يهود المدينة إلى يهود خيبر: إن اتبعتم محمدا أطعناه، وإن خالفتموه خالفناه. فقالوا- أى: يهود خيبر-: «نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير ابن الله، ومنا الأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب؟ نحن أحق بها من محمد صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت هذه الآيات.. «1» .
والمقصود بالذين هادوا، أى: الذين ادعو أنهم على الديانة اليهودية، يقال: هاد فلان وتهوّد. إذا دخل في اليهودية، نسبة إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب- عليه السلام-، أو سموا بذلك حين تابوا عن عبادة العجل، من هاد يهود هودا بمعنى تاب، ومنه قوله- تعالى-:
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ... أى: تبنا إليك.
ومعنى، أولياء الله ... مقربين منه، كرماء عليه، لهم منزلة خاصة عنده- تعالى- وقوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ... جواب الشرط، والتمني معناه: ارتياح النفس، ورغبتها القوية في الحصول على الشيء.
ويستعمل التمني في المعنى القائم بالقلب، بأن تتطلع نفس الشخص إلى الحصول على الشيء. كما يستعمل عن طريق النطق باللسان، بأن يقول الإنسان بلسانه، ليتني أحصل على كذا.
وهذا المعنى الثاني هو المراد هنا، لأن المعنى الكائن في القلب لا يعلمه أحد سوى الله- تعالى-.
ومعنى الآية الكريمة: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الزاعمين. أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم أولياء الله- تعالى- المقربون إليه من دون سائر خلقه ... قل لهم على سبيل التحدي والتعجيز والتبكيت- إن كان الأمر كما زعمتم، فاذكروا أمام الناس بألسنتكم لفظا، يدل على أنكم تحبون الموت وترغبون فيه، لكي تظفروا بعد الموت بالمحبة الكاملة من الله، ولكي تنتقلوا من شقاء الدنيا ومتاعبها إلى النعيم الخالص بعد موتكم.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 96.(14/383)
وجواب الشرط في قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ محذوف لدلالة ما قبله عليه.
أى: إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت.
وافتتحت الآية الكريمة بلفظ قُلْ للاهتمام بشأن التحدي من الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، ولبيان أنه أمر من الله- تعالى- وليس للرسول صلى الله عليه وسلم سوى التنفيذ.
وجيء بإن الشرطية المفيدة للشك، مع أنهم قد زعموا أنهم أولياء لله فعلا، للإشعار بأن زعمهم هذا وإن كانوا قد كرروا النطق والتباهي به.. إلا أنه بمنزلة الشيء الذي تلوكه الألسنة، دون أن يكون له أساس من الواقع، فهو لوضوح بطلانه صار بمنزلة الشيء الذي يفترض وقوعه افتراضا على سبيل التوبيخ لهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أى: تهودوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ أى: أحباء لله، ولم يضف- سبحانه- لفظ أولياء إليه، كما في قوله:
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ... ليؤذن بالفرق بين مدعى الولاية، ومن يخصه- تعالى- بها.
وقوله: مِنْ دُونِ النَّاسِ ... حال من الضمير الراجع إلى اسم إِنْ أى:
متجاوزين عن الناس.
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أى: فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة. فإن من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يخلص إليها من هذه الدنيا التي هي دار كدر وتعب.. «1» .
ثم أخبر- سبحانه- عن واقعهم وعن حالتهم المستقبلة فقال: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
أى: أن هؤلاء اليهود لا يتمنى أحدهم الموت أبدا. بسبب ما قدمته أيديهم من آثام، والله- تعالى- لا تخفى عليه خافية من سيئاتهم واعتداءاتهم وظلمهم بل هو- سبحانه- يسجل ذلك عليهم، ويجازيهم بما يستحقونه من عقاب..
فالآية الكريمة خبر من الله- تعالى- عن اليهود بأنهم يكرهون الموت، ولا يتمنونه، ولا يستطيعون قبول ما تحداهم به صلى الله عليه وسلم من طلبهم تمنى الموت، لعلمهم بأنهم لو أجابوه إلى طلبه، لحل بهم الموت الذي يكرهونه.
وقد صح من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه..
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 96.(14/384)
وقال ابن جرير: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار..» «1» .
وقال ابن كثير: وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال أبو جهل- لعنه الله-:
إن رأيت محمدا عند الكعبة، لآتينه حتى أطأ عنقه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا «2» .
وقال صاحب الكشاف ما ملخصه: وقوله: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً أى: بسبب ما قدموا من الكفر، وقد قال لهم صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمنوا، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد فما تمالك أحد منهم أن يتمنى، وهي إحدى المعجزات- لأنها إخبار بالغيب وكانت كما أخبر-.
فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا الموت؟ قلت: لو تمنوا لنقل ذلك عنهم، كما نقلت سائر الحوادث، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام، أكثر من الذر، وليس أحد منهم نقل عنه ذلك ... «3» .
هذا، ويكفى في تحقيق هذه المعجزة، ألا يصدر تمنى الموت عن اليهود الذين تحداهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهم الذين كانوا يضعون العراقيل في طريق دعوته.. ولا يقدح في هذه المعجزة، أن ينطق يهودي بعد العهد النبوي بتمني الموت، وهو حريص على الحياة، لأن المعنيين بالتحدي هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي.
والمقصود بقوله- تعالى-: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ التهديد والوعيد. أى: والله- تعالى- عليم علما تاما بأحوال هؤلاء الظالمين، وسيعاقبهم العقاب الذي يتناسب مع ظلمهم وبغيهم. فالمراد من العلم لازمه، وهو الجزاء والحساب..
وعبر- سبحانه- هنا بقوله: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ ... وفي سورة البقرة بقوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ....
للإشعار بأنهم يكرهون الموت في الحال وفي المستقبل كراهة شديدة.
__________
(1) راجع تفسير ابن جرير ج 1 ص 427. [.....]
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 144.
(3) تفسير الكشاف ج 4 ص 531 وج 1 ص 225.(14/385)
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم بأنهم لا مفر لهم من الموت، مهما حرصوا على الهروب منه. فقال- تعالى-: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ....
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء اليهود الذين يكرهون الموت، ويزعمون أنهم أحباب الله؟ ..
قل لهم على سبيل التوبيخ والتبكيت: إن الموت الذي تكرهونه، وتحرصون على الفرار منه، لا مهرب لكم منه، ولا محيص لكم عنه، فهو نازل بكم إن عاجلا أو آجلا كما قال- سبحانه- أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ....
فالمقصود بهذه الآية الكريمة إخبارهم بأن هلعهم من الموت مهما اشتد لن يفيدهم شيئا، لأن الموت نازل بهم لا محالة ...
ثم بين- سبحانه- أنهم بعد الموت، سيجدون الجزاء العادل فقال: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم-: إن الموت نازل بكم لا محالة. ثم بعد هلاككم سترجعون إلى الله- تعالى- الذي يعلم السر والعلانية، والجهر والخفاء، فيجازيكم على أعمالكم السيئة، بما تستحقونه من عقاب.
فالمراد بالإنباء عما كانوا يعملونه، الحساب على ذلك، والمجازاة عليه.
وشبيه بهذه الآيات قوله- تعالى- في سورة البقرة:
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ «1» .
وبعد هذا التوبيخ والتحدي لليهود الذين زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس.. وجه- سبحانه- للمؤمنين نداء أمرهم فيه بالمسارعة إلى أداء فرائضه ونهاهم عن أن تشغلهم دنياهم عن ذكره وطاعته، فقال- تعالى-:
__________
(1) راجع تفسيرنا لسورة البقرة الآية 96 ص 214.(14/386)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
والمقصود بالنداء في قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ ... جميع المكلفين بها، الذين يجب عليهم أداؤها..
وناداهم- سبحانه- بصفة الإيمان، لتحريك حرارة الإيمان في قلوبهم، ولتحريضهم على المسارعة إليها، إذ من شأن المؤمن القوى، أن يكون مطيعا لما يأمره خالقه به.
والمراد بالنداء: الأذان والإعلام بوقت حلولها.
والمقصود بالصلاة المنادى لها هنا: صلاة الجمعة، بدليل قوله- تعالى- مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
واللام في قوله لِلصَّلاةِ للتعليل، ومِنْ بمعنى في، أو للبيان، أو للتبعيض، لأن يوم الجمعة زمان، تقع فيه أعمال، منها الصلاة المعهودة فيه وهي صلاة الجمعة لأن الأمر بترك البيع خاص بها، لوجود الخطبة فيها.
وقوله: فَاسْعَوْا ... جواب الشرط، من السعى، وهو المشي السريع.
والمراد به هنا: المشي المتوسط بوقار وسكينة، وحسن تهيؤ لصلاة الجمعة..
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أى: امشوا إليه بدون إفراط في السرعة..
فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبى سلمة من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» .(14/387)
والمراد بذكر الله: الخطبة والصلاة جميعا، لاشتمالهما عليه، واستظهر بعضهم أن المراد به الصلاة، وقصره بعضهم على الخطبة.. «1» .
وإنما عبر- سبحانه- بالسعي لتضمنه معنى زائدا على المشي، وهو الجد والحرص على التبكير، وعلى توقى التأخير.
والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، إذا نادى المنادى لأجل الصلاة في يوم الجمعة، فامضوا إليها بجد، وإخلاص نية، وحرص على الانتفاع بما تسمعونه من خطبة الجمعة، التي هي لون من ألوان ذكر الله- تعالى- وطاعته.
والأمر في قوله- سبحانه-: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، وَذَرُوا الْبَيْعَ.. الظاهر أنه للوجوب، لأن الأمر يقتضى الوجوب، ما لم يوجد له صارف عن ذلك، ولا صارف له هنا.
والمراد من البيع هنا: المعاملة بجميع أنواعها، فهو يعم البيع والشراء وسائر أنواع المعاملات.
أى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاخرجوا إليها بحرص وسكينة ووقار. واتركوا المعاملات الدنيوية من بيع، وشراء، وإجارة، وغيرها.
وإنما قال- سبحانه-: وَذَرُوا الْبَيْعَ ... لأنه أهم أنواع المعاملات، فهو من باب التعبير عن الشيء بأهم أجزائه.
واسم الإشارة في قوله- سبحانه-: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعود إلى ما سبق ذكره من الأمر بالسعي إلى ذكر الله، متى نودي للصلاة، وترك الاشتغال بالبيع وما يشبهه.
أى: ذلكم الذي أمرتكم به من السعى إلى ذكر الله عند النداء للصلاة من يوم الجمعة، ومن ترك أعمالكم الدنيوية.. خير لكم مما يحصل لكم من رزق في هذه الأوقات، عن طريق البيع أو الشراء أو غيرهما.
فالمفضل عليه محذوف، لدلالة الكلام عليه، والمفضل هو السعى إلى ذكر الله- تعالى-.
وهذا التفضيل باعتبار أن منافع السعى إلى ذكر الله- تعالى- باقية دائمة، أما المنافع الدنيوية فهي زائلة فانية ...
وجواب الشرط في قوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ محذوف. أى: إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم، فاسعوا إلى ذكر الله عند النداء للصلاة، واتركوا البيع والشراء.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 102.(14/388)
أو إن كنتم من أهل العلم والفقه السليم للأمور، عرفتم أن امتثال أمر الله- تعالى- بأن تسعوا، إلى ذكره عند النداء لصلاة الجمعة، خير لكم من الاشتغال في هذا الوقت بالبيع والشراء..
إذ في هذا الامتثال سعادتكم ونجاتكم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر تيسيره عليهم في تشريعاته فقال: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ....
أى: فإذا فرغتم من أداء الصلاة وأقمتموها على أكل وجه، فانتشروا في الأرض، وامشوا في مناكبها، لأداء أعمالكم التي كنتم قد تركتموها عند النداء للصلاة، واطلبوا الربح واكتساب المال والرزق، من فضل الله- تعالى- ومن فيض إنعامه، والأمر هنا للإباحة، لأنه وارد بعد حظر، فهو كقوله- تعالى-: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا....
أى: أن الانتشار في الأرض بعد الصلاة لطلب الرزق، ليس واجبا عليهم، إذ طلب الرزق قد يكون في هذا الوقت، وقد يكون في غيره ...
والمقصود من الآية إنما هو تنبيه الناس، إلى أن لهم في غير وقت الصلاة، سعة من الزمن في طلب الرزق، وفي الاشتغال بالأمور الدنيوية، فعليهم أن يسعوا إلى ذكر الله، إذا ما نودي للصلاة من يوم الجمعة، وأن يحرصوا على ذلك حرصا تاما، مصحوبا بالنية الطيبة، وبالهيئة الحسنة. وبالمضي المبكر إلى المسجد.
وقوله- سبحانه-: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تحذير لهم من الانتشار في الأرض لمصالحهم الدنيوية، دون أن يعطوا طاعة الله- تعالى- وعبادته، ما تستحقه من عناية ومواظبة.
أى: إذا قضيت الصلاة، فانتشروا في الأرض لتحصيل معاشكم، دون أن يشغلكم ذلك عن الإكثار من ذكر الله- تعالى- في كل أحوالكم، فإن الفلاح كل الفلاح في تقديم ما يتعلق بأمور الدين، على ما يتعلق بأمور الدنيا، وفي تفضيل ما يبقى على ما يفنى.
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها ترسم للمسلم التوازن السامي، بين ما يقتضيه دينه، وما تقتضيه دنياه.
إنها تأمره بالسعي في الأرض، ولكن في غير وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة، ودون أن يشغله هذا السعى عن الإكثار من ذكر الله، فإن الفلاح في الإقبال على الطاعات التي ترضيه- سبحانه-: ومن بين هذه الطاعات أن يكثر الإنسان من ذكر الله- تعالى-، حتى في حالة سعيه لتحصيل رزقه.(14/389)
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بعتاب يحمل في طياته ثوب التأديب والإرشاد والتأنيب، لمن آثر مطالب الدنيا على مطالب الآخرة فقال- تعالى-: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً....
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: يعاتب- تبارك وتعالى- على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة، التي قدمت المدينة يومئذ، فقال: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً....
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن جابر قال: قدمت عير- أى: تجارة- المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة- فخرج الناس، وبقي اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية.
وفي رواية عن جابر- أيضا- أنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقدمت عير إلى المدينة، فابتدرها الناس، حتى لم يبق مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادي نارا» ونزلت هذه الآية.. «1» .
وفي رواية أن الذين بقوا في المسجد كانوا أربعين، وأن العير كانت لعبد الرحمن بن عوف، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ... «2» .
وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب، فقدم دحية الكلبي بتجارة له فتلقاه أهله بالدفوف. فخرج الناس.
و «إذا» في قوله- تعالى-: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ... ظرف للزمان الماضي المجرد عن الشرط، لأن هذه الآية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن انفض عنه من انفض وهو يخطب وقوله: انْفَضُّوا من الانفضاض، بمعنى التفرق. يقال: انفض فلان عن فلان إذا تركه وانصرف عنه، وهو من الفض، بمعنى كسر الشيء والتفريق بين أجزائه.
والضمير في قوله إِلَيْها يعود للتجارة، وكانت عودته إليها دون اللهو، لأن الانفضاض كان لها بالأصالة، والمراد باللهو هنا: فرحهم بمجيء التجارة واستقبالهم لها بالدفوف، لأنهم كانوا في حالة شديدة من الفقر وغلاء الأسعار.
والتعبير بأو يشير إلى أن بعض المنفضين قد انفضوا من أجل التجارة، وأن البعض الآخر قد انفض من أجل اللهو.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 149.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 105.(14/390)
قال الجمل في حاشيته: والذي سوغ لهم الخروج وترك الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز، لانقضاء المقصود وهو الصلاة، لأنه كان صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام يصلى الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، فلما وقعت هذه الواقعة، ونزلت الآية، قدم الخطبة وأخر الصلاة ... «1» .
وقوله- سبحانه-: وَتَرَكُوكَ قائِماً جملة حالية من فاعل انْفَضُّوا والمقصود بها توبيخهم على هذا التصرف، حيث تركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا يخطب على المنبر، وانصرفوا إلى التجارة واللهو.
وقوله- سبحانه-: قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ، وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ إرشاد لهم إلى ما هو الأنفع والأبقى والأكرم لهم.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الذين انفضوا عنك وأنت تخطب.. قل لهم:
ما عند الله- تعالى- من ثواب ومن عطاء خير من اللهو الذي يشغلكم عن ذكر الله، ومن التجارة التي تبتغون من ورائها الربح المادي، والمنافع العاجلة.
والله- تعالى- هو خير الرازقين، لأنه- سبحانه- هو وحده الذي يقسم الأرزاق، وهو الذي يعطى ويمنع، كما قال- سبحانه-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقدمت التجارة على اللهو في صدر الآية، لأن رؤيتها كانت الباعث الأعظم على الانفضاض إليها، وترك الرسول صلى الله عليه وسلم قائما يخطب على المنبر، ولم يبق معه إلا عدد قليل من أصحابه.
وأخرت في آخر الآية وقدم اللهو عليها، ليكون ذمهم على انفضاضهم أشد وأوجع، حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- فضل يوم الجمعة، وفضل صلاة يوم الجمعة، والتحذير من ترك أدائها.
ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى، ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» .
وروى الشيخان عن أبى هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن الآخرون-
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 345.(14/391)
أى: زمنا- السابقون يوم القيامة قبل غيرهم-، بيد أنهم- أى: اليهود والنصارى- أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم- أى:
تعظيمه- فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا- أى: السبت- والنصارى بعد غد- أى: الأحد-» .
وروى مسلم والنسائي عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:
«لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات- أى: تركهم صلاة الجمعة- أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين..» .
قال القرطبي ما ملخصه: وإنما سميت الجمعة جمعة، لأنها مشتقة من الجمع حيث يجتمع الناس فيها للصلاة.. وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة ...
قال البيهقي: وروينا عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهري، أن مصعب بن عمير، كان أول من جمّع الجمعة بالمدينة للمسلمين، قبل أن يهاجر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال القرطبي: وأما أول جمعة جمعها صلى الله عليه وسلم بأصحابه، قال أهل السير والتاريخ:
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا حتى نزل بقباء، على بنى عمرو بن عوف، يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى- ومن تلك السنة يعد التاريخ- فأقام بقباء إلى يوم الخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة، فأدركته الجمعة في بنى سالم بن عوف، في بطن واد لهم، فجمع بهم وخطب، وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، وقال فيها: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه.. «1» .
2- الآية الكريمة وإن كانت قد أمرت المؤمنين بالسعي إلى صلاة الجمعة عند النداء لها، إلا أن هناك أحاديث متعددة تحض على التبكير بالحضور إليها، وبالغسل لها، وبمس الطيب، وبالحضور إليها على أحسن حالة..
ومن تلك الأحاديث ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة- أى: كغسل الجنابة- ثم راح إلى المسجد، فكأنما قرب بدنة- أى: ناقة ضخمة.. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن- أى له قرون- ومن راح في الساعة الرابعة
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 99.(14/392)
فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» .
وروى ابن ماجة عن ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر ترواحهم إلى الجمعات، الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، وما رابع أربعة من الله ببعيد» .
وروى الشيخان عن أبى سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على كل مسلم الغسل يوم الجمعة، ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيب مس منه..» .
3- أخذ العلماء من قوله- تعالى-: ... إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ.. أن صلاة الجمعة فريضة محكمة، وأن السعى لأدائها واجب، وأن ترك ذلك محرم شرعا..
ومن المعروف بين العلماء أن الأمر يقتضى الوجوب، ما لم يوجد له صارف، ولا صارف له هنا..
قال الإمام القرطبي: فرض الله- تعالى- الجمعة على كل مسلم، ردا على من يقول:
إنها فرض على الكفاية، ونقل عن بعض الشافعية أنها سنة.
وجمهور الأمة والأئمة أنها فرض على الأعيان، لقوله- تعالى-: ... إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ....
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين» .
وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها.. «1» .
قال بعض العلماء: جاء في الآية الكريمة الأمر بالسعي، والأمر للوجوب فيكون السعى واجبا، وقد أخذ العلماء من ذلك أن الجمعة فريضة، لأنه- سبحانه- قد رتب الأمر للذكر على النداء للصلاة، فإذا كان المراد بالذكر هو الصلاة، فالدلالة ظاهرة، لأنه لا يكون السعى لشيء واجبا، حتى يكون ذلك الشيء واجبا.
وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط، فهو كذلك لأن الخطبة شرط الصلاة، وقد أمر بالسعي إليه، والأمر للوجوب، فإذا وجب السعى للمقصود تبعا، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب ...
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 105.(14/393)
كما أن الاشتغال بالبيع أو الشراء وقت النداء محرم، لأن الأمر للوجوب، وقال بعضهم:
هو مكروه كراهة تحريم.. «1» .
ومما يدل على أن صلاة الجمعة فريضة محكمة، وأن السعى إليها واجب، وأن الاشتغال عنها بالبيع أو الشراء محرم، ما جاء في الأحاديث من الأمر بالمحافظة عليها، ومن التحذير من تركها، ومن ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبى الجعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من ترك ثلاث جمع تهاونا بها، طبع الله على قلبه» .
4- قوله- تعالى-: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ.. يدل دلالة واضحة، على سمو شريعة الإسلام، وعلى سماحتها ويسرها، وجمعها بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة.
ومع أن هذا الأمر بالانتشار بعد الصلاة للإباحة- كما سبق أن قلنا- إلا أن بعض السلف كان إذا انتهت الصلاة، خرج من المسجد، ودار في السوق ساعة، ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء أن يصلى.
قال الإمام ابن كثير: كان عراك بن مالك- أحد كبار التابعين- إذا صلى الجمعة، انصرف فوقف على باب المسجد وقال: اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتنى، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين.. «2» .
هذا، وهناك أحكام أخرى توسع المفسرون والفقهاء في الحديث عنها، فليرجع إليها من شاء المزيد من معرفة هذه الأحكام والآداب..
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الجمعة» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
القاهرة: مدينة نصر:
صباح الثلاثاء 10 من شوال سنة 1406 هـ الموافق 17/ 6/ 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 152 للشيخ محمد على السائس.
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 149.(14/394)
تفسير سورة المنافقون(14/395)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «المنافقون» من السور المدنية الخالصة، وعدد آياتها إحدى عشرة آية، وكان نزولها بعد سورة «الحج» ، وقبل سورة «المجادلة» «1» .
وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة، فقد جاء في حديث زيد بن أرقم- الذي سنذكره خلال تفسيرنا لها- أنه قال: «فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين» .
وقال الآلوسى: أخرج سعيد بن منصور، والطبراني في الأوسط- بسند حسن- عن أبى هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين ويقرأ في الركعة الثانية بسورة المنافقين، فيقرع بها المنافقين.
2- والمحققون من العلماء على أن هذه السورة، نزلت في غزوة بنى المصطلق، وقد جاء ذلك في بعض الروايات التي وردت في سبب نزول بعض آياتها، والتي سنذكرها خلال تفسيرنا لها- بإذن الله- وكانت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة.
وذكر بعضهم أنها نزلت في غزوة «تبوك» ، ومما يشهد لضعف هذا القول، أن المنافقين في هذا الوقت- وهو السنة التاسعة من الهجرة، كانوا قد زالت دولتهم، وضعف شأنهم، وما كان لواحد منهم أن يقول: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.
3- وسميت هذه السورة بسورة «المنافقون» ، لأنها فضحتهم، ووصفتهم بما هم أهله من صفات ذميمة، ومن طباع قبيحة، ومن مسالك سيئة ... ويكاد حديثها يكون مقصورا عليهم، وعلى أكاذيبهم ودسائسهم.
وحديث القرآن عن النفاق والمنافقين، قد ورد في كثير من السور المدنية، ففي سورة البقرة نجد حديثا مستفيضا عنهم، يبدأ بقوله- تعالى-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
وفي سورة آل عمران نجد توبيخا من الله- تعالى- لهم، كما في قوله- عز وجل-:
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا، لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
__________
(1) راجع الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 27 للسيوطي.(14/397)
وفي سورة النساء نجد آيات متعددة تتحدث عن قبائحهم، ومن ذلك قوله- تعالى-:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً.
أما سورة «التوبة» فهي أكثر السور حديثا عنهم، ولذا سميت بالفاضحة لأنها فضحتهم على رءوس الأشهاد، كما سميت بالمنقرة، لأنها نقرت عما في قلوبهم، وكشفت عنه، كما سميت بالمبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم.. «1» .
والحق أنه لا تكاد تخلو سورة من السور المدنية، من الحديث عن المنافقين وعن سوء سلوكهم وأخلاقهم. ووجوب ابتعاد المؤمنين عنهم.
4- والنفاق إنما يظهر ويفشو حيث تكون القوة، لذا لم يكن للمنافقين أثر في العهد المكي، لأن المؤمنين كانوا قلة مستضعفين في الأرض، ومن كان هذا شأنه لا ينافقه الناس، فضلا عن أن مشركي مكة كانوا بطبيعتهم جبابرة، وكانوا يعلنون حربهم على الدعوة الإسلامية إعلانا سافرا. لا التواء معه ولا مداهنة.
أما المؤمنون في العهد المدني، فقد كانوا أقوياء خصوصا بعد أن أسسوا دولتهم، وانتصروا على المشركين في غزوة بدر.. كما انتصروا على اليهود.. فظهرت حركة النفاق في المدينة، لمداهنة المؤمنين، وللحصول على نصيبهم من الغنائم التي يغنمها المؤمنون.. ولغير ذلك من الأسباب التي ذكرها العلماء والمؤرخون ... «2» .
وسورة «المنافقون» فضحت أحوالهم، وكشفت عن دخائلهم وعن خسة نفوسهم..
وختمت بموعظة المؤمنين، وبحثهم على الإنفاق في سبيل الله، وعلى تقديم العمل الصالح، الذي ينفعهم في دنياهم وفي آخرتهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر مساء الثلاثاء: 10 من شوال سنة 1406 هـ 17/ 6/ 1986 م د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) راجع مقدمة تفسيرنا لسورة التوبة.
(2) راجع على سبيل المثال كتاب: (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم) ج 2 ص 176 للأستاذ محمد عزت دروزة. [.....](14/398)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
افتتح الله- تعالى- السورة الكريمة، بالحديث عن صفة من أبرز الصفات الذميمة للمنافقين، ألا وهي صفة الكذب والخداع، فقال- تعالى- إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ....
وإِذا هنا ظرف للزمان الماضي، بقرينة كون جملتيها ماضيتين، وجواب «إذا» قوله قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ... والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
والْمُنافِقُونَ جمع منافق، وهو من يظهر الإسلام ويخفى الكفر، أو من يظهر خلاف ما يبطن من أقوال وأفعال.
أى: إذا حضر المنافقون إلى مجلسك- أيها الرسول الكريم- قالوا لك على سبيل الكذب والمخادعة والمداهنة.. نشهد أنك رسول من عند الله- تعالى-، وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك.(14/399)
وعبروا عن التظاهر بتصديقهم له صلى الله عليه وسلم بقولهم نَشْهَدُ- المأخوذ من الشهادة التي هي إخبار عن أمر مقطوع به- وأكدوا هذه الشهادة بإنّ واللام، للإيهام بأن شهادتهم صادقة، وأنهم لا يقصدون بها إلا وجه الحق، وأن ما على ألسنتهم يوافق ما في قلوبهم.
قال الشوكانى: أكدوا شهادتهم بإنّ واللام، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم، مع خلوص نياتهم، والمراد بالمنافقين، عبد الله بن أبى وأتباعه.
ومعنى نشهد: نحلف، فهو يجرى مجرى القسم، ولذا يتلقى بما يتلقى به القسم ...
ومثل نشهد: نعلم، فإنه يجرى مجرى القسم كما في قول الشاعر:
ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها «1»
وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها، من كونه صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله- تعالى- حقا.
وجملة: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ معطوفة على قوله: قالُوا نَشْهَدُ.
أى: إذا حضر المنافقون إليك- أيها الرسول الكريم- قالوا كذبا وخداعا: نشهد إنك لرسول الله، والله- تعالى- يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ حقا سواء شهدوا بذلك أم لم يشهدوا، فأنت لست في حاجة إلى هذه الشهادة التي تخالف بواطنهم.
وَاللَّهُ- تعالى- يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ في قولهم: نشهد إنك لرسول الله، لأن قولهم هذا يباين ما أخفته قلوبهم المريضة، من كفر ونفاق وعداوة لك وللحق الذي جئت به.
والإيمان الحق لا يتم إلا إذا كان ما ينطق به اللسان، يوافق ويواطئ. ما أضمره القلب، وهؤلاء قد قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فثبت كذبهم في قولهم: نشهد إنك لرسول الله..
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى: فائدة في قوله- تعالى-: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ؟ قلت: لو قال: قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب، فوسط بينهما قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ليميط هذا الإيهام.. «2» .
وجيء بالفعل يَشْهَدُ في الإخبار عن كذبهم فيما قالوه، للمشاكلة، حتى يكون إبطال خبرهم مساويا لإخبارهم ولما نطقوا به.
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 5 ص 230.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 538.(14/400)
ثم بين- سبحانه- جانبا من الوسائل التي كانوا يستعملونها لكي يصدقهم من يسمعهم فقال- تعالى-: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً..
والأيمان: - بفتح الهمزة- جمع يمين، والجنّة- بضم الجيم- ما يستتر به المقاتل ليتقى ضربات السيوف والرماح والنبال..
أى: أن هؤلاء المنافقين إذا ظهر كذبهم، أو إذا جوبهوا بما يدل على كفرهم ونفاقهم، أقسموا، بالأيمان المغلظة بأنهم ما قالوا أو فعلوا ما يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى المؤمنين..
فهم يستترون بالحلف الكاذب، حتى لا يصيبهم أذى من المؤمنين، كما يستتر المقاتل بترسه من الضربات.
وقد حكى القرآن كثيرا من أيمانهم الكاذبة، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ «1» .
وقوله- سبحانه-: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ... «2» .
وقوله- عز وجل-: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ «3» .
قال الآلوسى: قال قتادة: كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم، حلفوا كاذبين، عصمة لأموالهم ودمائهم.. «4» .
والفاء في قوله- تعالى-: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... للتفريع على ما تقدم.
أى: اتخذوا أيمانهم الفاجرة ذريعة أمام المؤمنين لكي يصدقوهم، فتمكنوا عن طريق هذه الأيمان الكاذبة، من صد بعض الناس عن الصراط المستقيم، ومن تشكيكهم في صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
فهم قد جمعوا بين رذيلتين كبيرتين: إحداهما: تعمّد الأيمان الكاذبة، والثانية: إعراضهم عن الحق، ومحاولتهم صرف غيرهم عنه.
__________
(1) سورة التوبة الآية 56.
(2) سورة التوبة الآية 74.
(3) سورة التوبة الآية 62.
(4) تفسير الآلوسى ج 28 ص 109.(14/401)
وقوله- سبحانه-: إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ تذييل قصد به بيان قبح أحوالهم، وسوء عاقبتهم.
و «ساء» : فعل ماض بمعنى بئس في إفادة الذم، و «ما» موصولة والعائد محذوف.
أى: إن هؤلاء المنافقين بئس ما كانوا يقولونه من أقوال كاذبة، وساء ما كانوا يفعلونه من أفعال قبيحة، سيكونون بسببها يوم القيامة في الدرك الأسفل من النار.
واسم الإشارة في قوله- تعالى- بعد ذلك: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا يعود إلى ما تقدم ذكره من الكذب، ومن الصد عن سبيل الله، ومن قبح الأقوال والأفعال.
أى: ذلك الذي ذكر من حالهم الذي دأبوا عليه من الكذب والخداع والصد عن سبيل الله ... سببه أنهم آمَنُوا أى: نطقوا بكلمة الإسلام بألسنتهم دون أن يستقر الإيمان في قلوبهم، ثم كفروا، أى: ثم ارتكسوا في الكفر واستمروا عليه، وظهر منهم ما يدل على رسوخهم فيه ظهورا جليا، كقولهم: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ ... وكقولهم للمجاهدين:
لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ....
فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أى: فختم الله- تعالى- عليها بالكفر نتيجة إصرارهم عليه، فصاروا، بحيث لا يصل إليها الإيمان.
فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أى: فهم لا يدركون حقيقة الإيمان أصلا، ولا يشعرون به، ولا يفهمون حقائقه لانطماس بصائرهم.
وقوله: ذلِكَ مبتدأ، وقوله بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... خبر: والباء للسببية.
وثُمَّ للتراخي النسبي، لأن إبطان الكفر مع إظهار الإيمان أعظم من الكفر الصريح، وأشد ضررا وقبحا.
قال صاحب الكشاف: فان قلت: المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله: آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا؟.
قلت: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: آمنوا: أى نطقوا بكلمة الشهادة، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا. أى: ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع الله عليه المؤمنين من قولهم: إن كان ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم حقا فنحن حمير..
والثاني: آمنوا، أى: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام، كقوله- تعالى-: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ.(14/402)
الثالث: أن يراد أهل الردة منهم.. «1» .
ثم رسم- سبحانه- لهم بعد ذلك صورة تجعل كل عاقل يستهزئ بهم، ويحتقرهم، ويسمو بنفسه عن الاقتراب منهم. فقال- تعالى-: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ. وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ.
قال القرطبي: قال ابن عباس: كان عبد الله بن أبى، وسيما جسيما صحيحا صبيحا، ذلق اللسان، فإذا قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. «2»
وقال الكلبي: المراد ابن أبى، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر، وفصاحة ...
وخُشُبٌ- بضم الخاء والشين- جمع خشبة- بفتحهما- كثمرة وثمر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: كأنهم خشب- بضم الخاء وسكون الشين- كبدنة وبدن.
أى: وإذا رأيت- أيها الرسول الكريم- هؤلاء المنافقين، أعجبتك أجسامهم، لكمالها وحسن تناسقها، وإن يقولوا قولا حسبت أنه صدق، لفصاحته، وأحببت الاستماع إليه لحلاوته.
وعدى الفعل «تسمع» باللام، لتضمنه معنى تصغ لقولهم.
وجملة: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ مستأنفة، أو خبر لمبتدأ محذوف.
أى: كأنهم وهم جالسون في مجلسك، مستندين على الجدران، وقد خلت قلوبهم من الخير والإيمان، كأنهم بهذه الحالة، مجموعة من الأخشاب الطويلة العريضة، التي استندت إلى الحوائط، دون أن يكون فيها حسن، أو نفع، أو عقل.
فهم أجسام تعجب، وأقوال تغرى بالسماع إليها، ولكنهم قد خلت قلوبهم من كل خير، وامتلأت نفوسهم بكل الصفات الذميمة. فهم كما قال القائل:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير
وشبههم- سبحانه- بالخشب المسندة على سبيل الذم لهم، أى: كأنهم في عدم الانتفاع بهم، وخلوهم من الفائدة كالأخشاب المسندة إلى الحوائط الخالية من أية فائدة.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 539.
(2) تفسير القرطبي ج 18 ص 124.(14/403)
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: فإن قلت: ما معنى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ قلت: شبهوا في استنادهم- وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحوائط لأن الخشب إذا انتفع به، كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به، أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع.
ويجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب، المسندة إلى الحيطان، وشبهوا بها في حسن صورهم، وقلة جدواهم، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يخاطب.. «1» .
فأنت ترى القرآن الكريم وصفهم بتلك الصفة البديعة في التنفير منهم وعدم الاغترار بمظهرهم لأنهم كما قال القائل:
لا تخدعنك اللحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا ... وليس فيه لطالب مطر
في شجر السرو منهم شبه ... له رواء وماله ثمر
ثم وصفهم- سبحانه- بعد ذلك بالجبن والخور فقال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ....
والصيحة: المرة من الصياح، والمراد بها ما ينذر ويخيف أى: يظنون لجبن قلوبهم ولسوء نواياهم، وخبث نفوسهم- أن كل صوت ينادى به المنادى، لنشدان ضالة، أو انفلات دابة ... إنما هو واقع عليهم ضار بهم مهلك لهم..
قال الآلوسى: قوله: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أى: واقعة عليهم، ضارة لهم، لجبنهم وهلعهم.
وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله- تعالى- فيهم ما يهتك أستارهم، ويبيح دماءهم وأموالهم.
والوقف على «عليهم» الواقع مفعولا ثانيا ل «يحسبون» وهو وقف تام.
وقوله- تعالى-: هُمُ الْعَدُوُّ استئناف. أى: هم الكاملون في العداوة، والراسخون فيها، فإن أعدى الأعداء، العدو المداجى.
فَاحْذَرْهُمْ لكونهم أعدى الأعداء، ولا تغترن بظواهرهم.. «2» .
__________
(1) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 540.
(2) تفسير الآلوسى ج 28 ص 112.(14/404)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
وقوله- سبحانه-: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ دعاء عليهم بالطرد من رحمة الله- تعالى-، وتعجيب لكل مخاطب من أحوالهم التي بلغت النهاية في السوء والقبح.
عن ابن عباس أن معنى قاتَلَهُمُ اللَّهُ طردهم من رحمته ولعنهم، وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن.. «1» .
وأَنَّى بمعنى كيف، ويُؤْفَكُونَ بمعنى يصرفون، من الأفك- بفتح الهمزة والفاء- بمعنى الانصراف عن الشيء.
أى: لعن الله- تعالى- هؤلاء المنافقين، وطردهم من رحمته، لأنهم بسيب مسالكهم الخبيثة، وأفعالهم القبيحة، وصفاتهم السيئة ... صاروا محل مقت العقلاء، وعجبهم، إذ كيف ينصرفون عن الحق الواضح إلى الباطل الفاضح، وكيف يتركون النور الساطع، ويدخلون في الظلام الدامس؟!! وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة: قد فضحت المنافقين، وحذرت من شرورهم، ووصفتهم بالصفات التي تخزيهم، وتكشف عن دخائلهم المريضة.
ثم وصفهم- سبحانه- بصفات أخرى، لا تقل في قبحها وبشاعتها عن سابقتها فقال- تعالى-:
[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 10 ص 113.(14/405)
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة، فصلها الإمام ابن كثير- رحمه الله- فقال ما ملخصه:
وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبى بن سلول وأتباعه، فقد ذكر محمد بن إسحاق، أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بعد غزوة أحد، قام عبد الله بن أبى، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب للجمعة، فقال: أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمكم الله به.. فأخذ بعض المسلمين بثيابه من نواحيه وقالوا له: اجلس يا عدو الله، لست لهذا المقام بأهل، وقد صنعت ما صنعت- يعنون مرجعه بثلث الناس دون أن يشتركوا في غزوة أحد-.
فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا- أى: أمرا منكرا- أن قمت أشدد أمره.
فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد، فقالوا له: ويلك، مالك؟ .. ارجع للنبي يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أبتغى أن يستغفر لي.
وفي رواية أنه قيل له: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته أن يستغفر لك، فجعل يلوى رأسه ويحركه استهزاء ...
ثم قال الإمام ابن كثير- رحمه الله- ما ملخصه: وذكر ابن إسحاق في حديثه عن غزوة بنى المصطلق- وكانت في شعبان من السنة الخامسة من الهجرة- أن غلاما لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- اسمه الجهجاه بن سعيد الغفاري تزاحم على ماء مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وبر..
فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبى- وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم- وقال: أو قد فعلوها؟!! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما مثلنا وجلابيب قريش- يعنى المهاجرين- إلا كما قال القائل: «سمن كلبك يأكلك» والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل.
فذهب زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ...(14/406)
فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله، مر عباد بن بشر فليضرب عنق عبد الله بن أبى بن سلول.
فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف إذا الناس تحدث يا عمر، أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، ولكن ناد يا عمر في الناس بالرحيل.
فلما بلغ عبد الله بن أبى أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال الذي قاله عنه زيد بن أرقم..
وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير، فقال له: يا رسول الله، لقد رحت في ساعة ما كنت تروح فيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبى؟ زعم أنه إذا قدم المدينة أنه سيخرج الأعزّ منها الأذلّ.
فقال أسيد: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل..
وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت الذي لم يتعود السفر فيه، ليشغل الناس عن الحديث، الذي كان من عبد الله بن أبى.
قال ابن إسحاق: ونزلت سورة المنافقين في ابن أبىّ وأتباعه، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال: هذا الذي أوفى الله بأذنه.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى زيد فقرأها عليه ثم قال: «إن الله قد صدقك» ثم قال ابن إسحاق: وبلغني أن عبد الله بن عبد الله بن أبى بلغه ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبى.. فإن كنت فاعلا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى، وإنى أخشى أن تأمر غيرى بقتله، فلا تدعني نفسي أن أرى قاتل أبى يمشى على الأرض فأقتله، فأكون قد قتلت مؤمنا بكافر، فأدخل النار.
فقال صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به ونحسن صحبته، ما بقي معنا» .
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما: أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبد الله بن عبد الله بن أبى على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه قال له: وراءك فقال له أبوه: ويلك مالك؟ فقال: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل.(14/407)
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسير في مؤخرة الجيش شكا إليه عبد الله بن أبى ما فعله ابنه عبد الله معه.
فقال ابنه: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عبد الله لأبيه: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن «1» .
والآن وبعد ذكر جانب من هذه الآثار التي وردت في سبب نزول هذه الآيات، نعود إلى تفسيرها فنقول وبالله التوفيق.
قوله- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ.. بيان لصفة أخرى من صفات المنافقين، تدل على عنادهم وإصرارهم على كفرهم ونفاقهم.
والقائل لهم: تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ جماعة من المؤمنين، على سبيل النصح لهؤلاء المنافقين لعلهم يقلعون عن كفرهم وفجورهم.
والمراد باستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: توبتهم من ذنوبهم، وتركهم لنفاقهم، وإعلان ذلك أمامه صلى الله عليه وسلم لكي يدعو الله- تعالى- لهم بقبول توبتهم.
وقوله: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ من اللى بمعنى الإمالة من جانب إلى آخر، يقال: لوى فلان رأسه، إذا أمالها وحركها، وهو كناية عن التكبر والإعراض عن النصيحة.
أى: وإذ قال قائل لهؤلاء المنافقين: لقد نزل في شأنكم ما نزل من الآيات القرآنية التي تفضحكم.. فتوبوا إلى الله توبة نصوحا، وأقلعوا عن نفاقكم، وأقبلوا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلب سليم، لكي يستغفر الله- تعالى- لكم، بأن يلتمس منه قبول توبتكم..
ما كان من هؤلاء المنافقين، إلا أن تكبروا ولجوا في طغيانهم، وأمالوا رءوسهم استهزاء وسخرية ممن نصحهم.
وَرَأَيْتَهُمْ أيها المخاطب يَصُدُّونَ أى: يعرضون عن النصيحة وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن قبولها، لانطماس بصائرهم، وإصرارهم على ما هم فيه من باطل وجحود للحق.
قال الآلوسى ما ملخصه: روى أنه لما صدق الله- تعالى- زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبى، مقت الناس ابن أبى، وقال له بعضهم: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك، يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأى، وقال لهم: لقد أشرتم على بالإيمان
__________
(1) لمعرفة هذه الآثار بالتفصيل راجع تفسير ابن جرير ج 28 ص 71، وتفسير ابن كثير ج 8 ص 152.(14/408)
فآمنت، وأشرتم على بأن أعطى زكاة مالي فأعطيت.. ولم يبق لكم إلا أن تأمرونى بالسجود لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أخرجه أحمد والشيخان.. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم ليستغفر لهم، فلووا رءوسهم.. «1» .
وقوله: يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ... مجزوم في جواب الأمر، وهو قوله: تَعالَوْا وقوله:
لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ جواب إِذا.
والتعبير بقوله: تَعالَوْا تتضمن إرادة تخليص هؤلاء المنافقين مما هم فيه من ضلال، وإرادة ارتفاعهم من انحطاط هم فيه إلى علو يدعون إليه، لأن الأصل في كله «تعال» أن يقولها من كان في مكان عال، لمن هو أسفل منه.
والتعبير بقوله- تعالى-، وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يرسم صورة بغيضة لهم وهم يتركون دعوة الناصح لهم، بعناد وتكبر وغرور، وبراهم الرائي بعينه وهم على تلك الصورة المنكرة، التي تدل على جهالاتهم وإعراضهم عن كل خير.
وقوله- سبحانه-: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ..
تيئيس له صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، ومن قبولهم للحق.
ولفظ «سواء» اسم مصدر بمعنى الاستواء، والمراد به الفاعل. أى: مستو، ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر، كما في قوله- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... أى: مستوية.
أى: إن هؤلاء الراسخين في الكفر والنفاق، قد استوى عندهم استغفارك لهم وعدم استغفارك، فهم لتأصل الجحود فيهم صاروا لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا يؤمنون بثواب أو عقاب ... ولذلك فلن يغفر الله- تعالى- لهم مهما حرصت على هدايتهم وصلاحهم.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تعليل لانتفاء المغفرة من الله- تعالى- لهم.
أى: لن يغفر الله- تعالى- لهم، لأن سنته- سبحانه- قد اقتضت أن لا يهدى إلى طاعته، وأن لا يشمل بمغفرته، من فسق عن أمره، وآثر الباطل على الحق، والكفر على الإيمان، لسوء استعداده، واتباعه لخطوات الشيطان.
وقوله- سبحانه-: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ...
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 112.(14/409)
كلام مستأنف جار مجرى التعليل لفسقهم، وحكاية لجانب من أقوالهم الفاسدة ...
والقائل هو عبد الله بن أبى، كما جاء في روايات أسباب النزول لهذه الآيات، والتي سبق أن ذكرنا بعضها.
ونسب- سبحانه- القول إليهم جميعا، لأنهم رضوا به، وقبلوه منه.
ومرادهم بمن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهاجرون الذين تركوا ديارهم في مكة، واستقروا بالمدينة.
أى: إن هؤلاء المنافقين لن يغفر الله- تعالى- لهم، لأنهم فسقوا عن أمره، ومن مظاهر فسوقهم وفجورهم، أنهم أيدوا زعيمهم في النفاق، عند ما قال لهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله من فقراء المهاجرين، ولا تقدموا لأحد منهم عونا أو مساعدة، حتى ينفضوا من حوله. أى: حتى يتفرقوا من حوله. يقال: انفض القوم: إذا فنيت أزوادهم يقال: نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض، إذ انتهى زاده. وليس مرادهم حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه، فإذا فعلوا ذلك فأنفقوا عليهم. وإنما مرادهم، استمروا على عدم مساعدتكم لهم، حتى يتركوا المدينة، وتكون مسكنا لكم وحدكم.
وقوله- سبحانه-: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ.
والخزائن: جمع خزينة، وهي ما يخزن فيها المال والطعام وما يشبههما، والمراد بها أرزاق العباد التي يمنحها الله- تعالى- لعباده.
أى: ولله- تعالى- وحده لا لأحد غيره، ملك أرزاق العباد جميعا: فيعطى من يشاء، ويمنع من يشاء، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك ولا يدركونه، لجهلهم بقدرة الله- تعالى-، ولاستيلاء الجحود والضلال على نفوسهم.
ثم حكى- سبحانه- قولا آخر من أقوالهم القبيحة فقال: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ....
والقائل هو عبد الله بن سلول، ولكن القرآن نسب القول إليهم جميعا لأنهم رضوا بقوله، ووافقوه عليه.
وجاء الأسلوب بصيغة المضارع، لاستحضار هذه المقالة السيئة، وتلك الصورة البغيضة لهؤلاء القوم.
والأعز: هو القوى لعزته، بمعنى أنه يغلب غيره، والأذل هو الذي يغلبه غيره لذلته وضعفه.(14/410)
وأراد عبد الله بن أبى بالأعز، نفسه، وشيعته من المنافقين، وأراد بالأذل، الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين وغيرهم من المؤمنين الصادقين.
والمراد بالرجوع في قوله لَئِنْ رَجَعْنا الرجوع إلى المدينة بعد انتهاء غزوة بنى المصطلق.
أى: يقول هؤلاء المنافقون- على سبيل التبجح وسوء الأدب- لئن رجعنا إلى المدينة بعد انتهاء هذه الغزوة، ليخرجن الفريق الأعز منا الفريق الأذل من المدينة، حتى لا يبقى فيها أحد من هذا الفريق الأذل، بل تصبح خالية الوجه لنا. وقد رد الله- تعالى- على مقالتهم الباطلة هذه بما يخرس ألسنتهم فقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.
أى: لقد كذب المنافقون فيما قالوه، فإن لله- تعالى- وحده العزة المطلقة والقوة التي لا تقهر، وهي- أيضا- لمن أفاضها عليه من رسله ومن المؤمنين الصادقين، وهي بعيدة كل البعد عن أولئك المنافقين.
وقال- سبحانه-: وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بإعادة حرف الجر، لتأكيد أمر هذه العزة، وأنها متمكنة منهم لأنها مستمدة من إيمانهم بالله- تعالى- وحده.
وقوله- تعالى-: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ استدراك قصد به تجهيل هؤلاء المنافقين، أى: ليست العزة إلا لله- تعالى- ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك، ولا يعرفونه لاستيلاء الجهل والغباء عليهم، لأنهم لو كانت لهم عقول تعقل، لعلموا أن العزة لدعوة الحق، بدليل انتشارها في الآفاق يوما بعد يوم، وانتصار أصحابها على أعدائهم حينا بعد حين، وازدياد سلطانهم وقتا بعد وقت.
قال صاحب الكشاف قوله- تعالى-: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ ... أى: الغلبة والقوة لله- تعالى-، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله، ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أن المذلة والهوان، للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.
وعن الحسن بن على- رضى الله عنهما- أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها، قال: ليس بتيه، ولكنه عزة، وتلا هذه الآية «1» .
وقال الإمام الرازي: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه- لغير الله- فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه، وإكرامها عن أن يضعها في غير موضعها اللائق بها، كما
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 543. [.....](14/411)
أن الكبر جهل الإنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلتها. فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، فالتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم والعزة محمودة.. «1» .
هذا، وإن المتدبر لهذه الآيات الكريمة وفي أسباب نزولها، ليرى فيها ألوانا من العظات والعبر.
يرى فيها التصرف الحكيم من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أنه صلى الله عليه وسلم بمجرد أن بلغته تلك الأقوال التي قالها عبد الله بن أبى، لكي يثير الفتنة بين المسلمين، ما كان منه إلا أن أمر عمر ابن الخطاب، بأن ينادى في الناس بالرحيل.. لكي يشغل الناس عما تفوه به ابن أبى، حتى لا يقع بينهم ما لا تحمد عقباه.
كما يرى كيف أنه صلى الله عليه وسلم عالج تلك الأحداث بحكمة حكيمة فعند ما أشار عليه عمر- رضى الله عنه- بقتل ابن أبى.. ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له: يا عمر، كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟! وأبى صلى الله عليه وسلم أن يأمر بقتله بل ترك لعشيرته من الأنصار تأديبه وتوبيخه.
ولقد بلغ الحال بابنه عبد الله- رضى الله عنه- وهو أقرب الناس إليه، أن يمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخولها.
كما يرى المتدبر لهذه الآيات، والأحداث التي نزلت فيها، أن النفوس إذا جحدت الحق، واستولت عليها الأحقاد، واستحوذ عليها الشيطان.. أبت أن تسلك الطريق المستقيم، مهما كانت معالمه واضحة أمامها..
فعبد الله بن أبى وجماعته، وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحارب لها ولأتباعها، وسلكوا في إذاعة السوء حول الرسول صلى الله عليه وسلم وحول أصحابه كل مسلك.. مع أن آيات القرآن الكريم، كانت تتلى على مسامعهم صباح مساء، ومع أن إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تصل إليهم يوما بعد يوم، ومع أن المؤمنين الصادقين كانوا لا يكفون عن نصحهم ووعظهم..
كما نرى أن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب، ضحى الإنسان من أجله بكل شيء..
فعبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبى، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه..
__________
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 151.(14/412)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
ثم يقف على باب المدينة شاهرا سيفه، ثم يمنع أباه من دخولها حتى يأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بدخولها، وحتى يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو العزيز، وأنه هو- أى عبد الله ابن أبى- هو الذليل.
وهكذا تعطينا هذه الآيات وأحداثها ما تعطينا من عبر وعظات..
ثم تختتم السورة الكريمة بنداء توجهه إلى المؤمنين، تأمرهم فيه بالمواظبة على طاعة الله- تعالى- وتنهاهم عن أن يشغلهم عن ذلك شاغل، وتحضهم على الإنفاق في سبيل إعلاء كلمته- سبحانه-، وعلى تقديم العمل الصالح الذي ينفعهم قبل فوات الأوان، قال- تعالى-:
[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
والمقصود من هذه الآيات الكريمة نهى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين الذين سبق الحديث عنهم بصورة مفصلة، وحضهم على الاستجابة لما كلفهم الله- تعالى- به. أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- إيمانا حقا، لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... أى:
لا تشغلكم أموالكم التي تهتمون بجمعها وتحصيلها.. ولا أولادكم الذين هم أشهى ثمرات حياتكم.. لا يشغلكم ذلك عن أداء ما كلفكم- سبحانه- بأدائه من طاعات، فالمراد بذكر الله، ما يشمل جميع التكاليف من صلاة وزكاة وصيام وحج، وغير ذلك من الطاعات التي أمر الله- تعالى- بها.
وخص الأموال والأولاد بتوجه النهى عن الاشتغال بهما اشتغالا يلهى عن ذكر الله، لأنهما أكثر الأشياء التي تلهى عن طاعة الله- تعالى-..(14/413)
فمن أجل الاشتغال بجمع المال، يقضى الإنسان معظم حياته، وكثير من الناس من أجل جمع المال، يضحون بما يفرضه عليهم دينهم من واجبات، ومن أخلاق، ومن سلوك وآداب..
ومن أجل راحة الأولاد قد يضحى الآباء براحتهم، وبما تقضى به المروءة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «الولد مجبنة مبخلة» .
والتعبير بقوله- تعالى-: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يشعر بأن المسلم إذا اشتغل بجمع المال. وبرعاية الأولاد، دون أن يصرفه ذلك عن طاعة الله، أو عن أداء حق من حقوقه- تعالى-، فإن هذا الاشتغال لا يكون مذموما، بل يكون مرضيا عنه من الله- تعالى-.
واسم الإشارة في قوله- سبحانه-: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعود إلى ما سبق ذكره من اللهو عن ذكر الله، بسبب الأموال والأولاد.
أى: ومن يشغله حبه لماله وأولاده عن ذكر الله، وعن أداء ما كلفه- سبحانه- به، فأولئك هم البالغون أقصى درجات الخسران والغفلة. لأنهم خالفوا ما أمرهم به ربهم، وآثروا ما ينفعهم في عاجلتهم الفانية، على ما ينفعهم في آجلتهم الباقية، ثم حضهم- سبحانه- على الإنفاق في سبيله فقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
والمراد بالإنفاق: إنفاق المال في وجوه الخير والطاعات، فيشمل الزكاة المفروضة، والصدقات المستحبة، وغير ذلك من وجوه البر والخير.
و «من» في قوله- تعالى- مِمَّا رَزَقْناكُمْ للتبعيض إذ المطلوب إنفاقه بعض المال الذي يملكه الإنسان، وليس كله، وهذا من باب التوسعة منه- تعالى- على عباده، ومن مظاهر سماحة شريعته- عز وجل-.
والمراد بالموت: علاماته وأماراته الدالة على قرب وقوعه.
وقوله فَيَقُولَ معطوف على قوله أَنْ يَأْتِيَ ومسبب عنه.
ولَوْلا بمعنى هلا فهي حرف تحضيض.
وقوله: فَأَصَّدَّقَ منصوب على أنه في جواب التمني، وقوله: وَأَكُنْ بالجزم، لأنه معطوف على محل فَأَصَّدَّقَ كأنه قيل: إن أخرتنى إلى أجل قريب أتصدق وأكن من الصالحين.
والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن طاعة الله(14/414)
- تعالى- بل داوموا عليها كل المداومة، وأنفقوا بسخاء وسماحة نفس مما أعطيناكم من أرزاق كثيرة، ومن نعم لا تحصى، وليكن إنفاقكم من قبل أن تنزل بأحدكم أمارات الموت وعلاماته ...
وحينئذ يقول أحدكم يا رب، هلا أخرت وفاتي إلى وقت قريب من الزمان لكي أتدارك ما فاتنى من تقصير، ولكي أتصدق بالكثير من مالي، وأكون من عبادك الصالحين.
وقال- سبحانه- مِمَّا رَزَقْناكُمْ فأسند الرزق إليه، لكي يكون أدعى إلى الامتثال والاستجابة، لأنه- سبحانه- مع أن الأرزاق جميعها منه، إلا أنه- فضلا منه وكرما- اكتفى منهم بإنفاق جزء من تلك الأرزاق.
وقدم- سبحانه- المفعول وهو «أحدكم» على الفاعل وهو «الموت» ، للاهتمام بالمفعول، وللإشعار بأن الموت نازل بكل إنسان لا محالة.
والتعبير بقوله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ... يشعر بأن القائل قد قال ذلك زيادة في تأميل الاستجابة، فكأنه يقول: يا رب ألتمس منك أن تؤخر أجلى إلى وقت قريب لا إلى وقت بعيد لكي أتدارك ما فاتنى في هذا الوقت القريب الذي هو منتهى سؤالى، وغاية أملى..
وقد بين- سبحانه- بعد ذلك أنه لا تأخير في الأجل متى انتهى لا من قريب ولا من بعيد.. فقال: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها ...
أى: ولن يؤخر الله- تعالى- نفسا من النفوس، متى انتهى أجلها في هذه الحياة، وانقضى عمرها من هذه الدنيا، كما قال- سبحانه-: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ.
وقوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أى: والله- تعالى- مطلع اطلاعا تاما على أعمالكم الظاهرة والباطنة، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.
وبعد فهذا تفسير لسورة «المنافقون» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
القاهرة: صباح الجمعة 13 من شوال سنة 1406 هـ 30/ 6/ 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(14/415)
تفسير سورة التّغابن(14/417)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة التغابن هي السورة الرابعة والستون في ترتيب المصحف، أما نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم فكان- كما ذكره صاحب الإتقان بعد سورة «الجمعة» وقبل سورة «الصف» .
وعدد آياتها ثماني عشرة آية.
2- وجمهور المفسرين على أنها من السور المدنية.
قال الشوكانى: وهي مدنية في قول الأكثر، وقال الضحاك: هي مكية، وقال الكلبي:
هي مكية ومدنية.
أخرج ابن الضريس عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة التغابن بالمدينة.
وفي رواية أخرى عنه: أنها نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعى، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ.. إلى آخر السورة «1» .
ويبدو لنا أن بعض آيات هذه السورة يغلب عليها طابع القرآن المكي، كالآيات التي تتحدث عن مظاهر قدرة الله- تعالى- وعن إنكار المشركين للبعث والرد عليهم.
لذا نرجح- والله أعلم- أن النصف الأول منها من القرآن المكي، والنصف الأخير من القرآن المدني.
3- والسورة الكريمة بعد ذلك من أهم مقاصدها: تنزيه الله- تعالى- عن الشريك أو الولد، وبيان ألوان من مظاهر قدرته ومننه على خلقه، والرد على المشركين الذين زعموا أنهم لن يبعثوا، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار، وبيان أن كل شيء يقع في
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 5 ص 234.(14/419)
هذا الكون هو بقضاء الله وقدره. وتحريض المؤمنين على تقوى الله- تعالى- وعلى إيثار ما عنده على كل شيء من شهوات هذه الدنيا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر مساء الجمعة 13 من شوال 1406 هـ 30/ 6/ 1986 م د. محمد سيد طنطاوى(14/420)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
سورة «التغابن» هي آخر السور المفتتحة بالتسبيح، فقد قال- سبحانه- في مطلعها.
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.. أى: ينزه الله- تعالى- عن كل نقص، ويجله عن كل ما لا يليق به، جميع الكائنات التي في سماواته- سبحانه- وفي أرضه.
كما قال- عز وجل-: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «1» .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 44.(14/421)
وجيء هنا وفي سورة الجمعة بصيغة المضارع يُسَبِّحُ للدلالة على تجدد هذا التسبيح، وحدوثه في كل وقت وآن.
وجيء في سورة الحديد، والحشر، والصف، بصيغة الماضي سَبَّحَ. للدلالة على أن التسبيح قد استقر وثبت لله- تعالى- وحده، من قديم الزمان.
وقوله- سبحانه-: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مؤكد لما قبله، من بيان أن جميع الكائنات تسبح لله- تعالى- لأنه مالكها وصاحب الفضل المطلق عليها.
وتقديم الجار والمجرور لَهُ لإفادة الاختصاص والقصر.
أى: له- سبحانه- وحده ملك هذا الكون، وله وحده الحمد التام المطلق من جميع مخلوقاته، وليس لغيره شيء منهما، وإذا وجد شيء منهما لغيره فهو من فيضه وعطائه، إذ هو- سبحانه- القدير الذي لا يقف في وجه قدرته وإرادته شيء.
ثم بين- سبحانه- أقسام خلقه في هذه الحياة فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ.
والخطاب في قوله: خَلَقَكُمْ لجميع المكلفين من هذه الأمة.
والفاء في قوله: فَمِنْكُمْ كافِرٌ للتفريع المشعر بالتعجب من وجود من هو كافر بالله- تعالى- مع أنه- سبحانه- هو الذي خلقه، وخلق كل شيء.
وقدم ذكر الكافر، لأنه الأهم في هذا المقام، ولأنه الأكثر عددا في هذه الحياة.
أى: هو- سبحانه- الذي خلقكم بقدرته، دون أن يشاركه في ذلك مشارك، وزودكم بالعقول التي تعينكم على معرفة الخير من الشر، والنافع من الضار وأرسل إليكم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لكي يخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأنزل معه الكتاب الذي يدلكم على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه، وأمركم هذا الرسول الكريم بإخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، ولم يترك رسولنا صلى الله عليه وسلم وسيلة تهديكم إلى الحق إلا وأرشدكم إليها ...
ومع ذلك وجد منكم المختار للكفر بالحق، المعرض عن الإيمان بوحدانية الله- تعالى- وكان منكم المستجيب للحق باختياره المخلص في عقيدته لله- تعالى- المؤمن بوحدانيته، المؤدى لجميع التكاليف التي كلفه- سبحانه- بها.
قال القرطبي- بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى هذه الآية-: وقال الزجاج- وقوله أحسن الأقوال، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة-: إن الله خلق الكافر،(14/422)
وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان.
والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه، لأن الله- تعالى- قدر ذلك عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما، غير الذي قدر عليه، وعلمه منه.. «1» .
وقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: والله- تعالى- لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، وسيحاسبكم عليها يوم القيامة، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أى: خلقهن خلقا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وبالحكمة التي لا يشوبها اضطراب أو عبث، فالباء في قوله «بالحق» للملابسة.
والمراد بالسموات والأرض: ذواتهن وأجرامهن التي هي أكبر من خلق الناس.
والمراد بالحق: المقصد الصحيح، والغرض السليم، الواقع على أتم الوجوه وأفضلها وأحكمها.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر نعمه على الناس فقال: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ.
وقوله: وَصَوَّرَكُمْ من التصوير، وهو جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، وهو مأخوذ من مادة صار الشيء إلى كذا، بمعنى تحول إليه، أو من صاره إلى كذا، بمعنى أماله وحوله.
أى: وأوجدكم- سبحانه- يا بنى آدم على أحسن الصور وأكملها وأبدعها وأجملها، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على غير صورته التي خلقه الله عليها، كأن يكون على صورة حيوان أو غيره.
وصدق الله إذ يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
قال الآلوسى: ولعمري إن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم، قد اشتملت على دقائق وأسرار شهدت ببعضها الآثار، وعلم ما علم منها أولو الأبصار، وكل ما يشاهد من الصور الإنسانية حسن، لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب.. كما قال بعض الحكماء: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 132.(14/423)
وقوله- تعالى- وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ معطوف على ما قبله، لأن التصوير يقتضى الإيجاد، فبين- سبحانه- أن هذا الإيجاد يعقبه الفناء لكل شيء سوى وجهه الكريم.
أى: وإليه وحده- تعالى- مرجعكم بعد انتهاء آجالكم في هذه الحياة، لكي يجازيكم على أعمالكم الدنيوية.
ثم بين- سبحانه- شمول علمه لكل شيء فقال: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: هو- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض.
وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ- أيها الناس- والتصريح بذلك مع اندراجه فيما قبله، من علم ما في السموات وما في الأرض، لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ والمراد بذات الصدور، النوايا والخواطر التي تخفيها الصدور، وتكتمها القلوب.
أى: والله- تعالى- عليم علما تاما بالنوايا والخواطر التي اشتملت عليها الصدور، فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على ثلاث جمل، كل جملة منها أخص من سابقتها.
وجمع- سبحانه- بينها للإشارة إلى أن علمه- تعالى- محيط بالجزئيات والكليات، دون أن يعزب عن علمه- تعالى- شيء منها.
وفي هذا رد على أولئك الكفار الجاحدين، الذين استبعدوا إعادتهم إلى الحياة، بعد أن أكلت الأرض أجسادهم، وقالوا- كما حكى القرآن عنهم- أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.
ثم وبخهم- سبحانه- على عدم اعتبارهم بالسابقين من قبلهم فقال: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
والاستفهام في قوله أَلَمْ يَأْتِكُمْ.. للتقرير والتبكيت.
والمراد بالذين كفروا من قبل: قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، من الأقوام الذين أعرضوا عن الحق، فكانت عاقبتهم الدمار والهلاك.
والخطاب لمشركي قريش وأمثالهم، ممن استحبوا العمى على الهدى.
والوبال في الأصل: الشدة المترتبة على أمر من الأمور، ومنه الوبيل للطعام الثقيل على المعدة. المضر لها ... والمراد به هنا: العقاب الشديد الذي نزل بهم فأهلكهم، وعبر عن هذا العقاب بالوبال، للإشارة إلى أنه كان عذابا ثقيلا جدا، لم يستطيعوا الفرار أو الهرب منه.
والمراد بأمرهم: كفرهم وفسوقهم عن أمر ربهم، ومخالفتهم لرسلهم.(14/424)
وقوله فَذاقُوا معطوف على كفروا، عطف المسبب على السبب والذوق مجاز في مطلق الإحساس والوجدان. شبه ما حل بهم من عقاب، بشيء كريه الطعم والمذاق.
وعبر عن كفرهم بالأمر، للإشعار بأنه أمر قد بلغ النهاية في القبح والسوء.
والمعنى: لقد أتاكم ووصل إلى علمكم- أيها المشركون- حال الذين كفروا من قبلكم من أمثال قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وعلمتم أن إصرارهم على كفرهم قد أدى بهم إلى الهلاك وإلى العذاب الأليم، فعليكم أن تعتبروا بهم. وأن تفيئوا إلى رشدكم، وأن تتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله- تعالى- لإخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
فالمقصود من الآية الكريمة تحذير الكافرين الذين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت إلى سوء عاقبة هؤلاء السابقين فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا.
أى: ذلك الذي أصاب الأقوام السابقين من هلاك ودمار، سببه أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالآيات البينات، وبالمعجزات الواضحات، الدالة على صدقهم، فما كان من هؤلاء الأقوام إلا أن أعرضوا عن دعوة الرسل، وقال كل قوم منهم لرسولهم على سبيل الإنكار والتكذيب والتعجب: أبشر مثلنا يهدوننا إلى الحق والرشد؟!!.
فالباء في قوله بِأَنَّهُ للسببية، والضمير ضمير الشأن لقصد التهويل والاستفهام في قوله أَبَشَرٌ للإنكار والمراد بالبشر: الجنس، وهو مرفوع على أنه مبتدأ وخبره جملة يَهْدُونَنا.
وشبيه بهذه الآية ما حكاه القرآن من قول قوم صالح له: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ... «1» .، والفاء في قوله: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ للسببية.
أى: فكفروا بسبب هذا القول الفاسد: وَتَوَلَّوْا أى: وأعرضوا عن الحق إعراضا تاما وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أى: واستغنى الله- تعالى- عنهم وعن إيمانهم، والسين والتاء للمبالغة في غناه- سبحانه- عنهم.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أى: والله- تعالى- غنى عنهم وعن العالمين، محمود من كل
__________
(1) سورة القمر الآيتان 24، 25.(14/425)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
مخلوقاته بلسان الحال والمقال، وهو- تعالى- يجازى الشاكرين له بما يستحقونه من جزاء كريم.
ثم حكى- سبحانه- مزاعم الجاحدين للبعث والحساب، ورد عليهم بما يبطلها، ودعاهم إلى الإيمان بالحق، وحضهم على العمل الصالح الذي ينفعهم يوم القيامة، وبشر المؤمنين بما يشرح صدورهم، وبين أن كل شيء في هذا الكون يسير بإذنه- تعالى- وإرادته، فقال- سبحانه-:
[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 13]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
قال صاحب الكشاف: قوله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا. الزعم: ادعاء العلم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «زعموا مطية الكذب» وعن شريح: لكل شيء كنية وكنية(14/426)
الكذب زعموا، ويتعدى إلى المفعولين تعدى العلم، كما قال الشاعر:
وإن الذي قد عاش يا أم مالك يموت، ولم أزعمك عن ذاك معزلا و «أن» مع ما في حيزها قائم مقامهما «1» .
وبَلى حرف يذكر في الجواب لإثبات النفي في كلام سابق، والمراد هنا: إثبات ما نفوه وهو البعث.
أى: زعم الذين كفروا من أهل مكة وأشباههم من المشركين، أنهم لن يبعثوا يوم القيامة، لأن البعث وما يترتب عليه من حساب، في زعمهم محال.
قل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل الجزم واليقين، كذبتم فيما تزعمونه من أنه لا بعث ولا حساب.. والله لتبعثن يوم القيامة، ثم لتنبؤن بما عملتموه في الدنيا من أعمال سيئة، ولتحاسبن عليها حسابا عسيرا، يترتب عليه الإلقاء بكم في النار.
وجيء في نفى زعمهم بالجملة القسمية، لتأكيد أمر البعث الذي نفوه بحرف لَنْ ولبيان ان البعث وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، أمر ثابت ثبوتا قطعيا. وجملة ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ارتقاء في الإيطال. وثُمَّ للتراخي النسبي.
أى: قل لهم إنكم لا تبعثون فحسب، بل ستبعثون، ثم تجدون بعد ذلك ما هو أشد من البعث، ألا وهو إخباركم بأعمالكم السيئة، ثم الإلقاء بكم في النار بعد ذلك.
فالمراد بالإنباء لازمه، وهو ما يترتب عليه من حساب وعقاب.
واسم الإشارة في قوله: وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعود إلى البعث وما يترتب عليه من حساب.
أى: وذلك البعث والحساب، يسير وهين على الله- تعالى- لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء، ولا يحول دون تنفيذ قدرته حائل.
فهذا التذييل المقصود به إزالة ما توهموه وزعموه من أن البعث أمر محال، كما قالوا:
أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.
والفاء في قوله- تعالى- فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا.. هي الفصيحة، أى: التي تفصح عن شرط مقدر.
والمراد بالنور: القرآن الكريم، كما قال- تعالى-: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 548.(14/427)
أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «1» .
والمعنى: إذا علمتم ما ذكرناه لكم- أيها المشركون- فاتركوا العناد، وآمنوا بالله- تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم إيمانا حقا، وآمنوا- أيضا- بالقرآن الكريم الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون هذا القرآن معجزة ناطقة بصدقه صلى الله عليه وسلم.
وجملة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تذييل قصد به الوعد والوعيد، أى: والله- تعالى- مطلع اطلاعا تاما على كل تصرفاتكم، وسيمنحكم الخير إن آمنتم، وسيلقى بكم في النار إن بقيتم على كفركم.
ثم حذرهم- سبحانه- من أهوال يوم القيامة فقال- تعالى-: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ.
والظرف يَوْمَ متعلق بقوله- تعالى- قبل ذلك: ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ.
والمراد بيوم الجمع: يوم القيامة. سمى بذلك لأنه اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون في مكان واحد للحساب والجزاء.
وسمى- أيضا بيوم التغابن، لأنه اليوم الذي يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل.
والتغابن تفاعل من الغبن بمعنى الخسران والنقص، يقال غبن فلان فلانا إذا بخسه حقه، بأن أخذ منه سلعة بثمن أقل من ثمنها المعتاد، وأكثر ما يستعمل الغبن في البيع والشراء، وفعله من باب ضرب، ويطلق الغبن على مطلق الخسران أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الجاحدين للبعث: لتبعثن يوم القيامة ثم لتنبؤن بما عملتم يوم القيامة يوم يجتمع الخلائق للحساب فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه المؤمنون الكافرين، لأن أهل الإيمان ظفروا بالجنة، وبالمقاعد التي كان سيظفر بها الكافرون لو أنهم آمنوا، ولكن الكافرين استمروا على كفرهم فخسروا مقاعدهم في الجنة، ففاز بها المؤمنون.
قال القرطبي: يَوْمُ التَّغابُنِ أى: يوم القيامة ... وسمى يوم القيامة بيوم التغابن، لأنه غبن أهل الجنة أهل النار.
أى: أن أهل الجنة أخذوا الجنة، وأهل النار أخذوا النار على طريق المبادلة فوقع الغبن على الكافرين لأجل مبادلتهم الخير بالشر، والنعيم بالعذاب.
__________
(1) سورة الشورى الآية 52.(14/428)
يقال: غبنت فلانا، إذا بايعته أو شاريته، فكان النقص عليه، والغلبة لك.
فإن قيل: فأى معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها؟ قيل له: هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع «1» .
وقال الآلوسى ما ملخصه: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أى يوم غبن فيه أهل الجنة أهل النار، فالتفاعل ليس على ظاهره، كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد، واختير للمبالغة.
وقد ورد هذا التفسير عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. واختاره الواحدي.
وقال غير واحد: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أى: اليوم الذي غبن فيه بعض الناس بعضا، بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء، وبالعكس ففي الحديث الصحيح: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار- لو أساء- ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة- لو أحسن ليزداد حسرة- وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء، بنزولهم في منازلهم من النار «2» .
ثم فصل- سبحانه- أحوال الناس في هذا اليوم الهائل الشديد فقال وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً، يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
أى: ومن يؤمن بالله- تعالى- إيمانا حقا، ويعمل عملا صالحا، يكفر الله- تعالى- عنه سيئاته التي عملها في الدنيا بأن يزيلها من صحيفة عمله- فضلا منه- تعالى- وكرما- وفوق ذلك يدخله بفضله وإحسانه جنات تجرى من تحت ثمارها الأنهار خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: خلودا أبديا.
ذلِكَ الذي ذكرناه لكم من تكفير السيئات، ومن دخول الجنات.. هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز يقاربه أو يدانيه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بربهم بأن أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى.
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدانيتنا، وعلى صدق نبينا صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 136.
(2) تفسير الآلوسى ج 28 ص 123.(14/429)
أُولئِكَ الكافرون المكذبون هم أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها خلودا أبديا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم النار.
ففي هاتين الآيتين الكريمتين، بيان للتغابن، وتفصيل له، لاحتوائهما على بيان منازل السعداء والأشقياء، وهو ما وقع فيه التغابن.
ثم بين- سبحانه- أن كل شيء بقضائه وقدره فقال: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
والمراد بالمصيبة: الرزية والنكبة، وكل ما يسوء الإنسان في نفسه أو ماله أو ولده..
والمفعول محذوف، و «من» للتأكيد، ومُصِيبَةٍ فاعل.
أى: ما أصاب أحدا مصيبة في نفسه أو ماله أو ولده.. إلا بإذن الله- تعالى- وأمره وإرادته، لأن كل شيء بقضائه- سبحانه- وقدره.
قال القرطبي: قيل: سبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله- تعالى- عن المصائب.
فأنزل الله- تعالى- هذه الآية للرد على المشركين، ولبيان أن كل شيء بإرادته- سبحانه-.
ثم بين- سبحانه- أن الإيمان الحق يعين على استقبال المصائب بصبر جميل فقال:
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أى: ومن يؤمن بالله- تعالى- إيمانا حقا يهد قلبه الى الصبر الجميل، وإلى الاستسلام لقضائه- سبحانه- لأن إيمانه الصادق يجعله يعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، والله- تعالى- عليم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى-: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ أى: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره: فصبر واحتسب واستسلم لقضائه- تعالى- هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا.
وفي الحديث المتفق عليه: عجبا للمؤمن، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن «1» .
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة بحض الناس على الطاعة والإخلاص في
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 163.(14/430)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
العبادة، وحذرهم من اقتراف المعاصي فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
أى: وعليكم- أيها الناس- أن تطيعوا الله- تعالى- طاعة تامة، وأن تطيعوا رسوله في كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه.
فإن أعرضتم عن ذلك، وانصرفتم عما أمرناكم به أو نهيناكم عنه فلا ضرر على رسولنا بسبب إعراضكم لأن حسابكم وجزاءكم علينا يوم القيامة، وليس على رسولنا صلى الله عليه وسلم بالنسبة لكم سوى البلاغ الواضح البين، بحيث لا يترك بابا من أبواب الخير إلا ويبينه لكم، ولا يترك بابا من أبواب الشر إلا وحذركم منه.
اللَّهُ- تعالى- لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أى: هو المستحق للعبادة دون غيره، فأخلصوا له هذه العبادة والطاعة وَعَلَى اللَّهِ- تعالى- وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أى:
فليفوضوا أمورهم إليه، وليعقدوا رجاءهم عليه فهو- سبحانه- صاحب الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
وفي نهاية السورة الكريمة، وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، حذرهم فيه من فتنة الأزواج والأولاد والأموال، وحضهم على مراقبته وتقواه، وحذرهم من البخل والشح، ووعدهم بالأجر العظيم متى أطاعوه.. فقال- تعالى-:
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)(14/431)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما روى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رجلا سأله عن هذه الآيات فقال: هؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أولادهم وأزواجهم أن يتركوهم- ليهاجروا.
فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أى بالمدينة- رأوا الناس قد تفقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم- أى: يعاقبوا أولادهم وأزواجهم- فأنزل الله- تعالى- هذه الآيات «1» .
وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعى، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده فنزلت «2» .
وصدرت الآيات الكريمة بالنداء بصفة الإيمان، لحضهم على الاستجابة لما اشتملت عليه هذه الآيات من توجيهات سامية وإرشادات عالية.. فإن من شأن الإيمان الحق، أن يحمل صاحبه على طاعة الله- عز وجل-.
ومِنْ في قوله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ.. للتبعيض.
والمراد بالعداوة ما يشمل العداوة الدينية والدنيوية، بأن يكون هؤلاء الأولاد والأزواج يضمرون لآبائهم وأزواجهم العداوة والبغضاء وسوء النية، يسبب الاختلاف في الطباع أو في العقيدة والأخلاق.
والعفو: ترك المعاقبة على الذنب بعد العزم على هذه المعاقبة.
والصفح: الإعراض عن الذنب وإخفاؤه، وعدم إشاعته.
أى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، إن بعض أزواجكم وأولادكم، يعادونكم ويخالفونكم في أمر دينكم. وفي أمور دنياكم، فَاحْذَرُوهُمْ أى: فاحذروا أن تطيعوهم في أمر يتعارض مع تعاليم دينكم، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وَإِنْ تَعْفُوا- أيها المؤمنون- عنهم، بأن تتركوا عقابهم بعد التصميم عليه
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 165.
(2) تفسير القرطبي ج 18 ص 140.(14/432)
وَتَصْفَحُوا عنهم، بأن تتركوا عقابهم بدون عزم عليه.. وَتَغْفِرُوا ما فرط منهم من أخطاء، بأن تخفوها عليهم.
وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قائم مقام جواب الشرط. أى: وإن تفعلوا ذلك من العفو والصفح والمغفرة، يكافئكم الله- تعالى- على ذلك مكافأة حسنة، فإن الله- تعالى- واسع المغفرة والرحمة لمن يعفون ويصفحون ويغفرون.
وقوله- تعالى-: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ.
تعميم بعد تخصيص، وتأكيد التحذير الذي اشتملت عليه الآية السابقة.
والمراد بالفتنة هنا: ما يفتن الإنسان ويشغله ويلهيه عن المداومة على طاعة الله- تعالى-.
أى: إن أموالكم وأولادكم- أيها المؤمنون- على رأس الأمور التي تؤدى المبالغة والمغالاة في الاشتغال بها، إلى التقصير في طاعة الله- تعالى-، وإلى مخالفة أمره. والإخبار عنهم بأنهم تْنَةٌ
للمبالغة، والمراد أنهم سبب للفتنة أى: لما يشغل عن رضاء الله وطاعته، إذا ما جاوز الإنسان الحد المشروع في الاشتغال بهما.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أى: بلاء ومحنة، لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الإثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك. وفي الحديث. يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: أكل عياله حسناته.
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.. عن بريدة قال. كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل صلى الله عليه وسلم من فوق المنبر، فحملهما.. ثم صعد المنبر فقال: صدق الله إذ يقول: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
، إنى لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران، لم أصبر أن قطعت كلامي، ونظرت إليهما «1» .
وقال الجمل: قال الحسن في قوله- تعالى-: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ أدخل- سبحانه- مِنْ للتبعيض، لأنهم كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر من في قوله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
، لأنهما لا يخلوان من الفتنة، واشتغال القلب بهما، وقدم الأموال على الأولاد، لأن الفتنة بالمال أكثر. وترك ذكر الأزواج في الفتنة، لأن منهن من يكن صلاحا وعونا على الآخرة «2» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 127.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 353. [.....](14/433)
وقوله- سبحانه-: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
معطوف على جملةنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ.
أى: والله- تعالى- عنده أجر عظيم، لمن آثر محبة الله- تعالى- وطاعته، على محبة الأزواج والأولاد والأموال.
والفاء في قوله- سبحانه- فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ للإفصاح والتفريع على ما تقدم.
ومَا في قوله: مَا اسْتَطَعْتُمْ مصدرية ظرفية.
والمراد بالاستطاعة: نهاية الطاقة والجهد.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي لا يشغله ماله أو ولده أو زوجه عن ذكر الله- تعالى- فابذلوا نهاية قدرتكم واستطاعتكم في طاعة الله- تعالى- وداوموا على ذلك في جميع الأوقات والأزمان.
وليس بين هذه الآية، وبين قوله- تعالى- اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ تعارض، لأن كلتا الآيتين تأمران المسلم بأن يبذل قصارى جهده، ونهاية طاقته، في المواظبة على أداء ما كلفه الله به، ولذلك فلا نرى ما يدعو إلى قول من قال: إن الآية التي معنا نسخت الآية التي تقول:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ.
قال الآلوسى: أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت أقدامهم. فأنزل الله هذه الآية فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ تخفيفا على المسلمين «1» .
وحذف متعلق التقوى، لقصد التعميم، أى: فاتقوا الله مدة استطاعتكم في كل ما تأتون وما تذرون، واعلموا أنه- تعالى- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ومن الأحاديث التي وردت في معنى الآية الكريمة، ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقننى «فيما استطعت» .
وعطف قوله- تعالى- وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا على قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ من باب عطف الخاص على العام، للاهتمام به.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 127.(14/434)
أى: فاتقوا الله- تعالى- في كل ما تأتون وما تذرون، واسمعوا ما يبلغكم إياه رسولنا عنا سماع تدبر وتفكر، وأطيعوه في كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه.
وَأَنْفِقُوا مما رزقكم الله- تعالى- من خير، يكن ذلك الإنفاق خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ في دنياكم وفي آخرتكم.
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أى: ومن يستطع أن يبعد نفسه عن الشح والبخل.
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أى: الفائزون فوزا تاما لا نقص معه.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالحض على الإنفاق في سبيله فقال: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، يُضاعِفْهُ لَكُمْ.
أى: إن تبذلوا أموالكم في وجوه الخير التي يحبها الله- تعالى-، بذلا مصحوبا بالإخلاص وطيب النفس، يضاعف الله- تعالى- لكم ثواب هذا الإنفاق والإقراض بأن يجعل لكم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ فضلا عن ذلك ذنوبكم ببركة هذا الإنفاق الخالص لوجهه الكريم.
وَاللَّهُ شَكُورٌ أى: كثير الشكر لمن أطاعه حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة المذنبين.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى: هو- سبحانه- يعلم علما تاما ما كان خافيا عليكم وما كان ظاهرا لكم، وهو- عز وجل- القوى الذي لا يغلبه غالب، الحكيم في كل أقواله وأفعاله.
وبعد فهذا تفسير لسورة «التغابن» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الاسكندرية- العجمي صباح الخميس 30 من شوال سنة 1406 هـ 26 من يونيو 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د/ محمد سيد طنطاوى(14/435)
تفسير سورة الطّلاق(14/437)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الطلاق» من السور المدنية الخالصة، وقد سماها عبد الله بن مسعود بسورة النساء القصرى، أما سورة النساء الكبرى فهي التي بعد سورة آل عمران.
وكان نزولها بعد سورة «الإنسان» وقبل سورة «البينة» ، وترتيبها بالنسبة للنزول:
السادسة والتسعون، أما ترتيبها بالنسبة لترتيب المصحف، فهي السورة الخامسة والستون.
2- وعدد آياتها إحدى عشرة آية في المصحف البصري، وفيما عداه اثنتا عشرة آية.
3- ومعظم آياتها يدور حول تحديد أحكام الطلاق، وما يترتب عليه من أحكام العدة، والإرضاع، والإنفاق، والسكن، والإشهاد على الطلاق، وعلى المراجعة.
وخلال ذلك تحدثت السورة الكريمة حديثا جامعا عن وجوب تقوى الله- تعالى- وعن مظاهر قدرته، وعن حسن عاقبة التوكل عليه، وعن يسره في تشريعاته، وعن رحمته بهذه الأمة حيث أرسل فيها رسوله صلى الله عليه وسلم ليتلو على الناس آيات الله- تعالى- ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بإذنه- سبحانه- وقد افتتحت بقوله- تعالى-.(14/439)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
التفسير
[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
افتتح الله- تعالى- السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ.
وأحكام الطلاق التي وردت في هذه الآية، تشمل النبي صلى الله عليه وسلم كما تشمل جميع المكلفين من أمته صلى الله عليه وسلم.
وإنما كان النداء له صلى الله عليه وسلم وكان الخطاب بالحكم عاما له ولأمته، تشريفا وتكريما له صلى الله عليه وسلم لأنه هو المبلغ للناس، وهو إمامهم وقدوتهم والمنفذ لأحكام الله- تعالى- فيهم.(14/440)
قال صاحب الكشاف: خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعمّ بالخطاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان: افعلوا كيت وكيت، وإظهارا لتقدمه، واعتبارا لترؤسه، وأنه مدرة قومه ولسانهم- والمدرة: القرية.
أى: أنه بمنزلة القرية لقومه، وأنه الذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وساد مسد جميعهم «1» .
وهذا التفسير الذي اقتصر عليه صاحب الكشاف، هو المعول عليه، وهو الذي يناسب بلاغة القرآن وفصاحته، ويناسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الخطاب له ولأمته: والتقدير: يا أيها النبي وأمته إذا طلقتم، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه.
وقيل: هو خطاب لأمته فقط، بعد ندائه- عليه السلام- وهو من تلوين الخطاب، خاطب أمته بعد أن خاطبه.
وقيل: إن الكلام على إضمار قول، أى: يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم «2» .
والحق أن الذي يتدبر القرآن الكريم، يرى أن الخطاب والأحكام المترتبة عليه، تارة تكون خاصة به صلى الله عليه وسلم كما في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ.
وتارة يكون شاملا له صلى الله عليه وسلم ولأمته كما في هذه الآية التي معنا، وكما في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.
وتارة يكون صلى الله عليه وسلم خارجا عنه كما في قوله- تعالى-: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً «3» .
فصيغة الخطاب هنا وإن كانت موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه ليس داخلا فيها، لأن والديه لم يكونا موجودين عند نزول هاتين الآيتين.
والمراد بقوله: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أى: إذا أردتم تطليقهن، لأن طلاق المطلقة من باب تحصيل الحاصل.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 552.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 355.
(3) سورة الإسراء: 23، 24.(14/441)
وهذا الأسلوب يرد كثيرا في القرآن الكريم، ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.. أى: إذا أردتم القيام للصلاة فاغسلوا.
والمراد بالنساء هنا: الزوجات المدخول بهن، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «1» .
واللام في قوله- سبحانه-: فطلقوهن لعدتهن، هي التي تسمى بلام التوقيت، وهي بمعنى عند، أو بمعنى في، كما يقول القائل: كتبت هذا الكتاب لعشر مضين من شهر كذا.
ومنه قوله- تعالى-: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ..: أى عند أو في وقت دلوكها.
وقوله: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ من الإحصاء بمعنى العد والضبط، وهو مشتق من الحصى، وهي من صغار الحجارة، لأن العرب كانوا إذا كثر عدد الشيء، جعلوا لكل واحد من المعدود حصاة، ثم عدوا مجموع ذلك الحصى.
والمراد به هنا: شدة الضبط، والعناية بشأن العد، حتى لا يحصل خطأ في وقت العدة.
والمعنى: يا أيها النبي، أخبر المؤمنين ومرهم، إذا أرادوا تطليق نسائهم المدخول بهن، من المعتدات بالحيض. فعليهم أن يطلقوهن في وقت عدتهن.
أى: في طهر لم يجامعوهن فيه، ثم يتركوهن حتى تنقضي عدتهن.
وعليهم كذلك أن يضبطوا أيام العدة ضبطا تاما حتى لا يقع في شأنها خطأ أو لبس.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: خوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولا تشريفا وتكريما، ثم خاطب الأمة تبعا، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ....
روى ابن أبى حاتم عن أنس قال: طلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية. وقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك في الجنة.
وروى البخاري أن عبد الله بن عمر، طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فتغيظ صلى الله عليه وسلم ثم قال: فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله- تعالى-.
__________
(1) سورة الأحزاب: الآية 49.(14/442)
ثم قال- رحمه الله-: ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق، وقسموه إلى طلاق سنة، وطلاق بدعة.
فطلاق السنة: أن يطلقها طاهرا من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها.
والبدعى: هو أن يطلقها في حال الحيض، - وما يشبهه كالنفاس-، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدرى أحملت أم لا؟ .. «1» .
وتعليق طَلَّقْتُمُ بإذا الشرطية، يشعر بأن الطلاق خلاف الأصل، إذ الأصل في الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة، وعلى الدوام والاستقرار.
قال- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً....
قال القرطبي: روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .
وعن أبى موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله- عز وجل- لا يحب الذواقين ولا الذواقات» .
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حلف بالطلاق، ولا استحلف به إلا منافق» «2» .
والمراد بالأمر في قوله- تعالى-: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم اتباعه إذا ما أرادوا مفارقة أزواجهم، ونهيهم عن إيقاع الطلاق في حال الحيض أو ما يشبهها كالنفاس، لأن ذلك يكون طلاقا بدعيا محرما، إذ يؤدى إلى تطويل عدة المرأة لأن بقية أيام الحيض لا تحسب من العدة، ويؤدى- أيضا- إلى عدم الوفاء لها، حيث طلقها في وقت رغبته فيها فاترة ...
ولكن الطلاق مع ذلك يعتبر واقعا ونافذا عند جمهور العلماء.
قال القرطبي: من طلق في طهر لم يجامع فيه، نفذ طلاقه وأصاب السنة، وإن طلقها وهي حائض نفذ طلاقه وأخطأ السنة.
وقال سعيد بن المسيب: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة، وإليه ذهبت الشيعة.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 169.
(2) تفسير القرطبي ج 18 ص 149.(14/443)
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتى وهي حائض، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ وقال: فليراجعها ثم فليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها.
وكان عبد الله بن عمر قد طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: «هي واحدة» وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم «1» .
وقد بسط الفقهاء وبعض المفسرين الكلام في هذه المسألة فليرجع إليها من شاء ... «2» .
والمخاطب بقوله وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ الأزواج على سبيل الأصالة، لأنهم هم المخاطبون بقوله طَلَّقْتُمُ وبقوله فَطَلِّقُوهُنَّ، ويدخل معهم الزوجات على سبيل التبع، وكذلك كل من له صلة بهذا الحكم، وهو إحصاء العدة.
ثم أمر- سبحانه- بتقواه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أى، واتقوا الله ربكم، بأن تصونوا أنفسكم عن معصيته، التي من مظاهرها إلحاق الضرر بأزواجكم، بتطليقهن في وقت حيضهن. أو في غير ذلك من الأوقات المنهي عن وقوع الطلاق فيها.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة: التحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة، كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
وجمع- سبحانه- بين لفظ الجلالة، وبين الوصف بربكم، لتأكيد الأمر بالتقوى، وللمبالغة في وجوب المحافظة على هذه الأحكام.
ثم بين- سبحانه- حكما آخر يتعلق بالأزواج والزوجات فقال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلا يَخْرُجْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
والجملة الكريمة مستأنفة، أو حال من ضمير وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أى: حالة كون العدة في بيوتهن، والخطاب للأزواج، والزوجات، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والأساليب.
والفاحشة: الفعلة البالغة الغاية في القبح والسوء، وأكثر إطلاقها على الزنا.
وقوله: مُبَيِّنَةٍ صفة للفاحشة، وقراءة الجمهور- بكسر الياء- أى: بفاحشة توضح لمن تبلغه أنها فاحشة لشدة قبحها.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 151.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 130. وتفسير آيات الأحكام ج 4 ص 156. للشيخ السائس.(14/444)
وقرأ ابن كثير مُبَيِّنَةٍ بفتح الياء- أى: بفاحشة قامت الحجة على مرتكبيها قياما لا مجال معه للمناقشة أو المجادلة.
أى: واتقوا الله ربكم- أيها المؤمنون- فيما تأتون وتذرون، ومن مظاهر هذه التقوى، أنكم لا تخرجون زوجاتكم المطلقات من مساكنهن إلى أن تنقضي عدتهن، وهن- أيضا- لا يخرجن منها بأنفسهن في حال من الأحوال، إلا في حال إتيانهن بفاحشة عظيمة ثبتت عليهن ثبوتا واضحا.
فالمقصود بالجملة الكريمة نهى الأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنتهي عدتهن، ونهى المعتدات عن الخروج منها إلا عند ارتكابهن الفاحشة الشديدة القبح.
وأضاف- سبحانه- البيوت الى ضمير النساء فقال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ للإشعار بأن استحقاقهن للمكث في بيوت أزواجهن مدة عدتهن كاستحقاق المالك لما يملكه، ولتأكيد النهى عن الإخراج والخروج.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أن المطلقة لا يصح إخراجها أو خروجها من بيت الزوجية ما دامت في عدتها، إلا لأمر ضروري.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ أى: من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضي عدتهن ... وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناء به، والنهى عن الإخراج يتناول بمنطوقه عدم إخراجهن غضبا عليهن، أو كراهة لمساكنتهن ... ويتناول بإشارته عدم الإذن لهن بالخروج، لأن خروجهن محرم، لقوله- تعالى-: وَلا يَخْرُجْنَ فكأنه قيل: لا تخرجوهن، ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن، فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤكد، فلا يسقط بالإذن.. وهذا رأى الأحناف.
ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز. إذ الحق لا يعدوهما، فيكون المعنى: لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن.
والاستثناء في قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يرى بعضهم أنه راجع إلى وَلا يَخْرُجْنَ فتكون الفاحشة المبينة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة، أى: لا يطلق لهن في الخروج، إلا في الخروج الذي هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه، فيكون ذلك منعا من الخروج على أبلغ وجه.. كما يقال لا تزن إلا أن تكون فاسقا ... «1» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 133.(14/445)
وقال بعض العلماء: والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة، أنها حفظ للأعراض، فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها، وقد يتسرب سوء الظن إليها، فيكثر الاختلاف عليها، ولا تجد ذا عصمة يذب عنها، فلذلك شرعت لها السكنى، فلا تخرج إلا لحاجياتها الضرورية..
ومن الحكم- أيضا- في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا، لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال، وإنما هن عيال على الرجال..
ويزاد في المطلقة الرجعية، قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها، لعله يثوب إليه رشده فيراجعها..
فهذا مجموع علل، فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم، لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها.. «1» .
واسم الإشارة في قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعود إلى الأحكام التي سبق الحديث عنها، والحدود: جمع حد، وهو ما لا يصح تجاوزه أو الخروج عنه.
أى: وتلك الأحكام التي بيناها لكم، هي حدود الله- تعالى- التي لا يصح لكم تعديها أو تجاوزها، وإنما يجب عليكم الوقوف عندها، وتنفيذ ما اشتملت عليه من آداب وهدايات.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة من يتجاوز حدوده فقال: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أى: ومن يتجاوز حدود الله التي حدها لعباده، بأن أخل بشيء منها، فقد حمل نفسه وزرا، وأكسبها إثما، وعرضها للعقوبة والعذاب.
وقوله- تعالى-: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ترغيب في امتثال الأحكام السابقة، بعد أن سلك في شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها، ودعوة إلى فتح باب المصالحة بين الرجل وزوجه، وعدم السير في طريق المفارقة حتى النهاية..
والخطاب لكل من يصلح له، أو هو للمتعدى بطريق الالتفات، والجملة الكريمة مستأنفة، مسوقة لتعليل مضمون ما قبلها، وتفصيل لأحواله.
أى: اسلك- أيها المسلم- الطريق الذي أرشدناك إليه في حياتك الزوجية، وامتثل ما أمرناك به، فلا تطلق امرأتك وهي حائض، ولا تخرجها من بيتها قبل تمام عدتها ... ولا تقفل باب المصالحة بينك وبينها، بل اجعل باب المصالحة مفتوحا، فإنك لا تدرى لعل الله- تعالى- يحدث بعد ذلك النزاع الذي نشب بينك وبين زوجك أمرا نافعا لك ولها، بأن يحول البغض إلى حب، والخصام إلى وفاق، والغضب إلى رضا..
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير ج 28 ص 304 لفضيلة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.(14/446)
فالجملة الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الإرشاد لحمل النفوس المتجهة نحو الطلاق.. إلى التريث والتعقل، وفتح باب المواصلة بعد المقاطعة والتقارب بعد التباعد، لأن تقليب القلوب بيد الله- عز وجل- وليس بعيدا عن قدرته- تعالى- تحويل القلوب إلى الحب بعد البغض.
قال القرطبي: الأمر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها.
وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة.. «1» .
ثم بين- سبحانه- حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال- تعالى-: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ...
والفاء في قوله فَإِذا بَلَغْنَ ... للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة.
والمراد ببلوغ أجلهن، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها، لأن الإمساك يكون قبل انقضائها.
فالكلام من باب المجاز، لمشابهة مقاربة الشيء، بالحصول فيه، والتلبس به.
والمراد بالإمساك المراجعة وعدم السير في طريق مفارقتها.
والمعروف: ما أمر به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق.
والمعنى: لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التي تتعلق بعدة النساء، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء..
والأمر في قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ، وفارِقُوهُنَّ للإباحة، و «أو» للتخيير.
والتعبير بالإمساك للإشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة، ما عدا الاستمتاع بها، فعليه أن يستمسك بها، ولا يتسرع في فراقها، فهي ما زالت في عصمته.
وقدم- سبحانه- الإمساك على الفراق، للإشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية، وإبقاء للمودة والرحمة.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 156.(14/447)
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ....
ثم قال- سبحانه-: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أى: وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لان الإشهاد يقطع التنازع، ويدفع الريبة، وينفى التهمة.
والأمر في قوله: وَأَشْهِدُوا للندب والاستحباب في حالتي المراجعة والمفارقة، فهو كقوله- تعالى-: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وهذا رأى جمهور العلماء.
قال الآلوسى: قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أى: عند الرجعة إن اخترتموها، أو الفرقة إن اخترتموها، تبريا عن الريبة، وقطعا للنزاع. وهذا أمر ندب كما في قوله- تعالى-: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ.
وقال الشافعى في القديم: إنه للوجوب في الرجعة. وزعم الطبرسي أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت، وأنه للوجوب، وشرط في صحة الطلاق.. «1» .
وقوله: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ معطوف على ما قبله، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة.
والمراد بإقامة الشهادة: أداؤها بالعدل والصدق.
أى: وعليكم- أيها المؤمنون- عند أدائكم للشهادة، أن تؤدوها بالعدل والأمانة، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله- تعالى- وامتثالا لأمره.
والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم، أمر واجب، لأن الشهادة هنا اسم للجنس، ولأن الله- تعالى- يقول في آية أخرى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ....
والإشارة في قوله- سبحانه-: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهي عدتها، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل.
والوعظ معناه: التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر في القلوب، وتهدى النفوس إلى الرشد.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 135.(14/448)
أى: ذلك الذي ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله- تعالى- وباليوم الآخر إيمانا حقا.
وخص- سبحانه- الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا.
ثم بشر- سبحانه- عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
والجملة الكريمة اعتراض بين قوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ وبين قوله- سبحانه- بعد ذلك: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ.
وجيء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته- تعالى- وآدابه، ولحض الزوجين على مراقبته- سبحانه- وتقواه.
أى: ومن يتق الله- تعالى- في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته. يجعل له- سبحانه- مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها، ومن شدائد الموت وغمراته، ومن أهوال الآخرة وعذابها، ويرزقه الفوز بخير الدارين، من طريق لا تخطر له على بال، ولا ترد له على خاطر، فإن أبواب رزقه- سبحانه- لا يعلمها أحد إلا هو- عز وجل-.
وفي هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن، حتى يثبت فؤاده، ويستقيم قلبه، ويحرص على طاعة الله- تعالى- في كل أحواله.
قال القرطبي: قال أبو ذر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم، ثم تلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
وعن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعى، أسر المشركون ابنا له، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك. فقال له صلى الله عليه وسلم: «اتق الله واصبر، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله» .
فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى وإياك أن نستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا، فجعلا يقولان ذلك، فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف، فنزلت الآية ... «1» .
ثم قال- تعالى-: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 159. [.....](14/449)
ولفظ حسب بمعنى كاف وأصله اسم مصدر أو مصدر، ومعنى بالِغُ أَمْرِهِ بإضافة الوصف إلى مفعوله، أى: يبلغ ما يريده- سبحانه-، وقرأ الجمهور بالِغُ أَمْرِهِ بتنوين الوصف ونصب أمره على المفعولية، والمراد بأمره، شأنه ومراده. وهذه الجملة تعليل لما قبلها.
أى: ومن يفوض أمره إلى الله- تعالى- ويتوكل عليه وحده، فهو- سبحانه- كافيه في جميع أموره، لأنه- سبحانه- يبلغ ما يريده، ولا يفوته مراد، ولا يعجزه شيء، ولا يحول دون أمره حائل.. ومن مظاهر حكمه في خلقه، أنه عز وجل- قد جعل لكل شيء تقديرا قبل وجوده، وعلم علما تاما مقاديرها وأوقاتها وأحوالها.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
وقوله- سبحانه-: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وقوله- عز وجل-:
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
قال بعض العلماء ما ملخصه: ولهذه الجملة، وهي قوله- تعالى-: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن، في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض.. فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البياني الناشئ عما اشتملت عليه جمل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.. إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت، فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله، فيقول: أين انا من تحصيل هذا الشيء.. ويتملكه اليأس.. فيقول الله- تعالى- له: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أى: فلا تيأس أيها الإنسان.
ولها موقع التعليل لجملة وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ فإن العدة من الأشياء التي تعد، فلما أمر الله بإحصائها علل ذلك فقال: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.
ولها موقع التذبيل لجملة وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أى:
الذي وضع تلك الحدود، قد جعل الله لكل شيء قدرا لا يعدوه، كما جعل الحدود.
ولها موقع التعليل لجملة: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذي جعله الله لمدة العدة، فقد حصل المقصد الشرعي، الذي أشار إليه بقوله- تعالى-: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً.
ولها موقع التعليل لجملة: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ فإن الله- تعالى- جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع.(14/450)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
فهذه الجملة جزء آية، وهي تحتوى على حقائق من الحكمة ... «1» .
ثم ذكر- سبحانه- أحكاما أخرى تتعلق بعدة أنواع أخرى من النساء وأكد الأمر بتقواه- عز وجل- وأمر برعاية النساء والإنفاق عليهن.. فقال- تعالى-:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 7]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ لما بين- سبحانه- أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء، عرفهم- سبحانه- في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم.
وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة «البقرة» في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبى بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء، الصغار وذوات الحمل، فنزلت هذه الآية.
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير ج 28 ص 314 للشيخ ابن عاشور.(14/451)
وقال مقاتل: لما ذكر- سبحانه- قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ....
قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله فما عدة التي لم تحض، وما عدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى، فنزلت هذه الآية.. «1» .
وجملة: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ... معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك:
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... لبيان أحكام أخرى تتعلق بعدة نوع آخر من النساء بعد بيان عدة النساء ذوات الأقراء.
والمراد باللائى يئسن من المحيض: النساء اللائي تقدمن في السن، وانقطع عنهن دم الحيض.
وقوله: يَئِسْنَ من اليأس، وهو فقدان الأمل من الحصول على الشيء.
والمراد بالمحيض: دم الحيض الذي يلفظه رحم المرأة في وقت معين، وفي حال معينة ...
وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ من الريبة بمعنى الشك.
قوله: وَاللَّائِي اسم موصول مبتدأ، وقوله يَئِسْنَ صلته، وجملة الشرط والجزاء وهي قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ خبره.
والمعنى: لقد بينت لكم- أيها المؤمنون- عدة النساء المعتدات بالمحيض، أما النساء المتقدمات في السن واللائي فقدن الأمل في رؤية دم الحيض، فعليكم إن ارتبتم، وشككتم في عدتهن أو جهلتموها، أن تقدروها بثلاثة أشهر.
هذا، وقد قدر بعضهم سن اليأس بالنسبة للمرأة بستين سنة، وبعضهم قدره بخمس وخمسين سنة.
وبعضهم لم يحدده بسن معينة، بل قال: إن هذا السن يختلف باختلاف الذوات والإفطار والبيئات.. كاختلاف سن ابتداء الحيض.
وقوله- تعالى-: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ معطوف على قوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ وهو مبتدأ وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه.
والتقدير: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم، إن ارتبتم في عدتهن، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللاتي لم يحضن بعد لصغرهن، وعدم بلوغهن سن المحيض.. فعدتهن- أيضا- ثلاثة أشهر.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 162.(14/452)
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان عدة المرأة ذات الحمل، فقال- تعالى-: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ....
وقوله: وَأُولاتُ: اسم جمع للفظ ذات. بمعنى صاحبه، لأنه لا مفرد لكلمة أُولاتُ من لفظها، كما أنه لا مفرد من لفظها لكلمة «أولو» التي هي بمعنى أصحاب، وإنما مفردها «ذو» .
والأحمال: جمع حمل- بفتح الحاء- كصحب وأصحاب، والمراد به: الجنين الذي يكون في بطن المرأة.
والأجل: انتهاء المدة المقدرة للشيء.
وقوله: وَأُولاتُ ... مبتدأ، وأَجَلُهُنَّ مبتدأ ثان، وقوله: أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره، خبر الأول.
والمعنى: والنساء ذوات الأحمال أَجَلُهُنَّ أى: نهاية عدتهن، أن يضعن ما في بطونهن من حمل، فمتى وضعت المرأة ما في بطنها، فقد انقضت عدتها، لأنه ليس هناك ما هو أدل على براءة الرحم، من وضع الحمل.
وهذا الحكم عام في كل ذوات الأحمال، سواء أكن مطلقات، أم كن قد توفى عنهن أزواجهن.
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التي تؤيد ذلك، ومن تلك الأحاديث ما رواه الشيخان، من أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه.
وعن أبى بن كعب قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ: للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها زوجها، فقال: هي للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها.. «1» .
قالوا: ولا تعارض بين هذه الآية، وبين قوله- تعالى- في سورة البقرة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ... لأن آية سورة البقرة، خاصة بالنساء اللائي توفى عنهن أزوجهن ولم يكن هؤلاء النساء من ذوات الأحمال.
وفي هذه المسألة أقوال أخرى مبسوطة في مظانها ... «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 176.
(2) راجع تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 166، وتفسير الآلوسى ج 28 ص 137.(14/453)
ثم كرر- سبحانه- الأمر بتقواه، وبشر المتقين بالخير العميم فقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ- تعالى- فينفذ ما كلف به. ويبتعد عما نهى عنه.
يَجْعَلْ لَهُ سبحانه مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أى: يجعل له من الأمر العسير أمرا ميسورا.
ويحول له الأمر الصعب إلى أمر سهل، لأنه- سبحانه- له الخلق والأمر..
ذلِكَ الذي ذكرناه لكم من أحكام أَمْرُ اللَّهِ أى: حكمه وشرعه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لتعلموا به، وتسيروا على هديه.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ- تعالى- في كل شئونه وأحواله.. يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أى: يمح عنه ذنوبه، ولا يؤاخذه عليها، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أى: ويضاعف له حسناته، ويجزل له العطاء والمثوبة يوم القيامة.
ثم أمر- سبحانه- الرجال بأن يحسنوا معاملة النساء المطلقات، ونهاهم عن الإساءة إليهن بأى لون من ألوان الإساءة فقال: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ...
والخطاب للرجال الذين يريدون فراق أزواجهن، والضمير المنصوب في قوله أَسْكِنُوهُنَّ يعود إلى النساء المطلقات.
ومِنْ للتبعيض، والوجد: السعة والقدرة.
أى: أسكنوا المطلقات في بعض البيوت التي تسكنونها والتي في وسعكم وطاقتكم إسكانهن فيها.
قال صاحب الكشاف: قوله: أَسْكِنُوهُنَّ وما بعده: بيان لما شرط من التقوى في قوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ... كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أَسْكِنُوهُنَّ.
فإن قلت: فقوله: مِنْ وُجْدِكُمْ ما موقعه؟ قلت: هو عطف بيان لقوله مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، وتفسير له، كأنه قيل: أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه.
والسكنى والنفقة: واجبتان لكل مطلقة. وعند مالك والشافعى: ليس للمبتونة إلا السكن ولا نفقة لها، وعن الحسن وحماد: لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها أبتّ طلاقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا سكنى لك ولا نفقة ... » «1» .
ثم أتبع- سبحانه- الأمر بالإحسان إلى المطلقات، بالنهى عن إلحاق الأذى بهن فقال:
وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ....
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 558.(14/454)
أى: ولا تستعملوا معهن ما يؤذيهن ويضرهن، لكي تضيقوا عليهن ما منحه الله- تعالى- لهن من حقوق، بأن تطيلوا عليهن مدة العدة، فتصبح الواحدة منهن كالمعلقة، أو بأن تضيقوا عليهن في السكنى، حتى يلجأن إلى الخروج، والتنازل عن حقوقهن.
وقوله- تعالى-: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.. أى:
وإن كان المطلقات أصحاب حمل- فعليكم يا معشر الأزواج- أن تقدموا لهن النفقة المناسبة، حتى يضعن حملهن.
قال الإمام ابن كثير: قال كثير من العلماء منهم ابن عباس، وطائفة من السلف. هذه هي البائن، إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا: بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء أكانت حاملا أم غير حامل.
وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على الحامل- وإن كانت رجعية- لأن الحمل تطول مدته غالبا. فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع، لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة.. «1» .
ولما كان الحمل ينتهى بالوضع، انتقلت السورة الكريمة إلى بيان ما يجب للمطلقات بعد الوضع، فقال- تعالى-: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
أى: عليكم- أيها المؤمنون- أن تقدموا لنسائكم ذوات الحمل اللائي طلقتموهن طلاقا بائنا، عليكم أن تقدموا لهن النفقة حتى يضعن حملهن، فإذا ما وضعن حملهن وأرادوا أن يرضعن لكم أولادكم منهن، فعليكم- أيضا- أن تعطوهن أجورهن على هذا الإرضاع، وأن تلتزموا بذلك لهن.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الأم المطلقة طلاقا بائنا، إذا أرادت أن ترضع ولدها بأجر المثل، فليس لأحد أن يمنعها من ذلك، لأنها أحق به من غيرها، لشدة شفقتها عليه ... وليس للأب أن يسترضع غيرها حينئذ. كما أخذوا منها- أيضا- أن نفقة الولد الصغير على أبيه، لأنه إذا لزمته أجرة الرضاع، فبقية النفقات الخاصة بالصغير تقاس على ذلك.
وقوله- سبحانه-: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ حض منه- سبحانه- للآباء والأمهات على التعاون والتناصح في وجوه الخير والبر.
والائتمار معناه: التشاور وتبادل الرأى، وسمى التشاور بذلك لأن المتشاورين في مسألة، يأمر أحدهما الآخر بشيء فيستجيب لأمره، ويقال: أئتمر القوم وتآمروا بمعنى واحد.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 179.(14/455)
أى: عليكم- أيها الآباء والأمهات- أن تتشاوروا فيما ينفع أولادكم، وليأمر بعضكم بعضا بما هو حسن، فيما يتعلق بالإرضاع والأجر وغيرهما.
وقوله- تعالى-: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى إرشاد إلى ما يجب عليهما في حالة عدم التراضي على الإرضاع أو الأجر.
والتعاسر مأخوذ من العسر الذي هو ضد اليسر والسماحة، يقال تعاسر المتبايعان، إذا تمسك كل واحد منهما برأيه، دون أن يتفقا على شيء.
أى: وإن اشتد الخلاف بينكم، ولم تصلوا إلى حل، بأن امتنع الأب عن دفع الأجرة للأم، أو امتنعت الأم عن الإرضاع إلا بأجر معين. فليس معنى ذلك أن يبقى المولود جائعا بدون رضاعة، بل على الأب أن يبحث عن مرضعة أخرى، لكي ترضع له ولده، فالضمير في قوله لَهُ يعود على الأب.
قال صاحب الكشاف قوله: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أى: فستوجد مرضعة غير الأم ترضعه، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك. تريد لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم.
وقد علق المحشى على الكشاف بقوله: وخص الأم بالمعاتبة، لأن المبذول من جهتها هو لبنها وهو غير متمول ولا مضنون به في العرف، وخصوصا في الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب، فإنه المال المضنون به عادة فالأم إذا أجدى باللوم، وأحق بالعتب.. «1» .
قالوا: وفي هذه الجملة- أيضا- طرف من معاتبة الأب، لأنه كان من الواجب عليه أن يسترضى الأم، ولا يكون مصدر عسر بالنسبة لها، حرصا على مصلحة الولد.
ثم رسم- سبحانه- لعباده المنهج الذي لو اتبعوه لعاشوا آمنين مطمئنين فقال: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.
والإنفاق: بذل المال في المصالح المتنوعة التي أحلها الله- تعالى-، كالمأكل والمشرب، والملبس، والمسكن، وإعطاء كل ذي حق حقه..
والسعة: البسطة في المال والرزق.
أى: على كل من أعطاه الله- تعالى- سعة وبسطة في المال والرزق، أن ينفق مما أعطاه الله- تعالى- وأن لا يبخل، فإن البخل صفة قبيحة، ولا سيما في الأغنياء.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 559.(14/456)
فعليكم- أيها الآباء- أن تعطوا بسخاء كل من يستحقون العطاء، وعلى رأسهم الأمهات لأولادكم، اللائي يقمن بإرضاعهم بعد مفارقتكم لهن، وأن لا تبخلوا عليهن في أجرة الرضاع، أو في النفقة على الأولاد.
ثم قال- تعالى-: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ ... أى: ومن كان رزقه ضيقا وليس واسعا.. فلينفق على قدر ماله ورزقه وطاقته، مما آتاه الله- تعالى- من رزق.
وقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ... تعليل لما قبله، أى: فلينفق كل إنسان على نفسه وعلى زوجه، وعلى أولاده، وعلى أقاربه، وعلى غيرهم. على حسب حاله، فإن كان موسرا أنفق على حسب يسره، وإن كان معسرا أنفق على حسب عسره.. لأن الله- تعالى- لا يكلف نفسا إلا بقدر ما أعطاها من طاقة أو رزق..
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب سأل عن أبى عبيدة فقيل له: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل الخشن من الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ماذا يصنع إذا أخذها: فلما أخذها، ما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام.. فجاء الرسول فأخبره فقال عمر: رحم الله أبا عبيدة، لقد عمل بهذه الآية: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ ... «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببشارة لمن يتبع أمره فقال: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أى: سيجعل الله- تعالى- بفضله وإحسانه- اليسر بعد العسر، والسعة بعد الضيق، والغنى بعد الفقر.. لمن شاء من عباده، لأنه- سبحانه- هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو بعباده خبير بصير.
قال الإمام ابن كثير: وقد روى الإمام أحمد عن أبى هريرة قال: دخل رجل على أهله.
فلما رأى ما بهم من الفاقة خرج إلى البرية، فلما رأت امرأته ذلك قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسجرته- أى أوقدته-، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت، فإذا الجفنة قد امتلأت..
قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا، قال: فرجع الزوج فقال لأهله: أأصبتم بعدي شيئا؟ فقالت امرأته: نعم من ربنا..
فذكر الرجل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنه لو لم ترفعها، لم تزل تدور إلى يوم القيامة.. «2» .
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 28 ص 149.
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 181.(14/457)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
وبعد هذه التشريعات الحكيمة التي تتعلق بالطلاق وما يترتب عليه من آثار، وبعد هذا التذكير المتكرر بوجوب تقوى الله- تعالى- والمحافظة على أداء تكاليفه، وبعد هذا الوعظ المؤثر في قلوب الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر..
بعد كل ذلك ساق- سبحانه- جانبا من سوء عاقبة الأقوام الذين فسقوا عن أمر ربهم، وخالفوا رسله: وكرر الأمر بتقواه، وذكر الناس بجانب من نعمه، حيث أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ليتلو عليهم آياته.. كما ذكرهم بعظيم قدرته- تعالى- وشمول علمه، فقال- سبحانه-:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
وكلمة كَأَيِّنْ اسم لعدد كثير منهم، يفسره ما بعده، فهي بمعنى «كم» الخبرية التي تفيد التكثير، وهي مبتدأ، وقوله مِنْ قَرْيَةٍ تمييز لها.
وجملة عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها خبر للمبتدأ. والعتو: الخروج عن الطاعة، يقال: عتا فلان يعتو عتوا وعتيا. إذا تجبر وطغى وتجاوز الحدود في الاستكبار والعناد.(14/458)
والمراد بالقرية: أهلها، على سبيل المجاز المرسل، من إطلاق المحل وإرادة الحال، فهو كقوله- تعالى-: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها.
والقرينة على أن المراد بالقرية أهلها، قوله- تعالى- بعد ذلك: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً....
والمراد بالمحاسبة في قوله فَحاسَبْناها ... المجازاة والمعاقبة الدنيوية على أعمالهم، بدليل قوله- تعالى- عن العذاب الأخروى بعد ذلك أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً....
ويجوز أن يراد بالمحاسبة هنا: العذاب الأخروى، وجيء بلفظ الماضي على سبيل التأكيد وتحقق الوقوع، كما في قوله- تعالى-: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ....
ويكون قوله- سبحانه-: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ... تكريرا للوعيد.
والمعنى: وكثير من أهل القرى الماضية، خرجوا عن طاعة ربهم، وعصوا رسله، فكانت نتيجة ذلك أن سجلنا عليهم أفعالهم تسجيلا دقيقا، وجازيناهم عليها جزاء عادلا، بأن عذبناهم عذابا فظيعا. وعاقبناهم عقابا نكرا..
والشيء النكر بضمتين وبضم فسكون- ما ينكره العقل من شدة كيفية حدوثه إنكارا عظيما.
والفاء في قوله- تعالى-: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها ... للتفريع على ما تقدم.
والوبال: الثقل، ومنه الطعام الوبيل، أى: الوخيم الثقيل على المعدة فيكون سببا في فسادها ومرضها. والذوق: الإحساس بالشيء إحساسا واضحا..
أى: فترتب على هذا الحساب والعقاب، أن ذاق أهل تلك القرى سوء عاقبة بغيهم وجحودهم لنعم الله..
وكان عاقبة أمرها خسرا أى: وكانت نهايتهم نهاية خاسرة خسارة عظيمة، كما يخسر التاجر صفقته التجارية التي عليها قوام حياته.
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهم في الآخرة من عذاب، بعد بيان ما حل بهم في الدنيا فقال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً....
أى: أن ما أصابهم في الدنيا بسبب فسوقهم عن أمر ربهم، ليس نهاية المطاف، بل هيأ الله- تعالى- لهم عذابا أشد من ذلك وأبقى في الآخرة..
وما دام الأمر كذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ، الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً....(14/459)
والألباب جمع لب، وهو العقل السليم الذي يرشد صاحبه إلى الخير والبر.
وقوله الَّذِينَ آمَنُوا منصوب بإضمار أعنى على سبيل البيان للمنادى، أو عطف بيان له.
والمراد بالذكر: القرآن الكريم، وقد سمى بذلك في آيات كثيرة منها قوله- تعالى-:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ... أى: فيه شرفكم وعزكم، وفيه ما يذكركم بالحق، وينهاكم عن الباطل.
أى: فاتقوا الله- تعالى- يا أصحاب العقول السليمة، ويا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، فهو- سبحانه- الذي أنزل عليكم القرآن الكريم، الذي فيه ما يذكركم عما غفلتم عنه من عقيدة سليمة، ومن أخلاق كريمة، ومن آداب قويمة..
وفي ندائهم بوصف «أولى الألباب» إشعار بأن العقول الراجحة هي التي تدعو أصحابها إلى تقوى الله وطاعته، وإلى كل كمال في الطباع والسلوك.
والمراد بالرسول في قوله- تعالى-: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ محمد صلى الله عليه وسلم وللمفسرين جملة من الأقوال في إعرابه، فمنهم من يرى أنه منصوب بفعل مقدر، ومنهم من يرى أنه بدل من ذكرا ... «1» .
والمعنى: فاتقوا الله- أيها المؤمنون- فقد أنزلنا إليكم قرآنا فيه ما يذكركم بخير الدنيا والآخرة ... وأرسلنا إليكم رسولا هو عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لكي يتلو عليكم آياتنا تلاوة تدبر وفهم، يعقبهما تنفيذ ما اشتملت عليه هذه الآيات من أحكام وآداب وهدايات..
ولكي يخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الشرك الذي كانوا واقعين فيه، إلى نور الإيمان الذي صاروا إليه.
ومنهم من فسر الذكر بالرسول صلى الله عليه وسلم..
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً هو النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بالذكر، لمواظبته على تلاوة القرآن الذي هو ذكر ...
وقوله- تعالى- رَسُولًا بدل من ذِكْراً، وعبر عن إرساله بالإنزال، لأن الإرسال مسبب عنه..
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 361.(14/460)
والظاهر أن الذكر هو القرآن، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ورسولا منصوب بمقدر، أى: وأرسل رسولا.. «1» .
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين الصادقين فقال: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا حقا وَيَعْمَلْ عملا صالِحاً يُدْخِلْهُ- سبحانه- بفضله وإحسانه جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً خلودا أبديا..
وقوله: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً حال من الضمير المنصوب في قوله يُدْخِلْهُ، والجمع في الضمائر باعتبار معنى مِنَ كما أن الأفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها:
والرزق: كل ما ينتفع به الإنسان، وتنكيره للتعظيم.
أى: قد وسع الله- تعالى- لهذا المؤمن الصادق في إيمانه رزقه في الجنة، وأعطاه من الخير والنعيم، ما يشرح صدره، ويدخل السرور على نفسه. ويصلح باله..
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بما يدل على كمال قدرته، وسعة علمه فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...
أى: الله- تعالى- وحده هو الذي خلق سبع سماوات طباقا وخلق من الأرض مثلهن، أى: في العدد فهي سبع كالسماوات.
والتعدد قد يكون باعتبار أصول الطبقات الطينية والصخرية والمائية والمعدنية، وغير ذلك من الاعتبارات التي لا يعلمها إلا الله- تعالى-.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية يقول- تعالى- مخبرا عن قدرته التامة، وسلطانه العظيم، ليكون ذلك باعثا على تعظيم ما شرع من الدين القويم: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ كقوله- تعالى- إخبارا عن نوح أنه قال لقومه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ... وقال- تعالى- تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
وقوله: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أى: سبعا- أيضا- كما ثبت في الصحيحين: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه مع سبع أرضين» .
وفي صحيح البخاري: «خسف به إلى سبع أرضين ... »
ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وخالف القرآن والحديث بلا مستند.. «2» .
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 141.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 182.(14/461)
وقال الآلوسى: الله الذي خلق سبع سماوات مبتدأ وخبر وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أى:
وخلق من الأرض مثلهن، على أن مِثْلَهُنَّ مفعول لفعل محذوف، والجملة معطوفة على الجملة قبلها.
والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف، فقال الجمهور: هي هنا في كونها سبعا وكونها طباقا بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله، لا يعلم حقيقتهم أحد إلا الله- تعالى-.
وقيل: المثلية في الخلق لا في العدد ولا في غيره، فهي أرض واحدة مخلوقة كالسماوات السبع.
ورد هذا القيل بأنه قد صح من رواية البخاري وغيره، قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن ... » «1» .
والذي نراه أن كون المثلية في العد، هو المعول عليه، لورود الأحاديث الصحيحة التي صرحت بأن الأرضين سبع، فعلينا أن نؤمن بذلك، وأن نرد كيفية تكوينها، وهيئاتها، وأبعادها، ومساحاتها، وخصائصها.. إلى علم الله- تعالى-.
وقوله: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أى: يجرى أمر الله- تعالى- وقضاؤه وقدره بينهن، وينفذ حكمه فيهن، فالمراد بالأمر: قضاؤه وقدره ووحيه.
واللام في قوله- تعالى-: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً متعلقة بقوله خَلَقَ ...
أى: خلق- سبحانه- سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، وأخبركم بذلك، لتعلموا علما تاما أن الله- تعالى- على كل شيء قدير، وأن علمه- تعالى- قد أحاط بكل شيء سواء أكان هذا الشيء جليلا أم حقيرا، صغيرا أم كبيرا ...
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الطلاق» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الاسكندرية- العجمي: 24 من شوال سنة 1406 هـ 30 من يونيو سنة 1986 م كتبه الراجي عفو ربه محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 143.(14/462)
تفسير سورة التّحريم(14/463)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «التحريم» من السور المدنية الخالصة، وتسمى- أيضا- بسورة لِمَ تُحَرِّمُ وبسورة «النبي» صلى الله عليه وسلم وعدد آياتها اثنتا عشرة آية.
2- وكان نزولها بعد سورة «الحجرات» وقبل سورة «الجمعة» فهي السورة الخامسة بعد المائة بالنسبة لترتيب نزول السور القرآنية، أما ترتيبها في المصحف، فهي السورة السادسة والستون.
3- والسورة الكريمة في مطلعها تحكى جانبا مما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض زوجاته فتعرض صفحة من حياته صلى الله عليه وسلم في بيته، ومن عتاب الله- تعالى- له ومن فضله عليه، ودفاعه عنه.
4- ثم وجهت نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يداوموا على العمل الصالح الذي ينجيهم من عذاب الله- تعالى- وحرضتهم على التسلح بالتوبة النصوح لأنها على رأس الأسباب التي تؤدى إلى تكفير سيئاتهم.
5- ثم ختمت السورة الكريمة بضرب مثلين أحدهما للذين آمنوا، ويتمثل في امرأة فرعون وفي مريم ابنة عمران، والآخر للذين كفروا ويتمثل في امرأة نوح وامرأة لوط- عليهما السلام- والغرض من ذلك العظة والاعتبار.(14/465)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
التفسير وقد افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بقوله- تعالى-:
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة، منها ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ - والمغافير: صمغ حلو له رائحة كريهة- إنى أجد منك ريح مغافير.
فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه، وقد حلفت، فلا تخبري بذلك أحدا، فنزلت هذه الآيات.(14/466)
وفي رواية أن التي شرب عندها العسل: حفصة بنت عمر، وأن القائلة له ذلك: سودة بنت زمعة، وصفية بنت حيي.
قالوا: والاشتباه في الاسم لا يضر، بعد ثبوت أصل القصة.
وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... الآيات....
وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم مارية، في بيت بعض نسائه- وفي رواية في بيت حفصة فقالت: يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟
فجعلها أى مارية- عليه حراما، وحلف بهذا.. فأنزل الله هذه الآيات «1» .
قال القرطبي ما ملخصه: «وأصح هذه الأقوال أولها.. والصحيح أن التحريم كان في العسل، وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك، ونزلت الآية في الجميع» «2» .
وقال الإمام ابن كثير- بعد أن ساق عددا من الروايات في هذا الشأن: والصحيح أن ذلك كان في تحريمه صلى الله عليه وسلم للعسل «3» .
وقال الآلوسى: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح أن الآية في قصة العسل، لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح.
والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش.. «4» .
وقد افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
وفي توجيه النداء إليه صلى الله عليه وسلم تنبيه إلى أن ما سيذكر بعد النداء، شيء مهم، بالنسبة له ولسائر المسلمين.
والاستفهام في قوله- تعالى- لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.. للنفي المصحوب بالعتاب منه- سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 177 وتفسير ابن كثير ج 8 ص 185، وتفسير الآلوسى ج 28 ص 146. [.....]
(2) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 179.
(3) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 187.
(4) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 147.(14/467)
وجملة تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ حال من فاعل تُحَرِّمُ، والعتاب واقع على مضمون هذه الجملة والتي قبلها، وهي قوله لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
والمعنى: يا أيها الرسول الكريم، لماذا حرمت على نفسك ما أحله الله- تعالى- لك من شراب أو غيره؟ أفعلت ذلك من أجل إرضاء أزواجك؟.
إنه لا ينبغي لك أن تفعل ذلك، لأن ما أباحه الله- تعالى- لك، لا يصح أن تحرمه على نفسك أو أن تمتنع عن تعاطيه، فتشق على نفسك من أجل إرضاء غيرك.
قال بعض العلماء: «ناداه بلفظ «النبي» إشعارا بأنه الذي نبئ بأسرار التحليل والتحريم الإلهى، والمراد بتحريمه ما أحل له، امتناعه منه، وحظره إياه على نفسه.
وهذا المقدار مباح، ليس في ارتكابه جناح، وإنما قيل له لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ رفقا به، وشفقة عليه، وتنويها لقدره ولمنصبه صلى الله عليه وسلم أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جريا على ما ألف من لطف الله- تعالى- به، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه..» «1» .
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من وقع هذا اللوم، ومن أثر هذا العتاب، وإرشاد له صلى الله عليه وسلم بأن ما فعله داخل تحت مغفرة الله- تعالى- ورحمته.
أى: والله- تعالى- واسع المغفرة والرحمة وقد غفر لك- بفضله وكرمه ما فعلته بسبب بعض أزواجك، وجعلك على رأس من تظلهم رحمته.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر رحمته فقال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ.
وقوله فَرَضَ هنا بمعنى شرع، والتحلة: مصدر بمعنى التحليل، والمراد بها الكفارة، وهي مصدر حلّل كالتكرمة مصدر كرم، من الحل الذي هو ضد العقد.
أى: قد شرع الله- تعالى- لكم تحليل الأيمان التي عقدتموها، عن طريق الكفارة، لأن اليمين إذا كانت في أمر لا يحبه الله- تعالى- فالعدول عنها أولى وأفضل.
وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم «إنى والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير» .
وقد اختلف العلماء في التحريم الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم أكان بيمين أم لا.
__________
(1) راجع تفسير القاسمى ج 16 ص 5852.(14/468)
وظاهر الآية يؤيد القول بالإيجاب لقوله- تعالى-: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ لأن هذه الجملة الكريمة تشعر بأن هناك يمينا تحتاج إلى كفارة.
وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة أنه قال: «بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له، وقد حلفت. لا تخبري بذلك أحدا ... » .
قال الآلوسى ما ملخصه: واختلفوا هل كفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه هذه أولا؟
فعن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم لم يكفر لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو تعليم للمؤمنين.
وعن مقاتل: أنه صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة ... ونقل مالك عن زيد بن أسلم أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الكفارة «1» .
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أى: وهو- سبحانه- سيدكم ومتولى أموركم وناصركم. وهو- تعالى-: الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أى: العليم بجميع أحوالكم وشئونكم، الحكيم في كل أقواله وأفعاله وتدبير شئون عباده.
والظرف في قوله- تعالى- وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً متعلق بمحذوف تقديره اذكر، وقوله: أَسَرَّ من الإسرار بالشيء بمعنى كتمانه وعدم إشاعته.
والمراد ببعض أزواجه: حفصة- رضى الله عنها-.
والمراد بالحديث قوله لها- كما جاء في بعض الروايات-: «بل شربت عسلا عند زينب، ولن أعود، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا ... » .
أو قوله لها في شأن مارية: «إنى قد حرمتها على نفسي، فاكتمي ذلك فأخبرت بذلك عائشة» .
أى: واذكر- أيها العاقل لتعتبر وتتعظ- وقت أن أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجه حفصة حديثا، يتعلق بشربه العسل في بيت زينب بنت جحش، وقوله صلى الله عليه وسلم لحفصة لا تخبري بذلك أحدا» .
فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أى: فلما أخبرت حفصة عائشة بهذا الحديث الذي أمرت بكتمانه وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أى: وأطلع الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالته حفصة لعائشة.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 28 ص 148.(14/469)
فالمراد بالإظهار: الاطلاع، وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب.
وعبر بالإظهار عن الاطلاع، لأن حفصة وعائشة كانتا حريصتين على عدم معرفة ما دار بينهما في هذا الشأن، فلما أطلع الله- تعالى- نبيه على ذلك كانتا بمنزلة من غلبتا على أمرهما.
وقوله- سبحانه-: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ بيان للمسلك السامي الذي سلكه صلى الله عليه وسلم في معاتبته لحفصة على إفشائها لما أمرها أن تكتمه والمفعول الأول لعرف محذوف أى: عرفها بعضه.
أى: فحين خاطب صلى الله عليه وسلم حفصة في شأن الحديث الذي أفشته، اكتفى بالإشارة إلى جانب منه، ولم يذكر لها تفاصيل ما قاله لها سابقا. لسمو أخلاقه صلى الله عليه وسلم إذ في ذكر التفاصيل مزيد من الخجل والإحراج لها.
قال بعضهم: ما زال التغافل من فعل الكرام وما استقصى كريم قط وقال الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابى
وإنما عرفها صلى الله عليه وسلم ببعض الحديث، ليوقفها على خطئها وعلى أنه كان من الواجب عليها أن تحفظ سره صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ولعل حفصة رضى الله عنها- قد فعلت ذلك، ظنا منها أنه لا حرج في إخبار عائشة بذلك، أو أنها اجتهدت فأخطأت، ثم تابت وندمت على خطئها.
ثم حكى- سبحانه- ما قالته حفصة للرسول صلى الله عليه وسلم وما رد به عليها فقال: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ.
أى: فلما سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه قد اطلع على ما قالته لعائشة، قالت له: من أخبرك بما دار بيني وبينها؟ فأجابها صلى الله عليه وسلم بقوله: أخبرنى بذلك الله- تعالى- العليم بجميع أحوال عباده وتصرفاتهم.. الخبير بما تكنه الصدور، وبما يدور في النفوس من هواجس وخواطر.
وإنما قالت له صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا لتتأكد من أن عائشة لم تخبره صلى الله عليه وسلم بما دار بينهما في هذا الشأن ... فلما قال لها صلى الله عليه وسلم: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ تحقق ظنها في كتمان عائشة لما قالته لها، وتيقنت أن الذي أخبره بذلك هو الله- عز وجل-.
وفي تذييل الآية الكريمة بقوله: الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إشارة حكيمة وتنبيه بليغ، إلى أن من الواجب على كل عاقل، أن يكون ملتزما لكتمان الأسرار التي يؤتمن عليها، وأن إذاعتها- ولو في أضيق الحدود- لا تخفى على الله- عز وجل- لأنه- سبحانه- عليم بكل معلوم،(14/470)
ومحيط بخبايا النفوس وخلجاتها.
ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك خطابه إلى حفصة وعائشة، فأمرهما بالتوبة عما صدر منهما.
فقال: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما.
ولفظ صَغَتْ بمعنى مالت وانحرفت عن الواجب عليهما. يقال صغا فلان يصغو ويصغى صغوا، إذا مال نحو شيء معين. ويقال: صغت: الشمس، إذا مالت نحو الغروب، ومنه قوله- تعالى-: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.
وجواب الشرط محذوف، والتقدير: إن تتوبا إلى الله، فلتوبتكما موجب أو سبب، فقد مالت قلوبكما عن الحق، وانحرفت عما يجب عليكما نحو الرسول صلى الله عليه وسلم من كتمان لسره، ومن حرص على راحته، ومن احترام لكل تصرف من تصرفاته.. وجاء الخطاب لهما على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، مبالغة في المعاتبة، فإن المبالغ في ذلك يوجه الخطاب إلى من يريد معاتبته مباشرة.
وقال- سبحانه- فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما بصيغة الجمع للقلوب، ولم يقل قلبا كما بالتثنية، لكراهة اجتماع تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة، مع ظهور المراد، وأمن اللبس.
ثم ساق- سبحانه- ما هو أشد في التحذير والتأديب فقال: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ.
وقوله تَظاهَرا أصله تتظاهرا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. والمراد بالتظاهر:
التعاون والتآزر، يقال: ظاهر فلان فلانا إذا أعانه على ما يريده، وأصله من الظهر، لأن من يعين غيره فكأنه يشد ظهره، ويقوى أمره.
قال- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ «1» .
وجواب الشرط- أيضا- محذوف- أى: وإن تتعاونا عليه بما يزعجه، ويغضبه، من الإفراط في الغيرة، وإفشاء سره. فلا يعدم ناصرا ولا معينا بل سيجد الناصر الذي ينصره عليكما، فإن الله- تعالى- هُوَ مَوْلاهُ أى: ناصره ومعينه وَجِبْرِيلُ كذلك ناصره ومعينه عليكما.
وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أى: وكذلك الصالحون من المؤمنين من أنصاره وأعوانه.
__________
(1) سورة التوبة الآية 3.(14/471)
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أى: والملائكة بعد نصر الله- تعالى- له، وبعد نصر جبريل وصالح المؤمنين له، مؤيدونه ومناصرونه وواقفون في صفه ضدكما.
وفي هذه الآية الكريمة أقوى ألوان النصر والتأييد للرسول صلى الله عليه وسلم وأسمى ما يتصوره الإنسان من تكريم الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن غيرته- عز وجل- عليه، ومن دفاعه عنه صلى الله عليه وسلم.
وفيها تعريض بأن من يحاول إغضاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يكون من صالح المؤمنين.
وقوله: وَجِبْرِيلُ مبتدأ، وقوله: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ معطوف عليه.
وقوله: بَعْدَ ذلِكَ متعلق بقوله ظَهِيرٌ الذي هو خبر عن الجميع.
وقد جاء بلفظ المفرد، لأن صيغة فعيل يستوي فيها الواحد وغيره. فكأنه- تعالى- قال: والجميع بعد ذلك مظاهرون له، واختير الإفراد للإشعار بأنهم جميعا كالشىء الواحد في تأييده ونصرته، وبأنهم يد واحدة على من يعاديه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قوله: بَعْدَ ذلِكَ تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقد تقدمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين، ونصرة الله- تعالى- أعظم وأعظم؟
قلت: مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، فكأنه فضل نصرته- تعالى- بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته، لفضلهم ... » «1» .
وخص جبريل بالذكر مع أنه من الملائكة، للتنويه بمزيد فضله، فهو أمين الوحى، والمبلغ عن الله- تعالى- إلى رسله.
هذا، ومما يدل على أن الخطاب في قوله- تعالى-: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ، لحفصة وعائشة، ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله- تعالى- فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما.
فلما كان ببعض الطريق ... قلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى- فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما.
فقال عمر: وا عجبا لك يا ابن عباس.. هما حفصة وعائشة «2» .
__________
(1) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 567.
(2) راجع الحديث بتمامه في تفسير ابن كثير ج 8 ص 188 فهو حديث ممتع وطويل.(14/472)
ثم أضاف- سبحانه- إلى تكريمه لنبيه تكريما آخر، وإلى تهديده لمن تسيء إليه من أزواجه تهديدا آخر فقال- تعالى-: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ.
قال الجمل ما ملخصه: سبب نزولها أنه صلى الله عليه وسلم لما أشاعت حفصة ما أسرها به، اغتم صلى الله عليه وسلم وحلف أن لا يدخل عليهن شهرا مؤاخذة لهن.
ولما بلغ عمر- رضى الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتزل نساءه.. قال له يا رسول الله: لا يشق عليك أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك.
قال عمر: وقلما تكلمت بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقوله فنزلت هذه الآية.
فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له فقام على باب المسجد، ونادى بأعلى صوته: لم يطلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه «1» .
وعَسى كلمة تستعمل في الرجاء، والمراد بها هنا التحقيق، لأنها صادرة عن الله- عز وجل-.
قال الآلوسى: عَسى في كلامه- تعالى- للوجوب، وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط وقيل: هي كذلك إلا هنا، والشرط معترض بين اسم عَسى وخبرها.
والجواب محذوف. أى: إن طلقكن فعسى ... وأَزْواجاً مفعول ثان ليبدل وخَيْراً صفته «2» .
أى: عسى إن طلقكن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بإذن ربه ومشيئته، أن يبدله- سبحانه- أزواجا خيرا منكن.
ثم وصف- سبحانه- هؤلاء الأزواج بقوله مُسْلِماتٍ منقادات ومطيعات لله ولرسوله، ومتصفات بكل الصفات التي أمر بها الإسلام.
مُؤْمِناتٍ أى: مذعنات ومصدقات بقلوبهن لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه.
قانِتاتٍ أى: قائمات بالطاعة لله ولرسوله على أكمل وجه.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 367.
(2) تفسير الآلوسى ج 28 ص 155.(14/473)
تائِباتٍ أى: مقلعات عن الذنوب والمعاصي، وإذا مسهن شيء منها ندمن وتبن إليه- تعالى- توبة صادقة نصوحا.
عابِداتٍ أى: مقبلات على عبادته- تعالى- إقبالا عظيما.
سائِحاتٍ أى: ذاهبات في طاعة الله أى مذهب، من ساح الماء: إذا سال في أنحاء متعددة، وقيل معناه: مهاجرات. وقيل: صائمات. تشبيها لهن بالسائح الذي لا يصحب معه الزاد غالبا فلا يزال ممسكا عن الطعام حتى يجده.
ثَيِّباتٍ جمع ثيب- بوزن سيد- وهي المرأة التي سبق لها الزواج، من ثاب يثوب ثوبا، إذا رجع، وسميت المرأة التي سبق لها الزواج بذلك. لأنها ثابت إلى بيت أبويها بعد زواجها، أو رجعت إلى زوج آخر غير زوجها الأول.
وَأَبْكاراً جمع بكر، وهي الفتاة العذراء التي لم يسبق لها الزواج، وسميت بذلك لأنها لا تزال على أول حالتها التي خلقت عليها.
وهذه الصفات جاءت منصوبة على أنها نعت لقوله أَزْواجاً أو حال.
ولم يعطف بعضها على بعض بالواو، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن.
وعطف- سبحانه- وَأَبْكاراً على ما قبله لتنافى الوصفين، إذ الثيبات لا يوصفن بالأبكار، وكذلك الأبكار لا يوصفن بالثيبات، ولا يجتمع الوصفان في ذات واحدة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف تكون المبدلات خيرا منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟
قلت: إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعصيانهن له، وإيذائهن إياه، لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هداه ورضاه خيرا منهن.
فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها من العاطف، ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت:
لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات فيهن، فلم يكن بد من الواو «1» .
هذا، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يراها ترسم جانبا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 567.(14/474)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
أزواجه، وهذا الجانب فيه ما فيه من العظات التي من أبرزها تكريم الله- تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإرشاده إلى ما هو أهدى وأقوم، وسمو أخلاقه صلى الله عليه وسلم في معاملته لأهله، وتحذير أزواجه من أن يتصرفن أى تصرف لا يرغب فيه، ولا يميل إليه: وتعليم المؤمنين والمؤمنات- في كل زمان ومكان- كيف تكون العلاقة الطيبة بين الرجال والنساء.
ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداءين إلى المؤمنين، أمرهم في أولهما أن يؤدوا واجبهم نحو أنفسهم ونحو أهليهم، حتى ينجو من عذاب النار، وأمرهم في ثانيهما بالمداومة على التوبة الصادقة النصوح، ووجه نداء إلى الكافرين بين لهم فيه سوء عاقبة كفرهم، ثم وجه- سبحانه- نداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمره فيه بأن يجاهد الكفار والمنافقين جهادا مصحوبا بالغلظة والخشونة.. فقال- تعالى-:
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)(14/475)
وقوله- تعالى-: قُوا أمر من الوقاية، يقال: وقى يقي، كضرب يضرب.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، أبعدوا أنفسكم عن النار عن طريق فعل الحسنات. واجتناب السيئات، وأبعدوا أهليكم- أيضا- عنها، عن طريق نصحهم وإرشادهم وأمرهم بالمعروف. ونهيهم عن المنكر.
قال القرطبي، قال قتادة ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم.
ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نحل والد ولدا، أفضل من أدب حسن» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» .
وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول: قومي فأوترى يا عائشة.
وذكر القشيري أن عمر- رضى الله عنه- لما نزلت هذه الآية قال يا رسول الله: نقى أنفسنا فكيف بأهلينا؟
فقال: «تنهونهم عما نهاكم الله عنه، وتأمرونهم بما أمركم الله به» «1» .
وجاء لفظ النار منكرا، للتهويل. أى: نارا عظيمة لا يعلم مقدار حرها إلا الله- تعالى-.
وقوله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أى: هذه النار لا توقد كما يوقد غيرها بالحطب وما يشبهها، وإنما مادة اشتعالها تتكون من الناس الذين كانوا في الدنيا يشركون مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة، ومن الحجارة التي كانت تعبد من دونه- تعالى-.
ثم أضاف- سبحانه- إلى تهويلها أمرا آخر وصفة أخرى فقال: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ.
والغلاظ: جمع غليظ وهو المتصف بالضخامة والغلظة التي هي ضد الرقة.
وهذا اللفظ صفة مشبهة، وفعله غلظ ككرم.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 194.(14/476)
وشداد: جمع شديد، وهو المتصف بالقوة والشدة، يقال: فلان شديد على فلان، أى:
قوى عليه، بحيث يستطيع أن ينزل به ما يريد من الأذى والعقاب.
أى: هذه النار من صفاتها- أيضا- أن الموكلين بإلقاء الكفار والفساق فيها، ملائكة قساة في أخذهم أهل النار، أقوياء عليهم، بحيث لا يستطيع أهل النار أن يفلتوا منهم، أو أن يعصوا لهم أمرا.
وهؤلاء الملائكة من صفاتهم كذلك أنهم لا يعصون لله- تعالى- أمرا. وإنما ينفذون ما يكلفهم- سبحانه- به تنفيذا تاما.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت أليس الجملتان- لا يعصون.. ويفعلون في معنى واحد؟
قلت: لا فإن معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به، ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه.
ثم بين- سبحانه- ما تقوله الملائكة لأهل النار عند ما يعرضون عليها فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ والمراد باليوم، يوم القيامة فأل فيه للعهد.
أى: تقول الملائكة لهم في هذا اليوم العسير على سبيل التبكيت والتوبيخ- لا تعتذروا- أيها الكافرون عن كفركم، بأن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير أو بأن غيرنا أضلنا، أو بأننا ما كنا مشركين ... فإن هذه الأعذار لن تنفعكم، وأنتم في هذا اليوم إنما تعاقبون على كفركم في الدنيا، وعلى إصراركم على ذلك حتى أدرككم الموت.
فالآية الكريمة توبيخ للكافرين، وتيئيس لهم من قبول أعذارهم الكاذبة.
ثم يرشد- سبحانه- المؤمنين، إلى ما يعينهم على الوقاية من النار فيقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً....
والتوبة: العزم الصادق على عدم العودة إلى المعصية والندم على ما فعله منها في الماضي، والنصوح صيغة مبالغة من النصح، وصفت بها التوبة على سبيل الإسناد المجازى، والمقصود وصف التائبين بها، من نصح فلان التوب إذا خاطه، فكأن التائب يرقع ما مزقه بالمعصية. أو من قولهم: عسل ناصح.
وقد ذكروا في معنى هذه الجملة أكثر من عشرين وجها.
قال القرطبي ما ملخصه: اختلفت عبارة العلماء، وأرباب القلوب، في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا، فقيل: هي التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
وقال قتادة: النصوح الصادقة الناصحة.. الخالصة.(14/477)
وقال القرطبي: التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان.
وقال الفقهاء: التوبة التي لا تعلق لها بحق آدمي لها ثلاثة شروط: أحدها أن يقلع عن المعصية، وثانيها: أن يندم على ما فعله، وثالثها: أن يعزم على أن لا يعود إليها.
فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحا.
وإن كانت تتعلق بحق آدمي، فشروطها أربعة، هذه الثلاثة المتقدمة، والرابع أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت المعصية مالا أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه من نفسه، أو طلب العفو منه، وإن كانت غيبة استحله منها.
وهي واجبة من كل معصية على الفور، ولا يجوز تأخيرها.. «1» .
وقوله- سبحانه- عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
والرجاء المستفاد من فعل عَسى مستعمل هنا في الوعد الصادق منه- تعالى- على سبيل الكرم والفضل، فقد قالوا إن كل ترج في القرآن واقع منه- تعالى- فضلا منه وكرما.
أى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، توبوا إلى الله- تعالى- «توبة صادقة» بحيث تندمون على ما فرط منكم من ذنوب، وتعزمون على عدم العودة إليها، وتستمرون على توبتكم طوال حياتكم.. فإنكم متى فعلتم ذلك غفر الله- تعالى- لكم ذنوبكم: وكفر عنكم سيئاتكم، وأدخلكم جنات تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار.
قال صاحب الكشاف: قوله: عَسى رَبُّكُمْ: إطماع من الله لعباده. وفيه وجهان:
أحدهما أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بعسى ولعل. ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. والثاني: أن يجيء به تعليما للعباد وجوب الترجح بين الخوف والرجاء.. «2» .
والظرف في قوله- سبحانه-: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ منصوب بقوله- تعالى- قبل ذلك: يُدْخِلَكُمْ، أو بفعل مضمر تقديره: اذكر.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 194.
(2) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 570. [.....](14/478)
وقوله: لا يُخْزِي من الخزي بمعنى الافتضاح: يقال أخزى الله فلانا إذا فضحه، والمراد به هنا: عذاب النار.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ معطوف على النبي، وجملة نُورُهُمْ يَسْعى مستأنفة.
أى: يدخلكم الله- بفضله وكرمه- جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يوم القيامة، يوم ينجى- سبحانه- النبي صلى الله عليه وسلم وينجى الذين آمنوا معه من عذاب النار، ومن خزي هذا اليوم العصيب.
وهم جميعا وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم نورهم وهم على الصراط، يسعى ويمتد وينتشر بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.
أى أمامهم وَبِأَيْمانِهِمْ أى: وعن أيمانهم.
ويقولون- على سبيل الحمد والشكر لله- تعالى- يا ربنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا بأن تزيده ولا تنقصه حتى ندخل جنتك.
وَاغْفِرْ لَنا يا ربنا ذنوبنا إِنَّكَ يا ربنا، عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وفي عطف الذين آمنوا على النبي صلى الله عليه وسلم إشعار بأن سبب انتفاء خزيهم، هو إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح، وصحبتهم الكريمة للنبي صلى الله عليه وسلم.
والضمير في قوله نُورُهُمْ يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه.
وخص- سبحانه- الأمام واليمين بالذكر، لفضل هذين المكانين، إذ النور عند ما يكون من الأمام يستمتع الإنسان بمشاهدته، وعند ما يكون من جهة اليمين يزداد تفاؤلا وانشراحا به.
والتخصيص بذلك لا ينفى أن يكون النور محيطا بهم من كل جوانبهم، وهو نور حقيقى يكرم الله- تعالى- به عباده الصالحين.
وختموا دعاءهم بقولهم- كما حكى القرآن عنهم-: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ للإشارة إلى أنهم كانوا على جانب كبير من رجاء تحقيق دعائهم، لأنهم يسألون ويدعون الله- تعالى- الذي لا يقف أمام قدرته شيء.
ثم أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار والمنافقين جهادا كبيرا فقال:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.
وخص النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالجهاد، مع أن الأمر به يشمل المؤمنين معه، لأنه صلى الله عليه وسلم هو قائدهم ورائدهم.(14/479)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
وجهاده صلى الله عليه وسلم للكفار يكون بدعوتهم إلى الحق حتى يسلموا، فإذا لم يستجيبوا جاهدهم بالسيف والسلاح حتى يزهق باطلهم.
وجهاده للمنافقين يكون بتأديبهم وزجرهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، حتى يأمن المؤمنون شرهم، وحتى يشعروا بأن النبي والمؤمنين لهم بالمرصاد.
والغلظة في الأصل: تطلق على الشيء الصلب الغليظ، والمراد بها هنا: معاملتهم بالشدة والخشونة والقسوة.. حتى يأمن المؤمنون جانبهم، ويتقوا شرهم.
أى: يا أيها النبي الكريم جاهد أنت ومن معك من المؤمنين، الكفار والمنافقين. وعاملهم جميعا بالخشونة والغلظة.. حتى يهابوك أنت ومن معك، وحتى تكونوا في مأمن منهم ومن أذاهم إذ الحق لا بد له من قوة تحميه وتدفع عنه كيد أعدائه.
وقوله- تعالى-: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ بيان لسوء مصيرهم في الآخرة.
أى: أن هؤلاء الكافرين والمنافقين، حالهم في الدنيا المجاهدة والمعاملة التي لا تسامح معها ولا تساهل، حتى تكون كلمتهم السفلى، وكلمة الله- تعالى- هي العليا.
أما حالهم في الآخرة، فالإلقاء بهم في جهنم، وبئس المأوى والمسكن جهنم، فالمخصوص بالذم محذوف، وهو جهنم، أو المأوى.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أرشدت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.
وبعد هذه النداءات، للمؤمنين، وللكافرين وللنبي صلى الله عليه وسلم ضرب- سبحانه- مثلين لنساء كافرات في بيوت أنبياء، ولنساء مؤمنات في بيوت كفار، لتزداد الموعظة وضوحا، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، وليشعر الجميع- ولا سيما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسئولون أمام الله- تعالى- عن أعمالهم.. فقال- تعالى-:
[سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)(14/480)
والمراد بضرب المثل. إيراد حالة غريبة، ليعرف بها حالة أخرى مشابهة لها في الغرابة.
وقوله مَثَلًا مفعول ثان لضرب، والمفعول الأول امْرَأَتَ نُوحٍ....
والمتدبر للقرآن الكريم، يراه قد أكثر من ضرب الأمثال، لأن فيها تقريبا للبعيد، وتوضيحا للغريب وتشبيه الأمر المعقول بالأمر المحسوس، حتى يرسخ في الأذهان ...
أى: جعل الله- تعالى- مثلا لحال الكافرين، وأنه لا يغنى أحد عن أحد امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ عليهما السلام.
وعدى الفعل ضَرَبَ باللام، للإشعار بأن هذا المثل إنما سيق من أجل أن يعتبر به الذين كفروا، وأن يقلعوا عن جهالاتهم التي جعلتهم يعتقدون أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة.
وقوله- تعالى-: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما ... بيان لحال هاتين المرأتين، ولما قامتا به من أفعال شائنة، تتنافى مع صلتهما بهذين النبيين الكريمين ...
والمراد بالتحتية هنا: كونهما زوجين لهذين النبيين الكريمين، وتحت عصمتهما وصيانتهما، وأشد الناس التصاقا بهما.
وقال- سبحانه- كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ ... للتعظيم، أى: كانتا في عصمة نبيين لهما من سمو المنزلة ما لهما عند الله- تعالى-.
ووصفهما- سبحانه- بالصلاح، مع أنهما نبيان والنبوة أعظم هبة من الله لعبد من عباده- للتنويه بشأن الصالحين من الناس، حتى يحرصوا على هذه الصفة، ويتمسكوا بها، فقد مدح الله- تعالى- من هذه صفته في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.(14/481)
وخيانة امرأة نوح له، كانت عن طريق إفشاء أسراره، وقولها لقومه: إنه مجنون.
وخيانة امرأة لوط له، كانت عن طريق إرشاد قومه إلى ضيوفه.. مع استمرار هاتين المرأتين على كفرهما ...
قال الإمام ابن كثير: قوله: فَخانَتاهُما أى: في الإيمان، لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة..
وليس المراد بقوله: فَخانَتاهُما في فاحشة، بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة ...
وعن ابن عباس: قال: ما زنتا، أما امرأة نوح، فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط، فكانت تدل على قومها على أضيافه.
وفي رواية عنه قال: كانت خيانتهما أن امرأة نوح، كانت تفشى سره، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط، فكانت إذا أضاف لوط أحدا، أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء.. «1» .
وقوله- تعالى-: فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ بيان لما أصابهما من سوء العاقبة بسبب خيانتهما.
أى: أن نوحا ولوطا- عليهما السلام- مع جلالة قدرهما، لم يستطيعا أن يدفعا شيئا من العذاب عن زوجتيهما الخائنتين لهما، وإنما قيل لهاتين المرأتين عند موتهما. أو يوم القيامة، ادخلا النار مع سائر الداخلين من الكفرة الفجرة..
وقوله شَيْئاً منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله: يُغْنِيا، وجاء منكرا للتقليل والتحقير، أى: فلم يغنيا عنهما شيئا من الإغناء حتى ولو كان قليلا ...
وقوله: مَعَ الدَّاخِلِينَ بعد قوله: ادْخُلَا النَّارَ لزيادة تبكيتهما، ولتأكيد مساواتهما في العذاب مع غيرهما من الكافرين الخائنين الذين لا صلة لهما بالأنبياء من حيث القرابة أو ما يشبهها.
ثم ضرب- سبحانه- مثلا للمؤمنين فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وهي آسية ابنة مزاحم، التي لم يمنعها ظلام الكفر الذي كانت تعيش فيه في بيت فرعون، ولم يشغلها ما كانت فيه من متاع الحياة الدنيا وزينتها.. عن أن تطلب الحق، وتعرض عن الباطل، وأن تكفر بكل ما يدعيه زوجها من كذب وطغيان.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 198.(14/482)
قال الجمل: آمنت بموسى- عليه السلام- لما غلب السحرة، وتبين لها أنه على الحق.
ولم تضرها الوصلة بالكافر، وهي الزوجية التي هي من أعظم الوصل ولا نفعه إيمانها، لأن كل امرئ بما كسب رهين..
وروى الشيخان عن أبى موسى الأشعرى أنه قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية بنت مزاحم، امرأة فرعون.
قيل: إنها إسرائيلية وأنها عمة موسى. وقيل إنها ابنة عم فرعون.. ومن فضائلها أنها اختارت القتل على الملك، وعذاب الدنيا على النعيم الذي كانت فيه- بعد أن خالط الإيمان قلبها «1» .
أى: وجعل الله- تعالى- حال امرأة فرعون، مثلا للمؤمنين، حيث آمنت بالحق بعد أن تبين لها، دون أن يصرفها عن ذلك أى صارف، فكان ما فعلته في أسمى درجات الإخلاص وصدق اليقين..
والظرف في قوله: إِذْ قالَتْ ... متعلق بمحذوف، أو بقوله: مَثَلًا.
أى: وضرب الله- تعالى- مثلا للذين آمنوا، حال امرأة فرعون وقت أن قالت رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أى: ابن لي بيتا في مستقر رحمتك، أو في جنتك التي لا يستطيع أحد التصرف فيها إلا بإذنك.
وقوله: فِي الْجَنَّةِ بدل أو عطف بيان لقوله- تعالى- عِنْدَكَ وقدم عندك، للإشعار بأن محبتها للقرب من رحمته- تعالى- أهم من أى شيء آخر.
وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ أى: ونجنى من طغيان فرعون، ومن عمله الذي بلغ النهاية في السوء والقبح..
وَنَجِّنِي- أيضا- من القوم الظالمين، وهم أتباع فرعون وحاشيته وملؤه، وشيعته..
وفي هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب، فهي تسأل الله- تعالى- أن يعوضها عن دار فرعون، دارا في أعلى درجات الجنة ...
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 371.(14/483)
وهذا الدعاء يشعر بأن فرعون وقومه، قد صدوها عن الإيمان، وهددوها بأنها إن آمنت..
حرموها من قصر فرعون، وزينته وفخامته.
كما أنها سألت ربها- عز وجل- أن ينجيها من ذات فرعون، ومن عمله السيئ، ومن كل من حام حول فرعون، واتبعه في طغيانه وكفره.
وقوله- سبحانه-: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ.. معطوف على امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ....
أى: وضرب الله- تعالى- مثلا آخر للمؤمنين مريم ابنة عمران ...
الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أى حفظته وصانته، إذ الإحصان جعل الشيء حصينا، بحيث لا يتوصل إليه، وهو كناية عن عفتها وطهارتها وبعدها عن كل فاحشة..
وقوله فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا مفرع على ما قبله.
قال الآلوسى: قوله: فَنَفَخْنا فِيهِ النافخ رسوله جبريل- عليه السلام- فالإسناد مجازى. وقيل الكلام على حذف مضاف، أى: فنفخ رسولنا، وضمير فِيهِ للفرج.
واشتهر أن جبريل- عليه السلام- نفخ في جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج.
وقال الفراء: ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها، وهو محتمل لأن الفرج معناه في اللغة، كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها، لأنها إذا منعت جيب درعها، فهي للنفس أمنع.. «1» .
أى: فنفخ رسولنا جبريل في فرجها أو في جيب درعها، روحا من أرواحنا هي روح عبدنا ونبينا عيسى- عليه السلام-.
وإضافة الروح إلى ذاته- تعالى- لأنه هو الخالق والموجد وللإشارة إلى أن تكوين المخلوق الحي في رحمها، كان على غير الأسباب المعتادة.
وقوله- تعالى-: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ زيادة في مدحها، وفي الثناء عليها..
أى: وكان من صفات مريم ابنة عمران أنها آمنت إيمانا حقا بِكَلِماتِ رَبِّها أى:
بشرائعه التي شرعها لعباده، وبما ألقاه إليها من إرشادات عن طريق وحيه.
وَكُتُبِهِ أى: وصدقت بكتبه التي أنزلها على أنبيائه. وقرأ الجمهور وكتابه
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 28 ص 164.(14/484)
بالإفراد، على أن المراد به جنس الكتب، أو الإنجيل الذي أنزله- سبحانه- على ابنها عيسى.
ومِنْ في قوله- تعالى-: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ للابتداء، أى: وكانت من نسل الرجال القانتين، الذين بذلوا أقصى جهدهم في طاعة الله- تعالى-، وفي إخلاص العبادة له.
ويصح أن تكون مِنْ للتبعيض. أى: وكانت من عداد المواظبين على الطاعة، وجيء بجمع الذكور على سبيل التغليب، وللإشعار بأن طاعتها لا تقل عن طاعة الرجال، الذين بلغوا الغاية في المواظبة على طاعة الله- تعالى-.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة، قد اشتملت على ثلاثة أمثال: مثل للكافرين، ومثلين للمؤمنين.
وقد تضمن مثل الكفار، أن الكافر يعاقب على كفره، دون أن ينفعه ما بينه وبين المؤمنين من قرابة أو نسب.. كما حدث لامرأة نوح وامرأة لوط..
وأما المثلان اللذان للمؤمنين، فقد تضمنا أن اتصال المؤمن بالكافر، لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله ...
وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى فقال: ما ملخصه مثّل الله- تعالى- حال الكفار، في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين.. دون أن ينفعهم ما بينهم وبينهم من صلة أو قرابة- بحال امرأة نوح وامرأة لوط: فإنهما لما نافقتا وخانتا الرسولين. لم يغن عنهما ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج شيئا..
ومثل حال المؤمنين- في أن وصلة الكافرين لا تضرهم. ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله- بحال امرأة فرعون، فإنها مع كونها زوجة أعدى أعداء الله، فإنها بسبب إيمانها قد رفع منزلتها عنده..
وبحال مريم ابنة عمران، فقد أعطاها الله ما أعطاها من الكرامة.. مع أن قومها كانوا كافرين ...
وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمى المؤمنين المذكورتين في أول السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ...
وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه، كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين..(14/485)
وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب، بالغة من اللطف والخفاء، حدا يدق عن تفطن العالم، ويزل عن تبصره «1» .
وبعد: فهذا تفسير لسورة «التحريم» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الاسكندرية- العجمي: مساء 36 من شوال 1406 هـ 4 من يوليو 1986 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 570.(14/486)
فهرس المجلد الرابع عشر من سورة الذاريات إلى سورة التحريم
السورة/ الصفحة 1- تفسير سورة «الذاريات» 5 2- تفسير سورة «الطور» 33 3- تفسير سورة «النجم» 53 4- تفسير سورة «القمر» 91 5- تفسير سورة «الرحمن» 123 6- تفسير سورة «الواقعة» 153 7- تفسير سورة «الحديد» 191 8- تفسير سورة «المجادلة» 239 9- تفسير سورة «الحشر» 277 10- تفسير سورة «الممتحنة» 315 11- تفسير سورة «الصف» 349 12- تفسير سورة «الجمعة» 371 13- تفسير سورة «المنافقون» 395 14- تفسير سورة «التغابن» 417 15- تفسير سورة «الطلاق» 437 16- تفسير سورة «التحريم» 463(14/487)
[المجلد الخامس عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) صدق الله العظيم(15/3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة الملك
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الملك» من السور المكية الخالصة، ومن السور ذات الأسماء المتعددة، قال الآلوسى: وتسمى «تبارك» و «المانعة» و «المنجية» و «المجادلة» .
فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: كنا نسميها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم «المانعة» .
وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر.
وفي رواية عن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى. قال:
اقرأ سورة «تبارك الذي بيده الملك» وعلمها أهلك، وجميع ولدك ... فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها..
وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة، منها- سوى ما تقدم- ما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن سورة من كتاب الله، ما هي إلا ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى غفر له، تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ... «1» .
وكان نزولها بعد سورة «المؤمنون» وقبل سورة «الحاقة» .. وعدد آياتها إحدى وثلاثون آية في المصحف المكي.. وثلاثون آية في غيره.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 29 ص 2 وتفسير ابن كثير ج 8 ص 203.(15/5)
2- والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أدلة وحدانية الله- تعالى- وقدرته وعن مظاهر فضله ورحمته بعباده، وعن بديع خلقه في هذا الكون، وعن أحوال الكافرين، وأحوال المؤمنين يوم القيامة، وعن وجوب التأمل والتدبر في ملكوت السموات والأرض.. وعن الحجج الباهرة التي لقنها- سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم لكي يقذف بها في وجوه المبطلين، والتي تبدأ في بضع آيات بقوله- تعالى- قُلْ.
ومن ذلك قوله- سبحانه-: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(15/6)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
التفسير افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بقوله- تعالى-:
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
ولفظ تَبارَكَ فعل ماض لا ينصرف. وهو مأخوذ من البركة، بمعنى الكثرة من كل خير. وأصلها النماء والزيادة أى: كثر خيره وإحسانه، وتزايدت بركاته.
أو مأخوذ من البركة بمعنى الثبوت. يقال: برك البعير، إذا أناخ في موضعه فلزمه وثبت فيه. وكل شيء ثبت ودام فقد برك. أى: ثبت ودام خيره على خلقه.
والملك- بضم الميم وسكون اللام-: السلطان والقدرة ونفاذ الأمر.
أى: جل شأن الله- تعالى- وكثر خيره وإحسانه، وثبت فضله على جميع خلقه، فهو- سبحانه- الذي بيده وقدرته التمكن والتصرف في كل شيء على حسب ما يريد ويرضى، وهو- عز وجل- الذي لا يعجزه أمر في الأرض أو في السماء.
واختار- سبحانه- الفعل «تبارك» للدلالة على المبالغة في وفرة العظمة والعطاء، فإن هذه الصيغة ترد للكناية عن قوة الفعل وشدته.. كما في قولهم: تواصل الخير، إذا تتابع بكثرة مع دوامه..
والتعريف في لفظ «الملك» للجنس. وتقديم المسند وهو «بيده» على المسند إليه،(15/7)
لإفادة الاختصاص. أى: بيده وحده لا بيد أحد سواه جميع أنواع السلطان والقدرة، والأمر والنهى..
قال الإمام الرازي: وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه- تعالى- ملكا ومالكا، تقول:
بيد فلان الأمر والنهى، والحل والعقد. وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام قدرته، لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة.. «1» .
وجملة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ معطوفة على قوله بِيَدِهِ الْمُلْكُ الذي هو صلة الموصول، وذلك لإفادة التعميم بعد التخصيص، لأن الجملة الأولى وهي الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ أفادت عموم تصرفه في سائر الموجودات، وهذه أفادت عموم تصرفه- سبحانه- في سائر الموجودات والمعدومات، إذ بيده- سبحانه- إعدام الموجود، وإيجاد المعدوم.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك، ما يدل على شمول قدرته، وسمو حكمته، فقال:
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ...
والموت: صفة وجودية تضاد الحياة. والمراد بخلقه: إيجاده. أو هو عدم الحياة عما هي من شأنه. والمراد بخلقه على هذا المعنى: تقديره أزلا.
واللام في قوله: لِيَبْلُوَكُمْ ... متعلقة بقوله: خَلَقَ. وقوله: لِيَبْلُوَكُمْ بمعنى يختبركم ويمتحنكم ...
وقوله أَيُّكُمْ مبتدأ، وأَحْسَنُ خبره، وعَمَلًا تمييز، والجملة في محل نصب مفعول ثان لقوله لِيَبْلُوَكُمْ.
والمعنى: ومن مظاهر قدرته- سبحانه- التي لا يعجزها شيء، أنه خلق الموت لمن يشاء إماتته، وخلق الحياة لمن يشاء إحياءه، ليعاملكم معاملة من يختبركم ويمتحنكم، أيكم أحسن عملا في الحياة، لكي يجازيكم بما تستحقونه من ثواب..
أو المعنى: خلق الموت والحياة، ليختبركم أيكم أكثر استعدادا للموت، وأسرع إلى طاعة ربه- عز وجل-.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ.. قيل: الذي خلقكم للموت والحياة، يعنى: للموت في الدنيا والحياة في الآخرة.
وقدم الموت على الحياة، لأن الموت إلى القهر أقرب.. وقيل: لأنه أقدم، لأن الأشياء في
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 169.(15/8)
الابتداء كانت في حكم الموت.. وقيل: لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل، من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع على الغرض الذي سيقت له الآية أهم.
قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله- تعالى- أذل ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة، ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء..»
وعن أبى الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر والمرض والموت، وإنه مع ذلك لوثّاب..»
وقال العلماء: الموت ليس بعدم محض، ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار، والحياة عكس ذلك.. «1» .
وأوثر بالذكر من المخلوقات الموت والحياة، لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان، الذي هو أعجب موجود على ظهر الأرض، والذي الإنسان نوع منه، وهو المقصود بالمخاطبة، إذ هو الذي رضى بحمل الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض..
والتعريف في الموت والحياة للجنس. و «أحسن» أفعل تفضيل، لأن الأعمال التي يقوم بها الناس في هذه الحياة متفاوتة في الحسن من الأدنى إلى الأعلى.
وجملة «وهو العزيز الغفور» تذييل قصد به أن جميع الأعمال تحت قدرته وتصرفه.
أى: وهو- سبحانه- الغالب الذي لا يعجزه شيء الواسع المغفرة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده، كما قال- تعالى-: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى.
ثم بين- سبحانه- مظهرا آخر من مظاهر قدرته التي لا يعجزها شيء فقال: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً....
والجملة الكريمة صفة للعزيز الغفور، أو عطف بيان أو بدل، أو خبر لمبتدأ محذوف.
وطباقا صفة لسبع سموات. وهي مصدر طابق مطابقة وطباقا، من قولك: طابق فلان النعل، إذا جعله طبقة فوق أخرى، وهو جمع طبق، كجبل وجبال، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب.. أى: هو- سبحانه- لا غيره الذي أوجد وخلق على غير مثال سابق سبع
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 206.(15/9)
سموات متطابقة، أى: بعضها فوق بعض، بطريقة متقنة محكمة.. لا يقدر على خلقها بتلك الطريقة إلا هو، ولا يعلم كنه تكوينها وهيئاتها.. أحد سواه- عز وجل-.
وقوله- سبحانه- ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ مؤكد لما قبله، والتفاوت مأخوذ من الفوت، وأصله الفرجة بين الإصبعين. تقول: تفاوت الشيئان تفاوتا، إذا حدث تباعد بينهما، والجملة صفة ثانية لسبع سماوات، أو مستأنفة لتقرير وتأكيد ما قبلها.. والخطاب لكل من يصلح له.
أى: هو- سبحانه- الذي خلق سبع سماوات بعضها فوق بعض، مع تناسقها، وإتقان تكوينها، وإحكام صنعها.. بحيث لا ترى- أيها العاقل- في خلق السموات السبع شيئا من الاختلاف، أو الاضطراب، أو عدم التناسب.. بل كلها محكمة، جارية على مقتضى نهاية النظام والإبداع.
وقال- سبحانه-: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ ... ولم يقل: ما ترى في السموات السبع من تفاوت، للإشعار بأن هذا الخلق البديع، هو ما اقتضته رحمته- تعالى- بعباده، لكي تجرى أمورهم على حالة تلائم نظام معيشتهم.. وللتنبيه- أيضا- على أن جميع مخلوقاته تسير على هذا النمط البديع في صنعها وإيجادها، كما قال- تعالى-: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ «1» . وكما قال- سبحانه-: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... «2» .
قال صاحب الكشاف: قوله: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أى: من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض، إنما هي مستوية ومستقيمة، وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأن بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه، ومنه قولهم: خلق متفاوت، وفي نقيضه متناصف.
فإن قلت: ما موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت: هي صفة مشايعة لقوله طِباقاً وأصلها: ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله: خَلْقِ الرَّحْمنِ تعظيما لخلقهن، وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب.. «3» .
ثم ساق- سبحانه- بأسلوب فيه ما فيه من التحدي، ما يدل على أن خلقه خال من التفاوت والخلل فقال: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ، يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ.
__________
(1) سورة النمل الآية 88.
(2) سورة السجدة الآية 7.
(3) تفسير الكشاف ج 4 ص 576.(15/10)
والفطور جمع فطر، وهو الشق والصدع، يقال: فطر فلان الشيء فانفطر، إذا شقه، وبابه نصر.
وقوله كَرَّتَيْنِ مثنى كرّة، وهي المرة من الكرّ، وهو الرجوع إلى الشيء مرة أخرى، يقال كر المقاتل على عدوه، إذا عاد إلى مهاجمته بعد أن تركه.
والمراد بالكرتين هنا: معاودة النظر وتكريره كثيرا، بدون الاقتصار على المرتين، فالتثنية هنا: كناية عن مطلق التكرير، كما في قولهم: لبيك وسعديك.
وقوله: خاسِئاً أى صاغرا خائبا لأنه لم يجد ما كان يطلبه ويتمناه.
وقوله: حَسِيرٌ بمعنى كليل ومتعب، من حسر بصر فلان يحسر حسورا إذا كلّ وتعب من طول النظر والتأمل والفحص، وفعله من باب قعد.
والمعنى: ما ترى- أيها الناظر- في خلق الرحمن من تفاوت أو خلل.. فإن كنت لا تصدق ما أخبرناك به، أو في أدنى شك من ذلك، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر، ولا يبقى عندك أدنى شك أو شبهه..
والاستفهام في قوله: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ للتقرير. أى: إنك مهما نظرت في خلق الرحمن. وشددت في التفحص والتأمل.. فلن ترى فيه من شقوق أو خلل أو تفاوت..
وقوله: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ تعجيز إثر تعجيز، وتحد في أعقاب تحد.. أى: ثم لا تكتف بإعادة النظر مرة واحدة، فربما يكون قد فاتك شيء في النظرة الأولى والثانية.. بل أعد النظر مرات ومرات.. فتكون النتيجة التي لا مفر لك منها، أن بصرك- بعد طول النظر والتأمل- ينقلب إليك خائبا وهو كليل متعب.. لأنه- بعد هذا النظر الكثير- لم يجد في خلقنا شيئا من الخلل أو الوهن أو التفاوت.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ أى: إن رجعت البصر، وكررت النظر، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل، وإدراك العيب، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور.. أى: بالبعد عن إصابة الملتمس.
فإن قلت: كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين؟
قلت: معنى التثنية هنا التكرير بكثرة كقولك لبيك وسعديك..
فإن قلت: فما معنى «ثم ارجع البصر» ؟ قلت: أمره برجع البصر، ثم أمره بأن لا يقتنع(15/11)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
بالرجعة الأولى، وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها، ويجم بصره ثم يعاود ويعاود، إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة، فإنه لا يعثر على شيء من فطور.. «1» .
هذا، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة، يراها قد ساقت ما يدل على وحدانية الله- تعالى- وقدرته بأبلغ أسلوب، ودعت الغافلين الذين فسقوا عن أمر ربهم، إلى التدبر في هذا الكون الذي أوجده- سبحانه- في أبدع صورة وأتقنها، فإن هذا التدبر من شأنه أن يهدى إلى الحق، ويرشد إلى الصواب..
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك أدلة أخرى على وحدانيته وقدرته، وبين ما أعده للكافرين من عذاب، بسبب إصرارهم على كفرهم.. فقال- تعالى-:
[سورة الملك (67) : الآيات 5 الى 11]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
قال الإمام الرازي: اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه- تعالى- قادرا عالما، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار معين، وموضع خاص، وسير معين، تدل على أن صانعها قادر.
ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد، ومن كونها زينة لأهل الدنيا، وسببا لانتفاعهم بها، تدل على أن صانعها عالم.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 576.(15/12)
ونظير هذه الآية قوله- تعالى- في سورة الصافات: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «1» .
وقوله: زَيَّنَّا من التزيين بمعنى التحسين والتجميل. والدُّنْيا صيغة تفضيل من الدنو بمعنى القرب.
والمصابيح: جمع مصباح وهو السراج المضيء. والمراد بها النجوم. وسميت بالمصابيح على التشبيه بها في حسن المنظر، وفي الإضاءة ليلا..
والرجوم: جمع رجم، وهو في الأصل مصدر رجمه رجما- من باب نصر- إذا رماه بالرّجام أى: بالحجارة، فهو اسم لما يرجم به، أى: ما يرمى به الرامي غيره من حجر ونحوه، تسمية للمفعول بالمصدر، مثل الخلق بمعنى المخلوق.
وصدرت الآية الكريمة بالقسم، لإبراز كمال العناية بمضمونها.
والمعنى: وبالله لقد زينا وجملنا السماء القريبة منكم بكواكب مضيئة كإضاءة السّرج، وجعلنا- بقدرتنا- من هذه الكواكب، ما يرجم الشياطين ويحرقها، إذا ما حاولوا أن يسترقوا السمع، كما قال- تعالى-: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «2» .
قال الإمام ابن كثير: قوله: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ عاد الضمير في قوله وَجَعَلْناها على جنس المصابيح لا على عينها، لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها- والله أعلم-.
قال قتادة: إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.. «3» .
فالضمير في قوله: وَجَعَلْناها يعود إلى المصابيح، ومنهم من أعاده إلى السماء الدنيا، على تقدير: وجعلنا منها رجوما للشياطين الذين يسترقون السمع.
وقوله- تعالى-: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ بيان لسوء مصيرهم في الآخرة، بعد بيان سوء مصيرهم في الدنيا عن طريق إحراقهم بالشهب.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 173.
(2) سورة الجن الآيتان 8، 9.
(3) تفسير ابن كثير ج 8 ص 204. [.....](15/13)
أى: وهيأنا لهؤلاء الشياطين في الآخرة- بعد إحراقهم في الدنيا بالشهب- عذاب النار المشتعلة المستعرة.
فالسعير- بزنة فعيل- اسم لأشد النار اشتعالا. يقال: سعر فلان النار- كمنع- إذا أوقدها بشدة.
وكان السعير عذابا للشياطين- مع أنهم مخلوقون من النار، لأن نار جهنم أشد من النار التي خلقوا منها، فإذا ألقوا فيها صارت عذابا لهم، إذ السعير أشد أنواع النار التهابا واشتعالا وإحراقا..
وقوله: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ معطوف على ما قبله.
أى: هيأنا للشياطين عذاب السعير، وهيأنا- أيضا- للذين كفروا بربهم من الإنس عذاب جهنم، وبئس المصير عذاب جهنم.
ثم بين- سبحانه- أحوالهم الأليمة حينما يلقون جميعا في النار فقال: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ ...
والظرف «إذا» متعلق بقوله سَمِعُوا والشهيق: تردد النفس في الصدر بصعوبة وعناء..
أى: أن هؤلاء الكافرين بربهم، عند ما يلقون في النار، يسمعون لها صوتا فظيعا منكرا، وَهِيَ تَفُورُ أى: وحالها أنها تغلى بهم غليان المرجل بما فيه، إذ الفور: شدة الغليان، ويقال ذلك في النار إذا هاجت، وفي القدر إذا غلت..
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أى تكاد النار تتقطع وينفصل بعضها عن بعض، لشدة غضبها عليهم، والتهامها لهم، وتميز أصله تتميز فحذفت إحدى التاءين تخفيفا.
والغيظ أشد الغضب، والجملة في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف. أى: هي تكاد تتقطع من شدة غضبها عليهم..
وقوله: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها ... كلام مستأنف لبيان حال أهلها.
والفوج: الجماعة من الناس ولفظ كُلَّما مركب من كل الدال على الشمول، ومن ما المصدرية الظرفية.
أى: في كل وقت وآن، يلقى بجماعة من الكافرين في النار، يسألهم خزنتها من الملائكة، سؤال تبكيت وتقريع، بقولهم:(15/14)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أى: ألم يأتكم يا معشر الكافرين نذير في الدنيا، ينذركم ويخوفكم من أهوال هذا اليوم، ويدعوكم إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده.
ثم حكى- سبحانه- ما رد به الكافرون على خزنة جهنم فقال: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ...
أى: قال الكافرون- على سبيل التحسر والتفجع- في ردهم على خزنة جهنم: بلى لقد جاءنا المنذر الذي أنذرنا وحذرنا من سوء عاقبة الكفر.. ولكننا كذبناه، وأعرضنا عن دعوته، بل وتجاوزنا ذلك بأن قلنا له على سبيل العناد والجحود والغرور: ما نزل الله على أحد من شيء من الأشياء التي تتلوها علينا، وتأمرنا بها، أو تنهانا عن مخالفتها.
وقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ يحتمل أنه من كلام الكافرين لرسلهم الذين أنذروهم وحذروهم من الإصرار على الكفر.
أى: جاءنا الرسل الذين أنذرونا.. فكذبناهم، وقلنا لهم: ما نزل الله من شيء من الأشياء على ألسنتكم.. وقلنا لهم- أيضا- ما أنتم إلا في ضلال كبير، أى: في ذهاب واضح عن الحق، وبعد شديد عن الصواب.
ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة، أى: قال لهم الملائكة على سبيل التجهيل والتوبيخ:
ما أنتم- أيها الكافرون- إلا في ضلال كبير، بسبب تكذيبكم لرسلكم، وإعراضكم عمن حذركم وأنذركم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ من المخاطبون به؟
قلت: هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين، على أن النذير بمعنى الإنذار. والمعنى:
ألم يأتكم أهل نذير: أو وصف به منذروهم لغلوهم في الإنذار، كأنهم ليسوا إلا إنذارا..
ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول: أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا، أو أرادوا بالضلال: الهلاك.. «1» .
وجمع- سبحانه- الضمير في قوله إِنْ أَنْتُمْ.. مع أن الملائكة قد سألوهم أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ بالإفراد، للإشعار بأن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بتكذيب النذير الذي أنذرهم، بل كذبوه وأتباعه الذين آمنوا به.
فكأن كل فوج منهم كان يقول للرسول الذي جاء لهدايته: أنت وأتباعك في ضلال كبير.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 578.(15/15)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
ثم بين- سبحانه- جانبا آخر من حسراتهم في هذا اليوم فقال: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ، ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ...
أى: وقال الكافرون بربهم- على سبيل الحسرة والندامة- لو كنا في الدنيا نسمع ما يقال لنا على لسان رسولنا، سماع طاعة وتفكر واستجابة، أو نعقل ما يوجه إلينا من هدايات وإرشادات..
لو كنا كذلك، ما صرنا في هذا اليوم من جملة أصحاب النار المسعرة، الذين هم خالدون فيها أبدا.
وقدم- سبحانه- السماع على التعقل، مراعاة للترتيب الطبيعي، لأن السماع يكون أولا، ثم يعقبه التعقل والتدبر لما يسمع.
والفاء الأولى في قوله- تعالى-: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ للإفصاح، والثانية للسببية، والسّحق: البعد، يقال: سحق- ككرم وعلم- سحقا، أى:
بعد بعدا، وفلان أسحقه الله، أى: أبعده عن رحمته، وهو مصدر ناب عن فعله في الدعاء، ونصبه على أنه مفعول به لفعل مقدر، أى: ألزمهم الله سحقا، أو منصوب على المصدرية، أى: فسحقهم الله سحقا.
أى: إذا كان الأمر كما أخبروا عن أنفسهم، فقد أقروا واعترفوا بذنوبهم، وأن الله- تعالى- ما ظلمهم، وأن ندمهم لن ينفعهم في هذا اليوم.. بل هم جديرون بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله- تعالى- وبخلودهم في نار السعير.
واللام في قوله لِأَصْحابِ للتبيين، كما في قولهم: سقيا لك.
فالآية الكريمة توضح أن ما أصابهم من عذاب كان بسبب إقرارهم بكفرهم، وإصرارهم عليه حتى الممات، وفي الحديث الشريف: «لن يدخل أحد النار، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة» . وفي حديث آخر: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» «1» .
وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترغيب بالترهيب أو العكس، أخذت السورة في بيان حسن عاقبة المؤمنين، بعد بيان سوء عاقبة الكافرين، وفي لفت أنظار الناس إلى نعم الله- تعالى- عليهم، لكي يشكروه ويخلصوا له العبادة.. قال- تعالى:
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 18]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 205.(15/16)
وقوله: يَخْشَوْنَ من الخشية، وهي أشد الخوف وأعظمه، والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل.
أى: إن الذين يخشون ربهم فيخافون عذابه، ويعبدونه كأنهم يرونه، مع أنهم لا يرونه بأعينهم.. هؤلاء الذين تلك صفاتهم، لهم من خالقهم- عز وجل- مغفرة عظيمة، وأجر بالغ الغاية في الكبر والضخامة.
وقوله بِالْغَيْبِ حال من الفاعل، أى: غائبا عنهم، أو من المفعول. أى: غائبين عنه. أى. يخشون عذابه دون أن يروه- سبحانه-.
ويجوز أن يكون المعنى: يخشون عذابه حال كونهم غائبين عن أعين الناس، فهم يراقبونه- سبحانه- في السر، كما يراقبونه في العلانية كما قال الشاعر:
يتجنب الهفوات في خلواته ... عف السريرة، غيبه كالمشهد
والحق أن هذه الصفة، وهي خوف الله- تعالى- بالغيب، على رأس الصفات التي تدل على قوة الإيمان، وعلى طهارة القلب، وصفاء النفس..
ثم بين- سبحانه- بأبلغ أسلوب، ان السر يتساوى مع العلانية بالنسبة لعلمه- تعالى- فقال: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ....
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية، أن المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فلما(15/17)
أطلعه الله- تعالى- على أمرهم، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد.. «1» .
وصيغة الأمر في قوله: وَأَسِرُّوا واجْهَرُوا مستعملة في التسوية بين الأمرين، كما في قوله- تعالى- فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا....
أى: إن إسراركم- أيها الكافرون- بالإساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو جهركم بهذه الإساءة، يستويان في علمنا، لأننا لا يخفى علينا شيء من أحوالكم، فسواء عندنا من أسر منكم القول ومن جهر به.
وجملة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر أى: سواء في علمه- تعالى- إسراركم وجهركم، لأنه- سبحانه- عليم علما تاما بما يختلج في صدوركم، وما يدور في نياتكم التي هي بداخل قلوبكم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
ثم أكد- سبحانه- شمول علمه لكل شيء بقوله: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
واللطيف من اللطف، وهو العالم بخبايا الأمور، والمدبر لها برفق وحكمة ويسر..
والخبير: من الخبر، وهو العلم بجزئيات الأشياء الخفية، التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها، لأنها كانت خافية عليهم.
ولفظ مَنْ في قوله مَنْ خَلَقَ يصح أن يكون مفعولا لقوله يَعْلَمُ، والعائد محذوف أى: ألا يعلم الله- تعالى- شأن الذين خلقهم، والحال أنه- سبحانه- هو الذي لطف علمه ودق، إذ هو المدبر لأمور خلقه برفق وحكمة، العليم علما تاما بأسرار النفوس وخبايا ما توسوس به..
ويجوز أن يكون مَنْ فاعلا لقوله يَعْلَمُ على أن المقصود به ذاته- تعالى-، ويكون مفعول يعلم محذوفا للعلم به، والمعنى: ألا يعلم السر ومضمرات القلوب الله الذي خلق كل شيء وأوجده، وهو- سبحانه- الموصوف بأنه لطيف خبير.
والاستفهام على الوجهين لإنكار ما زعمه المشركون من انتفاء علمه- تعالى- بما يسرونه فيما بينهم، حيث قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 214.(15/18)
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
والذلول: السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها من مشى عليها، أو غرس فيها، أو بناء فوقها.. من الذّل وهو سهولة الانقياد للغير، ومنه قوله- تعالى-: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ.. أى: غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض..
والأمر في قوله فَامْشُوا فِي مَناكِبِها للإباحة، والمناكب جمع منكب وهو ملتقى الكتف مع العضد والمراد به هنا: جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها..
وهو مثل لفرط التذليل، وشدة التسخير..
أى: هو- سبحانه- الذي جعل لكم- بفضله ورحمته- الأرض المتسعة الأرجاء.
مذللة مسخرة لكم، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشي عليها، أو البناء فوقها. أو غرس النبات فيها..
ومادام الأمر كذلك فامشوا في جوانبها وأطرافها وفجاجها.. ملتمسين رزق ربكم فيها، وداوموا على ذلك، ففي الحديث الشريف: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» .
والمراد بقوله: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الانتفاع بما فيها من وجوه النعم، وعبر عنه بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع.
فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكي ينتفعوا بما في الأرض من كنوز، حتى يستغنوا عن غيرهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم وسائر أمور معاشهم.. فإنه بقدر تقصيرهم في استخراج كنوزها، تكون حاجتهم لغيرهم.
قال بعض العلماء: قال الإمام النووي في مقدمة المجموع: إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإبرة، لتستغنى عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج..
وقد أعطى الله- تعالى- العالم الإسلامى الأولوية في هذا كله. فعليهم أن يحتلوا مكانهم، ويحافظوا على مكانتهم، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا.. «1» .
وقد أفاض بعض العلماء في بيان معنى قوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ... فقال ما ملخصه: والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة
__________
(1) تفسير أضواء البيان ج 8 ص 406.(15/19)
استقرارهم عليها.. ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها. والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة، ويبصرهم بها، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد، وكل جيل، ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول..
والله- تعالى- جعل الأرض ذلولا للبشر من حيث جاذبيتها.. ومن حيث سطحها..
ومن حيث تكوينها، ومن حيث إحاطة الهواء بها.. ومن حيث حجمها.. «1» .
وقوله: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ معطوف على ما قبله، لبيان أن مصيرهم إليه- تعالى- بعد قضائهم في الأرض المذللة لهم، مدة حياتهم..
أى: وإليه وحده مرجعكم، وبعثكم من قبوركم، بعد أن قضيتم على هذه الأرض، الأجل الذي قدره- سبحانه- لكم.
ثم حذر- سبحانه- من بطشه وعقابه فقال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ..
والخسف: انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض فيصير باطنا، والباطن ظاهرا..
والمور: شدة الاضطراب والتحرك. يقال: مار الشيء مورا، إذا ارتج واضطرب، والمراد بمن في السماء: الله- عز وجل- بدون تحيز أو تشبيه أو حلول في مكان.
قال الإمام الآلوسى: قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وهو الله- عز وجل- كما ذهب إليه غير واحد، فقيل على تأويل: من في السماء أمره وقضاؤه، يعنى أنه من التجوز في الإسناد، أو أن فيه مضافا مقدرا، وأصله: من في السماء أمره، فلما حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر، وقيل على تقدير: خالق من في السماء..
وقيل في بمعنى على، ويراد العلو بالقهر والقدرة..
وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره- تعالى- والآية عندهم من المتشابه وقد قال صلى الله عليه وسلم آمنوا بمتشابهه ولم يقل أولوه. فهم مؤمنون بأنه- عز وجل- في السماء: على المعنى الذي أراده- سبحانه- مع كمال التنزيه. وحديث الجارية- التي قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم أين الله؟ فأشارت إلى السماء- من أقوى الأدلة في هذا الباب. وتأويله بما أول به الخلف، خروج عن دائرة الإنصاف عند ذوى الألباب.. «2» .
__________
(1) راجع في ظلال القرآن ج 29 ص 193 نقلا عن كتاب. العلم يدعو للايمان ص 70.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 29 ص 15.(15/20)
والمعنى: أأمنتم- أيها الناس- من في السماء وهو الله- عز وجل- أن يذهب الأرض بكم، فيجعل أعلاها أسفلها.. فإذا هي تمور بكم وتضطرب، وترتج ارتجاجا شديدا تزول معه حياتكم.
فالمقصود بالآية الكريمة تهديد الذين يخالفون أمره، بهذا العذاب الشديد، وتحذيرهم من نسيان بطشه وعقابه.
والباء في قوله بِكُمُ للمصاحبة. أى: يخسفها وأنتم مصاحبون لها بذواتكم، بعد أن كانت مذللة ومسخرة لمنفعتكم..
ثم انتقل- سبحانه- من تهديدهم بالخسف إلى تهديدهم بعذاب آخر فقال: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ.
أى: بل أأمنتم- أيها الناس- من السماء، وهو الله- عز وجل- بسلطانه وقدرته..
أن يرسل عليكم حاصِباً أى: ريحا شديدة مصحوبة بالحصى والحجارة التي تهلك، فحينئذ ستعلمون عند معاينتكم للعذاب، كيف كان إنذارى لكم متحققا وواقعا وحقا..
فالاستفهام في الآيتين المقصود به التعجيب من أمنهم عذاب الله- تعالى- عند مخالفتهم لأمره، وخروجهم عن طاعته.
وقدم- سبحانه- التهديد بالخسف على التهديد بإرسال الحاصب، لأن الخسف من أحوال الأرض، التي سبق أن بين لهم أنه خلقها مذللة لهم، وفيها ما فيها من منافعهم، فهذه المنافع ليس عسيرا على الله- تعالى- أن يحولها إلى عذاب لهم..
ثم ذكرهم- سبحانه- بما جرى للكافرين السابقين فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ..
أى: وو الله لقد كذب الذين من قبل كفار مكة من الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وثمود.. فكان إنكارى عليهم، وعقابي لهم، شديدا ومبيرا ومدمرا لهم تدميرا تاما.
فالنكير بمعنى الإنكار، والاستفهام في قوله: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للتهويل.
أى: إن إنكارى عليهم كفرهم كان إنكارا عظيما، لأنه ترتب عليه، أن أخذتهم أخذ عزيز مقتدر.
كما قال- تعالى-: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ،(15/21)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «1» .
ثم تنتقل السورة بعد هذا التهديد والإنذار، إلى دعوتهم إلى التأمل والتفكر، في مشهد الطير صافات في الجو.. وفي أحوال أنفسهم عند اليأس والفقر، وعند الهزيمة والإعراض عن الحق.. فيقول- سبحانه-:
[سورة الملك (67) : الآيات 19 الى 22]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
قال بعض العلماء: قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ.. عطف على جملة هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا.. استرسالا في الدلائل على انفراد الله- تعالى- بالتصرف في الموجودات، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات، وهي أحوال الطير في نظام حركاتها في حال طيرانها، إذ لا تمشى على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به.. «2» .
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَوْا.. للتعجيب من حال المشركين، لعدم تفكرهم فيما يدعو إلى التفكر والاعتبار..
والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والطير: جمع طائر كصحب وصاحب..
والمعنى: أغفل هؤلاء المشركون، وانطمست أعينهم عن رؤية الطير فوقهم، وهن صافَّاتٍ أى: باسطات أجنحتهن في الهواء عند الطيران في الجو، وَيَقْبِضْنَ أى:
__________
(1) سورة العنكبوت آية 40.
(2) تفسير التحرير والتنوير ج 29 ص 37 للشيخ محمد الطاهر بن عاشور- رحمه الله-.(15/22)
ويضممن أجنحتهن تارة على سبيل الاستظهار بها على شدة التحرك في الهواء..
ما يُمْسِكُهُنَّ في حالتي البسط والقبض إِلَّا الرَّحْمنُ الذي وسعت رحمته وقدرته كل شيء، والذي أحسن كل شيء خلقه..
إِنَّهُ- سبحانه- بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ أى: إنه- سبحانه- مطلع على أحوال كل شيء، ومدبر لأمره على أحسن الوجوه وأحكمها..
قال صاحب الكشاف: صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا وَيَقْبِضْنَ أى: ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قلت: لم قيل وَيَقْبِضْنَ ولم يقل: وقابضات؟
قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها. وأما القبض فطارئ على البسط.
للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح.. «1» .
والمراد بإمساكهن: عدم سقوطهن إلى الأرض بقدرته وحكمته- تعالى- حيث أودع فيها من الخصائص ما جعلها تطير في الجو، كالسابح في الماء.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ.. «2» .
ثم لفت أنظارهم للمرة الثانية إلى قوة بأسه، ونفاذ إرادته، وعدم وجود من يأخذ بيدهم إذا ما أنزل بهم عقابه فقال: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ.
والاستفهام للتحدى والتعجيز، وأم منقطعة بمعنى بل، فهي للإضراب الانتقالى من غرض إلى آخر، ومن حجة إلى أخرى.
ومن اسم استفهام مبتدأ، وخبره اسم الإشارة، وما بعده صفته.
والمراد بالجند: الجنود الذين يهرعون لنصرة من يحتاج إلى نصرتهم. ولفظ دُونِ أصله ظرف للمكان الأسفل.. ويطلق على الشيء المغاير، فيكون بمعنى غير كما هنا، والمقصود بالآية تحقير شأن هؤلاء الجند، والتهوين من شأنهم.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 581.
(2) سورة النحل آية 79.(15/23)
والمعنى: بل أخبرونى- أيها المشركون- بعد أن ثبتت غفلتكم وعدم تفكيركم تفكيرا ينفعكم، من هذا الحقير الذي تستعينون به في نصركم ودفع الضر عنكم، متجاوزين في ذلك إرادة الرحمن ومشيئته ونصره. أو من هذا الذي ينصركم نصرا كائنا غير نصر الرحمن، أو من ينصركم من عذاب كائن من عنده- تعالى-.
والجواب الذي لا تستطيعون جوابا سواه: هو أنه لا ناصر لكم يستطيع أن ينصركم من دون الله- تعالى-، كما قال- سبحانه- وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ..
وكما قال- عز وجل-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ.
وقوله- سبحانه-: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ كلام معترض بين ما قبله وما بعده، لبيان حالهم القبيح وواقعهم المنكر.
والغرور: صفة في النفس تجعلها تعرض عن الحق جحودا وعنادا وجهلا. أى ليس الكافرون إلا في غرور عظيم، وفي جهل تام، عن تدبر الحق، لأنهم زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فرأوها حسنة.
ثم انتقل- سبحانه- إلى إلزامهم بنوع آخر من الحجج فقال: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ..
أى: بل أخبرونى من هذا الذي يزعم أنه يستطيع أن يوصل إليكم الرزق والخير، إذا أمسك الله- تعالى- عنكم ذلك، أو منع عنكم الأسباب التي تؤدى إلى نفعكم وإلى قوام حياتكم، كمنع نزول المطر إليكم، وكإهلاك الزروع والثمار التي تنبتها الأرض..
إنه لا أحد يستطيع أن يرزقكم سوى الله- تعالى-.
وقوله: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ جملة مستأنفة جواب لسؤال تقديره: فهل انتفع المشركون بتلك المواعظ فكان الجواب كلا إنهم لم ينتفعوا، بل لَجُّوا أى تمادوا في اللجاج والجدال بالباطل وفِي عُتُوٍّ أى: وفي استكبار وطغيان، وفي نُفُورٍ أى: شرود وتباعد عن الطريق المستقيم.
أى: أنهم ساروا في طريق أهوائهم حتى النهاية، دون أن يستمعوا إلى صوت نذير أو واعظ أو مرشد.
ثم ضرب- سبحانه- مثلا لأهل الإيمان وأهل الكفر، وأهل الحق وأهل الباطل، فقال(15/24)
- سبحانه-: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
والمكب: هو الإنسان الساقط على وجهه، يقال: كبّ فلان فلانا وأكبه، إذا صرعه وقلبه بأن جعل وجهه على الأرض.. فهو اسم فاعل من أكب.
وقوله: أَهْدى مشتق من الهدى، وهو معرفة طريق الحق والسير فيها، والمفاضلة هنا ليست مقصودة، لأن الذي يمشى مكبا على وجهه، لا شيء عنده من الهداية أو الرشد إطلاقا حتى يفاضل مع غيره، وفيه لون من التهكم بهذا المكب على وجهه.
و «السوى» هو الإنسان الشديد الاستواء والاستقامة، فهو فعيل بمعنى فاعل.
ومنه قوله- تعالى- حكاية عما قاله إبراهيم- عليه السلام- لأبيه: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أى: مستويا.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ... :
هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه، كمثل من يمشى مكبا على وجهه، أى: يمشى منحنيا لا مستويا على وجهه، أى: لا يدرى أين يسلك، ولا كيف يذهب، بل هو تائه حائر ضال، أهذا أهدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا أى: منتصب القامة عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أى على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة.
هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة، فالمؤمن يحشر يمشى سويا على صراط مستقيم.. وأما الكافر فإنه يحشر يمشى على وجهه إلى النار..
وروى الإمام أحمد عن أنس قال: قيل يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟
فقال: «أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم» «1» ؟.
وقال الجمل: هذا مثل للمؤمن والكافر، حيث شبه- سبحانه- المؤمن في تمسكه بالدين الحق، ومشيه على منهاجه، بمن يمشى في الطريق المعتدل، الذي ليس فيه ما يتعثر به..
وشبه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل، بمن يمشى في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض، فيتعثر ويسقط على وجهه، وكلما تخلص من عثرة وقع في أخرى.
فالمذكور في الآية هو المشبه به، والمشبه محذوف، لدلالة السياق عليه.. «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 208.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 380.(15/25)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد لفتت أنظار الناس إلى التفكر والاعتبار، ووبخت المشركين على جهالاتهم وطغيانهم، وساقت مثالا واضحا للمؤمن والكافر، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم في بعض آيات أن يذكر الكافرين بنعم الله- تعالى- عليهم، وأن يرد على شبهاتهم وأكاذيبهم بما يدحضها، وأن يكل أمره وأمرهم إليه وحده- تعالى- فقال:
[سورة الملك (67) : الآيات 23 الى 30]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين- على سبيل تبصيرهم بالحجج والدلائل الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا، وعلى سبيل التنويع في الإرشاد والتوجيه.. قل لهم:
الرحمن- عز وجل- هو الذي أنشأكم وأوجدكم في كل طور من أطوار حياتكم، وهو سبحانه- الذي أوجد لكم السمع الذي تسمعون به، والأبصار التي تبصرون بها الكائنات، والأفئدة أى والقلوب التي تدركونها بها..
ولكنكم- مع كل هذه النعم- قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ خالقكم- عز وجل-.(15/26)
وجمع- سبحانه- الأفئدة والأبصار، وأفرد السمع، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير، ومن حجة أو دليل، فكان من ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم.
وكذلك شأن الناس فيما تنتظمه أبصارهم من آيات الله في كونه، فإن أنظارهم تختلف في عمق تدبرها وضحولته، فكان من ذلك تعدد المبصرين، بتعدد مقادير ما يستنبطون من آيات الله في الآفاق.
وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعا شيء واحد، هو الحجة يناديهم بها المرسلون، والدليل يوضحه لهم النبيون.
لذلك كان الناس جميعا كأنهم سمع واحد، فكان إفراد السمع إيذانا من الله بأن حجته واحدة، ودليله واحد لا يتعدد.
وقوله: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ صفة لمصدر محذوف، أى: شكرا قليلا، وما مزيدة لتأكيد التقليل.
وعبر- سبحانه- بقوله قَلِيلًا لحضهم على الإكثار من شكره- تعالى-، وذلك عن طريق إخلاص العبادة له- عز وجل-: ونبذ عبادة غيره.
ثم أمره- سبحانه- للمرة الثانية أن يذكرهم بنعمة أخرى فقال قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. أى: وقل لهم- أيها الرسول الكريم- الرحمن- تعالى- وحده هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ.
أى: هو الذي خلقكم وبثكم وكثركم في الأرض، إذ الذرء معناه: الإكثار من الموجود..
وقوله: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بيان لمصيرهم بعد انتهاء آجالهم في هذه الدنيا.
أى: وإليه وحده- لا إلى غيره- يكون مرجعكم للحساب والجزاء يوم القيامة.
ثم حكى- سبحانه- أقوالهم التي تدل على طغيانهم وجهالاتهم فقال: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
والوعد: مصدر بمعنى الموعود، والمقصود به ما أخبرهم به صلى الله عليه وسلم من أن هناك بعثا وحسابا وجزاء.. ومن أن العاقبة والنصر للمؤمنين.
أى: ويقول هؤلاء الجاحدون للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، على سبيل التهكم(15/27)
والاستهزاء: متى يقع هذا الذي تخبروننا عنه من البعث والحساب والجزاء، ومن النصر لكم لا لنا..؟.
وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن كنتم صادقين فيما تقولونه لنا، فأين هو؟ إننا لا نراه ولا نحسه.
وهنا يأمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم للمرة الثالثة، أن يرد عليهم الرد الذي يكبتهم فيقول: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أى: قل لهم يا محمد علم قيام الساعة، وعلم اليوم الذي سننتصر فيه عليكم.. عند الله- تعالى- وحده، لأن هذا العلم ليس من وظيفتي.
وإنما وظيفتي أنى نذير لكم، أحذركم من سوء عاقبة كفركم، فإذا استجبتم لي نجوتم، وإن بقيتم على كفركم هلكتم.
واللام في قوله: الْعِلْمُ للعهد. أى: العلم بوقت هذا الوعد، عند الله- تعالى- وحده.
والمبين: اسم فاعل من أبان المتعدى، أى: مبين لما أمرت بتبليغه لكم بيانا واضحا لا لبس فيه ولا غموض.
ثم حكى- سبحانه- حالهم عند ما يرون العذاب الذي استعجلوه فقال: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ.
والفاء في قوله: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ... هي الفصيحة. وفَلَمَّا ظرف بمعنى حين.
ورَأَوْهُ مستعمل في المستقبل وجيء به بصيغة الماضي لتحقق الوقوع، كما في قوله- تعالى-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ...
وزُلْفَةً اسم مصدر لأزلف إزلافا، بمعنى القرب. ومنه قوله- تعالى-: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ... أى: قربت للمتقين، وهو حال من مفعول رَأَوْهُ.
والمعنى: لقد حل بالكافرين العذاب الذي كانوا يستعجلونه، ويقولون: متى هذا الوعد.
فحين رأوه نازلا بهم، وقريبا منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أى: ساءت رؤيته وجوههم، وحلت عليها غبرة ترهقها قترة.
وَقِيلَ لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أى: هذا هو العذاب الذي كنتم تتعجلون وقوعه في الدنيا، وتستهزءون بمن يحذركم منه.
فقوله تَدَّعُونَ من الدعاء بمعنى الطلب، أو من الدعوى.(15/28)
وسِيئَتْ فعل مبنى للمجهول. وأسند- سبحانه- حصول السوء إلى الوجوه، لتضمينه معنى كلحت وقبحت واسودت، لأن الخوف من العذاب قد ظهرت آثاره على وجوههم.
وقال- سبحانه- سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالإظهار، ولم يقل وجوههم، لذمهم بصفة الكفر، التي كانت السبب في هلاكهم.
ومفعول تَدَّعُونَ محذوف. والتقدير: وقيل لهم هذا الذي كنتم تدعون عدم وقوعه.
قد وقع، وها أنتم تشاهدونه أمام أعينكم.
والجار والمجرور في قوله بِهِ متعلق بتدعون لأنه مضمن معنى تكذبون.
والقائل لهم هذا القول: هم خزنة النار، على سبيل التبكيت لهم.
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم للمرة الرابعة، أن يرد على ما كانوا يتمنونه بالنسبة له ولأصحابه فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ.
ولقد كان المشركون يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يرددون ذلك في مجالسهم، وقد حكى القرآن عنهم ذلك في آيات منها قوله- تعالى-: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- أَرَأَيْتُمْ أى: أخبرونى إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ. - تعالى- وأهلك مَنْ مَعِيَ من أصحابى وأتباعى أَوْ رَحِمَنا بفضله وإحسانه بأن رزقنا الحياة الطويلة، ورزقنا النصر عليكم.
فأخبرونى في تلك الحالة فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أى: من يستطيع أن يمنع عنكم عذاب الله الأليم، إذا أراد أن ينزله بكم؟ مما لا شك فيه أنه لن يستطيع أحد أن يمنع ذلك عنكم.
قال صاحب الكشاف: كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك، فأمر بأن يقول لهم: نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين: إما أن نهلك كما تتمنون، فننقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة عليكم، أما أنتم فماذا تصنعون؟ من يجيركم- وأنتم كافرون- من عذاب أليم لا مفر لكم منه.(15/29)
يعنى: إنكم تطلبون لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك بعده.. «1» .
والمراد بالهلاك: الموت، وبالرحمة: الحياة والنصر بدليل المقابلة، وقد منح الله- تعالى- نبيه العمر المبارك النافع، فلم يفارق صلى الله عليه وسلم الدنيا إلا بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وكانت كلمته هي العليا.
والاستفهام في قوله أَرَأَيْتُمْ للإنكار والتعجيب من سوء تفكيرهم.
والرؤية علمية، والجملة الشرطية بعدها سدت مسد المفعولين.
وقال- سبحانه- فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ للإشارة إلى أن كفرهم هو السبب في بوارهم وفي نزول العذاب الأليم بهم.
ثم أمره- سبحانه- للمرة الخامسة، أن يبين لهم أنه هو وأصحابه معتمدون على الله- تعالى- وحده، ومخلصون له العبادة والطاعة، فقال: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ...
أى: وقل يا محمد لهؤلاء الجاحدين: إذا كنتم قد أشركتم مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة، فنحن على النقيض منكم، لأننا أخلصنا عبادتنا للرحمن الذي أوجدنا برحمته، وآمنا به إيمانا حقا، وعليه وحده توكلنا وفوضنا أمورنا.
وأخر- سبحانه- مفعول آمَنَّا وقدم مفعول تَوَكَّلْنا، للتعريض بالكافرين، الذين أصروا على ضلالهم، فكأنه يقول: نحن آمنا ولم نكفر كما كفرتم، وتوكلنا عليه وحده، ولم نتوكل على ما أنتم متوكلون عليه من أصنامكم وأموالكم وأولادكم..
وقوله فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مسوق مساق التهديد والوعيد أى:
فستعلمون في عاجل أمرنا وآجله، أنحن الذين على الحق أم أنتم؟ ونحن الذين على الباطل أم أنتم؟ ..
فالمقصود بالآية الكريمة التهديد والإنذار، مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف، الذي يحملهم على التدبر والتفكر لو كانوا يعقلون.
ثم أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم للمرة السادسة، أن يذكرهم بنعمة الماء الذي يشربونه فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 583.(15/30)
وقوله غَوْراً مصدر غارت البئر، إذا نضب ماؤها وجف. يقال: غار الماء يغور غورا، إذا ذهب وزال..
والمعين: هو الماء الظاهر الذي تراه العيون، ويسهل الحصول عليه، وهو فعيل من معن إذا قرب وظهر.
أى: وقل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل التوبيخ وإلزام الحجة: أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا في الأرض، بحيث لا يبقى له وجود أصلا.
فمن يستطيع أن يأتيكم بماء ظاهر على وجه الأرض، تراه عيونكم، وتستعملونه في شئونكم ومنافعكم.
إنه لا أحد يستطيع ذلك إلا الله- تعالى- وحده، فعليكم أن تشكروه على نعمه، لكي يزيدكم منها.
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الملك» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(15/31)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة القلم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «ن» أو «القلم» تعتبر من أوائل السور القرآنية، التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر السيوطي في كتابه «الإتقان» أنها السورة الثانية في النزول، بعد سورة «العلق» «1» .
ويرى بعض العلماء أنها السورة الرابعة في النزول، فقد سبقتها سور: العلق، والمدثر، والمزمل، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية.
2- والمحققون على أنها من السور المكية الخالصة، فقد ذكر الزمخشري وابن كثير.. أنها مكية، دون أن يذكرا في ذلك خلافا.
وقال الآلوسى: هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة، فقد نزلت- على ما روى عن ابن عباس- اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... ثم هذه، ثم المزمل، ثم المدثر، وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها، بين أهل التأويل.
وفي الإتقان: استثنى منها: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا ... إلى قوله- تعالى-: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «2» .
3- والذي تطمئن إليه النفس، أن سورة ن من السور المكية الخالصة، لأنه لم يقم
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 27. [.....]
(2) تفسير الآلوسى ج 29 ص 22.(15/33)
دليل مقنع. على أن فيها آيات مدنية، بجانب أن أسلوبها وموضوعاتها تشير إلى أنها من السور المكية الخالصة.
كذلك نميل إلى أن بعض آياتها قد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن جهر بدعوته.
4- وقد فصل هذا المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه: لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة، سواء مطلعها أو جملتها.
والروايات التي تقول: إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة، ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها، يجعلنا نرجح غير هذا، حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها، وتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو برىء منه، كذلك ذكرت بعض الروايات في السورة آيات مدنية، ونحن نستبعد هذا كذلك، ونعتقد أن السورة كلها مكية، لأن طابع آياتها عميق في مكيته.
والذي نرجحه بشأن السورة كلها، أنها ليست الثانية في ترتيب النزول وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية، بل بعد الجهر بالدعوة، وبعد أن أخذت قريش في محاربتها بصورة عنيفة.
والسورة قد أشارت إلى شيء من عروض المشركين: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية، إنما تكون بعد ظهورها، وشعور المشركين بخطرها.. «1» .
5- والذي يتدبر هذه السورة الكريمة، يراها قد اشتملت على مقاصد من أبرزها: تحدى المشركين بهذا القرآن الكريم، والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بأفضل أنواع الثناء ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
والتسلية الجميلة له صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن مهادنة المشركين أو ملاينتهم أو موافقتهم على مقترحاتهم الماكرة، قال- تعالى-: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.
ثم نراها تضرب الأمثال لأهل مكة، لعلهم يتعظون ويعتبرون، ويتركون الجحود
__________
(1) راجع ق ظلال القرآن ج 29 ص 214.(15/34)
والبطر.. إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ، إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ. وَلا يَسْتَثْنُونَ. فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ.
ثم نرى من مقاصدها كذلك: المقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
وتسفيه أفكار المشركين وعقولهم، بأسلوب مؤثر خلاب: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ..
وتهديدهم بأقصى ألوان التهديد: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ...
ثم تختتم بتكرار التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وبأمره بالصبر على أذى أعدائه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ، لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.
وبعد: فهذه كلمة مجملة عن سورة «القلم» تكشف عن زمان ومكان نزولها. وعن أهم المقاصد والأهداف، التي اشتملت عليها.
ونسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
د. محمد سيد طنطاوى(15/35)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
افتتحت سورة «القلم» بأحد الحروف المقطعة، وهي آخر سورة في ترتيب المصحف، افتتحت بواحد من هذه الحروف. أما بالنسبة لترتيب النزول، فقد تكون أول سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في السور المفتتحة بالحروف المقطعة.
وقد قلنا عند تفسيرنا لسورة البقرة: وردت هذه الحروف المقطعة تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة.
فالسور التي بدئت بحرف واحد ثلاث سور وهي: ص، ق، ن.(15/36)
والسور التي بدئت بحرفين تسع سور وهي: طه، يس، طس، وحم، في ست سور، وهي: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
والسور التي بدئت بثلاثة أحرف، ثلاث عشرة سورة وهي: «الم» في ست سور، وهي:
البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة.
والر في خمس سور، وهي: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر.
وطسم في سورتين وهما: الشعراء، والقصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما: الرعد، «المر» ، والأعراف «المص» .
وهناك سورتان- أيضا- بدئتا بخمسة أحرف، وهما: «مريم» «كهيعص» والشورى: «حم عسق» فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة: تسعا وعشرين سورة.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسيين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهي من المتشابه الذي استأثر الله- تعالى- بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس- في بعض الروايات عنه- كما ذهب إليه الشعبي، وسفيان الثوري وغيرهم من العلماء.
فقد أخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور.
ويروى عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها.
وعن على بن أبى طالب أنه قال: «إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» .
وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال: «سر الله فلا تطلبوه» .
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ، لم ينتف الإفهام عنها عند كل أحد، فالرسول(15/37)
صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين، ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور.
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى، يضيق المجال عن ذكرها.
أما الرأى الثاني فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله- تعالى- بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى:
أ- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح» ، وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة «ص» وسورة «يس» .
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
ب- وقيل: إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة، للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.
ج- وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله- تعالى-، وبعضها من صفاته، فمثلا: الم أصلها: أنا الله أعلم.
د- وقيل: إنها اسم الله الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال، والتي أوصلها الإمام السيوطي في كتابه «الإتقان» إلى أكثر من عشرين قولا.
هـ- ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض السور، للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والبلاغة، مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.
وفضلا عن ذلك، فإن تصدير هذه السور بمثل هذه الحروف المقطعة، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم، إلى الإنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم. وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيسمعوا حكما وحججا قد تكون سببا في هدايتهم واستجابتهم للحق.(15/38)
هذه خلاصة لآراء العلماء في الحروف المقطعة، التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع- مثلا- إلى كتاب «البرهان» للزركشى. وكتاب «الإتقان» للسيوطي، وتفسير «الآلوسى» .
ولفظ «ن» على الرأى الذي رجحناه، يكون إشارة إلى إعجاز القرآن ...
وقيل: هو من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه..
وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى، لا يعتمد عليها لضعفها، ومن ذلك قولهم: إن «نون» اسم لحوت عظيم ... أو اسم للدواة.. وقيل: «نون» لوح من نور.. «1» .
والواو في قوله: وَالْقَلَمِ للقسم، والمراد بالقلم: جنسه، فهو يشمل كل قلم يكتب به و «ما» في قوله وَما يَسْطُرُونَ موصولة أو مصدرية. ويَسْطُرُونَ مضارع سطر- من باب نصر-، يقال: سطر الكتاب سطرا، إذا كتبه. والسطر: الصف من الشجر وغيره، وأصله من السطر بمعنى القطع، لأن صفوف الكتابة تبدو وكأنها قطع متراصة.
وجواب القسم قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ.
أى: وحق القلم الذي يكتب به الكاتبون من مخلوقاتنا المتعددة، إنك- أيها الرسول الكريم- لمبرأ مما اتهمك به أعداؤك من الجنون، وكيف تكون مجنونا وقد أنعم الله- تعالى- عليك بالنبوة والحكمة.
فالمقصود بالآيات الكريمة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المشركين، ودفع تهمهم الباطلة دفعا يأتى عليها من القواعد فيهدمها، وإثبات أنه رسول من عنده- تعالى-.
وأقسم- سبحانه- بالقلم، لعظيم شرفه، وكثرة منافعه، فبه كتبت الكتب السماوية، وبه تكتب العلوم المفيدة.. وبه يحصل التعارف بين الناس..
وصدق الله إذ يقول: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
قال القرطبي: أقسم- سبحانه- بالقلم. لما فيه من البيان كاللسان. وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء من في الأرض، ومنه قول أبى الفتح البستي:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزا ورفعة ... مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم «2»
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 213. وتفسير القرطبي ج 18 ص 223.
(2) تفسير القرطبي ج 18 ص 225.(15/39)
والضمير في قوله: يَسْطُرُونَ راجع إلى غير مذكور في الكلام، إلا أنه معلوم للسامعين، لأن ذكر القلم يدل على أن هناك من يكتب به.
ونفى- سبحانه- عنه صلى الله عليه وسلم الجنون بأبلغ أسلوب، لأن المشركين كانوا يصفونه بذلك، قال- تعالى-. وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ، لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ.
قال الآلوسى: قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. جواب القسم، والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي. ومجنون خبر ما، والباء الأولى للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير في الخبر، والعامل فيها معنى النفي.
والمعنى: انتفى عنك الجنون في حال كونك ملتبسا بنعمة ربك أى: منعما عليك بما أنعم من حصافة الرأى، والنبوة.. «1» .
وفي إضافته صلى الله عليه وسلم إلى الرب- عز وجل- مزيد إشعار بالتسلية والقرب والمحبة.
ومزيد إشعار- أيضا- بنفي ما افتراه الجاهلون من كونه صلى الله عليه وسلم مجنونا، لأن هذه الصفة لا تجتمع في عبد أنعم الله- تعالى- عليه، وقربه، واصطفاه لحمل رسالته وتبليغ دعوته.
ثم بشره- سبحانه- ببشارة ثانية فقال: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ.
وقوله: مَمْنُونٍ مأخوذ من المن بمعنى القطع، تقول: مننت الحبل، إذا قطعته.
ويصح أن يكون من المن، بمعنى أن يعطى الإنسان غيره عطية ثم يفتخر بها عليه، ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى....
أى: وإن لك- أيها الرسول الكريم- عندنا، لأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا نحن، وهذا الأجر غير مقطوع بل هو متصل ودائم وغير ممنون.
وهذه الجملة الكريمة وما بعدها، معطوفة على جملة جواب القسم، لأنهما من جملة المقسم عليه..
ثم أثنى- سبحانه- عليه بأجمل ثناء وأطيبه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
والخلق- كما يقول الإمام الرازي- ملكة نفسانية، يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة ... و.... «2» .
والعظيم: الرفيع القدر، الجليل الشأن، السامي المنزلة.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 24.
(2) راجع تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 185.(15/40)
أى: وإنك- أيها الرسول الكريم- لعلى دين عظيم، وعلى خلق كريم، وعلى سلوك قويم، في كل ما تأتيه وما تتركه من أقوال وأفعال..
والتعبير بلفظ «على» يشعر بتمكنه صلى الله عليه وسلم ورسوخه في كل خلق كريم. وهذا أبلغ رد على أولئك الجاهلين الذين وصفوه بالجنون، لأن الجنون سفه لا يحسن معه التصرف. أما الخلق العظيم، فهو أرقى منازل الكمال، في عظماء الرجال.
وإن القلم ليعجز عن بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة، من ثناء من الله- تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: قال قتادة: ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل السيدة عائشة عن معنى هذه الآية فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى.
قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن..
ومعنى هذا، أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمرا ونهيا، سجية له وخلقا وطبعا، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق الكريم، كالحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة.. «1» .
وكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم جماع كل خلق عظيم وهو القائل: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .
ثم بشره- سبحانه- ببشارات أخرى فقال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
والفاء في قوله: فَسَتُبْصِرُ ... للتفريع على ما تقدم من قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ.
والفعل «تبصر ويبصرون» من الإبصار الذي هو الرؤية بالعينين، وقيل: بمعنى العلم..
والسين في فَسَتُبْصِرُ ... للتأكيد.
والباء في قوله بِأَيِّكُمُ ... يرى بعضهم أنها بمعنى في. والمفتون: اسم مفعول، وهو الذي أصابته فتنة. أدت إلى جنونه، والعرب كانوا يقولون للمجنون: فتنته الجن. أو هو الذي اضطرب أمره واختل تكوينه وضعف تفكيره ... كأولئك المشركين الذين قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم أقوالا لا يقولها عاقل..
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 312.(15/41)
أى: لقد ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- أنك بعيد عما اتهمك به الكافرون، وأن لك عندنا المنزلة التي ليس بعدها منزلة.. وما دام الأمر كذلك فسترى وستعلم، وسيرى وسيعلم هؤلاء المشركون، في أى فريق منكم الإصابة بالجنون؟ أفي فريق المؤمنين أم بفريق الكافرين..
قال الجمل في حاشيته ما ملخصه: قوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ قال ابن عباس:
فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل، وقيل في الدنيا بظهور عاقبة أمرك..
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون، فزيدت الباء كزيادتها في نحو: بحسبك درهم..
وقيل: الباء بمعنى «في» الظرفية، كقولك: زيد بالبصرة. أى: فيها. والمعنى: في أى فرقة منكم المفتون.
وقيل: المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور. أى، بأيكم الفتون.. «1»
وجملة: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.. تعليل لما ينبئ عنه ما قبله من ظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد، وتأكيد لوعده صلى الله عليه وسلم بالنصر، ولوعيدهم بالخيبة والخسران.
أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- الذي خلقك فسواك فعدلك، هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وبمن أعرض عن طريق الحق والصواب.. وهو- سبحانه- أعلم بالمهتدين الذين اهتدوا إلى ما ينفعهم ويسعدهم في دنياهم وآخرتهم..
وما دام الأمر كذلك: فذرهم في طغيانهم يعمهون، وسر في طريقك، فستكون العاقبة لك ولأتباعك.
ثم أرشده- سبحانه- إلى جانب من مسالكهم الخبيثة، وصفاتهم القبيحة، وحذره من الاستجابة إلى شيء من مقترحاتهم، فقال: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.
وقوله: وَدُّوا من الود بمعنى المحبة. وقوله: تُدْهِنُ من الإدهان وهي المسايرة والمصانعة والملاينة للغير. وأصله أن يجعل على الشيء دهنا لكي يلين أو لكي يحسن شكله، ثم استعير للملاينة والمساهلة مع الغير.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 383.(15/42)
أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- لا يخفى عليه شيء من أحوالك وأحوالهم، وما دام الأمر كذلك، فاحذر أن تطيع هؤلاء المكذبين في شيء مما يقترحونه عليك، فإنهم أحبوا وودوا أن تقبل بعض مقترحاتهم، وأن تلاينهم وتطاوعهم فيما يريدون منك.. وهم حينئذ يظهرون لك من جانبهم الملاينة والمصانعة.. حتى لكأنهم يميلون نحو الاستجابة لك، وترك إيذائك وإيذاء أصحابك.
فالآية الكريمة تشير إلى بعض المساومات التي عرضها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وما أكثرها، ومنها: ما ذكره ابن إسحاق في سيرته من أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه، فنزلت سورة «الكافرون» .
ومنها ما دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين الوليد بن المغيرة تارة، وبينه وبين عتبة بن ربيعة تارة أخرى.. مما هو معروف في كتب السيرة.
ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب عند ما نصحه بأن يترك المشركين وشأنهم، وقال له: يا ابن أخى أشفق على نفسك وعلى، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق.
قال له صلى الله عليه وسلم: يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري. على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه..»
والتعبير بقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يشير إلى أن الملاينة والمصانعة كانت منهم، لا منه صلى الله عليه وسلم، فهم الذين كانوا يحبون منه أن يستجيب لمقترحاتهم، لكي يقابلوا ذلك بالتظاهر بأنهم على صلة طيبة به وبأصحابه.
قال صاحب الكشاف: قوله: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم، وكانوا قد أرادوه على أن يعبد الله مدة، وآلهتهم مدة، ويكفوا عن غوائلهم.
وقوله: لَوْ تُدْهِنُ لو تلين وتصانع فَيُدْهِنُونَ.
فإن قلت: لماذا رفع «فيدهنون» ولم ينصب بإضمار «أن» وهو جواب التمني؟
قلت: قد عدل إلى طريق آخر، وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف. أى: فهم يدهنون، كقوله: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً على معنى: ودوا لو تدهن فهم يدهنون.. «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 586.(15/43)
ثم يكرر- سبحانه- النهى للنبي صلى الله عليه وسلم عن طاعة كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم..
فيقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآيات الكريمة، نزلت في الوليد بن المغيرة.. وقيل:
إنها نزلت في الأخنس بن شريق..
والآيات الكريمة يشمل النهى فيها كل من هذه صفاته، ويدخل فيها الوليد بن المغيرة، والأخنس بن شريق.. دخولا أوليا.
أى: ولا تطع- أيها الرسول الكريم- كل من كان كثير الحلف بالباطل، وكل من كان مهينا، أى: حقيرا ذليلا وضيعا. من المهانة، وهي القلة في الرأى والتمييز.
هَمَّازٍ أى: عياب للناس، أو كثير الاغتياب لهم، من الهمز، وأصله: الطعن في الشيء بعود أو نحوه، ثم استعير للذي يؤذى الناس بلسانه وبعينه وبإشارته، ويقع فيهم بالسوء، ومنه قوله- تعالى-: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ.
مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أى: نقّال للحديث السّيّئ لكي يفسد بين الناس.. والنميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإفساد. يقال: نمّ فلان الحديث- من بابى قتل وضرب- إذا سار بين الناس بالفتنة. وأصل النم: الهمس والحركة الخفيفة ثم استعملت في السعى بين الناس بالفساد على سبيل المجاز.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أى: هو شديد المنع لكل ما فيه خير، ولكل من يستحقه، خصوصا إذا كان من يستحقه من المؤمنين.
ثم هو بعد ذلك مُعْتَدٍ أى: كثير العدوان على الناس أَثِيمٍ أى: مبالغ في ارتكابه للآثام، لا يترك سيئة دون أن يرتكبها.
وقد جاءت صفات الذم السابقة بصيغة المبالغة، للإشعار برسوخه فيها، وباقترافه لها بسرعة وشدة.
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ والعتل: هو الجاف الغليظ، القاسي القلب: الفظ الطبع، الأكول الشروب.. بدون تمييز بين حلال وحرام. مأخوذ من عتله يعتله- بكسر التاء وضمها- إذا جره بعنف وغلظة..
والزنيم هو اللصيق بالقوم دون أن يكون منهم، وإنما هو دعى فيهم، حتى لكأنه(15/44)
فيهم كالزنمة، وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز أو الشاة..
وقيل: الزنيم، هو الشخص الذي يعرف بالشر واللؤم بين الناس، كما تعرف الشاة بزنمتها. أى: بعلامتها.
ومعنى: «بعد ذلك» : كمعنى «ثم» أى: ثم هو بعد كل تلك الصفات القبيحة السابقة: جاف غليظ، ملصق بالقوم، دعى فيهم..
فهذه تسع صفات، كل صفة منها قد بلغت النهاية في القبح والسوء، ساقها- سبحانه- لذم الوليد بن المغيرة وأشباهه في الكفر والفجور.
وقوله: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ.... متعلق بقوله قبل ذلك وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ ...
أى: ولا تطع من كانت هذه صفاته لكونه ذا مال وبنين، فإن ماله وولده لن يغنى عنه من الله- تعالى- شيئا.
وقوله: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كلام مستأنف جار مجرى التعليل للنهى عن طاعته، والأساطير جمع أسطورة بمعنى أكذوبة.
أى: لا تطعه- لأنه فضلا عما اتسم به من صفات قبيحة- تراه إذا تتلى عليه آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا.. وعلى صدقك يا محمد فيما تبلغه عنا، قال هذا العتل الزنيم، هذه الآيات أكاذيب الأولين وترهاتهم.
ثم ختم هذه الآيات بأشد أنواع الوعيد لمن هذه صفاته فقال- تعالى- سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ.
أى: سنبين أمره ونوضحه توضيحا يجعل الناس يعرفونه معرفة تامة لا خفاء معها ولا لبس ولا غموض، كما لا تخفى العلامة الكائنة على الخرطوم، الذي يراد به هنا الأنف. والوسم عليه يكون بالنار.
أو سنلحق به عارا لا يفارقه، بل يلازمه مدى الحياة، وكان العرب إذا أرادوا أن يسبوا رجلا سبة قبيحة.. قالوا: قد وسم فلان ميسم سوء.. أى: التصق به عار لا يفارقه، كالسمة التي هي العلامة التي لا يمحى أثرها..
وذكر الوسم والخرطوم فيه ما فيه من الذم، لأن فيه جمعا بين التشويه الذي يترتب على الوسم السّيّئ، وبين الإهانة، لأن كون الوسم في الوجه بل في أعلى جزء من الوجه وهو الأنف.. دليل على الإذلال والتحقير.
ومما لا شك فيه أن وقع هذه الآيات على الوليد بن المغيرة وأمثاله، كان قاصما لظهورهم،(15/45)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
ممزقا لكيانهم، هادما لما كانوا يتفاخرون به من أمجاد زائفة، لأنه ذم لهم من رب الأرض والسماء، الذي لا يقول إلا حقا وصدقا.
كذلك كانت هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، عما أصابهم من أذى، من هؤلاء الحلافين بالباطل والزور، المشائين بين الناس بالنميمة، المناعين لكل خير وبر.
وبمناسبة الحديث السابق الذي فيه إشارة إلى المال والبنين، اللذين كانا من أسباب بطر هؤلاء الكافرين وطغيانهم.. ساق القرآن بعد ذلك قصة أصحاب الجنة، لتكون موعظة وعبرة لكل عاقل، فقال- تعالى-:
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: هذا مثل ضربه الله- تعالى- لكفار قريش، فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم فقابلوه بالتكذيب والمحاربة..(15/46)
وقد ذكر بعض السلف: أن أصحاب الجنة هؤلاء كانوا من أهل اليمن كانوا من قرية يقال لها: «ضروان» على ستة أميال من صنعاء.. وكان أبوهم قد ترك لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليه، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل.
فلما مات وورثه أولاده، قالوا: لقد كان أبونا أحمق، إذ كان يصرف من هذه الجنة شيئا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك لنا، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فقد أذهب الله ما بأيديهم بالكلية: أذهب رأس المال، والربح.. فلم يبق لهم شيء.. «1» .
وقوله- سبحانه-: بَلَوْناهُمْ أى: اختبرناهم وامتحناهم، مأخوذ من البلوى، التي تطلق على الاختبار، والابتلاء قد يكون بالخير وقد يكون بالشر، كما قال- تعالى-:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً.. وكما في قوله- سبحانه-:
وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
والمراد بالابتلاء هنا: الابتلاء بالشر بعد جحودهم لنعمة الخير.
أى: إنا امتحنا مشركي قريش بالقحط والجوع. حتى أكلوا الجيف، بسبب كفرهم بنعمنا، وتكذيبهم لرسولنا صلى الله عليه وسلم كما ابتلينا من قبلهم أصحاب الجنة، بأن دمرناها تدميرا، بسبب بخلهم وامتناعهم عن أداء حقوق الله منها..
ويبدو أن قصة أصحاب الجنة، كانت معروفة لأهل مكة، ولذا ضرب الله- تعالى- المثل بها. حتى يعتبروا ويتعظوا..
ووجه المشابهة بين حال أهل مكة، وحال أصحاب الجنة.. يتمثل في أن كلا الطرفين قد منحه الله- تعالى- نعمة عظيمة، ولكنه قابلها بالجحود وعدم الشكر.
وإِذْ في قوله: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ.. تعليلية.
والضمير في أَقْسَمُوا يعود لمعظمهم، لأن الآيات الآتية بعد ذلك، تدل على أن أوسطهم قد نهاهم عما اعتزموه من حرمان المساكين، ومن مخالفة ما يأمرهم شرع الله- تعالى- به..
قال- تعالى-: قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ....
وقوله: لَيَصْرِمُنَّها من الصرم وهو القطع. يقال: صرم فلان زرعه- من باب ضرب- إذا جزّه وقطعه، ومنه قولهم: انصرم حبل المودة بين فلان وفلان، إذا انقطع.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 223.(15/47)
وقوله: مُصْبِحِينَ أى: داخلين في وقت الصباح المبكر.
أى: إنا امتحنا أهل مكة بالبأساء والضراء، كما امتحنا أصحاب البستان الذين كانوا قبلهم، لأنهم أقسموا بالأيمان المغلظة، ليقطعن ثمار هذا البستان في وقت الصباح المبكر.
وَلا يَسْتَثْنُونَ أى: دون أن يجعلوا شيئا- ولو قليلا- من ثمار هذا البستان للمحتاجين، الذين أوجب الله- تعالى- لهم حقوقا في تلك الثمار.
وقيل معنى وَلا يَسْتَثْنُونَ ولم يقولوا إن شاء الله، كما قال- تعالى-: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ....
والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى-: لَيَصْرِمُنَّها، وهي في الوقت نفسه مقسم عليه.
أى: أقسموا ليصر منها في وقت الصباح المبكر، وأقسموا كذلك على أن لا يعطوا شيئا منها للفقراء أو المساكين.
ثم بين- سبحانه- ما ترتب على هذا القسم الذي لم يقصد به الخير، وإنما قصد به الشر فقال: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ.
والطائف: مأخوذ من الطواف، وهو المشي حول الشيء من كل نواحيه ومنه الطواف حول الكعبة. وأكثر ما يستعمل لفظ الطائف في الشر كما هنا، ومنه قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ.
وعدى لفظ «طائف» بحرف «على» لتضمينه معنى: تسلط أو نزل. والصريم- كما يقول القرطبي-: الليل المظلم.. أى: احترقت فصارت كالليل الأسود.
وعن ابن عباس: كالرماد الأسود. أو: كالزرع المحصود. فالصريم بمعنى المصروم، أى: المقطوع ما فيه.. «1» .
أى: أقسم هؤلاء الجاحدون على أن لا يعطوا شيئا من جنتهم للمحتاجين، فكانت نتيجة نيتهم السيئة، وعزمهم على الشر.. أن نزل بهذه الحديقة بلاء أحاط بها فأهلكها، فصارت كالشىء المحترق الذي قطعت ثماره، ولم يبق منه شيء ينفع.
ولم يعين- سبحانه- نوع هذا الطائف، أو كيفية نزوله، لأنه لا يتعلق بذكره غرض، وإنما المقصود ما ترتب عليه من آثار توجب الاعتبار.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 241.(15/48)
وتنكير لفظ طائِفٌ للتهويل. ومِنْ في قوله مِنْ رَبِّكَ للابتداء، والتقييد بكونه من الرب- عز وجل- لإفادة أنه بلاء لا قبل لأحد من الخلق بدفعه.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم. ومثله قوله- تعالى-: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وفي الحديث الصحيح: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» .. «1» .
ثم يصور- سبحانه- أحاسيسهم وحركاتهم، وقد خرجوا لينفذوا ما عزموا عليه من سوء.. فيقول: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أى: فنادى بعضهم بعضا في وقت الصباح المبكر، حتى لا يراهم أحد.
فقالوا في تناديهم: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أى: قال بعضهم لبعض: هيا بنا لنذهب إلى بستاننا لكي نقطع ما فيه من ثمار في هذا الوقت المبكر، حتى لا يرانا أحد، إذ الغدو هو الخروج إلى المكان في غدوة النهار. أى: في أوله.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل: اغدوا إلى حرثكم، وما معنى «على» ؟.
قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه: كان غدوا عليه، كما تقول: غدا عليهم العدو. ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، كقولهم: يغدى عليه بالجفنة ويراح. أى:
فأقبلوا على حرثكم باكرين.. «2» .
وجواب الشرط في قوله: إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ محذوف لدلالة ما قبله عليه. أى: إن كنتم صارمين فاغدوا فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أى: فانطلقوا مسرعين نحو جنتهم وهم يتسارّون فيما بينهم، إذ التخافت: تفاعل من خفت فلان في كلامه، إذا نطق به بصوت منخفض لا يكاد يسمع.
وجملة: أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ مفسرة لما قبلها لأن التخافت فيه معنى القول دون حروفه أى: انطلقوا يتخافتون وهم يقولون فيما بينهم: احذروا أن يدخل جنتكم اليوم وأنتم تقطعون ثمارها أحد من المساكين.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 241.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 590.(15/49)
وجملة: «وغدوا على حرد قادرين» حالية. والحرد: القصد. يقال: فلان حرد فلان- من باب ضرب- أى: قصد قصده.
قال الإمام الشوكانى: الحرد يكون بمعنى المنع والقصد.. لأن القاصد إلى الشيء حارد.
يقال: حرد يحرد إذا قصد.. وقال أبو عبيدة: عَلى حَرْدٍ أى: على منع، من قولهم:
حردت الإبل حردا، إذا قلت ألبانها. والحرود من الإبل: القليلة اللبن.. وقال السدى:
عَلى حَرْدٍ: أى: على غضب.. وقال الحسن: على حرد، أى: على حاجة وفاقة.
وقيل: عَلى حَرْدٍ أى: على انفراد. يقال: حرد يحرد حردا، إذا تنحى عن قومه، ونزل منفردا عنهم دون أن يخالطهم..
أى: أن أصحاب الجنة ساروا إليها غدوة، على أمر قد قصدوه وبيتوه.. موقنين أنهم قادرون على تنفيذه، لأنهم قد اتخذوا له جميع وسائله، من الكتمان والتبكير والبعد عن أعين المساكين.
أو: ساروا إليها في الصباح المبكر، وهم ليس معهم أحد من المساكين أو من غيرهم، وهم في الوقت نفسه يعتبرون أنفسهم قادرين على قطع ثمارها، دون أن يشاركهم أحد في تلك الثمار.
ثم صور- سبحانه- حالهم تصويرا بديعا عند ما شاهدوا جنتهم، وقد صارت كالصريم، فقال: فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ.
أى: فحين شاهدوا جنتهم- وهي على تلك الحال العجيبة- قال بعضهم لبعض: إنا لضالون عن طريق جنتنا، تائهون عن الوصول إليها.. لأن هذه الجنة الخاوية على عروشها ليست هي جنتنا التي عهدناها بالأمس القريب، زاخرة بالثمار.
ثم اعترفوا بالحقيقة المرة، بعد أن تأكدوا أن ما أمامهم هي حديقتهم فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أى: لسنا بضالين عن الطريق إليها، بل الحقيقة أن الله- تعالى- قد حرمنا من ثمارها.. بسبب إصرارنا على حرماننا المساكين من حقوقهم منها.
وهنا تقدم إليهم أوسطهم رأيا، وأعدلهم وأمثلهم تفكيرا.. فقال لهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ.
والاستفهام للتقرير. ولَوْلا حرف تحضيض بمعنى هلا. والتسبيح هنا بمعنى:
الاستغفار والتوبة، وإعطاء كل ذي حق حقه.
أى: قال لهم- أعقلهم وأصلحهم- بعد أن شاهد ما شاهد من أمر الحديقة. قال لهم:
لقد قلت لكم عند ما عزمتم على حرمان المساكين حقوقهم منها.. اتقوا الله ولا تفعلوا ذلك،(15/50)
وسيروا على الطريقة التي كان يسير عليها أبوكم، وأعطوا المساكين حقوقهم منها، ولكنكم خالفتموني ولم تطيعوا أمرى، فكانت نتيجة مخالفتكم لنصحي، ما ترون من خراب الجنة، التي أصابنى من خرابها ما أصابكم.
وكعادة كثير من الناس الذين: لا يقدرون النعمة إلا بعد فوات الأوان.. قالوا لأعقلهم وأصلحهم: سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
أى: قالوا وهم يعترفون بظلمهم وجرمهم.. سُبْحانَ رَبِّنا أى: ننزه ربنا ونستغفره عما حدث منا، فإننا كنا ظالمين لأنفسنا حين منعنا حق الله- تعالى- عن عباده.
ثم حكى- سبحانه- ما دار بينهم بعد أن أيقنوا أن حديقتهم قد دمرت فقال: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ. أى: يلوم بعضهم بعضا، وكل واحد منهم يلقى التبعة على غيره، ويقول له: أنت الذي كنت السبب فيما أصابنا من حرمان..
قالُوا يا وَيْلَنا أى: يا هلاكنا ويا حسرتنا.. إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أى: إنا كنا متجاوزين لحدودنا، وفاسقين عن أمر ربنا، عند ما صممنا على البخل بما أعطانا- سبحانه- من فضله. عَسى رَبُّنا بفضله وإحسانه أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها أى: أن يعطينا ما هو خير منها إِنَّا إِلى رَبِّنا لا إلى غيره راغِبُونَ أى: راغبون في عطائه، راجعون إليه بالتوبة والندم..
قال الآلوسى: قال مجاهد: إنهم تابوا فأبدلهم الله- تعالى- خيرا منها. وحكى عن الحسن: التوقف. وسئل قتادة عنهم: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل:
لقد كلفتني تعبا.. «1» .
ثم ختم- سبحانه- قصتهم بقوله: كَذلِكَ الْعَذابُ أى: مثل الذي بلونا به أصحاب الجنة، من إهلاك جنتهم بسبب جحودهم لنعمنا.. يكون عذابنا لمن خالف أمرنا من كبار مكة وغيرهم.
فقوله: كَذلِكَ خبر مقدم، والْعَذابُ مبتدأ مؤخر. والمشار إليه هو ما تضمنته القصة من إتلاف تلك الجنة، وإذهاب ثمارها.
وقدم المسند وهو الخبر، على المسند إليه وهو المبتدأ، للاهتمام بإحضار تلك الصورة العجيبة في ذهن السامع.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 32. [.....](15/51)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
وقوله: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يدل على أن المراد بالعذاب السابق عذاب الدنيا.
أى: مثل ذلك العذاب الذي أنزلناه بأصحاب الجنة في الدنيا، يكون عذابنا لمشركي قريش، أما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى وأعظم.. ولو كانوا من أهل العلم والفهم، لعلموا ذلك، ولأخذوا منه حذرهم عن طريق الإيمان والعمل الصالح. هذا، والمتأمل في هذه القصة، يراها زاخرة بالمفاجآت، وبتصوير النفس الإنسانية في حال غناها وفي حال فقرها، في حال حصولها على النعمة وفي حال ذهاب هذه النعمة من بين يديها.
كما يراها تحكى لنا سوء عاقبة الجاحدين لنعم الله، إذ أن هذا الجحود يؤدى إلى زوال النعم، ورحم الله القائل: من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
ثم تبدأ السورة بعد ذلك في بيان حسن عاقبة المؤمنين، وفي محاجة المجرمين، وفي تحديهم بالسؤال تلو السؤال، إلزاما لهم بالحجة، وتقريعا لهم على غفلتهم، وتذكيرا لهم بيوم القيامة الذي سيندمون عنده، ولن ينفعهم الندم.
قال- تعالى-:
[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
وقوله- سبحانه-: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. بيان لما وعد به- سبحانه- المؤمنين الصادقين، بعد بيان وعيده للجاحدين المكذبين.(15/52)
أى: إن للذين اتقوا ربهم، وصانوا أنفسهم عما حرمه.. جنات ليس لهم فيها إلا النعيم الخالص، والسرور التام. والخير الذي لا ينقطع ولا يمتنع.
واللام في قوله: لِلْمُتَّقِينَ للاستحقاق، وقال- سبحانه- عِنْدَ رَبِّهِمْ للتشريف والتكريم.
أى: هذه الجنات اختص الرب- عز وجل- بها الذين اتقوه في كل أحوالهم.
وإضافة الجنات إلى النعيم، للإشارة إلى أن النعيم ملازم لها لا يفارقها فلا يكون فيها ما يكون في جنات الدنيا من تغير في الأحوال، فهي تارة مثمرة، وتارة ليست كذلك.
والاستفهام في قوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ للنفي والإنكار. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام.
أى: أنحيف في أحكامنا فنجعل الذين أخلصوا لنا العبادة. كالذين أشركوا معنا آلهة أخرى؟ أو نجعل الذين أسلموا وجوههم لنا، كالذين فسقوا عن أمرنا؟
كلا، لن نجعل هؤلاء كهؤلاء، فإن عدالتنا تقتضي التفريق بينهم.
قال الجمل: لما نزلت هذه الآية وهي قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ ... قال كفار مكة للمسلمين إن الله فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإذا لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة فأجابهم الله- تعالى- بقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ «1» .
ثم أضاف- سبحانه- إلى توبيخهم توبيخا آخر فقال: ما لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
وقوله ما لَكُمْ جملة من مبتدأ وخبر، وهي بمثابة تأنيب آخر لهم وقوله: كَيْفَ تَحْكُمُونَ تجهيل لهم، وتسفيه لعقولهم.
أى: ما الذي حدث لعقولكم، حتى ساويتم بين الأخيار والأشرار والأطهار والفجار، ومن أخلصوا لله عبادتهم، ومن كفروا به؟
ثم انتقل- سبحانه- من توبيخهم على جهلهم، إلى توبيخهم على كذبهم فقال: أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ.
وأَمْ هنا وما بعدها للإضراب الانتقالى، وهي بمعنى بل، والضمير في قوله فِيهِ يعود على الكتاب.
وقوله: تَدْرُسُونَ أى: تقرأون بعناية وتفكير.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 388.(15/53)
وقوله: تَخَيَّرُونَ أصله: تتخيرون. والتخير: تطلب ما هو خير. يقال: فلان تخير الشيء واختاره، إذا أخذ خيره وجيده.
أى: بل ألكم- أيها المشركون- كتاب قرأتم فيه بفهم وتدبر المساواة بين المتقين والمجرمين، وأخذتم منه ما اخترتموه من أحكام؟ كلا، إنه لا يوجد كتاب سماوي، أو غير سماوي، يوافقكم على التسوية بين المتقين والمجرمين. وأنتم إنما تصدرون أحكاما كاذبة. ما أنزل الله بها من سلطان.
ثم انتقل- سبحانه- إلى توبيخهم على لون آخر من مزاعمهم فقال: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ.
أى: وقل لهم- يا محمد- على سبيل إلزامهم الحجة: بل ألكم أَيْمانٌ أى: عهود ومواثيق مؤكدة عَلَيْنا وهذه العهود بالِغَةٌ أقصى مداها في التوكيد، وثابتة لكم علينا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأننا قد سوينا بين المسلمين والمجرمين في أحكامنا، كما زعمتم أنتم؟ إن كانت لكم علينا هذه الأيمان والعهود، فأظهروها للناس، وفي هذه الحالة يكون من حقكم أن تحكموا بما حكمتم به.
ومما لا شك فيه، أنهم ليست لهم عهود عند الله بما زعموه من أحكام، وإنما المقصود من الآية الكريمة، بيان كذبهم في أقوالهم، وبيان أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بجواب يثبتون به مدعاهم.
وقوله: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم، لأن قوله: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بمعنى: أم أقسمنا لكم أيمانا موثقة بأننا رضينا بأحكامكم التي تسوون فيها بين المسلمين والمجرمين.
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم سؤال تبكيت وتأنيب فقال: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ.
والزعيم: هو الضامن، والمتكلم عن القوم، والناطق بلسانهم..
واسم الإشارة يعود على الحكم الباطل الذي حكموه، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين.
أى: سل- أيها الرسول الكريم- هؤلاء المشركين، سؤال تقريع وتوبيخ، أى واحد منهم سيكون يوم القيامة، كفيلا بتحمل مسئولية هذا الحكم، وضامنا بأن المسلمين سيكونون متساوين مع المجرمين في الأحكام عند الله- تعالى-.(15/54)
ثم انتقل- سبحانه- إلى إلزامهم الحجة عن طريق آخر فقال: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ، فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ.
أى: بل ألهم شركاء يوافقونهم على هذا الحكم الباطل، إن كان عندهم ذلك، فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين في زعمهم التسوية بين المتقين والمجرمين.
والمراد بالشركاء هنا: الأصنام التي يشركونها في العبادة مع الله- عز وجل-.
وحذف متعلق الشركاء لشهرته. أى: أم لهم شركاء لنا في الألوهية يشهدون لهم بصحة أحكامهم.
والأمر في قوله: فَلْيَأْتُوا ... للتعجيز.
والمتدبر في هذه الآيات الكريمة، يرى أن الله- تعالى- قد وبخهم باستفهامات سبعة:
أولها قوله- تعالى-: أَفَنَجْعَلُ.... الثاني: ما لَكُمْ ... الثالث: كَيْفَ تَحْكُمُونَ الرابع: أَمْ لَكُمْ كِتابٌ الخامس: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ السادس: أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ السابع: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ.
قال الآلوسى: وقد نبه- سبحانه- في هذه الآيات، على نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم، حيث نبه- سبحانه- على نفى الدليل العقلي بقوله ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وعلى نفى الدليل النقلى بقوله أَمْ لَكُمْ كِتابٌ..، وعلى نفى أن يكون الله وعدهم بذلك بقوله أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ.. وعلى نفى التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ... «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من أهوال يوم القيامة، ومن حال الكافرين فيه، فقال:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ.
والظرف «يوم» يجوز أن يكون متعلقا بقوله- تعالى- قبل ذلك فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ ... ويصح أن يكون متعلقا بمحذوف تقديره. اذكر، والمراد باليوم، يوم القيامة.
والكشف عن الساق معناه التشمير عنها وإظهارها، وهو مثل لشدة الحال، وصعوبة الخطب والهول، وأصله أن الإنسان إذا اشتد خوفه، أسرع في المشي، وشمر عن ثيابه، فينكشف ساقه.
قال صاحب الكشاف: الكشف عن الساق، والإبداء عن الخدام. - أى: الخلخال الذي
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 34.(15/55)
تلبسه المرأة في رجلها- وهو جمع خدمة كرقاب جمع رقبة- مثل في شدة الأمر، وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب، وإبداء خدامهن عند ذلك..
كما قال الشاعر:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن سوقها الحرب شمرا
فمعنى يوم يكشف عن ساق: يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثمّ ولا غل، وإنما هو مثل في البخل..
فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت: للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة، فظيع خارج عن المألوف.. «1» .
والمعنى: اذكر لهم- أيها الرسول الكريم- لكي يعتبروا ويتعظوا أهوال يوم القيامة، يوم يشتد الأمر، ويعظم الهول.
وَيُدْعَوْنَ هؤلاء الذين فسقوا عن أمر ربهم في هذا اليوم إِلَى السُّجُودِ لله- تعالى- على سبيل التوبيخ لهم، لأنهم كانوا ممتنعين عنه في الدنيا..
فَلا يَسْتَطِيعُونَ أى: فلا يستطيعون ذلك، لأنه الله- تعالى- سلب منهم القدرة على السجود له في هذا اليوم العظيم، لأنه يوم جزاء وليس يوم تكليف والذين يدعونهم إلى السجود، هم الملائكة بأمره- تعالى-.
وقوله: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ ... حال من فاعل يُدْعَوْنَ وخشوع الأبصار: كناية عن الذلة والخوف الشديد. ونسب الخشوع إلى الأبصار، لظهور أثره فيها.
أى: هم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك. لأنه- تعالى- سلب منهم القدرة عليه، ثم يساقون إلى النار، حالة كونهم ذليلة أبصارهم، منخفضة رءوسهم..
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أى: تغشاهم وتعلوهم ذلة وانكسار..
وَقَدْ كانُوا في الدنيا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ لله- تعالى- وَهُمْ سالِمُونَ أى: وهم قادرون على السجود له- تعالى-، ومتمكنون من ذلك أقوى تمكن ... ، ولكنهم كانوا يعرضون عمن يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله- تعالى-، ويستهزئون به..
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ... يعنى يوم القيامة، وما يكون فيه من الأهوال، والزلازل، والبلايا، والامتحان، والأمور العظام..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 594.(15/56)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
روى البخاري عن أبى سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره، طبقا واحدا- أى: يصير ظهره كالشىء الصلب فلا يقدر على السجود-.
وعن ابن عباس قال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: وهو يوم كرب وشدة.. «1» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بالتهديد الشديد للكافرين، وببيان جانب من تصرفه الحكيم معهم، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم، ويأمره بالصبر على أذاهم، وعلى أحقادهم التي تنبئ عنها نظراتهم المسمومة إليه، فقال- تعالى-:
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
والفاء في قوله: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ... لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
والفعل: فَذَرْنِي من الأفعال التي يأتى منها الأمر والمضارع، ولم يسمع لها ماض، وهو بمعنى اترك. يقال: ذره يفعل كذا، أى: اتركه. ومنه قوله- تعالى- ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
والمراد بِهذَا الْحَدِيثِ ... ما أوحاه الله- تعالى- إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن كريم، ومن توجيهات حكيمة، لكي يبلغها للناس.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 224.(15/57)
والاستدراج: استنزال الشيء من درجة إلى أخرى، والانتقال به من حالة إلى أخرى، والسين والتاء فيه للطلب والمراد به هنا: التمهل في إنزال العقوبة.
والإملاء: الإمداد في الزمن، والإمهال والتأخير، مأخوذ من الملاوة والملوة، وهي الطائفة الطويلة من الزمن. والملوان. الليل: والنهار، والمراد به هنا: إمدادهم بالكثير من النعم..
يقال: أملى فلان لبعيره، إذا أرخى له في الزمام، ووسع له في القيد، ليتسع المرعى.
والكيد كالمكر، وهو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره، بحيث ينخدع الممكور به، فلا يفطن لما يراد به، حتى يقع عليه ما يسوؤه.
وإضافة الكيد إليه- تعالى- يحمل على المعنى اللائق به كإبطال مكر أعدائه، وكإمدادهم بالنعم. ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
والمقصود بهاتين الآيتين الكريمتين: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه.
والمعنى: إذا كانت أحوال هؤلاء المشركين، كما ذكرت لك- أيها الرسول الكريم- فكل أمرهم إلىّ، واترك أمر هؤلاء الذين يكذبونك فيما جئتهم به من عندنا إلى ربك، ولا تشغل بالك بهم. فإنى سأقربهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم، بأن أسوق لهم النعم، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج، ثم إنى أمد لهم في أسباب الحياة الرغدة، ليزدادوا إثما، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا لون من ألوان كيدي الشديد القوى، الذي لا يفطن إليه أمثال هؤلاء الجاهلين الأغبياء..
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» .
وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» .
وقال الحسن البصري: كم من مستدرج بالإحسان، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه.
قال الآلوسى: وقوله سَنَسْتَدْرِجُهُمْ.. استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا.
__________
(1) سورة الأنعام الآيتان 44، 45.(15/58)
وقوله: مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أى: من حيث لا يعلمون أنه استدراج، بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم، وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب هلاكهم.
وقوله: وَأُمْلِي لَهُمْ أى: وأمهلهم ليزدادوا إثما. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أى: لا يدفع بشيء.
وتسمية ذلك كيدا- وهو ضرب من الاحتيال- لكونه في صورته، حيث إنه- سبحانه- يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا، ومراده- عز وجل- به الضرر، لما علم من خبث جبلتهم، وتماديهم في الكفر والجحود.. «1» .
ثم عادت السورة الكريمة إلى إبطال معاذيرهم، بأسلوب الاستفهام الإنكارى، الذي تكرر فيها كثيرا، فقال- تعالى-: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟
والمغرم والغرامة: ما يفرض على المرء أداؤه من مال وغيره.
والمثقلون: جمع مثقل، وهو من أثقلته الديون، حتى صار في حالة عجز عن أدائها.
والمراد بالغيب: علم الغيب، وهو ما غاب عن علم البشر، فالكلام على حذف مضاف.
والمعنى: بل أتسألهم- يا محمد- على دعوتك لهم إلى الحق والخير أَجْراً دنيويا فَهُمْ من أجل ذلك مثقلون بالديون المالية، وعاجزون عن دفعها لك.. فترتب على هذا الغرم الثقيل. أن أعرضوا عن دعوتك، وتجنبوا الدخول في دينك؟.
أم أن هؤلاء القوم عندهم علم الغيب، بأن يكونوا قد اطلعوا على ما سطرناه في اللوح المحفوظ من أمور غيبية لا يعلمها أحد سوانا.. فهم يكتبون ذلك، ثم يصدرون أحكامهم.
ويجادلونك في شأنها. وكأنهم قد اطلعوا على بواطن الأمور!.
الحق الذي لا حق سواه، أن هؤلاء القوم، أنت لم تطلب منهم أجرا على دعوتك إياهم إلى إخلاص العبادة لنا، ولا علم عندهم بشيء من الغيوب التي لا يعلمها أحد سوانا، وكل ما يزعمونه في هذا الشأن فهو ضرب من الكذب والجهل..
وما دام الأمر كما ذكرنا لك فَاصْبِرْ أيها الرسول الكريم- لحكم ربك، ولقضائه فيك وفيهم، وسر في طريقك التي كلفناك به، وهو تبليغ رسالتنا إلى الناس.. وستكون العاقبة لك ولأتباعك.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 36.(15/59)
وَلا تَكُنْ- أيها الرسول الكريم- كَصاحِبِ الْحُوتِ وهو يونس- عليه السلام-.
أى: لا يوجد منك ما وجد منه، من الضجر، والغضب على قومه الذين لم يؤمنوا، ففارقهم دون أن يأذن له ربه بمفارقتهم..
والظرف في قوله: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ منصوب بمضاف محذوف، وجملة «وهو مكظوم» في محل نصب على الحال من فاعل «نادى» ..
والمكظوم- بزنة مفعول-: المملوء غضبا وغيظا وكربا، مأخوذ من كظم فلان السقاء إذا ملأه، وكظم الغيظ إذا حبسه وهو ممتلئ به.
أى: لا يكن حالك كحال صاحب الحوت، وقت ندائه لربه- عز وجل- وهو مملوء غيظا وكربا، لما حدث له مع قومه. ولما أصابه من بلاء وهو في بطن الحوت.
وهذا النداء قد أشار إليه- سبحانه- في آيات منها قوله- تعالى-: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ «1» .
وقوله- سبحانه-: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ..
استئناف لبيان جانب من فضله- تعالى- على عبده يونس- عليه السلام-.
ولَوْلا هنا حرف امتناع لوجود، وأَنْ يجوز أن تكون مخففة من أَنْ الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وهو ومحذوف، وجملة تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ خبرها.
ويجوز أن تكون مصدرية. أى: لولا تدارك رحمة من ربه.
والتدارك: تفاعل من الدرك- بفتح الدال- بمعنى اللحاق بالغير. والمقصود به هنا:
المبالغة في إدراك رحمة الله- تعالى- لعبده يونس- عليه السلام-.
قال الجمل: قرأ العامة: تَدارَكَهُ، وهو فعل ماضى مذكر، حمل على معنى النعمة، لأن تأنيثها غير حقيقى، وقرأ ابن عباس وابن مسعود: تداركته- على لفظ النعمة- وهو خلاف المرسوم.. «2» .
والمراد بالنعمة: رحمته- سبحانه- بيونس- عليه السلام- وقبول توبته، وإجابة دعائه..
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 87، 88.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 391.(15/60)
والنبذ: الطرح والترك للشيء، والعراء: الأرض الفضاء الخالية من النبات وغيره.
والمعنى: لولا أن الله- تدارك عبده يونس برحمته، وبقبول توبته.. لطرح من بطن الحوت بالأرض الفضاء الخالية من النبات والعمران.. وهو مذموم، أى: وهو ملوم ومؤاخذ منا على ما حدث منه..
ولكن ملامته ومؤاخذته منا قد امتنعت، لتداركه برحمتنا، حيث قبلنا توبته، وغسلنا حوبته، ومنحناه الكثير من خيرنا وبرنا..
فالمقصود من الآية الكريمة بيان جانب من فضل الله- تعالى- على عبده يونس- عليه السلام-، وبيان أن رحمته- تعالى- به، ونعمته عليه، قد حالت بينه وبين أن يكون مذموما على ما صدر منه، من مغاضبة لقومه ومفارقته لهم بدون إذن من ربه..
قال الجمل ما ملخصه: قوله: وَهُوَ مَذْمُومٌ أى: ملوم ومؤاخذ بذنبه والجملة حال من مرفوع «نبذ» ، وهي محط الامتناع المفاد بلولا، فهي المنفية لا النبذ بالعراء..
أى: لنبذ بالعراء وهو مذموم، لكنه رحم فنبذ غير مذموم..
فلولا- هنا-، حرف امتناع لوجود، وأن الممتنع القيد في جوابها لا هو نفسه.. «1» .
وقوله: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ تأكيد وتفصيل لنعمة الله- تعالى- التي أنعم بها على عبده يونس- عليه السلام-، وهو معطوف على مقدر.
أى: فتداركته النعمة فاصطفاه ربه- عز وجل- حيث رد عليه الوحى بعد انقطاعه، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون من الناس، وقبل توبته، فجعله من عباده الكاملين في الصلاح والتقوى، وفي تبليغ الرسالة عن ربه.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، ببيان ما كان عليه الكافرون من كراهية للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حقد عليه، فقال- تعالى-: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ، لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.
وقوله: لَيُزْلِقُونَكَ من الزّلق- بفتحتين-، وهو تزحزح الإنسان عن مكانه، وقد يؤدى به هذا التزحزح إلى السقوط على الأرض، يقال: زلقه يزلقه، وأزلقه يزلقه إزلاقا، إذا نحاه وأبعده عن مكانه، واللام فيه للابتداء.
قال الشوكانى: قرأ الجمهور: لَيُزْلِقُونَكَ بضم الياء من أزلقه، أى: أزل رجله..
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 391.(15/61)
وقرأ نافع وأهل المدينة لَيُزْلِقُونَكَ- بفتح الياء- من زلق عن موضعه.
وإِنْ هي المخففة من الثقيلة، - واسمها ضمير الشأن محذوف، و «لما» ظرفية منصوبة بيزلقونك. أو هي حرف، وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه. أى: لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك ... «1» .
أى: وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك، أو ليزلون قدمك عن موضعها، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرا، بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر، وهو القرآن الكريم..
وَيَقُولُونَ على سبيل البغض لك إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أى: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن الأشخاص الذين ذهبت عقولهم..
وَما هُوَ أى: القرآن الذي أنزلناه عليك إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أى: تذكير بالله- تعالى- وبدينه وبهداياته.. وشرف لهم وللعالمين جميعا.
وجاء قوله يَكادُ بصيغة المضارع، للإشارة إلى استمرار ذلك في المستقبل.
وجاء قوله سَمِعُوا بصيغة الماضي، لوقوعه مع لَمَّا، وللإشعار بأنهم قد حصل منهم هذا القول السّيئ..
وجاء قوله لَيُزْلِقُونَكَ بلام التأكيد للإشعار بتصميمهم على هذه الكراهية، وحرصهم عليها.
وقوله- سبحانه-: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ رد على أكاذيبهم، وإبطال لأقوالهم الزائفة، حيث وصفوه صلى الله عليه وسلم بالجنون، لأنه إذا كان ما جاء به شرف وموعظة وهداية وتذكير بالخير للناس.. لم يكن معقولا أن يكون مبلغه مجنونا.
ومنهم من فسر قوله- تعالى-: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ.. أى: ليحسدونك عن طريق النظر الشديد بعيونهم..
قال الإمام ابن كثير: وقوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: لَيُزْلِقُونَكَ: لينفذونك بأبصارهم، أى: ليعينوك بأبصارهم، بمعنى ليحسدونك لبغضهم إياك، لولا وقاية الله لك، وحمايتك منهم.
وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله- عز وجل-، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 5 ص 277 للشوكانى.(15/62)
ثم ساق- رحمه الله- جملة من الأحاديث في هذا المعنى، منها ما رواه أبو داود في سننه، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا رقية إلا من عين أو حمه- أى: سم-، أو دم لا يرقأ» .
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين» .
وعن ابن عباس- أيضا- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين فيقول:
«أعيذ كما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة- والهامة كل ذات سم يقتل-، ومن كل عين لامّة» .
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق حتى لتورد الرجل القبر، والجمل القدر، وإن أكثر هلاك أمتى في العين «1» » .
وبعد: فهذا تفسير محرر لسورة «ن» ، نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 226 وما بعدها.(15/63)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة الحاقة
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الحاقة» من السور المكية الخالصة، وكان نزولها بعد سورة «الملك» وقبل سورة «المعارج» ، وعدد آياتها إحدى وخمسون آية، وعند بعضهم اثنتان وخمسون آية.
قال الآلوسى: «ويدل على مكيتها ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال:
«خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فوقفت خلفه، فاستفتح بسورة (الحاقة) ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، فقلت- أى في نفسي-: هذا والله شاعر، فقرأ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ فقلت:
كاهن، فقرأ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر السورة. فوقع الإسلام في قلبي كل موقع» «1» .
وعلى هذا الحديث يكون نزولها في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة لأن إسلام عمر- رضى الله عنه- كان- تقريبا- في ذلك الوقت.
2- والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة، وعن مصارع المكذبين، وعن أحوال أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وعن إقامة الأدلة المتعددة على أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه- عز وجل-.
وتمتاز هذه السورة بقصر آياتها، وبرهبة وقعها على النفوس، إذ كل قارئ لها بتدبر
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 38.(15/65)
وتفكر، يحس عند قراءتها بالهول القاصم، وبالجد الصارم، وببيان أن هذا الدين حق لا يشوبه باطل. وأن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم صدق لا يحوم حوله كذب.
نرى ذلك كله في اسمها، وفي حديثها عن مصارع الغابرين، وعن مشاهد يوم القيامة التي يشيب لها الولدان.
نسأل الله تعالى- أن يرحمنا جميعا برحمته.
الراجي عفو ربه د/ محمد سيد طنطاوى(15/66)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
التفسير افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بقوله:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
وكلمة «الحاقة» مأخوذة من حق الشيء إذا ثبت وجوده ثبوتا لا يحتمل الشك.. وهي من أسماء الساعة، وسميت الساعة بهذا الاسم لأن الأمور تثبت فيها وتحق، خلافا لما كان يزعمه الكافرون من أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء.
والهاء فيها يصح أن تكون هاء التأنيث، فيكون لفظ «الحاقة» صفة لموصوف محذوف، أى: الساعة الحاقة.
ويصح أن تكون هاء مصدر، بزنة فاعلة، مثل الكاذبة للكذب والباقية للبقاء، والطاغية للطغيان.(15/67)
وأصلها تاء المرة، ولكنها لما أريد بها المصدر، قطع النظر عن المرة، وصار لفظ «الحاقة» بمعنى الحق الثابت الوقوع.
ولفظ «الحاقة» مبتدأ، و «ما» مبتدأ ثان، ولفظ الحاقة الثاني، خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره، خبر المبتدأ الأول.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ يريد القيامة، سميت بذلك: لأن الأمور تحق فيها.
وقيل سميت بذلك، لأنها تكون من غير شك. أو لأنها أحقت لأقوام الجنة، ولأقوام النار، أو لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله، أو لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل. أى: تبطل حجة كل مخاصم في دين الله بالباطل- يقال: حاققته فحققته فأنا أحقّه، إذا غالبته فغلبته.. والتّحاق التخاصم، والاحتقاق: الاختصام.. «1» .
و «ما» في قوله وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ اسم استفهام المقصود به هنا التهويل والتعظيم، وهي مبتدأ. وخبرها جملة أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ وما الثانية وخبرها في محل نصب سادة مسد المفعول الثاني لقوله أَدْراكَ لأن أدرى يتعدى لمفعولين، الأول بنفسه والثاني بالباء، كما في قوله- تعالى-: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ «2» .
وهذا الأسلوب الذي جاءت به هذه الآيات الكريمة، فيه ما فيه من التهويل من شأن الساعة، ومن التعظيم لأمرها، فكأنه- تعالى- يقول: يوم القيامة الذي يخوض في شأنه الكافرون، والذي تحق فيه الأمور وتثبت. أتدري أى شيء عظيم هو؟ وكيف تدرى أيها المخاطب؟ ونحن لم نحط أحدا بكنه هذا اليوم، ولا بزمان وقوعه؟
وإنك- أيها العاقل- مهما تصورت هذا اليوم، فإن أهواله فوق ما تتصور، وكيفما قدرت لشدائده: فإن هذه الشدائد فوق ما قدرت.
ومن مظاهر هذا التهويل لشأن يوم القيامة افتتاح السورة بلفظ «الحاقة» الذي قصد به ترويع المشركين، لأن هذا اللفظ يدل على أن يوم القيامة حق.
كما أن تكرار لفظ «ما» ثلاث مرات، مستعمل- أيضا- في التهويل والتعظيم، كما أن إعادة المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا عنه بلفظه، بأن قال مَا الْحَاقَّةُ ولم يقل ما هي، يدل أيضا على التهويل. لأن الإظهار في مقام الإضمار يقصد به ذلك، ونظيره
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 18 ص 257.
(2) سورة يونس الآية 16. [.....](15/68)
قوله- تعالى-: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ.
والخطاب في الآيات الكريمة، لكل من يصلح له، لأن المقصود تنبيه الناس إلى أن الساعة حق. وأن الحساب والجزاء فيها حق، لكي يستعدوا لها بالإيمان والعمل الصالح.
قال بعض العلماء ما ملخصه: واستعمال «ما أدراك» غير استعمال «ما يدريك» .. فقد روى عن ابن عباس أنه قال: كل شيء من القرآن من قوله ما أَدْراكَ فقد أدراه، وكل شيء من قوله: وَما يُدْرِيكَ فقد طوى عنه.
فإن صح هذا عنه فمراده أن مفعول «ما أدراك» محقق الوقوع، لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول «ما يدريك» غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإنكار، وهو في معنى نفى الدراية.
قال- تعالى-: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ وقال- سبحانه- وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «1» .
ثم فصل- سبحانه- أحوال بعض الذين كذبوا بالساعة، وبين ما ترتب على تكذيبهم من عذاب أليم فقال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ.
وثمود: هم قوم صالح- عليه السلام-، سموا بذلك باسم جدهم ثمود. وقيل سموا بذلك لقلة المياه التي كانت في مساكنهم، لأن الثمد هو الماء القليل.
وكانت مساكنهم بين الحجاز والشام. وما زالت أماكنهم معروفة باسم قرى صالح وتقع بين المملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة العربية السعودية.
وقد ذكرت قصتهم في سور: الأعراف، وهود، والشعراء، والنمل، والقمر ... إلخ.
وأما عاد فهم قبيلة عاد، وسموا بذلك نسبة إلى جدهم الذي كان يسمى بهذا الاسم، وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن- والأحقاف جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل ... وينتهى نسب عاد وثمود إلى نوح- عليه السلام-.
والقارعة: اسم فاعل من قرعه، إذا ضربه ضربا شديدا، ومنه قوارع الدهر، أى:
شدائده وأهواله، ويقال: قرع فلان البعير، إذا ضربه ومنه قولهم: العبد يقرع بالعصا.
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير ج 29 ص 114 للشيخ ابن عاشور.(15/69)
ولفظ القارعة، من أسماء يوم القيامة، وسمى يوم القيامة بذلك، لأنه يقرع القلوب ويزجرها لشدة أهواله: وهو صفة لموصوف محذوف، أى: بالساعة القارعة.
والطاغية من الطغيان وهو تجاوز الحد، والمراد بها هنا الصاعقة أو الصيحة التي أهلكت قوم ثمود، كما قال- تعالى-: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ «1» .
ولفظ الطاغية- أيضا- صفة لموصوف محذوف.
والريح الصرصر العاتية: هي الريح الشديدة التي يكون لها صوت كالصرير، كما قال- تعالى-: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «2» .
والعاتية من العتو بمعنى الشدة والقوة وتجاوز الحد.
أى: كذبت قبيلة ثمود، وقبيلة عاد، بالقيامة التي تقرع القلوب، وتزلزل النفوس، فأما قبيلة «ثمود» فأهلكوا، بالصيحة أو بالصاعقة، أو بالرجفة، التي تجاوزت الحد في الشدة والهول والطغيان.
وأما قبيلة عاد، فأهلكت بالريح الشديدة، التي لها صوت عظيم، والتي تجاوزت كل حد في قوتها.
وابتدأ- سبحانه- بذكر ما أصاب هاتين القبيلتين، لأنهما أكثر القبائل المكذبة معرفة لمشركي قريش، لأنهما من القبائل العربية، ومساكنهما كانت في شمال وجنوب الجزيرة العربية.
ثم بين- سبحانه- كيفية نزول العذاب بهم فقال: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً.
والتسخير: التذليل عن طريق القهر والأمر الذي لا يمكن مخالفته.
وحسوما: من الحسم بمعنى التتابع، من حسمت الدابة، إذا تابعت كيها على الداء مرة بعد مرة حتى ينحسم.. أو من الحسم بمعنى القطع، ومنه سمى السيف حساما لأنه يقطع الرءوس، وينهى الحياة.
قال صاحب الكشاف: «والحسوم» : لا يخلو من أن يكون جمع حاسم، كشهود وقعود. أو
__________
(1) سورة هود الآية 67.
(2) سورة فصلت الآية 16.(15/70)
مصدرا كالشكور والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله حُسُوماً: نحسات حسمت كل خير، واستأصلت كل بركة. أو: متتابعة هبوب الرياح، ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم، تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكلى على الداء، كرة بعد كرة حتى ينحسم.
وإن كان مصدرا، فإما أن ينتصب بفعله مضمرا، أى: تحسم حسوما، بمعنى تستأصل استئصالا. أو يكون صفة كقولك: ذات حسوم.. «1» .
أى: أرسل الله- تعالى- على هؤلاء المجرمين الريح التي لا يمكنها التخلف عن أمره، فبقيت تستأصل شأفتهم، وتخمد أنفاسهم.. سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً أى: متتابعة ومتوالية حتى قطعت دابرهم، ودمرتهم تدميرا.
وقوله: حُسُوماً يصح أن يكون نعتا لسبع ليال وثمانية أيام، ويصح أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل من لفظه، أى: تحسمهم حسوما.
ثم صور- سبحانه- هيئاتهم بعد أن هلكوا فقال: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ.
والخطاب في قوله فَتَرَى.. لغير معين. والفاء للتفريع على ما تقدم والضمير في قوله فِيها يعود إلى الأيام والليالى. أو إلى مساكنهم.
وقوله: صَرْعى أى: هلكى، جمع صريع كقتيل وقتلى، وجريح وجرحى.
والأعجاز جمع عجز، والمراد بها هنا جذوع النخل التي قطعت رءوسها.
وخاوية، أى: ساقطة، مأخوذ من خوى النجم، إذا سقط للغروب أو من خوى المكان إذا خلا من أهله وسكانه، وصار قاعا صفصفا. بعد أن كان ممتلئا بعمّاره.
أى: أرسل الله- تعالى- على هؤلاء الظالمين الريح المتتابعة لمدة سبع ليال وثمانية أيام، فدمرتهم تدميرا، وصار الرائي ينظر إليهم فيراهم وقد ألقوا على الأرض هلكى، كأنهم في ضخامة أجسادهم ... جذوع نخل ساقطة على الأرض، وقد انفصلت رءوسها عنها.
وعبر- سبحانه- بقوله: فَتَرَى الْقَوْمَ ... لاستحضار صورتهم في الأذهان، حتى يزداد المخاطب اعتبارا بأحوالهم، وبما حل بهم.
والتشبيه بقوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ المقصود منه تشنيع صورتهم، والتنفير من
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 598.(15/71)
مصيرهم السّيّئ، لأن من كان هذا مصيره، كان جديرا بأن يتحامى، وأن تجتنب أفعاله التي أدت به إلى هذه العاقبة المهينة.
والاستفهام في قوله: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ للنفي، والخطاب- أيضا- لكل من يصلح له، وقوله باقِيَةٍ صفة لموصوف محذوف.. أى: فهل ترى لهم من فرقة أو نفس باقية.
ثم بين- سبحانه- النهاية السيئة لأقوام آخرين فقال: وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً.
وفرعون: هو الذي قال لقومه- من بين ما قال- أنا ربكم الأعلى ... وقد أرسل الله- تعالى- إليه نبيه موسى- عليه السلام- ولكنه أعرض عن دعوته.. وكانت نهايته الغرق.
والمراد بمن قبله: الأقوام الذين سبقوه في الكفر، كقوم نوح وإبراهيم- عليهما السلام-.
والمراد بالمؤتفكات: قرى قوم لوط- عليه السلام- التي اقتلعها جبريل- عليه السلام- ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها، مأخوذ من ائتفك الشيء إذا انقلب رأسا على عقب.
قال- تعالى- جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ «1» .
والمراد بالمؤتفكات هنا: سكانها وهم قوم لوط الذين أتوا بفاحشة ما سبقهم إليها أحد من العالمين.
وخصوا بالذكر، لشهرة جريمتهم وبشاعتها وشناعتها.. ولمرور أهل مكة على قراهم وهم في طريقهم إلى الشام للتجارة، كما قال- تعالى-: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«2» .
أى: وبعد أن أهلكنا أقوام عاد وثمود.. جاء فرعون، وجاء أقوام آخرون قبله، وجاء قوم لوط، وكانوا جميعا كافرين برسلنا، ومعرضين عن دعوة الحق ومرتكبين للفعلات الخاطئة، والفواحش المنكرة.
ومن مظاهر ذلك أنهم فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أى: كل أمة من أمم الكفر تلك، عصت
__________
(1) سورة هود الآية 82.
(2) سورة الصافات الآيتان 137- 138.(15/72)
رسولها حين أمرها بالمعروف، ونهاها عن المنكر.
فكانت نتيجة إصرارهم على ارتكاب المعاصي والفواحش.. أن أخذهم الله- تعالى- أَخْذَةً رابِيَةً أى: أخذة زائدة في الشدة- لزيادة قبائحهم- على الأخذات التي أخذ بها غيرهم.
فقوله: رابِيَةً مأخوذ من ربا الشيء إذا زاد وتضاعف.
وقال- سبحانه- فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ولم يقل رسولهم، للإشعار بأنهم لم يكتفوا بمعصية الرسول الذي هو بشر مثلهم، وإنما تجاوزوا ذلك إلى الاستخفاف بما جاءهم به من عند ربهم وخالقهم وموجدهم.
والتعبير بالأخذ، للإشعار بسرعة الإهلاك وشدته، فإذا وصف هذا الأخذ بالزيادة عن المألوف، كان المقصود به الزيادة في الاعتبار والاتعاظ لأن هؤلاء جميعا قد أهلكهم- سبحانه- هلاك الاستئصال، الذي لم يبق منهم باقية.
ثم حكى- سبحانه- ما جرى لقوم نوح- عليه السلام- وبين جانبا من مننه ونعمه على المخاطبين، فقال: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ.
وقوله: طَغَى من الطغيان وهو مجاوزة الحد في كل شيء، والجارية صفة لموصوف محذوف.
أى: اذكروا- أيها الناس- لتعتبروا وتتعظوا، ما جرى للكافرين من قوم نوح- عليه السلام- فإنهم حين أصروا على كفرهم، أغرقناهم بالطوفان، وحين علا الماء واشتد في ارتفاعه اشتدادا خارقا للعادة.. حملنا آباءكم الذين آمنوا بنوح- عليه السلام- في السفينة الجارية، التي صنعها نوح بأمرنا. وحفظناهم- بفضلنا ورحمتنا- في تلك السفينة إلى أن انتهى الطوفان.
وقد فعلنا ذلك لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً
أى: لنجعل لكم هذه النعمة وهي إنجاؤكم وإنجاء آبائكم من الغرق- عبرة وعظة وتذكيرا بنعم الله- تعالى- عليكم.
وهذه النعمة والمنة تَعِيَها
وتحفظها أُذُنٌ واعِيَةٌ
. أى: أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه، وتعى ما يجب وعيه.
فقوله: واعِيَةٌ
من الوعى بمعنى الحفظ للشيء في القلب. يقال: وعى فلان الشيء يعيه إذا حفظه أكمل حفظ.(15/73)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
وقال- سبحانه- حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ مع أن الحمل كان للآباء الذين آمنوا بنوح- عليه السلام- لأن في نجاة الآباء، نجاة للأبناء، ولأنه لو هلك الآباء لما وجد الأبناء.
قال صاحب الكشاف قوله: حَمَلْناكُمْ أى: حملنا آباءكم، في الجارية، أى: في السفينة الجارية، لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين، كان حمل آبائهم منة عليهم، وكأنهم هم المحمولون، لأن نجاتهم سبب ولادتهم.
لِنَجْعَلَها
الضمير للفعلة: وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة تَذْكِرَةً
عبرة وعظة. وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
من شأنها أن تعى وتحفظ ما يجب حفظه ووعيه، ولا تضيعه بترك العمل.
فإن قلت: لم قيل: أذن واعية على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله، فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم، وإن ملأوا الخافقين.. «1» .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت الناس بأهوال يوم القيامة بأبلغ أسلوب، وبينت ما حل بالمكذبين بطريقة تبعث الخوف والوجل في القلوب.
ثم أخذت السورة في تفصيل أهوال يوم القيامة، وفي بيان ما تكون عليه الأرض والسماء في هذا اليوم، وفي بيان ما أعده- سبحانه- لمن أوتى كتابه بيمينه في هذا اليوم، فقال- تعالى-:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 24]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 600.(15/74)
والفاء في قوله- تعالى-: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ.. للتفريع، أى: لتفريع ما بعدها على ما قبلها، وهو الحديث عن أهوال يوم القيامة.
والصور: هو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله- تعالى-.
قال الآلوسى: قوله: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ شروع في بيان نفس الحاقة، وكيفية وقوعها، إثر بيان عظم شأنها، بإهلاك مكذبيها.
والمراد بالنفخة الواحدة: النفخة الأولى، التي عندها يكون خراب العالم. وقيل هي النفخة الثانية. والأول أولى، لأنه هو المناسب لما بعده «1» .
وجواب الشرط قوله: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. أو قوله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ.
أى: فإذا نفخ إسرافيل في الصور بأمرنا. وقعت الواقعة التي لا مفر من وقوعها، لكي يحاسب الناس على أعمالهم.
ووصفت النفخة بأنها واحدة، للتأكيد على أنها نفخة واحدة وليست أكثر، وللتنبيه على أن هذه النفخة- مع أنها واحدة- تتأثر بها السموات والأرض والجبال، وهذا دليل على وحدانية الله- تعالى- وقدرته.
وقوله- سبحانه-: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً بيان لما ترتب على تلك النفخة الهائلة من آثار.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 59 ص 43.(15/75)
والمراد بحمل الأرض والجبال: إزالتهما من أماكنهما، وتفريق أجزائهما.
والدك: هو الدق الشديد الذي يترتب عليه التكسير والتفتيت للشيء.
أى: عند ما ينفخ إسرافيل في الصور بأمرنا نفخة واحدة، وعند ما تزال الأرض والجبال عن أماكنهما، وتتفتت أجزاؤهما تفتتا شديدا.
فيومئذ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أى: ففي هذا الوقت تقع الواقعة التي لا مرد لوقوعها، والواقعة من أسماء يوم القيامة. كالحاقة، والقارعة.
ثم بين- سبحانه- ما تكون عليه السماء في هذا اليوم فقال: وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ.
والانشقاق: الانفطار والتصدع. ومعنى: واهِيَةٌ ضعيفة متراخية.
يقال: وهي البناء يهي وهيا فهو واه، إذا كان ضعيفا جدا، ومتوقعا سقوطه.
أى: وفي هذا الوقت- أيضا- الذي يتم فيه النفخ في الصور بأمرنا تتصدع السماء وتتفطر، وتصير في أشد درجات الضعف والاسترخاء، والتفرق.
وقيد- سبحانه- هذا الضعف بهذا الوقت، للإشارة إلى أنه ضعف طارئ، قد حدث بسبب النفخ في الصور، أما قبل ذلك فكانت في نهاية الإحكام والقوة.
وهذا كله للتهويل من شأن هذه النفخة، ومن شأن المقدمات التي تتقدم قيام الساعة، حتى يستعد الناس لها بالإيمان والعمل الصالح.
والمراد بالملك في قوله- تعالى-: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها جنس الملك، فيشمل عدد مبهم من الملائكة.. أو جميع الملائكة إذا أردنا بأل معنى الاستغراق.
والأرجاء: الأطراف والجوانب، جمع رجا بالقصر، وألفه منقلبة عن واو، مثل: قفا وقفوان.
أى: والملائكة في ذلك الوقت يكونون على أرجاء السماء وجوانبها، ينفذون أمر الله- تعالى- وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أى: والملائكة واقفون على أطراف السماء، ونواحيها. ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة في هذا اليوم، ثمانية منهم، أو ثمانية من صفوفهم التي لا يعلم عددها إلا الله- تعالى-.
وعرش الله- تعالى- مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، فنحن نؤمن بأن لله- عز وجل- عرشا، إلا أننا نفوض معرفة هيئته وكنهه.. إلى الله- تعالى-.(15/76)
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أى: والجنس المتعارف بالملك، وهم الملائكة.. على جوانب السماء التي لم تتشقق.
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أى: فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء المدلول عليهم بالملك، وقيل: فوق العالم كلهم.
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أى: من الملائكة، أو ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله- تعالى- «1» .
هذا، وقد وردت في صفة هؤلاء الملائكة الثمانية، أحاديث ضعيفة لذا ضربنا صفحا عن ذكرها.
ثم بين- سبحانه- ما يجرى على الناس في هذا اليوم فقال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ.
والعرض أصله: إظهار الشيء لمن يريد التأمل فيه، أو الحصول عليه، ومنه عرض البائع سلعته على المشترى.
وهو هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة.
أى: في هذا اليوم تعرضون للحساب والجزاء، لا تخفى منكم خافية، أى تعرضون للحساب، دون أن يخفى منكم أحد على الله- تعالى- أو دون أن تخفى منكم نفس واحدة على خالقها- عز وجل-.
قال الجمل: وقوله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أى: تسألون وتحاسبون، وعبر عنه بذلك تشبيها له بعرض السلطان العسكر والجند، لينظر في أمرهم فيختار منهم المصلح للتقريب والإكرام، والمفسد للإبعاد والتعذيب «2» .
والفاء في قوله- تعالى-: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ.. لتفصيل ما يترتب على العرض والحساب من جزاء.
والمراد بكتابه: ما سجلته الملائكة عليه من أعمال في الدنيا، والمراد بيمينه: يده اليمنى، لأن من يعطى كتابه بيده اليمنى، يكون هذا الإعطاء دليلا على فوزه ونجاته من العذاب.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 45.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 397.(15/77)
والعرب يذكرون التناول باليمين، على أنه كناية عن الاهتمام بالشيء المأخوذ، وعن الاعتزاز به، ومنه قول الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وجملة فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ جواب «أما» - ولفظ «هاؤم» هنا:
اسم فعل أمر. بمعنى: خذوا، والهاء في قوله «كتابيه وحسابيه» وما ماثلهما للسكت، والأصل كتابي وحسابي فأدخلت عليهما هاء السكت لكي تظهر فتحة الياء.
والمعنى في هذا اليوم يعرض كل إنسان للحساب والجزاء، ويؤتى كل فرد كتاب أعماله، فأما من أعطى كتاب أعماله بيمينه، على سبيل التبشير والتكريم، فَيَقُولُ على سبيل البهجة والسرور لكل من يهمه أن يقول له: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ أى: هذا هو كتابي فخذوه واقرءوه فإنكم ستجدونه مشتملا على الإكرام لي، وتبشيرى بالفوز الذي هو نهاية آمالى، ومحط رجائي.
إِنِّي ظَنَنْتُ أى: تيقنت وعلمت أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أى: إنى علمت أن يوم القيامة حق، وتيقنت أن الحساب والجزاء صدق، فأعددت للأمر عدته عن طريق الإيمان الكامل، والعمل الصالح.
قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك.
وهذه الجملة الكريمة بمنزلة التعليل للبهجة والمسرة التي دل عليها قوله- تعالى- هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ.
فَهُوَ أى: هذا المؤمن الفائز برضا الله- تعالى- فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أى: في حياة ذات رضا، أى: ثابت ودائم لها الرضا. فهي صيغة نسب، كلابن وتامر لصاحب اللبن والتمر.
أو فهو في عيشة مرضية يرضى بها صاحبها ولا يبغضها، فهي فاعل بمعنى مفعول، على حد قولهم: ماء دافق بمعنى مدفوق.
وفي هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن هذه الحياة التي يحياها المؤمن في الجنة، في أسمى درجات الحبور والسرور، حتى لكأنه لو كان للمعيشة عقل، لرضيت لنفسها بحالتها، ولفرحت بها فرحا عظيما.
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أى: هذا الذي أوتى كتابه بيمينه، يكون- أيضا- في جنة مرتفعة على غيرها، وهذا لون من مزاياها.(15/78)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
قُطُوفُها دانِيَةٌ أى: ثمارها قريبة التناول لهذا المؤمن، يقطفها كلما أرادها بدون تعب. فالقطوف جمع قطف بمعنى مقطوف، وهو ما يجتنيه الجاني من الثمار، ودانِيَةٌ اسم فاعل، من الدنو بمعنى القرب. وجملة كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ مقول لقول محذوف.
أى: يقال لهؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم كلوا أكلا طيبا، واشربوا هنيئا مريئا بسبب ما قدمتموه في دنياكم من إيمان بالله- تعالى- ومن عمل صالح خالص لوجهه- تعالى-.
قال الإمام ابن كثير: أى: يقال لهم ذلك، تفضلا عليهم، وامتنانا وإنعاما وإحسانا، وإلا فقد ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» «1» .
وكعادة القرآن الكريم، في بيان سوء عاقبة الأشرار، بعد بيان حسن عاقبة الأخيار، أو العكس، جاء الحديث عمن أوتى كتابه بشماله، بعد الحديث عمن أوتى كتابه بيمينه، فقال- تعالى-:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 242.(15/79)
أى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ أى: من الجهة التي يعلم أن الإتيان منها يؤدى إلى هلاكه وعذابه.
فَيَقُولُ على سبيل التحسر والتفجع يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ أى: فيقول يا ليتني لم أعط هذا الكتاب، لأن إعطائى إياه بشمالي دليل على عذابي وعقابي.
وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ أى: ويا ليتني لم أعرف شيئا عن حسابي، فإن هذه المعرفة التي لم أحسن الاستعداد لها، أوصلتنى إلى العذاب المبين.
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ أى: ويا ليت الموتة التي متها في الدنيا، كانت هي الموتة النهائية التي لا حياة لي بعدها.
فالضمير للموتة التي ماتها في الدنيا، وإن كان لم يجر لها ذكر، إلا أنها عرفت من المقام.
والمراد بالقاضية: القاطعة لأمره، التي لا بعث بعدها ولا حساب.. لأن ما وجده بعدها أشد مما وجده بعد حلوله بها.
قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره منه. وشر من الموت ما يطلب منه الموت.
ثم أخذ هذا الذي أوتى كتابه بشماله يتحسر على تفريطه وغروره، ويحكى القرآن ذلك فيقول: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أى: هذه الأموال التي كنت أملكها في الدنيا، وأتفاخر بها. لم تغن عنى شيئا من عذاب الله، ولم تنفعني ولو منفعة قليلة.
فما نافية، والمفعول محذوف للتعميم، ويجوز أن تكون استفهامية والمقصود بها التوبيخ.
أى: أى شيء أغنى عنى مالي؟ إنه لم يغن عنى شيئا.
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أى: ذهب عنى، وغاب عنى في هذا اليوم ما كنت أتمتع به في الدنيا من جاه وسلطان، ولم يحضرني شيء منه، كما أن حججي وأقوالى التي كنت أخاصم بها المؤمنين. قد ذهبت أدراج الرياح.
وعدى الفعل «هلك» بعن، لتضمنه معنى غاب وذهب.
وخلال هذا التفجع والتحسر الطويل ... يأتى أمر الله- تعالى- الذي لا يرد، فيقول- سبحانه- للزبانية المكلفين بإنزال العذاب بالكافرين: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أى:
خذوا هذا الكافر، فاجمعوا يديه إلى عنقه.
فقوله: خُذُوهُ معمول لقول محذوف. وهو جواب عن سؤال نشأ مما سبق من الكلام. فكأنه قيل: وماذا يفعل به بعد هذا التحسر والتفجع. فكان الجواب: أمر(15/80)
الله- تعالى- ملائكته بقوله: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ..
وقوله: فَغُلُّوهُ من الغل- بضم الغين- وهو ربط اليدين إلى العنق على سبيل الإذلال.
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أى: ثم بعد هذا التقييد والإذلال.. اقذفوا به إلى الجحيم، وهي النار العظيمة، الشديدة التأجج والتوهج.
ومعنى صَلُّوهُ بالغوا في تصليته النار، بغمسه فيها مرة بعد أخرى. يقال: صلى فلان النار، إذا ذاق حرها، وصلّى فلان فلانا النار، إذا أدخله فيها. وقلبه على جمرها كما تقلب الشاة في النار.
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ والسلسلة: اسم لمجموعة من حلق الحديد، يربط بها الشخص لكي لا يهرب، أو لكي يزاد في إذلاله وهو المراد هنا.
وقوله: ذَرْعُها أى: طولها. والمراد بالسبعين: حقيقة هذا المقدار في الطول، أو يكون هذا العدد كناية عن عظيم طولها، كما في قوله- تعالى-: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ... «1» .
وقوله: فَاسْلُكُوهُ من السّلك بمعنى الإدخال في الشيء، كما في قوله- تعالى- ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أى: ما أدخلكم فيها.
أى: خذوا هذا الكافر، فقيدوه ثم أعدوه للنار المحرقة. ثم اجعلوه مغلولا في سلسلة طولها سبعون ذراعا، بحيث تكون محيطة به إحاطة تامة. أى ألقوا به في الجحيم وهو مكبل في أغلاله.
وثُمَّ في كل آية جيء بها للتراخي الرتبى، لأن كل عقوبة أشد من سابقتها. إذ إدخاله في السلسلة الطويلة. أعظم من مطلق إلقائه في الجحيم كما أن إلقاءه في الجحيم، أشد من مطلق أخذه وتقييده.
وفي هذه الآيات ما فيها من تصوير يبعث في القلوب الخوف الشديد، ويحملها على حسن الاستعداد لهذا اليوم. الذي لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئا.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث والآثار، منها: ما رواه ابن أبى حاتم، عن المنهال بن عمرو قال: إذا قال الله- عز وجل- خُذُوهُ.. ابتدره
__________
(1) سورة التوبة الآية 80.(15/81)
سبعون ألف ملك، وإن الملك منهم ليقول هكذا- أى: ليفعل هكذا- فيلقى سبعين ألفا في النار «1» .
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت بهذا الشقي إلى هذا المصير الأليم فقال: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ.
أى: إن هذا الشقي إنما حل به ما حل من عذاب.. لأنه كان في الدنيا، مصرا على الكفر، وعلى عدم الإيمان بالله الواحد القهار..
وكان كذلك لا يَحُضُّ أى: لا يحث نفسه ولا غيره عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أى:
على بذل طعامه أو طعام غيره للمسكين، الذي حلت به الفاقة والمسكنة.
ولعل وجه التخصيص لهذين الأمرين بالذكر، أن أقبح شيء يتعلق بالعقائد، وهو الكفر بالله- تعالى- وأن أقبح شيء في الطباع، هو البخل وقسوة القلب.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات، بزيادة البيان للمصير الأليم لهذا الشقي فقال:
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ أى: يوم القيامة هاهُنا حَمِيمٌ أى: ليس له في هذا اليوم من صديق ينفعه، أو من قريب يشفق عليه، أو يحميه، أو يدفع عنه.
وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أى: وليس له في جهنم من طعام سوى الغسلين وهو صديد أهل النار.. أو شجر يأكله أهل النار، فيغسل بطونهم، أى: يخرج أحشاءهم منها، أو ليس لهم إلا شر الطعام وأخبثه.
لا يَأْكُلُهُ أى: الغسلين إِلَّا الْخاطِؤُنَ أى: إلا الكافرون الذين تعمدوا ارتكاب الذنوب، وأصروا عليها، من خطئ الرجل: إذا تعمد ارتكاب الذنب.
فالخاطئ هو من يرتكب الذنب عن تعمد وإصرار. والمخطئ: هو من يرتكب الذنب عن غير إصرار وتعمد.
وهكذا. نجد الآيات الكريمة قد ساقت أشد ألوان الوعيد والعذاب.. للكافرين، بعد أن ساقت قبل ذلك، أعظم أنواع النعيم المقيم للمؤمنين.
وبعد هذا العرض- الذي بلغ الذروة في قوة التأثير- لأهوال يوم القيامة، ولبيان حسن عاقبة المتقين، وسوء عاقبة المكذبين.. بعد كل ذلك أخذت السورة في أواخرها، في تقرير حقيقة هذا الدين، وفي تأكيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وفي بيان أن هذا القرآن من عنده- تعالى- وحده.. فقال- سبحانه-:
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 243.(15/82)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
والفاء في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ للتفريع على ما فهم مما تقدم، من إنكار المشركين ليوم القيامة، ولكون القرآن من عند الله.
وفَلا في مثل هذا التركيب يرى بعضهم أنها مزيدة، فيكون المعنى: أقسم بما تبصرون من مخلوقاتنا كالسماء والأرض والجبال والبحار ... وبما لا تبصرون منها، كالملائكة والجن.
وقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ جواب القسم، وهو المحلوف عليه أى: أقسم إن هذا القرآن لقول رسول كريم، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وأضاف- سبحانه- القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه هو الذي تلقاه عن الله- تعالى- وهو الذي بلغه عنه بأمره وإذنه.
أى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا القرآن، وينطق به، على وجه التبليغ عن الله- تعالى-.
قال الإمام ابن كثير: قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم أضافه إليه على معنى التبليغ، لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل، ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وهو جبريل- عليه السلام- «1» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 244. [.....](15/83)
وبعضهم يرى أن «لا» في مثل هذا التركيب ليست مزيدة، وإنما هي أصلية، ويكون المقصود من الآية الكريمة، بيان أن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم، إذ كل عاقل عند ما يقرأ القرآن، يعتقد أنه من عند الله.
ويكون المعنى: فلا أقسم بما تبصرونه من مخلوقات، وبما لا تبصرونه.. لظهور الأمر واستغنائه عن القسم.
قال الشوكانى: قوله: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ هذا رد لكلام المشركين، كأنه قال: ليس الأمر كما تقولون. و «لا» زائدة والتقدير: فأقسم بما تشاهدونه وبما لا تشاهدونه.
وقيل إن «لا» ليست زائدة، بل هي لنفى القسم، أى: لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك. والأول أولى «1» .
وتأكيد قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ بإنّ وباللام، للرد على المشركين الذين قالوا عن القرآن الكريم: أساطير الأولين.
ثم أضاف- سبحانه- إلى هذا التأكيد تأكيدات أخرى فقال: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ، قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ.
والشاعر: هو من يقول الشعر. والكاهن: هو من يتعاطى الكهانة عن طريق الزعم بأنه يعلم الغيب.
وانتصب «قليلا» في الموضعين على أنه صفة لمصدر محذوف، و «ما» مزيدة لتأكيد القلة.
والمراد بالقلة في الموضعين انتفاء الإيمان منهم أصلا أو أن المراد بالقلة: إيمانهم اليسير، كإيمانهم بأن الله هو الذي خلقهم، مع إشراكهم معه آلهة أخرى في العبادة.
أى: ليس القرآن الكريم بقول شاعر، ولا بقول كاهن، وإنما هو تنزيل من رب العالمين، على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكي يبلغه إليكم، ولكي يخرجكم بواسطته من ظلمات الكفر، إلى نور الإيمان.
ولكنكم- أيها الكافرون- لا إيمان عندكم أصلا، أو قليلا ما تؤمنون بالحق، وقليلا ما تتذكرونه وتتعظون به.
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 5 ص 285.(15/84)
ففي الآيتين رد على الجاحدين الذين وصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو كاهن.
وخص هذين الوصفين بالذكر هنا لأن وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه رَسُولٍ كَرِيمٍ كاف لنفى الجنون أو الكذب عنه صلى الله عليه وسلم أما وصفه بالشعر والكهانة فلا ينافي عندهم وصفه بأنه كريم، لأن الشعر والكهانة كان معدودين عندهم من صفات الشرف، لذا نفى- سبحانه- عنه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر أو كاهن، وأثبت له أنه رسول كريم.
وقوله: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تأكيد لكون القرآن من عند الله- تعالى- وأنه ليس بقول شاعر أو كاهن.
أى: هذا القرآن ليس كما زعمتم- أيها الكافرون- وإنما هو منزل من رب العالمين، لا من أحد سواه- عز وجل-.
ثم بين- سبحانه- ما يحدث للرسول صلى الله عليه وسلم لو أنه- على سبيل الفرض- غيّر أو بدل شيئا من القرآن فقال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ.
والتقول: افتراء القول، ونسبته إلى من لم يقله، فهو تفعل من القول يدل على التكلف والتصنع والاختلاق.
والأقاويل: جمع أقوال، الذي هو جمع قول، فهو جمع الجمع.
أى: ولو أن محمدا صلى الله عليه وسلم افترى علينا بعض الأقوال، أو نسب إلينا قولا لم نقله، أو لم نأذن له في قوله.. لو أنه فعل شيئا من ذلك على سبيل الفرض.
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أى: لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه، وهو كناية عن إذلاله وإهانته.
أو: لأخذناه بالقوة والقدرة، وعبر عنهما باليمين، لأن قوة كل شيء في ميامنه.
والمقصود بالجملة الكريمة: التهويل من شأن الأخذ، وأنه أخذ شديد سريع لا يملك معه تصرفا أو هربا.
ثم أضاف- سبحانه- إلى هذا التهويل ما هو أشد منه في هذا المعنى فقال: ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ.
أى: ثم بعد هذا الأخذ بقوة وسرعة، لقطعنا وتينه. وهو عرق يتصل بالقلب. متى قطع مات صاحبه.(15/85)
وهذا التعبير من مبتكرات القرآن الكريم، ومن أساليبه البديعة، إذ لم يسمع عن العرب أنهم عبروا عن الإهلاك بقطع الوتين.
ثم بين- سبحانه- أن أحدا لن يستطيع منع عقابه فقال: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ.
أى: فما منكم من أحد- أيها المشركون- يستطيع أن يدفع عقابنا عنه، أو يحول بيننا وبين ما نريده، فالضمير في «عنه» يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات: التقول: افتعال القول، كأن فيه تكلفا من المفتعل، وسمى الأقوال المتقولة «أقاويل» ، تصغيرا بها وتحقيرا، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول.
والمعنى: ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم.
معاجلة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده، وتضرب رقبته.
وخص اليمين عن اليسار، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفا المقتول أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف- وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف- أخذ بيمينه.
ومعنى: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ: لأخذنا بيمينه. كما أن قوله: ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ: لقطعنا وتينه، والوتين: نياط القلب، وهو حبل الوريد، إذا قطع مات صاحبه «1» .
وفي هذه الآيات الكريمة أقوى الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- لأنه لو كان- كما زعم الزاعمون أنه من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم لما نطق بهذه الألفاظ التي فيها ما فيها من تهديده ووعيده.
كما أنها كذلك فيها إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقول شيئا.. وإنما بلّغ هذا القرآن عن ربه- عز وجل- دون أن يزيد حرفا أو ينقص حرفا.. لأن حكمة الله- تعالى- قد اقتضت أن يهلك كل من يفترى عليه الكذب، ومن يزعم أن الله- تعالى- أوحى إليه، مع أنه- سبحانه- لم يوح إليه.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 607.(15/86)
وقوله- سبحانه- وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ معطوف على قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ.
أى: إن هذا القرآن لقول رسول كريم بلغه عن الله- تعالى- وإنه لتذكير وإرشاد لأهل التقوى، لأنهم هم المنتفعون بهداياته.
وقوله- تعالى-: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ تبكيت وتوبيخ لهؤلاء الكافرين، الذين جحدوا الحق بعد أن تبين لهم أنه حق.
أى: وإنا لا يخفى علينا أن منكم- أيها الكافرون- من هو مكذب للحق عن جحود وعناد، ولكن هذا لن يمنعنا من إرسال رسولنا بهذا الدين لكي يبلغه إليكم، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر، وسنجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
وقوله- سبحانه-: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ بيان لما يكون عليه الكافرون من ندم شديد، عند ما يرون حسن مصير المؤمنين، وسوء مصير المكذبين.
والحسرة: هي الندم الشديد المتكرر، على أمر نافع قد مضى ولا يمكن تداركه.
أى: وإن هذا القرآن الكريم، ليكون يوم القيامة، سبب حسرة شديدة وندامة عظيمة، على الكافرين، لأنهم يرون المؤمنين به في هذا اليوم في نعيم مقيم، أما هم فيجدون أنفسهم في عذاب أليم.
وقوله: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ معطوف على ما قبله، أى: وإن هذا القرآن لهو الحق الثابت الذي لا شك في كونه من عند الله- تعالى- وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بلغه إلى الناس دون أن يزيد فيه حرفا، أو ينقص منه حرفا.
وإضافة الحق إلى اليقين، من إضافة الصفة إلى الموصوف. أى: لهو اليقين الحق، أو هو من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين، كما في قوله: حَبْلِ الْوَرِيدِ، إذ الحبل هو الوريد.
والمقصود من مثل هذا التركيب: التأكيد.
وقد قالوا: إن مراتب العلم ثلاثة: أعلاها: حق اليقين، ويليها: عين اليقين، ويليها:
علم اليقين.
فحق اليقين: كعلم الإنسان بالموت عند نزوله به، وبلوغ الروح الحلقوم. وعين اليقين:
كعلمه به عند حلول أماراته وعلاماته الدالة على قربه.. وعلم اليقين: كعلمه بأن الموت سينزل به لا محالة مهما طال الأجل.. والفاء في قوله- تعالى- فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ(15/87)
الْعَظِيمِ
للإفصاح. أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك من أن هذا الدين حق، وأن البعث حق، وأن القرآن حق، فنزه اسم ربك العظيم عما لا يليق به، من النقائص، في الاعتقاد، أو في العبادة، أو في القول، أو في الفعل.
والباء في قوله: بِاسْمِ رَبِّكَ للمصاحبة. أى: نزه ربك تنزيها مصحوبا بكل ما يليق به من طاعة وإخلاص ومواظبة على مراقبته وتقواه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات- وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(15/88)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة المعارج
مقدمة وتمهيد
1- سورة (المعارج) هي السورة السبعون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثامنة والسبعون، وكان نزولها بعد سورة (الحاقة) وقبل سورة (النبأ) .
وتسمى- أيضا- بسورة (سأل سائل) ، وذكر السيوطي في كتابه (الإتقان) أنها تسمى كذلك بسورة (الواقع) .
وهذه الأسماء الثلاثة قد وردت ألفاظها في السورة الكريمة. قال- تعالى- سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ.
وهي من السور المكية الخالصة، وعدد آياتها أربع وأربعون آية في عامة المصاحف، وفي المصحف الشامي ثلاث وأربعون آية.
والسورة الكريمة نراها في مطلعها، تحكى لنا جانبا من استهزاء المشركين بما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من بعث وثواب وعقاب.. وترد عليهم بما يكبتهم، حيث تؤكد أن يوم القيامة حق، وأنه واقع، وأن أهواله شديدة.
قال- تعالى- سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً.
3- ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى تصوير طبيعة الإنسان، وتمدح المحافظين على صلاتهم، وعلى أداء حقوق الله- تعالى- في أموالهم، كما تمدح الذين يؤمنون بأن البعث حق،(15/89)
ويستعدون لهذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح.
قال- تعالى- إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ.
4- ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي توبيخ الكافرين على مسالكهم الخبيثة بإزاء الدعوة الإسلامية، وفي بيان أن يوم القيامة الذي يكذبون به آت لا ريب فيه.
قال- تعالى-: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
5- هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة، يرى أن على رأس القضايا التي اهتمت بالحديث عنها: التذكير بيوم القيامة، وبأهواله وشدائده، وببيان ما فيه من حساب، وجزاء، وثواب وعقاب.
والحديث عن النفس الإنسانية بصفة عامة في حال عسرها ويسرها، وصحتها ومرضها، وأملها ويأسها ... واستثناء المؤمنين الصادقين، من كل صفة لا يحبها الله- تعالى- وأنهم بسبب إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح، سيكونون يوم القيامة. في جنات مكرمين.
كما أن السورة الكريمة اهتمت بالرد على الكافرين، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم، وببيان مظاهر قدرة الله- تعالى- التي لا يعجزها شيء.
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(15/90)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
التفسير افتتح- سبحانه- سورة (المعارج) بقوله- تعالى-:
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
وقوله- تعالى- سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ قرأه الجمهور بإظهار الهمزة في سَأَلَ.
وقرأه نافع وابن عامر سَأَلَ بتخفيف الهمزة.
قال الجمل: قرأ نافع وابن عامر بألف محضة، والباقون، بهمزة محققة وهي الأصل.
فأما القراءة بالألف ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بمعنى قراءة الهمزة، وإنما خففت بقلبها ألفا. والثاني: أنها من سال يسال، مثل خاف يخاف، والألف منقلبة عن واو، والواو منقلبة عن الهمزة.(15/91)
والثالث: من السيلان، والمعنى: سال واد في جهنم بعذاب، فالألف منقلبة عن ياء «1» .
وقد حكى القرآن الكريم عن كفار مكة، أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء عن موعد العذاب الذي يتوعدهم به إذا ما استمروا على كفرهم، ويستعجلون وقوعه.
قال- تعالى-: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وقال- سبحانه- وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ.
وعلى هذا يكون السؤال على حقيقته، وأن المقصود به الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين.
ومنهم من يرى أن سأل هنا بمعنى دعا. أى: دعا داع على نفسه بعذاب واقع.
قال الآلوسى ما ملخصه: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ أى: دعا داع به، فالسؤال بمعنى الدعاء، ولذا عدى بالباء تعديته بها في قوله يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ. والمراد:
استدعاء العذاب وطلبه.. وقيل إنها بمعنى «عن» كما في قوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً.
والسائل هو النضر بن الحارث- كما روى النسائي وجماعة وصححه الحاكم- حيث قال إنكارا واستهزاء «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم» . وقيل السائل: أبو جهل، حيث قال: «فأسقط علينا كسفا من السماء» «2» .
وعلى أية حال فسؤالهم عن العذاب، يتضمن معنى الإنكار والتهكم، كما يتضمن معنى الاستعجال، كما حكته بعض الآيات الكريمة..
ومن بلاغة القرآن، تعدية هذا الفعل هنا بالباء، ليصلح لمعنى الاستفهام الإنكارى، ولمعنى الدعاء والاستعجال.
أى: سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تهكم، عن العذاب الذي توعد به الكافرين إذا ما استمروا على كفرهم. وتعجّله في وقوعه بل أضاف إلى ذلك- لتجاوزه الحد في عناده وطغيانه- أن قال: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» .
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 403.
(2) تفسير الكشاف ج 29 ص 55.(15/92)
وقال- سبحانه- بِعَذابٍ واقِعٍ ولم يقل بعذاب سيقع، للإشارة إلى تحقق وقوع هذا العذاب في الدنيا والآخرة.
أما الدنيا فمن هؤلاء السائلين من قتل في غزوة بدر وهو النضر بن الحارث، وأبو جهل وغيرهما، وأما في الآخرة فالعذاب النازل بهم أشد وأبقى.
ثم وصف- سبحانه- العذاب بصفات أخرى، غير الوقوع فقال: لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ. واللام في قوله لِلْكافِرينَ بمعنى على. أو للتعليل.
أى: سأل سائل عن عذاب واقع على الكافرين، هذا العذاب ليس له دافع يدفعه عنهم، لأنه واقع من الله- تعالى- ذِي الْمَعارِجِ.
والمعارج جمع معرج، وهو المصعد، ومنه قوله- تعالى- وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ «1» .
وقد ذكر المفسرون في المراد بالمعارج وجوها منها: أن المراد بها السموات، فعن ابن عباس أنه قال أى: ذي السموات، وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها.
ومنها: أن المراد بها: النعم والمنن. فعن قتادة أنه قال: ذي المعارج، أى: ذي الفواضل والنعم. وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.
ومنها: أن المراد بها الدرجات التي يعطيها لأوليائه في الجنة.
وفي وصفه- سبحانه- ذاته ب ذِي الْمَعارِجِ: استحضار لصورة عظمة جلاله، وإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هذا العذاب الواقع على الكافرين. بجملة من الصفات، لتكون ردا فيه ما فيه من التهديد والوعيد للجاحدين، الذين استهزءوا به وأنكروه.
والمراد بالروح في قوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ: جبريل- عليه السلام- وأفرد بالذكر لتمييزه وفضله، فهو من باب عطف الخاص على العام.
والضمير في «إليه» يعود إلى الله- تعالى-.
أى: تصعد الملائكة وجبريل- عليه السلام- معهم، إليه- تعالى-.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 33.(15/93)
والسلف على أن هذا التعبير وأمثاله، من المتشابه الذي استأثر- سبحانه- بعلمه. مع تنزيهه- عز وجل- عن المكان والجسمية. ولوازم الحدوث، التي لا تليق بجلاله.
وقيل: «إليه» أى: إلى عرشه- تعالى- أو إلى محل بره وكرامته.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أى: عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد، خمسين ألف سنة.
وعن مجاهد: هذا اليوم هو مدة عمر الدنيا، من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي منها، خمسون ألف سنة.
وقال ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.
ثم قال القرطبي: «وهذا القول أحسن ما قيل في الآية- إن شاء الله- بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» ، فقلت: ما أطول هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده، إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا» .
وفي رواية عن ابن عباس- أيضا- أنه سئل عن هذه الآية فقال: أيام سماها الله- عز وجل-، وهو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم.
وقيل: ذكر خمسين ألف سنة تمثيل- لما يلقاه الناس في موقف الحساب من شدائد، والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر «1» .
وقال بعض العلماء: وقد ذكر- سبحانه- في سورة السجدة أنه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
وقال في سورة الحج: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وذكر هنا فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
والجمع بين هذه الآيات من وجهين: أولهما: ما جاء عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج، هو أحد الأيام الستة التي خلق الله- تعالى- فيها السموات والأرض.
ويوم الألف في سورة السجدة، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه- تعالى-.
ويوم الخمسين ألفا هنا: هو يوم القيامة.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 282.(15/94)
وثانيهما: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر.
ويدل لهذا الوجه قوله- تعالى-: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ «1» .
أى: أن يوم القيامة يتفاوت طوله بحسب اختلاف الشدة، فهو يعادل في حالة ألف سنة من سنى الدنيا، ويعادل في حالة أخرى خمسين ألف سنة.
وقوله- تعالى-: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً.. متفرع على قوله- سبحانه- سَأَلَ سائِلٌ لأن السؤال كان سؤال استهزاء، يضيق به الصدر، وتغتم له النفس.
والصبر الجميل: هو الصبر الذي لا شكوى معه لغير الله- عز وجل- ولا يخالطه شيء من الجزع، أو التبرم بقضاء الله وقدره.
أى: لقد سألوك- أيها الرسول الكريم- عن يوم القيامة، وعن العذاب الذي تهددهم به ... سؤال تهكم واستعجال.. فاصبر صبرا جميلا على غرورهم وجحودهم وجهالاتهم.
إنهم يرون هذا اليوم وما يصحبه من عذاب.. يرونه «بعيدا» من الإمكان أو من الوقوع، ولذلك كذبوا بما جئتهم به من عندنا، واستهزؤا بك.. ونحن نراه قريبا من الإمكان، بل هو كائن لا محالة في الوقت الذي تقتضيه حكمتنا ومشيئتنا.
ثم بين- سبحانه- جانبا من أهوال هذا اليوم فقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً.
ولفظ «يوم» متعلق بقوله: «قريبا» أو بمحذوف يدل عليه قوله: واقِعٍ أى: هو واقع هذا العذاب يوم تكون السماء في هيئتها ومظهرها «كالمهل» أى: تكون واهية مسترخية.. كالزيت الذي يتبقى في قعر الإناء.
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أى: كالصوف المصبوغ ألوانا، لاختلاف ألوان الجبال، فإن الجبال إذا فتتت وتمزقت في الجو، أشبهت الصوف المنفوش إذا طيرته الرياح، قيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا.
ووجه الشبه أن السماء في هذا اليوم تكون في انحلال أجزائها، كالشىء الباقي في قعر الإناء من الزيت، وتكون الجبال في تفرق أجزائها كالصوف المصبوغ الذي تطاير في الجو.
وفي هذا اليوم- أيضا- لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أى: لا يسأل صديق صديقه النصرة
__________
(1) تفسير أضواء البيان ج 6 ص 53 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.(15/95)
أو المعونة، ولا يسأل قريب قريبه المساعدة والمؤازرة.. لأن كل واحد منهما مشغول بهموم نفسه من شدة هول الموقف، كما قال- تعالى-: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.
والحميم: هو الصديق الوفي القريب من نفس صديقه.
وضمير الجمع في قوله- سبحانه- يُبَصَّرُونَهُمْ يعود إلى الحميمين، نظرا لعمومهما، لأنه ليس المقصود صديقين مخصوصين، وإنما المقصود كل صديق مع صديقه.
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، إجابة عن سؤال تقديره: ولماذا لا يسأل الصديق صديقه في هذا اليوم؟ ألأنه لا يراه؟ فكان الجواب: لا، إنه يراه ويشاهده، ويعرف كل قريب قريبه، وكل صديق صديقه في هذا اليوم.. ولكن كل واحد منهم مشغول بهمومه.
قال صاحب الكشاف: يُبَصَّرُونَهُمْ أى: يبصر الأحماء الأحماء، فلا يخفون عليهم، فلا يمنعهم من المساءلة أن بعضهم لا يبصر بعضا، وإنما يمنعهم التشاغل.
فإن قلت: ما موقع يبصرونهم؟ قلت: هو كلام مستأنف، كأنه لمّا قال: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قيل: لعله لا يبصره، فقيل في الجواب: يبصرونهم، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم.
فإن قلت: لم جمع الضميرين في يُبَصَّرُونَهُمْ وهي للحميمين؟ قلت: المعنى على العموم لكل حميمين، لا لحميمين اثنين «1» .
ثم بين- سبحانه- حالة المجرمين في هذا اليوم فقال: يوم المجرم أى: يحب المجرم في هذا اليوم ويتمنى.
لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ أى: يتمنى ويحب لو يفتدى نفسه من عذاب هذا اليوم بأقرب الناس إليه، وألصقهم بنفسه.. وهم بنوه وأولاده.
ويود- أيضا- لو يفتدى نفسه ب صاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ أى: بزوجته التي هي أحب الناس إليه، وبأخيه الذي يستعين به في النوائب.
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ أى: ويود كذلك أن ينقذ نفسه، من العذاب بأقرب الأقرباء إليه. وهم أهله وعشيرته التي ينتسب إليها، إذا الفصيلة هم الأقرباء الأدنون من القبيلة، والذين هو واحد منهم.
ومعنى تُؤْوِيهِ تضمه إليها، وتعتبره فردا منها، وتدافع عنه بكل وسيلة.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 609.(15/96)
وقوله: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ داخل في إطار ما يتمناه ويوده.
أى: يود هذا المجرم أن يفتدى نفسه من عذاب هذا اليوم، بأولاده، ويصاحبته، وبأخيه، وبعشيرته التي هو فرد منها، وبأهل الأرض جميعا من الجن والإنس.
ثم يتمنى- أيضا- أن يقبل منه هذا الافتداء، لكي ينجو بنفسه من هذا العذاب.
فقوله ثُمَّ يُنْجِيهِ معطوف على قوله يَفْتَدِي، أى: يود لو يفتدى ثم لو ينجيه الافتداء. وكان العطف بثم، للإشعار باستبعاد هذا الافتداء، وأنه عسير المنال.
وقوله: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ معطوف على بِبَنِيهِ أى: ويفتدى نفسه بجميع أهل الأرض.
وهكذا نرى الآيات الكريمة تحكى لنا بهذا الأسلوب المؤثر، حالة المجرم في هذا اليوم، وأنه يتمنى أن يفتدى نفسه مما حل به من عذاب، بأقرب وأحب الناس إليه، بل بأهل الأرض جميعا.. ولكن هيهات أن يقبل منه شيء من ذلك.
ولذا جاء الرد الزاجر له عما تمناه في قوله- تعالى- كَلَّا إِنَّها لَظى وكلا حرف ردع وزجر، وإبطال لكلام سابق، وهو هنا ما كان يتمناه ويحبه.. من أن يفتدى نفسه ببنيه، وبصاحبته وأخيه.. إلخ.
و «لظى» علم لجهنم، أو لطبقة من طبقاتها. واللظى: اللهب الخالص، والضمير للنار المدلول عنها بذكر العذاب.
أى: كلا- أيها المجرم- ليس الأمر كما وددت وتمنيت.. وإنما الذي في انتظارك، هو النار التي هي أشد ما تكون اشتعالا.
والتي من صفاتها كونها نَزَّاعَةً لِلشَّوى.. أى: قلاعة لجلدة الرأس وأطراف البدن، كاليد والرجل، ثم تعود هذه الجلدة والأطراف كما كانت.
فقوله: نَزَّاعَةً صيغة مبالغة من النزع بمعنى القلع والفصل. والشوى: جمع شواة- بفتح الشين-، وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا، مثل اليد والرجل. والجمع باعتبار ما لكل أحد من جوارح وأطراف. يقال: فلان رمى فأشوى، إذا لم يصب مقتلا ممن رماه.
وقيل: الشواة: جلدة الرأس. والجمع باعتبار كثرة الناس.
وهذه النار الملتهبة من صفاتها- أيضا- أنها تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى أى: تدعو لدخولها والاصطلاء بحرها، من أدبر وأعرض وتولى عن الحق والرشد، ونأى بجانبه عن طريق الهدى والاستقامة.(15/97)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
قال ابن كثير: هذه النار تدعو إليها أبناءها الذين خلقهم الله- تعالى- لها وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طلق ذلق- أى: فصيح بليغ- ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر، كما يلتقط الطير الحب، وذلك أنهم كانوا كما قال- سبحانه- ممن أدبر وتولى. أى: ممن كذب بقلبه، وترك العمل بجوارحه «1» .
وَجَمَعَ فَأَوْعى أى جمع المال بعضه على بعض فأوعاه، أى: فأمسكه في وعائه وكنزه ومنع حق الله- تعالى- فيه، وبخل به على مستحقيه. فقوله فَأَوْعى أى: فجعله في وعاء. وفي الحديث الشريف، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا توعى- أى لا تجمع مالك في الوعاء على سبيل الكنز- فيوعى الله عليك» - أى: فيمنع الله- تعالى- فضله عنك، كما منعت وقترت.
وفي قوله- سبحانه- وَجَمَعَ إشارة إلى الحرص والطمع، وفي قوله فَأَوْعى إشارة إلى بخله وطول أمله.
قال قتادة: جَمَعَ فَأَوْعى: كان جموعا للخبيث من المال.
وبعد هذا البيان المؤثر الحكيم عن طبائع المجرمين، وعن أهوال يوم الدين، وعن سوء عاقبة المكذبين.. اتجهت السورة الكريمة إلى الحديث عن سجايا النفوس البشرية في حالتي الخير والشر، والغنى والفقر، والشكر والجحود.. واستثنت من تلك السجايا نفوس المؤمنين الصادقين، فقال- تعالى-.
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 252.(15/98)
والمراد بالإنسان في قوله- تعالى-: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً جنسه لا فرد معين منه، كما في قوله- تعالى-:
وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. وكما في قوله- سبحانه-: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ.
ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا، لأن معظم الصفات التي استثنيت بعد ذلك من صفات المؤمنين الصادقين، وعلى رأسها قوله- سبحانه-: إِلَّا الْمُصَلِّينَ.
وقوله: هَلُوعاً صيغة مبالغة من الهلع، وهو إفراط النفس، وخروجها عن التوسط والاعتدال، عند ما ينزل بها ما يضرها، أو عند ما تنال ما يسرها.
والمراد بالشر: ما يشمل الفقر والمرض وغيرهما مما يتأذى به الإنسان.
والمراد بالخير: ما يشمل الغنى والصحة وغير ذلك مما يحبه الإنسان، وتميل إليه نفسه.
والجزوع: هو الكثير الجزع. أى: الخوف. والمنوع: هو الكثير المنع لنعم الله- تعالى- وعدم إعطاء شيء منها للمحتاجين إليها.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً الهلع: سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير، من قولهم: ناقة هلوع، أى: سريعة السير.
وسئل ابن عباس عن الهلوع فقال: هو كما قال الله- تعالى-: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً.
ولا تفسير أبين من تفسيره- سبحانه-.(15/99)
والإنسان: المراد به الجنس، أو الكافر.. وأل في الشر والخير للجنس- أيضا «1» .
والتعبير بقوله: خُلِقَ هَلُوعاً يشير إلى أن جنس الإنسان- إلا من عصم الله- مفطور ومطبوع، على أنه إذا أصابه الشر جزع، وإذا مسه الخير بخل.. وأن هاتين الصفتين ليستا من الصفات التي يحبها الله- تعالى- بدليل أنه- سبحانه- قد استثنى المصلين وغيرهم من التلبس بهاتين الصفتين.
وبدليل أن من صفات المؤمن الصادق أن يكون شكورا عند الرخاء صبورا عند الضراء.
وفي الحديث الشريف، يقول صلى الله عليه وسلم: «شر ما في الرجل: شح هالع، وجبن خالع» وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» .
قال الجمل: وقوله: جَزُوعاً ومَنُوعاً فيهما ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما منصوبان على الحال من الضمير في هَلُوعاً، وهو العامل فيهما. والتقدير: هلوعا حال كونه جزوعا وقت مس الشر، ومنوعا وقت مس الخير: الثاني: أنهما خبران لكان أو صار مضمرة. أى: إذا مسه الشر كان أو صار جزوعا، وإذا مسه الخير كان أو صار منوعا.
الثالث: أنهما نعتان لقوله: «هلوعا» «2» .
ثم وصف- سبحانه- من استثناهم من الإنسان الهلوع، بجملة من الصفات الكريمة، فقال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ.
أى: إن الناس جميعا قد جبلوا على الجزع عند الضراء، وعلى المنع عند السراء.. إلا المصلين منهم، الذين يواظبون على أدائها مواظبة تامة، دون أن يشغلهم عن أدائها: عسر أو يسر، أو غنى أو فقر، أو إقامة أو سفر.
فهم ممن قال- سبحانه- في شأنهم: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ، يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ.
وقال- سبحانه-: عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ للإشارة إلى أنهم لا يشغلهم عنها شاغل، إذ الدوام على الشيء عدم تركه.
وفي إضافة «الصلاة» إلى ضمير «المصلين» تنويه بشأنهم، وإشعار باختصاصها بهم، إذ هم أصحابها الملازمون لها.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 61.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 406.(15/100)
ثم وصفهم- سبحانه- بصفة ثانية فقال: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.
والمراد بالحق المعلوم: ما أوجبوه على أنفسهم من دفع جزء من أموالهم للمحتاجين، على سبيل التقرب إلى الله- تعالى- وشكره على نعمه، ويدخل في هذا الحق المعلوم دخولا أوليا ما فرضه- سبحانه- عليهم من زكاة أموالهم.
قالوا: ولا يمنع ذلك من أن تكون السورة مكية، فقد يكون أصل مشروعية الزكاة بمكة، ثم أتى تفصيل أحكامها بالمدينة، عن طريق السنة النبوية المطهرة.
والسائل: هو الذي يسأل غيره الصدقة، والمحروم: هو الذي لا يسأل غيره تعففا، وإن كان في حاجة إلى العون والمساعدة.
أى: ومن الذين استثناهم- سبحانه- من صفة الهلع: أولئك المؤمنون الصادقون الذين جعلوا في أموالهم حقا معينا، يخرجونه عن إخلاص وطيب خاطر، لمن يستحقونه من السائلين والمحرومين.. على سبيل الشكر لخالقهم على ما أنعم عليهم من نعم.
ووصف- سبحانه- ما يعطونه من أموالهم بأنه حَقٌّ للاشارة إلى أنهم- لصفاء أنفسهم- قد جعلوا السائل والمحروم، كأنه شريك لهم في أموالهم، وكأن ما يعطونه له إنما هو بمثابة الحق الثابت عندهم له.
ثم وصفهم- سبحانه- بصفات كريمة أخرى فقال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ والتصديق بيوم الدين معناه: الإيمان الجازم باليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء.
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أى: أن من صفاتهم: أنهم مع قوة إيمانهم، وكثرة أعمالهم الصالحة، لا يجزمون بنجاتهم من عذاب الله- تعالى- وإنما دائما أحوالهم مبنية على الخوف والرجاء، إذ الإشفاق توقع حصول المكروه وأخذ الحذر منه.
وجملة إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ تعليلية، ومقررة لمضمون ما قبلها، أى: إنهم مشفقون من عذاب ربهم.. لأن العاقل لا يأمن عذابه- عز وجل- مهما أتى من طاعات، وقدم من أعمال صالحة.
وشبيه بهذه الآية قوله- سبحانه- وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ «1» .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 60.(15/101)
ثم قال- تعالى-: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ.
أى: أن من صفاتهم- أيضا- أنهم أعفاء، ممسكون لشهواتهم، لا يستعملونها إلا مع زوجاتهم اللائي أحلهن- سبحانه- لهم أو مع ما ملكت أيمانهم من الإماء والسراري.
وجملة فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تعليل للاستثناء. أى: هم حافظون لفروجهم، فلا يستعملون شهواتهم إلا مع أزواجهم. أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير مؤاخذين على ذلك، لأن معاشرة الأزواج وما ملكت الأيمان مما أحله الله- تعالى-.
وقوله: فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أى: فمن طلب خلاف ذلك الذي أحله- سبحانه-. فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أى: فأولئك هم المعتدون المتجاوزون حدود خالقهم، الوالغون في الحرام الذي نهى الله- تعالى- عنه.
يقال: عدا فلان الشيء يعدوه عدوا، إذا جاوزه وتركه. أى: أنهم تجاوزوا الحلال وتركوه خلف ظهورهم، واتجهوا ناحية الحرام فولغوا فيه.
قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين إذا مسهم الشر لا يجزعون، وإذا مسهم الخير لا يمنعون.. أنهم لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها، ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعاهدون غيرهم عليها، وإنما هم يراعون ذلك ويحفظونه حفظا تاما.
فقوله راعُونَ جمع راع، وهو الذي يرعى الحقوق والأمانات والعهود ويحفظها ويحرسها، كما يحرس الراعي غنمه وإبله حراسة تامة.
وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أى: والذين هم من صفاتهم أنهم يؤدون الشهادة على وجهها الحق، فلا يشهدون بالزور أو الباطل، ولا يكتمون الشهادة إذا طلب منهم أن يؤدوها، عملا بقوله- تعالى- وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.
فالشهادات: جمع شهادة. والمراد بالقيام بها: أداؤها على أتم وجه وأكمله وأعدله، إذ القيام بها يشمل الاهتمام بشأنها، وحفظها إلى أن يؤديها صاحبها على الوجه الذي يحبه- سبحانه-.
وكما افتتح- سبحانه- هذه الصفات الكريمة بمدح الذين هم على صلاتهم دائمون، فقد(15/102)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
ختمها بمدح الذين يحافظون عليها فقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أى: يؤدونها كاملة غير منقوصة. لا في خشوعها، ولا في القراءة فيها، ولا في شيء من أركانها وسننها.
وهذا الافتتاح والختام، يدل على شرفها وعلو قدرها، واهتمام الشارع بشأنها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قال: عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ثم عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ؟. قلت: معنى دوامهم عليها، أن يواظبوا على أدائها، لا يخلون بها، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل.
ومحافظتهم عليها: أن يراعوا إسباغ الوضوء لها، ومواقيتها، وسننها، وآدابها.. فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة، والمحافظة تعود إلى أحوالها «1» .
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين حماهم- سبحانه- من صفة الهلع.. وصفهم بثماني صفات كريمة، منها: المداومة على الصلاة، والمحافظة على الإنفاق في وجوه الخير، والتصديق بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب، والحفظ لفروجهم، وأداء الأمانات والشهادات.
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهم من عطاء جزيل فقال: أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ أى: أولئك المتصفون بذلك في جنات عظيمة، يستقبلون فيها بالتعظيم والحفاوة.. حيث تقول لهم الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
وبعد هذه الصورة المشرقة لهؤلاء المكرمين.. أخذت السورة في تصوير موقف المشركين من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الحق، وفي تسليته عما لحقه منهم من أذى، وفي بيان أحوالهم السيئة عند ما يعرضون للحساب.. فقال- تعالى-.
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 612.(15/103)
والاستفهام في قوله- تعالى-: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ للتعجيب من حال هؤلاء الذين كفروا، ومن تصرفاتهم التي تدل على منتهى الغفلة والجهل. و «ما» مبتدأ. و «الذين كفروا» خبره.
وقوله مُهْطِعِينَ من الإهطاع، وهو السير بسرعة، مع مد العنق، واتجاه البصر نحو شيء معين.
وعِزِينَ جمع عزة- كفئة- وهي الجماعة. وأصلها عزوة- بكسر العين- من العزو، لأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى، فلامها واو، وقيل: لامها هاء، والأصل عزهة.
قال القرطبي: والعزين: جماعات متفرقة. ومنه الحديث الذي خرجه مسلم وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فرآهم حلقا فقال: مالي أراكم عزين: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف «1» .
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات، أن المشركين كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون إليه، ثم يكذبونه ويستهزئون به وبالمؤمنين، ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنها قبلهم، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم «2» .
والمعنى: ما بال هؤلاء الكافرين مسرعين نحوك- أيها الرسول الكريم- وناظرين إليك بعيون لا تكاد تفارقك، وملتفين من حولك عن يمينك وعن شمالك، جماعات متعددة، ومظهرين التهكم والاستهزاء بك وبأصحابك؟
ما بالهم يفعلون ذلك مع علمهم في قرارة أنفسهم بأنك أنت الصادق الأمين»
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 293. [.....]
(2) تفسير الآلوسى ج 29 ص 64.(15/104)
وقدم- سبحانه- الظرف قِبَلَكَ الذي بمعنى جهتك، على قوله مُهْطِعِينَ للاهتمام، حيث إن مقصدهم الأساسى من الإسراع هو الاتجاه نحو النبي صلى الله عليه وسلم للاستهزاء به وبأصحابه.
والمراد بقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ: جميع الجهات، إلا أنه عبر بهاتين الجهتين، لأنهما الجهتان اللتان يغلب الجلوس فيهما حول الشخص.
وقوله: عِزِينَ تصوير بديع لالتفافهم من حوله جماعات متفرقة في مشاربها، وفي مآربها، وفي طباعها.
والاستفهام في قوله- تعالى- أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ للنفي والإنكار.
أى: أيطمع كل واحد من هؤلاء الكافرين أن يدخل الجنة التي هي محل نعيمنا وكرامتنا بدون إيمان صادق، وبدون عمل نافع..؟
وقوله- سبحانه- كَلَّا ردع لهم وزجر عن هذا الطمع، أى: كلا ليس الأمر كما يزعمون من أنهم سيدخلون الجنة قبل المؤمنين أو معهم أو بعدهم.. وإنما هم سيكون مأواهم جهنم وبئس المصير.
وقال- سبحانه-: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ولم يقل: أيطمعون أن يدخلوا الجنة، للإشعار بأن كل واحد من هؤلاء الكافرين كان طامعا في دخولها، لاستيلاء الغرور والجهالة على قلبه.
وجملة إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ تأكيد لهذا الردع والزجر، وتهوين من شأنهم، وإبطال لغرورهم، وتنكيس لخيلائهم بأسلوب بديع مهذب.. لأنه مما لا شك فيه أنهم يعلمون أنهم قد خلقوا من ماء مهين، ومن كان كذلك فلا يليق به- متى كان عاقلا- أن يغتر أو يتطاول.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: ويجوز أن يراد بقوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أى: من النطفة المذرة، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه. ولذلك أبهم وأخفى:
إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم، ويقولون:
لندخلن الجنة قبلهم.
وقيل: معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بنى آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة، إلا بالإيمان والعمل الصالح، فكيف يطمع في دخولها من ليس له إيمان وعمل «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 614.(15/105)
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته، وعلى زيادة التهوين من شأن هؤلاء الكافرين، والتحقير من أمرهم فقال: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ.
وجمع- سبحانه- هنا المشارق والمغارب، باعتبار أن لها في كل يوم من أيام السنة مشرقا معينا تشرق منه، ومغربا معينا تغرب فيه.
وقال في سورة الرحمن رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أى: مشرق ومغرب الشتاء والصيف.
وقال في سورة المزمل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ والمراد بهما هنا: جنسهما، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس، وعلى كل مغرب من مغاربها.
وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجيء هذه الألفاظ تارة مفردة، وتارة بصيغة المثنى، وتارة بصيغة الجمع.
وجملة إِنَّا لَقادِرُونَ: جواب القسم. أى: أقسم بالله- تعالى- الذي هو رب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها.. إنا لقادرون قدرة تامة عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أى: على أن نخلق خلقا آخر خيرا منهم ونهلك هؤلاء المجرمين إهلاكا تاما.. أو على أن نبدل ذواتهم، فنخلقهم خلقا جديدا يكون خيرا من خلقهم الذي هم عليه.. فإن قدرتنا لا يعجزها شيء.
وقوله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ معطوف على جواب القسم ومؤكد له. أى: إنا لقادرون على ذلك، وما نحن بمغلوبين أو عاجزين عن أن نأتى بقوم آخرين خير منهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ «1» .
وقوله- سبحانه-:.. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «2» ، والمقصود بهذه الآيات الكريمة تهديد المشركين وبيان أن قدرته- تعالى- لا يعجزها شيء.
والفاء في قوله: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا.. للتفريع على ما تقدم. والخوض يطلق على السير في الماء، والمراد به هنا: الكلام الكثير الذي لا نفع فيه.
واللعب: اشتغال الإنسان بشيء لا فائدة من ورائه. والمراد به هنا: استهزاؤهم بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة فاطر الآيات 15- 17.
(2) سورة محمد الآية 38.(15/106)
أى: ما دام الأمر كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- فاترك هؤلاء الكافرين، ليخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، ولا تلتفت إليهم.
ودعهم في هزلهم ولهوهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وهو يوم القيامة الذي لا شك في إتيانه ووقوعه.
وقوله يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً بدل من يَوْمَهُمُ. والأجداث جمع جدث- بفتح الجيم والدال- وهو القبر. أى: اتركهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم المحتوم. وهو اليوم الذي يخرجون فيه من قبورهم مسرعين إلى الداعي.
كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ والنصب- بضمتين- حجارة كانوا يعظمونها. وقيل:
هي الأصنام، وسميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ويقيمونها للعبادة.
يُوفِضُونَ أى: يسرعون. يقال: وفض فلان يفض وفضا- كوعد- إذا أسرع في سيره. أى: يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي، مستبقين إليه، كما كانوا في الدنيا يسرعون نحو أصنامهم وآلهتهم لكي يستلموها، ويلتمسوا منها الشفاعة.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أى: يخرجون من قبورهم، حالة كونهم ذليلة خاضعة أبصارهم، لا يرفعونها لما هم فيه من الخزي والهوان.
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أى: تغشاهم ذلة شديدة، وهوان عظيم. يقال: رهقه الأمر يرهقه رهقا، إذا غشيه بقهر وغلبة لا يمكن له دفعها.
ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أى: ذلك الذي ذكرناه من الأهوال، هو اليوم الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل، والذي كانوا ينكرون وقوعه، وها هو ذا في حكم الواقع، لأن كل ما أخبر الله- تعالى- عنه، فهو متحقق الوقوع. كما قال- سبحانه- في أول السورة: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.
وهكذا افتتحت السورة بإثبات أن يوم القيامة حق، واختتمت كذلك بإثبات أن يوم القيامة حق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(15/107)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة نوح
مقدمة وتمهيد
1- سورة «نوح» - عليه السلام- من السور المكية الخالصة، وسميت بهذا الاسم لاشتمالها على دعوته- عليه السلام- وعلى مجادلته لقومه، وعلى موقفهم منه، وعلى دعائه عليهم.
وكان نزولها بعد سورة «النحل» وقبل سورة «إبراهيم» .
وعدد آياتها ثمان وعشرون آية في المصحف الكوفي. وتسع وعشرون في المصحف البصري والشامي، وثلاثون آية في المصحف المكي والمدني.
2- وهذه السورة الكريمة من أولها إلى آخرها، تحكى لنا ما قاله نوح لقومه، وما ردوا به عليه، كما تحكى تضرعه إلى ربه- عز وجل- وما سلكه مع قومه في دعوته لهم إلى الحق، تارة عن طريق الترغيب وتارة عن طريق الترهيب، وتارة عن طريق دعوتهم إلى التأمل والتفكر في نعم الله- تعالى- عليهم، وتارة عن طريق تذكيرهم بخلقهم.
كما تحكى أنه- عليه السلام- بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما- دعا الله- تعالى- أن يستأصل شأفتهم. فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً.(15/109)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
التفسير قد افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بقوله- تعالى-:
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
وقصة نوح- عليه السلام- مع قومه، قد وردت في سور متعددة منها: سورة الأعراف، ويونس، وهود، والشعراء، والعنكبوت.
وينتهى نسب نوح- عليه السلام- إلى شيث بن آدم، وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا.
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام، فأرسل الله- تعالى- إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.
وقد افتتحت السورة هنا بالأسلوب المؤكد بإنّ، للاهتمام بالخبر، وللاتعاظ بما اشتملت عليه القصة من هدايات وإرشادات.
وأن في قوله أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ تفسيرية، لأنها وقعت بعد أرسلنا، والإرسال فيه معنى القول دون حروفه، فالجملة لا محل لها من الإعراب.
ويصح أن تكون مصدرية، أى: بأن أنذر قومك ... والإنذار، هو الإخبار الذي معه تخويف.
وقوم الرجل: هم أهله وخاصته الذين يجتمعون معه في جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب. فيسميهم قومه على سبيل المجاز للمجاورة.(15/110)
أى: إنا قد اقتضت حكمتنا أن نرسل نوحا- عليه السلام- إلى قومه، وقلنا له:
يا نوح عليك أن تنذرهم وتخوفهم من عذابنا، وأن تدعوهم إلى إخلاص العبادة لنا، من قبل أن ينزل بهم عذاب مؤلم، لا طاقة لهم بدفعه، لأن هذا العذاب من الله- تعالى- الذي لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
وقال- سبحانه- أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ولم يقل: أن أنذر الناس، لإثارة حماسته في دعوته، لأن قوم الرجل يحرص الإنسان على منفعتهم.. أكثر من حرصه على منفعة غيرهم.
والآية الكريمة صريحة في أن ما أصاب قوم نوح من عذاب أليم، كان بسبب إصرارهم على كفرهم، وعدم استماعهم إلى إنذاره لهم.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما قاله نوح لقومه فقال: قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ.
اى: قال نوح لقومه- على سبيل التلطف في النصح، والتقرب إلى قلوبهم- يا قوم ويا أهلى وعشيرتي: إنى لكم منذر واضح الإنذار، ولا أسألكم على هذا الإنذار الخالص أجرا، وإنما ألتمس أجرى من الله.
وإنى آمركم بثلاثة أشياء: أن تخلصوا لله- تعالى- العبادة، وأن تتقوه في كل أقوالكم وأفعالكم، وأن تطيعوني في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه.
وافتتح كلامه معهم بالنداء يا قَوْمِ، أملا في لفت أنظارهم إليه، واستجابتهم له، فإن النداء من شأنه التنبيه للمنادى.
ووصف إنذاره لهم بأنه مُبِينٌ، ليشعرهم بأنه لا لبس في دعوته لهم إلى الحق، ولا خفاء في كونهم يعرفونه، ويعرفون حرصه على منفعتهم ...
وقال: إِنِّي لَكُمْ للإشارة الى أن فائدة استجابتهم له، تعود عليهم لا عليه، فهو مرسل من أجل سعادتهم وخيرهم.
وأمرهم بطاعته، بعد أمرهم بعبادة الله وتقواه، لأن طاعتهم له هي طاعة لله- تعالى- كما قال- تعالى-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.
ثم بين لهم ما يترتب على إخلاص عبادتهم لله، وخشيتهم منه- سبحانه-، وطاعتهم لنبيهم فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.
وقوله: يَغْفِرْ مجزوم في جواب الأوامر الثلاثة، ومِنْ للتبعيض أى: يغفر لكم بعض ذنوبكم، وهي تلك التي اقترفوها قبل إيمانهم وطاعتهم لنبيهم، أو الذنوب التي(15/111)
تتعلق بحقوق الله- تعالى- دون حقوق العباد.
ويرى بعضهم أن «من» هنا زائدة لتوكيد هذه المغفرة. أى: يغفر لكم جميع ذنوبكم التي فرطت منكم، متى آمنتم واتقيتم ربكم، وأطعتم نبيكم.
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى: ويؤخر آجالكم إلى وقت معين عنده- سبحانه-، ويبارك لكم فيها، بأن يجعلها عامرة بالعمل الصالح، وبالحياة الآمنة الطيبة.
فأنت ترى أن نوحا- عليه السلام- قد وعدهم بالخير الأخروى وهو مغفرة الذنوب يوم القيامة، وبالخير الدنيوي وهو البركة في أعمارهم. وطول البقاء في هناء وسلام.
قال ابن كثير: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى: ويمد في أعماركم، ويدرأ عنكم العذاب، الذي إذا لم تنزجروا عما أنهاكم عنه: أوقعه- سبحانه- بكم.
وقد يستدل بهذه الآية من يقول: إن الطاعة والبر وصلة الرحم. يزاد بها في العمر حقيقة، كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد في العمر» «1» .
وقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بمنزلة التعليل لما قبله. أى:
يغفر لكم- سبحانه- من ذنوبكم، ويؤخركم إلى أجل معين عنده- تعالى- إن الوقت الذي حدده الله- عز وجل- لانتهاء أعماركم، متى حضر، لا يؤخر عن موعده، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم لنصائحى، وامتثلتم أمرى، وبذلك تنجون من العقاب الدنيوي والأخروى.
قال الآلوسى: قوله لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. أى: لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به. لكنكم لستم من أهله في شيء، لذا لم تسارعوا، فجواب لو مما يتعلق بأول الكلام.
ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره. أى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك، أى: عدم تأخير الأجل إذا جاء وقته المقدر له. والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم.. «2» .
ثم قصت علينا الآيات الكريمة بعد ذلك، ما قاله نوح لربه. على سبيل الشكوى والضراعة، وما وجهه إلى قومه من نصائح فيها ما فيها من الترغيب والترهيب، ومن الإرشاد الحكيم، والتوجيه السديد.. قال- تعالى-:
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 258.
(2) تفسير الآلوسى ج 29 ص 71.(15/112)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 20]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
وقوله- تعالى-: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً. بيان للطرق والمسالك التي سلكها نوح مع قومه، وهو يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- بحرص شديد ومواظبة تامة.. وموقف قومه من دعوته لهم.
والمقصود بهذا الخبر لازم معناه، وهو الشكاية إلى ربه، والتمهيد لطلب النصر منه- تعالى- عليهم، لأنه- سبحانه- لا يخفى عليه أن نوحا- عليه السلام- لم يقصر في تبليغ رسالته.
أى: قال نوح متضرعا إلى ربه: يا رب إنك تعلم أننى لم أقصر في دعوة قومي إلى عبادتك، تارة بالليل وتارة بالنهار، من غير فتور ولا توان.(15/113)
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي لهم إلى عبادتك وطاعتك إِلَّا فِراراً أى: إلا تباعدا من الإيمان وإعراضا عنه. والفرار: الزّوغان والهرب. يقال: فر فلان يفر فرارا، فهو فرور، إذا هرب من طالبه، وزاغ عن عينه.
والتعبير بقوله: دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، يشعر بحرص نوح التام على دعوتهم، في كل وقت يظن فيه أن دعوته لهم قد تنفع.
كما أن التعبير بقوله: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً يدل دلالة واضحة على إعراضهم التام عن دعوته، أى: فلم يزدهم دعائي شيئا من الهدى، وإنما زادهم بعدا عنى، وفرارا منى.
وإسناد الزيادة إلى الدعاء، من باب الإسناد إلى السبب، كما في قولهم: سرتنى رؤيتك.
وقوله فِراراً مفعول ثان لقوله فَلَمْ يَزِدْهُمْ والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال والمستثنى منه مقدر، أى: فلم يزدهم دعائي شيئا من أحوالهم التي كانوا عليها إلا الفرار.
ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا. أى: فلم يزدهم دعائي قربا من الحق، لكن زادهم فرارا منه.
ثم أضاف إلى فرارهم منه، حالة أخرى. تدل على إعراضهم عنه، وعلى كراهيتهم له، فقال: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً.
وقوله: كُلَّما معمول لجملة: جَعَلُوا التي هي خبر إن، واللام في قوله لِتَغْفِرَ لَهُمْ للتعليل.
والمراد بأصابعهم: جزء منها. واستغشاء الثياب معناه: جعلها غشاء، أى: غطاء لرءوسهم ولأعينهم حتى لا ينظروا إليه، ومتعلق الفعل «دعوتهم» محذوف لدلالة ما تقدم عليه، وهو أمرهم بعبادة الله وتقواه.
والمعنى: وإنى- يا مولاي- كلما دعوتهم الى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به، لكي تغفر لهم ذنوبهم.. ما كان منهم إلا أن جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قولي، وإلا أن وضعوا ثيابهم على رءوسهم. وأبصارهم حتى لا يرونى، وإلا أن أَصَرُّوا إصرارا تاما على كفرهم وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً عظيما عن قبول الحق.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد صورت عناد قوم نوح، وجحودهم للحق، تصويرا بلغ الغاية في استحبابهم العمى على الهدى.(15/114)
فهي- أولا- جاءت بصيغة «كلما» الدالة على شمول كل دعوة وجهها إليهم نبيهم نوح- عليه السلام- أى: في كل وقت أدعوهم إلى الهدى يكون منهم الإعراض.
وهي- ثانيا- عبرت عن عدم استماعهم إليه بقوله- تعالى-: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ. وعبر عن الأنامل بالأصابع على سبيل المبالغة في إرادة سد المسامع، فكأنهم لو أمكنهم إدخال أصابعهم جميعها في آذانهم لفعلوا. حتى لا يسمعوا شيئا مما يقوله نبيهم لهم.
فإطلاق اسم الأصابع على الأنامل من باب المجاز المرسل، لعلاقة البعضية، حيث أطلق- سبحانه- الكل وأراد البعض، مبالغة في كراهيتهم لسماع كلمة الحق.
وهي- ثالثا- عبرت عن كراهيتهم لنبيهم ومرشدهم بقوله- تعالى-: وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أى: بالغوا في التّغطّى بها، حتى لكأنهم قد طلبوا منها أن تلفهم بداخلها حتى لا يتسنى لهم رؤيته إطلاقا.
وهذا كناية عن العداوة الشديدة، ومنه قول القائل: لبس لي فلان ثياب العداوة.
وهي- رابعا- قد بينت بأنهم لم يكتفوا بكل ذلك، بل أضافوا إليه الإصرار على الكفر- وهو التشديد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه مأخوذ من الصرّة بمعنى الشدة- والاستكبار العظيم عن الاستجابة للحق.
فقد أفادت هذه الآية، أنهم عصوا نوحا وخالفوه مخالفة ليس هناك ما هو أقبح منها ظاهرا، حيث عطلوا أسماعهم وأبصارهم، وليس هناك ما هو أقبح منها باطنا، حيث أصروا على كفرهم، واستكبروا على اتباع الحق.
ومع كل هذا الإعراض والعناد.. فقد حكت لنا الآيات بعد ذلك، أن نوحا- عليه السلام- قد واصل دعوته لهم بشتى الأساليب. فقال- كما حكى القرآن عنه-: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً.
وقوله: جِهاراً صفة لمصدر محذوف، أى: دعوتهم دعاء جهارا. أى: مجاهرا لهم بدعوتي، بحيث صارت دعوتي لهم أمامهم جميعا.
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ تارة وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً تارة أخرى.
أى: أنه- عليه السلام- توخى ما يظنه يؤدى إلى نجاح دعوته، وراعى أحوالهم في ذلك، فهو تارة يدعوهم جهرا، وتارة يدعوهم سرا، وتارة يجمع بين الأمرين.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا، ثم دعاهم جهارا، ثم(15/115)
دعاهم في السر والعلن، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف؟
قلت: قد فعل- عليه السلام- كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان.
ومعنى «ثم» : الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.. «1» .
ثم حكى- سبحانه- جانبا من إرشادات نوح لقومه فقال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.
أى: فقلت لهم- على سبيل النصح والإرشاد إلى ما ينفعهم ويغريهم بالطاعة- اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بأن تتوبوا إليه، وتقلعوا عن كفركم وفسوقكم إِنَّهُ- سبحانه- كانَ غَفَّاراً.
أى: كثير الغفران لمن تاب إليه وأناب.
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً والمراد بالسماء هنا: المطر لأنه ينزل منها، وقد جاء في الحديث الشريف أن من أسماء المطر السماء، فقد روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني أنه قال «صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل..» أى: على إثر أمطار نازلة بالليل.
ومنه قول بعض الشعرا:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والمدرار: المطر الغزير المتتابع، يقال: درت السماء بالمطر، إذا نزل منها بكثرة وتتابع، والدر، والدرور معناه: السيلان.. فقوله مِدْراراً صيغة مبالغة منهما.
أى: استغفروا ربكم وتوبوا إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك أرسل الله- تعالى- عليكم بفضله ورحمته، أمطارا غزيرة متتابعة، لتنتفعوا بها في مختلف شئون حياتكم.
وفضلا عن ذلك: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أى: بساتين عظيمة، وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً جارية تحت أشجار هذه الجنات، لتزداد جمالا ونفعا.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا، حبس الله عنهم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 616.(15/116)
المطر، وأعقم أرحام نسائهم.. فرجعوا إلى نوح، فقال لهم: استغفروا ربكم من الشرك، حتى يفتح عليكم أبواب نعمه.
واعلم أن الاشتغال بالطاعة، سبب لانفتاح أبواب الخيرات، ويدل عليه وجوه: أحدها:
أن الكفر سبب لخراب العالم. والإيمان سبب لعمارة العالم. وثانيها: الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى، ومنها قوله- تعالى- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.. وثالثها: أن عمر خرج يستسقى فما زاد على الاستغفار.
فقيل له: ما رأيتك استسقيت؟ فقال: لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء، والمجاديح: جمع مجدح- بكسر فسكون وهو نجم من النجوم المعروفة عند العرب.
وشكا رجل الى الحسن البصري الفاقة، وشكا إليه آخر الجدب، وشكا إليه ثالث قلة النسل.. فأمر الجميع بالاستغفار.. فقيل له: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم جميعا بالاستغفار؟ فتلا الحسن هذه الآيات الكريمة «1» .
وما قاله الإمام الرازي- رحمه الله-، يؤيده القرآن الكريم في كثير من آياته، ويؤيده واقع الحياة التي نحياها ونشاهد أحداثها.
أما آيات القرآن الكريم فمنها قوله- تعالى-: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «2» .
وقوله- سبحانه- على لسان هود- عليه السلام-: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ.. «3» .
وقال- عز وجل-: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «4» .
وأما واقع الحياة. فإننا نشاهد بأعيننا الأمم التي تطبق شريعة الله- تعالى- وتعمل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من آداب وأحكام وهدايات.
نرى هذه الأمم سعيدة في حياتها، آمنة في أوطانها، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، وإذا أصابها شيء من النقص في الأنفس أو الثمرات.. فذلك من باب الامتحان الذي يمتحن الله- تعالى- به عباده، والذي لا يتعارض مع كون العاقبة الطيبة إنما هي لهذه الأمم الصادقة في إيمانها.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 215.
(2) سورة الجن آية 16.
(3) سورة هود آية 52.
(4) سورة النحل آية 97.(15/117)
وما يجرى على الأمم والشعوب، يجرى أيضا على الأفراد والجماعات، فتلك سنة الله التي لا تتغير.
أما الأمم الفاسقة عن أمر ربها، فإنها مهما أوتيت من ثراء وبسطة في الرزق ... فإن حياتها دائما تكون متلبسة بالقلق النفسي، والشقاء القلبي، والاكتئاب الذي يؤدى إلى فساد الحال واضطراب البال.
وقوله- سبحانه- بعد ذلك حكاية عن نوح- عليه السلام-: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً: بيان لما سلكه نوح في دعوته لقومه، من جمعه بين الترغيب والترهيب.
فهو بعد أن أرشدهم إلى أن استغفارهم وطاعتهم لربهم، تؤدى بهم إلى البسطة في الرزق..
أتبع ذلك بزجرهم لسوء أدبهم مع الله- تعالى- منكرا عليهم استهتارهم واستخفافهم بما يدعوهم إليه.
وقوله: ما لَكُمْ مبتدأ وخبر، وهو استفهام قصد به توبيخهم والتعجيب من حالهم.
ولفظ «ترجون» يرى بعضهم أنه بمعنى تعتقدون. والوقار معناه: التعظيم والإجلال.
والأطوار: جمع طور، وهو المرة والتارة من الأفعال والأزمان.
أى: ما الذي حدث لكم- أيها القوم- حتى صرتم لا تعتقدون لله- تعالى- عظمة أو إجلالا، والحال أنه- سبحانه- هو الذي خلقكم وأوجدكم في أطوار متعددة، نطفة، فعلقة، فمضغة.
كما قال- سبحانه- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» .
وكما قال- تعالى- اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ «2» .
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً قيل:
الرجاء هنا بمعنى الخوف.
أى: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم بالعقوبة.
__________
(1) سورة المؤمنون الآيات 12- 14.
(2) سورة الروم الآية 54.(15/118)
وقيل: المعنى: مالكم لا تعلمون لله عظمة.. أولا ترون لله عظمة.. أو لا تبالون أن لله عظمة.. والوقار: العظمة، والتوقير: التعظيم.. «1» .
وبعد هذا الترغيب والترهيب والتوبيخ.. أخذ في لفت أنظارهم إلى عجائب صنع الله في خلقه، فقال: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً.
والاستفهام في قوله: أَلَمْ تَرَوْا.. للتقرير، والرؤية: بصرية وعلمية، لأنهم يشاهدون مخلوقات الله- تعالى- ويعلمون أنه- سبحانه- هو الخالق. وطِباقاً أى: متطابقة كل طبقة أعلى من التي تحتها.
أى: لقد علمتم ورأيتم أن الله- تعالى- هو الذي خلق سَبْعَ سَماواتٍ متطابقة، بعضها فوق بعض وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أى: وجعل- سبحانه- بقدرته القمر في السماء الدنيا نورا للأرض ومن فيها.
وإنما قال فِيهِنَّ مع أنه في السماء الدنيا، لأنها محاطة بسائر السموات فما فيها يكون كأنه في الكل. أو لأن كل واحدة منها شفافة، فيرى الكل كأنه سماء واحدة. فساغ أن يقال فيهن.
وقوله: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أى: كالسراج في إضاءتها وتوهجها وإزالة ظلمة الليل، إذ السراج هو المصباح الزاهر نوره، الذي يضيء ما حوله.
قال الآلوسى: قوله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أى: منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل، وجعله فيهن مع أنه في إحداهن- وهي السماء الدنيا-، كما يقال: زيد في بغداد وهو في بقعة منها. والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية، وكونها طباقا شفافة.
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يزيل الظلمة.. وتنوينه للتعظيم، وفي الكلام تشبيه بليغ، ولكون السراج أعرف وأقرب، جعل مشبها به، ولاعتبار التعدي إلى الغير في مفهومه بخلاف النور، كان أبلغ منه. «2» .
وقال بعض العلماء: وفي جعل القمر نورا، إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته. فإن القمر مظلم. وإنما يستضيء بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه، بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعض وتمام، هو أثر ظهوره هلالا.. ثم بدرا.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 303. [.....]
(2) تفسير الآلوسى ج 29 ص 75.(15/119)
وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجا، لأنها ملتهبة، وأنوارها ذاتية فيها، صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر، مثل أنوار السراج تملأ البيت.. «1» .
ثم انتقل نوح- عليه السلام- من تنبيههم إلى ما في خلق السموات والشمس والقمر من دلالة على وحدانية الله وقدرته.. إلى لفت أنظارهم إلى التأمل في خلق أنفسهم، وفي مبدئهم وإعادتهم إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم، فقال- كما حكى القرآن عنه-: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها، وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً.
والمراد بأنبتكم: أنشأكم وأوجدكم، فاستعير الإنبات للإنشاء للمشابهة بين إنبات النبات، وإنشاء الإنسان، من حيث إن كليهما تكوين وإيجاد للشيء بقدرته- تعالى-.
والمراد بأنبتكم: أنبت أصلكم وهو أبوكم آدم، فأنتم فروع عنه. ونَباتاً مصدر لأنبت على حذف الزوائد، فهو مفعول مطلق لأنبتكم، جيء به للتوكيد، ومصدره القياسي «إنباتا» ، واختير «نباتا» لأنه أخف.
قال الجمل: قوله: نباتا، يجوز أن يكون مصدرا لأنبت على حذف الزوائد. ويسمى اسم مصدر، ويجوز أن يكون مصدرا لنبتم مقدرا. أى: فنبتّم نباتا- فيكون منصوبا بالمطاوع المقدر. «2» .
أى: والله- تعالى- هو الذي أوجد وأنشأ أباكم آدم من الأرض إنشاء وجعلكم فروعا عنه، ثم يعيدكم إلى هذه الأرض بعد موتكم لتكون قبورا لكم، ثم يخرجكم منها يوم البعث للحساب والجزاء.
وعبر- سبحانه- عن الإنشاء بالإنبات، لأن هذا التعبير يشعر بأن الإنسان مخلوق محدث، وأنه مثل النبات يحصد ثم يعود إلى الحياة مرة أخرى.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: «استعير الإنبات للإنشاء كما يقال: زرعك الله للخير. وكانت هذه الاستعارة أدل دليل على الحدوث لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات» «3» .
ثم ختم نوح- عليه السلام- إرشاداته لقومه، بلفت أنظارهم إلى نعمة الأرض التي يعيشون عليها، فقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً.
__________
(1) راجع تفسير التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور ج 29 ص 204.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 412.
(3) تفسير الكشاف ج 4 ص 618.(15/120)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
أى: والله- تعالى- وحده هو الذي جعل لكم- بفضله ومنته- الأرض مبسوطة.
حيث تتقلبون عليها كما يتقلب النائم على البساط.
وجعلها لكم كذلك لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا أى: لكي تتخذوا منها لأنفسكم طرقا فِجاجاً أى: متسعة جمع فج وهو الطريق الواسع.
وقوله: بِساطاً تشبيه بليغ. أى: جعلها لكم كالبساط، وهذا لا يتنافى مع كون الأرض كروية، لأن الكرة إذا عظمت جدا، كانت القطعة منها كالسطح والبساط في إمكان الانتفاع بها، والتقلب على أرجائها.
وهكذا نرى أن نوحا- عليه السلام- قد سلك مع قومه مسالك متعددة لإقناعهم بصحة ما يدعوهم إليه، ولحملهم على طاعته، والإيمان بصدق رسالته.
لقد دعاهم بالليل والنهار، وفي السر وفي العلانية، وبين لهم أن طاعتهم لله- تعالى- تؤدى إلى إمدادهم بالأموال والأولاد، والجنات والأنهار ووبخهم على عدم خشيتهم من الله- تعالى- وذكرهم بأطوار خلقهم، ولفت أنظارهم إلى بديع صنعه- سبحانه- في خلق السموات والشمس والقمر، ونبههم إلى نشأتهم من الأرض، وعودتهم إليها، وإخراجهم منها للحساب والجزاء، وأرشدهم إلى نعم الله- تعالى- في جعل الأرض مبسوطة لهم.
وهكذا حاول نوح- عليه السلام- أن يصل إلى آذان قومه وإلى عقولهم وقلوبهم، بشتى الأساليب الحكيمة، والتوجيهات القويمة، في صبر طويل وإرشاد دائم.
ولكن قومه كانوا قد بلغوا الغاية في الغباء والجهالة والعناد والطغيان، لذا نرى السورة الكريمة تحكى عن نوح- عليه السلام- ضراعته إلى ربه، والتماسه منه- تعالى- استئصال شأفتهم، وقطع دابرهم، لنستمع في تدبر إلى قوله- تعالى-.
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 28]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)(15/121)
وقوله- سبحانه-: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا.. كلام مستأنف. لأن ما سبقه يستدعى سؤالا تقديره: ماذا كانت عاقبة قوم نوح بعد أن نصحهم ووعظهم بتلك الأساليب المتعددة؟ فكان الجواب: قالَ نُوحٌ- عليه السلام- بعد أن طال نصحه لقومه، وبعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وبعد أن يئس من إيمانهم وبعد أن أخبره- سبحانه- أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.
قالَ متضرعا إلى ربه رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أى: إن قومي قد عصوني وخالفوا أمرى، وكرهوا صحبتي، وأصروا واستكبروا استكبروا استكبارا عظيما عن دعوتي.
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أى: إنهم أصروا على معصيتي، ولم يكتفوا بذلك بل بجانب إعراضهم عنى، اتبعوا غيرى.. اتبعوا رؤساءهم أهل الأموال والأولاد الذين لم تزدهم النعم التي أنعمت بها عليهم إلا خسرانا وجحودا، وضلالا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة.
فالمراد بالذين لم يزدهم مالهم وولدهم إلا خسارا: أولئك الكبراء والزعماء الذين رزقهم الله المال والولد، ولكنهم استعملوا نعمه في معصيته لا في طاعته.
وقوله: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً صفة أخرى من صفاتهم الذميمة، وهو معطوف على صلة «من» والجمع باعتبار معناها، كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار اللفظ.
والمكر: هو التدبير في خفاء لإنزال السوء بالممكور به.
أى: أن هؤلاء الزعماء الذين استعملوا نعمك في الشر، لم يكتفوا بتحريض أتباعهم على معصيتي، بل مكروا بي وبالمؤمنين مكرا قد بلغ النهاية في الضخامة والعظم.
فقوله: كُبَّاراً مبالغة في الكبر والعظم. أى: مكرا كبيرا جدا لا تحيط بحجمه العبارة.
وكان من مظاهر مكرهم: تحريضهم لسفلتهم على إنزال الأذى بنوح- عليه السلام-(15/122)
وبأتباعه، وإيهامهم لهؤلاء السفلة أنهم على الحق، وأن نوحا ومن معه على الباطل.
وكان من مظاهر مكرهم- أيضا- ما حكاه القرآن بعد ذلك عنهم في قوله: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً.
أى: ومن مظاهر مكر هؤلاء الرؤساء أنهم قالوا لأتباعهم. احذروا أن تتركوا عبادة آلهتكم، التي وجدتم على عبادتها آباءكم، واحذروا أيضا أن تتركوا عبادة هذه الأصنام الخمسة بصفة خاصة، وهي: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. فقد روى البخاري عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما «ود» فكانت لقبيلة بنى كلب بدومة الجندل. وأما «سواع» فكانت لهذيل، وأما «يغوث» فكانت لبنى غطيف، وأما «يعوق» فكانت لهمدان، وأما «نسر» فكانت لحمير.
وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح- عليه السلام- فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا.
وقال ابن جرير: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر. فعبدوهم. «1» .
وقوله- تعالى-: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا معمول لقول مقدر، وهذا القول المقدر معطوف على أقوال نوح السابقة.
أى: قال نوح مناجيا ربه بعد أن يئس من إيمان قومه: يا رب، إن قومي قد عصوني، وإنهم قد اتبعوا رؤساءهم المغرورين، وإن هؤلاء الرؤساء قد مكروا بي وبأتباعى مكرا عظيما، ومن مظاهر مكرهم أنهم حرضوا السفهاء على العكوف على عبادة أصنامهم.. وأنهم قد أضلوا خلقا كثيرا بأن حببوهم في الكفر وكرهوا إليهم الإيمان.
وقال نوح- أيضا- وأسألك يا رب أن لا تزيد الكافرين إلا ضلالا على ضلالهم، فأنت الذي أخبرتنى بأنه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 262.(15/123)
وإذا فدعاء نوح- عليه السلام- عليهم بالازدياد من الضلال الذي هو ضد الهدى، إنما كان بعد أن يئس من إيمانهم، وبعد أن أخبره ربه أنهم لن يؤمنوا.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً الضمير للرؤساء، ومعناه: وقد أضلوا كثيرا قبل هؤلاء الذين أمروهم بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام.. ويجوز أن يكون الضمير للأصنام، كقوله- تعالى- إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ.
فإن قلت: علام عطف قوله: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا؟ قلت: على قوله رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح.. ومعناه: قال رب إنهم عصون، وقال: ولا تزد الظالمين إلا ضلالا.
فإن قلت: كيف جاز أن يريد لهم الضلال، ويدعو الله بزيادته؟ قلت: لتصميمهم على الكفر، ووقوع اليأس من إيمانهم.. ويجوز أن يريد بالضلال: الضياع والهلاك.. «1» .
وقوله- سبحانه-: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً كلام معترض بين ضراعات نوح إلى ربه. والمقصود به التعجيل ببيان سوء عاقبتهم، والتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه.
و «من» في قوله مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ للتعليل، و «ما» مزيدة لتأكيد هذا التعليل.
والخطيئات جمع خطيئة، والمراد بها هنا: الإشراك به- تعالى- وتكذيب نوح- عليه السلام- والسخرية منه ومن المؤمنين.
أى: بسبب خطيئاتهم الشنيعة، وليس بسبب آخر أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً يصلون سعيرها في قبورهم إلى يوم الدين، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
وهم عند ما نزل بهم الطوفان الذي أهلكهم، وعند ما ينزل بهم عذاب الله في الآخرة. لن يجدوا أحدا ينصرهم ويدفع عنهم عذابه- تعالى- لا من الأصنام التي تواصوا فيما بينهم بالعكوف على عبادتها، ولا من غير هذه الأصنام.
فالآية الكريمة تعريض بمشركي قريش، الذين كانوا يزعمون أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة، والذين حكى القرآن عنهم قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى.
والتعبير بالفاء في قوله: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً للإشعار بأن دخولهم النار كان في أعقاب غرقهم بدون مهلة، وبأن صراخهم وعويلهم كان بعد
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 620.(15/124)
نزول العذاب بهم مباشرة، إلا أنهم لم يجدوا أحدا، يدفع عنهم شيئا من هذا العذاب الأليم.
ثم واصلت السورة الكريمة حكاية ما ناجى نوح به ربه، فقالت: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً.
أى: وقال نوح متابعا حديثه مع ربه، ومناجاته له: يا رب، لا تترك على الأرض من هؤلاء الكافرين دَيَّاراً أى: واحدا يسكن دارا، أو واحدا منهم يدور في الأرض ويتحرك عليها، بل خذهم جميعا أخذ عزيز مقتدر.
فقوله دَيَّاراً مأخوذ من الدار، أو الدوران، وهو التحرك، والمقصود: لا تذر منهم أحدا أصلا، بل اقطع دابرهم جميعا.
قالوا: والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلا في النفي العام. يقال: ما بالدار ديار.
أى: ليس بها أحد ألبتة، وهو اسم بزنة فيعال.
وقوله إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ تعليل لدعائه عليهم جميعا بالهلاك. أى: يا رب لا تترك منهم أحدا سالما، بل أهلكهم جميعا لأنك إن تترك منهم أحدا على أرضك بدون إهلاك، فإن هؤلاء المتروكين من دأبهم- كما رأيت منهم زمانا طويلا- إضلال عبادك عن طريق الحق.
وقوله: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً زيادة في ذمهم وفي التشنيع عليهم.
والفاجر: هو المتصف بالفجور، والملازم له ملازمة شديدة، والفجور: هو الفعل البالغ للنهاية في الفساد والقبح.
والكفار: هو المبالغ في الكفر، والجحود لنعم الله- تعالى-.
أى: إنك يا إلهى إن تتركهم بدون إهلاك، يضلوا عبادك عن كل خير، وهم فوق ذلك، لن يلدوا إلا من هو مثلهم في الفجور والكفران لأنهم قد نشّأوا أولادهم على كراهية الحق، وعلى محبة الباطل.
قال الجمل: فإن قيل: كيف علم نوح أن أولادهم يكفرون؟ أجيب: بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل منهم ينطلق إليه بابنه ويقول له: احذر هذا- أى نوحا- فإنه كذاب، وإن أبى حذرني منه، فيموت الكبير، وينشأ الصغير على ذلك. «1»
وعلى أية حال فالذي نعتقده أن نوحا- عليه السلام- ما دعا عليهم بهذا الدعاء، وما قال في شأنهم هذا القول- وهو واحد من أولى العزم من الرسل- إلا بعد أن يئس من
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 415.(15/125)
إيمانهم، وإلا بعد أن أخبره ربه: أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وإلا بعد أن رأى منهم- بعد ألف سنة إلا خمسين عاما عاشها معهم- أنهم قوم قد استحبوا العمى على الهدى، وأن الأبناء منهم يسيرون على طريقة الآباء في الكفر والفجور.. وإلى جانب دعاء نوح- عليه السلام- على الكافرين بالهلاك الساحق.. نراه يختتم دعاءه بالمغفرة والرحمة للمؤمنين، فيقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ.
أى: يا رب أسألك أن تغفر لي ذنوبي، وأن تغفر لوالدي- أيضا- ذنوبهما، ويفهم من هذا الدعاء أنهما كانا مؤمنين، وإلا لما دعا لهما بهذا الدعاء.
وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً واغفر يا إلهى لكل من دخل بيتي وهو متصف بصفة الإيمان، فيخرج بذلك من دخله وهو كافر كامرأته وابنه الذي غرق مع المغرقين.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أى: واغفر يا رب ذنوب المؤمنين والمؤمنات بك إلى يوم القيامة.
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أى: ولا تزد الظالمين إلا هلاكا وخسارا ودمارا. يقال:
تبره يتبره، إذا أهلكه. ويتعدى بالتضعيف فيقال: تبره الله تتبيرا، ومنه قوله- تعالى-:
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ.
وهكذا اختتمت السورة الكريمة بهذا الدعاء الذي فيه طلب المغفرة للمؤمنين، والهلاك للكافرين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(15/126)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة الجن
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الجن» من السور المكية الخالصة، وتسمى بسورة قُلْ أُوحِيَ ... ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية بلا خلاف، وكان نزولها بعد سورة «الأعراف» وقبل سورة «يس» وقد سبقها في ترتيب النزول ثمان وثلاثون سورة، إذ هي السورة التاسعة والثلاثون- كما ذكر السيوطي-.
أما ترتيبها في المصحف، فهي السورة الثانية والسبعون.
2- والمتدبر لهذه السورة الكريمة، يراها قد أعطتنا صورة واضحة عن عالم الجن، فهي تحكى أنهم أعجبوا بالقرآن الكريم، وأن منهم الصالح ومنهم غير الصالح، وأنهم لا يعلمون الغيب، وأنهم أهل للثواب والعقاب، وأنهم لا يملكون النفع لأحد، وأنهم خاضعون لقضاء الله- تعالى- فيهم.
كما أن هذه السورة قد ساقت لنا ألوانا من سنن الله التي لا تتخلف، والتي منها: أن الذين يستقيمون على طريقه يحيون حياة طيبة في الدنيا والآخرة..
كما أنها لقنت النبي صلى الله عليه وسلم الإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين وأكاذيبهم، وساقت له ما يسليه عن سفاهاتهم، وما يشرح صدره، ويعينه على تبليغ رسالة ربه..
ويبدو أن نزول هذه السورة الكريمة كان في حوالى السنة العاشرة، أو الحادية عشرة، من البعثة- كما سنرى ذلك من الروايات-، وأن نزولها كان دفعة واحدة..(15/127)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
التفسير وقد افتتحت هذه السورة بقوله- تعالى-:
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)(15/128)
وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات منها ما أخرجه الشيخان والترمذي، عن ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: مالكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر- من الجن- الذي أخذوا نحو تهامة، عامدين إلى سوق عكاظ، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بنخلة يصلى بأصحابه صلاة الصبح، فلما سمعوا القرآن، استمعوا إليه وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء.
فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدى الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، وأنزل الله- تعالى- على نبيه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ....
وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أتانى داعي الجن، فذهبت معهم، فقرأت عليهم القرآن..
وهناك رواية ثالثة لابن إسحاق ملخصها: أنه لما مات أبو طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها ويدعوهم إلى الإيمان.. فأغروا به سفهاءهم، يسبونه ويستهزئون به..
فانصرف صلى الله عليه وسلم عنهم، حتى إذا كان ببطن نخلة- هو موضع بين مكة والطائف- قام يصلى من الليل، فمر به نفر من جن نصيبين- وهو موضع قرب الشام- فاستمعوا إليه، فلما فرغ من صلاته، ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله- تعالى- خبرهم عليه..
وهناك روايات أخرى في عدد هؤلاء الجن، وفي الأماكن التي التقوا فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيما قرأه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، وفيمن كان معه من الصحابة خلال التقائه بهم..(15/129)
ويبدو لنا من مجموع الروايات، أن لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالجن قد تعدد، وأنهم تارة استمعوا إليه صلى الله عليه وسلم دون أن يراهم، وتارة التقى بهم وقرأ عليهم القرآن «1» .
قال الآلوسى: وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات، ويجمع بذلك بين اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك. وذكر ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال:
صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.. «2» .
قال القرطبي: واختلف أهل العلم في أصل الجن. فعن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان..
وعن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ومنهم المؤمن والكافر، والشياطين هم ولد إبليس، لا يموتون إلا مع إبليس.. «3» .
وقال بعض العلماء: عالم الجن من العوالم الكونية، كعالم الملائكة وقد أخبر الله- تعالى- أنه خلقه من مارج من نار، أى: أن عنصر النار فيه هو الغالب، وأنه يرى الأناسى وهم لا يرونه، أى: بصورته الجبلية، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى، كما رئي جبريل حين تشكل بشكل آدمي.
وأخبر- سبحانه- بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة. وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ...
وأخبر بأن من الجن مؤمنين، وأن منهم شياطين متمردين، ومن هؤلاء إبليس اللعين.
ولم يختلف أهل الملل في وجودهم، بل اعترفوا به كالمسلمين، وإن اختلفوا في حقيقتهم، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة، وأسرارها محجوبة، وكثير منها لا يرى بالحواس. ألا ترى الروح- وهي مما لا شك في وجودها في الإنسان والحيوان- لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها..
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجن، كما بعث إلى الإنس، فدعاهم الى التوحيد، وأنذرهم
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 16 ص 210 وج 19 ص 2، تفسير ابن كثير ج 7 ص 272.
(2) تفسير الآلوسى ج 26 ص 30 وج 29 ص 83.
(3) تفسير القرطبي ج 19 ص 5.(15/130)
وبلغهم القرآن، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس، فمؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا في القرآن والسنة.. «1» .
وقد افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس ما حدث من الجن عند سماعهم للقرآن. فقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...
وفي هذا الأمر دلالة على أن المأمور به شيء هام، يستدعى من السامعين التيقظ والانتباه، والامتثال للمأمور به، وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به.
والنفر: الجماعة من واحد إلى عشرة، وأصله في اللغة الجماعة من الإنس فأطلق على الجماعة من الجن على وجه التشبيه.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس، إن الله- تعالى- قد أخبرك عن طريق أمين وحيه جبريل: أن جماعة من الجن قد استمعوا إليك وأنت تقرأ القرآن..
فقالوا- على سبيل الفرح والإعجاب بما سمعوا-: إِنَّا سَمِعْنا من الرسول صلى الله عليه وسلم قُرْآناً عَجَباً أى: إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن، بديع الأسلوب، عظيم القدر..
هذا القرآن يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أى: إلى الخير والصواب والهدى فَآمَنَّا بِهِ إيمانا حقا، لا يخالطه شك أو ريب وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أى: فآمنا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من دعوة إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، ولن نشرك معه في العبادة أحدا كائنا من كان هذا الأحد.
والمقصود من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك، دعوة مشركي قريش إلى الإيمان بالحق الذي جاء به صلى الله عليه وسلم كما آمن جماعة من الجن به، وإعلامهم بأن رسالته صلى الله عليه وسلم تشمل الجن والإنس.
وضمير «أنه» للشأن، وخبر «أن» جملة «استمع نفر من الجن» ، وتأكيد هذا الخبر بأن، للاهتمام به لغرابته. ومفعول «استمع» محذوف لدلالة قوله: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً عليه.
ووصفهم للقرآن بكونه قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ يدل على تأثرهم به تأثرا شديدا، وعلى إعجابهم العظيم بنظمه المتقن، وأسلوبه الحكيم، ومعانيه البديعة.. ولذا أعلنوا إيمانهم به بدون تردد، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء في قوله: فَآمَنَّا بِهِ....
__________
(1) صفوة البيان ج 2 ص 470 فضيلة الشيخ حسنين مخلوف.(15/131)
والتعبير بقوله- تعالى-: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا.. يحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم، أو لإخوانهم الذين رجعوا إليهم، كما في قوله- تعالى- في سورة الأحقاف: قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ... ويحتمل أنهم قالوا ذلك في أنفسهم على سبيل الإعجاب، كما في قوله- تعالى-: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ بل إننا نرجح أن قولهم هذا قد شمل كل ذلك، لأن هذا هو الذي يتناسب مع إعجابهم بالقرآن الكريم، ومع حرصهم على إيمان أكبر عدد منهم به.
ثم حكى- سبحانه- أن هذا النفر من الجن بعد استماعهم إلى القرآن وإيمانهم به، أخذوا في الثناء على الخالق- عز وجل- فقال حكاية عنهم: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً.
ولفظ «وأن» قد تكرر في هذه السورة الكريمة أكثر من عشر مرات، تارة بالإضافة الى ضمير الشأن، وتارة بالإضافة الى ضمير المتكلم.
ومن القراء السبعة من قرأه بفتح الهمزة، ومنهم من قرأه بكسرها، فمن قرأ وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا.. بالفتح فعلى أنه معطوف على محل الجار والمجرور في قوله فَآمَنَّا بِهِ فكأنه قيل: فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا.. ومن قرأ بالكسر فعلى أنه معطوف على المحكي بعد القول، أى: قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، وقالوا: إنه تعالى جد ربنا..
قال الجمل في حاشيته ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ... قرأه حمزة والكسائي وأبو عامر وحفص بفتح «أنّ» ، وقرأه الباقون بالكسر..
وتلخيص هذا أن «أنّ» المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام: قسم ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره، على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ ... لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر، وكقوله: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.
القسم الثاني أن يقترن بالواو، وهو أربع عشرة كلمة، إحداها: لا خلاف في فتحها، وهي قوله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ... وهذا هو القسم الثالث. والثانية وهي قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ ... كسرها ابن عامر وأبو بكر وفتحها الباقون.
والاثنتا عشرة الباقية، فتحها بعضهم، وكسرها بعضهم وهي قوله: - تعالى-: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وقوله: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ.. وأَنَّا ظَنَنَّا.. وأَنَّهُ كانَ رِجالٌ.. وأَنَّهُمْ ظَنُّوا..(15/132)
وأَنَّا لَمَسْنَا.. وأَنَّا كُنَّا.. وأَنَّا لا نَدْرِي.. وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ.. وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى.. وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ «1» .
وقوله: تَعالى من التعالي وهو شدة العلو. وجَدُّ رَبِّنا الجد- بفتح الجيم- العظمة والجلال.
قال القرطبي: الجد في اللغة: العظمة والجلال، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا. أى: عظم. فمعنى جد ربنا: عظمته وجلاله.
وقيل معنى «جد ربنا ... » : غناه، ومنه قيل للحظ جد. ورجل مجدود، أى: محظوظ.
وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أى: ولا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما تنفعه الطاعة.. «2» .
وجملة مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً بيان وتفسير لما قبله.
أى: آمنا به- سبحانه- إيمانا حقا، وصدقنا نبيه فيما جاءنا به من عنده، وصدقنا- أيضا- أن الحال والشأن تعالى وتعاظم جلال ربنا، وتنزه في ذاته وصفاته، عن أن يكون له شريك في ملكه. أو أن تكون له صاحبة أو أن يكون له ولد، كما زعم الزاعمون من الكافرين الجاهلين.
وفي هذا القول من هذا النفر من الجن، رد على أولئك المشركين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله- تعالى-، وأنهم- أى الملائكة- جاءوا عن طريق مصاهرته- سبحانه- للجن، كما حكى عنهم- سبحانه- ذلك في قوله: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
ثم حكى- سبحانه- أقوالا أخرى لهؤلاء المؤمنين من الجن فقال: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً.. والمراد بالسفيه هنا: إبليس- لعنه الله-، وقيل المراد به الجنس فيشمل كل كافر ومتمرد من الجن، والشطط، مجاوزة الحد والعدل في كل شيء، أى: أننا ننزه الله- تعالى- عما كان يقوله سفهاؤنا- وعلى رأسهم إبليس- من أن لله- عز وجل- صاحبة أو ولدا، فإن هذا القول بعيد كل البعد عن الحق والعدل والصواب.
وقوله: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار منهم عن كفرهم السابق، فكأنهم يقولون بعد أن استمعوا إلى القرآن، وآمنوا بالله- تعالى- وحده: إننا
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 416.
(2) تفسير القرطبي ج 19 ص 8.(15/133)
ننزه الله- تعالى- عما قاله السفهاء في شأنه.. وإذا كنا قد اتبعناهم قبل إيماننا، فسبب ذلك أننا صدقنا هؤلاء السفهاء فيما قالوه لنا، وما كنا نعتقد أو نتصور أو نظن أن هؤلاء السفهاء يصل بهم الفجور والكذب.. إلى هذا الحد الشنيع.
وقوله: كَذِباً مفعول به لتقول، أو صفة لمصدر محذوف، أى: قولا مكذوبا.
ثم حكى- سبحانه- عنهم تكذيبهم لما كان متعارفا عليه في الجاهلية من أن للجن سلطانا على الناس، وأن لهم قدرة على النفع والضر ... فقال- تعالى-: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ...
وقوله: يَعُوذُونَ من العوذ بمعنى الاستجارة بالشيء والالتجاء إليه طلبا للنجاة.
والرهق: الإثم وغشيان المحارم..
قال صاحب الكشاف: والرهق: غشيان المحارم، والمعنى: أن الإنس باستعاذتهم بهم- أى بالجن- زادوهم كفرا وتكبرا. وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره، وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا ذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس، فذلك رهقهم، أو: فزاد الجنّ والإنس رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم.. «1» .
فالمقصود من الآية الكريمة بيان فساد ما كان شائعا في الجاهلية- بل وفي بعض البيئات حتى الآن- من أن الجن لهم القدرة على النفع والضر وأن بعض الناس كانوا يلجئون إليهم طلبا لمنفعتهم وعونهم على قضاء مصالحهم.
وإطلاق اسم الرجال على الجن، من باب التشبيه والمشاكلة لوقوعه من رجال من الإنس، فإن الرجل اسم للمذكر البالغ من بنى آدم.
وقوله- سبحانه-: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً. بيان لما استنكره هؤلاء النفر المؤمنون من الجن على قومهم الكافرين. وعلى من يشبهونهم في الكفر من الإنس.
أى: وأنهم- أى الإنس- ظنوا واعتقدوا كَما ظَنَنْتُمْ واعتقدتم أيها الجن، أن الله- تعالى- لن يبعث أحدا بعد الموت، وهذا الظن منهم ومنكم ظن خاطئ فاسد، فإن البعث حق، وإن الحساب حق، وإن الجزاء حق.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 624. [.....](15/134)
وفي هذا القول من مؤمنى الجن، تعريض بمشركي قريش، الذين أنكروا البعث، وقالوا:
ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ...
ثم حكى- سبحانه- عنهم ما قالوه عند اقترابهم من السماء، طلبا لمعرفة أخبارها.. قبل أن يؤمنوا فقال: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ... وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً.
وقوله: لَمَسْنَا من اللمس، وحقيقته الجس باليد، واستعير هنا، لطلب أخبار السماء، لأن الماس للشيء في العادة، إنما يفعل ذلك طلبا لاختباره ومعرفته.
والحرس: اسم جمع للحراس، كخدم وكخدام، والشهب: جمع شهاب، وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم، فتسقط في الجو أو على الأرض أو في البحر.
أى: وأنا طلبنا أخبار السماء كما هي عادتنا قبل أن نؤمن فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً أى: فوجدناها قد امتلأت بالحراس الأشداء من الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع ... كما أنا قد وجدناها قد امتلأت بالشهب التي تنقض على مسترقى السمع فتحرقهم.
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أى من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أى: كنا نقعد منها مقاعد كائنة للسمع، خالية من الحرس والشهب ...
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ بعد نزول القرآن، الذي هو معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم والذي آمنا به وصدقناه.
يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أى: فمن يجلس الآن ليسترق السمع من السماء يجد له شهابا معدا ومهيأ للانقضاض عليه فيهلكه.
فالرصد: جمع راصد، وهو الحافظ للشيء، وهو وصف لقوله «شهابا» .
والفاء في قوله: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ للتفريع على محذوف، وكلمة «الآن» في مقابل كلمة «كنا» الدالة على المحذوف..
والتقدير: كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فنستمع أشياء، وقد انقضى ذلك، وصرنا من يستمع الآن منا يجد له شهابا رصدا، ينقض عليه فيحرقه.
والمقصود من هاتين الآيتين: تأكيد إيمانهم بالله- تعالى-، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وحض غيرهم على اتباعهم، وتحذيرهم من التعرض لاستراق السمع.(15/135)
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين: «يخبر الله- تعالى- عن الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك، لئلا يسترقوا شيئا من القرآن، فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق، وهذا من لطف الله بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قالت الجن: «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» أى: من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه» «1» .
وقال بعض العلماء: والصحيح أن الرجم كان موجودا قبل المبعث. فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر وازداد، كما ملئت السماء بالحرس والشهب. وليس في الآية دلالة على أن كل ما يحدث من الشهب إنما هو للرجم، بل إنهم إذا حاولوا استراق السمع رجموا بالشهب، وإلا فالشهب الآن وفيما مضى قد تكون ظواهر طبيعية ولأسباب كونية ... «2» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه على سبيل الإقرار بأنهم لا يعلمون شيئا من الغيوب فقال: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً.
أى: وقال هؤلاء الجن المؤمنون على سبيل الاعتراف بأن مرد علم الغيوب إلى الله- تعالى- وحده: قالوا وإنا لا ندري ولا نعلم الآن، بعد هذه الحراسة المشددة للسماء، أأريد بأهل الأرض ما يضرّ بهم، أم أراد الله- تعالى- بها ما ينفعهم؟.
قال الآلوسى: ولا يخفى ما في قولهم هذا من الأدب، حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله- تعالى-، كما صرحوا به في الخير، وإن كان فاعل الكل هو الله- تعالى- ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد ... «3» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه في وصف حالهم وواقعهم فقال: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ.... أى: منا الموصوفون بالصلاح والتقوى ... وهم الذين آمنوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، ولم يشركوا معه في العبادة أحدا ...
وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أى: ومنا قوم دون ذلك في الصلاح والتقوى ... وهم الذين فسقوا عن أمر ربهم، ولم يستقيموا على صراطه ودينه.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 267.
(2) تفسير صفوة البيان ج 2 ص 472 لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.
(3) تفسير الآلوسى ج 29 ص 88.(15/136)
وقوله: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً، تشبيه بليغ. والطرائق: جمع طريقة، وهي الحالة والمذهب.
وقددا: جمع قدّة، وهي الفرقة والجماعة من الناس، الذين تفرقت مشاربهم وأهواؤهم.
والجملة الكريمة بيان وتفسير لما قبلها.
أى: وأنا في واقع أمرنا منا الصالحون الأخيار ... ومنا من درجته ورتبته أقل من ذلك بكثير أو بقليل ... فنحن في حياتنا كنا قبل سماعنا للقرآن كالمذاهب المختلفة في حسنها وقبحها، وكالطرق المتعددة في استقامتها واعوجاجها ... أما الآن فقد وفقنا الله- تعالى- إلى الإيمان به، وإلى إخلاص العبادة له ...
ومن وجوه البلاغة في الآية الكريمة، أنهم قالوا: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ، ليشمل التعبير من هم دون الكمال في الصلاح، ومن هم قد انحدروا في الشرور والآثام إلى درجة كبيرة، وهم الأشرار.
والمقصود من الآية الكريمة، مدح الصالحين، وذم الطالحين، ودعوتهم إلى الاقتداء بأهل الصلاح والتقوى والإيمان.
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بشأن عجزهم المطلق أمام قدرة خالقهم فقال: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً.
والظن هنا بمعنى العلم واليقين. وقوله: نُعْجِزَهُ من الإعجاز، وهو جعل الغير عاجزا عن الحصول على ما يريد. وقوله فِي الْأَرْضِ وهَرَباً في موضع الحال.
أى: وأننا قد علمنا وتيقنا بعد إيماننا وبعد سماعنا للقرآن ... أننا في قبضة الله- تعالى- وتحت قدرته، ولن نستطيع الهرب من قضائه سواء كنا في الأرض أم في غيرها.
فقوله: فِي الْأَرْضِ إشارة إلى عدم قدرتهم على النجاة من قضائه- تعالى- مهما حاولوا اللجوء إلى أية بقعة من بقاعها، ففي أى بقعة منها يكونون، يدركهم قضاؤه وقدره.
وقوله: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً إشارة إلى أن هربهم إلى السماء لا إلى الأرض، لن ينجيهم مما يريده- سبحانه- بهم.
فالمقصود بالآية الكريمة: إظهار عجزهم المطلق أمام قدرة الله- تعالى- وعدم تمكنهم من الهرب من قضائه، سواء ألجأوا إلى الأرض، أم إلى السماء.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.(15/137)
ثم حكى- سبحانه- حالهم عند ما سمعوا ما يهديهم إلى الرشد ... فقال- تعالى-:
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً....
أى: وأننا لما سمعنا الهدى، أى: القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم آمَنَّا بِهِ بدون تردد أو شك فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ وبما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فَلا يَخافُ بَخْساً أى: نقصا في ثوابه وَلا رَهَقاً أى: ولا يخاف- أيضا- ظلما يلحقه بزيادة في سيئاته، أو إهانة تذله وتجعله كسير القلب، منقبض النفس.
فالمراد بالبخس: الغبن في الأجر والثواب. والمراد بالرهق: الإهانة والمذلة والمكروه.
والمقصود بالآية الكريمة إظهار ثقتهم المطلقة في عدالة الله- تعالى-.
وقوله- سبحانه-: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً تأكيد وتفصيل لما قبله.
والقاسطون: هم الجائرون الظالمون، جمع قاسط، وهو الذي ترك الحق واتبع الباطل، اسم فاعل من قسط الثلاثي بمعنى جار، بخلاف المقسط فهو الذي ترك الباطل واتبع الحق.
مأخوذ من أقسط الرباعي بمعنى عدل.
أى: وأنا- معاشر الجن- مِنَّا الْمُسْلِمُونَ الذين أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة.
وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أى: الجائرون المائلون عن الحق إلى الباطل.
فَمَنْ أَسْلَمَ منا فَأُولئِكَ المسلمون تَحَرَّوْا رَشَداً أى: توخوا وقصدوا الرشد والحق.
أَمَّا الْقاسِطُونَ
وهم الذين آثروا الغي على الرشدكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
أى:
وقودا لجهنم، كما توقد النار بما يلقى فيها من حطب وما يشبهه.
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت أقوالا متعددة، لهؤلاء النفر من الجن، الذين استمعوا إلى القرآن، فآمنوا به، وقالوا لن نشرك بربنا أحدا.
ثم بين- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف، وهي أن الاستقامة على طريقه توصل إلى السعادة، وأن الإعراض عن طاعته- تعالى- يؤدى إلى الشقاء، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس حقائق دعوته، وخصائص رسالته، وإقراره أمامهم بأنه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، وأن علم الغيب مرده إلى الله- تعالى- وحده، فقال- سبحانه-:(15/138)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
[سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 28]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
وقوله- سبحانه-: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ... معطوف على قوله- تعالى-: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ... فهو من جملة الموحى به، وهو من كلام الله- تعالى- لبيان سنة من سننه في خلقه، واسم «أن» المخففة ضمير الشأن، والخبر قوله، لَوِ اسْتَقامُوا ... والضمير يعود على القاسطين سواء أكانوا من الإنس أم من الجن.
والماء الغدق: هو الماء الكثير، يقال: غدقت عين فلان غدقا- كفرح- إذا كثر دمعها فهي غدقة، ومنه الغيداق للماء الواسع الكثير، والمراد: لأعطيناهم نعما كثيرة.(15/139)
أى: ولو أن هؤلاء العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل استقاموا على الطريقة المثلى، التي هي طريق الإسلام، والتزموا بما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه ...
لو أنهم فعلوا ذلك، لفتحنا عليهم أبواب الرزق، ولأعطيناهم من بركاتنا وخيراتنا الكثير ... وخص الماء الغدق بالذكر، لأنه أصل المعاش والسعة.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وقوله- سبحانه- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ... وقوله- تعالى- وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ....
ثم بين- سبحانه- الحكمة في هذا العطاء لعباده فقال: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وأصل الفتن الامتحان والاختبار. تقول: فتنت الذهب بالنار، أى: اختبرته لتعرف مقدار جودته.
والمعنى: نعطيهم ما نعطيهم من خيراتنا، لنختبرهم ونمتحنهم، ليظهر للخلائق موقفهم من هذه النعم، أيشكروننا عليها فنزيدهم منها، أم يجحدون ويبطرون فنمحقها من بين أيديهم ... ؟.
والجملة الكريمة معترضة بين ما قبلها، وبين قوله- تعالى- بعد ذلك: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً.
وقوله: يَسْلُكْهُ من السلك بمعنى إدخال الشيء في الشيء ومنه قوله- تعالى-:
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. والصّعد: الشاق. يقال: فلان في صعد من أمره، أى: في مشقة وتعب، وهو مصدر صعد- كفرح- صعدا وصعودا.
أى: ومن يعرض عن طاعة ربه ومراقبته وخشيته ... يدخله- سبحانه- في عذاب شاق أليم، لا مفر منه، ولا مهرب له عنه.
ومن الحقائق والحكم التي نأخذها من هاتين الآيتين، أن الاستقامة على أمر الله، تؤدى إلى السعادة التي ليس بعدها سعادة، وأن رخاء العيش وشظافته هما لون من ألوان الابتلاء والاختبار، كما قال- تعالى-: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وأن الإعراض عن ذكر الله.... عاقبته الخسران المبين، والعذاب الأليم.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أى لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم.
وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة(15/140)
فمعنى لَأَسْقَيْناهُمْ لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا، لأن الخير والرزق كله، بالمطر يكون، فأقيم مقامه.
وفي صحيح مسلم، عن أبى سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف عليكم، ما يخرج لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض ... » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها، كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» «1» .
ثم بين- سبحانه- أن المساجد التي تقام فيها الصلاة والعبادات، يجب أن تنسب إلى الله- تعالى- وحده، فقال: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.
والمساجد: جمع مسجد، وهو المكان المعد لإقامة الصلاة والعبادة فيه. واللام في قوله لِلَّهِ، للاستحقاق.
أى: وأوحى إلىّ- أيضا- أن المساجد التي هي أماكن الصلاة والعبادة لا تكون إلا لله- تعالى- وحده، ولا يجوز أن تنسب إلى صنم من الأصنام، أو طاغوت من الطواغيت.
قال الإمام ابن كثير: قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم، أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين، أن يوحدوه وحده.
وقال سعيد بن جبير: نزلت في أعضاء السجود. أى: هي لله فلا تسجدوا بها لغيره ... وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة- وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين «2» .
ويبدو لنا أن المراد بالمساجد هنا الأماكن المعدة للصلاة والعبادة، لأن هذا هو المتبادر من معنى الآية، وأن المقصود بها توبيخ المشركين الذين وضعوا الأنصاب والأصنام، في المسجد الحرام وأشركوها في العبادة مع الله- تعالى-.
وأضاف- سبحانه- المساجد إليه، على سبيل التشريف والتكريم وقد تضاف إلى غيره- تعالى- على سبيل التعريف فحسب، وفي الحديث الشريف: «الصلاة في مسجدى هذا خير من ألف صلاة في غيره، إلا المسجد الحرام» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 19 ص 18.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 270.(15/141)
ثم بين- سبحانه- حال الصالحين من الجن، عند ما استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، ويتقرب إلى الله- تعالى- بالعبادة فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً.
أى: وأوحى الله- تعالى- فيما أوحى من شأن الجن، أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ وهو محمد صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ أى: يدعو الله- تعالى- ويعبده في الصلاة، كادُوا أى: الجن يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أى: كادوا من شدة التزاحم عليه، والتكتل حوله..
يكونون كاللبد، أى: كالشىء الذي تلبد بعضه فوق بعض. ولفظ «لبدا» جمع لبدة، وهي الجماعة المتزاحمة، ومنه لبدة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.
ووضع- سبحانه- الاسم الظاهر موضع المضمر، إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمت تدعو الله.. أو لما قمت أدعو الله ... تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم حيث وصفه بأنه «عبد الله» لما في هذه الإضافة من التشريف والتكريم.
والجن: إنما ازدحموا حول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ويقرأ القرآن ... تعجبا مما شاهدوه من صلاته، ومن حسن قراءته، ومن كمال اقتداء أصحابه، قياما، وركوعا، وسجودا ...
ومنهم من يرى أن الضمير في «كادوا» يعود لكفار قريش، فيكون المعنى: وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ... كادوا من تزاحمهم عليه، يكونون كاللبد، لا لكي ينتفعوا بما يسمعون، ولكن لكي يطفئوا نور الله بأفواههم، والحال أن الله- تعالى- قد رد كيدهم في نحورهم، وأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
قال صاحب الكشاف: «عبد الله» هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلت: هلا قيل: رسول الله أو النبي؟ قلت: لأن تقديره وأوحى إلى أنه لما قام عبد الله، فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل، أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله، لله- تعالى- ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر، حتى يكونوا عليه لبدا.
ومعنى «قام يدعوه» : قام يعبده. يريد: قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن، فاستمعوا لقراءته، وتزاحموا عليه.
وقيل معناه: لما قام رسول يعبد الله وحده، مخالفا المشركين في عبادتهم كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين ... «1» .
ويبدو لنا أن عودة الضمير في «كادوا» على مؤمنى الجن أرجح، لأن هذا هو الموافق
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 630.(15/142)
لإعجابهم بالقرآن الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا هو الظاهر من سياق الآيات، حيث إن الحديث عنهم، ولأن الآثار قد وردت في أن الجن قد التفوا حول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمعوه يقرأ القرآن.
ومن هذه الآثار قول الزبير بن العوام: هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم كادوا يركب بعضهم بعضا ازدحاما عليه ... «1» .
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن لجميع من أرسل إليهم، أنه لا يعبد أحدا سواه- عز وجل- فقال: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لجميع من أرسلناك إليهم من الجن والإنس: إنى أعبد ربي وحده، وأتوجه إليه وحده بالدعاء والطلب، ولا أشرك معه أحدا في عبادتي أو صلاتي أو نسكي ...
وقل لهم، كذلك: إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أى: لا أملك ما يضركم وَلا رَشَداً أى: ولا أملك ما ينفعكم، وإنما الذي يملك ذلك هو الله- تعالى- وحده.
وقل لهم للمرة الثالثة: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أى: إنى لن يمنعني أحد من الله- تعالى- إن أرادنى بسوء.
وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أى: ولن أجد من دونه ملجأ أركن إليه. يقال: التحد فلان إلى كذا، أى: مال إليه.
فالآية الكريمة بيان لعجزه صلى الله عليه وسلم عن شئون نفسه أمام قدرة خالقه- عز وجل- بعد بيان عجزه عن شئون غيره.
وقوله- سبحانه-: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ.... استثناء من مفعول لا أَمْلِكُ، وهما قوله قبل ذلك: ضَرًّا وَلا رَشَداً وما يليهما اعتراض مؤكد لنفى الاستطاعة. أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- إنى لا أملك ما يضركم ولا أملك ما ينفعكم، وإنما الذي أملكه هو تبليغ رسالات ربي إليكم، بأمانة واجتهاد.
والبلاغ: مصدر بلّغ، وهو إيصال الكلام أو الحديث إلى الغير، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول، مثل: «هذا خلق الله» ، و «من» ابتدائية صفة لقوله:
«بلاغا» أى: بلاغا كائنا من جهة الله- تعالى- وأمره. والرسالات: جمع رسالة، وهي
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 19 ص 43. وتفسير ابن كثير ج 7 ص 271.(15/143)
ما يرسل إلى الغير من كلام أو كتاب. والمراد بها هنا: تبليغ ما أوحاه الله- تعالى- إلى نبيه للناس.
قال الآلوسى ما ملخصه وقوله: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ.... استثناء من مفعول لا أملك ...
وما بينهما اعتراض ... فإن كان المعنى: لا أملك أن أضركم ولا أن أنفعكم، كان استثناء متصلا، كأنه قيل: لا أملك شيئا إلا بلاغا، وإن كان المعنى: لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد، كان منقطعا، أو من باب: لا عيب فيهم غير أن سيوفنا ... أى: أنه من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضده، وقوله وَرِسالاتِهِ عطف على قوله بَلاغاً وقوله:
مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفه له. أى: بلاغا كائنا من الله ... «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك سوء عاقبة من يخالف أمره فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمرا به، أو نهيا عنه.
فَإِنَّ لَهُ أى: لهذا العاصي نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: فحكمه أن له نار جهنم، وجمع- سبحانه- خالدين باعتبار معنى «من» ، كما أن الإفراد في قوله فَإِنَّ لَهُ باعتبار لفظها.
وقوله: «أبدا» مؤكد لمعنى الخلود. أى: خالدين فيها خلودا أبديا لا نهاية له.
وقوله- سبحانه-: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً تهديد ووعيد للكافرين بسبب استهزائهم بالمؤمنين، فقد حكى القرآن عن الكفار أنهم قالوا: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ وقالوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وحَتَّى هنا حرف ابتداء. وهي متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام، وهو سخرية الكافرين من المؤمنين. وإِذا اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط، وهي في محل نصب بجوابه الذي هو قوله فَسَيَعْلَمُونَ.
والمعنى: أن هؤلاء الكفار لا يزالون على ما هم عليه من غرور وعناد وجحود ... حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب في الدنيا والآخرة فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ من هو أضعف جندا وأقل عددا، أهم المؤمنون- كما يزعم هؤلاء الكافرون-؟ أم أن الأمر سيكون على العكس؟ لا شك أن الأمر سيكون على العكس، وهو أن الكافرين في هذا اليوم سيكونون في غاية الضعف والذلة والهوان.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 94.(15/144)
وجيء بالجملة التي أضيف إليها لفظ «إذا» فعلا ماضيا، للتنبيه على تحقق الوقوع.
والآية الكريمة تشير إلى خيبة هؤلاء الكافرين، وتلاشى آمالهم ... فإنهم في هذا اليوم سيفقدون الناصر لهم، كما أنهم سيفقدونه من جهة أنفسهم، لأنهم مهما كثر عددهم، فهم مغلوبون.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله للمرة الرابعة، أن يعلن للناس أن هذا اليوم الذي يأتى فيه نصر الله للمؤمنين لا يعلمه إلا هو، فقال- تعالى-: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ. أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً....
أى: وقل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الكافرين إن نصر الله لنا آت لا ريب فيه، وعذاب الله لكم آت- أيضا- لا ريب فيه، ولكني لا أدرى ولا أعلم أيتحقق ذلك في الوقت العاجل القريب، أم يجعل الله- تعالى- لذلك «أمدا» أى: غاية ومدة معينة من الزمان، لا يعلم وقتها إلا هو- سبحانه-.
والمقصود من الآية الكريمة: بيان أن العذاب نازل بهم قطعا ولكن موعده قد يكون بعد وقت قريب، وقد يكون بعد وقت بعيد، لأن تحديد هذا الوقت مرده إلى الله- تعالى- وحده.
وقوله- تعالى- بعد ذلك: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً تعليل لما قبله.
أى: أنا لا أدرى متى يكون عذابكم- أيها الكافرون- لأن مرد علم ذلك إلى الله- تعالى- الذي هو عليم بكل شيء من الظواهر والبواطن، والذي اقتضت حكمته أن لا يطلع أحدا على غيوبه، وعلى ما استتر وخفى من أمور خلقه.
وقوله: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً استثناء من النفي في قوله: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً.
أى: هو- سبحانه- عالم الغيب، فلا يطلع على غيبه أحدا من خلقه، إلا الرسول الذي ارتضاه واختاره من خلقه، فإنه- سبحانه- قد يطلعه على بعض غيوبه، ليكون ذلك معجزة له، دالة على صدقه أمام قومه.
فإذا ما أراد- سبحانه- إطلاع رسوله المصطفى لحمل رسالته على بعض غيوبه، سخر له من جميع جوانبه حرسا من الملائكة يحرسونه من وسوسة الشيطان ونوازعه، ومن كل ما يتعارض مع توصيل وحيه- سبحانه- إلى رسله، بكل أمانة وصيانة.
ومعنى مَنِ ارْتَضى ... : من اختار واصطفى واجتبى، وعبر عن ذلك بقوله مَنِ ارْتَضى، للإشعار بأنه- سبحانه- يخص هؤلاء الذين رضى عنهم ورضوا عنه بالاطلاع على بعض غيوبه، على سبيل التأييد والتكريم لهم.(15/145)
و «من» في قوله مِنْ رَسُولٍ للبيان. والمراد بالرسول هنا: ما يشمل كل رسول اختاره- سبحانه- لحمل رسالته، سواء أكان من البشر أم من الملائكة.
والضمير في قوله- تعالى- فَإِنَّهُ ويَسْلُكُ يعودان على الله- عز وجل- وأطلق السلك على إيصال الخبر إلى الرسول المرتضى، للإشعار بأن هذا الخبر الذي أطلع الله- تعالى- رسوله عليه، قد وصل إليه وصولا مؤكدا، ومحفوظا من كل تحريف، كما يدخل الشيء في الشيء دخولا تاما بقوة وضبط، إذ حقيقة السلك. إدخال الشيء في الشيء بشدة وعناية ...
والمراد بقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ جميع الجهات، وعبر عن جميع الجهات بذلك، لأن معظم ما يتعرض له الإنسان يكون من هاتين الجهتين.
والرصد: جمع راصد، وهو ما يحفظ الشيء، ويصونه من كل ما لا يريده، أى: إلا من ارتضى- سبحانه- من رسول، فإنه- عز وجل- يطلعه على ما يشاؤه من غيوبه، ويجعل له حراسا من جميع جوانبه، يحفظونه من كل سوء.
قال الآلوسى: قوله: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ... أى: لكن الرسول المرتضى بظهره- جل وعلا- على بعض الغيوب المتعلقة برسالته ... إما لكون بعض هذه الغيوب من مباديها، بأن يكون معجزة، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية، وكيفيات الأعمال وأجزيتها، ونحو ذلك من الأمور الغيبية، التي بيانها من وظائف الرسالة.
بأن يسلك من جميع جوانبه عند اطلاعه على ذلك، حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين، لما أريد اطلاعه عليه ... «1» .
واللام في قوله- تعالى-: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ... متعلقة بقوله يَسْلُكُ.
والضمير في لِيَعْلَمَ يعود إلى الله- تعالى-، والمراد بالعلم: علم المشاهدة الذي يترتب عليه الجزاء، أى: أطلع الله- تعالى- من ارتضاهم على بعض غيوبه، وحرسهم من وصول الشياطين إلى هذا الذي أظهرهم عليه من غيوب ... ليعلم- تعالى- علم مشاهدة يترتب عليه الجزاء، أن الرسل قد أبلغوا رسالته- سبحانه- إلى خلقه، وأنه- تعالى- قد أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أى: أحاط علمه- تعالى- بكل ما لدى الرسل وغيرهم من أقوال
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 96.(15/146)
وأفعال، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أى: وأحصى كل شيء في هذا الكون إحصاء تاما، وعلما كاملا.
قال الشوكانى: قوله: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ... اللام متعلقة بيسلك، والمراد به العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل، و «أن» هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والخبر الجملة، والرسالات عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول ...
وقال قتادة: ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو، وفيه حذف تتعلق به اللام، أى: أخبرناه صلى الله عليه وسلم بحفظنا الوحى، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ بالحق والصدق.
وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم ... «1» .
ويبدو لنا أن عودة الضمير في «ليعلم» إلى الله- تعالى- هو الأظهر، أى: ليعلم الله- تعالى- أن رسله قد أبلغوا رسالاته علم مشاهدة كما علمه غيبا، لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع ...
وهكذا ساقت لنا سورة «الجن» الكثير من الحقائق التي تتعلق بإصلاح العقائد والأخلاق والسلوك والأفكار التي طغى كثير منها على العقول والأفهام ...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 5 ص 313 للشوكانى.(15/147)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة المزمل
مقدمة وتمهيد
1- سورة «المزمل» هي السورة الثالثة والسبعون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فهي السورة الثالثة أو الرابعة، إذ يرى بعضهم أنه لم يسبقها في النزول سوى سورتي العلق والمدثر، بينما يرى آخرون أنه لم يسبقها سوى سور العلق، ونون، والمدثر.
وعدد آياتها عشرون آية عند الكوفيين، وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة آية عند الحجازيين.
2- وجمهور العلماء على أن سورة «المزمل» من السور المكية الخالصة، فابن كثير- مثلا- عند تفسيره لها قال: تفسير سورة «المزمل» ، وهي مكية.
وحكى بعضهم أنها مكية سوى آيتين، فقد قال القرطبي: مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: هي مكية إلا آيتين منها، وهما قوله- تعالى-: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ....
وقال الثعلبي: هي مكية إلا الآية الاخيرة منها وهي قوله- تعالى-: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ.... فإنها نزلت بالمدينة «1» .
وقال الشيخ ابن عاشور ما ملخصه: وقال في الإتقان: إن استثناء قوله- تعالى-:
__________
(1) تفسير القرطبي ج 19 ص 31.(15/149)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ... إلى آخر السورة، يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أنها قالت: نزلت هذه الآية بعد نزول صدر السورة بسنة ...
ثم قال الشيخ ابن عاشور: وهذا يعنى أن السورة كلها مكية، والروايات تظاهرت على أن هذه الآية قد نزلت منفصلة عما قبلها، بمدة مختلف في قدرها، فعن عائشة أنها سنة ... ومن قال بأن هذه الآية مدنية، يكون نزولها بعد نزول ما قبلها بسنين ...
والظاهر أن هذه الآية مدنية، لقوله- تعالى-: ... وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومن المعروف أن القتال لم يفرض إلا في المدينة- إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة «1» .
3- والسورة الكريمة: زاخرة بالحديث الذي يدخل التسلية والصبر على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلى من شأن القرآن الكريم، ويرشد المؤمنين إلى ما يسعدهم ويصلح بالهم، ويهدد الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم، ويذكّر الناس بأهوال يوم القيامة ...
ويسوق لهم ألوانا من يسر شريعته ورأفته- عز وجل- بعباده، وإثابتهم بأجزل الثواب على أعمالهم الصالحة.
__________
(1) راجع تفسير التحرير والتنوير ج 29 ص 252 للشيخ ابن عاشور.(15/150)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
التفسير افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بقوله- تعالى-:
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)(15/151)
وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه السورة الكريمة روايات منها ما رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الدلائل عن جابر- رضى الله عنه- قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا: ساحر. قالوا: ليس بساحر ...
فتفرق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل فقرأ عليه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ....
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان نائما بالليل متزملا في قطيفة ... فجاءه جبريل بقوله- تعالى- يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا....
وقيل: إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ... فرفعت رأسى فإذا الذي جاءني بحراء، جالس على كرسي بين السماء والأرض ... فرجعت فقلت: دثروني دثروني، وفي رواية: فجئت أهلى فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ... «1» .
وجمهور العلماء يقولون: وعلى أثرها نزلت: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ....
والْمُزَّمِّلُ: اسم فاعل من تزمل فلان بثيابه، إذا تلفف فيها، وأصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاى والميم.
وافتتح الكلام بالنداء للتنبيه على أهمية ما يلقى على المخاطب من أوامر أو نواه.
وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بلفظ «المزمل» تلطف معه، وإيناس لنفسه، وتحبب إليه، حتى يزداد نشاطا، وهو يبلغ رسالة ربه.
والمعنى: يا أيها المتزمل بثيابه، المتلفف فيها، رهبة مما رآه من عبدنا جبريل. أو هما وغما مما سمعه من المشركين، من وصفهم له بصفات هو برىء منها.
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا أى: قم الليل متعبدا لربك، إِلَّا قَلِيلًا منه، على قدر ما تأخذ من راحة لبدنك، فقوله: إِلَّا قَلِيلًا استثناء من الليل ...
وقوله نِصْفَهُ بدل من قَلِيلًا بدل كل من كل، على سبيل التفصيل بعد الإجمال ...
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 19 ص 32 تفسير الآلوسى ج 29 ص 101.(15/152)
أى: قم نصف الليل للعبادة لربك، واجعل النصف الثاني من الليل لراحتك ونومك ...
ووصف- سبحانه- هذا النصف الكائن للراحة بالقلة فقال إِلَّا قَلِيلًا للإشعار بأن النصف الآخر، العامر بالعبادة والصلاة ... هو النصف الأكثر ثوابا وقربا من الله- تعالى- بالنسبة للنصف الثاني المتخذ للراحة والنوم.
وقوله- سبحانه-: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ... تخيير له صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإسلام من يسر وسماحة ...
فكأنه- تعالى- يقول له على سبيل التلطف والإرشاد إلى ما يشرح صدره- يا أيها المتلفف بثيابه، قم الليل للعبادة والصلاة، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون في حدود ثلث الليل، ولك- أيها الرسول الكريم- أن تزيد على ذلك، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة، وثلثه للنوم والراحة ...
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم في أن يجعل نصف الليل أو ثلثه، أو ثلثيه للعبادة والطاعة. وأن يجعل المقدار الباقي من الليل للنوم والراحة ...
وخص- سبحانه- الليل بالقيام، لأنه وقت سكون الأصوات ... فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا، وأدعى لصفاء النفس، وطهارة القلب، وحسن الصلة بالله- عز وجل-.
هذا، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته. تعظيما لشأنه، ومداومة له على مناجاة ربه، خصوصا في الثلث الأخير من الليل، يدل على ذلك قوله- تعالى-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» .
وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وقد أثنى- سبحانه- عليهم بسبب ذلك في آيات كثيرة منها قوله- تعالى-: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «2» .
وقد ذكر الإمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل، فقالت له: ألست تقرأ هذه السورة، يا أيها المزمل ... ؟.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 79. [.....]
(2) سورة السجدة الآيتان 16، 17.(15/153)
إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك الله ختامها في السماء اثنى عشر شهرا. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة.. «1» .
قال القرطبي ما ملخصه: واختلف: هل كان قيام الليل فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوى أن قيامه كان حتما وفرضا، وذلك أن الندب والحض، لا يقع على بعض الليل دون بعض، لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت.
واختلف- أيضا- هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال ... أصحها ثالثها للحديث المتقدم الذي رواه سعيد بن هشام عن عائشة- رضى الله عنها- «2» .
وقال بعض العلماء بعد أن ساق أقوال العلماء في هذه المسألة بشيء من التفصيل: والذي يستخلص من ذلك أن أرجح الأقوال، هو القول القائل بأن التهجد كان فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية، ويشهد له ما تقدم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.
ويرى بعض العلماء أن وجوب التهجد باق على الناس جميعا، وأنه لم ينسخ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدر من الليل، لا ينقص كثيرا عن النصف..
ويرد على هذا القول بما ثبت في الصحيحين، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي سأله عما يجب عليه من صلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل على غيرها؟
قال: لا إلا أن تطوع» .
ويرى فريق آخر: أن قيام الليل نسخ عن الرسول وعن أمته بآخر سورة المزمل.
واستبدل به قراءة القرآن، على ما يعطيه قوله- تعالى- عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ويدل عليه- أيضا- ظاهر ما روى عن عائشة، من قولها:
فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة، دون أن تقيد ذلك بقيد.
ويرى فريق ثالث: أن وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
ويرى فريق رابع: أن قيام الليل نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 278.
(2) راجع تفسير القرطبي.(15/154)
ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الرابع.. فإن آية سورة الإسراء وهي قوله- تعالى-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ... تدل على أن وجوب التهجد قد بقي عليه صلى الله عليه وسلم «1» .
وقوله- تعالى-: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إرشاد له صلى الله عليه وسلم ولأمته إلى أفضل طريقة لقراءة القرآن الكريم، حتى يستمروا عليها، وهم في أول عهدهم بنزول القرآن الكريم.
والترتيل: جعل الشيء مرتلا، أى: منسقا منظما، ومنه قولهم: ثغر مرتل، أى: منظم الأسنان، لم يشذ بعضها عن بعض ...
أى: قم- أيها الرسول الكريم- الليل إلا قليلا منه ... متعبدا لربك مرتلا للقرآن ترتيلا جميلا حسنا، تستبين معه الكلمات والحروف، حتى يفهمها السامع، وحتى يكون ذلك أعون على حسن تدبره، وأثبت لمعانيه في القلب ...
قال الإمام ابن كثير: وكذلك كان يقرأ صلى الله عليه وسلم فقد قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها ... وسئل أنس عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدا ...
وقال صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» .
وقال عبد الله بن مسعود: لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذوه هذّ الشّعر وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب «2» - أى لا تسرعوا في قراءته كما تسرعوا في قراءة الشعر. والهذ: سرعة القطع- هذا، وليس معنى قوله- سبحانه-: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، أن يقرأ بطريقة فيها تلحين أو تطريب يغير من ألفاظ القرآن، ويخل بالقراءة الصحيحة من حيث الأداء، ومخارج الحروف، والغن والمد، والإدغام والإظهار ... وغير ذلك مما تقتضيه القراءة السليمة للقرآن الكريم.
وإنما معنى قوله- تعالى-: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أن يقرأه بصوت جميل وبخشوع وتدبر، وبالتزام تام للقراءة الصحيحة، من حيث مخارج الحروف ومن حيث الوقف والمد والإظهار والإخفاء، وغير ذلك ...
وقد بسط القول في هذه المسألة بعض العلماء فارجع إليه إن شئت «3» .
وقوله- تعالى-: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا تعليل للأمر بقيام الليل، وهو كلام
__________
(1) راجع تفسير الأحكام ج 4 ص 190 للشيخ محمد على السائس- رحمه الله.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 276.
(3) راجع تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 193 للشيخ السائس.(15/155)
معترض بين قوله- سبحانه- قُمِ اللَّيْلَ ... وبين قوله- تعالى- بعد ذلك: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ.....
والمراد بالقول الثقيل: القرآن الكريم الذي أنزله- سبحانه- على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم.
ويشهد لثقل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، منها: ما رواه الإمام البخاري من أن السيدة عائشة قالت: ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحى، في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «ما من مرة يوحى إلى، إلا ظننت أن نفسي تفيض» - أى:
تخرج ...
ومنها قول زيد بن ثابت: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من القرآن- وفخذه على فخذي فكادت ترض فخذي- أى: تتكسر ...
ومنها ما رواه هشام بن عروة عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى عليه وهو على ناقته، وضعت جرانها- أى باطن عنقها- فما تستطيع أن تتحرك، حتى يسرّى عنه «1» .
أى: قم- أيها الرسول الكريم- الليل إلا قليلا منه متعبدا لربك، متقربا إليه بألوان الطاعات، فإنا سنلقى عليك قولا ثقيلا، وهذا القول هو القرآن الكريم، الثقيل في وزنه وفي ميزان الحق، وفي أثره في القلوب، وفيما اشتمل عليه من تكاليف، وصدق الله إذا يقول:
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ...
قال الجمل: قوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أى: كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة، لأنه كلام رب العالمين، وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل.
أو هو ثقيل لما فيه من التكاليف، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، والحدود والأحكام.
قال قتادة: ثقيل والله في فرائضه وحدوده ... وقال محمد بن كعب: ثقيل على المنافقين، لأنه يهتك أسرارهم ... وقال السدى: ثقيلا بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم: فلان ثقل علىّ، أى كرم على ... وقال ابن المبارك: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا، ثقل في الميزان يوم القيامة.
وقيل: ثقيلا بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته. والفقهاء بحثوا في أحكامه ... والأولى أن جميع هذه المعاني فيه.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 277.(15/156)
وقيل: المراد بالقول الوحى، كما في الخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه، وهو على ناقته وضعت جرانها- أى: وضعت صدرها على الأرض- فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه ... «1» .
ويبدو لنا أن وصف القرآن بالثقل وصف حقيقى، لما ثبت من ثقله على النبي صلى الله عليه وسلم وقت نزوله عليه ... وهذا لا يمنع أن ثقله يشمل ما اندرج فيه من علوم نافعة، ومن هدايات سامية، ومن أحكام حكيمة، ومن آداب قويمة، ومن تكاليف جليلة الشأن.
وعبر- سبحانه- عن إيحائه بالقرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالإلقاء للإشعار بأنه يلقى إليه على غير ترقب منه صلى الله عليه وسلم، بل ينزل إليه في الوقت الذي يريده- سبحانه- وللإشارة من أول الأمر إلى أن ما يوحى إليه شيء عظيم وشديد الوقع على النفس.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الحكمة من أمره له صلى الله عليه وسلم بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة فقال: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا.
وقوله: ناشِئَةَ: وصف من النشء وهو الحدوث، وهو صفة لموصوف محذوف.
وقوله: وَطْئاً بمعنى مواطأة وموافقة، وأصل الوطء: وضع الرجل على الأرض بنظام وترتيب، ثم استعير للموافقة، ومنه قوله- تعالى- لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، ومنه قولهم: وطأت فلانا على كذا، إذا وافقته عليه. وهو منصوب على التمييز. وقوله:
قِيلًا بمعنى قولا.
وقوله: أَقْوَمُ بمعنى أفضل وأنفع.
والمعنى: يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة. فإن العبادة الناشئة بالليل.
هي أشد مواطأة وموافقة لإصلاح القلب، وتهذيب النفس، وأقوم قولا، وأنفع وقعا، وأفضل قراءة من عبادة النهار، لأن العبادة الناشئة بالليل يصحبها ما يصحبها من الخشوع والإخلاص، لهدوء الأصوات بالليل، وتفرغ العابد تفرغا تاما لعبادة ربه.
قال الشوكانى ما ملخصه: قوله: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ... أى: ساعاته وأوقاته، لأنها تنشأ أولا فأولا، ويقال: نشأ الشيء ينشأ، إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء، فهو ناشئ ... قال الزجاج: ناشئة الليل، كل ما نشأ منه، أى: حدث منه ... والمراد ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف.
وقيل: إن ناشئة الليل، هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة، أى: تنهض، من
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 428.(15/157)
نشأ من مكانه، إذا نهض منه.
هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرأ الجمهور وَطْئاً بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، وقرأ بعضهم وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة.
والمعنى على القراءة الأولى: أن الصلاة الناشئة في الليل، أثقل على المصلى من صلاة النهار، لأن الليل للنوم ... ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم اشدد وطأتك على مضر» .
والمعنى على القراءة الثانية: أنها أشد مواطأة وموافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان، لانقطاع الأصوات والحركات، ومنه قوله- تعالى-: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أى:
ليوافقوا.
وَأَقْوَمُ قِيلًا أى: وأشد مقالا. وأثبت قراءة، لحضور القلب فيها، وهدوء الأصوات، وأشد استقامة واستمرارا على الصواب ... «1» .
وقوله- سبحانه-: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا تقرير للأمر بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة والتقرب إليه- سبحانه-.
والسبح: مصدر سبح، وأصله الذهاب في الماء والتقلب فيه ثم استعير للتقلب والتصرف المتسع، الذي يشبه حركة السابح في الماء.
أى: إنا أمرناك بقيام الليل للعبادة والطاعة، لأن لك في النهار- أيها الرسول الكريم- تقلبا وتصرفا في مهماتك، واشتغالا بأعباء الرسالة يجعلك لا تستطيع التفرغ لعبادتنا، أما في الليل فتستطيع ذلك لأنه وقت السكون والراحة والنوم.
فالمقصود من الآية الكريمة التخفيف والتيسير عليه صلى الله عليه وسلم وبيان الحكمة من أمره بقيام الليل- إلا قليلا منه- للعبادة، حيث لم يجمع- سبحانه- عليه الأمر بالتهجد في الليل والنهار، وإنما يسر عليه الأمر، فجعله بالليل فحسب، أما النهار فهو لمطالب الحياة: ولتبليغ رسالته- سبحانه- إلى الناس.
ثم أمره- سبحانه- بعد ذلك بالمداومة على ذكره ليلا ونهارا فقال: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا.
وقوله- سبحانه-: وَتَبَتَّلْ من التبتل، وهو الاشتغال الدائم بعبادة الله- تعالى-، والانقطاع لطاعته. ومنه قولهم بتل فلان الحبل، إذا قطعه، وامرأة بتول.
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 5 ص 317 للشوكانى.(15/158)
أى: منقطعة عن الزواج، ومتفرغة لعبادة الله- تعالى- والمراد به هنا: التفرغ لما يرضى الله- تعالى-، والاشتغال بذلك عن كل شيء سواه.
أى: وداوم- أيها الرسول الكريم- على ذكر الله- تعالى- عن طريق تسبيحه، وتحميده وتكبيره، وتفرغ لعبادته وطاعته تفرغا تاما، دون أن يشغلك عن ذلك شاغل.
فربك- عز وجل- هو رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. أى: هو- سبحانه- رب جهتي الشروق والغروب للشمس.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مستحق للعبادة والطاعة، وما دام الأمر كذلك فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا.
أى: فاتخذه وكيلك الذي تفوض إليه أمرك، وتلجأ إليه في كل أحوالك ... إذ الوكيل هو الذي توكل إليه الأمور، ويترك له التصرف فيها.
وليس المراد بقوله- تعالى-: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا الانقطاع التام عن الأعمال، لأن هذا يتنافى مع قوله- تعالى- قبل ذلك: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا، وإنما المراد التنبيه إلى أنه صلى الله عليه وسلم ينبغي له أن لا يشغله السبح الطويل بالنهار، عن طاعته- عز وجل- وعن المداومة على مراقبته وذكره.
ومما لا شك فيه أن ما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من الاشتغال بأمر الدعوة إلى وحدانية الله- تعالى-، ومن تعليم الناس العلم النافع، والعمل الصالح ... كل ذلك يندرج تحت المواظبة على ذكر الله- تعالى-، وعلى التفرغ لعبادته.
وقال- سبحانه- وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ولم يقل تبتلا حتى يكون الفعل موافقا لمصدره، للإشارة إلى أن التبتل والانقطاع إلى الله يحتاجان إلى عمل اختياري منه صلى الله عليه وسلم، بأن يجرد نفسه عن كل ما سوى الله- تعالى-، وبذلك يحصل التبتل الذي هو أثر للتبتيل، بمعنى:
ترويض النفس وتعويدها على العبادة والطاعة.
ووصف- سبحانه- ذاته بأنه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لمناسبة الأمر بذكره في الليل والنهار، وهما وقت ابتداء طلوع الشمس وغروبها، فكأنه- سبحانه- يقول: داوم على طاعتي لأنى أنا رب جميع جهات الأرض، التي فيها تشرق الشمس وتغرب.
والمراد بالمشرق والمغرب هنا جنسهما، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس، التي هي ثلاثمائة وستون مشرقا- كما يقول العلماء- وعلى كل مغرب من مغاربها التي هي كذلك.
والمراد بالمشرقين والمغربين كما جاء في سورة الرحمن: مشرق ومغرب الشتاء والصيف.(15/159)
والمراد بالمشارق والمغارب كما جاء في سورة المعارج: مشرق ومغرب كل يوم للشمس والكواكب.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالصبر الجميل، على أذى قومه فقال:
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا.....
أى: اجعل يا محمد اعتمادك وتوكلك على وحدي، واصبر على ما يقوله أعداؤك في حقك من أكاذيب وخرافات ... واهجرهم هجرا جميلا، أى: واعتزلهم وابتعد عنهم، وقاطعهم مقاطعة حسنة، بحيث لا تقابل السيئة يمثلها، ولا تزد على هجرهم: بأن تسبهم، أو ترميهم بالقبيح من القول ...
قال الإمام الرازي ما ملخصه: والمعنى أنك لما اتخذتني وكيلا فاصبر على ما يقولون، وفوض أمرهم إلى، فإنى لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك، أحسن من قيامك بإصلاح نفسك.
واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين: في كيفية معاملتهم مع الله، وقد ذكر- سبحانه- ذلك في الآيات السابقة، وفي كيفية معاملتهم مع الخلق، وقد جمع- سبحانه- كل ما يحتاج إليه في هذا الباب في هاتين الكلمتين، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطا للناس، أو مجانبا لهم.
فإن كان مخالطا لهم فعليه أن يصبر على إيذائهم ... وإما أن يكون مجانبا لهم، فعليه أن يهجرهم هجرا جميلا ... بأن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم في أفعالهم، مع المداراة والإغضاء ... «1» .
وقوله- سبحانه-: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أى: ودعني وشأنى مع هؤلاء المكذبين بالحق، ولا تهتم أنت بأمرهم، فأنا خالقهم، وأنا القادر على كل شيء يتعلق بهم.
وقوله: أُولِي النَّعْمَةِ وصف لهم جيء به على سبيل التوبيخ لهم، والتهكم بهم، حيث جحدوا نعم الله، وتوهموا أن هذه النعم من مال أو ولد ستنفعهم يوم القيامة.
والنّعمة- بفتح النون مع التشديد-: تطلق على التنعم والترفه وغضارة العيش في الدنيا.
__________
(1) راجع تفسير فخر الرازي ج 8 ص 240.(15/160)
وأما النّعمة- بكسر النون- فاسم للحالات الملائمة لرغبة الإنسان من غنى أو عافية أو نحوهما.
وأما النّعمة- بالضم- فهي اسم المسرة. يقال: فلان في نعمة- بضم النون- أى: في فرح وسرور.
وقوله: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أى: واتركهم ودعهم في باطلهم وقتا قليلا، فسترى بعد ذلك سوء عاقبة تكذيبهم للحق.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً ... تعليل لما قبله. والأنكال: جمع نكل- بكسر النون وسكون الكاف- وهو القيد الثقيل، يوضع في الرجل لمنع الحركة. وسميت القيود بذلك لأنها تجعل صاحبها موضع عبرة وعظة، أو لأنها تجعل صاحبها ممنوعا من الحركة، والتقلب في مناكب الأرض.
أى: إن لدينا ما هو أشد من ردك عليهم ... وهو تلك القيود التي نقيد حركتهم بها، وإن لدينا «جحيما» أى: نارا شديدة الاشتعال نلقى بهم فيها، وإن لدينا كذلك «طعاما ذا غصة» أى: طعاما يلتصق في الحلوق، فلا هو خارج منها، ولا هو نازل عنها، بل هو ناشب فيها لبشاعته ومرارته.
وهذا الطعام ذو الغصّة، يشمل ما يتناولونه من الزقوم ومن الغسلين ومن الضريع، كما جاء في آيات أخرى. والغصة: ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعه غصص.
وإن لدينا فوق كل ذلك عَذاباً أَلِيماً أى: عذابا شديد الإيلام لمن ينزل به.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء المكذبين بألوان من العقوبات الشديدة، توعدتهم بالقيود التي تشل حركتهم، وبالنار المشتعلة التي تحرق أجسادهم، وبالطعام البشع الذي ينشب في حلوقهم، وبالعذاب الأليم الذي يشقيهم ويذلهم.
والظرف في قوله- تعالى-: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ... منصوب بالاستقرار العامل في «لدنيا» ، الذي هو الخبر في الحقيقة.
أى: استقر لهم ذلك العذاب الأليم لدينا، يوم القيامة، يوم تضطرب وتتزلزل الأرض والجبال.
وَكانَتِ الْجِبالُ في هذا اليوم كَثِيباً مَهِيلًا أى: رملا مجتمعا، بعد أن كانت قبل ذلك الوقت أحجارا صلبة كبيرة.
فقوله: كَثِيباً من كثب الشيء يكثبه، إذا جمعه من قرب ثم صبه، وجمعه كثب(15/161)
وكثبان، وهي تلال الرمال المجتمعة كالربوة.
وقوله مَهِيلًا اسم مفعول من هال الشيء هيلا، إذا نثره، وفرقه بعد اجتماعه.
والشيء المهيل: هو الذي يحرّك أسفله فينهار أعلاه ويتساقط بسرعة.
ثم يذكر- سبحانه- بعد ذلك هؤلاء المكذبين بما حل بالمكذبين من قبلهم، فيقول:
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا.
أى: إنا أرسلنا إليكم- أيها المكذبون- رسولا عظيم الشأن، رفيع القدر، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، شاهِداً عَلَيْكُمْ أى: سيكون يوم القيامة شاهدا عليكم، بأنه قد بلغكم رسالة الله- تعالى- دون أن يقصر في ذلك أدنى تقصير.
والكاف في قوله- تعالى-: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا للتشبيه، أى: أرسلنا إليكم- يا أهل مكة- رسولا شاهدا عليكم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما أرسلنا من قبلكم إلى فرعون رسولا شاهدا عليه، هو موسى- عليه السلام- وأكد الخبر في قوله- تعالى-: إِنَّا أَرْسَلْنا ... لأن المشركين كانوا ينكرون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ونكر رسولا، لأنهم كانوا يعرفونه حق المعرفة، وللتعظيم من شأنه صلى الله عليه وسلم أى: أرسلنا إليكم رسولا عظيم الشأن، سامى المنزلة جامعا لكل الصفات الكريمة.
والفاء في قوله: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ للتفريع. أى: أرسلنا إليكم رسولا كما أرسلنا إلى فرعون رسولا قبل ذلك، فكانت النتيجة أن عصى فرعون أمر الرسول الذي أرسلناه إليه، واستهزأ به، وتطاول عليه فكانت عاقبة هذا التطاول، أن أخذناه أَخْذاً وَبِيلًا.
أى أهلكنا فرعون إهلاكا شديدا، وعاقبناه عقابا ثقيلا، فوبيل بزنة فعيل- صفة مشبهة، مأخوذة من وبل المكان، إذا وخم هواؤه وكان ثقيلا رديئا. ويقال: مرعى وبيل، إذا كان وخما رديئا.
وخص- سبحانه- موسى وفرعون بالذكر، لأن أخبارهما كانت مشهورة عند أهل مكة.
وأل في قوله فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ للعهد. أى: فعصى فرعون الرسول المعهود عندكم، وهو موسى- عليه السلام-.(15/162)
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت: لأنه أراد: أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل، فلما أعاده وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف. إشارة إلى المذكور بعينه.. «1» .
وأظهر- سبحانه- اسم فرعون مع تقدم ذكره فقال: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ، دون أن يؤتى بضميره، للإشعار بفظاعة هذا العصيان، وبلوغه النهاية في الطغيان.
والمقصود من هاتين الآيتين، تهديد المشركين، بأنهم إذا ما استمروا في تكذيبهم لرسولهم، محمد صلى الله عليه وسلم فقد يصيبهم من العذاب ما أصاب فرعون عند ما عصى موسى- عليه السلام-.
ثم ذكرهم- سبحانه- بأهوال يوم القيامة، لعلهم يتعظون أو يرتدعون فقال: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا.
والاستفهام في قوله: فَكَيْفَ مستعمل في التوبيخ والتعجيز، وتَتَّقُونَ بمعنى تصونون أنفسكم من العذاب، ومعنى إِنْ كَفَرْتُمْ إن بقيتم على كفركم وأصررتم عليه.
وقوله يَوْماً: منصوب على أنه مفعول به لقوله: تَتَّقُونَ.
وقوله: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ صفة ثانية لهذا اليوم.
والمراد بالولدان: الأطفال الصغار، وبه بمعنى فيه..
والمقصود بهاتين الآيتين- أيضا- تأكيد التهديد للمشركين، حتى يقلعوا عن شركهم وكفرهم.. أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم من سوء عاقبة المكذبين، فكيف تصونون أنفسكم- إذا ما بقيتم على كفركم- من عذاب يوم هائل شديد، هذا اليوم من صفاته أنه يحول الشعر الشديد السواد للولدان، إلى شعر شديد البياض..
وهذا اليوم من صفاته- أيضا- أنه لشدة هوله، أن السماء- مع عظمها وصلابتها- تصير شيئا منفطرا- أى: متشققا بِهِ أى: فيه، والضمير يعود إلى اليوم..
وصدر- سبحانه- الحديث عن يوم القيامة، بلفظ الاستفهام «كيف» للإشعار بشدة هوله. وأنه أمر يعجز الواصفون عن وصفه.
ووصف- سبحانه- هذا اليوم بأنه يشيب فيه الولدان، ثم وصفه بأن السماء مع عظمها تتشقق فيه، للارتقاء في الوصف من العظيم إلى الأعظم، إذ أن تحول شعر الأطفال من السواد
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 641.(15/163)
إلى البياض- مع شدته وعظمه- أشد منه وأعظم، انشقاق السماء في هذا اليوم.
قال صاحب الكشاف: وقوله يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً مثل في الشدة، يقال في اليوم الشديد، يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان، إذا تفاقمت على الإنسان، أسرع فيه الشيب، كما قال أبو الطيب:
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبى ويهرم
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.
وقوله: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وصف لليوم بالشدة- أيضا- وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق.. «1» .
ووصف- سبحانه- السماء بقوله: مُنْفَطِرٌ بصيغة التذكير، حيث لم يقل منفطرة، لأن هذه الصيغة، صيغة نسب. أى: ذات انفطار، كما في قولهم: امرأة مرضع وحائض، أى: ذات إرضاع وذات حيض. أو على تأويل أن السماء بمعنى السقف، كما في قوله- تعالى-: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أو على أن السماء اسم جنس واحده سماوة، فيجوز وصفه بالتذكير والتأنيث..
وقوله: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا الضمير فيه يعود إلى الخالق- عز وجل- والوعد مصدر مضاف لفاعله. أى: كان وعد ربك نافذا ومفعولا، لأنه- سبحانه- لا يخلف موعوده.
ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة ثالثة لليوم، والضمير في وعده يعود إليه، ويكون من إضافة المصدر لمفعوله. أى: كان الوعد بوقوع يوم القيامة نافذا ومفعولا.
ثم ختم- سبحانه- هذه التهديدات بقوله: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا.
واسم الإشارة «هذه» يعود إلى الآيات المتقدمة، المشتملة على الكثير من القوارع والزواجر.
والتذكرة: اسم مصدر بمعنى التذكير والاتعاظ والاعتبار. ومفعول «شاء» محذوف.
والمعنى: إن هذه الآيات التي سقناها لكم تذكرة وموعظة، فمن شاء النجاة من أهوال يوم القيامة، فعليه أن يؤمن بالله- تعالى- إيمانا حقا، وأن يتخذ بسبب إيمانه وعمله الصالح، طريقا وسبيلا إلى رضا ربه ورحمته ومغفرته.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 642.(15/164)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
والتعبير بقوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ ... ليس من قبيل التخيير، وإنما المقصود به الحض والحث على سلوك الطريق الموصل إلى الله- تعالى- بدليل قوله- تعالى- قبل ذلك:
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ أى: هذه الآيات تذكرة وموعظة، فمن ترك العمل بها ساءت عاقبته، ولم يكن من الذين سلكوا طريق النجاة.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ هذا، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة، - من أول السورة إلى هنا-، يراها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم نداء فيه ما فيه من الملاطفة والمؤانسة، وأمرته بأن يقوم الليل إلا قليلا متعبدا لربه، كما أمرته بالصبر على أذى المشركين، حتى يحكم الله- تعالى- بينه وبينهم.
كما يراها قد هددت المكذبين بأشد أنواع التهديد. وذكرتهم بأهوال يوم القيامة، وبما حل بالمكذبين من قبلهم، وحرضتهم على سلوك الطريق المستقيم.
وبعد هذه الإنذارات المتعددة للمكذبين، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن قيام الليل لعبادة الله- تعالى- وطاعته ... فقال- سبحانه-:
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
والمراد بالقيام في قوله- تعالى-: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ... التهجد بالليل عن طريق الصلاة تقربا إلى الله- تعالى-.
وقوله: أَدْنى بمعنى أقرب، من الدنو بمعنى القرب، تقول: رأيت فلانا أدنى إلى فعل(15/165)
الخير من فلان. أى: أقرب، واستعير هنا للأقل، لأن المسافة التي بين الشيء والشيء إذا قربت كانت قليلة، وهو منصوب على الظرفية بالفعل «تقوم» .
وقوله: وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ قرأه بعض القراء السبعة بالجر عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وقرأه الجمهور بالنصب عطفا على أدنى.
والمعنى على قراءة الجمهور: إن ربك- أيها الرسول الكريم- يعلم أنك تقوم من الليل، مدة قد تصل تارة إلى ثلثى الليل، وقد تصل تارة أخرى إلى نصفه أو إلى ثلثه ... على حسب ما يتيسر لك، وعلى حسب أحوال الليل في الطول والقصر.
والمعنى على قراءة غير الجمهور: إن ربك يعلم أنك تقوم تارة أقل من ثلثى الليل وتارة أقل من نصفه، وتارة أقل من ثلثه.. وذلك لأنك لم تستطع ضبط المقدار الذي تقومه من الليل، ضبطا دقيقا، ولأن النوم تارة يزيد وقته وتارة ينقص، والله- تعالى- قد رفع عنك المؤاخذة بسبب عدم تعمدك القيام أقل من ثلث الليل..
فالآية الكريمة المقصود منها بيان رحمة الله- تعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلم حيث قبل منه قيامه بالليل متهجدا، حتى ولو كان هذا القيام أقل من ثلث الليل..
وافتتاح الآية الكريمة بقوله- سبحانه- إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ.. يشعر بالثناء عليه صلى الله عليه وسلم. وبالتلطف معه في الخطاب، حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على قيام الليل. على قدر استطاعته، بدون تقصير أو فتور.
وفي الحديث الشريف: أنه صلى الله عليه وسلم قام الليل حتى تورمت قدماه.
والتعبير بقوله- تعالى-: أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ يدل على أن قيامه صلى الله عليه وسلم كان متفاوتا في طوله وقصره، على حسب ما تيسر له صلى الله عليه وسلم، وعلى حسب طول الليل وقصره.
وقوله- سبحانه-: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ معطوف على الضمير المستتر في قوله:
تَقُومُ.
أى: أنت أيها الرسول الكريم- تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه، وتقوم طائفة من أصحابك للصلاة معك، أما بقية أصحابك فقد يقومون للتهجد في منازلهم.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة(15/166)
أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم» .
قال بعض العلماء: قوله: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ معطوف على الضمير المستكن في تَقُومُ.
وهو- وإن كان ضمير رفع متصل-، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف.
والمعنى: أن الله يعلم أنه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك، واتبعوا هداك..
وقد يقال: إن هذا يدل على أن قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة، وهو خلاف ما تقرر تفسيره في أول السورة، ويخالف- أيضا- ما دلت عليه الآثار المتقدمة هناك..
والجواب: أنه ليس في الآية ما يفيد أن الصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا جميعا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة التهجد في جماعة واحدة، فلعل بعضهم كان يقيمها في بيته، فلا ينافي ذلك فرضية القيام على الجميع.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بيان لشمول علمه- تعالى- ولنفاذ إرادته. أى: والله- تعالى- وحده، هو الذي يعلم مقادير ساعات الليل والنهار، وهو الذي يحدد زمانهما- طولا وقصرا- على حسب ما تقتضيه مشيئته وحكمته.
والآية الكريمة تفيد الحصر والاختصاص، عن طريق سياق الكلام، ودلالة المقام.
وقوله- تعالى-: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ مؤكد لما قبله، وإحصاء الأشياء، عدها والإحاطة بها.
والضمير المنصوب في قوله: تُحْصُوهُ يعود على المصدر المفهوم من قوله: يُقَدِّرُ في الجملة السابقة.
والتوبة في قوله- سبحانه-: فَتابَ عَلَيْكُمْ يصح أن تكون بمعنى المغفرة، وعدم المؤاخذة، أو بمعنى قبولها منهم، والتيسير عليهم في الأحكام. وتخفيفها عنهم.
أى: والله- تعالى- هو الذي يقدر أجزاء الليل والنهار، وهو الذي يعلم- دون غيره- أنكم لن تستطيعوا تقدير ساعاته تقديرا دقيقا.. ولذلك خفف الله عنكم في أمر القيام، ورفع عنكم المقدار المحدد، وغفر لكم ما فرط منكم من تقصير غير مقصود، ورخص لكم أن تقوموا المقدار الذي تستطيعون قيامه من الليل، مصلين ومتهجدين..
__________
(1) تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 200 للشيخ محمد السائس.(15/167)
فالجملة الكريمة تقرر جانبا من فضل الله- تعالى- على عباده، ومن رحمته بهم..
والفاء في قوله- تعالى-: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ للإفصاح، والمراد بالقراءة الصلاة، وعبر عنها بالقراءة، لأنها من أركانها.. أى: إذا كان الأمر كما وضحت لكم، فصلوا ما تيسر لكم من الليل.
قال الآلوسي: قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أى: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها، وقيل: الكلام على حقيقته، من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق.
ومن ذهب إلى الأول قال: إن الله- تعالى- افترض قيام مقدار معين من الليل، لقوله:
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ ... إلخ. ثم نسخ بقيام مقدار ما منه، في قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ... فالأمر في الموضعين للوجوب، إلا أن الواجب أولا كان معينا من معينات. وثانيا كان بعضا مطلقا، ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس.
ومن قال بالثاني. ذهب إلى أن الله- تعالى- رخص لهم في ترك جميع القيام للصلاة، وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلا، فكأنه قيل: فتاب عليكم ورخص لكم في الترك، فاقرءوا ما تيسر من القرآن، إن شق عليكم القيام.. «1» .
وقال الإمام ابن كثير: وقوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أى: من غير تحديد بوقت، أى: لكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في آية أخرى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أى: بقراءتك وَلا تُخافِتْ بِها.
وقد استدل الأحناف بهذه الآية على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية. أجزأه واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين، وفيه: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» .
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين- أيضا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج.. غير تمام» وفي صحيح ابن خزيمة عن أبى هريرة مرفوعا: «لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «2» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 111. [.....]
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 384.(15/168)
وقوله- سبحانه- بعد ذلك: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ... بدل اشتمال من جملة: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ ... ، أو هو كلام مستأنف لبيان الحكمة التي من أجلها خفف الله على المسلمين قيام الليل.
أى: صلوا من الليل على قدر استطاعتكم من غير تحديد بوقت، فالله- تعالى- يعلم أنكم لا تستطيعون ضبط ساعات الليل ولا أجزائه، فخفف عنكم لذلك، ولعلمه- أيضا- أن منكم المرضى الذين يعجزون عن قيام ثلثى الليل أو نصفه أو أقل من ذلك بقليل.
ومنكم- أيضا- الذين يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ أى: يسافرون فيها للتجارة وللحصول على مطالب الحياة، وهم في كل ذلك يبتغون ويطلبون الرزق من فضله- تعالى-. ومنكم- أيضا- الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله، ويجاهدون من أجل نشر دينه ومادام الأمر كذلك، فقد أبحت لكم- بفضلي وإحسانى- أن تصلوا من الليل ما تيسر لكم.
وقد جمع- سبحانه- بين السعى في الأرض لطلب الرزق، وبين الجهاد في سبيله، للإشعار بأن الأول لا يقل في فضله عن الثاني، متى توفرت فيه النية الطيبة، وعدم الانشغال به عن ذكر الله- تعالى-.
قال الإمام القرطبي: سوى الله- تعالى- في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال، للنفقة على النفس والعيال.. فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد في سبيل الله.
وفي الحديث الشريف: ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد، فيبيعه بسعر يومه، إلا كانت منزلته عند الله كمنزلة الشهداء. ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية.. «1» .
وأعيدت جملة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ لتأكيد التيسير والتخفيف وتقريره، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر، وهي قوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أى: وأدوها كاملة الأركان والخشوع والسنن.. في وقتها بدون تأخير.
وَآتُوا الزَّكاةَ أى: قدموها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهما.
قال ابن كثير: أى: أقيموا الصلاة الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، وهذا يدل
__________
(1) تفسير القرطبي ج 19 ص 55.(15/169)
لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصاب لم تبين إلا بالمدينة.. «1» .
وقوله: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. والقرض: ما قدمته لغيرك من مال، على أن يرده إليك بعد ذلك. والمراد من إقراض الله- تعالى-: إعطاء الفقراء والمساكين ما يحتاجونه على سبيل المعاونة والمساعدة.
وشبه- سبحانه- إعطاء الصدقة للمحتاج، بقرض يقدم له- تعالى-، للإشعار بأن ما سيعطى لهذا المحتاج، سيعود أضعافه على المعطى. لأن الله- تعالى- قد وعد أن يكافئ على الصدقة بعشر أمثالها، وهو- سبحانه- بعد ذلك يضاعف لمن يشاء الثواب والعطاء.
ووصف القرض بالحسن، لحض النفوس على الإخلاص وعلى البعد عن الرياء والأذى..
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أى:
أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأقرضوا الله قرضا حسنا، وافعلوا ما تستطيعونه- بعد ذلك- من وجوه الخير، وما تقدموا لأنفسكم من هذا الخير الذي يحبه- سبحانه- تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ. أى: تجدوا ثوابه وجزاءه عند الله- تعالى-، ففي الكلام إيجاز بالحذف، وقد استغنى عن المحذوف بذكر الجزاء عليه. والهاء في قوله تَجِدُوهُ هو المفعول الأول.
والضمير المنفصل في قوله: هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً هو ضمير الفصل.. وخَيْراً هو المفعول الثاني. أى: كل فعل موصوف بأنه خير، تقدمونه عن إخلاص لغيركم، لن يضيع عند الله- تعالى- ثوابه، بل ستجدون جزاءه وثوابه مضاعفا عند الله- تعالى-.
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى: وواظبوا على الاستغفار وعلى التوبة النصوح، وعلى التضرع إلى الله- تعالى- أن يغفر لكم ما فرط منكم، فإنه- سبحانه- واسع المغفرة والرحمة، لمن تاب إليه وأناب..
وبعد: فهذا تفسير لسورة «المزمل» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 286.(15/170)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة المدثر
مقدمة وتمهيد
1- سورة «المدثر» من أوائل السور التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ويغلب على الظن أن نزولها كان بعد نزول صدر سورة «اقرأ» .
ويشهد لذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة- رضى الله عنها-: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الوحى وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ.
وروى الشيخان- أيضا- وغيرهما، عن يحيى بن أبى كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ فقال: يا أيها المدثر. قلت: يقولون: اقرأ باسم ربك..
فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، فقال: يا أيها المدثر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري: هبطت الوادي، فنوديت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا.. فرفعت رأسى، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت على أهلى فقلت:
دثروني، دثروني. فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ.
قال الآلوسى ما ملخصه: وظاهر هذا الحديث يقتضى نزول هذه السورة قبل سورة اقرأ، مع أن المروي في الصحيحين عن عائشة أن سورة «اقرأ» أول ما نزل على الإطلاق، وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة، حتى قال بعضهم وهو الصحيح.
وللجمع بين هذين الحديثين وجوه منها: أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة، بما نزل بعد(15/171)
فترة الوحى، لا أولية مطلقة كما هو الحال بالنسبة لسورة اقرأ. أو أن السؤال في حديث جابر، كان عن نزول سورة كاملة، فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها. أو أن جابرا قد قال ذلك باجتهاده، ويقدم على هذا الاجتهاد ما ذكرته عائشة من أن أول ما نزل على الإطلاق، هو صدر سورة اقرأ.. «1» .
أقول: وفي هذا الحديث ما يدل على أن الملك قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل رؤيته في هذه المرة، وفي غار حراء بدأ الوحى ونزل قول الله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق ... » وذلك يدل على أن «اقرأ» أول ما نزل على الإطلاق، وهو ما جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضى الله عنها.
وعلى أية حال فسورة المدثر تعتبر من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن، كما يرى ذلك من تدبر آياتها التي تحض الرسول صلى الله عليه وسلم على إنذار الناس بدعوته.
وعدد آياتها: ست وخمسون آية في المصحف الكوفي، وخمس وخمسون في البصري.
2- ومن أهم مقاصدها: تكريم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتبليغ ما أوحاه الله- تعالى- إليه الى الناس، وتسليته عما أصابه من أذى، وتهديد أعدائه بأشد ألوان العقاب، وبيان حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المكذبين، والرد عليهم بما يبطل دعاواهم..
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 289 تفسير الآلوسى ج 29 ص 115.(15/172)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
تفسير قال الله- تعالى-:
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
قد افتتح الله- تعالى- سورة المدثر، بالملاطفة والمؤانسة في النداء والخطاب، كما افتتح سورة المزمل. والمدثر اسم فاعل من تدثر فلان، إذا لبس الدثار، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذي يلي البدن، ومنه حديث: «الأنصار شعار والناس دثار» .
قال القرطبي: قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب، إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين(15/173)
والملاطفة من ربه، كما تقدم في سورة المزمل. ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلىّ إذ نام في المسجد «قم أبا تراب» .
وكان قد خرج مغاضبا لفاطمة- رضى الله عنها-، فسقط رداؤه وأصابه التراب. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان ليلة الخندق «قم يا نومان» «1» .
والمراد بالقيام في قوله- تعالى-: قم فأنذر، المسارعة والمبادرة والتصميم على تنفيذ ما أمره- سبحانه- به، والإنذار هو الإخبار الذي يصاحبه التخويف.
أى: قم- أيها الرسول الكريم- وانهض من مضجعك، وبادر بعزيمة وتصميم، على إنذار الناس وتخويفهم من سوء عاقبتهم، إذا ما استمروا في كفرهم، وبلغ رسالة ربك إليهم دون أن تخشى أحدا منهم، ومرهم بأن يخلصوا له- تعالى- العبادة والطاعة.
والتعبير بالفاء في قوله: فَأَنْذِرْ للإشعار بوجوب الإسراع بهذا الإنذار بدون تردد.
وقال: فأنذر، دون فبشر، لأن الإنذار هو المناسب في ابتداء تبليغ الناس دعوة الحق حتى يرجعوا عما هم فيه من ضلال.
ومفعول أنذر محذوف. أى: قم فأنذر الناس، ومرهم بإخلاص العبادة لله.
وقوله: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أمر آخر له صلى الله عليه وسلم ولفظ وَرَبَّكَ منصوب على التعظيم لفعل فَكَبِّرْ قدم على عامله لإفادة التخصيص.
أى: يا أيها المدثر بثيابه لخوفه مما رآه من ملك الوحى، لا تخف، وقم فأنذر الناس من عذاب الله، إذا ما استمروا في شركهم، واجعل تكبيرك وتعظيمك وتبجيلك لربك وحده، دون أحد سواه، وصفه بما هو أهله من تنزيه وتقديس.
والمراد بتطهير الثياب في قوله- تعالى-: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ تطهيرها من النجاسات.
والمقصود بالثياب حقيقتها، وهي ما يلبسه الإنسان لستر جسده..
ومنهم من يرى أن المقصود بها ذاته ونفسه صلى الله عليه وسلم أى: ونفسك فطهرها من كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم.
وقال صاحب الكشاف: قوله- تعالى-: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات، لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة، ولا تصح إلا بها. وهي الأولى والأحب في غير الصلاة. وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 19 ص 61.(15/174)
وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال، ويستهجن من العادات. يقال:
فلان طاهر الثياب، وطاهر الجيب والذيل والأردان، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب، ومدانس الأخلاق. ويقال: فلان دنس الثياب: للغادر- والفاجر-، وذلك لأن الثوب يلابس الإنسان، ويشتمل عليه.. «1» .
وسواء أكان المراد بالثياب هنا معناها الحقيقي، أو معناها المجازى المكنى به عن النفس والذات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على الطهارة الحسية والمعنوية في كل شئونه وأحواله، فهو بالنسبة لثيابه كان يطهرها من كل دنس وقذر، وبالنسبة لذاته ونفسه، كان أبعد الناس عن كل سوء ومنكر من القول أو الفعل.
إلا أننا نميل إلى حمل اللفظ على حقيقته، لأنه لا يوجد ما يوجب حمله على غير ذلك.
ثم أمره- سبحانه- بأمر رابع فقال: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ والأصل في كلمة الرجز أنها تطلق على العذاب، قال- تعالى-: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ.
والمراد به هنا: الأصنام والأوثان، أو المعاصي والمآثم التي يؤدى اقترافها إلى العذاب.
أى: وداوم- أيها الرسول الكريم- على ما أنت عليه من ترك عبادة الأصنام والأوثان، ومن هجر المعاصي والآثام.
فالمقصود بهجر الرجز: المداومة على هجره وتركه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يلتبس بشيء من ذلك.
ثم نهاه- سبحانه- عن فعل، لا يتناسب مع خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ والمن: أن يعطى الإنسان غيره شيئا، ثم يتباهى به عليه، والاستكثار: عد الشيء الذي يعطى كثيرا.
أى: عليك- أيها الرسول الكريم- أن تبذل الكثير من مالك وفضلك لغيرك، ولا تظن أن ما أعطيته لغيرك كثيرا- مهما عظم وجل- فإن ثواب الله وعطاءه أكثر وأجزل ...
ويصح أن يكون المعنى: ولا تعط غيرك شيئا، وأنت تتمنى أن يرد لك هذا الغير أكثر مما أعطيته، فيكون المقصود من الآية: النهى عن تمنى العوض.
قال ابن كثير: قوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال ابن عباس: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 645.(15/175)
وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره، وعن مجاهد: لا تضعف أن تستكثر من الخير.
وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس: تستكثرهم بها، تأخذ على ذلك عوضا من الدنيا.
فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول- المروي عن ابن عباس وغيره- «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أى: وعليك- أيها الرسول الكريم- أن توطن نفسك على الصبر، على التكاليف التي كلفك بها ربك، وأن تتحمل الآلام والمشاق في سبيل دعوة الحق، بعزيمة صادقة، وصبر جميل، وثبات لا يخالطه تردد أو ضعف.
فهذه ست وصايا قد اشتملت على ما يرشد إلى التحلي بالعقيدة السليمة، والأخلاق الكريمة.
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة فقال: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ.
والفاء في قوله: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ للسببية. والناقور- بزنة فاعول: من النقر، وهو اسم لما ينقر فيه، أى: لما ينادى فيه بصوت مرتفع. والمراد به هنا: الصور أو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله- تعالى- النفخة الثانية التي يكون بعدها الحساب والجزاء.
والفاء في قوله: فَذلِكَ واقعة في جواب فَإِذا واسم الإشارة يعود إلى مدلول النقر وما يترتب عليه من حساب وجزاء. وقوله يَوْمَئِذٍ بدل من اسم الإشارة.
والتنوين فيه عوض عن جملة وقوله: عَسِيرٌ وغَيْرُ يَسِيرٍ صفتان لليوم.
أى: أنذر- أيها الرسول الكريم- الناس، وبلغهم رسالة ربك، واصبر على أذى المشركين، فإنه إذا نفخ إسرافيل بأمرنا النفخة الثانية، صار ذلك النفخ وما يترتب عليه من أهوال، وقتا وزمانا عسير أمره على الكافرين، وغير يسير وقعه عليهم.
ووصف اليوم بالعسير، باعتبار ما يقع فيه من أحداث يشيب من هولها الولدان.
وقوله: غَيْرُ يَسِيرٍ تأكيد لمعنى عَسِيرٌ كما يقال: هذا أمر عاجل غير آجل.
قال صاحب الكشاف فإن قلت: ما فائدة قوله: غَيْرُ يَسِيرٍ وقوله: عَسِيرٌ مغن عنه؟ قلت: لما قال عَلَى الْكافِرِينَ فقصر العسر عليهم قال: غَيْرُ يَسِيرٍ ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا، ليجمع بين وعيد الكافرين
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 290.(15/176)
وزيادة غيظهم، وبين بشارة المؤمنين وتسليتهم. ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا. كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا «1» .
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من قصة زعيم من زعماء المشركين. افترى الكذب على الله- تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت عاقبته العذاب المهين، فقال- تعالى-: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا....
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في شأن الوليد بن المغيرة المخزومي، وذكروا في ذلك روايات منها: أن المشركين عند ما اجتمعوا في دار الندوة، ليتشاوروا فيما يقولونه في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شأن القرآن الكريم- قبل أن تقدم عليهم وفود العرب للحج. فقال بعضهم: هو شاعر، وقال آخرون بل هو كاهن.. أو مجنون.. وأخذ الوليد يفكر ويرد عليهم، ثم قال بعد أن فكر وقدر: ما هذا الذي يقوله محمد صلى الله عليه وسلم إلا سحر يؤثر، أما ترونه يفرق بين الرجل وامرأته، وبين الأخ وأخيه.. «2» .
قال الآلوسى: نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي، كما روى عن ابن عباس وغيره. بل قيل: كونها فيه متفق عليه.. وقوله: وَحِيداً حال من الياء في ذَرْنِي أى: ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الانتقام منه، أو من التاء في خلقت أى: خلقته وحدي، لم يشركني في خلقه أحد، فأنا أهلكه دون أن أحتاج إلى ناصر في إهلاكه، أو من الضمير المحذوف العائد على «من» أى: ذرني ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد.. وكان الوليد يلقب في قومه بالوحيد.. لتفرده بمزايا ليست في غيره- فتهكم الله- تعالى- به وبلقبه، أو صرف هذا اللقب من المدح إلى الذم «3» .
أى: اصبر- أيها الرسول الكريم- على ما يقوله أعداؤك فيك من كذب وبهتان، واتركني وهذا الذي خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد ثم أعطيته الكثير من النعم، فلم يشكرني على ذلك.
والتعبير بقوله ذَرْنِي للتهديد والوعيد، وهذا الفعل يأتى منه الأمر والمضارع فحسب، ولم يسمع منه فعل ماض.
وقوله: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أى: وجعلت له مالا كثيرا واسعا، يمد بعضه بعضا،
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 647.
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 292.
(3) تفسير الآلوسى ج 29 ص 122.(15/177)
فقوله: مَمْدُوداً اسم مفعول من «مدّ» الذي بمعنى أطال بأن شبهت كثرة المال، بسعة مساحة الجسم.
أو من «مدّ» الذي هو بمعنى زاد في الشيء من مثله، ومنه قولهم: مد الوادي النهر، أى:
مده بالماء زيادة على ما فيه.
قالوا: وكان الوليد من أغنى أهل مكة، فقد كانت له أموال كثيرة من الإبل والغنم والعبيد والبساتين وغير ذلك من أنواع الأموال.
وَبَنِينَ شُهُوداً أى: وجعلت له- بجانب هذا المال الممدود- أولادا يشهدون مجالسه، لأنهم لا حاجة بهم إلى مفارقته في سفر أو تجارة، إذ هم في غنى عن ذلك بسبب وفرة المال في أيدى أبيهم.
فقوله: شُهُوداً جمع شاهد بمعنى حاضر، وهو كناية عن كثرة تنعمهم وائتناسه بهم.
قيل: كانوا عشرة، وقيل ثلاثة عشر، منهم: الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاصي، وعبد شمس.
وقد أسلم منهم ثلاثة، وهم: خالد، وهشام، وعمارة. «1»
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً والتمهيد مصدر مهد، بمعنى سوى الشيء، وأزال منه ما يجعله مضطربا متنافرا، ومنه مهد الصبى. أى: المكان المعد لراحته. والمراد بالتمهيد هنا: تيسير الأمور، ونفاذ الكلمة، وجمع وسائل الرياسة له.
أى: جعلت له مالا كثيرا، وأولادا شهودا، وفضلا عن ذلك، فقد هيأت له وسائل الراحة والرياسة تهيئة حسنة، أغنته عن الأخذ والرد مع قومه، بل صار نافذ الكلمة فيهم بدون عناء أو تعب.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أن الله- تعالى- قد أعطى الوليد بن المغيرة، جماع ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة، فقد أعطاه المال الوفير، والبنين الشهود، والجاه التام الذي وصل إليه بدون جهد أو تعب.
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ بيان لما جبل عليه هذا الإنسان من طمع وشره.. أى: مع إمدادى له بكل هذه النعم، هو لا يشبع، بل يطلب المزيد منها لشدة حرصه وطمعه. و «ثم» هنا للاستبعاد والاستنكار والتأنيب، فهي للتراخي الرتبى، والجملة
__________
(1) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 437.(15/178)
معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: «جعلت ومهدت ... » أى: أعطيته كل هذه النعم، ثم بعد ذلك هو شره لا يشبع، وإنما يطلب المزيد منها ثم المزيد.
وقوله- تعالى-: كَلَّا زجر وردع وقطع لرجائه وطمعه، وحكم عليه بالخيبة والخسران. أى: كلا، لن أعطيه شيئا مما يطمع فيه، بل سأمحق هذه النعم من بين يديه، لأنه قابلها بالجحود والبطر، ومن لم يشكر النعم يعرضها للزوال، ومن شكرها زاده الله- تعالى- منها، كما قال- سبحانه-: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
وقوله: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً تعليل للزجر والردع وقطع الرجاء. أى: كلا لن أمكنه مما يريده ويتمناه.. لأنه كان إنسانا شديد المعاندة والإبطال لآياتنا الدالة على وحدانيتنا، وعلى صدق رسولنا فيما يبلغه عنا. ومن مظاهر ذلك أنه وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر ...
قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك.
ثم بين- سبحانه- ما أعده له من عذاب أليم فقال: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. والإرهاق:
الإتعاب الشديد، وتحميل الإنسان ما لا يطيقه. يقال: فلان رهقه الأمر يرهقه، إذا حل به بقهر ومشقة لا قدرة له على دفعها. ومنه قوله- تعالى-: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً.
وقوله- سبحانه-: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً....
والصعود: العقبة الشديدة، التي لا يصل الصاعد نحوها إلا بمشقة كبيرة، وتعب قد يؤدى إلى الهلاك والتلف. وهذه الكلمة صيغة مبالغة من الفعل صعد.
وهذه الآية الكريمة في مقابل قوله- تعالى- قبل ذلك: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أى: أن هذا الجاه الذي أتاه في الدنيا بدون تعب ... سيلقى في الآخرة ما هو نقيضه من تعب وإذلال..
قال صاحب الكشاف: قوله: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أى: سأغشيه عقبة شاقة المصعد.
وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
«يكلف أن يصعد عقبة في النار، كلما وضع عليها يده ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله عليها ذابت، فإذا رفعها عادت» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك أبدا» «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 648.(15/179)
ثم صور- سبحانه- حال هذا الشقي تصويرا بديعا يثير السخرية منه ومن تفكيره فقال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أى: إن هذا الشقي ردد فكره وأداره في ذهنه، وقدّر وهيأ في نفسه كلاما شنيعا يقوله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حق القرآن الكريم.
يقال: قدّر فلان الشيء في نفسه، إذا هيأه وأعده..
والجملة الكريمة تعليل للوعيد والزجر، وتقرير لاستحقاقه له، أو بيان لمظاهر عناده..
وقوله- سبحانه-: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تفكيره وتقديره، وذم شديد له على هذا التفكير السّيّئ ...
أى: إنه فكر مليا، وهيأ نفسه طويلا للنطق بما يقوله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حق القرآن، فَقُتِلَ أى: فلعن، أو عذب، وهو دعاء عليه كَيْفَ قَدَّرَ أى: كيف فكر هذا التفكير العجيب البالغ النهاية في السوء والقبح.
وقوله: ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة في ذمه، والتعجيب من سوء تقديره، وفي الدعاء عليه باللعن والطرد من رحمته- تعالى-.
والعطف بثم لإفادة التفاوت في الرتبة، وأن الدعاء عليه والتعجيب من حاله في الجملة الثانية، أشد منه في الجملة الأولى.
وقوله- تعالى- بعد ذلك: ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ... تصوير آخر لحالة هذا الشقي، يرسم حركات جسده، وخلجات قلبه، وتقاطيع وجهه.. رسما بديعا، يثير في النفوس السخرية من هذا الشقي.
أى: إنه فكر تفكيرا مليا، وقدر في نفسه ما سيقوله في شأن النبي صلى الله عليه وسلم تقديرا طويلا، ... ولم يكتف بكل ذلك، بل فكر وقدر ثُمَّ نَظَرَ أى: ثم نظر في وجوه من حوله نظرات يكسوها الجد المصطنع المتكلف، حتى لكأنه يقول لهم: اسمعوا وعوا لما سأقوله لكم..
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ أى: ثم قطب ما بين عينيه حين استعصى عليه أن يجد في القرآن مطعنا، وكلح وجهه، وتغير لونه، وارتعشت أطرافه، حين ضاقت عليه مذاهب الحيل، في أن يجد في القرآن مطعنا.
يقال: عبس فلان يعبس عبوسا، إذا قطب جبينه. وأصله من العبس وهو ما تعلق بأذناب الإبل من أبوالها وأبعارها بعد أن جف عليها.
ويقال: بسر فلان يبسر بسورا، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء.
ومنه قوله- تعالى-: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ..(15/180)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ أى: ثم إنه بعد هذا التفكير والتقدير، وبعد هذا العبوس والبسور، بعد ذلك أدبر عن الحق، واستكبر عن قبوله.
فَقالَ- على سبيل الغرور والجحود- إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أى: ما هذا القرآن الذي يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم علينا، إلا سحر مأثور أى: مروى عن الأقدمين، ومنقول من أقوالهم وكلامهم.
وجملة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ بدل مما قبلها، أى: ما هذا القرآن إلا سحر مأثور عن السابقين، فهو من كلام البشر، وليس من كلام الله- تعالى- كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى «ثم» الداخلة في تكرير الدعاء؟ قلت:
الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى، ونحوه قوله: ألا يا أسلمي ثم أسلمي، ثمّت أسلمي.
فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت: الدلالة على أنه قد تأتى في التأمل والتمهل، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخيا وتباعدا..
فإن قلت: فلم قيل: فَقالَ إِنْ هذا ... بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟ قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب، لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.
فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الوعيد الشديد الذي توعد به هذا الشقي الأثيم فقال:
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وسقر: اسم لطبقة من طبقات جهنم، والجملة الكريمة بدل من قوله:
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أى: سأحرقه بالنار المتأججة الشديدة الاشتعال.
وقوله: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ تهويل من حال هذه النار وتفظيع لشدة حرها.
أى: وما أدراك ما حال سقر؟ إن حالها وشدتها لا تستطيع العبارة أن تحيط بها.
وجملة لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ.
أى: هذه النار لا تبقى شيئا فيها إلا أهلكته، ولا تترك من يلقى فيها سليما، بل تمحقه محقا، وتبلعه بلعا، وتعيده- بأمر الله تعالى- إلى الحياة مرة أخرى ليزداد من العذاب، كما
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 650.(15/181)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
قال- تعالى-: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ....
وقوله: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ صفة ثالثة من صفات سقر.
ومعنى: لَوَّاحَةٌ مغيّرة للبشرات. مسوّدة للوجوه، صيغة مبالغة من اللّوح بمعنى تغيير الشيء يقال: فلان لوّحته الشمس، إذا سوّدت ظاهره وأطرافه. والبشر: جمع بشرة وهي ظاهر الجلد.
أى: أن هذه النار من صفاتها- أيضا- أنها تغير ألوان الجلود، فتجعلها مسودة بعد أن كانت على غير هذا اللون، وأنها تنزل بالأجساد من الآلام ما لا يعلمه إلا الله- تعالى-.
وقوله- تعالى-: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ صفة رابعة من صفات سقر. أى: على هذه النار تسعة عشر ملكا، يتولون أمرها، وينفذون ما يكلفهم الله- تعالى- في شأنها.
قال القرطبي: قوله- تعالى- عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أى: على سقر تسعة عشر من الملائكة، يلقون فيها أهلها. ثم قيل: على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها.
مالك وثمانية عشر ملكا.
ويحتمل أن يكون التسعة عشر نقيبا. ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم، وعلى هذا أكثر المفسرين.. «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته وحكمته، وابتلائه لعباده بشتى أنواع الابتلاء، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.
فقال- تعالى-:
[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
__________
(1) تفسير القرطبي ج 19 ص 79. [.....](15/182)
قال الإمام ابن كثير: يقول الله- تعالى-: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ أى: خزانها إِلَّا مَلائِكَةً أى: غلاظا شدادا. وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة.
فقال أبو جهل: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله- تعالى-:
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً. أى: شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون.
وقد قيل: إن أبا الأشد- واسمه: كلدة بن أسيد بن خلف- قال: يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر، إعجابا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة- فيما يزعمون- أنه كان يقف على جلد البقرة. ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد، ولا يتزحزح عنه.. «1» .
وقال الجمل في حاشيته: قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ.
قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! محمد صلى الله عليه وسلم يخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟.
فقال أبو الأشد: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بطني.
واكفوني أنتم اثنين.. فأنزل الله- تعالى-: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً.. «2» .
والمقصود من هذه الآية الكريمة الرد على المشركين، الذين سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم عند ما عرفوا منه أن على سقر تسعة عشر ملكا يتولون أمرها..
أى: إننا أوجدنا النار لعذاب الكافرين، وما جعلنا خزنتها إلا من الملائكة الغلاظ الشداد، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والذين لا قدرة لأحد من البشر على مقاومتهم أو مخالفة أمرهم، لأنهم أشد بأسا، وأقوى بطشا من كافة الإنس والجن..
والاستثناء من عموم الأنواع. أى: وما جعلنا أصحاب النار إلا من نوع الملائكة، الذين لا قدرة لأحد من البشر على مقاومتهم..
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 294.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 440.(15/183)
وقوله- سبحانه-: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا بيان لحكمة أخرى من ذكر هذا العدد..
والفتنة بمعنى الاختبار والامتحان. تقول: فتنت الذهب بالنار، أى: اختبرته بها، لتعلم جودته من رداءته. وقوله: إِلَّا فِتْنَةً مفعول ثان لقوله جَعَلْنا والكلام على حذف مضاف..
أى: وما جعلنا عدة خزنة النار تسعة عشر، إلا ليكون هذا العدد سبب فتنة واختبار للذين كفروا، ولقد زادهم هذا الامتحان والاختبار جحودا وضلالا، ومن مظاهر ذلك أنهم استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند ما قرأ عليهم القرآن، فحق عليهم عذابنا ووعيدنا..
قال الإمام الرازي: وإنما صار هذا العدد سببا لفتنة الكفار من وجهين: الأول أن الكفار كانوا يستهزئون ويقولون: لم لا يكونون عشرين- بدلا من تسعة عشر- وما المقتضى لتخصيص هذا العدد؟.
والثاني أن الكفار كانوا يقولون: هذا العدد القليل، كيف يكون وافيا بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس..؟
وأجيب عن الأول: بأن هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض، وأفعال الله- تعالى- لا تعلل، فلا يقال فيها لم كان هذا العدد، فإن ذكره لحكمة لا يعلمها إلا هو- سبحانه-.
وأجيب عن الثاني: بأنه لا يبعد أن الله- تعالى- يعطى ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك، فقد اقتلع جبريل وحده. مدائن قوم لوط على أحد جناحيه، ورفعها إلى السماء.. ثم قلبها، فجعل عاليها سافلها..
- وأيضا- فأحوال القيامة، لا تقاس بأحوال الدنيا، وليس للعقل فيها مجال.. «1» .
وقوله- سبحانه-: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ...
علة أخرى، لذكر هذا العدد. والاستيقان: قوة اليقين، فالسين والتاء للمبالغة.
أى: وما جعلنا عدتهم كذلك- أيضا- إلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه، إذ أن الكتب السماوية التي بين أيديهم قد ذكرت هذا العدد. كما ذكره القرآن الكريم، وإلا ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، بصدق نبيهم صلى الله عليه وسلم، إذ أن الإخبار عن المغيبات عن طريق القرآن الكريم، من شأنها أن تجعل الإيمان في قلوب المؤمنين الصادقين، يزداد رسوخا وثباتا.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي.(15/184)
قال الإمام ابن كثير: قوله: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أى: يعلمون أن هذا الرسول حق، فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله.. «1» .
وقال الآلوسى: وأخرج الترمذي وابن مردويه عن جابر قال: قال ناس من اليهود، لأناس من المسلمين: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هكذا وهكذا» في مرة عشرة. وفي مرة تسعة.
وقال الآلوسى: واستشعر من هذا أن الآية مدنية، لأن اليهود إنما كانوا فيها، وهو استشعار ضعيف، لأن السؤال لصحابى فلعله كان مسافرا فاجتمع بيهودي حيث كان..
- وأيضا- لا مانع إذ ذاك من إتيان بعض اليهود نحو مكة.. «2» .
وقوله- تعالى-: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ معطوف على قوله:
لِيَسْتَيْقِنَ.. وهو مؤكد لما قبله، من الاستيقان وازدياد الإيمان، ونفى لما قد يعترى المستيقن من شبهة عارضة.
أى: فعلنا ما فعلنا ليكتسب أهل الكتاب اليقين من نبوته صلى الله عليه وسلم وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم. ولتزول كل ريبة أو شبهة قد تطرأ على قلوب الذين أوتوا الكتاب، وعلى قلوب المؤمنين..
وقوله- سبحانه-: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا بيان لعلة أخرى لكون خزنة سقر تسعة عشر.
أى: ما جعلنا عدتهم كذلك إلا فتنة للذين كفروا، وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا ليزداد الذين آمنوا إيمانا، وإلا لنزول الريبة من قلوب الفريقين، وإلا ليقول الذين في قلوبهم مرض، أى: شك وضعف إيمان، وليقول الكافرون المصرون على التكذيب: ما الأمر الذي أراده الله بهذا المثل، وهو جعل خزنة سقر تسعة عشر؟ فالمقصود بالاستفهام في قوله- تعالى-: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا الإنكار.
والإشارة بهذا مرجعها إلى قوله- تعالى- قبل ذلك: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ وقوله:
مَثَلًا حال من اسم الإشارة، والمراد به العدد السابق. وسموه مثلا لغرابته عندهم.
أى: ما الفائدة في أن تكون عدة خزنة سقر تسعة عشر، وليسوا أكثر أو أقل؟ وهم يقصدون بذلك نفى أن يكون هذا العدد من عنده- تعالى-.
__________
(1) تفسير ابن كثير ص 8 ص 294.
(2) تفسير الآلوسى ج 29 ص 127.(15/185)
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أى: أى شيء أراده الله- تعالى-، أو ما الذي أراده الله- تعالى- بهذا العدد المستغرب استغراب المثل.
وعلى الأول تكون ماذا بمنزلة اسم واحد.. وعلى الثاني: هي مؤلفة من كلمة ما اسم استفهام مبتدأ، وذا اسم موصول خبره، والجملة بعده صلة، والعائد فيها محذوف، ومَثَلًا نصب على التمييز أو على الحال.. وعنوا بالإشارة: التحقير، وغرضهم: نفى أن يكون ذلك من عند الله- تعالى-.. «1» .
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق، من استيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين إيمانا، واستنكار الكافرين ومن في قلوبهم مرض لهذا المثل.
أى: مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين، يضل الله- تعالى- من يشاء إضلاله من خلقه، ومثل ذلك الهدى الحاصل في قلوب المؤمنين، يهدى الله من يشاء هدايته من عباده، إذ هو- سبحانه- الخالق لكل شيء، وهو على كل شيء قدير.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يخرس ألسنة الكافرين، الذين أنكروا هذا العدد الذي جعله الله- تعالى- على سقر، ليتصرف فيها على حسب إرادته- تعالى- ومشيئته، فقال: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. والجنود: جمع جند، وهو اسم لما يتألف منه الجيش من أفراد.
والمراد بهم هنا: مخلوقاته- تعالى- الذين سخرهم لتنفيذ أمره، وسموا جنودا، تشبيها لهم بالجنود في تنفيذ مراده- سبحانه-.
أى: وما يعلم عدد جنود ربك- أيها الرسول الكريم-، ولا مبلغ قوتهم، إلا هو- عز وجل- وما هذا العدد الذي ذكرناه لك إلا جزء من جنودنا، الذين حجبنا علم عددهم وكثرتهم.. عن غيرنا.
قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى-: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أى: وما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو- تعالى-، لئلا يتوهم متوهم أنماهم تسعة عشر فقط.
وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور، الذي في السماء السابعة: فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك.. «2» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 127.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 295.(15/186)
والضمير في قوله: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ يعود إلى سقر.. أى: وما سقر التي ذكرت لكم أن عليها تسعة عشر ملكا يلون أمرها، إلا تذكرة وعظة للبشر، لأن من يتذكر حرها وسعيرها وشدة عذابها.. من شأنه، أن يخلص العبادة لله- تعالى-، وأن يقدم في دنياه العمل الصالح الذي ينفعه في أخراه.
وقيل: الضمير للآيات الناطقة بأحوال سقر. أى: وما هذه الآيات التي ذكرت بشأن سقر وأهوالها إلا ذكرى للبشر.
ثم أبطل- سبحانه- ما أنكره الذين في قلوبهم مرض، وما أنكره الكافرون مما جاء به القرآن الكريم، فقال: كَلَّا وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نَذِيراً لِلْبَشَرِ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ.
وكَلَّا حرف زجر وردع وإبطال لكلام سابق. والواو في قوله: وَالْقَمَرِ للقسم والمقسم به ثلاثة أشياء: القمر والليل والصبح، وجواب القسم قوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ....
أى: كلا، ليس الأمر كما أنكر هؤلاء الكافرون، من أن تكون عدة الملائكة الذين على سقر، تسعة عشر ملكا، أو من أن تكون سقر مصير هؤلاء الكافرين، أو من أن في قدرتهم مقاومة هؤلاء الملائكة.
كلا، ليس الأمر كذلك، وحق القمر الذي قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، وحق اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أى: وقت أن ولى ذاهبا بسبب إقبال النهار عليه، وحق الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، أى: إذا أضاء وابتدأ في الظهور والسطوع.
والضمير في قوله- تعالى-: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ يعود إلى سقر. والكبر: جمع كبرى، والمراد بها: الأمور العظام، والخطوب الجسام.
أى: إن سقر التي تهكم بها وبخزنتها الكافرون، لهى إحدى الأمور العظام، والدواهي الكبار، التي قل أن يوجد لها نظير أو مثيل في عظمها وفي شدة عذاب من يصطلى بنارها.
وأقسم- سبحانه- بهذه الأمور الثلاثة، لزيادة التأكيد، ولإبطال ما تفوه به الجاحدون، بأقوى أسلوب.
وكان القسم بهذه الأمور الثلاثة، لأنها تمثل ظهور النور بعد الظلام، والهداية بعد الضلال، ولأنها تناسب قوله- تعالى- قبل ذلك: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.(15/187)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
وانتصب لفظ «نذيرا» من قوله: نَذِيراً لِلْبَشَرِ على أنه حال من الضمير في قوله إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أى: إن سقر لعظمى العظائم، ولداهية الدواهي، حال كونها إنذارا للبشر، حتى يقلعوا عن كفرهم وفسوقهم، ويعودوا إلى إخلاص العبادة لخالقهم.
ويصح أن يكون تمييزا لإحدى الكبر، لما تضمنته من معنى التعظيم، كأنه قيل: إنها لإحدى الكبر إنذارا للبشر، وردعا لهم عن التمادي في الكفر والضلال.. فالنذير بمعنى الإنذار.
وقوله- سبحانه-: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بدل مفصل من مجمل، هذا المجمل هو قوله لِلْبَشَرِ.
أى: إن سقر لهى خير منذر للذين إن شاءوا تقدموا إلى الخير ففازوا، وإن شاءوا تأخروا عنه فهلكوا. فالمراد بالتقدم نحو الطاعة والهداية. والمراد بالتأخر: التأخر عنهما والانحياز نحو الضلال والكفر إذ التقدم تحرك نحو الأمام، وهو كناية عن قبول الحق، وبعكسه التأخر..
ويجوز أن يكون المعنى: هي خير نذير لمن شاء منكم التقدم نحوها، أو التأخر عنها.
وتعليق نَذِيراً بفعل المشيئة، للإشعار بأن عدم التذكر مرجعه إلى انطماس القلب، واستيلاء المطامع والشهوات عليه، وللإيذان بأن من لم يتذكر، فتبعة تفريطه واقعة عليه وحده، وليس على غيره.
قال الآلوسى: قوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق، أعنى لِلْبَشَرِ وضمير «شاء» للموصول. أى: نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير، والتخلف عنه. وقال السدى: أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر عنها إلى الجنة، وقال الزجاج: أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات.. «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر عدله في أحكامه: وفي بيان الأسباب التي أدت إلى فوز المؤمنين، وهلاك الكافرين.. فقال- تعالى-:
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 131.(15/188)
وقوله- تعالى-: رَهِينَةٌ خبر عن كُلُّ نَفْسٍ، وهو بمعنى مرهونة. أى: كل نفس مرهونة عند الله- تعالى- بكسبها، مأخوذة بعملها، فإن كان صالحا أنجاها من العذاب، وإن كان سيئا أهلكها، وجعلها محلا للعقاب.
قالوا: وإنما كانت مرهونة، لأن الله- تعالى- جعل تكليف عباده كالدّين عليهم، ونفوسهم تحت استيلائه وقهره، فهي مرهونة، فمن وفي دينه الذي كلف به، خلص نفسه من عذاب الله- تعالى- الذين نزل منزلة علامة الرهن، وهو أخذه في الدين، ومن لم يوف عذب. «1»
والاستثناء في قوله إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ استثناء متصل أى أن كل نفس مرهونة بعملها..
إلا أصحاب اليمين وهم المؤمنين الصادقون فإنهم مستقرون فِي جَنَّاتٍ عالية يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أى: يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين.
وهذا التساؤل إنما يكون قبل أن يروهم، فإذا ما رأوهم سألوهم بقولهم. ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أى: قال أصحاب اليمين للمجرمين: ما الذي أدخلكم في سقر، وجعلكم وقودا لنارها وسعيرها؟ والسؤال إنما هو على سبيل التوبيخ والتحسير لهؤلاء المجرمين.
وعبر- سبحانه- بقوله: ما سَلَكَكُمْ ... للإشعار بأن الزج بهم في سقر، كان بعنف وقهر، لأن السلك معناه: إدخال شيء بصعوبة وقسر، ومنه قوله- تعالى-:
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 443.(15/189)
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ثم حكى- سبحانه- ما رد به المجرمون على أصحاب اليمين فقال: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ. أى: قال المجرمون لأصحاب اليمين: الذي أدى بنا إلى الإلقاء في سقر، أننا في الدنيا لم نقم بأداء الصلاة الواجبة علينا، ولم نعط المسكين ما يستحقه من عطاء، بل بخلنا عليه، وحرمناه حقوقه..
وكنا- أيضا- في الدنيا نخوض في الأقوال السيئة وفي الأفعال الباطلة مع الخائضين فيها، دون أن نتورع عن اجتناب شيء منها.
وأصل الخوض: الدخول في الماء، ثم استعير للجدال الباطل، وللأحاديث التي لا خير من ورائها.
وكنا- أيضا- نكذب بيوم القيامة، وننكر إمكانه ووقوعه، وبقينا على هذا الإنكار والضلال حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أى: حتى أدركنا الموت، ورأينا بأعيننا صدق ما كنا نكذب به.
فأنت ترى أن هؤلاء المجرمين قد اعترفوا بأن الإلقاء بهم في سقر لم يكن على سبيل الظلم لهم، وإنما كان بسبب تركهم للصلاة وللإطعام، وتعمدهم ارتكاب الباطل من الأقوال والأفعال، وتكذيبهم بيوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء.
وقوله- سبحانه-: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ حكم منه- سبحانه- عليهم بحرمانهم ممن يشفع لهم أو ينفعهم.
أى: أن هؤلاء المجرمين لن تنفعهم يوم القيامة شفاعة أحد لهم، فيما لو تقدم أحد للشفاعة لهم على سبيل الفرض والتقدير، وإنما الشفاعة تنفع غيرهم من المسلمين.
والاستفهام في قوله: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ للتعجيب من إصرارهم على كفرهم، ومن إعراضهم عن الحق الذي دعاهم إليه نبيهم صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالتذكرة: التذكير بمواعظ القرآن وإرشاداته، والحمر: جمع حمار، والمراد به الحمار الوحشي المعروف بشدة نفوره وهروبه إذا ما أحس بحركة المقتنص له.
وقوله: مُسْتَنْفِرَةٌ أى: شديدة النفور والهرب فالسين والتاء للمبالغة.(15/190)
والقسورة: الأسد، سمى بذلك لأنه يقسر غيره من السباع ويقهرها، وقيل: القسورة اسم لجماعة الرماة الذين يطاردون الحمر الوحشية، ولا واحد له من لفظه، ويطلق هذا اللفظ عند العرب على كل من كان بالغ النهاية في الضخامة والقوة. من القسر بمعنى القهر. أى:
ما الذي حدث لهؤلاء الجاحدين المجرمين، فجعلهم يصرون إصرارا تاما على الإعراض عن مواعظ القرآن الكريم، وعن هداياته وإرشاداته، وأوامره ونواهيه.. حتى لكأنهم- في شدة إعراضهم عنه، ونفورهم منه- حمر وحشية قد نفرت بسرعة وشدة من أسد يريد أن يفترسها، أو من جماعة من الرماة أعدوا العدة لاصطيادها؟.
قال صاحب الكشاف: شبههم- سبحانه- في إعراضهم عن القرآن، واستماع الذكر والموعظة، وشرادهم عنه- بحمر جدت في نفارها مما أفزعها.
وفي تشبيههم بالحمر: مذمة ظاهرة، وتهجين لحالهم بين، كما في قوله- تعالى-:
كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش، واطرادها في العدو، إذا رابها رائب ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب، في وصف الإبل، وشدة سيرها، بالحمر، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص.. «1» .
والتعبير بقوله: فَما لَهُمْ ... وما يشبهه قد كثر استعماله في القرآن الكريم، كما في قوله- تعالى-: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ... والمقصود منه التعجيب من إصرار المخاطبين على باطلهم، أو على معتقد من معتقداتهم.. مع أن الشواهد والبينات تدل على خلاف ذلك.
وقال- سبحانه- عَنِ التَّذْكِرَةِ بالتعميم، ليشمل إعراضهم كل شيء يذكرهم بالحق، ويصرفهم عن الباطل.
وقوله- سبحانه-: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً معطوف على كلام مقدر يقتضيه المقام، وهو بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة.
والصحف: جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيها. ومنشره: صفة لها والمراد بها: الصحف المفتوحة غير المطوية. بحيث يقرؤها كل من رآها.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية: أن المشركين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم لن نتبعك حتى تأتى لكل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه: من رب العالمين، إلى فلان بن فلان، نؤمر في هذا الكتاب باتباعك.
أى: إن هؤلاء الكافرين لا يكتفون بمواعظ القرآن.. بل يريد كل واحد منهم أن يعطى
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 656.(15/191)
صحفا مفتوحة، وكتبا غير مطوية، بحيث يقرؤها كل من يراها. وفيها الأمر من الله- تعالى- لهم بوجوب اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ...
وقوله- سبحانه- كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ إبطال آخر لكلامهم، وزجر لهم عن هذا الجدال السخيف. أى: كلا ليس الأمر كما أرادوا وزعموا بل الحق أن هؤلاء القوم لا يخافون الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء، لأنهم لو كانوا يخافون لما اقترحوا تلك المقترحات السخيفة المتعنتة..
وقوله- تعالى- بعد ذلك: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ زجر آخر مؤكد للزجر السابق. أى:
كلا ثم كلا، لن نمكنهم مما يريدون، ولن نستجيب لمقترحاتهم السخيفة.. لأن القرآن الكريم فيه التذكير الكافي، والوعظ الشافي، لمن هو على استعداد للاستجابة لذلك.
فالضمير في إِنَّهُ يعود إلى القرآن، لأنه معلوم من المقام، والجملة بمنزلة التعليل للردع عن سؤالهم الذي اقترحوا فيه تنزيل صحف مفتوحة من عند الله- تعالى- تأمرهم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم..
وقوله- سبحانه-: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تفريع عن كون القرآن تذكرة وعظة لمن كان له قلب يفقه، أو عقل يعقل.
أى: إن القرآن الكريم مشتمل على ما يذكر الإنسان بالحق، وما يهديه إلى الخير والرشد، فمن شاء أن يتعظ به اتعظ، ومن شاء أن ينتفع بهداياته انتفع، ومن شاء أن يذكر أوامره ونواهيه وتكاليفه.. فعل ذلك، وظفر بما يسعده، ويشرح صدره.
والتعبير بقوله- تعالى- فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ يشعر بأن تذكر القرآن وحفظه. والعمل بأحكامه وإرشاداته.. في إمكان كل من كان عنده الاستعداد لذلك.
أى: إن التذكر طوع مشيئتكم- أيها الناس- متى كنتم جادين وصادقين ومستعدين لهذا التذكر، فاعملوا لذلك بدون إبطاء أو تردد..
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بما يدل على نفاذ مشيئته وإرادته فقال:
وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.
أى: فمن شاء أن يذكر القرآن وما فيه من مواعظ ذكر ذلك، ولكن هذا التذكر والاعتبار والاتعاظ. لا يتم بمجرد مشيئتكم، وإنما يتم في حال مشيئة الله- تعالى- وإرادته، فهو(15/192)
- سبحانه- أهل التقوى، أى: هو الحقيق بأن يتقى ويخاف عذابه، وهو- عز وجل- «أهل المغفرة» أى: هو- وحده- صاحب المغفرة لذنوب عباده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فالمقصود من الآية الكريمة، بيان أن هذا التذكر لمواعظ القرآن، لا يتم إلا بعد إرادة الله- تعالى- ومشيئة، لأنه هو الخالق لكل شيء، وبيان أن مشيئة العباد لا أثر لها إلا إذا كانت موافقة لمشيئة الله، التي لا يعلمها أحد سواه.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فقال: قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معى إله، فمن اتقاني فلم يجعل معى إلها آخر، فأنا أهل أن أغفر له.
وبعد: فهذا تفسير لسورة المدثر، نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(15/193)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة القيامة
مقدمة وتمهيد
1- سورة «القيامة» من السور المكية الخالصة، وتعتبر من السور التي كان نزولها في أوائل العهد المكي، فهي السورة الحادية والثلاثون في ترتيب النزول، وكان نزولها بعد سورة (القارعة) وقبل سورة (الهمزة) . أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الخامسة والسبعون.
وعدد آياتها أربعون آية في المصحف الكوفي، وتسع وثلاثون في غيره.
2- والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة، وعن أحوال الناس فيه:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ.
كما أنها تتحدث عن إمكانية البعث، وعن حتمية وقوعه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟.
ولقد روى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه قال: من سأل عن يوم القيامة، أو أراد أن يعرف حقيقة وقوعه، فليقرأ هذه السورة.(15/195)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
افتتح الله- تعالى- هذه السورة الكريمة بقوله- تعالى-: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ.
وللعلماء في مثل هذا التركيب أقوال منها: أن حرف «لا» هنا جيء به، لقصد المبالغة في تأكيد القسم، كما في قولهم: لا والله.
قال الآلوسى: إدخال «لا» النافية صورة على فعل القسم، مستفيض في كلامهم وأشعارهم.
ومنه قول امرئ القيس: لا وأبيك يا ابنة العامري.. يعنى: وأبيك.
ثم قال: وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك، أن «لا» هذه، إذا وقعت في خلال(15/196)
الكلام كقوله- تعالى- فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ فهي صلة تزاد لتأكيد القسم، مثلها في قوله- تعالى-: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ لتأكيد العلم.. «1» .
ومنها: أن «لا» هنا، جيء بها لنفى ورد كلام المشركين المنكرين ليوم القيامة، فكأنه- تعالى- يقول: لا، ليس الأمر كما زعموا، ثم قال: أقسم بيوم القيامة الذي يبعث فيه الخلق للجزاء.
قال القرطبي: وذلك كقولهم: لا والله لا أفعل. فلا هنا رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروها.. «2» .
ومنها: أن «لا» في هذا التركيب وأمثاله على حقيقتها للنفي، والمعنى لا أقسم بيوم القيامة ولا بغيره، على أن البعث حق، فإن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى قسم.
وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال: وصيغة لا أقسم، صيغة قسم، أدخل حرف النفي على فعل «أقسم» لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به، بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به، ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول: لا أقسم به، أى:
ولا أقسم بأعز منه عندي. وذلك كناية عن تأكيد القسم «3» .
والمراد بالنفس اللوامة: النفس التقية المستقيمة التي تلوم ذاتها على ما فات منها، فهي- مهما أكثرت من فعل الخير- تتمنى أن لو ازدادت من ذلك، ومهما قللت من فعل الشر، تمنت- أيضا- أن لو ازدادت من هذا التقليل.
قال ابن كثير: عن الحسن البصري في هذه الآية: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتى؟ ... وإن الفاجر يمضى قدما ما يعاتب نفسه.
وفي رواية عن الحسن- أيضا- ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة» «4» .
وجواب القسم يفهم من قوله- تعالى- بعد ذلك: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. والمراد بالإنسان: جنسه. أو المراد به الكافر المنكر للبعث. والاستفهام للتوبيخ والتقريع.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 29 ص 135.
(2) راجع تفسير القرطبي ج 19 ص 92.
(3) تفسير التحرير والتنوير ج 29 ص 338 للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(4) تفسير ابن كثير ج 8 ص 300. [.....](15/197)
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد حدثني عن يوم القيامة، فأخبره صلى الله عليه وسلم عنه. فقال المشرك: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك- يا محمد- أو يجمع الله العظام. فنزلت هذه الآية.
والمعنى: أقسم بيوم القيامة الذي لا شك في وقوعه في الوقت الذي نشاؤه، وأقسم بالنفس اللوامة التقية التي تلوم ذاتها على الخير، لماذا لم تستكثر منه، وعلى الشر لماذا فعلته، لنجمعن عظامكم- أيها الناس- ولنبعثنكم للحساب والجزاء.
وافتتح- سبحانه- السورة الكريمة بهذا القسم، للإيذان بأن ما سيذكر بعده أمر مهم، من شأن النفوس الواعية أن تستشرف له، وأن تستجيب لما اشتمل عليه من هدايات وإرشادات.
ووصف- سبحانه- النفس باللوامة بصيغة المبالغة للإشعار بأنها كريمة مستقيمة تكثر من لوم ذاتها، وتحض صاحبها على المسارعة في فعل الخيرات.
والعظام المراد بها الجسد، وعبر عنه بها، لأنه لا يقوم إلا بها، وللرد على المشركين الذين استبعدوا ذلك، وقالوا- كما حكى القرآن عنهم-: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ.
وقوله- سبحانه-: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ تأكيد لقدرته- تعالى- على إحياء الموتى بعد أن صاروا عظاما نخرة، وإبطال لنفيهم إحياء العظام وهي رميم.
وقادِرِينَ حال من فاعل الفعل المقدر بعد بلى. وقوله: نُسَوِّيَ من التسوية، وهي تقويم الشيء وجعله متقنا مستويا، يقال: سوى فلان الشيء إذا جعله متساويا لا عوج فيه ولا اضطراب.
والبنان: جمع بنانة، وهي أصابع اليدين والرجلين، أو مفاصل تلك الأصابع وأطرافها.
أى: ليس الأمر كما زعم هؤلاء المشركون من أننا لا نعيد الإنسان إلى الحياة بعد موته للحساب والجزاء، بل الحق أننا سنجمعه وسنعيده إلى الحياة حالة كوننا قادرين قدرة تامة، على هذا الجمع لعظامه وجسده، وعلى جعل أصابعه وأطرافه وأنامله مستوية الخلق، متقنة الصنع، كما كانت قبل الموت.
وخصت البنان بالذكر، لأنها أصغر الأعضاء، وآخر ما يتم به الخلق، فإذا كان- سبحانه- قادرا على تسويتها مع لطافتها ودقتها، فهو على غيرها مما هو أكبر منها أشد قدرة.
وقوله- تعالى- بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ بيان لحال أخرى من أحوال فجور(15/198)
هؤلاء المشركين وطغيانهم، وانتقال من إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال هذا الإنسان.
والفجور: يطلق على القول البالغ النهاية في السوء، وعلى الفعل القبيح المنكر، ويطلق على الكذب، ولذا وصفت اليمين الكاذبة، باليمين الفاجرة فيكون فجر بمعنى كذب، وزنا ومعنى.
ولفظ «الأمام» يطلق على المكان الذي يكون في مواجهة الإنسان، والمراد به هنا:
الزمان المستقبل وهو يوم القيامة، الذي دل عليه قوله- تعالى- بعد ذلك: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ.
أى: أن هذا الإنسان المنكر للبعث والحساب لا يريد أن يكف عن إنكاره وكفره، بل يريد أن يستمر على فجوره وتكذيبه لهذا اليوم بكل إصرار وجحود، فهو يسأل عنه سؤال استهزاء وتهكم فيقول: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أى: متى يجيء يوم القيامة هذا الذي تتحدثون عنه- أيها المؤمنون- وتخشون ما فيه من حساب وجزاء؟
قال القرطبي: قوله- تعالى-: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ قال ابن عباس:
يعنى الكافر. يكذب بما أمامه من البعث والحساب.. ودليله يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ.
أى: يسأل متى يكون؟ على وجه التكذيب والإنكار، فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب.
ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل أن الفجور: التكذيب، ما ذكره القتبى وغيره، من أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب، وشكا إليه نقب إبله ودبرها- أى: مرضها وجربها- وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله. فقال الأعرابى.
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر يعنى إن كان كذبني فيما ذكرت.. «1» .
وأعيد لفظ الإنسان في هذه الآيات أكثر من مرة، لأن المقام يقتضى توبيخه وتقريعه، وتسجيل الظلم والجحود عليه.
والضمير في «أمامه» يجوز أن يعود إلى يوم القيامة. أى: بل يريد الإنسان ليكذب بيوم القيامة. الثابت الوقوع في الوقت الذي يشاؤه الله- عز وجل-.
ويجوز أن يعود على الإنسان، فيكون المعنى: بل يريد الإنسان أن يستمر في فجوره وتكذيبه بيوم القيامة في الحال وفي المآل. أى: أن المراد بأمامه: مستقبل أيامه.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 19 ص 94.(15/199)
وجيء بلفظ «أيان» الدال على الاستفهام للزمان البعيد، للإشعار بشدة تكذيبهم، وإصرارهم على عدم وقوعه في أى وقت من الأوقات.
ثم ساق- سبحانه- جانبا من أهوال يوم القيامة، على سبيل التهديد والوعيد لهؤلاء المكذبين.
فقال: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ.
و «برق» - بكسر الراء وفتحها- دهش وفزع وتحير ولمع من شدة شخوصه وخوفه.
يقال: برق بصر فلان- كفرح ونصر- إذا نظر إلى البرق فدهش وتحير.
والمراد بخسوف القمر: انطماس نوره، واختفاء ضوئه.
والمراد بجمع الشمس والقمر: اقترانهما ببعضهما بعد افتراقهما واختلال النظام المعهود للكون، اختلالا تتغير معه معالمه ونظمه. وجواب فَإِذا قوله: يَقُولُ الْإِنْسانُ أى: فإذا برق بصر الإنسان وتحير من شدة الفزع والخوف، بعد أن رأى ما كان يكذب به في الدنيا.
والتعريف في البصر: للاستغراق، إذ أبصار الناس جميعا في هذا اليوم، تكون في حالة فزع، إلا أن هذا الفزع يتفاوت بينهم في شدته.
وَخَسَفَ الْقَمَرُ أى: ذهب ضوؤه. وانطمس نوره.
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أى: وقرن بينهما بعد أن كانا متفرقين.
والتصقا بعد أن كانا متباعدين، وغاب ضوؤهما بعد أن كانا منيرين.
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أى: فإذا ما تم كل ذلك، يقول الإنسان في هذا الوقت الذي يبرق فيه البصر، ويخسف فيه القمر، ويجمع فيه بين الشمس والقمر: أين المفر. أى: أين الفرار من قضاء الله- تعالى- ومن قدره وحسابه. فالمفر مصدر بمعنى الفرار. والاستفهام بمعنى التمني أى: ليت لي مكانا أفر إليه مما أراه.
وقوله- سبحانه-: كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ إبطال لهذا التمني، ونفى لأن يكون لهذا الإنسان مهرب من الحساب.
والوزر: المراد به الملجأ والمكان الذي يحتمي به الشخص للتوقي مما يخافه، وأصله: الجبل المرتفع المنيع، من الوزر وهو الثقل.(15/200)
أى: كلا لا وزر ولا ملجأ لك. أيها الإنسان- من المثول أمام ربك في هذا اليوم للحساب والجزاء.
ومهما طال عمرك، وطال رقادك في قبرك.. فإلى ربك وحده نهايتك ومستقرك ومصيرك، في هذا اليوم الذي لا محيص لك عنه.
وقوله- سبحانه- يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
بيان لما يحدث له يوم القيامة، أى: يخبر الإنسان في هذا اليوم بما قدم من أعمال حسنة. وبما أخر منها فلم يعملها، مع أنه كان في إمكانه أن يعملها، والمقصود بالآية المجازاة على الأعمال لا مجرد الإخبار.
قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى-: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
أى:
يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال- سبحانه-:
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «1» .
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ.
والبصيرة هنا بمعنى الحجة المشاهدة عليه، وهي خبر عن المبتدأ وهو الْإِنْسانُ والجار والمجرور متعلق بلفظ بصيرة والهاء فيها للمبالغة، مثل هاء علامة ونسابة.
أى: بل الإنسان حجة بينة على نفسه، وشاهدة بما كان منه من الأعمال السيئة، ولو أدلى بأية حجة يعتذر بها عن نفسه. لم ينفعه ذلك.
قال صاحب الكشاف: بَصِيرَةٌ
أى: حجة بينة، وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أو: عين بصيرة والمعنى أنه ينبأ بأعماله، وإن لم ينبأ ففيه ما يجزئ عن الإنباء، لأنه شاهد عليها بما عملت، لأن جوارحه تنطق بذلك، كما قال- تعالى- يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أى: ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها.
وعن الضحاك: ولو أرخى ستوره، وقال: المعاذير: الستور، واحدها معذار، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب..
فإن قلت: أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت: المعاذير ليس بجمع معذرة، إنما هو اسم جمع لها. ونحوه: المناكير في المنكر «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 302.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 661.(15/201)
فالمقصود بهاتين الآيتين: بيان أن الإنسان لن يستطيع أن يهرب من نتائج عمله مهما حاول ذلك، لأن جوارحه شاهدة عليه، ولأن أعذاره لن تكون مقبولة، لأنها جاءت في غير وقتها، كما قال- تعالى-: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
ثم أرشد الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم إلى ما يجب عليه عند تبليغ القرآن إليه عن طريق الوحى. فقال- سبحانه-: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ.
والضمير في بِهِ
يعود إلى القرآن الكريم المفهوم من المقام. والمراد بقوله:
لا تُحَرِّكْ
نهيه صلى الله عليه وسلم عن التعجل في القراءة.
والمقصود بقوله: قرآنه، قراءته عليك، وتثبيته على لسانك وفي قلبك بحيث تقرؤه متى شئت فهو مصدر مضاف لمفعوله.
قال الآلوسى: قوله: وَقُرْآنَهُ
أى: إثبات قراءته في لسانك، فالقرآن هنا، وكذا فيما بعده، مصدر كالرجحان بمعنى القراءة.. مضاف إلى المفعول وقيل: قرآنه، أى: تأليفه على لسانك.. «1» .
أى: لا تتعجل- أيها الرسول الكريم- بقراءة القرآن الكريم عند ما تسمعه من أمين وحينا جبريل- عليه السلام-، بل تريث وتمهل حتى ينتهى من قراءته ثم اقرأ من بعده، فإننا قد تكفلنا بجمعه في صدرك وبقراءته عليك عن طريق وحينا، وما دام الأمر كذلك، فمتى قرأ عليك جبريل القرآن فاتبع قراءته ولا تسبقه بها، ثم إن علينا بعد ذلك بيان ما خفى عليك منه، وتوضيح ما أشكل عليك من معانيه.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه هذا تعليم من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحى من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته.
روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه- يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلت منه شيء، أو من شدة رغبته في حفظه- فأنزل الله- تعالى- هذه الآيات «2» .
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يجمع له القرآن في صدره وأن يجريه على لسانه، بدون أى تحريف أو تبديل، وأن يوضح له ما خفى عليه منه.
قالوا: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما نزل عليه الوحى بعد ذلك بالقرآن، أطرق وأنصت، وشبيه بهذه الآيات قوله- سبحانه-: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، وَلا تَعْجَلْ
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 142.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 304.(15/202)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى إلى الحديث عن يوم القيامة، وعن أحوال الناس فيه، وعن حالة الإنسان في وقت الاحتضار، وعن مظاهر قدرته- تعالى- وعن حكمته في البعث والحساب والجزاء، فقال- سبحانه-:
[سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 40]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34)
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39)
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
وقوله- سبحانه- كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ بيان لما جبل عليه كثير من الناس، من إيثارهم منافع الدنيا الزائلة، على منافع الآخرة الباقية، وزجر ونهى لهم عن سلوك هذا المسلك، الذي يدل على قصر النظر، وضعف التفكير.
أى: كلا- أيها الناس- ليس الرشد في أن تتركوا العمل الصالح الذي ينفعكم يوم القيامة، وتعكفوا على زينة الحياة الدنيا العاجلة.. بل الرشد كل الرشد في عكس ذلك، وهو أن تأخذوا من دنياكم وعاجلتكم ما ينفعكم في آخرتكم، كما قال- سبحانه-: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى- إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا «1» .
__________
(1) سورة الإنسان الآية 27.(15/203)
ثم يبين- سبحانه- حال السعداء والأشقياء يوم القيامة فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ.
وقوله: ناضِرَةٌ اسم فاعل من النّضرة- بفتح النون المشددة وسكون الضاد- وهي الجمال والحسن. تقول: وجه نضير، إذا كان حسنا جميلا.
وقوله: باسِرَةٌ من البسور وهو شدة الكلوح والعبوس، ومنه قوله- تعالى-:
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ يقال: بسر فلان يبسر بسورا، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء الذي يراه.
والفاقرة: الداهية العظيمة التي لشدتها كأنها تقصم فقار الظهر. يقال: فلان فقرته الفاقرة، أى: نزلت به مصيبة شديدة أقعدته عن الحركة. وأصل الفقر: الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم أو ما يقرب منه.
والمراد بقوله: يَوْمَئِذٍ: يوم القيامة الذي تكرر ذكره في السورة أكثر من مرة.
والجملة المقدرة المضاف إليها «إذ» والمعوض عنها بالتنوين تقديرها يوم إذ برق البصر.
والمعنى: في يوم القيامة، الذي يبرق فيه البصر، ويخسف القمر.. تصير وجوه حسنة مشرقة، ألا وهي وجوه المؤمنين الصادقين.. وهذه الوجوه تنظر إلى ربها في هذا اليوم نظرة سرور وحبور، بحيث تراه- سبحانه- على ما يليق بذاته، وكما يريد أن تكون رؤيته- عز وجل- بلا كيفية، ولا جهة، ولا ثبوت مسافة.
وهناك وجوه أخرى تصير في هذا اليوم كالحة شديدة العبوس، وهي وجوه الكافرين والفاسقين عن أمر ربهم، وهذه الوجوه تَظُنُّ أى: تعتقد أو تتوقع، أن يفعل بها فعلا يهلكها، ويقصم ظهورها لشدته وقسوته.
وجاء لفظ «وجوه» في الموضعين منكرا، للتنويع والتقسيم، كما في قوله- تعالى- فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وكما في قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
وقد أخذ العلماء من قوله- تعالى-: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أن الله- تعالى- يتكرم على عباده المؤمنين في هذا اليوم، فيربهم ذاته بالكيفية التي يريدها- سبحانه-.
ومنهم من فسر ناظِرَةٌ بمعنى منتظرة، أى: منتظرة ومتوقعة ما يحكم الله- تعالى- به عليها.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات: وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله- عز وجل-(15/204)
في الدار الآخرة، في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها. لحديث أبى سعيد وأبى هريرة- وهما في الصحيحين- أن ناسا قالوا:
يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب» قالوا: لا، قال: «فإنكم ترون ربكم كذلك» .
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر» .
ثم قال ابن كثير- رحمه الله-: وهذا- بحمد الله- مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة. كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام.
ومن تأول إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فقال: تنتظر الثواب من ربها.. فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه. وأين هو من قوله- تعالى- كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ.
قال الشافعى: ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه- عز وجل-.. «1» .
ثم زجر- سبحانه- الذين يكذبون بيوم الدين، ويؤثرون العاجلة على الآجلة، زجرهم بلون آخر من ألوان الردع والزجر، حيث ذكرهم بأحوالهم الأليمة عند ما يودعون هذه الدنيا فقال: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ.
والضمير في بَلَغَتِ يعود إلى الروح المعلومة من المقام. كما في قوله- تعالى- فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ.. ومنه قول الشاعر:
أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
والتراقي: جمع ترقوة، وهي العظام المحيطة بأعالى الصدر عن يمينه، وعن شماله، وهي موضع الحشرجة، وجواب الشرط محذوف.
أى: حتى إذا بلغت روح الإنسان التراقي، وأوشكت أن تفارق صاحبها.. وجد كل إنسان ثمار عمله الذي عمله في دنياه، وانكشفت له حقيقة عاقبته.
والمقصود من الآية الكريمة وما بعدها: الزجر عن إيثار العاجلة على الآجلة.
فكأنه- تعالى- يقول: احذروا- أيها الناس- ذلك قبل أن يفاجئكم الموت، وقبل أن تبلغ أرواحكم نهايتها، وتنقطع عند ذلك آمالكم.
وقوله- سبحانه-: وَقِيلَ مَنْ راقٍ
بيان لما يقوله أحباب الإنسان الذي بلغت
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 305.(15/205)
روحه التراقي، على سبيل التحسر والتوجع واستبعاد شفائه. ومَنْ
اسم استفهام مبتدأ. وراقٍ
خبره، وهو اسم فاعل من الرّقية، وهي كلام يقوله القائل، أو فعل يفعله الفاعل من أجل شفاء المريض. والمراد به هنا: مطلق الطبيب الذي يرجى على يديه الشفاء لهذا المحتضر.
أى: اذكروا- أيها الناس- وقت بلوغ الروح نهايتها، ووقت أن وقف من يهمهم أمر المريض مستسلمين لقضاء الله- تعالى- وملتمسين من كل من بيده شفاء مريضهم، أن يتقدم لإنقاذه مما هو فيه من كرب، ولكنهم لا يجدون أحدا يحقق لهم آمالهم.
قال الآلوسى: قوله وَقِيلَ مَنْ راقٍ
أى: وقال من حضر صاحبها، من يرقيه وينجيه مما هو فيه، من الرقية، وهو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك، ولعله أريد به مطلق الطبيب، أعم من أن يطب بالقول أو بالفعل.. والاستفهام عند البعض حقيقى. وقيل: هو استفهام استبعاد وإنكار. أى: قد بلغ هذا المريض مبلغا لا أحد يستطيع أن يرقيه.
وقيل هذا الكلام من كلام ملائكة الموت. أى: أيكم يرقى بروحه، أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب، من الرقى وهو العروج. والاستفهام عليه حقيقى.
ووقف حفص رواية عن عاصم على مَنْ
وابتدأ بقوله: راقٍ
وكأنه قصد أن لا يتوهم أنهما كلمة واحدة، فسكت سكتة لطيفة، لتشعر أنهما كلمتان «1» .
والضمير المستتر في قوله- تعالى-: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ يعود إلى هذا الإنسان الذي أشرف على الموت، والذي بلغت روحه نهاية حياتها، والظن هنا بمعنى اليقين، أو بمعنى العلم المقارب لليقين.
أى: وأيقن هذا المحتضر، أو توقع أن نهايته قد اقتربت، وأنه عما قليل سيودع أهله وأحبابه ... وسيفارقهم فراقا لا لقاء بعده، إلا يوم يقوم الناس للحساب.
وقوله- تعالى-: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أى: والتوت والتصقت إحدى ساقيه بالأخرى. عند سكرات الموت وشدته، فصارتا متلاصقتين لا تكاد إحداهما تتزحزح عن الأخرى، فكأنهما ملتفتان.
ويصح أن يكون المعنى: والتفت الساق بالساق عند وضع هذا الذي أدركه الموت في كفنه، لأن هذا الكفن قد ضم جميع جسده، والتصقت كل ساق بالأخرى.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 146.(15/206)
ومنهم من يرى أن هذه الآية الكريمة: كناية عن هول الموت وشدته كما في قوله- تعالى-: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام، ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق.
قال صاحب الكشاف: «والتفت» ساقه بساقه والتوت عليها عند الموت، وعن قتادة:
ماتت رجلاه فلا تحملانه وقد كان عليهما جوالا. وقيل: التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، على أن الساق مثل في الشدة. وعن سعيد ابن المسيب: هما ساقاه حين تلفان في أكفانه «1» .
وقوله- سبحانه-: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أى: إلى ربك- أيها الرسول الكريم- مساق الناس ومرجعهم- لا إلى غيره- يوم القيامة.. لكي يحاسبوا على أعمالهم.
فالمساق مصدر ميمى من ساق الشيء إذا سيره أمامه إلى حيث يريد.
ثم بين- سبحانه- جانبا من الأسباب التي أدت إلى سوء عاقبة المكذبين للحق، فقال- تعالى-: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى.
والفاء للتفريع على ما تقدم، من قوله- تعالى-: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ.. إلخ.
أو للتفريع والعطف على قوله- سبحانه-: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ.. أى: أن هذا الإنسان الذي أنكر الحساب والجزاء، وفارق الحياة، كانت عاقبة أمره خسرا، فلا هو صدق بالحق الذي جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا هو أدى الصلاة التي فرضها الله- تعالى- عليه، ولكنه كذب بكل ذلك، وتولى، وأعرض عن سبيل الرشاد.
ثم بعد ذلك: ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أى: ذهب إلى أهله متبخترا متفاخرا، متباهيا بإصراره على كفره وفجوره.
وقوله: يَتَمَطَّى من المط بمعنى المد. وأصله: يتمطط، قلبت فيه الطاء حرف علة، ووصف المتبختر في مشيه بذلك، لأنه يمط خطاه، ويمدها على سبيل الإعجاب بنفسه، والتباهي بما هو عليه من كفر وضلال.
ولم يذكر- سبحانه- المتعلق والمفعول في الآيات الكريمة، للإشعار بأن هذا الإنسان الجاحد الجاهل.. لم يصدق بشيء من الحق، ولم يؤد لله- تعالى- فرضا ولا سنة، ولكنه
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 663.(15/207)
استمر على تكذيبه وإعراضه عن الصراط المستقيم، ولم يكتف بكل ذلك، بل تفاخر وتباهي أمام غيره بما هو عليه من باطل.
وقوله- سبحانه-: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى دعاء على هذا الإنسان الشقي، المصر على إعراضه عن الحق.. بالهلاك وسوء العاقبة. وأَوْلى اسم تفضيل من ولى، وفاعله ضمير محذوف يقدره كل قائل أو سامع بما يدل على المكروه.
والكاف في قوله لَكَ للتبيين، والكاف خطاب لهذا الإنسان المخصوص بالدعاء عليه.
وقوله: فَأَوْلى تأكيد لقوله أَوْلى لَكَ وجملة ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى مؤكدة للجملة الأولى. أى: أجدر بك هذا الهلاك الذي ينتظرك قريبا- أيها الإنسان- الجاحد، ثم أجدر بك، لأنك أصررت على كل ما هو باطل وسوء.
قال القرطبي ما ملخصه: هذا تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد..
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال: «أولى لك فأولى» .
فقال أبو جهل: أتهددني- يا محمد- فو الله إنى لأعز أهل هذا الوادي وأكرمه، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبى جهل «1» .
وجيء بحرف «ثم» في عطف الجملة الثانية على الأولى، لزيادة التأكيد، وللارتقاء في الوعيد، وللإشعار بأن التهديد الثاني أشد من الأول، كما في قوله- تعالى-: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالإشارة إلى الحكمة من البعث والجزاء، وببيان جانب من مظاهر قدرته فقال: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً.
والاستفهام للإنكار كما قال في قوله- تعالى- قبل ذلك: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ.
و «سدى» - بضم السين مع القصر- بمعنى مهمل. يقال: إبل سدّى، أى: مهملة ليس لها راع يحميها.. وهو حال من فاعل «يترك» .
أى: أيظن هذا الإنسان الذي أنكر البعث والجزاء، أن نتركه هكذا مهملا، فلا نجازيه
__________
(1) تفسير القرطبي ج 19 ص 114.(15/208)
على أعماله التي عملها في الدنيا؟ إن كان يحسب ذلك فهو في وهم وضلال، لأن حكمتنا قد اقتضت أن نكرم المتقين، وأن تعاقب المكذبين.
والاستفهام في قوله: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى.. للتقرير، والنطفة: القليل من الماء ويُمْنى يراق هذا المنى في رحم المرأة.
أى: كيف يحسب هذا الإنسان أنه سيترك سدى؟ ألم يك في الأصل قطرة ماء تصب من الرجل في رحم المرأة وتراق فيه؟ بل إنه كان كذلك.
ثم كانَ بعد ذلك عَلَقَةً أى: قطعة دم متجمد فَخَلَقَ فَسَوَّى أى: فخلقه الله- تعالى- خلقا آخر بقدرته، وسواه في أحسن تقويم، كما قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ...
وجملة أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بمثابة النتيجة بعد المقدمات والأدلة.
أى: أليس ذلك الرب العظيم الشأن والقدرة، الذي أحسن كل شيء خلقه: والذي خلق الإنسان في تلك الأطوار المتعددة ... أليس ذلك الإله صاحب الخلق والأمر.
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وعلى أن يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى، ليجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى؟ بلى إنه لقادر على ذلك قدرة تامة.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها: أن رجلا كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك اللهم وبلى. فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك «1» .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 309.(15/209)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة الإنسان
مقدمة وتمهيد
1- سورة «الإنسان» يرى بعضهم أنها من السور المكية الخالصة، ويرى آخرون أنها من السور المدنية.
قال الآلوسى: هي مكية عند الجمهور، وقال مجاهد وقتادة: مدنية كلها، وقال الحسن: مدنية إلا آية واحدة، وهي قوله- تعالى-: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «1» .
2- والذي تطمئن إليه النفس أن هذه السورة، من السور المكية الخالصة، فإن أسلوبها وموضوعها ومقاصدها.. كل ذلك يشعر بأنها من السور المكية، إذ من خصائص السور المكية، كثرة حديثها عن حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المكذبين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالصبر، وإثبات أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- والتحريض على مداومة ذكر الله- تعالى- وطاعته.. وكل هذه المعاني نراها واضحة في هذه السورة.
ولقد رأينا الإمام ابن كثير- وهو من العلماء المحققين- عند تفسيره لهذه السورة، قال بأنها مكية، دون أن يذكر في ذلك خلافا، مما يوحى بأنه لا يعتد بقول من قال بأنها مدنية.
3- وتسمى هذه السورة- أيضا- بسورة «هل أتى على الإنسان» ، فقد روى البخاري- في باب القراءة في الفجر- عن أبى هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر سورة «ألم السجدة» . وسورة. «هل أتى على الإنسان» .
وتسمى- أيضا- بسورة: الدهر، والأبرار، والأمشاج، لورود هذه الألفاظ فيها.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 150.(15/211)
وعدد آياتها: إحدى وثلاثون آية بلا خلاف.
4- ومن مقاصدها البارزة: تذكير الإنسان بنعم الله- تعالى- عليه، حيث خلقه- سبحانه- من نطفة أمشاج، وجعله سميعا بصيرا، وهداه السبيل.
وحيث أعد له ما أعد من النعيم الدائم العظيم.. متى أطاعه واتقاه.
كما أن من مقاصدها: إنذار الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم. وإثبات أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بالصبر والإكثار من ذكر الله- تعالى- بكرة وأصيلا.
وبيان أن حكمته- تعالى- قد اقتضت أنه: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.(15/212)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
التفسير افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بقوله- تعالى-:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
والاستفهام في قوله- تعالى-: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ.. للتقرير. والمراد بالإنسان: جنسه، فيشمل جميع بنى آدم، والحين: المقدار المجمل من الزمان، لا حد لأكثره ولا لأقله. والدهر: الزمان الطويل غير المحدد بوقت معين.
والمعنى: لقد أتى على الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ أى: وقت غير محدد من الزمان الطويل الممتد في هذه الحياة الدنيا.
لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أى: لم يكن هذا الإنسان في ذلك الحين من الدهر، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه، وإنما كان شيئا غير موجود إلا في علم الله- تعالى-.
ثم أوجده- سبحانه- بعد ذلك من نطفة فعلقة فمضغة.. ثم أنشأه- سبحانه- بعد ذلك خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فالمقصود بهذه الآية الكريمة بيان مظهر من مظاهر قدرته- عز وجل- حيث أوجد الإنسان من العدم، ومن كان قادرا على ذلك، كان- من باب أول- قادرا على إعادته إلى الحياة بعد موته، للحساب والجزاء.
قال الإمام الفخر الرازي ما ملخصه: اتفقوا على أن «هل» هاهنا، وفي قوله- تعالى-: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ. بمعنى قد، كما تقول: هل رأيت صنيع(15/213)
فلان، وقد علمت أنه قد رآه. وتقول: هل وعظتك وهل أعطيتك، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته.
والدليل على أن «هل» هنا ليست للاستفهام الحقيقي.. أنه محال على الله- تعالى- فلا بد من حمله على الخبر «1» .
وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الاستفهام، لما فيه من التشويق إلى معرفة ما سيأتى بعده من كلام.
وجملة لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً في موضع نصب على الحال من الإنسان، والعائد محذوف. أى: حالة كون هذا الإنسان، لم يكن في ذلك الحين من الدهر، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه. وإنما كان نسيا منسيا، لا يعلم بوجوده أحد سوى خالقه- عز وجل-.
ثم فصل- سبحانه- بعد هذا التشويق، أطوار خلق الإنسان فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ والمراد بالإنسان هنا- أيضا- جنسه وجميع أفراده.
و «أمشاج» بمعنى أخلاط من عناصر شتى، مشتق من المشج بمعنى الخلط، يقال: مشج فلان بين كذا وكذا- من باب ضرب- إذا خلط ومزج بينهما، وهو جمع مشج- كسبب، أو مشج- ككتف، أو مشيج- كنصير.
قال الجمل: «أمشاج» نعت لنطفة. ووقع الجمع صفة لمفرد، لأنه في معنى الجمع، أو جعل كل جزء من النطفة نطفة، فاعتبر ذلك فوصف بالجمع.. «2» .
ويرى صاحب الكشاف ان لفظ «أمشاج» مفرد جاء على صيغة أفعال، كلفظ أعشار في قولهم: برمة أعشار، أى: برمة متكسرة قطعا قطعا، وعليه يكون المفرد قد نعت بلفظ مفرد مثله. فقد قال- رحمه الله-: «من نطفة أمشاج» كبرمة أعشار.. وهي ألفاظ مفردة غير جموع.
ولذلك وقعت صفات للأفراد، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان.. «3» .
وجملة «نبتليه» حال من الإنسان. أو من فاعل «خلقنا» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 271.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 452. [.....]
(3) تفسير الكشاف ج 4 ص 666.(15/214)
أى: إنا خلقنا الإنسان بقدرتنا وحدها. «من نطفة» أى: من منّى، وهو ماء الرجل وماء المرأة، «أمشاج» أى: ممتزج أحدهما بالآخر امتزاجا تاما.
أو خلقناه من نطفة مختلطة بعناصر متعددة، تتكون منها حياة الإنسان بقدرتنا وحكمتنا.
وخلقناه كذلك حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف، في مستقبل حياته حين يكون أهلا لهذه التكاليف.
فَجَعَلْناهُ بسبب إرادتنا ابتلاءه واختباره بالتكاليف عند بلوغه سن الرشد سَمِيعاً بَصِيراً أى: فجعلناه بسبب هذا الابتلاء والاختبار والتكاليف مزودا بوسائل الإدراك، التي بواسطتها يسمع الحق ويبصره ويستجيب له ويدرك الحقائق والآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا.. إدراكا سليما، متى اتبع فطرته، وخالف وساوس الشيطان وخطواته.
وخص- سبحانه- السمع والبصر بالذكر، لأنهما أنفع الحواس للإنسان، إذ عن طريق السمع يتلقى دعوة الحق وما اشتملت عليه من هدايات، وعن طريق البصر ينظر في الأدلة المتنوعة الكثيرة التي تدل على وحدانية الله- تعالى- وعلى صدق أنبيائه فيما جاءوا به من عند ربهم.
وقوله- سبحانه- إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ تعليل لقوله نَبْتَلِيهِ، وتفصيل لقوله- تعالى- فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً، والمراد بالهداية هنا: الدلالة إلى طريق الحق، والإرشاد إلى الصراط المستقيم.
أى: إنا بفضلنا وإحساننا- قد أرشدنا الإنسان إلى ما يوصله إلى طريق الحق والصواب، وأرشدناه إلى ما يسعده، عن طريق إرسال الرسل وتزويده بالعقل المستعد للتفكر والتدبر في آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا.
وقوله: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان من ضمير الغيبة في «هديناه» وهو ضمير الإنسان.
و «إما» للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات: أو للتقسيم للمهدي بحسب اختلاف الذوات والصفات.
أى: إنا هديناه ودللناه على ما يوصله إلى الصراط المستقيم، في حالتي شكره وكفره، لأنه إن أخذ بهدايتنا كان شاكرا، وإن أعرض عنها كان جاحدا وكافرا لنعمنا، فالهداية موجودة في كل الأحوال، إلا أن المنتفعين بها هم الشاكرون وحدهم.
ومثل ذلك كمثل رجلين، يرشدهما مرشد إلى طريق النجاة، فأحدهما يسير في هذا الطريق(15/215)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
فينجو من العثرات والمتاعب والمخاطر.. والآخر يعرض عن ذلك فيهلك.
ولما كان الشكر قل من يتصف به، كما قال- سبحانه-: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ جاء التعبير بقوله- سبحانه- شاكِراً بصيغة اسم الفاعل. ولما كان الجحود والكفر يعم أكثر الناس، جاء التعبير بقوله- تعالى- كَفُوراً بصيغة المبالغة.
والمقصود من الآية الكريمة: قفل الباب أمام الذين يفسقون عن أمر ربهم، ويرتكبون ما يرتكبون من السيئات.. ثم بعد ذلك يعلقون أفعالهم هذه على قضاء الله وقدره، ويقولون- كما حكى القرآن عن المشركين-: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد هذه الهداية، ما أعده لفريق الكافرين، وما أعده لفريق الشاكرين، فقال- تعالى-:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 22]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
__________
(1) سورة الانعام الآية 148.(15/216)
فقوله- سبحانه-: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ.. كلام مستأنف لبيان جزاء الكافرين، بعد أن تطلعت إليه النفس، بعد سماعها لقوله- تعالى-: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً.
وابتدأ- سبحانه- بذكر جزاء الكافر، لأن ذكره هو الأقرب ولأن الغرض بيان جزائه على سبيل الإجمال، ثم تفصيل القول بعد ذلك في بيان جزاء المؤمنين.
والسلاسل: جمع سلسلة، وهي القيود المصنوعة من الحديد والتي يقيد بها المجرمون. وقد قرأ بعض القراء السبعة هذا اللفظ بالتنوين، وقرأه آخرون بدون تنوين.
والأغلال: جمع غل- بضم الغين- وهو القيد الذي يقيد به المذنب ويكون في عنقه، قال- تعالى-: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ.
والمعنى: إنا أعتدنا وهيأنا للكافرين سلاسل يقادون بها، وأغلالا تجمع بها أيديهم إلى أعناقهم على سبيل الإذلال لهم، وهيأنا لهم- فوق ذلك- نارا شديدة الاشتعال تحرق بها أجسادهم.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للمؤمنين الصادقين من خير عميم فقال: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً.
والأبرار: جمع برّ أو بارّ. وهو الإنسان المطيع لله- تعالى- طاعة تامة، والمسارع في فعل الخير، والشاكر لله- تعالى- على نعمه.
والكأس: هو الإناء الذي توضع فيه الخمر، ولا يسمى بهذا الاسم إلا إذا كانت الخمر(15/217)
بداخله، ويصح أن يطلق الكأس على الخمر ذاتها على سبيل المجاز، من باب تسمية الحال باسم المحل، وهو المراد هنا. لقوله- تعالى- كانَ مِزاجُها كافُوراً. و «من» للتبعيض.
والضمير في قوله مِزاجُها يعود إلى الكأس التي أريد بها الخمر، والمراد «بمزاجها» : خليطها من المزج بمعنى الخلط يقال: مزجت الشيء بالشيء، إذا خلطته به.
والكافور: اسم لسائل طيب الرائحة، أبيض اللون، تميل إليه النفوس.
أى: إن المؤمنين الصادقين، الذين أخلصوا لله- تعالى- الطاعة والعبادة والشكر..
يكافئهم- سبحانه- على ذلك، بأن يجعلهم يوم القيامة في جنات عالية، ويتمتعون بالشراب من خمر، هذه الخمر كانت مخلوطة بالكافور الذي تنتعش له النفوس، وتحبه الأرواح والقلوب، لطيب رائحته، وجمال شكله.
وذكر- سبحانه- هذه الأشياء في هذه السورة- من الكافور- والزنجبيل، وغيرهما، لتحريض العقلاء على الظفر في الآخرة بهذه المتع التي كانوا يشتهونها في الدنيا، على سبيل تقريب الأمور لهم، وإلا فنعيم الآخرة لا يقاس في لذته ودوامه بالنسبة لنعيم الدنيا الفاني.
قال ابن عباس: كل ما ذكر في القرآن مما في الجنة وسماه، ليس له من الدنيا شبيه إلا في الاسم. فالكافور، والزنجبيل، والأشجار والقصور، والمأكول والمشروب، والملبوس والثمار، لا يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم.
وقوله- سبحانه- عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ.. بدل من قوله: كانَ مِزاجُها كافُوراً لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرودته.
أى: أن الأبرار يشربون من كأس، ماؤها ينبع من عين في الجنة، هذا الماء له بياض الكافور ورائحته وبرودته.
وعدى فعل «يشرب» بالباء، التي هي باء الإلصاق، لأن الكافور يمزج به شرابهم.
أى عينا يشرب عباد الله ماءهم وخمرهم بها. أى: مصحوبا بمائها وخمرها.
ومنهم من جعل الباء هنا بمعنى من التبعيضية. أى: عينا يشرب من بعض مائها وخمرها عباد الله، وهم الأبرار.
وعبر عنهم بذلك لتشريفهم وتكريمهم، حيث أضافهم- سبحانه- إلى ذاته.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا، وبحرف الإلصاق آخرا؟ قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته، وأما العين فبها يمزجون(15/218)
شرابهم، فكأن المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل.. «1» .
وقوله- سبحانه-: يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً صفة أخرى للعين، أى: يسيرونها ويجرونها إلى حيث يريدون، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يتجهون إليه.
فالتعبير بقوله: يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً إشارة إلى كثرتها وسعتها وسهولة حصولهم عليها.
يقال: فجّر فلان الماء، إذا أخرجه من الأرض بغزارة ومنه قوله- تعالى- وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك في آيات متعددة، الأسباب التي من أجلها وصلوا إلى النعيم الدائم. فقال- تعالى-: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً.
والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه من طاعة لله- تعالى-، والوفاء به: أداؤه أداء كاملا. أى: أن من الأسباب التي جعلت الأبرار يحصلون على تلك النعم، أنهم من أخلاقهم الوفاء بالنذر، ومن صفاتهم- أيضا- أنهم يخافون يوما عظيما هو يوم القيامة، الذي كان عذابه فاشيا منتشرا غاية الانتشار.
فقوله: مُسْتَطِيراً اسم فاعل من استطار الشيء إذا انتشر وامتد أمره. والسين والتاء فيه للمبالغة، وأصله طار. ومنه قولهم: استطار الغبار، إذا انتشر في الهواء وتفرق، وجيء بصيغة المضارع في قوله: يُوفُونَ للدلالة على تجدد وفائهم في كل وقت وحين.
والتعريف في «النذر» للجنس، لأنه يعم كل نذر.
وجاء لفظ اليوم منكرا، ووصف بأن له شرا مستطيرا.. لتهويل أمره، وتعظيم شأنه، حتى يستعد الناس لاستقباله بالإيمان والعمل الصالح.
ثم وصفهم- سبحانه- بصفات أخرى فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً.
أى: أن هؤلاء الأبرار من صفاتهم- أيضا أنهم يطعمون الطعام مع حب هذا الطعام لديهم، ومع حاجتهم إليه واشتهائهم له.
ومع كل ذلك فهم يقدمونه للمسكين، وهو المحتاج إلى غيره لفقره وسكونه عن الحركة..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 668.(15/219)
ولليتيم: وهو من فقد أباه وهو صغير، وللأسير: وهو من أصبح أمره بيد غيره. وخص الإطعام بالذكر: لما في تقديمه من كرم وسخاء وإيثار، لا سيما مع الحاجة إليه، كما يشعر به قوله- تعالى- عَلى حُبِّهِ أى: على حبهم لذلك الطعام، وقيل الضمير في قوله عَلى حُبِّهِ يعود إلى الله- عز وجل- أى: يطعمون الطعام على حبهم له- تعالى-.
والأول أولى. ويؤيده قوله- تعالى- لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
و «على» هنا بمعنى مع، والجملة في محل نصب على الحال. أى: حالة كونهم كائنين على حب هذا الطعام.
وخص هؤلاء الثلاثة بالذكر، لأنهم أولى الناس بالرعاية والمساعدة.
وقد ذكروا في سبيل نزول هذه الآية، والآيتين اللتين يعدها، روايات منها، أنها نزلت في الإمام على وزوجه فاطمة- رضى الله عنهما-.
قال القرطبي- بعد أن ذكر هذه الروايات-: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، وفي كل من فعل فعلا حسنا، فهي عامة.. «1» .
وقوله- سبحانه- إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ بيان لشدة إخلاصهم، ولطهارة نفوسهم. وهو مقول لقول محذوف أى: يقدمون الطعام لهؤلاء المحتاجين مع حبهم لهذا الطعام، ومع حاجتهم إليه.. ثم يقولون لهم بلسان الحال أو المقال: إنما نطعمكم ابتغاء وجه الله- تعالى- وطلبا لمثوبته ورحمته.
لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً أى: لا نريد منكم جزاء على ما قدمناه لكم، ولا نريد منكم شكرا على ما فعلناه، فإننا لا نلتمس ذلك إلا من الله- تعالى- خالقنا وخالقكم.
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً.
والعبوس: صفة مشبهة لمن هو شديد العبس، أى كلوح الوجه وانقباضه.
والقمطرير: الشديد الصعب من كل شيء يقال: اقمطرّ يومنا، إذا اشتدت مصائبه.
ووصف اليوم بهذين الوصفين على سبيل المجاز في الإسناد، والمقصود وصف أهله بذلك، فهو من باب: فلان نهاره صائم.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 19 ص 130.(15/220)
أى: ويقولون لهم- أيضا- عند تقديم الطعام لهم: إنا نخاف من ربنا يوما، تعبس فيه الوجوه، من شدة هوله، وعظم أمره، وطول بلائه.
أى: أنهم لم يقدموا الطعام- مع حبهم له- رياء ومفاخرة، وإنما قدموه ابتغاء وجه الله، وخوفا من عذابه.
والفاء في قوله: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ.. للتفريع على ما تقدم ولبيان ما ترتب على إخلاصهم وسخائهم من ثواب. أى: فترتب على وفائهم بالنذور، وعلى خوفهم من عذاب الله- تعالى- وعلى سخائهم وإخلاصهم، ترتب على كل ذلك أن دفع الله- تعالى- عنهم شر ذلك اليوم، وهو يوم القيامة.
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أى: وجعلهم يلقون فيها حسنا وبهجة في الوجوه، وسرورا وانشراحا في الصدور، بدل العبوس والكلوح الذي حل بوجوه الكفار.
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أى: بسبب صبرهم جَنَّةً عظيمة.. وحَرِيراً جميلا يلبسونه. مُتَّكِئِينَ فِيها أى: في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ أى: على السرر، أو على ما يتكأ عليه من سرير أو فراش ونحوه.
لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أى: لا يرون فيها شمسا شديدة الحرارة بحيث تؤذيهم أو تضرهم، ولا يرون فيها كذلك زَمْهَرِيراً أى: بردا مفرطا، يقال: زمهر اليوم، إذا اشتد برده.
والمقصود من الآية الكريمة أنهم لا يرون في الجنة إلا جوا معتدلا، لا هو بالحار ولا هو بالبارد.
وقوله- سبحانه- وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها.. معطوف على قوله قبل ذلك:
مُتَّكِئِينَ.
و «ظلالها» فاعل «دانية» والضمير في «ظلالها» يعود إلى الجنة.
أى: أن الأبرار جالسون في الجنة جلسة الناعم البال، المنشرح الصدر. وظلال أشجار الجنة قريبة منهم، ومحيطة بهم، زيادة في إكرامهم.
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أى: أنهم- فضلا عن ذلك- قد سخرت لهم ثمار الجنة تسخيرا، وسهل الله- تعالى- لهم تناولها تسهيلا عظيما، بحيث إن القاعد منهم والقائم(15/221)
والمضطجع، يستطيع أن يتناول هذه الثمار اللذيذة بدون جهد أو تعب.
فقوله- تعالى-: وَذُلِّلَتْ من التذليل بمعنى الانقياد والتسخير، يقال: ذلّل الكرم- بضم الذال- إذا تدلت عناقيده وصارت في متناول اليد. والقطوف: جمع قطف- بكسر القاف- وهو العنقود حين يقطف أو الثمار المقطوفة.
وبعد أن وصف- سبحانه- جانبا من طعامهم ولباسهم ومسكنهم أخذت السورة الكريمة في وصف شرابهم. فقال- تعالى-: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً.
وقوله: وَيُطافُ من الطواف، وهو السعى المكرر حول الشيء، ومنه الطواف بالكعبة. والآنية: جمع إناء، وهو اسم لكل وعاء يوضع فيه الطعام والشراب والمراد بها هنا:
الأوانى: التي يستعملونها في مجالس شرابهم.
والأكواب: جمع كوب، وهو القدح الذي لا عروة له، وعطفه على الآنية من باب عطف الخاص على العام.
والقوارير: جمع قارورة وهي في الأصل إناء رقيق من الزجاج النقي الشفاف، توضع فيه الأشربة وما يشبهها، فتستقر فيه.
أى: ويطاف على هؤلاء الأبرار بآنية كائنة من فضة، وبأكواب وأقداح من فضة- أيضا- وجعلت هذه الأكواب في مثل القوارير في صفائها ونقائها، وفي مثل الفضة في جمالها وحسنها، بحيث يرى ما بداخلها من خارجها.
وقوله- سبحانه- قَدَّرُوها تَقْدِيراً أى: إن الطائفين بهذه الأكواب عليهم، قد وضعوا فيها من الشراب على مقدار ما يشبع هؤلاء الأبرار ويرويهم بدون زيادة أو نقصان والطائفون عليهم بذلك هم الخدم الذين جعلهم الله- تعالى- لخدمة هؤلاء الأبرار. وبنى الفعل للمجهول للعلم بهم.
وقال- سبحانه- هنا بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وفي سورة الزخرف يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ.. زيادة في تكريمهم وفي سمو منزلتهم، إذ تارة يطاف عليهم بأكواب من فضة، وتارة يطاف عليهم بصحاف من ذهب، ومن المعروف أنه كلما تعددت المناظر الحسنة، والمشارب اللذيذة، كان ذلك أبهج للنفس.
والمراد بالكينونة في قوله- تعالى- كانَتْ قَوارِيرَا.. أنها تكونت ووجدت على هذه الصفة.(15/222)
قال الآلوسى: قوله- تعالى- كانَتْ قَوارِيرَا أى: كانت تلك الأكواب قوارير، جمع قارورة، وهي إناء رقيق من الزجاج توضع فيه الأشربة، ونصبه على الحال، فإن «كان» تامة، وهو كما تقول: خلقت قوارير. وقوله- تعالى-: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ بدل. والكلام على التشبيه البليغ.
والمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها، ولون الفضة وبياضها.
وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين قَوارِيرَا في الموضعين وصلا، وإبداله ألفا وقفا. وابن كثير يمنع صرف الثاني ويصرف الأول.. والقراءة بمنع صرفهما للباقين «1» .
وقال الشوكانى: وجملة «قدروها تقديرا» صفة لقوارير.. أى: قدرها السقاة من الخدم، الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة، من دون زيادة ولا نقصان..، وقيل: قدرها الملائكة. وقيل: قدرها الشاربون لها من أهل الجنة على مقدار حاجتهم، فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص.. «2» .
ثم بين- سبحانه- محاسن شراب أهل الجنة فقال: وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا.
والمراد بالكأس هنا: كأس الخمر. والضمير في قوله فِيها يعود إلى الجنة.
والزنجبيل: نبات ذو رائحة عطرية طيبة، والعرب كانوا يستلذون الشراب الممزوج به.
والسلسبيل وصف قيل مشتق من السلاسة بمعنى السهولة واللين، يقال: ماء سلسل، أى:
عذب سائغ للشاربين، ومعنى تُسَمَّى على هذا الرأى. أى: توصف بالسلاسة والعذوبة.
وقيل: السلسبيل: اسم لهذه العين، لقوله- تعالى- تُسَمَّى.
أى: أن هؤلاء الأبرار- بجانب كل ما تقدم من نعم- يسقون في الجنة من كأس مليئة بالخمر، وهذه الخمر التي يشربونها ممزوجة بالزنجبيل، فتزداد لذة على لذتها.
ويسقون- أيضا- من عين فيها- أى: في الجنة- تسمى سلسبيلا، وذلك لسلاسة مائها ولذته وعذوبته، وسهولة نزوله إلى الحلق.
قال صاحب الكشاف: سَلْسَبِيلًا سميت بذلك- لسلاسة انحدارها في الحلق، وسهولة مساغها. يعنى: أنها في طعم الزنجبيل، وليس فيها لذعة، ولكن فيها نقيض اللذع
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 159.
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 5 ص 350.(15/223)
وهو السلاسة، فقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. ودلت على غاية السلاسة.. «1» .
ثم أخبر- سبحانه- عن نوع آخر من الخدم، يطوفون على هؤلاء الأبرار لخدمتهم، فقال: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً.
أى: ويطوف على هؤلاء الأبرار وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أى: دائمون على ما هم عليه من النضارة والشباب.. إذا رأيتهم- أيها المخاطب حَسِبْتَهُمْ وظننتهم لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أى: حسبتهم من حسنهم، وصفاء ألوانهم، ونضارة وجوههم.. لؤلؤا ودرا مفرقا في جنبات المجالس وأوسطها.
فقوله- تعالى- مُخَلَّدُونَ احتراس المقصود منه دفع توهم أنهم سيصيرون في يوم من الأيام كهولا، قالوا: وشبهوا باللؤلؤ المنثور، لأن اللؤلؤ إذا نثر على البساط، كان أكثر جمالا منه فيما لو كان منظوما.
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ وثم هنا ظرف مكان مختص بالبعيد، وهو منصوب على الظرفية، ومفعول الرؤية غير مذكور، لأن القصد: وإذا صدرت منك- أيها المخاطب رؤية إلى هناك، أى: إلى الجنة ونعيمها.. رَأَيْتَ نَعِيماً لا يقادر قدره وَمُلْكاً كَبِيراً أى: واسعا لا غاية له.
فقوله- سبحانه- رَأَيْتَ الثانية، جواب إذا. والشمار إليه «بثمّ» التي هي بمعنى هناك معلوم من المقام، لأن المقصود به الجنة التي سبق الحديث عنها في مثل قوله:
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً أى: وإذا سرحت ببصرك إلى هناك رأيت نعيما وملكا كبيرا.
ثم فصل- سبحانه- جانبا من مظاهر هذا النعيم العظيم فقال عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ، وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.
وقوله عالِيَهُمْ بفتح الياء وضم الهاء- بمعنى فوقهم، فهو ظرف خبر مقدم، وثياب مبتدأ مؤخر، كأنه قيل: فوقهم ثياب ويصح أن يكون حالا للأبرار. أى: تلك حال أهل النعيم والملك الكبير وهم الأبرار.
وقرأ نافع وحمزة عالِيَهُمْ- بسكون الياء وكسر الهاء- على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، لقوله- تعالى- رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً، ويكون لفظ عالِيَهُمْ أسم فاعل مبتدأ.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 672.(15/224)
وقوله: ثِيابُ سُندُسٍ فاعله ساد مسد الخبر، ويصح أن يكون خبرا مقدما، وما بعده مبتدأ مؤخر.
وإضافة الثياب إلى السندس بيانية، مثل: خاتم ذهب والسندس: الديباج الرقيق.
والإستبرق: الديباج الغليظ.
والمعنى: أن هؤلاء الأبرار، أصحاب النعيم المقيم، والملك الكبير، فوق أجسادهم ثياب من أفخر الثياب، لأنهم يجمعون في لباسهم بين الديباج الرقيق، والديباج الغليظ، على سبيل التنعيم والجمع بين محاسن الثياب.
وكانت تلك الملابس من اللون الأخضر، لأنها أبهج للنفس، وشعار لباس الملوك.
وكلمة: «خضر» قرأها بعضهم بالرفع على أنها صفة لثياب، وقرأها البعض الآخر بالجر، على أنها صفة لسندس. وكذلك كلمة «وإستبرق» قرئت بالرفع عطفا على ثياب، وقرئت بالجر عطفا على سندس.
وقوله: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ بيان لما يتزينون به في أيديهم، أى أن هؤلاء الأبرار يلبسون في أيديهم أساور من فضة، كما هو الشأن بالنسبة للملوك في الدنيا، ومنه ما ورد في الحديث من ذكر سوارى كسرى.
وقوله- تعالى-: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أى: وفضلا عن كل تلك الملابس الفاخرة سقاهم ربهم- بفضله وإحسانه- شرابا بالغا نهاية الطهر، فهو ليس كخمر الدنيا، فيه الكثير من المساوئ التي تؤدى إلى ذهاب العقول.. وإنما خمر الآخرة: شراب لذيذ طاهر من كل خبث وقذر وسوء.
وجاء لفظ «طهورا» بصيغة المبالغة، للإشعار بأن هذا الشراب قد بلغ النهاية في الطهارة.
ثم ختم- سبحانه- هذا العطاء الواسع العظيم، ببيان ما ستقوله الملائكة لهؤلاء الأبرار على سبيل التكريم والتشريف، فقال: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.
وهذه الآية الكريمة مقول لقول محذوف، والقائل هو الله- تعالى- أو ملائكته بأمره- سبحانه- وإذنه، أى: سقاهم ربهم شرابا طهورا في الآخرة، ويقال لهم عند تمتعهم بكل هذا النعيم، إِنَّ هذا النعيم الذي تعيشون فيه كانَ لَكُمْ جَزاءً على إيمانكم وعملكم الصالح في الدنيا.(15/225)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أى: مرضيا ومقبولا عند خالقكم، فازدادوا- أيها الأبرار- سرورا على سروركم، وبهجة على بهجتكم.
وبعد هذا التفصيل لما أعده الله- تعالى- لعباده الأخيار من أصناف النعيم، المتعلق بمأكلهم، ومشربهم.. أخذت السورة الكريمة. في أواخرها- في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وفي دعوته صلى الله عليه وسلم إلى المداومة على التحلي بفضيلة الصبر، وإلى الإكثار من ذكره- تعالى- وأنذرت الكافرين والفاسقين إذا ما استمروا في ضلالهم. فقال- تعالى-:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
وجاء قوله- تعالى-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا مؤكدا بجملة من المؤكدات. منها: إن، ونحن، وتنزيلا.. للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله- تعالى- وقالوا في شأنه: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
أى: إنا نحن- وحدنا- أيها الرسول الكريم-، الذين نزلنا عليك القرآن تنزيلا محكما، وفصلناه تفصيلا متقنا، بأن أنزلناه على قلبك مفرقا على حسب مشيئتنا وحكمتنا.(15/226)
والفاء في قوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ للإفصاح. وعدى فعل الصبر باللام، لتضمنه معنى الخضوع والاستسلام لقضائه- سبحانه-.
أى: ما دام الأمر كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- فاصبر لحكم ربك، واخضع لقضائه ومشيئته، فهو- سبحانه- الكفيل بنصرك عليهم.
وقوله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أى: ولا تطع- أيها الرسول الكريم- من هؤلاء المشركين، من كان داعيا إلى الإثم والفجور، أو من كان داعيا إلى الكفر والجحود.
ولم يقل- سبحانه- ولا تطع منهم آثما وكفورا بالواو، لأن الواو تجعل الكلام محتملا للنهى عن المجموع، وأن طاعة أحدهما دون الآخر تكفى في الامتثال.
ولذا قال الزجاج: إن «أو» هنا أوكد من الواو، لأنك إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا، فأطاع أحدهما كان غير عاص، فإن أبدلتها بأو، فقد دللت على أن كل واحد منهما، أهل لأن يعصى، ويعلم منه النهى عن إطاعتهما معا «1» .
والآثم: هو الفاجر بأقواله وأفعاله. والكفور: هو الجاحد بقلبه ولسانه.
ورحم الله صاحب الكشاف، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه: تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإنّ: تأكيد على تأكيد، لمعنى اختصاص الله- تعالى- بالتنزيل، ليتقرر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل للقرآن، لم يكن تنزيله على أى وجه نزل، إلا حكمة وصوابا، كأنه قيل: ما نزل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما، إلا أنا لا غيرى، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكل ما أفعله.
فإن قلت: كلهم كانوا كفرة، فما معنى القسمة في قوله: آثِماً أَوْ كَفُوراً؟ قلت:
معناه لا تطع منهم راكبا لما هو إثم، داعيا لك إليه، أو فاعلا لما هو كفر، داعيا لك إليه.
لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر: فنهى عن أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. فإن قلت: معنى أو: ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو وليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟
قلت: لو قيل: ولا تطعهما، جاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل: لا تطع أحدهما، علم أن الناهي عن طاعة أحدهما: عن طاعتهما جميعا أنهى، كما إذا نهى عن أن يقول لأبويه أف، علم أنه منهى عن ضربهما بالطريق الأولى.. «2» .
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 462.
(2) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 674.(15/227)
والمقصود من هاتين الآيتين تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتيئيس المشركين من استجابته صلى الله عليه وسلم لأى مطلب من مطالبهم الفاسدة.
ثم أرشده- سبحانه- إلى ما يعينه على الصبر والثبات. فقال: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا.
والبكرة: أول النهار. والأصيل: آخره. والمراد: المداومة على ذكر الله- تعالى- في كل وقت. أى: داوم- أيها الرسول الكريم- على ذكر الله- تعالى- في أول النهار وفي آخره، وعلى صلاة الفجر، والظهر والعصر.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ- تعالى- وأكثر من ذكره، وواظب على صلاة المغرب والعشاء.
وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أى: ونزهه- تعالى- وتهجد له وقتا طويلا من الليل.
فهاتان الآيتان ترشدان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يعينه على الازدياد من فضيلة الصبر الجميل، والثبات على الحق.
ومن الآيات الكثيرة التي تشبه هاتين الآيتين في معناهما: قوله- تعالى- وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
وقوله- تعالى-: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
ثم بين- سبحانه- جانبا من الأسباب التي تجعله صلى الله عليه وسلم لا يطيع أحدا منهم فقال:
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا.
أى: نحن قد نهيناك- يا محمد- عن طاعة أحد من هؤلاء المشركين، لأنهم جميعا ديدنهم ودأبهم أنهم يحبون الْعاجِلَةَ أى: الدنيا ولذائذها وشهواتها، العاجلة الزائلة.
وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أى: ويتركون وينبذون وراء ظهورهم يَوْماً ثَقِيلًا وهو يوم القيامة، الشديد الأهوال، الذي يجعل الولدان شيبا.
ومع شدة هوله فهم لا يستعدون له، ولا يحسبون له حسابا.
فالآية الكريمة توبيخ وتجهيل لهم، حيث آثروا الفاني على الباقي، والعاجل على الآجل.
ووصف يوم القيامة بالثقل، لشدة ما يقع فيه من أهوال وكروب، فهو كالشىء الثقيل الذي لا يستطاع حمله.(15/228)
ثم بين- سبحانه- مظاهر فضله عليهم، ومع ذلك أشركوا معه في العبادة غيره فقال:
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ، وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ، وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا.
أى: نحن وحدنا الذين خلقناهم وأوجدناهم من العدم.
ونحن وحدنا الذين شَدَدْنا أَسْرَهُمْ أى: قوينا وأحكمنا وأتقنا خلقهم، بأن منحناهم السمع والأبصار والأفئدة والعقول.. وربطنا بين مفاصلهم وأجزاء أجسادهم ربطا عجيبا معجزا.
يقال: أسر الله- تعالى- فلانا، أى: خلقه- وبابه ضرب- وفرس شديد الأسر، أى: شديد الخلق، والأسر: القوة، مشتق من الإسار- بكسر الهمزة- وهو الحبل الذي تشد به الأحمال، يقال: أسر فلان الحمل أسرا، إذا أحكم ربطه، ومنه الأسير لأنه يربط بالإسار، أى: القيد.
والمقصود بالأسر هنا: الإحكام والإتقان، والامتنان عليهم بأن الله- تعالى- خلقهم في أحسن وأتقن خلق.
وقوله- سبحانه- وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا تأكيد لشمول قدرته- تعالى- أى: ونحن وحدنا الذين خلقناهم، ونحن وحدنا الذين ربطنا مفاصلهم وأعضاءهم ربطا متقنا بديعا.
ومع ذلك، فإننا إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم، وجئنا بأمثالهم وأشباههم في شدة الخلق، وبدلناهم تبديلا معجزا، لا يقدر عليه أحد سوانا.
وقوله: تَبْدِيلًا منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله وهو بدلناهم.
ومن الآيات الشبيهة لهذه الآية في معناها قوله- تعالى-: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً «1» .
وقوله- سبحانه-: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ «2» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالحض على طاعته، وبالتحذير من معصيته فقال:
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا.
أى: إن هذه الآيات التي أنزلناها عليك يا محمد- تذكرة وموعظة للناس، فمن شاء
__________
(1) سورة النساء الآية 133.
(2) سورة إبراهيم الآيتان 19- 20.(15/229)
أن يتخذ إلى الله- تعالى- وسيلة وطريقة يتقرب بها إليه- تعالى- اتخذها، لأنها خير هداية إلى رضاه- سبحانه-.
والتعبير بقوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا تحريض شديد على المسارعة إلى الطاعة، لأن الله- تعالى- قد مكن الناس من ذلك، حيث وهبهم الاختيار والعقول المفكرة، وأرسل إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور.
ثم بين- سبحانه- أن مشيئته فوق كل مشيئة فقال: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
أى: وما تشاءون شيئا من الأشياء، إلا بعد خضوع هذا الشيء لمشيئة الله- تعالى- وإرادته، إذ هو الخالق- سبحانه- لكل شيء، وهو صاحب الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أى: إنه- تعالى- كان وما زال صاحب العلم المطلق الذي لا يحده شيء، وصاحب الحكمة البليغة التي لا نهاية لها.
يُدْخِلُ- سبحانه- مَنْ يَشاءُ إدخاله فِي رَحْمَتِهِ لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ- سبحانه- عَذاباً أَلِيماً بسبب إصرارهم على ظلمهم، وإيثارهم الباطل على الحق، والغي على الرشد.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا ممن هم أهل لرحمته ورضوانه، وأن يبعدنا عمن هم أهل لعذابه ونقمته.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(15/230)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة المرسلات
مقدمة وتمهيد
1- سورة «المرسلات» هي السورة السابعة والسبعون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثالثة والثلاثون، وقد كان نزولها بعد سورة «الهمزة» ، وقبل سورة «ق» .
وهي من السور المكية الخالصة، وقيل إن آية: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ مدنية، وهذا القيل لا وزن له، لأنه لا دليل عليه. وعدد آياتها: خمسون آية.
2- وقد ذكروا في فضلها أحاديث منها: ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى، إذ نزلت عليه: «والمرسلات» ، فإنه ليتلوها، وإنى لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها..
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: إن أم الفضل- امرأة العباس- سمعته يقرأ «والمرسلات عرفا» ، فقالت: يا بنى- ذكرتني بقراءتك هذه السورة. إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب «1» .
3- وسورة المرسلات زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة، وعن أحوال المكذبين في هذا اليوم، وعن مظاهر قدرة الله- تعالى-، وعن حسن عاقبة المتقين..
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 320.(15/231)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
التفسير وقد افتتحت هذه السورة بقوله- تعالى-:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
وللمفسرين في معنى هذه الصفات الخمس: «المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات» اتجاهات، فمنهم من صدر تفسيره ببيان أن المراد بها الملائكة. فقد قال صاحب الكشاف: أقسم الله بطوائف من الملائكة، أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن كما تعصف الرياح، تخففا في امتثال أمره. وبطوائف منهن نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض.. ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرا إلى الأنبياء عذرا، للمحقين، أو نذرا للمبطلين.
فإن قلت: ما معنى عرفا؟ قلت: متتابعة كشعر العرف- أى: عرف الفرس- يقال:
جاءوا عرفا واحدا، وهم عليه كعرف الضبع: إذا تألبوا عليه.. «1» .
ومنهم من يرى أن المراد بالمرسلات وما بعدها: الرياح، فقد قال الجمل في حاشيته:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 677.(15/232)
أقسم الله- تعالى- بصفات خمس موصوفها محذوف، فجعلها بعضهم الرياح في الكل، وجعلها بعضهم الملائكة في الكل ... وغاير بعضهم فجعل الصفات الثلاث الأول، لموصوف واحد هو الرياح وجعل الرابعة لموصوف ثان وهو الآيات، وجعل الخامسة لموصوف ثالث وهو الملائكة.. «1» .
وسنسير نحن على هذا الرأى الثالث، لأنه في تصورنا أقرب الآراء إلى الصواب، إذ أن هذه الصفات من المناسب أن يكون بعضها للرياح، وبعضها للملائكة.
فيكون المعنى: وحق الرياح المرسلات لعذاب المكذبين، فتعصفهم عصفا، وتهلكهم إهلاكا شديدا، فقوله: عَصْفاً وصف مؤكد للإهلاك الشديد، يقال: عصفت الريح، إذا اشتدت، وعصفت الحرب بالقوم، إذا ذهبت بهم، وناقة عصوف، إذا مضت براكبها مسرعة، حتى لكأنها الريح.
وقوله: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً أى: وحق الرياح التي تنتشر انتشارا عظيما في الآفاق، فتأتى بالسحب، التي تتحول بقدرة الله- تعالى- إلى أمطار غزيرة نافعة.
قال ابن كثير- بعد أن ذكر آراء العلماء في معنى هذه الألفاظ-: والأظهر أن المرسلات هي الرياح، كما قال- تعالى-: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ.. وقال- سبحانه-:
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ. وهكذا العاصفات هي الرياح، يقال:
عصفت الريح إذا هبت بتصويت، وكذا النَّاشِراتِ: هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب- عز وجل-.
وقوله- سبحانه- فَالْفارِقاتِ فَرْقاً يصح أن يكون وصفا للملائكة الذين ينزلون بالشرائع المفرقة بين الحق والباطل، وبين أهل الحق وأهل الضلال.
ويصح أن يكون وصفا للآيات التي أنزلها الله- تعالى- للتمييز بين الخير والشر، والرشد والغي.
وقوله فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً قال القرطبي: هم الملائكة بإجماع، يلقون كتب الله- تعالى- إلى الأنبياء- عليهم السلام-.. «2» .
فالمراد بالذكر في قوله فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً: وحى الله- تعالى- الذي يبلغه الملائكة إلى الرسل.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 463. [.....]
(2) تفسير القرطبي ج 19 ص 156.(15/233)
وقوله عُذْراً أَوْ نُذْراً منصوبان على أنهما بدل اشتمال من قوله ذِكْراً أو مفعول لأجله. أى: أن الملائكة يلقون وحى الله- تعالى- إلى أنبيائه، لإزالة أعذار المعتذرين عن الإيمان، حتى لا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولإنذار الكافرين والفاسقين، حتى يقلعوا عن كفرهم وفسوقهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما العذر والنذر، وبماذا انتصبا؟ قلت: هما مصدران من أعذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والنكر، ويجوز أن يكون جمع عذير، بمعنى المعذرة، وجمع نذير بمعنى الإنذار ... وأما انتصابهما فعلى البدل من ذكرا ... أو على المفعول له.. «1» .
وجملة إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ جواب القسم، وجيء بها مؤكدة، لتقوية تحقيق وقوع الجواب، وما وعدوا به هو البعث والحساب.
أى: وحق الرياح المرسلة لعذاب المشركين.. وحق الملائكة الذين نرسلهم بوحينا للتفريق بين الحق والباطل، ولتبليغ رسلنا ما كلفناهم به.. إنكم- أيها الكافرون- لمبعوثون ومحاسبون على أعمالكم يوم القيامة الذي لا شك في وقوعه وحصوله وثبوته.
ثم بين- سبحانه- علامات هذا اليوم فقال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أى: محقت وذهب ضوؤها، وزال نورها. يقال: طمست الشيء، من باب ضرب- إذا محوته واستأصلت أثره، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أى: شقت أو فتحت، وتدلت أرجاؤها، ووهت أطرافها. وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أى: اقتلعت وأزيلت من أماكنها. يقال: نسف فلان البناء ينسفه، إذا قلعه من أصله.
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أى: بلغت وقتها الذي كانت تنتظره، وهو يوم القيامة، للقضاء بينهم وبين أقوامهم. فقوله: أُقِّتَتْ من التوقيت، وهو جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدد له.
قال الآلوسى: قوله وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أى: بلغت ميقاتها. وجوز أن يكون المعنى: عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم، وذلك عند مجيء يوم القيامة.. «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 678.
(2) تفسير الآلوسى ج 29 ص 172.(15/234)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
وجواب فَإِذَا وما عطف عليها في قوله فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ محذوف، والتقدير:
وقع ما وعدناكم به وهو يوم القيامة.
وقوله: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تعليل لبلوغ الرسل الى الوقت الذي كانوا ينتظرونه لأخذ حقوقهم من أقوامهم الظالمين، والاستفهام للتهويل والتعظيم من شأن هذا اليوم. «1»
أى: لأى يوم أخرت الأمور التي كانت متعلقة بالرسل؟ من تعذيب الكافرين، وإثابة المتقين.. إنها أخرت وأجلت، ليوم الفصل، وهو يوم القيامة، الذي يفصل الله- تعالى- فيه بقضائه العادل بين العباد.
وَما أَدْراكَ، - أيها المخاطب- ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟ إنه يوم هائل شديد، لا تحيط العبارة بكنهه، ولا يعلم إلا الله- تعالى- وحده مقدار أهواله.
ويقال في هذا اليوم لكل فاسق عن أمر ربه، ومشرك معه في العبادة غيره، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أى: هلاك وحسرة في هذا اليوم للمكذبين بالحق الذي جاء به الرسل، وبلغوه إلى أقوامهم.
وقد تكررت هذه الآية عشر مرات في تلك السورة الكريمة، على سبيل الوعيد والتهديد لهؤلاء المكذبين لرسلهم، والجاحدين لنعم خالقهم، والويل: أشد السوء والشر، وهو في الأصل مصدر بمعنى الهلاك، وكان حقه النصب بفعل من لفظه أو معناه، إلا أنه رفع على الابتداء، للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه.
وقوله يَوْمَئِذٍ ظرف للويل أو صفة له، ولذا صح الابتداء به.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، كإهلاك المكذبين السابقين، وخلق الأولين والآخرين، والإنعام على الناس بالجبال والأنهار..
قال- تعالى-:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 40]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30)
لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35)
وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 172.(15/235)
والاستفهام في قوله أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ وفي الآيات المماثلة له بعد ذلك، للتقرير، والمقصود به استخراج الاعتراف والإقرار من مشركي قريش على صحة البعث، لأن من قدر على الإهلاك، قادر على الإعادة.
أى: لقد أهلكنا الأقوام الأولين الذين كذبوا رسلهم، كقوم نوح وعاد وثمود.
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أى: أهلكنا الأولين، ثم نتبعهم بإهلاك المتأخرين عنهم، والذين يشبهون سابقيهم في الكفر والجحود.
و «ثم» هنا للتراخي الرتبى، لأن إهلاك الآخرين الذين لم يعتبروا بمن سبقهم سيكون أشد من إهلاك غيرهم، وفي ذلك تهديد شديد ووعيد واضح لمشركي مكة.
وقوله: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أى: مثل ذلك الفعل الشنيع، والعقاب الأليم، نفعل بالمجرمين الذين أصروا على كفرهم وعنادهم حتى أدركهم الموت.(15/236)
فالكاف بمعنى مثل، والإشارة في قوله: كَذلِكَ تعود إلى الفعل المأخوذ من قوله نَفْعَلُ أى مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين.
ثم كرر- سبحانه- التهديد والوعيد لهم، لعلهم يرتدعون أو يتعظون فقال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
ثم قال- سبحانه- ممتنا على خلقه بإيجادهم في هذه الحياة، ومحتجا على إمكان الإعادة بخلقهم ولم يكونوا شيئا مذكورا، فقال: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ.
أى: لقد خلقناكم- أيها الناس- من نطفة حقيرة ضعيفة، من مهن الشيء- بفتح الميم وضم الهاء- إذا ضعف، وميمه أصلية، وليس هو من مادة هان، و «من» ابتدائية.
وقوله: فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإدماج، والقرار:
اسم للمكان الذي يستقر فيه الماء، والمراد به رحم المرأة. والمكين صفة له.
أى: خلقناكم من ماء ضعيف، ومن مظاهر قدرتنا وحكمتنا ولطفنا بكم أننا جعلنا هذا الماء الذي خلقتم منه، في مكان حصين، قد بلغ النهاية في تمكنه وثباته.
فقوله مَكِينٍ بمعنى متمكن، من مكن الشيء مكانة، إذا ثبت ورسخ.
وقوله: إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ بيان لبديع حكمته، والقدر بمعنى المقدار المحدد المنضبط، الذي لا يتخلف.
أى: جعلنا هذا الماء في قرار مكين، إلى وقت معين محدد في علم الله- تعالى- يأذن عنده بخروج هذا المخلوق من رحم أمه، إلى الحياة، وهذا الوقت هو مدة الحمل.
وقوله- تعالى-: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ثناء منه- تعالى- على ذاته بما هو أهله. أى: فقدّرنا ذلك الخلق تقديرا حكيما منضبطا، وتمكنا من إيجاده في أطوار متعددة، فنعم المقدرون نحن، ونعم الموجدون نحن لما نوجده من مخلوقات.
وما دام الأمر كذلك فويل وهلاك يوم القيامة، للمكذبين بوحدانيتنا وقدرتنا.
ثم انتقل- سبحانه- إلى الاستدلال على إمكانية البعث بطريق ثالث فقال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ.
والكفات: اسم للمكان الذي يكفت فيه الشيء. أى يجمع ويضم ويوضع فيه.
يقال: كفت فلان الشيء يكفته كفتا، من باب ضرب- إذا جمعه ووضعه بداخل شيء معين، ومنه سمى الوعاء كفاتا، لأن الشيء يوضع بداخله، وهو منصوب على أنه مفعول ثان لقوله نَجْعَلِ، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير.(15/237)
وقوله: أَحْياءً وَأَمْواتاً منصوبان على أنهما مفعولان به، لقوله كِفاتاً. أو مفعولان لفعل محذوف.
أى: لقد جعلنا الأرض وعاء ومكانا تجتمع فيه الخلائق: الأحياء منهم يعيشون فوقها، والأموات منهم يدفنون في باطنها، وَجَعَلْنا فِيها- أيضا- جبالا رَواسِيَ أى:
ثوابت شامِخاتٍ أى: مرتفعات ارتفاعا كبيرا، جمع شامخ وهو الشديد الارتفاع.
قال صاحب الكشاف: الكفات: من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه.. وبه انتصب أَحْياءً وَأَمْواتاً كأنه قيل: كافتة أحياء وأمواتا، أو انتصبا بفعل مضمر يدل عليه، وهو تكفت.
والمعنى: تكفت أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها.
فإن قلت: لم قيل أحياء وأمواتا على التنكير، وهي كفات الأحياء والأموات جميعا؟
قلت: هو من تنكير التفخيم، كأنه قيل: تكفت أحياء لا يعدون، وأمواتا لا يحصرون.. «1» .
وقوله- سبحانه- وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً بيان لنعمة أخرى من أجل نعمه على خلقه، أى: وأسقيناكم- بفضلنا ورحمتنا- ماء فُراتاً أى: عذبا سائغا للشاربين.
وقوله- تعالى- وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تكرير للتوبيخ والتقريع على جحودهم لنعم الله، التي يرونها بأعينهم، ويحسونها بحواسهم ويستعملونها لمنفعتهم.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان المصير الأليم الذي ينتظر هؤلاء المكذبين، فقال- تعالى-: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ.
وقوله- سبحانه-: انْطَلِقُوا مفعول لقول محذوف. أى: يقال للكافرين يوم القيامة- على سبيل الإهانة والإذلال-: انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون به في الدنيا من العذاب.
وقوله: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ.. بدل مما قبله، وأعيد فعل انْطَلِقُوا.. على سبيل التوكيد، لقصد الزيادة في تقريعهم وتوبيخهم.
والمراد بالظل: دخان جهنم، وسمى بذلك لشدة كثافته، أى: انطلقوا- أيها المشركون- إلى ظل من دخان جهنم الذي يتصاعد من وقودها، ثم يتفرق بعد ذلك إلى ثلاث شعب، شأن الدخان العظيم عند ما يرتفع.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 680.(15/238)