فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
أنواعا متعددة من الأدلة والبراهين على وحدانيته- عز وجل- وقدرته، ورحمته بخلقه، فقال- تعالى-:
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 27]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)(11/73)
قالوا الإمام الرازي: لما بين- سبحانه- عظمته في الابتداء بقوله ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، وعظمته في الانتهاء، بقوله:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ وأن الناس يتفرقون فريقين، ويحكم- عز وجل- على البعض بأن هؤلاء للجنة ولا أبالى، وهؤلاء للنار ولا أبالى، بعد كل ذلك أمر بتنزيهه عن كل سوء، وبحمده على كل حال، فقال: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ «1» .
والفاء في قوله: فَسُبْحانَ.. لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ولفظ «سبحان» اسم مصدر، منصوب بفعل محذوف. والتسبيح: تنزيه الله-- تعالى-: عن كل ما لا يليق بجلاله. والمعنى: إذا علمتم ما أخبرتكم به قبل ذلك، فسبحوا الله- تعالى- ونزهوه عن كل نقص حِينَ تُمْسُونَ أى: حين تدخلون في وقت المساء، وَحِينَ تُصْبِحُونَ أى:
تدخلون في وقت الصباح.
وقوله- تعالى-: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جملة معترضة لبيان أن جميع الكائنات تحمده على نعمه، وأن فوائد هذا الثناء تعود عليهم لا عليه- سبحانه-.
وقوله وَعَشِيًّا معطوف على حِينَ تُمْسُونَ أى: سبحوا الله- تعالى-: حين تمسون، وحين تصبحون، وحين يستركم الليل بظلامه. وحين تكونون في وقت الظهيرة، فإنه- سبحانه- هو المستحق للحمد والثناء من أهل السموات ومن أهل الأرض، ومن جميع المخلوقات.
قال ابن كثير: وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفي؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى، سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.
وفي حديث آخر: «من قال حين يصبح: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.. أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي، أدرك ما فاته في ليلته «2» » .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 6 ص 514.
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 314.(11/74)
ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر قدرته فقال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كإخراجه الإنسان من النطفة، والنبات من الحب، والمؤمن من الكافر وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كما في عكس هذه الأمور، كإخراجه النطفة من الإنسان، والحب من النبات، والكافر من المؤمن.
وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها: أى: بعد قحطها وجدبها، كما قال- سبحانه-: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، وقوله- تعالى-: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ تذييل قصد به تقريب إمكانية البعث من العقول والأفهام. أى: ومثل هذا الإخراج البديع للنبات من الأرض، وللحي من الميت، نخرجكم- أيها الناس- من قبوركم يوم القيامة، للحساب والجزاء.
ثم أورد- سبحانه- بعد ذلك أنواعا من الأدلة على قدرته التي لا يعجزها شيء، فقال- تعالى- وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ.
والآيات: جمع آية، وتطلق على الآية القرآنية، وعلى الشيء العجيب، كما في قوله- تعالى-: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً.. والمراد بها هنا: الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة، الدالة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته.
والمعنى: ومن آياته- سبحانه- الدالة على عظمته، وعلى كمال قدرته، أنه خلقكم من تراب، أى: خلق أباكم آدم من تراب، وأنتم فروع عنه.
و «إذا» في قوله: ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ هي الفجائية.
أى: خلقكم بتلك الصورة البديعة من مادة التراب التي لا يرى فيها رائحة للحياة، ثم صرتم بعد خلقنا إياكم في أطوار متعددة، بشرا تنشرون في الأرض، وتمشون في مناكبها، وتتقلبون فيها تارة عن طريق الزراعة، وتارة عن طريق التجارة، وتارة عن طريق الأسفار.. كل ذلك طلبا للرزق، ولجمع الأموال.
وعبر- سبحانه- بثم المفيدة للتراخي، لأن انتشارهم في الأرض لا يتأتى إلا بعد مرورهم بأطوار متعددة، منها أطوار خلقهم في بطون أمهاتهم، وأطوار طفولتهم وصباهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد.
قال الشوكانى: وإذا الفجائية وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء، لكنها وقعت هنا بعد ثم، بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة، وهي أطوار الإنسان، كما حكاها الله- تعالى- في(11/75)
مواضع، من كونه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما مكسوا لحما. «1» .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان آية ثانية، دالة على كمال قدرته ورأفته بعباده، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أى: ومن آياته الدالة على رحمته بكم، أنه- سبحانه- خلق لكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أى: من جنسكم في البشرية والإنسانية أزواجا.
قال الآلوسى: قوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم- عليه السلام- متضمن لخلقهن من أنفسكم «فمن» للتبعيض والأنفس بمعناها الحقيقي، ويجوز أن تكون «من» ابتدائية، والأنفس مجاز عن الجنس، أى: خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر، قيل: وهو الأوفق لما بعد «2» .
وقوله- سبحانه-: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها بيان لعلة خلقهم على هذه الطريقة. أى:
خلق لكم من جنسكم أزواجا، لتسكنوا إليها، ويميل بعضكم إلى بعض، فإن الجنس إلى الجنس أميل، والنوع إلى النوع أكثر ائتلافا وانسجاما وَجَعَلَ- سبحانه- بَيْنَكُمْ يا معشر الأزواج والزوجات مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أى: محبة ورأفة، لم تكن بينكم قبل ذلك، وإنما حدثت عن طريق الزواج الذي شرعه- سبحانه- بين الرجال والنساء، والذي وصفه- تعالى- بهذا الوصف الدقيق، في قوله- عز وجل-: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ.
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرناه لكم قبل ذلك لَآياتٍ عظيمة تهدى إلى الرشد وإلى الاعتبار لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في مظاهر قدرة الله- تعالى- ورحمته بخلقه.
ثم ذكر- سبحانه- آية ثالثة فقال: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: ومن آياته الدالة على قدرته التامة على كل شيء، خلقه للسموات والأرض بتلك الصورة البديعة وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أى: واختلاف لغاتكم فهذا يتكلم بالعربية، وآخر بالفارسية وثالث بالرومية.. إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده من اللغات، بل إن الأمة الواحدة تجد فيها عشرات اللغات التي يتكلم بها أفرادها، ومئات اللهجات وَأَلْوانِكُمْ أى: ومن آياته كذلك، اختلاف ألوانكم، فهذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أصفر، وهذا أشقر.. مع أن الجميع من أب واحد وأم واحدة وهما آدم وحواء. بل إنك لا تجد شخصين يتطابقان تطابقا تاما في خلقتهما وشكلهما.
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 219.
(2) تفسير الآلوسى ج 21 ص 30.(11/76)
قال صاحب الكشاف: الألسنة: اللغات. او أجناس النطق واشكاله. خالف- عز وجل- بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدة، ولا رخاوة، ولا فصاحة.. ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، ولو اتفقت وتشاكلت، وكانت ضربا واحدا، لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة ... وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون «1» .
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي وضحناه لكم لَآياتٍ بينات لِلْعالِمِينَ- بفتح اللام- وهي قراءة الجمهور، أى: إن في ذلك لآيات لجميع أصناف العالم من بار وفاجر، ومؤمن وكافر.
وقرأ حفص- بكسر اللام- أى: إن في ذلك لآيات لأولى العلم والفهم من الناس.
ثم ذكر- سبحانه- آية رابعة فقال: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ أى: نومكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ لراحة أبدانكم وأذهانكم، وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أى: وطلبكم أرزاقكم فيهما من فضل الله وعطائه الواسع.
قال الجمل: قيل في الآية تقديم وتأخير، ليكون كل واحد مع ما يلائمه، والتقدير: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل، وعطف عليه، لأن حرف العطف قد يقوم مقام الجار، والأحسن أن يجعل على حاله، والنوم بالنهار مما كانت العرب تعده نعمة من الله ولا سيما في أوقات القيلولة في البلاد الحارة» «2» .
إِنَّ فِي ذلِكَ كله لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ هذه التوجيهات سماع تدبر وتفكر واعتبار فيعملون بما يسمعون.
ثم ساق- سبحانه- آية خامسة فقال: ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا.
أى: ومن آياته- سبحانه- الدالة على قدرته، أنه يريكم البرق، فتارة تخافون مما يحدث بعده من صواعق متلفة، وأمطار مزعجة، وتارة ترجون من ورائه المطر النافع، والغيث المدرار.
وانتصاب «خوفا وطمعا» على أنهما مفعول لأجله، أى: يريكم ذلك من أجل الخوف والطمع، إذ بهما يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء، فلا يبطر ولا ييأس من رحمة الله.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً كثيرا فَيُحْيِي بِهِ أى: بسبب هذا الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 433.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 289. [.....](11/77)
أى: بأن يحولها من أرض جدباء هامدة إلى أرض خضراء زاخرة بالنبات إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ هذه الإرشادات، ويستعملون عقولهم في الخير لا في الشر، وفي الحق لا في الباطل، وفي استنباط المعاني الدالة على كمال قدرة الله- تعالى- ورحمته.
ثم ذكر- سبحانه- آية سادسة فقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ والمراد بقيامهما: ثباتهما وبقاؤهما بتلك الصورة العجيبة البديعة.
أى: ومن آياته- سبحانه- الدالة على كمال قدرته، خلقه للسموات وللأرض، وإبقاؤه لهما على هذه الصورة البديعة، وقيامهما وثباتهما واستمساكهما على تلك الهيئة العجيبة، وذلك كله بإرادته وأمره ومشيئته.
قال ابن كثير: وشبيه بذلك قوله- تعالى-: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا. وكان عمر بن الخطاب. رضى الله عنه- إذا اجتهد في اليمين قال: لا، والله الذي تقوم السماء والأرض بأمره، أى: هي قائمة ثابتة بأمره وتسخيره إياها «1» .
وقوله- تعالى-: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ بيان لامتثالهم لأمره بدون تقاعس، عند ما يدعوهم الداعي للخروج من قبورهم للبعث والحساب.
و «ثم» بعدها كلام محذوف، و «إذا» الأولى شرطية، والثانية فجائية، والداعي هو إسرافيل بأمر الله- تعالى-: وقوله: مِنَ الْأَرْضِ متعلق بقوله دَعاكُمْ.
أى: ثم بعد موتكم ووضعكم في قبوركم، إذا دعاكم الداعي دعوة واحدة من الأرض التي أنتم مستقرون فيها، إذا أنتم تخرجون من قبوركم مسرعين بدون تلبث أو توقف، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع.
قال صاحب الكشاف: وإنما عطف هذه الجملة على قيام السموات والأرض بثم، بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر، واقتداره- سبحانه- على مثله وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، كما قال- تعالى-: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «2» .
وكما في قوله- سبحانه-: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ «3» وكما في قوله- عز وجل-: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا «4» .
__________
(1) سورة النحل. الآية 125.
(2) تفسير فتح القدير ج 4 ص 205.
(3) سورة النازعات الآيتان 13، 14.
(4) سورة الإسراء الآية 52.(11/78)
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات، بآية جامعة لكل معاني القدرة والإيجاد والهيمنة على هذا الكون فقال: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى من الملائكة والجن والإنس، خلقا، وملكا، وتصرفا، كل ذلك له وحده- سبحانه- لا لأحد غيره.
وقوله: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مؤكد لما قبله ومقرر له، أى: كل الخلائق له لا لغيره طائعون خاضعون، خاشعون، طوعا وكرها، إذ لا يمتنع عليه- سبحانه- شيء يريد فعله بهم، من حياة أو موت، ومن صحة أو مرض، ومن غنى أو فقر.
هذا، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة، يرى أكثر من عشرة أدلة، على وحدانية الله- تعالى- وعلى انفراده بالخلق، وعلى إمكانية البعث، ومن هذه الأدلة خلق الإنسان من تراب، وصيرورته بعد تقلبه في أطوار التكوين بشرا سويا، وإيجاده- سبحانه- للذكور والإناث، حتى يبقى النوع الإنسانى إلى الوقت المقدر في علمه- تعالى-: وإيجاده للناس على هذه الصورة التي اختلفت معها ألسنتهم وألوانهم، مع أن أصلهم واحد، وجعله- تعالى- الليل مناما لراحة الناس، والنهار معاشا لابتغاء الرزق، وإنزاله المطر من السماء لإحياء الأرض بالنبات، وبقاء السموات والأرض على هذه الصورة العجيبة بأمره وتدبيره..
إلى غير ذلك من الأدلة المبثوثة في الأنفس والآفاق.
ثم أكد- سبحانه- ما يدل على إمكانية البعث، فقال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...
أى: وهو- سبحانه- الذي يبدأ الخلق بدون مثال سابق، ثم يعيد هذه المخلوقات بعد موتها إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء.
والضمير في قوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ للإعادة المفهومة من قوله ثُمَّ يُعِيدُهُ والتذكير للضمير باعتبار المعنى، أى: والعود أو الرد، أو الإرجاع أهون عليه.
أى: وهو- سبحانه- وحده الذي يخلق المخلوقات من العدم، ثم يعيدها إلى الحياة مرة أخرى في الوقت الذي يريده، وهذه الإعادة للأموات أهون عليه، أى: أسهل عليه من البدء.
وهذه الأسهلية على طريقة التمثيل والتقريب، بما هو معروف عند الناس من أن إعادة الشيء من مادته الأولى أسهل من ابتدائه.
ورحم الله صاحب الكشاف، فقد وضح هذا المعنى فقال: قوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أى: فيما يجب عندكم، وينقاس على أصولكم، ويقتضيه معقولكم لأن من أعاد منكم صنعة(11/79)
شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وتعتذرون للصانع إذا خطئ في بعض ما ينشئه بقولكم: أول الغزل أخرق، وتسمون الماهر في صناعته معاودا، تعنون أنه عاودها كرة بعد أخرى، حتى مرن عليها وهانت عليه.
فإن قلت لم أخرت الصلة في قوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وقدمت في قوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ؟ قلت. هناك قصد الاختصاص وهو محزه، فقيل: هو عليه هين، وان كان مستصعبا عندكم أن يولد بين همل- أى: شيخ فان- وعاقر. وأما هنا فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى..» «1» .
ومنهم من يرى أن أهون هنا بمعنى هين، أى: إرجاعكم إلى الحياة بعد موتكم هين عليه.
والعرب تجعل أفعل بمعنى فاعل في كثير من كلامهم، ومنه قول الشاعر:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
أى: بنى لنا بيتا دعائمه عزيزة طويلة ومنه قولهم: الله أكبر أى: كبير.
وقوله- تعالى-: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. أى: وله- سبحانه- الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله، لا في السموات ولا في الأرض، إذ لا يشاركه أحد في ذاته أو صفاته فهو- سبحانه- ليس كمثله شيء.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي يغلب ولا يغلب الْحَكِيمُ في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.
وبعد هذا التطواف المتنوع في آفاق الأنفس، وفي أعماق هذا الكون، ضرب- سبحانه- مثلا لا مجال للجدل فيه، لوضوحه واعتماده على المنطق السليم، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضى في طريقه المستقيم، كما أمر المؤمنين بأن يلتجئوا إليه- سبحانه- وحده، وأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه، فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 456.(11/80)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 32]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
ومِنْ في قوله- سبحانه-: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ابتدائية، والجار والمجرور في محل نصب، صفة لقوله: مَثَلًا.
أى: ضرب لكم- أيها الناس- مثلا، يظهر منه بطلان الشرك ظهورا واضحا، وهذا المثل كائن من أحوال أنفسكم، التي هي أقرب شيء لديكم.
قال القرطبي: والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك..» «1» .
وقوله- تعالى-: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ تصوير وتفصيل للمثل، والاستفهام للإنكار والنفي. ومِنْ الأولى للتبعيض، والثانية لتأكيد النفي، وقوله شُرَكاءَ مبتدأ، وخبره لَكُمْ وقوله: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ متعلق بمحذوف حال من شركاء.
وقوله: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ جواب للاستفهام الذي هو بمعنى النفي. والجملة مبتدأ
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 23.(11/81)
وخبر. وقوله: تَخافُونَهُمْ خبر ثان لأنتم، وقوله: كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ صفة لمصدر محذوف، أى: تخافونهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم.
والمعنى: ضرب الله- تعالى- لكم- أيها الناس- مثلا منتزعا من أنفسكم التي هي أقرب شيء إليكم، وبيان هذا المثل: أنكم لا ترضون أن يشارككم في أموالكم التي رزقناكم إياها، عبيدكم وإماؤكم، مع أنهم مثلكم في البشرية، ونحن الذين خلقناهم كما خلقناكم، بل إنكم لتخافون على أموالكم منهم، أن يشاركوكم فيها، كما تخافون عليها من الأحرار المشابهين لكم في الحرية وفي جواز التصرف في تلك الأموال. فإذا كان هذا شأنكم مع عبيدكم- الذين هم مثلكم في البشرية، والذين لم تخلقوهم بل نحن الذين خلقناكم وخلقناهم- فكيف أجزتم لأنفسكم أن تشركوا مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة، مع أنه- سبحانه- هو الخالق لكم ولهم، والرازق لكم ولهم؟!!.
إن تصرفكم هذا ظاهر التناقض والبطلان، لأنكم لم ترضوا أن يشارككم غيركم في أموالكم، ورضيتم أن تشركوا مع الله- تعالى-: غيره في العبادة، مع أنه- سبحانه- هو الخالق والرازق لكل شيء.
فالمقصود من الآية الكريمة، إبطال الشرك بأبلغ أسلوب، وأوضح بيان، وأصدق حجة، وأقوى دليل.
ولذا ختمها- سبحانه- بقوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أى: مثل ذلك التفصيل الجلى الواضح، نفصل الآيات الدالة على وحدانيتنا، لقوم يعقلون هذه الأمثال، وينتفعون بها في إخلاص العبادة لله الواحد القهار.
قال الإمام القرطبي: قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين، لافتقار بعضهم إلى بعض، ونفيها عن الله- سبحانه- وذلك أنه قال- سبحانه-:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا، فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا أنفسكم عن مشاركة عبيدكم، وتجعلوا عبيدي شركائى في خلقي، فهذا حكم فاسد، وقلة نظر وعمى قلب!! فإذا أبطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة، والخلق كلهم عبيد الله- تعالى- فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله- تعالى- في شيء من أفعاله.
ثم قال- رحمه الله-: وهذه المسألة أفضل للطالب، من حفظ ديوان كامل في الفقه،(11/82)
لأن جميع العبادات البدنية، لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب فافهم ذلك «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن هؤلاء المشركين لم ينتفعوا بهذه الأمثال لاستيلاء الجهل والعناد عليهم فقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...
أى: لم ينتفع هؤلاء الظالمون بهذا المثل الجلى في إبطال الشرك، بل لجوا في كفرهم، واتبعوا أهواءهم الزائفة، وأفكارهم الفاسدة، وجهالاتهم المطبقة دون أن يصرفهم عن ذلك علم نافع فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أى: إذا كان هذا هو حالهم، فمن الذي يستطيع أن يهدى إلى الحق، من أضله الله- تعالى-: عنه بسبب زيفه واستحبابه العمى على الهدى.
إنه لا أحد يستطيع ذلك وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عقابه- سبحانه- لهم.
ثم أمر سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يثبت على الحق الذي هداه- عز وجل- إليه فقال:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً.. والفاء هي الفصيحة، وقوله: فَأَقِمْ من الإقامة على الشيء والثبات عليه، وعدم التحول عنه.
قوله: حَنِيفاً من الحنف، وهو الميل من الباطل إلى الحق، وضده الجنف، وحَنِيفاً حال من فاعل فَأَقِمْ.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لك- أيها الرسول الكريم- من بطلان الشرك فاثبت على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، وأقبل على هذا الدين الذي أوحاه الله إليك، بدون التفات عنه، أو ميل إلى سواه.
قال صاحب الكشاف: قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً أى: فقوم وجهك له وعدّله، غير ملتفت عنه يمينا أو شمالا، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه، وسدد إليه نظره، وقوم له وجهه، مقبلا به عليه.
والمراد بالفطرة في قوله- تعالى-: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ الملة. أى: ملة الإسلام والتوحيد.
أو المراد بها: قابلية الدين الحق، والتهيؤ النفسي لإدراكه. والأصل فيها أنها بمعنى الخلقة.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 23.(11/83)
أى: اثبت- أيها الرسول الكريم- على هذا الدين الحق، والزموا- أيها الناس- فطرة الله، وهي ملة الحق، التي فطر الناس عليها، وخلقهم قابلين لها.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يقول- تعالى-: فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه- تعالى-: فطر خلقه على معرفته وتوحيده.
وفي الحديث: «إنى خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم- أى حولتهم- الشياطين عن دينهم» .
وروى البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول: فطرة الله التي فطر الناس عليها..» «1» .
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم وحّد الخطاب أولا، ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولا، وخطاب الرسول خطاب لأمته، مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص «2» .
وقوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة التي فطر- سبحانه- الناس عليها.
أى: الزموا فطرة الله التي هي دين الإسلام، وقبول تعاليمه والعمل بها، لأن هذا الدين قد ارتضاه الله- تعالى- لكم، ولا تبديل ولا تغيير لما فطركم عليه وارتضاه لكم.
وذلِكَ الدين الذي اختاره- سبحانه- لكم، هو الدِّينُ الْقَيِّمُ أى: القويم المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
فاسم الإشارة يعود إلى الدين الذي أمرنا- سبحانه- بالثبات عليه، في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً.
وقوله- تعالى-: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استدراك لبيان موقف الناس من هذا الدين القيم.
أى: ذلك الدين الذي ارتضيته لكم هو الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 340.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 479.(11/84)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
الحقيقة، بسبب استحواذ الشيطان عليهم، واتباعهم للأهواء الزائفة، والتقاليد الفاسدة.
ثم حرضهم- سبحانه- على الاستمرار في اتباع توجيهات هذا الدين القيم فقال:
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ.
قال القرطبي: وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أنه القطع. ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع، فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله- عز وجل- بالطاعة. والثاني: أن أصله الرجوع، مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى، ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة، ولفظ مُنِيبِينَ منصوب على الحال «1» .
والمعنى: أقيموا وجوهكم- أيها الناس- لخالقكم وحده، حالة كونكم راجعين إليه بالتوبة والطاعة، ومقبلين إليه بالاستغفار والعبادة، ومتقين له في كل أحوالكم، ومداومين على إقامة الصلاة في أوقاتها بخشوع واطمئنان.
وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ المبدلين لفطرة الله- تعالى- المتبعين لأهوائهم وشهواتهم.
وقوله مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً بدل مما قبله.
أى: ولا تكونوا من المشركين، الذين اختلفوا في شأن دينهم اختلافات شتى على حسب أهوائهم، وصاروا شيعا وفرقا وأحزابا متنازعة.
كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أى: كل حزب منهم صار مسرورا بما لديه من دين باطل، وملة فاسدة، وعقيدة زائفة، وهذا الفرح بالباطل سببه جهلهم، وانطماس بصائرهم عن الانقياد للحق.
ثم بين- سبحانه- أحوال الناس في السراء والضراء وعند ما يوسع الله- تعالى- في أرزاقهم، وعند ما يضيق عليهم هذه الأرزاق، فقال- تعالى-:
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 31.(11/85)
أى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ من قحط أو مصيبة في المال أو الولد، دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أى: إذا نزل بهم الضر، أسرعوا بالدعاء إلى الله- تعالى- متضرعين إليه أن يكشف عنهم ما نزل بهم من بلاء.
هذا حالهم عند الشدائد والكروب، أما حالهم عند العافية والغنى وتفريج الهموم، فقد عبر عنه- سبحانه- بقوله: ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.
وإِذا الأولى شرطية، والثانية فجائية.
أى: هم بمجرد نزول الضر بهم يلجئون إلى الله- تعالى- لإزالته، ثم إذا ما كشفه عنهم، وأحاطهم برحمته، أسرع فريق منهم بعبادة غيره- سبحانه-.
وقوله- تعالى-: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ: إنصاف وتشريف لفريق آخر من الناس، من صفاتهم أنهم يذكرون الله- تعالى- في كل الأحوال، ويصبرون عند البلاء، ويشكرون عند الرخاء.
والتنكير في قوله- سبحانه- «ضر، ورحمة» للإشارة إلى أن هذا النوع من الناس، يجزعون عند أقل ضر، ويبطرون ويطغون لأدنى رحمة ونعمة.
واللام في قوله- تعالى-: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هي العاقبة. أى: فعلوا ما فعلوا من الجزع عند الضر، ومن البطر عند النعم، ليكون مآل حالهم إلى الكفر والجحود لنعم الله، وإلى سوء العاقبة والمصير.
ثم التفت إليهم- سبحانه- بالخطاب مهددا ومتوعدا فقال: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أى: فتمتعوا- أيها الجاحدون لنعم الله- بهذا المتاع الزائل من متع الحياة الدنيا، فسوف تعلمون ما يترتب على ذلك من عذاب مهين.
وقوله- تعالى-: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ التفات(11/86)
من الخطاب إلى الغيبة، على سبيل التحقير لهم، والتهوين من شانهم. والاستفهام للنفي والتوبيخ.
والسلطان: الحجة والبرهان.
أى: هؤلاء الذين أشركوا معنا غيرنا في العبادة، هل نحن أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد لهم بأن شركهم لا يخالف الحق، وتنطق بأن كفرهم لا غبار عليه؟
كلا، إننا ما أنزلنا عليهم شيئا من ذلك، وإنما هم الذين وقعوا في الشرك، بغير علم، ولا هدى ولا كتاب منير.
فالآية الكريمة تتهكم بهم لسفههم وجهلهم، وتنفى أن يكون شركهم مبنيا على دليل أو ما يشبه الدليل، أو أن يكون هناك من أمرهم به سوى تقاليدهم الباطلة، وأهوائهم الفاسدة وأفكارهم الزائفة.
ثم عادت الصورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال بعض النفوس البشرية في حالتي العسر واليسر، فقال- تعالى-: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً من صحة أو غنى أو أمان فَرِحُوا بِها أى: فرحوا بها فرح البطر الأشر، الذي لا يقابل نعم الله- تعالى- بالشكر، ولا يستعملها فيما خلقت له.
فالمراد بالفرح هنا: الجحود والكفران للنعم، وليس مجرد السرور بالحصول على النعم.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة أو مصيبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أى: بسبب شؤم معاصيهم، وإهمالهم لشكر الله- تعالى- على نعمه إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أى: أسرعوا باليأس من رحمة الله، وقنطوا من فرجه، واسودت الدنيا في وجوههم، شأن الذين لا يعرفون سنن الله- تعالى- في خلقه، والذين يعبدون الله على حرف، فهم عند السراء جاحدون مغرورون..
وعند الضراء قانطون يائسون.
وعبر- سبحانه- في جانب الرحمة بإذا، وفي جانب المصيبة بإن، للإشعار بأن رحمته- تعالى- بعباده متحققة في كل الأحوال. وأن ما ينزل بالناس من مصائب، هو بسبب ما اجترحوه من ذنوب.
ونسب- سبحانه- الرحمة إلى ذاته فقال: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً دون السيئة فقد قال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ لتعليم العباد الأدب مع خالقهم- عز وجل-، وإن كان الكل بيده- سبحانه- وبمشيئته، وشبيه بهذا قوله- تعالى-: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً.(11/87)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
والتعبير بإذا الفجائية في قوله إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ، للإشارة إلى سرعة يأسهم من رحمة الله- تعالى- حتى ولو كانت المصيبة هينة بسيرة، وذلك لضعف يقينهم وإيمانهم. إذ القنوط من رحمة الله، يتنافى مع الإيمان الحق.
ثم عقب- سبحانه- على أحوالهم هذه، بالتعجيب من شأنهم، وبالتقريع لهم على جهلهم، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ.
أى: أجهل هؤلاء الناس الذين لم يخالط الإيمان قلوبهم، ولم يشاهدوا بأعينهم أن الله- تعالى- بمقتضى حكمته، يوسع الرزق لمن يشاء من عباده. ويضيقه على من يشاء منهم، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل.
إن واقع الناس يشهد ويعلن: أن الله- تعالى- يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فما لهؤلاء القوم ينكرون هذا الواقع بأفعالهم القبيحة، حيث إنهم يبطرون عند السراء، ويقنطون عند الضراء؟ فالمقصود بالآية الكريمة توبيخهم على عدم فهمهم لسنن الله في خلقه.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أى: إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من أحوال الناس، ومن قدرتنا على كل شيء لَآياتٍ واضحات، وعبر بينات، لقوم يؤمنون بما أرشدناهم إليه، ويعملون بما يقتضيه إيمانهم.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما يجب على المسلم بالنسبة للمال الذي وهبه الله إياه، فقال- تعالى-:
[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)(11/88)
والخطاب في قوله- تعالى-: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ.. للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكل من يصلح له من أمته. والفاء: لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم، من أن بسط الأرزاق وقبضها بيدي وحدي، فأعط- أيها الرسول الكريم- ذا القربى حقه من المودة والصلة والإحسان، وليقتد بك في ذلك أصحابك وأتباعك.
وأعط- أيضا- الْمِسْكِينَ الذي لا يملك شيئا ذا قيمة، حقه من الصدقة والبر، وكذلك ابْنَ السَّبِيلِ وهو المسافر المنقطع عن ماله في سفره، ولو كان غنيا في بلده.
وقدم- سبحانه- الأقارب، لأن دفع حاجتهم واجب من الواجبات التي جعلها- سبحانه- للقريب على قريبه.
قال القرطبي: واختلف في هذه الآية، فقيل: إنها منسوخة بآية المواريث. وقيل:
لا نسخ، بل للقريب حق لازم في البر على كل حال، وهو الصحيح، قال مجاهد وقتادة:
صلة الرحم فرض من الله- عز وجل-، حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة «1» .
وقال الجمل في حاشيته: وعدم ذكر بقية الأصناف المستحقين للزكاة، يدل على أن ذلك في صدقة التطوع، وقد احتج أبو حنيفة- رحمه الله- بهذه الآية على وجوب نفقة المحارم، والشافعى- رحمه الله- قاس سائر الأقارب- ما عدا الفروع والأصول- على ابن العم، لأنه لا ولادة بينهم.
ثم قال: وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للإنسان مال زائد، لأن المقصود هنا: الشفقة العامة، والفقير داخل في المسكين..» «2» .
ثم بين- سبحانه- الآثار الطيبة المترتبة على هذا البر والعطاء فقال: ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 4 ص 35.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 294.(11/89)
أى: ذلك الإيتاء لهؤلاء الثلاثة، خير وأبقى عند الله- تعالى- للذين يريدون بصدقتهم وإحسانهم وجه الله، وأولئك المتصفون بتلك الصفات الحميدة، هم الكاملون في الفلاح، والظفر بالخير في الدنيا والآخرة.
وبعد أن حضهم على صلة الأقارب والمساكين وابن السبيل، نفرهم من تعاطى الربا فقال:
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ.
والربا: الزيادة مطلقا. يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد ونما، ومنه قوله- تعالى-:
وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. أى: زادت.
قال الآلوسى ما ملخصه: والظاهر أن المراد بالربا هنا، الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرمها الشارع. ويشهد لذلك ما روى عن السدى، من أن الآية نزلت في ربا ثقيف، كانوا يرابون، وكذلك كانت قريش تتعاطى الربا.
وعن ابن عباس وغيره: أن المراد به هنا العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة، وعليه فتسميتها ربا مجاز، لأنها سبب للزيادة «1» .
ويبدو لنا أن المراد بالربا هنا، الربا الذي حرمه الله- تعالى- بعد ذلك تحريما قاطعا، وأن المقصود من الآية التنفير منه على سبيل التدرج، حتى إذا جاء التحريم النهائى له، تقبلته نفوس الناس بدون مفاجأة لهذا التحريم.
قال صاحب الكشاف: هذه الآية في معنى قوله- تعالى- يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. سواء بسواء. يريد: وما أعطيتم أكلة الربا مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أموالهم، أى: ليزيد ويزكو في أموالهم، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه «2» .
ثم حض- سبحانه- على التصدق في سبيله فقال: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أى من صدقة تتقربون بها إلى الله، وتُرِيدُونَ بأدائها وَجْهَ اللَّهِ أى: رضاه وثوابه.
فَأُولئِكَ الذين يفعلون ذلك هُمُ الْمُضْعِفُونَ أى: ذوو الأضعاف المضاعفة من الثواب والعطاء الكريم، فالمضعفون جمع مضعف- بكسر العين- على أنه اسم فاعل من أضعف، إذا صار ذا ضعف- بكسر فسكون- كأقوى وأيسر، إذا صار ذا قوة ويسار.
وقال- سبحانه-: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ولم يقل: فأنتم المضعفون، لأنه رجع
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 45.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 481. [.....](11/90)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
من المخاطبة إلى الغيبة، كأنه قال لملائكته: فأولئك الذين يريدون وجهى بصدقاتهم، هم المضعفون، فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك مظاهر فضله على الناس فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ على غير مثال سابق ثُمَّ رَزَقَكُمْ من فضله بأنواع من الرزق الذي لا غنى لكم عنه في معاشكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد انقضاء أعماركم في هذه الحياة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يوم القيامة للحساب والجزاء.
والاستفهام في قوله- سبحانه-: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ للإنكار والنفي. أى: ليس من شركائكم الذين عبدتموهم من يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك، فكيف اتخذتموهم آلهة وأشركتموهم معى في العبادة؟ إن الله- تعالى- وحده هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت.
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزه وتقدس عن شرك هؤلاء المشركين وعن جهل أولئك الجاهلين.
وبعد هذا التوجيه الحكيم، يسوق- سبحانه- الآثار السيئة التي تترتب على الكفر والمعاصي، ويأمر بالاعتبار بالسابقين، ويبين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار فيقول:
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 45]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)(11/91)
قال ابن كثير ما ملخصه: قال ابن عباس وغيره: المراد بالبر هاهنا، الفيافي. وبالبحر:
الأمصار والقرى، ما كان منها على جانب نهر.
وقال آخرون: بل المراد بالبر هو البر المعروف. وبالبحر: البحر المعروف.
والقول الأول أظهر، وعليه الأكثر، ويؤيده ما ذكره ابن إسحاق في السيرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صالح ملك أيلة، وكتب له ببحره- يعنى ببلده- «1» .
والمعنى: ظهر الفساد في البر والبحر، ومن مظاهر ذلك انتشار الشرك والظلم، والقتل وسفك الدماء، والأحقاد والعدوان، ونقص البركة في الزروع والثمار والمطاعم والمشارب، وغير ذلك مما هو مفسدة وليس بمنفعة..
قال ابن كثير- رحمه الله-: وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد فيها، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: «الحد يقام في الأرض، أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا» .
والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت، انكف الناس، أو أكثرهم، أو كثير منهم، عن تعاطى المحرمات. وإذا ارتكبت المعاصي كان سببا في محق البركات.. وكلما أقيم العدل كثرت البركات والخيرات. وقد ثبت في الحديث الصحيح: «إن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب» «2» .
وقوله- تعالى-: بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ.. بيان لسبب ظهور الفساد. أى: عم الفساد وطم في البر والبحر، بسبب اقتراف الناس للمعاصي. وانهماكهم في الشهوات، وتفلتهم من كل ما أمرهم الله- تعالى- به، أو نهاهم عنه. كما قال- تعالى-:
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
فظهور الفساد وانتشاره، لا يتم عبثا أو اعتباطا، وإنما يتم بسبب إعراض الناس عن طاعة الله- تعالى-، وارتكابهم للمعاصي ...
ثم بين- سبحانه- ما ترتب على الوقوع في المعاصي من بلاء واختبار، فقال:
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
واللام في «ليذيقهم» للتعليل وهي متعلقة بظهر. أى: ظهر الفساد ... ليذيق- سبحانه- الناس نتائج بعض أعمالهم السيئة، كي يرجعوا عن غيهم وفسقهم، ويعودوا إلى الطاعة والتوبة.
__________
(1 و 2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 326.(11/92)
ويجوز ان تكون متعلقة بمحذوف، اى: عاقبهم بانتشار الفساد بينهم، ليجعلهم يحسون بسوء عاقبة الولوغ في المعاصي، ولعلهم يرجعون عنها، إلى الطاعة والعمل الصالح.
ثم يلفت- سبحانه- أنظار الناس إلى سوء عاقبة من ارتكس في الشرك والظلم، فيقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ. أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس: سيروا في الأرض سير المتأملين المعتبرين، لتروا بأعينكم، كيف كانت عاقبة الظالمين من قبلكم ...
لقد كانت عاقبتهم الدمار والهلاك، بسبب إصرار أكثرهم على الشرك والكفر، وانغماس فريق منهم في المعاصي والفواحش.
فالمراد بالسير، ما يترتب عليه من عظات وعبر، حتى لا تكون عاقبة اللاحقين، كعاقبة السابقين، في الهلاك والنكال.
ثم أكد- سبحانه- ما سبق أن أمر به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من ثبات على الحق فقال:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ.. أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لك- أيها الرسول الكريم- من سوء عاقبة الأشرار، وحسن عاقبة الأخيار. فاثبت على هذا الدين القويم، الذي أوحيناه إليك، ولا تتحول عنه إلى جهة ما.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أى: اثبت على هذا الدين القيم، من قبل أن يأتى يوم القيامة، الذي لا يقدر أحد على ردّه أو دفع عذابه إلا الله- تعالى- وحده.
ثم بين- سبحانه- أحوال الناس في هذا اليوم فقال: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ.
أى: يتفرقون. وأصله يتصدعون، فقلبت تاؤه صادا وأدغمت. والتصدع التفرق:
يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه قول الشاعر:
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
أى: لن يتفرقا.
والمعنى: اثبت على هذا الدين، من قبل أن يأتي يوم القيامة، الذي يتفرق فيه الناس إلى فريقين ثم بين- سبحانه- الفريق الأول فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أى: من كفر من الناس، فعاقبة كفره واقعة عليه لا على غيره، وسيتحمل وحده ما يترتب على ذلك من عذاب مهين.
قال صاحب الكشاف: قوله فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضار،(11/93)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
لأن من كان ضاره كفره، فقد أحاطت به كل مضرة» «1» .
ثم بين- سبحانه- الفريق الثاني فقال: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أى:
ومن عمل في دنياه عملا صالحا، فإنه بسبب هذا العمل يكون قد مهد وسوى لنفسه مكانا مريحا يستقر فيه في الآخرة.
والمهاد: الفراش. ومنه مهاد الصبى أى فراشه. ويقال مهدت الفراش مهدا، أى:
بسطته ووطأته. ومهدت الأمور. أى: سويتها وأصلحتها.
فالجملة الكريمة تصوير بديع للثمار الطيبة التي تترتب على العمل الصالح في الدنيا، حتى لكأن من يعمل هذا العمل، يعد لنفسه في الآخرة مكانا معبدا، ومضجعا هنيئا، ينزل فيه وهو في أعلى درجات الراحة والنعيم:
قال ابن جرير: قوله- تعالى- فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أى: فلأنفسهم يستعدون، ويسوون المضجع، ليسلموا من عقاب ربهم، وينجوا من عذابه، كما قال الشاعر:
أمهد لنفسك، حان السقم والتلف ... ولا تضيعن نفسا مالها خلف «2»
ثم بين- سبحانه- ما اقتضته حكمته وعدالته فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.
أى: فعل ما فعل- سبحانه- من تقسيم الناس إلى فريقين، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات، الجزاء الحسن الذي يستحقونه، وليعطيهم العطاء الجزيل من فضله، لأنه بحبهم، أما الكافرون، فإنه- سبحانه- لا يحبهم ولا يرضى عنهم.
ثم تعود السورة الكريمة إلى الحديث عن آيات الله- تعالى- الدالة على قدرته، وعن مظاهر فضله على الناس ورحمته بهم، وعن الموقف الجحودى الذي وقفه بعضهم من هذه النعم.. قال- تعالى-:
[سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 483.
(2) تفسير ابن جرير ج 21 ص 33.(11/94)
وقوله- سبحانه-: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ... بيان لأنواع أخرى من الظواهر الكونية الدالة على قدرته- عز وجل-.
أى: ومن الآيات والبراهين الدالة على وحدانية الله- تعالى- ونفاذ قدرته، أنه- سبحانه- يرسل بمشيئته وإرادته الرياح، لتكون بشارة بأن من ورائها أمطارا، فيها الخير الكثير للناس.
قال الآلوسى: قوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ أى: الجنوب، ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، والصبا: ومهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. والشمال: ومهبها من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر، فإنها رياح الرحمة. أما الدبور ومهبها من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل، فريح العذاب ... » «1» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 51.(11/95)
وقوله: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.. بيان للفوائد التي تعود على الناس من إرسال الرياح التي تعقبها الأمطار، وهو متعلق بقوله يُرْسِلَ.
أى: يرسل الرياح مبشرات بالأمطار ويرسلها ليمنحكم من رحمته الخصب والنماء لزرعكم، ولتجرى الفلك عند هبوبها في البحر بإذنه- تعالى- ولتبتغوا أرزاقكم من فضله- سبحانه- عن طريق الأسفار، والانتقال من مكان إلى آخر، ولكي تشكروا الله- تعالى- على هذه النعم: فإنكم إذا شكرتموه- سبحانه- على نعمه زادكم منها.
وقوله- تعالى-: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ...
كلام معترض بين الحديث عن نعمة الرياح، لتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم عما لحقه من قومه من أذى.
أى ولقد أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم- رسلا كثيرين، إلى قومهم ليهدوهم إلى الرشد، وجاء كل رسول إلى قومه بالحجج الواضحات التي تدل على صدقه.
وقوله انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
معطوف على كلام محذوف. أى: أرسلناهم بالحجج الواضحات، فمن أقوامهم من آمن بهم، ومنهم من كذبهم، فانتقمنا من المكذبين لرسلهم.
كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
أى: وكان نصر المؤمنين حقا أوجبناه على ذاتنا، فضلا منا وكرما، وتكريما وإنصافا لمن آمن بوحدانيتنا، وأخلص العبادة لنا.
«وحقا» خبر كان، و «نصر المؤمنين» اسمها و «علينا متعلق بقوله حقا.
قال ابن كثير: قوله كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
هو حق أوجبه على نفسه الكريمة، تكرما وتفضلا، كقوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
وعن أبى الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه، إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة: ثم تلا صلّى الله عليه وسلم هذه الآية» «1» .
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن الرياح وما يترتب عليها من منافع فتقول:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بقدرته ومشيئته.
فَتُثِيرُ سَحاباً أى: هذه الرياح التي يرسلها الله- تعالى- تتحرك في الجو وفق
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 328.(11/96)
إرادته- سبحانه- وتحرك السحاب وتنشره من مكان إلى آخر.
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ: أى فيبسط الله- تعالى- هذا السحاب في طبقات الجو، بالكيفية التي يختارها- سبحانه- ويريدها، بأن يجعله تارة متكاثفا، وتارة متناثرا، وتارة من جهة الشمال، وتارة من جهات غيرها.
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أى: ويجعله قطعا بعضها فوق بعض تارة أخرى. والكسف: جمع كسفه، وهي القطعة من السحاب.
فَتَرَى الْوَدْقَ أى: المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أى يخرج ويتساقط من خلال هذا السحاب، ومن بين ذراته. فَإِذا أَصابَ بِهِ، أى: بهذا المطر مَنْ يَشاءُ إصابته به مِنْ عِبادِهِ بأن ينزله على أراضيهم وعلى بلادهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أى: يفرحون بذلك، لأنه يكون سببا في حياتهم وحياة دوابهم وزروعهم..
وأعرف الناس بنعمة المطر، أولئك الذين يعيشون في الأماكن البعيدة عن الأنهار. كأهل مكة ومن يشبهونهم ممن تقوم حياتهم على مياه الأمطار.
ثم بين- سبحانه- حالهم قبل نزول تلك الأمطار عليهم فقال: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ.
وإن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، والضمير في يُنَزَّلَ يعود للمطر، وفي قوله مِنْ قَبْلِهِ يعود لنزول المطر- أيضا- على سبيل التأكيد. وقوله:
لَمُبْلِسِينَ خبر كان. والإبلاس: اليأس من الخير، والسكوت، والانكسار غما وحزنا.
يقال: أبلس الرجل، إذا سكت على سبيل اليأس والذل والانكسار.
أى: هم عند نزول الأمطار يستبشرون ويفرحون، ولو رأيت حالهم قبل نزول الأمطار لرأيتهم في غاية الحيرة والقنوط والإبلاس، لشدة حاجتهم إلى الغيث الذي طال انتظارهم له وتطلعهم إليه دون أن ينزل.
قال صاحب الكشاف: وقوله مِنْ قَبْلِهِ من باب التكرير والتوكيد، كقوله- تعالى-: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها «1» «ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم، وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك» «2» .
__________
(1) سورة الحشر الآية 17.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 485.(11/97)
ثم لفت- سبحانه- أنظار الناس إلى ما يترتب على نعمة المطر من آثار عظيمة فقال:
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ.. والفاء للدلالة على سرعة الانتقال من حالة اليأس إلى الاستبشار. أى: فانظر- أيها العاقل- نظرة تعقل واتعاظ واستبصار، إلى الآثار المترتبة على نزول المطر، وكيف أن نزوله حول النفوس من حالة الحزن إلى حالة الفرح، وجعل الوجوه مستبشرة بعد أن كانت عابسة يائسة.
وقوله- تعالى-: كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها في محل نصب على تقدير الخافض.
أى: فانظر إلى آثار رحمة الله بعد نزول المطر، وانظر وتأمل كيف يحيى الله- تعالى- بقدرته، الأرض بعد موتها بأن يجعلها خضراء ويانعة، بعد أن كانت جدباء قاحلة.
واسم الإشارة في قوله- تعالى- إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى يعود على الله- تعالى-.
أى: إن ذلك الإله العظيم الذي أحيا الأرض بعد موتها، لقادر على إحياء الموتى، إذ لا فرق بينهما بالنسبة لقدرة الله التي لا يعجزها شيء. وَهُوَ- سبحانه- عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ومن جملة الأشياء المقدور عليها، إحياء الموتى.
وهكذا يسوق القرآن الكريم الأدلة على البعث، بأسلوب منطقي، منتزع من واقع الناس، ومن المشاهد التي يرونها في حياتهم.
وبعد أن صور- سبحانه- أحوال الناس عند رؤيتهم للرياح التي تثير السحب المحملة بالأمطار، وأنهم عند رؤيتها يفرحون ويستبشرون. بعد أن صور ذلك بأسلوب بديع، أتبع ذلك بتصوير حالهم عند ما يرون ريحا تحمل لهم الرمال والأتربة، وتضر بمزروعاتهم فقال- تعالى- وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ.
والضمير في «رأوه» يعود إلى النبات المفهوم من السياق. أى: هذا حال الناس عند ما يرون الرياح التي تحمل لهم الأمطار، أما إذا أرسلنا عليهم ريحا معها الأتربة والرمال، فرأوا نباتهم وزروعهم قد اصفرت واضمحلت وأصابها ما يضرها أو يتلفها.. فإنهم يظلون من بعد إرسال تلك الريح عليهم، يكفرون بنعم الله، ويجحدون آلاءه السابقة، ويقابلون ما أرسلناه عليهم بالسخط والضيق، لا بالاستسلام لقضائنا، وملازمة طاعتنا.
قال الآلوسى ما ملخصه: واللام في قوله: وَلَئِنْ موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط، والفاء في «فرأوه» فصيحة، واللام في قوله «لظلوا» لام جواب القسم الساد مسد الجوابين، والماضي بمعنى المستقبل.. وفيما ذكر- سبحانه- من ذمهم على عدم تثبتهم ما لا يخفى، حيث كان من الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله- تعالى- في كل حال، ويلجئوا إليه بالاستغفار، إذا احتبس منهم المطر، ولا ييأسوا من روح الله- تعالى-(11/98)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
ويبادروا إلى الشكر بالطاعة، إذا أصابهم برحمته، وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة، فعكسوا الأمر، وأبوا ما يجديهم، وأتوا بما يؤذيهم ... » «1» .
ثم سلى- سبحانه- نبيه عما لحقه منهم من أذى، بعد أن ذكر له جانبا من تقلب أحوالهم، فقال- تعالى-: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. أى: فاصبر- أيها الرسول- لحكم ربك، واثبت على ما أنت عليه من حق فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إذا ناديتهم وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ما دعوتهم أو وعظتهم.
وقوله إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ بيان لإعراضهم عن الحق، بعد بيان كونهم كالأموات وكالصم.
ثم وصفهم بالعمى فقال: وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ بسبب فقدهم الانتفاع بأبصارهم، كما فقدوا الانتفاع ببصائرهم.
إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أى: ما تستطيع أن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أى: منقادون للحق ومتبعون له.
فالآيتان الكريمتان تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم عما أصابه من هؤلاء المشركين، وعن إخفاق جهوده مع كثير منهم، لانطماس بصائرهم، حيث شبههم- سبحانه- بالموتى وبالصم وبالعمى، في عدم انتفاعهم بالوعظ والإرشاد..
وبعد هذا التطواف في أعماق الأنفس والآفاق. أخذت السورة الكريمة في أواخرها، تذكر الناس بمراحل حياتهم، وبأحوالهم يوم القيامة، وبفضائل القرآن الكريم، وبأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالصبر والثبات.. قال- تعالى-:
[سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 54.(11/99)
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ..
استدلال آخر على قدرته- تعالى- ومعنى مِنْ ضَعْفٍ من نطفة ضعيفة، أو في حال ضعف، وهو ما كانوا عليه في الابتداء من الطفولة والصغر.. وقرأ الجمهور بضم الضاد، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها، والضعف- بالضم والفتح- خلاف القوة، وقيل بالفتح في الرأى، وبالضم في الجسد ... » «1» .
وقال- سبحانه-: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ولم يقل خلقكم ضعافا.. للإشعار بأن الضعف هو مادتهم الأولى التي تركب منها كيانهم، فهو شامل لتكوينهم الجسدى، والعقلي، والعاطفى، والنفسي ... إلخ. أى: الله- تعالى- بقدرته، هو الذي خلقكم من ضعف ترون جانبا من مظاهره في حالة طفولتكم وحداثة سنكم ...
ثُمَّ جَعَلَ- سبحانه- مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً أى: ثم جعل لكم من بعد مرحلة الضعف مرحلة أخرى تتمثل فيها القوة بكل صورها الجسدية والعقلية والنفسية..
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً أى: ثم جعل من بعد مرحلة القوة، مرحلة ضعف
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 46.(11/100)
آخر، تعقبه مرحلة أخرى أشد منه في الضعف، وهي مرحلة الشيب والهرم والشيخوخة التي هي أرذل العمر، وفيها يصير الإنسان أشبه ما يكون بالطفل الصغير في كثير من أحواله..
يَخْلُقُ- سبحانه- ما يَشاءُ خلقه وَهُوَ الْعَلِيمُ بكل شيء الْقَدِيرُ على كل شيء.
فأنت ترى أن هذه الآية قد جمعت مراحل حياة الإنسان بصورها المختلفة.
ثم بين- سبحانه- ما يقوله المجرمون عند ما يبعثون من قبورهم للحساب فقال:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ.
والمراد بالساعة: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من عمر الدنيا، أو لأنها تقع بغتة، والمراد بقيامها: حصولها ووجودها، وقيام الخلائق في ذلك الوقت للحساب أى: وحين تقوم الساعة ويرى المجرمون أنفسهم وقد خرجوا من قبورهم للحساب بسرعة ودهشة، يقسمون بأنهم ما لبثوا في قبورهم أو في دنياهم، غير وقت قليل من الزمان.
قال ابن كثير: يخبر الله- تعالى- عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأصنام، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم- أيضا- فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة واحدة. ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم «1» .
وقوله: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ تذييل قصد به بيان ما جبلوا عليه من كذب.
ويؤفكون من الإفك بمعنى الكذب. يقال: أفك الرجل، إذا صرف عن الخير والصدق أى: مثل هذا الكذب الذي تفوهوا به في الآخرة كانوا يفعلون في الدنيا، فهم في الدارين لا ينفكون عن الكذب وعن اختلاق الباطل.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله أهل العلم والإيمان في الرد عليهم، فقال: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ.
أى: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان من الملائكة والمؤمنين الصادقين في الرد على هؤلاء المجرمين: لقد لبثتم في علم الله وقضائه بعد مفارقتكم الدنيا إلى يوم البعث، أى: إلى الوقت الذي حدده- سبحانه- لبعثكم، والفاء في قوله- تعالى-: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ هي
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 331.(11/101)
الفصيحة. اى: إن كنتم منكرين للبعث، فهذا يومه تشاهدونه بأعينكم. ولا تستطيعون إنكاره الآن كما كنتم تنكرونه في الدنيا.
فالجملة الكريمة، المقصود بها توبيخهم وتأنيبهم على إنكارهم ليوم الحساب.
وقوله وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ زيادة في تقريعهم. أى: فهذا يوم البعث ماثل أمامكم. ولكنكم كنتم في الدنيا لا تعلمون أنه حق وصدق. بل كنتم بسبب كفركم وعنادكم تستخفون به وبمن يحدثكم عنه، فاليوم تذوقون سوء عاقبة إنكاركم له، واستهزائكم به.
ولذا قال- سبحانه- بعد ذلك: فَيَوْمَئِذٍ أى: فيوم أن تقوم الساعة ويقف الناس للحساب. لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أى لا ينفعهم الاعتذار، ولا يفيدهم علمهم بأن الساعة حق. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أى: ولا هم يقبل منهم الرجوع إلى الله- تعالى- بالتوبة والعمل الصالح.
قال الآلوسى: والاستعتاب: طلب العتبى، وهي الاسم من الإعتاب، بمعنى إزالة العتب. أى: لا يطلب منهم إزالة عتب الله- تعالى- وغضبه عليهم، لأنهم قد حق عليهم العذاب..» «1» .
ثم بين- سبحانه- موقفهم من القرآن الكريم، وأنهم لو اتبعوا توجيهاته لنجوا من العذاب المهين، فقال- تعالى-: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ...
أى: وبالله لقد ضربنا للناس في هذا القرآن العظيم، كل مثل حكيم، من شأنه أن يهدى القلوب إلى الحق، ويرشد النفوس إلى ما يسعدها ...
وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أى ولئن جئت- أيها الرسول- هؤلاء المشركين بآية بينة تدل على صدقك فيما تبلغه عن ربك.
لَيَقُولَنَّ على سبيل التطاول والتبجح إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أى: ما أنتم إلا متبعون للباطل أيها المؤمنون بما يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم يعقب- سبحانه- على هذا التطاول والغرور بقوله: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. والطبع: الختم على الشيء حتى لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه.
أى: مثل هذا الطبع العجيب، يطبع الله- تعالى- على قلوب هؤلاء الذين لا يعلمون،
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 61.(11/102)
ولا يعملون على إزالة جهلهم، لتوهمهم أنهم ليسوا بجهلاء، وهذا أسوأ أنواع الجهل، لأنه جهل مركب، إذ صاحبه يجهل أنه جاهل. فهو كما قال الشاعر:
قال حمار الحكيم يوما ... لو أنصفونى لكنت أركب
لأننى جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على هؤلاء الجاهلين، فقال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
أى: إذا كان الأمر كما وصفنا لك من أحوال هؤلاء المشركين، فاصبر على أذاهم، وعلى جهالاتهم، فإن وعد الله- تعالى- بنصرك عليهم حق لا شك في ذلك.
وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أى: ولا يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر، الذين لا يوقنون بصحة ما تتلو عليهم من آيات، ولا بما تدعوهم إليه من رشد وخير.
وهكذا ختمت السورة الكريمة بالوعد بالنصر، كما افتتحت بالوعد به، للمؤمنين الصادقين وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
وبعد: فهذه هي سورة الروم، وهذا تفسير محرر لها، نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(11/103)
تفسير سورة لقمان(11/105)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
1- سورة لقمان هي السورة الحادية والثلاثون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فهي السورة السادسة والخمسون من بين السور المكية، وكان نزولها بعد سورة الصافات «1» .
وعدد آياتها: أربع وثلاثون آية. وقد ذكر الإمام ابن كثير وغيره أنها مكية، دون أن يستثنى شيئا منها.
وقال الآلوسى ما ملخصه: أخرج ابن الضريس، وابن مردويه، عن ابن عباس أنه قال: أنزلت سورة لقمان بمكة ... وفي رواية عنه: أنها مكية إلا ثلاث آيات تبدأ بقوله- تعالى-: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ «2» .
2- وتبدأ السورة الكريمة، بالثناء على القرآن الكريم، وعلى المؤمنين الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون.
ثم تنتقل إلى الحديث عن جانب من صفات المشركين، الذين يستهزئون بآيات الله- تعالى-، ويعرضون عنها، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
ثم ساقت أدلة متعددة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، قال- تعالى-: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
3- ثم قص علينا- سبحانه- تلك الوصايا الحكيمة، التي أوصى بها لقمان ابنه، والتي اشتملت على ما يهدى إلى العقيدة السليمة، وإلى الأخلاق الكريمة، وإلى مراقبة الخالق- عز وجل- وإلى أداء العبادات التي كلفنا- سبحانه- بها.
ومن هذه الوصايا قوله- سبحانه-: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
__________
(1) راجع الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 27 مبحث المكي والمدني.
(2) تفسير الآلوسى ج 21 ص 64.(11/107)
الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
4- ثم بين- سبحانه- ألوانا من نعمه على عباده، منها ما يتعلق بخلق السموات، ومنها ما يتعلق بخلق الأرض، كما بين- عز وجل- أن علمه محيط بكل شيء، وأنه لا نهاية له.. قال- تعالى-: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
5- ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بدعوة الناس جميعا إلى تقواه- عز وجل- وإلى بيان الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا هو- سبحانه- فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
6- هذا، والمتأمل في هذه السورة الكريمة، يراها قد خاطبت النفس البشرية، بما من شأنه أن يسعدها ويحييها حياة طيبة.
إنها قد بينت أوصاف المؤمنين الصادقين، وأوصاف أعدائهم: وبينت عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار، ووضحت تلك الوصايا الحكيمة التي أوصى بها لقمان ابنه وأحب الناس إليه، وساقت أنواعا من النعم التي أنعم بها- سبحانه- على عباده، وبينت أن هناك أمورا لا يعلمها إلا الله- تعالى- وحده.
وقد ساقت السورة ما ساقت من هدايات، بأسلوب بليغ مؤثر، يرضى العواطف، ويقنع العقول..
نسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/108)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة لقمان من السور التي بدئت ببعض حروف التهجي ...
وقد فصلنا القول في معانيها، عند تفسيرنا لسور: البقرة، وآل عمران وغيرهما.
وقلنا في نهاية سردنا لأقوال العلماء في ذلك: ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن يقال:
إن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض السور، للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها. فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة، مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة..
واسم الإشارة في قوله- سبحانه-: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ يعود إلى آيات القرآن الكريم، ويندرج فيها آيات السورة التي معنا.
والمراد بالكتاب: القرآن الكريم على الصحيح. لأنه هو المتحدث عنه.
قال الآلوسى: وأما حمله على الكتب التي خلت قبل القرآن.. فهو في غاية البعد «1» ، والحكيم- بزنة فعيل- مأخوذ من الفعل حكم بمعنى منع، تقول: حكمت الفرس، إذا وضعت الحكمة في فمها لمنعها من الجموح والشرود.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 11 ص 58. [.....](11/109)
والمقصود، أن هذا القرآن ممتنع أن يتطرق إليه الفساد، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: وفي وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه، منها: أن الحكيم هو ذو الحكمة، بمعنى اشتماله على الحكمة، فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر. ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم، بدليل قوله- تعالى-: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم.. «أى المبرأ من الكذب والتناقض» «1» .
والمعنى: تلك الآيات السامية، المنزلة عليك يا محمد، هي آيات الكتاب، المشتمل على الحكمة والصواب، المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
وصحت الإشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكن قد نزلت كلها لأن الإشارة إلى بعضها كالإشارة إلى جميعها، حيث كانت بصدد الإنزال، ولأن الله- تعالى- قد وعد رسوله صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن عليه، كما في قوله- تعالى-: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ووعد الله- تعالى- لا يتخلف.
وقوله هُدىً وَرَحْمَةً منصوبان على الحالية من آياتُ.
أى: هذا الكتاب أنزلنا عليك يا محمد آياته، لتكون هداية ورحمة للمحسنين في أقوالهم وفي أفعالهم، وفي كل أحوالهم.
ثم وصف- سبحانه- هؤلاء المحسنين، بصفات كريمة فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أى: يؤدونها في أوقاتها المحددة لها، مستوفية لواجباتها، وسننها، وآدابها وخشوعها، فإن الصلاة التامة هي تلك التي يصحبها الإخلاص، والخشوع، والأداء الصحيح المطابق لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أى: ويعطون الزكاة التي أوجبها الله- تعالى- في أموالهم لمستحقيها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ والمراد بالآخرة: الدار الآخرة، وسميت بذلك لأنها تأتى بعد الدنيا التي هي الدار الدنيا.
وقوله يُوقِنُونَ من الإيقان، وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، بحيث لا يطرأ عليه شك، ولا تحوم حوله شبهة..
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 17 ص 5.(11/110)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
أى: أن من صفات هؤلاء المحسنين، أنهم يؤدون الصلاة بخشوع وإخلاص، ويقدمون زكاة أموالهم لمستحقيها، وهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب، يوقنون إيقانا قطعيا، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة، والأوهام الباطلة.
وفي إيراد «هم» قبل لفظ الآخرة. وقبل لفظ يوقنون: تعريض بغيرهم ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة، أو غير بالغ مرتبة اليقين.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الثمار الطيبة التي ترتبت على تلك الصفات الكريمة، فقال- تعالى-: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
والمفلحون: من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية. وأصله من الفلح- بسكون اللام- وهو الشق والقطع، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث، واستعمل منه الفلاح في الفوز، كأن الفائز شق طريقه وفلحه، للوصول إلى مبتغاه، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت.
والمعنى: أولئك المتصفون بما تقدم من صفات كريمة، على هداية عظيمة من ربهم توصلهم إلى المطلوب، وأولئك هم الفائزون بكل مرغوب.
والتنكير في قوله عَلى هُدىً للتعظيم، وأتى بلفظ «على» للاشارة إلى التمكن والرسوخ، ووصفه بأنه مِنْ رَبِّهِمْ لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم إليه، ويسر لهم أسبابه.
ثم بين- سبحانه- حال طائفة أخرى من الناس، كانوا على النقيض من سابقيهم، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات اشهرها، أنهما نزلتا في النضر بن الحارث. اشترى قينة- أى مغنية-، وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى(11/111)
قينته، فيقول لها: أطعميه واسقيه وغنيه، فهذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه. «1» .
ولَهْوَ الْحَدِيثِ: باطله، ويطلق على كل كلام يلهى القلب، ويشغله عن طاعة الله- تعالى-، كالغناء، والملاهي، وما يشبه ذلك مما يصد عن ذكر الله- تعالى-:
وقد فسره كثير من العلماء بالغناء، والأفضل تفسيره بكل حديث لا يثمر خيرا.
ومِنَ في قوله وَمِنَ النَّاسِ للتبعيض، أى: ومن الناس من يترك القول الذي ينفعه، ويشترى الأحاديث الباطلة، والخرافات الفاسدة.
قال القرطبي ما ملخصه: هذه إحدى الآيات التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. ولا يختلف في تحريم الغناء الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الغزل والمجون.. فأما ما سلّم من ذلك، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق.. «2» .
وقوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً.. تعليل لاشتراء لهو الحديث. والمراد بسبيل الله- تعالى-: دينه وطريقه الذي اختاره لعباده.
وقد قرأ الجمهور: لِيُضِلَّ بضم الياء- أى: يشترى لهو الحديث ليضل غيره عن صراط الله المستقيم، حالة كونه غير عالم بسوء عاقبة ما يفعله، ولكي يتخذ آيات الله- تعالى- مادة لسخريته واستهزائه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لِيُضِلَّ- بفتح الياء- فيكون المعنى: يشترى لهو الحديث ليزداد رسوخا في ضلاله.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو، أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن، ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟.
قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمده، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه. والثاني: أن
__________
(1) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص 172.
(2) تفسير القرطبي ج 14 ص 54 وراجع تفسير الآلوسى ج 21 ص 67 وما بعدها.(11/112)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
يوضع ليضل موضع ليضل، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف.. «1» .
وقوله: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ بيان لسوء عاقبة من يؤثر الضلالة على الهداية.
أى: أولئك الذين يشترون لهو الحديث، ليصرفوا الناس عن دين الله- تعالى-، وليستهزئوا بآياته، لهم عذاب يهينهم ويذلهم، ويجعلهم محل الاحتقار والهوان.
ثم فصل- سبحانه- حال هذا الفريق الشقي فقال: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ أى: على النضر وأمثاله آياتُنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، وعلى صدق نبينا صلّى الله عليه وسلم.
وَلَّى مُسْتَكْبِراً أى: أعرض عنها بغرور واستعلاء. كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أى: كأن حاله في استكباره عن سماع الآيات، كحال الذي لم يسمعها إطلاقا.
كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أى: كأن في أذنيه صمما وثقلا ومرضا يحول بينه وبين السماع.
والجملتان الكريمتان حال من قوله مُسْتَكْبِراً والمقصود بهما توبيخ هذا الشقي وأمثاله، وذمهم ذما موجعا لإعراضهم عن الحق.
وقوله- تعالى-: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ تهكم به، واستخفاف بتصرفاته.
أى: فبشر هذا الشقي الذي اشترى لهو الحديث، وأعرض عن آياتنا بالعذاب الأليم، الذي يناسب غروره واستكباره.
ثم أكدت السورة الجزاء الحسن الذي أعده الله- تعالى- للمؤمنين، وذكرت جانبا من مظاهر قدرته- سبحانه-، ورحمته بعباده، فقال- تعالى-:
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 491.(11/113)
أى: إن الذين آمنوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، وعملوا الأعمال الصالحات لَهُمْ في مقابلة ذلك جَنَّاتُ النَّعِيمِ أى: لهم جنات عالية يتنعمون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
خالِدِينَ فِيها خلودا أبديا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أى: هم خالدون في تلك الجنات خلودا أبدا، فقد وعدهم- سبحانه- بذلك، ووعده حق وصدق، ولن يخلفه- سبحانه- تفضلا منه وكرما.
قال الجمل. وقوله وَعْدَ مصدر مؤكد لنفسه، لأن قوله: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ في معنى وعدهم الله ذلك. وقوله حَقًّا مصدر مؤكد لغيره. أى: لمضمون تلك الجملة الأولى وعاملهما مختلف، فتقدير الأولى: وعد الله ذلك وعدا. وتقدير الثانية، وحقه حقا. «1» .
وقوله- تعالى-: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى: وهو- سبحانه- العزيز الذي لا يغلبه غالب. الحكيم في كل أفعاله وتصرفاته.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر قدرته وعزته وحكمته فقال: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ...
والعمد: جمع عماد. وهو ما تقام عليه القبة أو البيت. وجملة «ترونها» في محل نصب حال من السموات.
أى هو: - سبحانه- وحده، الذي رفع هذه السموات الهائلة في صنعها وفي ضخامتها، بغير مستند يسندها. وبغير أعمدة تعتمد عليها. وأنتم ترون ذلك بأعينكم بدون لبس أو خفاء. ولا شك أن خلقها على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقا مدبرا قادرا حكيما، هو المستحق للعبادة والطاعة.
وقوله- تعالى-: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ بيان لنعمة ثانية مما أنعم به- سبحانه- على عباده.
والرواسي: جمع راسية. والمراد بها الجبال الشوامخ الثابتة.
__________
(1) حاشية الجمل ج 3 ص 401.(11/114)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
أى: ومن رحمته بكم، وفضله عليكم، أن ألقى- سبحانه- في الأرض جبالا ثوابت كراهة أن تميد وتضطرب بكم، وأنتم عليها.
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أى: وأوجد ونشر في الأرض التي تعيشون فوقها، من كل دابة من الدواب التي لا غنى لكم عنها والتي فيها منفعتكم ومصلحتكم.
والبث: معناه: النشر والتفريق. يقال: بث القائد خيله إذا نشرها وفرقها.
ثم بين- سبحانه- نعمة ثالثة فقال: وَأَنْزَلْنا أى: بقدرتنا مِنَ السَّماءِ ماءً أى: ماء كثيرا هو المطر، فَأَنْبَتْنا فِيها أى: فأنبتنا في الأرض بسبب نزول المطر عليها. مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أى: صنف كَرِيمٍ أى حسن جميل كثير المنافع.
والإشارة في قوله: هذا خَلْقُ اللَّهِ.. تعود إلى ما ذكره- سبحانه- من مخلوقات قبل ذلك. والخلق بمعنى المخلوق.
هذا الذي ذكرناه لكم من خلق السموات والأرض والجبال ... هو من مخلوقنا وحدنا، دون أن يشاركنا فيما خلقناه مشارك.
والفاء في قوله- تعالى-: فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ واقعة في جواب شرط مقدر، أى: إذا علمتم ذلك فأرونى وأخبرونى، ماذا خلق الذين اتخذتموهم آلهة من دونه- سبحانه- إنهم لم يخلقوا شيئا ما، بل هم مخلوقون لله- تعالى-.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة تحدى المشركين، وإثبات أنهم في عبادتهم لغير الله، قد تجاوزوا كل حد في الجهالة والضلالة.
وقوله- سبحانه-: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إضراب عن تبكيتهم وتوبيخهم، إلى تسجيل الضلال الواضح عليهم.
أى: بل الظالمون في ضلال بين واضح، لأنهم يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع، ويتركون عبادة الله- تعالى- الخلاق العليم.
ثم ساق- سبحانه- على لسان عبد صالح من عباده، جملة من الوصايا الحكيمة، لتكون عظة وعبرة للناس، فقال- تعالى-:
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(11/115)
قال ابن كثير- رحمه الله-: اختلف السلف في لقمان، هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ والأكثرون على أنه لم يكن نبيا.
وعن ابن عباس وغيره: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا..
قال له مولاه: اذبح لنا شاة وجئني بأخبث ما فيها؟ فذبحها وجاءه بلسانها وقلبها. ثم قال له مرة ثانية: اذبح لنا شاة وجئني بأحسن ما فيها؟ فذبحها وجاءه- أيضا- بقلبها ولسانها، فقال له مولاه ما هذا؟ فقال لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، وليس من شيء أخبث منهما إذا خبثا.(11/116)
وقال له رجل: ألست عبد فلان؟ فما الذي بلغ بك ما أرى من الحكمة؟ فقال لقمان: قدر الله وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وتركي ما لا يعنيني «1» .
ومن أقواله لابنه: يا بنى اتخذ تقوى الله لك تجارة، يأتك الربح من غير بضاعة.
يا بنى، لا تكن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار، وأنت نائم على فراشك.
يا بنى، اعتزل الشر كما يعتزلك، فإن الشر للشر خلق.
يا بنى، عليك بمجالس العلماء، وبسماع كلام الحكماء، فإن الله- تعالى- يحيى القلب الميت بنور الحكمة.
يا بنى، إنك منذ نزلت الدنيا استدبرتها، واستقبلت الآخرة، ودار أنت إليها تسير، أقرب من دار أنت عنها ترتحل.. «2» .
وقال الآلوسى ما ملخصه: ولقمان: اسم أعجمى لا عربي وهو ابن باعوراء. قيل: كان في زمان داود- عليه السلام- وقيل: كان زمانه بين عيسى وبين محمد- عليهما الصلاة والسلام-.
ثم قال الآلوسى: وإنى أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما، ولم يكن نبيا «3» .
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ... كلام مستأنف مسوق لإبطال الإشراك بالله- تعالى- عن طريق النقل، بعد بيان إبطاله عن طريق العقل، في قوله- سبحانه- قبل ذلك: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ....
والحكمة: اكتساب العلم النافع والعمل به. أو هي: العقل والفهم. أو هي الإصابة في القول والعمل.
والمعنى: والله لقد أعطينا- بفضلنا وإحساننا- عبدنا لقمان العلم النافع والعمل به.
وقوله- سبحانه- أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ بيان لما يقتضيه إعطاء الحكمة. أى: آتيناه الحكمة وقلنا له أن اشكر لله على ما أعطاك من نعم لكي يزيدك منها.
قال الشوكانى: قوله: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أن هي المفسرة: لأن في إيتاء الحكمة معنى القول. وقيل التقدير: قلنا له أن اشكر لي.. وقيل: بأن اشكر لي فشكر، فكان حكيما بشكره.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 236.
(2) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 403.
(3) تفسير الآلوسى ج 21 ص 82.(11/117)
والشكر لله: الثناء عليه في مقابلة النعمة- واستعمالها فيما خلقت له-، وطاعته فيما أمر به «1» .
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة الشكر وسوء عاقبة الجحود فقال: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
أى: ومن يشكر الله- تعالى- على نعمه، فإن نفع شكره إنما يعود إليه، ومن جحد نعم الله- تعالى- واستحب الكفر على الإيمان، فالله- تعالى- غنى عنه وعن غيره، حقيق بالحمد من سائر خلقه لإنعامه عليهم بالنعم التي لا تعد ولا تحصى: فحميد بمعنى محمود.
فالجملة الكريمة المقصود بها، بيان غنى الله- تعالى- عن خلقه، وعدم انتفاعه بطاعتهم، لأن منفعتها راجعة إليهم، وعدم تضرره بمعصيتهم. وإنما ضرر ذلك يعود عليهم.
وعبر- سبحانه- في جانب الشكر بالفعل المضارع، للإشارة إلى أن من شأن الشاكرين أنهم دائما على تذكر لنعم الله- تعالى-، وإذا ما غفلوا عن ذلك لفترة من الوقت، عادوا إلى طاعته- سبحانه- وشكره.
وعبر في جانب الكفر بالفعل الماضي، للإشعار بأنه لا يصح ولا ينبغي من أى عاقل، بل كل عاقل عليه أن يهجر ذلك هجرا تاما، وأن يجعله في خبر كان.
وجواب الشرط محذوف، وقد قام مقامه قوله- تعالى-: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ والتقدير: ومن كفر فضرر كفره راجع إليه. لأن الله- تعالى- غنى حميد.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله لقمان لابنه على سبيل النصيحة والإرشاد فقال- تعالى-:
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ، يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
وقوله يَعِظُهُ من الوعظ، وهو الزجر المقترن بالتخويف. وقيل: هو التذكير بوجوه الخير بأسلوب يرق له القلب.
قالوا: واسم ابنه «ثاران» أو «ماثان» أى: واذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتنتفع، وقت أن قال لقمان لابنه وهو يعظه، ويرشده إلى وجوه الخير بألطف عبارة: يا بنى لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ- تعالى- لا في عبادتك، ولا في قولك، ولا في عملك، بل أخلص كل ذلك لخالقك- عز وجل-.
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 237.(11/118)
وفي ندائه بلفظ يا بُنَيَّ إشفاق عليه. ومحبة له، فالمراد بالتصغير إظهار الحنو عليه، والحرص على منفعته.
قيل: وكان ابنه كافرا فما زال يعظه حتى أسلم. وقيل: بل كان مسلما، والنهى عن الشرك المقصود به، المداومة على ما هو عليه من إيمان وطاعة لله رب العالمين.
وجملة إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ تعليل للنهى. أى: يا بنى حذار أن تشرك بالله في قولك أو فعلك، إن الشرك بالله- تعالى- لظلم عظيم، لأنه وضع للأمور في غير موضعها الصحيح، وتسوية في العبادة بين الخالق والمخلوق.
وقوله- تعالى-: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ.. كلام مستأنف، جيء به على سبيل الاعتراض في أثناء وصية لقمان لابنه، لبيان سمو منزلة الوالدين، ولأن القرآن كثيرا ما يقرن بين الأمر بوحدانية الله- تعالى-، والأمر بالإحسان إلى الوالدين.
ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.. «1» .
وقوله- عز وجل-: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.. «2» . أى: أمرنا كل إنسان أن يكون بارا بأبويه، وأن يحسن إليهما، وأن يطيع أمرهما في المعروف.
ثم بين- سبحانه- ما بذلته الأم من جهد يوجب الإحسان إليها فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أى: حملته أمه في بطنها وهي تزداد في كل يوم ضعفا على ضعف، بسب زيادة وزنه، وكبر حجمه، وتعرضها لألوان من التعب خلال حمله ووضعه.
والوهن: الضعف. يقال: وهن فلان يهن وهنا. إذا ضعف. ولفظ «وهنا» حال من أمه بتقدير مضاف. أى: حملته أمه ذات وهن، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال. أى: تهن وهنا.
وقوله: عَلى وَهْنٍ متعلق بمحذوف صفة للمصدر. أى: وهنا كائنا على وهن.
وقوله: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ بيان لمدة إرضاعه. والفصال: الفطام عن الرضاع.
أى: وفطام المولود عن الرضاعة يتم بانقضاء عامين من ولادته، كما قال- تعالى-:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ... «3» .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23.
(2) سورة الأنعام الآية 151.
(3) سورة البقرة الآية 233.(11/119)
وهاتان الجملتان حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ جاءتا بعد الوصية بالوالدين عموما، تأكيدا لحق الأم، وبيانا لما تبذله من جهد شاق في سبيل أولادها، تستحق من أجله كل رعاية وتكريم وإحسان.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فقوله: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟
قلت: لما وصى بالوالدين: ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا وتذكيرا بحقها العظيم مفردا، ومن ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن قال له: من أبر؟ قال: «أمك ثم أمك ثم أمك، ثم قال بعد ذلك: «ثم أباك» «1» .
وقوله- سبحانه-: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ بيان لما تستلزمه الوصية بالوالدين أى: وصينا الإنسان بوالديه حسنا، وقلنا له: اشكر لخالقك فضله عليك، بأن تخلص له العبادة والطاعة، واشكر لوالديك ما تحملاه من أجلك من تعب، بأن تحسن إليهما، واعلم أن مصيرك إلى خالقك- عز وجل- وسيحاسبك على أعمالك، وسيجازيك عليها بما تستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم بين- سبحانه- حدود الطاعة للوالدين فقال: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما..
والجملة الكريمة معطوفة على قوله وَوَصَّيْنَا ... بإضمار القول. أى: ووصينا الإنسان بوالديه. وقلنا له: وَإِنْ جاهَداكَ أى: وإن حملاك عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي في العبادة أو الطاعة، ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما في ذلك، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وجملة ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ لبيان الواقع، فلا مفهوم لها، إذ ليس هناك من إله يعلم سوى الله- عز وجل-.
ثم أمر- سبحانه- بمصاحبتهما بالمعروف حتى مع كفرهما فقال: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً.
أى: إن حملاك على الشرك. فلا تطعهما، ومع ذلك فصاحبهما في الأمور الدنيوية التي لا تتعلق بالدين مصاحبة كريمة حسنة، يرتضيها الشرع، وتقتضيها مكارم الأخلاق.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 494.(11/120)
وقوله مَعْرُوفاً صفة لمصدر محذوف. أى: صحابا معروفا. أو منصوب بنزع الخافض. أى: بالمعروف.
ثم أرشد- سبحانه- إلى وجوب اتباع أهل الحق فقال: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ... أى: واتبع- أيها العاقل طريق الصالحين من عبادي، الذين رجعوا إلى بالتوبة والإنابة والطاعة والإخلاص.
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ جميعا يوم القيامة- أيها الناس- فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا، وأجازى كل إنسان على حسب عمله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
قال القرطبي ما ملخصه: وهاتان الآيتان نزلتا في شأن سعد بن أبى وقاص لما أسلم، وأن أمه حلفت أن لا تأكل طعاما حتى تموت.. وفيهما دليل على صلة الأبوين الكافرين، بما أمكن من المال إن كانا فقيرين.. وقد قالت أسماء بنت أبى بكر الصديق، للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها خالتها وقيل: أمها من الرضاعة: يا رسول الله، إن أمى قدمت على وهي راغبة أفأصلها؟ قال: «نعم» وراغبة قيل معناه: عن الإسلام، أو راغبة في الصلة «1» .
ثم ذكر- سبحانه- بقية الوصايا التي أوصى بها لقمان ابنه فقال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي السَّماواتِ، أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ..
والضمير في قوله: إِنَّها يعود إلى الفعلة التي يفعلها من خير أو شر. وتَكُ مجزوم بسكون النون المحذوفة، وهو فعل الشرط. والجواب: «يأت بها الله» والمثقال: أقل ما يوزن به الشيء. والخردل: في غاية الصغر والدقة.
والمعنى: يا بنى إن ما تفعله من حسنة أو سيئة، سواء أكان في نهاية القلة والصغر، كمثال حبة من خردل، أم كان هذا الشيء القليل مخبوءا في صخرة من الصخور الملقاة في فجاج الأرض، أم كان في السموات أم في الأرض، فإن الله- تعالى- يعلمه ويحضره ويجازى عليه إِنَّ اللَّهَ- تعالى- لطيف خبير أى: محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، عظيمها وصغيرها.
فالمقصود من الآية الكريمة، غرس الهيبة والخشية والمراقبة لله- تعالى: لأنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في هذا الكون، مهما دق وقل وتخفى في أعماق الأرض أو السماء.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 65. [.....](11/121)
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ «1» .
ثم أمره بالمحافظة على الصلاة وبالأمر بالمعروف، وبالنهى عن المنكر وبالصبر على الأذى، فقال: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ أى: واظب على أدائها في أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين.
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ أى بكل ما حض الشرع على قوله أو فعله وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أى: عن كل ما نهى الشرع عن قوله أو فعله.
وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الأذى، فإن الحياة مليئة بالشدائد والمحن والراحة إنما هي في الجنة فقط.
واسم الإشارة في قوله: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعود إلى الطاعات المذكورة قبله.
وعزم الأمور: أعاليها ومكارمها. أو المراد بها ما أوجبه الله- تعالى- على الإنسان.
قال صاحب الكشاف: إِنَّ ذلِكَ مما عزمه الله من الأمور، أى: قطعه قطع إيجاب وإلزام.. ومنه الحديث: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» ومنه عزمات الملوك، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده، عزمت عليك إلا فعلت كذا. فإذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله، ولا مندوحة في تركه.
وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنها كانت مأمورا بها في سائر الأمم، وأن الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها «2» .
ثم نهاه عن التكبر والغرور والتعالي على الناس فقال: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ...
والصعر في الأصل: مرض يصيب البعير فيجعله معوج العنق، والمراد به هنا، التكبر واحتقار الناس، ومنه قول الشاعر:
وكنا إذا الجبّار صعر خده ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
أى: ولا تمل صفحة وجهك عن الناس، ولا تتعالى عليهم كما يفعل المتكبرون والمغرورون، بل كن هينا لينا متواضعا، كما هو شأن العقلاء..
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أى: ولا تمش في الأرض مشية المختالين المعجبين
__________
(1) سورة الأنبياء. الآية 47.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 496.(11/122)
بأنفسهم. ومَرَحاً مصدر وقع موقع الحال على سبيل المبالغة، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف. أى: تمرح مرحا. والجملة في موضع الحال. أو مفعول لأجله. أى: من أجل المرح.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تعليل للنهى. والمختال: المتكبر الذي يختال في مشيته، ومنه قولهم: فلان يمشى الخيلاء. أى يمشى مشية المغرور المعجب بنفسه.
والفخور: المتباهى على الناس بماله أو جاهه أو منصبه.. يقال فخر فلان- كمنع- فهو فاخر وفخور، إذا تفاخر بما عنده على الناس، على سبيل التطاول عليهم، والتنقيص من شأنهم.
أى: إن الله- تعالى- لا يحب من كان متكبرا على الناس، متفاخرا بماله أو جاهه.
ثم أمر بالقصد والاعتدال في كل أموره فقال: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أى وكن معتدلا في مشيك، بحيث لا تبطئ ولا تسرع. من القصد وهو التوسط في الأمور.
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ واخفض من صوتك فلا ترفعه إلا إذا استدعى الأمر رفعه، فإن غض الصوت عند المحادثة فيه أدب وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث واستقامته.
وكان أهل الجاهلية يتفاخرون بجهارة الصوت وارتفاعه، فنهى المؤمنون عن ذلك، ومدح- سبحانه- الذين يخفضون أصواتهم في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
وقوله- تعالى- إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ تعليل للأمر بخفض الصوت، وللنهى عن رفعه بدون موجب.
أى: إن أقبح الأصوات وأبشعها لهو صوت الحمير، فالجملة الكريمة حض على غض الصوت بأبلغ وجه وآكده، حيث شبه- سبحانه- الرافعين لأصواتهم في غير حاجة إلى ذلك، بأصوات الحمير التي هي مثار السخرية مع النفور منها.
وهكذا نجد أن لقمان قد أوصى ابنه بجملة من الوصايا السامية النافعة، فقد أمره- أولا- بإخلاص العبادة لله- تعالى- ثم غرس في قلبه الخوف من الله- عز وجل-، ثم حضه على إقامة الصلاة، وعلى الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وعلى الصبر على الأذى، ثم نهاه عن الغرور والتكبر والافتخار، وعن رفع الصوت بدون مقتض لذلك.
وبتنفيذ هذه الوصايا، يسعد الأفراد، وترقى المجتمعات.(11/123)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
ثم ذكر- سبحانه- بعض النعم التي أنعم بها على الناس، ودعا المنحرفين عن الحق إلى ترك المجادلة بالباطل، وإلى مخالفة الشيطان، فقال- تعالى-:
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
والخطاب في قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.. لأولئك المشركين الذين استحبوا العمى على الهدى، واشتروا لهو الحديث ليضلوا غيرهم عن طريق الحق.
وسخر: من التسخير، بمعنى التذليل والتكليف، يقال: سخر فلان فلانا تسخيرا، إذا كلفه عملا بلا أجرة، والمراد به هنا: الإعداد والتهيئة لما يراد الانتفاع به.
والاستفهام لتقرير الواقع وتأكيده. أى: لقد رأيتم- أيها الناس- وشاهدتم أن الله- تعالى- سخر لمنفعتكم ومصلحتكم ما في السموات من شمس وقمر ونجوم.. وما في الأرض من زرع وأشجار وحيوانات وجبال.. وما دام الأمر كذلك فاشكروا الله- تعالى- على هذا التسخير، وأخلصوا له العبادة والطاعة.
وقوله- تعالى-: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً معطوف على ما قبله.
وقوله: وَأَسْبَغَ بمعنى أتم وأكمل عليكم نعمه: وهي ما ينتفع به الإنسان ويستلذه من الحلال.
والنعمة الظاهرة: هي النعمة المشاهدة المحسوسة كنعمة السمع والبصر وحسن الهيئة والمال، والجاه، وما يشبه ذلك مما يراه الإنسان ويشاهده.
والنعمة الباطنة: هي النعمة الخفية التي يجد الإنسان أثرها في نفسه دون أن يراها. كنعمة الإيمان بالله- تعالى- وإسلام الوجه له- عز وجل-، والاتجاه إلى مكارم الأخلاق، والبعد عن رذائلها وسفسافها.(11/124)
وفي تفسير النعم الظاهرة والباطنة أقوال أخرى، نرى أن ما ذكرناه أوجهها وأجمعها «1» .
ثم بين- سبحانه- ما عليه بعض الناس من جدال بالباطل فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلا هُدىً، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ.
وقوله: يُجادِلُ من الجدال بمعنى المفاوضة على سبيل المخاصمة والمنازعة والمغالبة.
مأخوذ من جدلت الحبل، إذا أحكمت فتله، فكأن المتجادلين يحاول كل واحد منهما أن يقوى رأيه، ويضعف رأى صاحبه.
والمراد من المجادلة في الله: المجادلة في ذاته وصفاته وتشريعاته..
وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من الفاعل في يُجادِلُ، وهي حال موضحة لما تشعر به المجادلة هنا من الجهل والعناد. أى: ومن الناس قوم استولى عليهم الجهل والعناد، لأنهم يجادلون وينازعون في ذات الله، وفي صفاته، وفي وحيه، وفي تشريعاته.. بغير مستند من علم عقلي أو نقلي، وبغير «هدى» يهديه ويرشده إلى الحق، وبغير كِتابٍ مُنِيرٍ أى: وبغير وحى ينير عقله وقلبه، ويوضح له سبيل الرشاد.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جردت هذا المجادل، من أى مستند يستند إليه في جداله، سواء أكان هذا المستند عقليا أم نقليا، بل أثبتت له الجهالة من كل الجهات.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المجادلين بالباطل، لم يكتفوا بذلك، بل أضافوا إلى رذائلهم السابقة رذائل أخرى منها العناد والتقليد الأعمى، فقال وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ ... أى: وإذا قيل لهؤلاء المجادلين بالباطل اتبعوا ما أنزله الله- تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلّم من قرآن كريم، ومن وحى حكيم.
قالُوا على سبيل العناد والتقليد الأعمى بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام والأوثان، والسير على طريقتهم التي كانوا يسيرون عليها.
وقوله- سبحانه-: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ رد عليهم، وبيان لبطلان الاعتماد في العقيدة على مجرد تقليد الآباء.
والهمزة للاستفهام الإنكارى، والواو للحال. أى: أيتبعون ما كان عليه آباؤهم، والحال أن هذا الاتباع هو من وحى الشيطان الذي يقودهم إلى ما يؤدى إلى عذاب السعير.
قال الآلوسى: وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر. وأما اتباع الغير
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 21 ص 93.(11/125)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
في الدين بعد العلم بدليل ما أنه محق، فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله- تعالى- وليس من التقليد المذموم في شيء، وقد قال- سبحانه-: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1» .
ثم فصل سبحانه بعد ذلك حسن عاقبة الأخيار، وسوء عاقبة الأشرار الذين لا يحسنون التدبر في أنفسهم، أو فيما حولهم، فقال تعالى-:
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 26]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
وقوله- تعالى-: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ أى: ومن يتجه إلى الله- تعالى- ويذعن لأمره، ويخلص له العبادة، وهو محسن في أقواله وأفعاله.
من يفعل ذلك فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى والعروة في أصل معناها: تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه، أى من الجهة التي يجب تعليقه منها. وتجمع على عرا.
والعروة من الدلو مقبضه، ومن الثوب: مدخل زره.
والوثقى: تأنيث الأوثق، وهو الشيء المحكم الموثق. يقال: وثق- بالضم- وثاقه، أى: قوى وثبت فهو وثيق، أى: ثابت محكم.
والمعنى: ومن يستسلم لأمر الله- تعالى- ويأتى بالأقوال والأفعال على وجه حسن، فقد
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 41.(11/126)
ثبت أمره، واستقام على الطريقة المثلى، وأمسك من الدين بأقوى سبب، وأحكم رباط.
فقد شبه- سبحانه- المتوكل عليه في جميع أموره، المحسن في أفعاله، بمن ترقى في حبل شاهق، وتدلى منه، فاستمسك بأوثق عروة، من حبل متين مأمون انقطاعه.
وخص- سبحانه- الوجه بالذكر، لأنه أكرم الأعضاء وأعظمها حرمة، فإذا خضع الوجه الذي هو أكرم الأعضاء، فغيره أكثر خضوعا.
وقوله: وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أى: وإلى الله- تعالى- وحده تصير الأمور، وترجع إليه، وتخضع لحكمه وإرادته.
وقوله- تعالى-: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ... تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، عما أصابه من حزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم.
أى: ومن استمر- أيها الرسول- على كفره بعد أن بلغته رسالتنا ودعوتنا، فلا يحزنك بعد ذلك بقاؤه على كفره وضلاله، فأنت عليك البلاغ، ونحن علينا الحساب، وإنك لا تهدى من أحببت، ولكن الله يهدى من يشاء.
وقوله- سبحانه-: إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ... بيان لسوء مصيرهم.
أى: إلينا وحدنا مرجع هؤلاء الكافرين، فنخبرهم بما عملوه في الدنيا من أعمال سيئة، ونجازيهم عليها بما يستحقونه من عقاب.
إِنَّ اللَّهَ- تعالى- عَلِيمٌ علما تاما بِذاتِ الصُّدُورِ أى: بمكنونات الصدور وخفاياها..
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا في هذه الحياة الدنيا. أى نمتعهم تمتيعا قليلا في دنياهم، بأن نعطيهم الأموال والأولاد على سبيل الاستدراج.
ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أى نعطيهم في حياتهم القصيرة ما يتمتعون به من مال وصحة ... ثم نلجئهم وندفعهم دفعا يوم القيامة الى عذاب مروع فظيع، لضخامة ثقله، وشدة وقعه.
والمراد بالاضطرار: الإلجاء والقسر والإلزام، أى: أنهم لا يستطيعون التفلت أو الانفكاك عن هذا العذاب الذي أعد لهم.
ووصف- سبحانه- العذاب بالغلظ، لزيادة تهويله وشدته. فهو ثقيل عليهم ثقل الأجرام الضخمة التي تهوى على رأس الإنسان، فتشل حركته وتهلكه.
ثم بين- سبحانه- ما كان عليه هؤلاء الكافرون من تناقض بين أقوالهم وأفعالهم فقال:(11/127)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أيها الرسول الكريم- مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وأوجدهما على هذا النظام البديع.. لَيَقُولُنَّ في الجواب اللَّهُ أى: الله- تعالى- هو الذي خلقهما، وهو الذي أوجدهما.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قل- أيها الرسول الكريم- الحمد لله- تعالى- وحده، حيث اعترفتم بأن خالقهما هو الله، وما دام الأمر كذلك، فكيف أشركتم معه في العبادة غيره؟ إن قولكم هذا الذي تؤيده الفطرة، ليتنافى مع ما أنتم عليه من كفر وضلال.
وقوله- سبحانه- بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إضراب عن أقوالهم إلى بيان واقعهم، أى: بل أكثرهم لا يعلمون الحقائق علما سليما، وإنما هم يقولون بألسنتهم، وما يتباين تباينا تاما مع أفعالهم، وهذا شأن الجاهلين، الذين انطمست بصائرهم..
ثم بين- سبحانه- ما يدل على عظيم قدرته، وشمول ملكه فقال: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أى: لله- تعالى- وحده، ما في السموات وما في الأرض، خلقا، وملكا، وتصرفا..
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن كل ما سواه الْحَمِيدُ أى: المحمود من أهل الأرض والسماء، لأنه هو الخالق لكل شيء، والرازق لكل شيء.
ثم ساق- تعالى- بعد ذلك ما يدل على شمول علمه، ونفاذ قدرته، فقال- سبحانه-:
[سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
قال ابن كثير: قال قتادة: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فقال- تعالى- وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...
وعن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أرأيت قولك: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا؟ إيانا تريد أم قومك؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «كلا عنيت» فقالوا: ألست(11/128)
تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «إنها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما يكفيكم» وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ «1» .
و «لو» شرطية، وجوابها «ما نفدت كلمات الله..» و «من» في قوله مِنْ شَجَرَةٍ للبيان، وفي الآية الكريمة كلام محذوف يدل عليه السياق.
والمعنى: ولو أن ما في الأرض من أشجار تحولت بغصونها وفروعها إلى أقلام، ولو أن البحر- أيضا- تحول إلى مداد لتلك الأقلام، وأمد هذا البحر بسبعة أبحر أخرى. وكتبت بتلك الأقلام، وبذلك المداد كلمات الله التي يحيط بها علمه- تعالى-..
لنفدت الأقلام، ولنفد ماء البحر، لتناهى كل ذلك، وما نفدت كلمات الله- تعالى- ولا معلوماته، لعدم تناهيها.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء، ولا يغلبه غالب حَكِيمٌ في كل أقواله وأفعاله.
فالآية الكريمة المقصود منها بيان أن علم الله- تعالى- لا نهاية له، وأن مشيئته لا يقف أمامها شيء، وكلماته لا أول لها ولا آخر.
وقال- سبحانه- مِنْ شَجَرَةٍ بالإفراد، لأن المراد تفصيل الشجر واستقصاؤه شجرة فشجرة، حتى لا تبقى واحدة من أنواع الأشجار إلا وتحولت إلى أقلام.
وجمع- سبحانه- الأقلام، للتكثير، أى: أقلام كثيرة يصعب عدها.
والمراد بالبحر: البحر المحيط بالأرض، لأنه المتبادر من التعريف، إذ هو الفرد الكامل.
وإنما ذكرت السبعة بعد ذلك على وجه المبالغة دون إرادة الحصر، وإلا فلو اجتمعت عشرات البحار ما نفدت كلمات الله.
قال صاحب الكشاف فإن قلت: مقتضى الكلام أن يقال: ولو أن الشجر أقلام، والبحر مداد؟ قلت: أغنى عن ذكر المداد قوله يَمُدُّهُ لأنه من قولك: مد الدواة وأمدها. جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع.
فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل، فهلا قيل: كلم الله؟.
قلت: معناه أن كلماته لا تفي بكتابتها البحار فكيف بكلمة؟ «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 352.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 501.(11/129)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
وقال الآلوسى: والمراد بكلماته- تعالى- كلمات علمه- سبحانه- وحكمته. وقيل:
المراد بها: مقدوراته وعجائب خلقه، والتي إذا أراد- سبحانه- شيئا منها قال له: كُنْ فَيَكُونُ «1» .
ثم أتبع- سبحانه- ذلك بيان نفاذ قدرته فقال: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.... أى: ما خلقكم- أيها الناس- جميعا، ولا بعثكم يوم القيامة، إلا كخلق نفس واحدة أو بعثها، لأن قدرته- عز وجل- يتساوى معها القليل والكثير، والصغير والكبير، قال- تعالى- إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وقال- سبحانه-: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.
إِنَّ اللَّهَ- تعالى-: سَمِيعٌ لكل شيء بَصِيرٌ بأحوال خلقه لا يخفى عليه شيء منهم.
ثم ذكر- سبحانه- الناس بجانب من مظاهر قدرته ونعمه عليهم، لكي يخلصوا له العبادة والطاعة، فقال- تعالى-:
[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 32]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 100.(11/130)
والاستفهام في قوله- سبحانه-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ... للتقرير.
والخطاب لكل من يصلح له ليعتبر ويتعظ، ويخلص العبادة لله- تعالى-.
وقوله يُولِجُ من الإيلاج بمعنى الإدخال. يقال: ولج فلان منزله، إذا دخله ...
ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه، بحسب المطالع.
أى: لقد رأيت وشاهدت- أيها العاقل- أن الله- تعالى-، يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، ويزيد في أحدهما وينقص من الآخر، على حسب مشيئته وحكمته..
وأنه- سبحانه- سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. أى: ذللهما وجعلهما لمنفعة الناس ومصلحتهم، كما جعلهما يسيران هما والليل والنهار، بنظام بديع لا يتخلف.
وقوله: كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى كل من الشمس والقمر يجريان في مدارهما بنظام ثابت محكم، إلى الوقت الذي حدده- سبحانه- لنهاية سيرهما، وهو يوم القيامة. قال ابن كثير: قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قيل: إلى غاية محدودة.
وقيل: إلى يوم القيامة، وكلا المعنيين صحيح. ويستشهد للقول الأول بحديث أبى ذر الذي في الصحيحين، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أبا ذر، أتدرى أين تذهب هذه الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربها، فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت» «1» .
وقال الجمل: قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قاله هنا بلفظ إِلى، وفي سورتي فاطر والزمر، بلفظ «لأجل» ، لأن ما هنا وقع بين آيتين دالتين على غاية ما ينتهى إليه الخلق، وهما قوله: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ ... الآية. وقوله اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً..
الآية، فناسب هنا ذكر إلى الدالة على الانتهاء، وما في فاطر والزمر خال عن ذلك. إذ ما في فاطر لم يذكر مع ابتداء خلق ولا انتهائه، وما في الزمر ذكر مع ابتدائه، فناسب ذكر اللام، والمعنى يجرى كل كما ذكر لبلوغ أجل مسمى «2» .
وجملة وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ معطوفة على قوله: أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ.. أى: لقد علمت أن الله- تعالى- قد فعل ذلك، وأنه- سبحانه- خبير ومطلع على كل عمل تعملونه- أيها الناس- دون أن يخفى عليه شيء منها.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 352.
(2) حاشية الجمل ج 3 ص 409.(11/131)
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. يعود إلى ما تقدم ذكره من إيلاج الليل في النهار، وتسخير الشمس والقمر. وهو مبتدأ. وقوله بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ خبره.
والباء للسببية. أى: ذلك الذي فعلناه سببه، أن الله- تعالى- هو الإله الحق، الذي لا إله سواه، وأن ما يدعون من دونه من آلهة أخرى هو الْباطِلُ الذي لا يصح أن يسمى بهذا الاسم، لأنه مخلوق زائل متغير، لا يضر ولا ينفع.
ثم ذكر- سبحانه- الناس بنعمة أخرى من نعمه التي لا تحصى فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ ...
أى: ولقد علمت- أيضا- وشاهدت- أيها العاقل- حال السفن، وهي تجرى في البحر، بمشيئة الله وقدرته، وبلطفه ورحمته وإحسانه. ليطلعكم على بعض آياته الدالة على باهر قدرته، وسمو حكمته وسابغ نعمته.
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي شاهدتموه وانتفعتم به من السفن وغيرها لَآياتٍ واضحات على قدرة الله- تعالى- ورحمته لعباده لِكُلِّ صَبَّارٍ أى: لكل إنسان كثير الصبر شَكُورٍ. أى: كثير الشكر لله- تعالى- على نعمه ورحمته.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أحوال الناس عند ما تحيط بهم المصائب وهم في وسط البحر فقال: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
وقوله غَشِيَهُمْ من الغشاء بمعنى: الغطاء. فيقال: غشى الظلام المكان، إذا حل به وأصل «الموج» الحركة والازدحام. ومنه قولهم: ماج البحر إذا اضطرب وارتفع ماؤه.
والظلل: جمع ظلة- كغرفة وغرف-، وهي ما أظل غيره من سحاب أو جبل أو غيرهما.
أى: وإذا ما ركب الناس في السفن، وأحاطت بهم الأمواج من كل جانب، وأوشكت أن تعلوهم وتغطيهم ... في تلك الحالة لجئوا إلى الله- تعالى- وحده، يدعونه بإخلاص وطاعة وتضرع، أن ينجيهم مما هم فيه من بلاء..
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ- سبحانه- بفضله وإحسانه، وأوصلهم إِلَى الْبَرِّ انقسموا إلى قسمين، أما القسم الأول، فقد عبر عنه- سبحانه- بقوله: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أى:
فمنهم من هو مقتصد، أى: متوسط في عبادته وطاعته، يعيش حياته بين الخوف والرجاء.
قال ابن كثير: قال ابن زيد: هو المتوسط في العمل، ثم قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله- تعالى-: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ فالمقتصد هاهنا هو المتوسط في العمل. ويحتمل أن يكون مرادا هنا- أيضا- ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك(11/132)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
الأهوال، والأمور العظام، والآيات الباهرات في البحر، ثم بعد ما أنعم الله عليه من الخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والمبادرة إلى الخيرات، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصرا، والحالة هذه «1» .
وأما القسم الثاني فقد عبر عنه- سبحانه- بقوله: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ.
والختار: من الختر، وهو أبشع وأقبح الغدر والخديعة. يقال: فلان خاتر وختار وختير، إذا كان شديد الغدر والنقض لعهوده، ومنه قول الشاعر:
وإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر
والكفور: هو الشديد الكفران والجحود لنعم الله- تعالى-.
أى: وما يجحد بآياتنا الدالة على قدرتنا ورحمتنا، إلا من كان كثير النقض لعهودنا، شديد النكران لنعمنا.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بدعوة الناس إلا الاستعداد ليوم الحساب وإلى مراقبة الله- تعالى- في كل أحوالهم، لأنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء منها. فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
والمعنى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بأن تطيعوه ولا تعصوه، وبأن تشكروه ولا تكفروه، واخشوا يوما، أى: وخافوا أهوال يوم عظيم.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 353.(11/133)
لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أى: لا يستطيع والد أن ينفع ولده بشيء من النفع في هذا اليوم. أو أن يقضى عنه شيئا من الأشياء.
وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً أى: ولا يستطيع المولود- أيضا- أن يدفع عن والده شيئا مما يحتاجه منه.
وخص- سبحانه- الوالد والمولود بالذكر، لأن رابطة المحبة والمودة بينهما هي أقوى الروابط وأوثقها، فإذا انتفى النفع بينهما في هذا اليوم، كان انتفاؤه بالنسبة لغيرهما من باب أولى.
وقوله: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أى: إن ما وعد الله- تعالى- به عباده من البعث والحساب والثواب والعقاب، حق وثابت ثبوتا لا يقبل الشك أو التخلف.
وما دام الأمر كذلك فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أى: فلا تخدعنكم الحياة الدنيا بزخارفها وشهواتها ومتعها، ولا تشغلنكم عن طاعة الله- تعالى- وعن حسن الاستعداد لهذا اليوم الهائل الشديد. فإن الكيّس الفطن هو الذي يتزود لهذا اليوم بالإيمان الحق، والعمل الصالح النافع.
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أى: ولا يصرفنكم الشيطان عن طاعة الله، وعن امتثال أمره. فالمراد بالغرور: الشيطان. أو كل ما يصرفك عن طاعة الله- تعالى.
قال الآلوسى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أى: الشيطان، كما روى عن ابن عباس وغيره. بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ... وعن أبى عبيدة: كل شيء غرك حتى تعصى الله- تعالى- فهو غرور سواء أكان شيطانا أم غيره وعلى ذلك ذهب الراغب فقال:
الغرور كل ما يغر الإنسان من مال أو جاه أو شهوة أو شيطان.. وأصل الغرور: من غر فلان فلانا، إذا أصاب غرته، أى: غفلته، ونال منه ما يريد. والمراد به الخداع..
والظاهر أن «بالله» صلة «يغرنكم» أى: لا يخدعنكم بذكر شيء من شئونه- تعالى-، يجركم بها على معاصيه- سبحانه- «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من الأمور التي استأثر- عز وجل- بعلمها فقال: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أى: عنده وحده علم وقتها، وعلم قيامها، كما قال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 108.(11/134)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ.. «1» .
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أى: وينزل بقدرته المطر، ويعلم وحده وقت نزوله. وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أى: ويعلم ما في أرحام الأمهات من ذكر أو أنثى.
وَما تَدْرِي نَفْسٌ من النفوس كائنة من كانت ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، ومن رزق قليل أو كثير، لأنها لا تملك عمرها إلى الغد.
وَما تَدْرِي نَفْسٌ من النفوس- أيضا- كائنة من كانت بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أى: بأى مكان ينتهى أجلها.
إِنَّ اللَّهَ- تعالى- عَلِيمٌ بكل شيء خَبِيرٌ بما يجرى في نفوس عباده.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية، جملة من الأحاديث والآثار، منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ هذه الآية» ..
وعن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأتي حبلى فأخبرنى ما تلد؟ وبلادنا جدبة فأخبرنى متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرنى متى أموت؟ فأنزل الله الآية» «2» .
وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي استأثر الله- تعالى- بها على سبيل العلم اليقيني الشامل المطابق للواقع..
ولا مانع من أن يطلع الله- تعالى- بفضله وكرمه، بعض أصفيائه على شيء منها.
وليست المغيبات محصورة في هذه الخمسة، بل كل غيب لا يعلمه إلا الله- تعالى- داخل فيما استأثر الله- تعالى- بعلمه، وإنما خصت هذه الخمسة بالذكر لأنها من أهم المغيبات، أو لأن السؤال كان عنها.
وما يخبر به المنجم والطيب وعلماء الأرصاد الجوية من الأمور التي لم تتكشف بعد، فمبناه على الظن لا على اليقين، وعلى احتمال الخطأ والصواب.
أما علم الله- تعالى- بهذه الأمور وغيرها، فهو علم يقيني قطعى شامل. لا يحتمل الظن أو الشك أو الخطأ.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 187.
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 357.(11/135)
وصدق الله إذ يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
وبعد: فهذا تفسير محرر لسورة «لقمان» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
القاهرة- مدينة نصر(11/136)
تفسير سورة السّجدة(11/137)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
1- سورة «السجدة» هي السورة الثانية والثلاثون في ترتيب المصحف، وكان نزولها بعد سورة «المؤمنون» ، أى: أنها من أواخر السور المكية.
قال الآلوسى ما ملخصه: وتسمى- أيضا- بسورة «المضاجع» . وهي مكية، كما روى عن ابن عباس.
وروى عنه أنها مكية سوى ثلاث آيات، تبدأ بقوله- تعالى-: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ... وهي تسع وعشرون آية في البصري. وثلاثون آية في المصاحف الباقية ... » «1» .
ومن فضائل هذه السورة ما رواه الشيخان عن أبى هريرة قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم. تَنْزِيلُ ... السجدة. وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ....
وروى الإمام أحمد عن جابر قال: «كان النبي- صلى الله عليه وسلم- لا ينام حتى يقرأ هذه السورة، وسورة تبارك» «2» .
2- وتبدأ هذه السورة الكريمة، بالثناء على القرآن الكريم، وببيان أنه من عند الله- تعالى-، وبالرد على الذين زعموا أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قد افتراه من عند نفسه ...
ثم تسوق ألوانا من نعم الله- تعالى- على عباده، ومن مظاهر قدرته، وبديع خلقه، وشمول إرادته، وإحسانه لكل شيء خلقه ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ.
3- ثم تذكر السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من شبهات المشركين حول البعث والحساب، وترد عليها بما يبطلها، وتصور أحوالهم عند ما يقفون أمام خالقهم للحساب تصويرا مؤثرا مرعبا قال- تعالى-: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 115. [.....]
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 263.(11/139)
4- وبعد أن تذكر السورة الكريمة ما أعده الله- تعالى- للمؤمنين من ثواب لا تعلمه نفس من الأنفس، وما أعده للكافرين من عقاب.. بعد كل ذلك تبين أن عدالته- تعالى- قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار وإنما يجازى كل إنسان على حسب عمله.
قال- تعالى-: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ.
5- ثم تشير السورة الكريمة بعد ذلك إلى ما أعطاه الله- تعالى- لنبيه موسى- عليه السّلام- من نعم، وما منحه للصالحين من قومه من منن، لكي يتأسى بهم المؤمنون وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا، وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ.
6- ثم حضت السورة الكريمة المشركين على التدبر والتفكر في آيات الله- تعالى-، ونهتهم عن الجحود والعناد، وحكت جانبا من سفاهاتهم، وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يرد عليهم، وأن يمضى في طريقه دون أن يعير سفاهاتهم اهتماما.
قال- تعالى-: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ.
7- وبعد فهذا عرض إجمالى لسورة «السجدة» ومنه نرى أنها زاخرة بالأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وعلى أن القرآن حق، والبعث حق، والحساب حق، والجزاء حق..
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(11/140)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)(11/141)
سورة السجدة من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي، وقد سبق أن ذكرنا آراء العلماء في ذلك بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لسورة: البقرة، وآل عمران، والأعراف ...
وقلنا ما ملخصه: إن أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض السور، على سبيل الإيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن.
فكأن الله- تعالى- يقول لأولئك الكافرين المعارضين في أن القرآن من عند الله: هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ومنظوما من حروف، وهي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم.
فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك، أو هاتوا عشر سور من مثله، أو سورة من مثله ...
ومع كل هذا التساهل في التحدي. فقد عجزوا وانقلبوا خاسرين، وثبت بذلك أن القرآن من عند الله- تعالى- وحده.
وقوله- تعالى-: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ بيان لمصدر القرآن الكريم وأنه لا شك في كونه من عند الله- عز وجل-.
وقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ. وخبره مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وجملة لا رَيْبَ فِيهِ معترضة بينهما، أو حال من الكتاب.. «1» .
أى: تنزيل هذا الكتاب عليك- أيها الرسول الكريم- كائن من رب العالمين، وهذا أمر لا شك فيه، ولا يخالطه ريب أو تردد عند كل عاقل.
وعجل- سبحانه- بنفي الريب، حيث جعله بين المبتدأ والخبر، لبيان أن هذه القضية ليست محلا للشك أو الريب، وأن كل منصف يعلم أن هذا القرآن من رب العالمين.
و «أم» في قوله- تعالى-: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة.
والاستفهام للتعجيب من قولهم وإنكاره.
والافتراء: الاختلاق. يقال: فلان افترى الكذب، أى: اختلقه. وأصله من الفري بمعنى قطع الجلد، وأكثر ما يكون للإفساد.
والمعنى: بل أيقول هؤلاء المشركون، إن محمدا صلى الله عليه وسلم، قد افترى هذا القرآن، واختلقه من عند نفسه ... ؟
__________
(1) راجع حاشية الجمل ج 3 ص 412.(11/142)
وقوله- عز وجل-: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ رد على أقوالهم الباطلة.
أى: لا تستمع- أيها الرسول الكريم- إلى أقاويلهم الفاسدة، فإن هذا القرآن هو الحق الصادر إليك من ربك- عز وجل-.
ثم بين- سبحانه- الحكمة في إرساله صلى الله عليه وسلم وفي إنزال القرآن عليه فقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.
والإنذار: هو التخويف من ارتكاب شيء تسوء عاقبته. و «ما» نافية. و «نذير» فاعل «أتاهم» و «من» مزيدة للتأكيد.
أى: هذا القرآن- يا محمد- هو معجزتك الكبرى، وقد أنزلناه إليك لتنذر قوما لم يأتهم نذير من قبلك بما جئتهم به من هدايات وإرشادات وآداب.
وقد فعلنا ذلك رجاء أن يهتدوا إلى الصراط المستقيم، ويستقبلوا دعوتك بالطاعة والاستجابة لما تدعوهم إليه.
ولا يقال: إن إسماعيل- عليه السلام- قد أرسل إلى آباء هؤلاء العرب الذين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، لأن رسالة إسماعيل قد اندرست بطول الزمن، ولم ينقلها الخلف عن السلف، فكانت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قومه، جديدة في منهجها وأحكامها وتشريعاتها.
ثم أثنى- سبحانه- على ذاته، بما يستحقه من إجلال وتعظيم وتقديس فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ....
والأيام جمع يوم، واليوم في اللغة: مطلق الوقت، أى: في ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله- تعالى-.
وهو- سبحانه- قادر على أن يخلق السموات والأرض وما بينهما في لمحة أو لحظة، ولكنه- عز وجل- خلقهن في تلك الأوقات، لكي يعلم عباده التأنى والتثبت في الأمور.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: سِتَّةِ أَيَّامٍ قال الحسن: من أيام الدنيا. وقال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة، التي خلق الله فيها السموات والأرض، مقداره ألف سنة من سنى الدنيا.. «1» .
وقال بعض العلماء ما ملخصه: وليست هذه الأيام من أيام هذه الأرض التي نعرفها، إذ
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 86.(11/143)
أيام هذه الأرض، مقياس زمنى ناشئ من دورة هذه الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة، تؤلف ليلا ونهارا على هذه الأرض.. وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة. أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة في القرآن، فعلمها عند الله. ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها، فهي من أيام الله التي يقول عنها: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «1» .
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ إشارة إلى استعلائه وهيمنته على شئون خلقه.
وقال بعض العلماء: وعرش الله- تعالى- مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم.. وقد ذكر في إحدى وعشرين آية. وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.
أما الاستواء على العرش، فذهب سلف الأمة، إلى أنه صفة الله- تعالى- بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل، لاستحالة اتصافه- سبحانه- بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وأنه يجب الإيمان بها كما وردت، وتفويض العلم بحقيقتها إليه- تعالى-.
قال الإمام مالك: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقال محمد بن الحسن: اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات، من غير تفسير ولا تشبيه.
وقال الإمام الرازي: إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه..» «2» .
وقوله- سبحانه-: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أى: ليس لكم- أيها الناس- إذا تجاوزتم حدوده- عز وجل- مِنْ وَلِيٍّ أى: من ناصر ينصركم إن أراد عقابكم، وَلا شَفِيعٍ يشفع لكم عنده لكي يعفو عنكم، أفلا تعقلون هذه المعاني الواضحة، وتسمعون هذه المواعظ البليغة، التي من شأنها أن تحملكم على التذكر والاعتبار والطاعة التامة لله رب العالمين.
فالآية الكريمة جمعت في توجيهاتها الحكيمة، بين مظاهر قدرة الله- تعالى-، وبين الترهيب من معصيته ومخالفة أمره، وبين الحض على التذكر والاعتبار.
__________
(1) في ظلال القرآن ج 21 ص 510.
(2) راجع تفسير صفوة البيان ص 263 لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.(11/144)
ثم أضاف- سبحانه- إلى ما سبق أن وصف به ذاته، صفات أخرى تليق بجلاله، فقال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
وقوله- تعالى-: يُدَبِّرُ من التدبير بمعنى الإحكام والإتقان، والمراد به هنا: إيجاد الأشياء على هذا النحو البديع الحكيم الذي نشاهده، وأصل التدبير: النظر في أعقاب الأمور محمودة العاقبة.
وقوله: يَعْرُجُ من العروج بمعنى الصعود والارتفاع والصيرورة إليه- تعالى-.
والضمير في «إليه» يعود إلى الأمر الذي دبره وأحكمه- سبحانه-.
أى: أن الله- تعالى- هو الذي يحكم شئون الدنيا السماوية والأرضية إلى أن تقوم الساعة، وهو الذي يجعلها على تلك الصورة البديعة المتقنة، ثم تصعد إليه- تعالى- تلك الأمور والشئون المدبرة، في يوم، عظيم هو يوم القيامة كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ من أيام الدنيا.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ متعلقان بقوله:
يُدَبِّرُ ومن ابتدائية، وإلى انتهائية. أى: يريده- تعالى- على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة، منزلا له من السماء إلى الأرض. وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه، فإن أسبابه سماوية من الملائكة وغيرهم.
وقوله ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أى: ذلك الأمر بعد تدبيره. وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه.. أو عن كتابته في صحف الملائكة بأمره- تعالى- «1» .
وقال بعض العلماء: وقد ذكر- سبحانه- هنا أنه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. وذكر في سورة الحج وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. وذكر في سورة المعارج تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ والجمع بين هذه الآيات من وجهين:
الأول: ما جاء عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج، هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. ويوم الألف في سورة السجدة، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه- تعالى-، ويوم الخمسين ألفا- في سورة المعارج- هو يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 120.(11/145)
الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ويدل لهذا الوجه قوله- تعالى-: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ «1» .
أى: أن يوم القيامة يتفاوت طوله بحسب اختلاف الشدة، فهو يعادل في حالة ألف سنة من سنى الدنيا، ويعادل في حالة أخرى خمسين ألف سنة.
واسم الإشارة في قوله ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ يعود إلى الله- تعالى-، وهو مبتدأ، وما بعده أخبار له- عز وجل-.
أى: ذلك الذي اتصف بتلك الصفات الجليلة، وفعل تلك الأفعال المتقنة الحكيمة، هو الله- تعالى-، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أى: عالم كل ما غاب عن الحس، وكل ما هو مشاهد له، لا يخفى عليه شيء مما ظهر أو بطن الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه غالب الرَّحِيمُ بعباده.
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أى: الذي أحكم وأتقن كل شيء خلقه وأوجده في هذا الكون، لأنه- سبحانه- أوجده على النحو الذي تقتضيه حكمته، وتستدعيه مصلحة عباده.
قال الشوكانى: وقرأ الجمهور خَلَقَهُ- بفتح اللام- على أنه فعل ماض صفة لشيء، فهو في محل جر. أو صفة للمضاف فيكون في محل نصب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ابن عامر: خَلَقَهُ- بسكون اللام- وفي نصبه أوجه:
الأول: أن يكون بدلا من كُلَّ شَيْءٍ بدل اشتمال، والضمير عائد على كل شيء، وهذا هو المشهور ... «2» .
والمراد بالإنسان في قوله- تعالى-: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ آدم- عليه السلام-، أى وبدأ خلق أبيكم آدم من طين، فصار على أحسن صورة، وأبدع شكل ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أى: ذريته، وسميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه.
مِنْ سُلالَةٍ أى: من خلاصة، وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية.
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أى: ممتهن لا يهتم بشأنه، ولا يعتنى به، والمقصود به: المنى الذي يخرج من الرجل.
__________
(1) تفسير أضواء البيان ج 6 ص 503 للشيخ الأمين الشنقيطى.
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 6 ص 249.(11/146)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
ثُمَّ سَوَّاهُ أى: هذا المخلوق الذي أوجده من طين، أو من ماء مهين. والمراد: ثم عدل خلقه، وسوى شكله، وناسب بين أعضائه، وأتمه في أحسن صورة ...
وَنَفَخَ فِيهِ- سبحانه- مِنْ رُوحِهِ أى: من قدرته ورحمته، التي صار بها هذا الإنسان إنسانا كاملا في أحسن تقويم.
وإضافة الروح إليه- تعالى- للتشريف والتكريم لهذا المخلوق، كما في قولهم بيت الله.
وَجَعَلَ لَكُمُ بعد ذلك السَّمْعَ الذي تسمعون به وَالْأَبْصارَ التي تبصرون بها، وَالْأَفْئِدَةَ التي تعقلون بها، وتحسون الأشياء بواسطتها.
وقوله: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ بيان لموقف بنى آدم من هذه النعم المتكاثرة والمتنوعة.
ولفظ «قليلا» منصوب على أنه صفة لمحذوف وقع معمولا لتشكرون.
أى: شكرا قليلا تشكرون، أو زمانا قليلا تشكرون.
وهكذا بنو آدم- إلا من عصم الله-، أوجدهم الله- تعالى- بقدرته، وسخر لمنفعتهم ومصلحتهم ما سخر من مخلوقات، وصانهم في كل مراحل خلقهم بأنواع من الصيانة والحفظ ... ومع ذلك فقليل منهم هم الذين يشكرونه- عز وجل- على نعمه. وصدق- سبحانه- حيث يقول: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.
ثم حكى- سبحانه- شبهات المشركين ورد عليها، وصور أحوالهم الأليمة عند ما تقبض الملائكة أرواحهم، فقال- تعالى-:
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 14]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)(11/147)
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ هذا قول منكري البعث أى: هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا. وأصله من قول العرب: ضل الماء في اللبن إذا ذهب.
والعرب تقول للشيء غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره: قد ضل..» «1» .
أى: وقال الكافرون على سبيل الإنكار ليوم القيامة وما فيه من حساب أإذا صارت أجسادنا كالتراب واختلطت به، أنعاد إلى الحياة مرة أخرى، ونخلق خلقا جديدا ... ؟
وقوله- سبحانه-: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إضراب وانتقال من حكاية كفرهم بالبعث والحساب إلى حكاية ما هو أشنع من ذلك وهو كفرهم بلقاء الله- تعالى- الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم ... أى: بل هم لانطماس بصائرهم، واستيلاء العناد والجهل عليهم، بلقاء ربهم يوم القيامة، كافرون جاحدون، لأنهم قد استبعدوا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم، مع أن الله- تعالى- قد أوجدهم ولم يكونوا شيئا مذكورا.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن مردهم إليه لا محالة بعد أن يقبض ملك الموت أرواحهم فقال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.
وقوله يَتَوَفَّاكُمْ من التوفي. وأصله أخذ الشيء وافيا تاما. يقال: توفاه الله، أى:
استوفى روحه وقبضها، وتوفيت مالي بمعنى استوفيته والمراد بملك الموت: عزرائيل.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- في الرد على هؤلاء الجاحدين: سيتولى قبض أرواحكم عند انتهاء آجالكم ملك الموت الذي كلفه الله- تعالى- بذلك ثم إلى ربكم ترجعون، فيجازيكم بما تستحقونه من عقاب، بسبب كفركم وجحودكم.
وأسند- سبحانه- هنا التوفي إلى ملك الموت، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح. وأسنده إلى الملائكة في قوله- تعالى- فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ لأنهم أعوان ملك الموت الذين كلفهم الله بذلك.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 91.(11/148)
وأسنده- سبحانه- إلى ذاته في قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها لأن كل شيء كائنا ما كان، لا يكون إلا بقضائه وقدره.
ثم صور- سبحانه- أحوال هؤلاء الكافرين، عند ما يقفون للحساب، تصويرا مرعبا مخيفا فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وجواب «لو» محذوف، والتقدير: لرأيت شيئا تقشعر من هوله الأبدان.
وقوله: ناكِسُوا من النكس، وهو قلب الشيء على رأسه كالتنكيس.. وفعله من باب نصر- والخطاب يصح أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له.
أى: ولو ترى- أيها الرسول الكريم- حال أولئك المجرمين الذين أنكروا البعث والجزاء، وهم يقفون أمام خالقهم بذلة وخزي، لحسابهم على أعمالهم.. لو ترى ذلك لرأيت شيئا ترتعد له الفرائص، وتهتز منه القلوب.
وقوله: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ حكاية لما يقولونه في هذا الموقف العصيب. أى: يقولون بذلة وندم: يا ربنا نحن الآن نبصر مصيرنا، ونسمع قولك ونندم على ما كنا فيه من كفر وضلال، فَارْجِعْنا إلى الدنيا، لكي نَعْمَلْ عملا صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ الآن بأن ما جاءنا به رسولك هو الحق، وأن البعث حق. وأن الجزاء حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق.
ولكن هذا الإيقان والاعتراف منهم، قد جاء في غير أوانه، ولذا لا يقبله- سبحانه- منهم، ولذا عقب- سبحانه- على ما قالوه بقوله: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها.... أى: ولو شئنا أن نؤتى كل نفس رشدها وهداها وتوفيقها إلى الإيمان، لفعلنا، لأن إرادتنا نافذة، وقدرتنا لا يعجزها شيء.
وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أى: ولكن ثبت وتحقق قولي.
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ أى من الجن وسموا بذلك لاستتارهم عن الأنظار.
ومن النَّاسِ أَجْمَعِينَ بسبب فسوقهم عن أمرنا، وتكذيبهم لرسلنا.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن قدرة الله- تعالى- لا يعجزها شيء، إلا أن حكمته- سبحانه- قد اقتضت أن الذين سبق في علمه أنهم يؤثرون الضلالة على الهداية، لسوء استعدادهم، يكون مصيرهم إلى النار، وأما الذين آثروا الهداية على الضلالة لنقاء نفوسهم، وكمال استعدادهم، فيكون مصيرهم إلى جنة عرضها السموات والأرض.
كما أن حكمته- سبحانه- قد اقتضت أن يميز الإنسان على غيره، بأن يجعل له طبيعة(11/149)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
خاصة يملك معها اختيار طريق الهدى أو طريق الضلال. كما قال- تعالى- إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً.
ثم بين- سبحانه- ما يقال لهؤلاء المجرمين عند ما يلقى بهم في جهنم فقال- تعالى-:
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
والذوق حقيقة إدراك المطعومات. والأصل فيه أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه.
والتعبير به هنا عن ذوق العذاب من باب التهكم بهم.
والفاء في قوله: فَذُوقُوا لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله والباء للسببية. والمراد بالنسيان لازمه، وهو الترك والإهمال.
أى: ويقال لهؤلاء المجرمين عند ما يلقى بهم في النار: ذوقوا لهيبها وسعيرها بسبب نسيانكم وإهمالكم وجحودكم ليوم القيامة وما فيه من حساب. وإننا من جانبنا قد أهملناكم وتركناكم.
بسبب إصراركم على كفركم، وذوقوا العذاب الذي أنتم مخلدون فيه بسبب أعمالكم القبيحة في الدنيا «جزاء وفاقا» .
وكرر- سبحانه- لفظ فَذُوقُوا على سبيل التأكيد، وزيادة التقريع والتأنيب.
ثم تترك السورة الكريمة هؤلاء المجرمين يذوقون العذاب، وتنتقل إلى الحديث عن مشهد آخر، عن مشهد يشرح النفوس، ويبهج القلوب، إنه مشهد المؤمنين الصادقين، وما أعد الله- تعالى- من ثواب قال- تعالى-:
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)(11/150)
أى: إِنَّما يُؤْمِنُ ويصدق بِآياتِنَا الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا، أصحاب النفوس النقية الصافية، الذين إذ ذكروا بها، أى: بهذه الآيات.
خَرُّوا سُجَّداً لله- تعالى- من غير تردد وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أى: ونزهوه عن كل ما لا يليق به- عز وجل- وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن طاعته- سبحانه-، وعن الانقياد لأمره ونهيه.
ثم صور- سبحانه- أحوالهم في عبادتهم وتقربهم إلى الله، تصويرا بديعا فقال:
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً.
والتجافي: التحرك إلى جهة أعلى. وأصله من جفا فلان السرج عن فرسه، إذا رفعه.
ويقال تجافى فلان عن مكانه، إذا انتقل عنه.
والجنوب: جمع جنب. وأصله الجارحة، والمراد به الشخص.
والمضاجع: جمع مضجع، وهو مكان الاتكاء للنوم.
والمعنى: أن هؤلاء المؤمنين الصادقين، تتنحى وترتفع أجسامهم، عن أماكن نومهم، وراحتهم، حالة كونهم يدعون ربهم بإخلاص وإنابة خَوْفاً من سخطه عليهم، وَطَمَعاً في رضاه عنهم.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من فضلنا وخيرنا يُنْفِقُونَ في وجوه البر والخير.
وقوله- سبحانه-: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ... بيان للعطاء الجزيل، والثواب العظيم. أى: فلا تعلم نفس من النفوس سواء أكانت لملك مقرب، أم لنبي مرسل، ما أخفاه الله- تعالى- لهؤلاء المؤمنين المتهجدين بالليل والناس نيام، من ثواب تقر به أعينهم، وتسعد به قلوبهم، وتبتهج له نفوسهم..
وهذا العطاء الجزيل إنما هو بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا.
وهكذا نرى في هذه الآيات الكريمة صورة مشرقة لعباد الله الصالحين، وللثواب الذي لا تحيط به عبارة، والذي أكرمهم الله- تعالى- به.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات، عددا من الأحاديث الواردة في فضل قيام الليل، منها ما رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل- رضى الله عنه- قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه. ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله، أخبرنى بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار. فقال: «لقد سألت عن عظيم، وأنه ليسير(11/151)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين، ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ... »
وعن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع» .
وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله- تعالى- قال: «أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن عدالته قد اقتضت عدم التسوية بين الأخيار والأشرار، وأن كل إنسان إنما يجازى يوم القيامة على حسب عمله فقال- تعالى-.
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 365.(11/152)
والاستفهام في قوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً.. للإنكار، والفسوق: الخروج عن طاعة الله.
أى: أفمن كان في هذه الدنيا مؤمنا بالله حق الإيمان، كمن كان فيها فاسقا وخارجا عن طاعة الله- تعالى- وعن دينه الذي ارتضاه لعباده؟
كلا، إنهم لا يستوون لا في سلوكهم وأعمالهم، ولا في جزائهم الدنيوي أو الأخروى.
وقد ذكروا أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن عقبة، وعلى بن أبى طالب- رضى الله عنه-، حيث قال الوليد لعلى: أنا أبسط منك لسانا، وأحد سنانا، وأملأ في الكتيبة جسدا، فقال له على: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية «1» .
ثم فصل- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة الفاسقين، فقال: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله حق الإيمان وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ.
فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أى: فلهم الجنات التي يأوون إليها، ويسكنون فيها نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ والنزل: أصله ما يهيّأ للضيف النازل من الطعام والشراب والصلة، ثم عمم في كل عطاء. أى: فلهم جنات المأوى ينزلون فيها نزولا مصحوبا بالتكريم والتشريف جزاء أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أى: خرجوا عن طاعتنا، وعن دعوة رسولنا صلّى الله عليه وسلم فَمَأْواهُمُ النَّارُ أى: فمنزلتهم ومسكنهم ومستقرهم النار وبئس القرار.
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها هربا من لهيبها وسعيرها وعذابها.
أُعِيدُوا فِيها مرغمين مكرهين، وردوا إليها مهانين مستذلين.
وَقِيلَ لَهُمْ على سبيل الزجر والتأنيب وزيادة الحسرة في قلوبهم.
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا، وتستهزءون بمن ينذركم به، ويخوفكم منه.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أى الأهون والأقرب والأقل وهو عذاب الدنيا، عن طريق ما ننزله بهم من أمراض وأسقام ومصائب متنوعة.
دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أى: الأشد والأعظم والأبقى، وهو عذاب الآخرة.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 104.(11/153)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم فيه من شرك وكفر وفسوق وعصيان.
ثم بين- سبحانه- حال من يدعى إلى الهدى فيعرض عنه، فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها.
أى: لا أحد أشد ظلما وكفرا ممن ذكره المذكر بالآيات الدالة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وعلى أن دين الإسلام هو الحق، ثم أعرض عنها جحودا وعنادا.
إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أى: إنّا من أهل الإجرام والجحود لآياتنا منتقمون انتقاما يذلهم ويهينهم.
قال صاحب الكشاف: «ثم» في قوله ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها للاستبعاد.
والمعنى: أن الإعراض عن مثل آيات الله، في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل. كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها، استبعادا لتركه الانتهاز. ومنه «ثم» في بيت الحماسة:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها.
فإن قلت: هلا قيل: إنا منه منتقمون؟ قلت: لما جعله أظلم كل ظالم، ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم، فقد دل على إصابة الأظلم بالنصيب الأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الإفادة «1» .
ثم أشارت السورة الكريمة بعد ذلك إلى ما أعطاه الله- تعالى- لنبيه موسى- عليه السلام- من نعم. وما منحه للصالحين من قومه من منن، فقال- تعالى-:
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 515.(11/154)
والمراد بالكتاب في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة التي أنزلها- سبحانه- لتكون هداية لبنى إسرائيل.
قالوا: وإنما ذكر موسى لقربه من النبي صلّى الله عليه وسلّم ووجود من كان على دينه إلزاما لهم.
إنما لم يختر عيسى- عليه السّلام- للذكر وللاستدلال، لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى- عليه السّلام- «1» .
والضمير المجرور في قوله: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ يعود إلى موسى على أرجح لأقوال- أو إلى الكتاب.
أى: آتينا موسى الكتاب فلا تكن- أيها الرسول الكريم- في مرية أو شك من لقاء موسى للكتاب الذي أوحيناه إليه، بقبول ورضا وتحمل لتكاليف الدعوة به، فكن مثله في لك، وبلغ ما أنزل إليك من ربك دون أن تخشى أحدا سواه.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أى: جنس الكتاب فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ أى: شك مِنْ لِقائِهِ أى: من لقائك ذلك الجنس.
وحمل بعضهم الْكِتابَ على العهد، أى الكتاب المعهود وهو التوراة.
ونهيه صلّى الله عليه وسلّم عن أن يكون في شك، المقصود به أمته، والتعريض بمن اتصف بذلك.
وقيل الكتاب، المراد به التوراة، وضمير، لقائه، عائد إليه من غير تقدير مضاف. ولقاء مصدر مضاف إلى مفعوله، وفاعله موسى، أى: فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب، ومضاف إلى فاعله، ومفعوله موسى. أى: من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه.. «2» .
وهذا الرأى الأخير الذي عبر عنه الآلوسى- رحمه الله- بقوله «وقيل» وهو في رأينا رجح الآراء، وأقربها إلى الصواب، لبعده عن التكلف.
قال الجمل في حاشيته، بعد أن ساق ستة أقوال في عودة الضمير في قوله مِنْ لِقائِهِ:
وأظهرها أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب. أى: لا ترتب في أن موسى لقى الكتاب أنزل عليه» «3» .
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 419.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 21 ص 137. [.....]
(3) حاشية الجمل ج 3 ص 419.(11/155)
قال صاحب الكشاف: والضمير في «لقائه» له- أى لموسى-، ومعناه: إنا آتينا موسى- عليه السّلام- مثل ما آتيناك من الكتب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحى، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله، ولقيت نظيره كقوله- تعالى-: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «1» .
وقوله- تعالى-: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أى: وجعلنا الكتاب الذي أنزلناه على نبينا موسى- عليه السّلام- هداية لبنى إسرائيل إلى طريق الحق والسداد.
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا والأئمة: جمع إمام، وهو من يقتدى به في الأمور المختلفة. والمراد بهم هنا: من يقتدى بهم في وجوه الخير والبر.
أى: وجعلنا من بنى إسرائيل أئمة في الخير والصلاح، يهدون غيرهم إلى الطريق الحق، بأمرنا وإرادتنا وفضلنا، وقد وفقناهم لذلك حين صبروا على أداء ما كلفناهم به من عبادات، وحين تحملوا الشدائد والمحن في سبيل إعلاء كلمتنا.
وأنت ترى أن جعلهم أئمة في الخير لم يكن اعتباطا، وإنما كان بسبب صبرهم على الأذى، وعلى مشاق الدعوة إلى الحق، وعلى كل أمر يستلزم الصبر وحبس النفس.
وفي ذلك إرشاد وتعليم للمسلمين، بأن يسلكوا طريق الأئمة الصالحين، ممن كانوا قبلهم، وأن يبلغوا دعوة الله إلى غيرهم بصبر ويقين.
وقوله- سبحانه-: وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ زيادة في مدحهم، وفي تقرير أنهم أهل للإمامة في الخير. أى: وكانوا بسبب إدراكهم السليم لمعانى آياتنا: يوقنون إيقانا جازما بأنهم على الحق الذي لا يحوم حوله باطل وبأنهم متبعون لشريعة الله- تعالى- التي لا يضل من اتبعها وسار على نهجها.
ثم أشار- سبحانه- إلى أن بنى إسرائيل جميعا لم يكونوا كذلك، وإنما كان منهم الأخيار والأشرار، وأنه- تعالى- سيحكم بين الجميع يوم القيامة بحكمه العادل، فقال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- هو وحده الذي يتولى القضاء والحكم بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة، فيما كانوا يختلفون فيه في الدنيا من أمور متنوعة. على رأسها ما يتعلق بالأمور الدينية.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 516.(11/156)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
ثم يسوق- سبحانه- في أواخر السورة ما من شأنه أن يهدى الضالين إلى الصراط المستقيم، وما يرشدهم إلى مظاهر نعمه عليهم، وما يزيد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثباتا على ثباته، ويقينا على يقينه، فيقول- عز وجل-:
[سورة السجده (32) : الآيات 26 الى 30]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا ... لإنكار عدم اهتدائهم إلى ما ينفعهم مع وضوح أسباب هذا الاهتداء. والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والخطاب للمشركين وعلى رأسهم كفار مكة. و «كم» خبرية بمعنى كثير. في محل نصب لأهلكنا.
والمعنى: أغفل هؤلاء المشركون عما أصاب الظالمين من قبلهم، ولم يتبين لهم- لانطماس بصائرهم- أننا قد أهلكنا كثيرا من أهل الأزمان السابقة من قبلهم، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم، وإيثارهم الكفر على الإيمان.
وقوله- تعالى- يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حال من الضمير في لَهُمْ، لتسجيل أقصى أنواع الجهالة والعناد عليهم. أى: أبلغ بهم الجهل والعناد أنهم لم يعتبروا بالقرون المهلكة من قبلهم، مع أنهم يمشون في مساكن هؤلاء السابقين، ويمرون على ديارهم مصبحين وممسين، ويرون بأعينهم آثارهم الدارسة، وبيوتهم الخاوية على عروشها.(11/157)
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يزيد في تبكيتهم وتقريعهم فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ.
أى: إن في ذلك الذي يرونه من مصارع الغابرين، وآثار الماضين، لآيات بينات، وعظات بليغات، فهلا تدبروا في ذلك، واستمعوا إلى صوت الحق بتعقل وتفهم؟
فقوله- تعالى-: أَفَلا يَسْمَعُونَ حض لهم على الاستماع إلى الآيات الدالة على سوء عاقبة الظالمين، بتدبر وتعقل واتعاظ، وتحول من الباطل إلى الحق، قبل أن يحل بهم ما حل بأهل الأزمنة الغابرة.
ثم نبههم- سبحانه- إلى نعمة من نعمه الكثيرة فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً، تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ والأرض الجرز: هي الأرض اليابسة التي جرز نباتها وقطع، إما لعدم نزول الماء عليها، وإما لرعيه منها.
قال القرطبي ما ملخصه: والأرض الجرز هي التي جرز نباتها أى: قطع، إما لعدم الماء، وإما لأنه رعى وأزيل، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز.
وهو مشتق من قولهم: رجل جروز إذا كان لا يبقى شيئا إلا أكله، وكذلك ناقة جروز:
إذا كانت تأكل كل شيء تجده، وسيف جراز، أى: قاطع ... » «1» .
أى: أعموا ولم يشاهدوا بأعينهم أَنَّا نَسُوقُ بقدرتنا ورحمتنا الْماءَ الذي تحمله السحب إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أى: اليابسة الخالية من النبات، فينزل عليها.
فَنُخْرِجُ بِهِ أى: فنخرج بهذا الماء النازل على الأرض القاحلة زَرْعاً كثيرا نافعا تَأْكُلُ مِنْهُ أى: من هذا الزرع أَنْعامُهُمْ أى: تأكل منه ما يصلح لأكلها كالأوراق والأغصان وما يشبه ذلك.
وقوله وَأَنْفُسُهُمْ معطوف على أنعامهم. أى: تأكل أنعامهم من الزرع ما يناسبها، ويأكل منه الناس ما يناسبهم كالبقول والحبوب.
وقدم- سبحانه- الأنعام على بنى آدم للترقي من الأدنى إلى الأشرف.
وقوله- تعالى- أَفَلا يُبْصِرُونَ حض لهم على التأمل في هذه النعم، والحرص على شكر المنعم عليها، وإخلاص العبادة له.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 110.(11/158)
ثم حكى- سبحانه- ما كان عليه المشركون من غرور واستخفاف بالوعيد فقال:
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
والمراد بالفتح: الحكم والقضاء والفصل في الخصومة بين المتخاصمين، ومنه قوله- تعالى- حكاية عن شعيب- عليه السّلام-: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. أى: «احكم بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الحاكمين» .
أى: ويقول المشركون للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه على سبيل الاستهزاء، واستعجال العقاب: متى هذا الذي تحدثوننا عنه من أن الله- تعالى- سيفصل بيننا وبينكم، ويجعل لكم النصر ولنا الهزيمة؟
لقد طال انتظارنا لهذا اليوم الذي يتم فيه الحكم بيننا وبينكم، فإن كنتم صادقين في قولكم، فادعوا ربكم أن يعجل بهذا اليوم.
وهنا يأمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بما يخرسهم فيقول: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. أى: قل- أيها الرسول- في الرد على هؤلاء الجاهلين المغرورين: إن يوم الفصل بيننا وبينكم قريب، وهو آت لا محالة في الوقت الذي يحدده الله- تعالى- ويختاره، سواء أكان هذا اليوم في الدنيا، عند ما تموتون على الكفر، أم في الآخرة عند ما يحل بكم العذاب، ولا ينفعكم إيمانكم، ولا أنتم تمهلون أو تنظرون، بل سينزل بكم العذاب سريعا وبدون مهلة.
وما دام الأمر كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ. أى: فأعرض عن هؤلاء المشركين، وعن أقوالهم الفاسدة دون أن تلتفت إليها، وامض في طريقك أنت وأتباعك، وانتظر النصرة عليهم بفضلنا وإرادتنا، إنهم- أيضا- منتظرون ما سيئول إليه أمرك، وسيكون أمرك بخلاف ما يمكرون وما ينتظرون.
وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة السجدة، نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/159)
تفسير سورة الأحزاب(11/161)
مقدّمة
1- سورة الأحزاب هي السورة الثالثة والثلاثون في ترتيب المصحف وهي من السور المدنية، وكان نزولها بعد سورة آل عمران، أى: أنها من أوائل السور المدنية، إذ لم يسبقها في النزول بعد الهجرة سوى سور: البقرة والأنفال وآل عمران.
ويبدو: أن نزولها كان في الفترة التي أعقبت غزوة بدر، إلى ما قبل صلح الحديبية. وعدد آياتها ثلاث وسبعون آية.
2- وقد افتتحت سورة الأحزاب بنداء من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم، نهته فيه عن طاعة المنافقين والكافرين، وأمرته بالمداومة على طاعة الله- تعالى- وحده، وباتباع أمره، وبالتوكل عليه- سبحانه-.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
3- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان حكم الله- تعالى- في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمع في ذلك الوقت، فأبطلت التبني، كما أبطلت ما كان سائدا في المجتمع من عادة الظهار، وهو أن يقول الرجل لزوجته: أنت على كظهر أمى، فتصير محرمة عليه حرمة مؤبدة.
قال- تعالى-: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ، وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
4- ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض الأحكام التشريعية الأخرى، كوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة تفوق طاعتهم لأنفسهم، ولوجوب تعظيم المسلمين لزوجاته صلى الله عليه وسلم كتعظيم أمهاتهم، وكوجوب التوارث بين الأقارب بالطريقة التي بينها-(11/163)
سبحانه- في آيات أخرى، وإبطال التوارث عن طريق المؤاخاة التي تمت بعد الهجرة بين المهاجرين والأنصار.
قال- تعالى-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.
5- ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، ذكرهم فيه بجانب من نعمه عليهم، حيث دفع عنهم جيوش الأحزاب، وأرسل على تلك الجيوش جنودا من عنده لم يروها، وكشف عن رذائل المنافقين التي ارتكبوها في تلك الغزوة، ومدح المؤمنين الصادقين على وفائهم بعهودهم، وكافأهم على ذلك بأن أورثهم أرض أعدائهم وديارهم.
قال- تعالى-: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ. وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
وبعد هذا الحديث المفصل عن غزوة الأحزاب، والذي استغرق ما يقرب من عشرين آية، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيرهن بين التسريح بإحسان، وبين الصبر على شظف العيش، ليظفرن برضا الله- تعالى- كما وجهت نداء إليهن أمرتهن فيه، بالتزام الآداب الدينية التي تليق بهن. لأنهن في مكان القدوة لسائر النساء.
كما أمرتهن بالبقاء في بيوتهن، فلا يخرجن لغير حاجة مشروعة. ومثلهن في ذلك مثل سائر نساء المسلمين. حتى يتفرغن لرعاية شئون بيوتهن التي هي من خصائصهن وليست من خصائص الرجال.
ثم ختم- سبحانه- تلك التوجيهات الحكيمة ببيان الثواب الجزيل الذي أعده للمؤمنين والمؤمنات، فقال- تعالى-: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ. وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
7- ثم أشارت السورة بعد ذلك إلى قصة زواج النبي صلّى الله عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش. وإلى الحكمة من ذلك. وإلى تطليق زيد بن حارثة لها. وإلى أن ما فعله(11/164)
رسول صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة لهذه الحادثة. كان بأمر الله- تعالى- وإذنه.
قال- تعالى-: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ثم وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالإكثار من ذكر الله- تعالى- ومن تسبيحه وتنزيهه. كما وجهت نداء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينت له فيه وظيفته، قال- تعالى-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً.
9- ثم تحدثت السورة بعد ذلك بشيء من التفصيل عن بعض الأحكام التي تتعلق بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعلاقته صلّى الله عليه وسلّم بهن من حيث القسم وغيره، ومن حيث الزواج بغيرهن.
كما تحدثت عن الآداب التي يجب على المؤمنين أن يلتزموها عند دخولهم بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم بدعوة منه. لأجل تناول طعام، أو لأجل أمر من الأمور الأخرى التي تتعلق بدينهم أو دنياهم.
ثم ختمت هذه الآيات بقوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
10- وبعد هذا البيان المفصل لكثير من الأحكام والآداب، أخذت السورة الكريمة في أواخرها، في تهديد المنافقين الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي بيان أن سنن الله في خلقه لا تتخلف، وأن علم وقت قيام الساعة إلى الله- تعالى- وحده، وأن الإصرار على الكفر يؤدى إلى سوء العاقبة، وأن السير على طريق الحق. يؤدى إلى مغفرة الذنوب.
وأن الإنسان قد ارتضى حمل الأمانة. التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال.
قال- تعالى-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.(11/165)
11- ومن هذا العرض المجمل لآيات سورة الأحزاب، نرى أنها قد اهتمت بموضوعات من أبرزها ما يلي:
(أ) كثرة التوجيهات والإرشادات، من الله- تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى أفضل الأحكام، وأقوم الآداب، وأهدى السبل.
وهذه التوجيهات والإرشادات. نراها في كثير من آيات سورة الأحزاب لا سيما التي نادت الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوصف النبوة.
ومن ذلك قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ.
وقوله- سبحانه- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها.
وقوله- عز وجل-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.
وقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ.
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ.
(ب) أمر المؤمنين بطاعة الله- تعالى-، وبطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم، ونهيهم عن كل مأمن شأنه أن يتعارض مع تشريعات الإسلام ومع آدابه.
وهذه الأوامر والنواهي، نراها في كثير من آيات هذه السورة الكريمة.
ومن ذلك قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها.
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
وقوله- عز وجل-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها....
وقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا.
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً.
(ج) هذه السورة الكريمة تعتبر على رأس السور القرآنية التي اهتمت ببيان فضل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وحقوقهن، وواجباتهن وخصائصهن.(11/166)
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ....
وقوله- سبحانه-: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ....
وقوله- عز وجل-: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ، وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ....
وقوله- سبحانه-: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ...
وقوله- تعالى-: ... وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ...
وقوله- عز وجل-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ...
(د) هذه السورة تعتبر من أجمع السور القرآنية التي تعرضت لكثير من الأحكام الشرعية، والآداب الاجتماعية، التي لا تتغير بتغير الزمان أو المكان.
ومن ذلك حديثها عن الظهار، وعن التبني. وعن التوارث بين الأقارب دون غيرهم، وعن وجوب تقديم طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على طاعة الإنسان لنفسه، وعن وجوب التأسى به، وعن وجوب الابتعاد عن كل ما يؤذيه أو يجرح شعوره، وعن وجوب الخضوع لحكم الله- تعالى- ولحكم رسوله صلّى الله عليه وسلم.
قال- تعالى-: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً.
(هـ) السورة الكريمة فصلت الحديث عن غزوة الأحزاب، التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة بين المسلمين وأعدائهم.
فبدأت حديثها عن تلك الغزوة بتذكير المؤمنين بفضل الله- تعالى- عليهم في هذه الغزوة، ثم صورت أحوالهم عند إحاطة جيوش الأحزاب بالمدينة المنورة.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.(11/167)
ثم حكت أقوال المنافقين القبيحة، وأفعالهم الذميمة، وردت عليهم بما يفضحهم، وبما يكشف عن سوء أخلاقهم.
قال- تعالى-: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
ثم مدحت المؤمنين الصادقين لوفائهم بعهودهم، ولشجاعتهم في مواجهة أعدائهم.
قال- سبحانه-: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
وكما بدأت السورة حديثها عن غزوة الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعم الله عليهم- ختمته- أيضا- بهذا التذكير، لكي يزدادوا شكرا له- عز وجل-.
قال- تعالى-: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
(و) والخلاصة أن المتأمل في سورة الأحزاب، يراها زاخرة بالأحكام الشرعية، وبالآداب الاجتماعية، وبالتوجيهات الربانية، تارة من الله- تعالى- لرسوله صلّى الله عليه وسلم وتارة لأزواجه صلّى الله عليه وسلم، وتارة للمؤمنين.
كما يراها تهتم اهتماما واضحا بتنظيم المجتمع الإسلامى تنظيما حكيما، من شأنه أن يأخذ بيد المتبعين له إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/168)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
التفسير قال الله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
افتتحت سورة الأحزاب بهذا النداء لسيد الخلق صلّى الله عليه وسلّم وبهذا الوصف الكريم، وهو الوصف بالنبوة، على سبيل التشريف والتعظيم.
قال صاحب الكشاف: جعل- سبحانه- نداءه بالنبي والرسول في قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ وترك نداءه باسمه، كما قال: يا آدم، يا موسى، يا عيسى، يا داود: كرامة له وتشريفا، وتنويها بفضله.
فإن قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء. فقد أوقعه في الإخبار، في قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟
قلت: ذلك لتعليم الناس بأنه رسول، وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به «1» .
والمراد بأمره بتقوى الله: المداومة على ذلك، والازدياد من هذه التقوى.
أى: واظب- أيها النبي الكريم- على تقوى الله، وعلى مراقبته، وعلى الخوف منه، وأكثر من ذلك، فإن تقوى الله، على رأس الفضائل التي يحبها- سبحانه-.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 518.(11/169)
قال ابن كثير: هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه- تعالى- إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى.
وقد قال خلف بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله «1» .
وبعد الأمر بالتقوى، جاء النهى عن طاعة غير المؤمنين، فقال- تعالى-: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ. أى: واظب- أيها النبي الكريم- على تقوى الله، واجتنب طاعة الكافرين الذين جحدوا نعم الله عليهم، وعبدوا معه آلهة أخرى، واجتنب كذلك طاعة المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر.
وفي إيراد هذا النهى بعد الأمر بتقوى الله، إشارة وإيحاء إلى ما كان يبذله هؤلاء الكافرون والمنافقون من جهود عنيفة، لزحزحة النبي صلّى الله عليه وسلّم عما هو عليه من حق، ولصرفه عن دعوتهم إلى الإسلام.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أن جماعة من أهل مكة، طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع عن قوله، وأن يعطوه شطر أموالهم، وأن المنافقين واليهود بالمدينة هددوه بالقتل إن لم يرجع عن دعوتهم إلى الإسلام، فنزلت «2» .
وقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً: تعليل الأمر والنهى، أى: اتبع ما أمرناك به، وما نهيناك عنه، لأن الله- تعالى- عليم بكل شيء، وحكيم في كل أقواله وأفعاله.
ثم أمره- سبحانه- باتباع ما يوحيه إليه فقال: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ..
أى: واظب على تقوى الله، وابتعد عن طاعة أعدائك، واتبع في كل ما تأتى وتذر، كل ما نوحيه إليك من عندنا اتباعا تاما.
فالجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها. من قبيل عطف العام على الخاص.
وفي النص على أن الوحى إليه صلّى الله عليه وسلّم وأن هذا الوحى من ربه الذي تولاه بالتربية والرعاية، إشعار بوجوب الاتباع التام الذي لا يشوبه انحراف أو تردد.
ثم أكد- سبحانه- هذا الأمر تأكيدا قويا فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أى: إنه- تعالى- خبير ومحيط بحركات النفوس وبخفايا القلوب، وكل من يخالف
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 376.
(2) تفسير الآلوسى ج 21 ص 140.(11/170)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
ما أمرناه به، أو نهيناه عنه، فلا يخفى علينا أمره، وسنجازيه يوم القيامة بما يستحقه.
وقوله- سبحانه-: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أى: وفوض أمرك إليه- عز وجل- وحده.
وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أى: وكفى بربك حافظا لك، وكفيلا بتدبير أمرك.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد تضمنت ثلاثة أوامر: تقوى الله، واتباع وحيه، والتوكل عليه- تعالى- وحده. كما تضمنت نهيه صلى الله عليه وسلم عن طاعة الكافرين والمنافقين.
وباتباع هذه الأوامر والنواهي، يسعد الأفراد، وتسعد الأمم.
ثم أبطل- سبحانه- بعض العادات التي كان متفشية في المجتمع، وكانت لا تتناسب مع شريعة الإسلام وآدابه، فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في رجل من قريش اسمه جميل بن معمر الفهري، كان حفاظا لما يسمع، وكان يقول:
لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم المشركون يوم بدر، ومعهم هذا الرجل، رآه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله- من شدة الهلع-، فقال له أبو سفيان: ما حال الناس؟ قال: انهزموا. فقال له: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله في يده.(11/171)
وقيل سبب نزولها أن بعض المنافقين قال: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم له قلبان، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول، فأكذبهم الله بقوله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «1» .
ويرى بعضهم: أن هذه الجملة الكريمة، مثل ضربه الله- تعالى- للمظاهر من امرأته، والمتبنى ولد غيره، تمهيدا لما بعده.
أى: كما أن الله- تعالى- لم يخلق للإنسان قلبين في جوفه، كذلك لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له في وقت واحد، وكذلك لم يجعل المرء دعيا لرجل وابنا له في زمن واحد.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: أى: ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل.. لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والزوجة ليست كذلك.
ولأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية لا غير.
فإن قلت: أى فائدة في ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله- تعالى-:
وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور والتجلي للمدلول عليه، لأنه إذا سمع به، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار «2» .
وقوله- سبحانه-: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ إبطال لما كان سائدا من أن الرجل كان إذا قال لزوجته أنت على كظهر أمى حرمت عليه.
يقال. ظاهر فلان من امرأته وتظهر وظهر منها، إذا قال لها: أنت على كظهر أمى، يريد أنها محرمة عليه كحرمة أمه.
وقد جاء الكلام عن الظهار، وعن حكمه، وعن كفارته، في سورة المجادلة، في قوله- تعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
وقوله- سبحانه-: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ إبطال لعادة أخرى كانت موجودة، وهي عادة التبني.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 116.
(2) تفسير الكشاف- بتصرف وتلخيص- ج 3 ص 521.(11/172)
والأدعياء: جمع دعى. وهو الولد الذي يدعى ابنا لغير أبيه وكان الرجل يتبنى ولد غيره، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية، ومنها حرمة زواج الأب بزوجة ابنه بالتبني بعد طلاقها، ومنها التوارث فيما بينهما.
قال ابن كثير: وقوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ هذا هو المقصود بالنفي، فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة، مولى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم قد تبناه قبل النبوة، وكان يقال له زيد بن محمد. فأراد الله- تعالى- أن يقطع هذا الإلحاق، وهذه النسبة بقوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، كما قال في أثناء السورة: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «1» .
واسم الإشارة في قوله: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يعود إلى ما سبق ذكره من التلفظ بالظهار، ومن إجراء التبني على ولد الغير، وهو مبتدأ، وما بعده خبر.
أى: ذلكم الذي تزعمونه من تشبيه الزوجة بالأم في التحريم، ومن نسبة الأبناء إلى غير آبائهم الشرعيين، هو مجرد قول باللسان لا يؤيده الواقع، ولا يسانده الحق.
قال ابن جرير: وقوله: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يقول- تعالى ذكره- هذا القول، وهو قول الرجل لامرأته: أنت على كظهر أمى، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه، إنما هو قولكم بأفواهكم، لا حقيقة له، ولا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادعيت بنوته، ولا تصير الزوجة أما بقول الرجل لها: أنت على كظهر أمى «2» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أى:
والله- تعالى- يقول الحق الثابت الذي لا يحوم حوله باطل، وهو- سبحانه- دون غيره يهدى ويرشد إلى السبيل القويم الذي يوصل إلى الخير والصلاح. وما دام الأمر كذلك فاتركوا عاداتكم وتقاليدكم التي ألفتموها. والتي أبطلها الله- تعالى- بحكمته، واتبعوا ما يأمركم به- سبحانه-.
ثم أرشدهم إلى الطريقة السليمة في معاملة الابن المتبنى فقال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أى: انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آبائهم، فإن هذا النسب هو أقسط وأعدل عند الله- تعالى-.
قال الآلوسى: أخرج الشيخان عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أن زيد بن حارثة مولى
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 377.
(2) تفسير ابن جرير ج 21 ص 75.(11/173)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد. حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقال صلّى الله عليه وسلم: «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل» «1» .
وكان زيد قد أسر في بعض الحروب، ثم بيع في مكة، واشتراه حكيم بن حزام، ثم أهداه إلى عمته السيدة خديجة، ثم أهدته خديجة- رضى الله عنها- إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وصار الناس يقولون: زيد بن محمد حتى نزلت الآية.
وقوله- سبحانه-: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ إرشاد إلى معاملة هؤلاء الأدعياء في حالة عدم معرفة آبائهم.
أى: انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آبائهم الحقيقيين، فإن ذلك أعدل عند الله- تعالى-، وأشرف للآباء والأبناء، فإن لم تعلموا آباءهم الحقيقيين لكي تنسبوهم إليهم، فهؤلاء الأدعياء هم إخوانكم في الدين والعقيدة، وهم مواليكم، فقولوا لهم، يا أخى أو يا مولاي، واتركوا نسبتهم إلى غير آبائهم الشرعيين.
وفي هذه الجملة الكريمة إشارة إلى ما كان عليه المجتمع الجاهلى من تخلخل في العلاقات الجنسية، ومن اضطراب في الأنساب، وقد عالج الإسلام كل ذلك بإقامة الأسرة الفاضلة، المبنية على الطهر والعفاف، ووضع الأمور في مواضعها السليمة.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر اليسر ورفع الحرج في تشريعاته فقال: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
أى. انسبوا- أيها المسلمون- الأبناء إلى آبائهم الشرعيين، فإن لم تعرفوا آباءهم فخاطبوهم ونادوهم بلفظ: يا أخى أو يا مولاي. ومع كل ذلك فمن رحمتنا بكم أننا لم نجعل عليكم جناحا أو إثما، فيما وقمتم فيه من خطأ غير مقصود بنسبتكم بعض الأبناء الأدعياء إلى غير آبائهم، ولكننا نؤاخذكم ونعاقبكم فيما تعمدته قلوبكم من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم.
وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً- وما زال واسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين: حرص شريعة الإسلام على إعطاء كل ذي حق حقه، ومن مظاهر ذلك إبطال الظهار الذي كان يجعل المرأة محرمة على الرجل، ثم تبقى بعد ذلك معلقة، لا هي مطلقة فتتزوج غير زوجها، ولا هي زوجة فتحل له فشرع الإسلام كفارة الظهار إنصافا للمرأة، وحرصا على كرامتها.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 147.(11/174)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
ومن مظاهر ذلك- أيضا-: إبطال عادة التبني، حتى ينتسب الأبناء إلى آبائهم الشرعيين، وحتى تصير العلاقات بين الآباء والأبناء قائمة على الأسس الحقيقية والواقعية.
ولقد حذر الإسلام من دعوى الإبن إلى غير أبيه تحذيرا شديدا. ونفر من ذلك.
قال القرطبي: جاء في الحديث الصحيح عن سعد بن أبى وقاص وأبى بكرة، كلاهما قال:
سمعته أذناى ووعاه قلبي، محمدا صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» وفي حديث أبى ذر أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر» «1» .
ثم بين- سبحانه- ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم صلّى الله عليه وسلّم ونحو أزواجه، وما يجب للأقارب فيما بينهم، فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
أى: النبي صلّى الله عليه وسلّم أحق بالمؤمنين بهم من أنفسهم وأولى في المحبة والطاعة، فإذا ما دعاهم إلى أمر، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه، وجب أن يؤثروا ما دعاهم إليه، على ما تدعوهم إليه أنفسهم، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يدعوهم إلا إلى ما ينفعهم، أما أنفسهم فقد تدعوهم إلى ما يضرهم.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبى هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنما مثلي ومثل أمتى، كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه- أى في الشيء المستوقد- وأنا آخذ بحجزكم- أى: وأنا آخذ بما يمنعكم من السقوط كملابسكم ومعاقد الإزار- وأنتم تقحمون فيه» أى: وأنتم تحاولون الوقوع فيما يحرقكم-.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 121.(11/175)
قال القرطبي: قال العلماء: الحجزة: السراويل، والمعقد للإزار، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه، وهذا مثل لاجتهاد نبينا صلّى الله عليه وسلّم في نجاتنا، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التي بين أيدينا، فهو أولى بنا من أنفسنا «1» .
وقال الإمام ابن كثير. قد علم الله- تعالى- شفقة رسوله صلّى الله عليه وسلّم على أمته، ونصحه لهم: فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم.
وفي الصحيح «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» .
وروى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة. اقرءوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه» .
وروى الإمام أحمد عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى، ومن ترك مالا فلورثته «2» .
وقال الآلوسى: وإذا كان صلّى الله عليه وسلّم بهذه المثابة في حق المؤمنين، يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه- عليه الصلاة والسلام- عليهم أنفذ من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها.
وسبب نزول الآية- على ما قيل- ما روى من أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج: فقال أناس منهم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت. ووجه دلالتها على السبب أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا كان أولى من أنفسهم، فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى «3» .
ثم بين- سبحانه- منزلة أزواجه صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة للمؤمنين فقال: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أى: وأزواجه صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة أمهاتكم- أيها المؤمنون- في الاحترام والإكرام، وفي حرمة الزواج بهن.
قالوا: وأما ما عدا ذلك كالنظر إليهن، والخلوة بهن، وإرثهن. فهن كالأجنبيات.
ثم بين- سبحانه- أن التوارث إنما يكون بين الأقارب فقال- تعالى- وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 122.
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 281. [.....]
(3) تفسير الآلوسى ج 21 ص 161.(11/176)
والمراد بأولى الأرحام: الأقارب الذين تربط بينهم رابطة الرحم كالآباء والأبناء، والإخوة، والأخوات.
وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ متعلق بقوله أَوْلى أو بمحذوف على أنه حال من الضمير في أَوْلى.
والمراد بالمؤمنين والمهاجرين. من لا تربط بينهم وبين غيرهم رابطة قرابة.
قال ابن كثير: وقد أورد ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله- عز وجل- فينا خاصة معشر قريش والأنصار: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وذلك أنا معشر قريش، لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فواخيناهم ووارثناهم ... حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة، فرجعنا إلى مواريثنا «1» .
وشبيه بهذه الآية في وجوب أن يكون التوارث بحسب قرابة الدم، قوله- تعالى- في آخر آية من سورة الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
والاستثناء في قوله- سبحانه-: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً رجح بعضهم أنه استثناء منقطع. وقوله أَنْ تَفْعَلُوا مبتدأ، وخبره محذوف.
والمراد بالكتاب في قوله كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً القرآن الكريم، أو اللوح المحفوظ.
والمعنى: وأولو الأرحام وهم الأقارب، بعضهم أولى ببعض في التوارث فيما بينهم، وفي تبادل المنافع بعضهم مع بعض، وهذه الأولوية والأحقية ثابتة في كتاب الله- تعالى- حيث بين لكم في آيات المواريث التي بسورة النساء، كيفية تقسيم التركة بين الأقارب، وهم بهذا البيان أولى في ميراث الميت من المؤمنين والمهاجرين الذين لا تربطهم بالميت صلة القرابة.
هذا هو حكم الشرع فيما يتعلق بالتوارث، لكن إذا أردتم- أيها المؤمنون- أن تقدموا إلى غير أقاربكم من المؤمنين معروفا، كأن توصوا له ببعض المال فلا بأس، ولا حرج عليكم في ذلك.
وهذا الحكم الذي بيناه لكم فيما يتعلق بالتوارث بين الأقارب، كان مسطورا ومكتوبا في
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 383.(11/177)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
اللوح المحفوظ، وفي آيات القرآن التي سبق نزولها، فاعملوا بما شرعناه لكم، واتركوا ما نهيناكم عنه.
قال الشوكانى ما ملخصه: قوله: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام، والتقدير: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا، من صدقة أو وصية، فإن ذلك جائز.
وإما منقطع. والمعنى: لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به.
والإشارة بقوله: كانَ ذلِكَ تعود إلى ما تقدم ذكره. أى: كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى ذوى الأرحام من القرابات فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أى: في اللوح المحفوظ، أو في القرآن مكتوبا «1» .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد وضحت ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم، وما يجب عليهم نحو أزواجه، وما يجب عليهم نحو أقاربهم فيما يتعلق بالتوارث.
ثم ذكر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالعهد الذي أخذه عليه وعلى الأنبياء من قبله، فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
والميثاق: العهد الموثق المؤكد، مأخوذ من لفظ وثق، المتضمن معنى الشد والربط على الشيء بقوة وإحكام.
أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- وقت أن أخذنا من جميع النبيين العهد الوثيق، على أن يبلغوا ما أوحيناه إليهم من هدايات للناس، وعلى أن يأمروهم بإخلاص العبادة لنا، وعلى أن يصدق بعضهم بعضا في أصول الشرائع ومكارم الأخلاق.. كما أخذنا هذا العهد الوثيق منك، ومن أنبيائنا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم.
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 6 ص 262.(11/178)
وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر، للتنويه بفضلهم، فهم أولو العزم من الرسل، وهم الذين تحملوا في سبيل إعلاء كلمة الله- تعالى- أكثر مما تحمل غيرهم.
وقدم صلّى الله عليه وسلّم عليهم في قوله وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ لمزيد فضله صلّى الله عليه وسلّم على جميع الأنبياء.
قال الآلوسى: ولا يضر تقديم نوح- عليه السّلام- في سورة الشورى، أعنى قوله- تعالى-: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إذ لكل مقام مقال. والمقام في سورة الشورى وصف دين الإسلام بالأصالة. والمناسب فيه تقديم نوح، فكأنه قيل: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد صلّى الله عليه وسلّم في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء «1» .
وقوله- سبحانه-: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً معطوف على ما قبله وهو أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، لإفادة تفخيم شأن هذا الميثاق المأخوذ على الأنبياء، وبيان أنه عهد في أقصى درجات الأهمية والشدة.
أى: وأخذنا من هؤلاء الأنبياء عهدا عظيم الشأن، بالغ الخطورة، رفيع المقدار.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فماذا أراد بالميثاق الغليظ؟
قلت: أراد به ذلك الميثاق بعينه. إذ المعنى: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا.
والغلظ استعارة في وصف الأجرام. والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه.
وقيل: المراد بالميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا «2» .
وقوله- سبحانه-: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ متعلق بقوله: أَخَذْنا، أو بمحذوف. والمراد بالصادقين: الأنبياء الذين أخذ الله عليهم الميثاق.
أى: فعل- سبحانه- ذلك ليسأل يوم القيامة أنبياءه عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم، وعن موقف هؤلاء الأقوام منهم.
والحكمة من هذا السؤال تشريف هؤلاء الرسل وتكريمهم، وتوبيخ المكذبين لهم فيما جاءوهم به من كلام صادق ومن إرشاد حكيم.
وقوله- سبحانه-: وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً معطوف على ما دل عليه قوله، ليسأل الصادقين.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 154.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 525.(11/179)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
أى: أثاب- عز وجل- الأنبياء الكرام بسبب صدقهم في تبليغ رسالته وأعد للكافرين الذين أعرضوا عن دعوة أنبيائهم عذابا أليما، بسبب هذا الإعراض.
وهكذا جمعت الآية الكريمة بين ما أعده- سبحانه- من ثواب عظيم للصادقين. ومن عذاب أليم للكافرين.
وبعد هذا البيان الحكيم لبعض الأحكام الشرعية. انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن غزوة الأحزاب، وعن فضل الله- تعالى- على المؤمنين فيها، فقال- سبحانه-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 15]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15)
وغزوة الأحزاب، من الغزوات الشهيرة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وكانت- على الراجح- في شهر شوال من السنة الخامسة بعد الهجرة.(11/180)
وملخصها- كما ذكر الإمام ابن كثير- أن نفرا من اليهود- على رأسهم حيي بن أخطب- خرجوا إلى مكة، واجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب المسلمين، فأجابوهم إلى ذلك.
ثم خرجوا إلى قبيلة غطفان فدعوهم لحرب المسلمين، فاستجابوا لهم- ايضا-.
وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها، والجميع في جيش قريب من عشرة آلاف رجل.
وعند ما علم الرسول صلّى الله عليه وسلم بمقدمهم، أمر بحفر خندق حول المدينة.
ووصلت جيوش الأحزاب إلى مشارف المدينة، فوجدوا الخندق قد حفر، وأنه يحول بينهم وبين اقتحامها. كما أن المسلمين كانوا لهم بالمرصاد.
وخلال هذه الفترة العصيبة، نقض يهود بنى قريظة عهودهم مع المسلمين، وانضموا إلى جيوش الأحزاب، فزاد الخطب على المسلمين.
ومكث الأعداء محاصرين للمدينة قريبا من شهر. ثم جاء نصر الله- تعالى-، بأن أرسل على جيوش الأحزاب ريحا شديدة، وجنودا من عنده، فتصدعت جبهات الأحزاب، وانكفأت خيامهم، وملأ الرعب قلوبهم، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ «1» .
وقد ابتدأ الله- تعالى- الحديث عن هذه الغزوة، بنداء وجهه إلى المؤمنين، ذكرهم فيه بفضله عليهم، وبرحمته بهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها.
والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، اذْكُرُوا على سبيل الشكر والاعتبار نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورحمته بكم.
إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ كثيرة، هي جنود جيوش الأحزاب فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً شديدة زلزلتهم، وجعلتهم يرحلون عنكم بخوف وفزع.
كما أرسلنا عليهم جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة، الذين ألقوا الرعب في قلوب أعدائكم.
قالوا: روى أن الله- تعالى- بعث عليهم ريحا باردة في ليلة باردة، فألقت التراب في
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 385. والسيرة النبوية لابن اسحق ج 2 ص 229.(11/181)
وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت أوتاد خيامهم، وأطفأت نيرانهم وقذفت في قلوبهم الرعب..
فقال كل سيد قوم لقومه: يا بنى فلان: النجاء النجاء «1» .
وقوله- سبحانه-: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً تذييل قصد به بيان مظهر آخر من مظاهر فضله- تعالى- عليهم.
أى: جاءتكم تلك الجنود الكثيرة. فأرسلنا عليهم ريحا شديدة، وأرسلنا عليهم من عندنا جنودا لم تروها، وكنا فوق كل ذلك مطلعين على أعمالكم من حفر الخندق وغيره وسامعين لدعائكم، وقد أجبناه لكم، حيث رددنا أعداءكم عنكم دون أن ينالوا خيرا.
ثم فصل- سبحانه- ما حدث للمؤمنين في هذه الغزوة، بعد هذا الإجمال، فقال:
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أى: من أعلى الوادي من جهة المشرق. والجملة بدل من قوله إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ. والمراد بالذين جاءوا من تلك الجهة: قبائل غطفان وهوازن..
وانضم إليهم بنو قريظة بعد أن نقضوا عهودهم.
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أى: ومن أسفل الوادي من جهة المغرب، وهم قريش ومعهم أحابيشهم وحلفاؤهم.
وقوله: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ معطوف على ما قبله، داخل معه في حيز التذكير.
أى: واذكروا وقت أن زاغت أبصاركم، ومالت عن كل شيء حولها، وصارت لا تنظر إلا إلى أولئك الأعداء. يقال: زاغ البصر يزيغ زيغا وزيغانا إذا مال وانحرف. ويقال- أيضا:
زاغ البصر، إذا مل وتعب بسبب استدامة شخوصه من شدة الهول.
وقوله وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ بيان آخر لما أصاب المسلمين من بلاء بسبب إحاطة جيوش الأحزاب بهم.
والحناجر: جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم، والمراد أن قلوبكم فزعت فزعا شديدا، حتى لكأنها قد انتقلت من أماكنها إلى أعلى، حتى قاربت أن تخرج من أفواهكم.
فالآية تصور ما أصاب المسلمين من فزع وكرب في غزوة الأحزاب، تصويرا بديعا مؤثرا، يرسم حركات القلوب، وملامح الوجوه، وخلجات النفوس.
وقوله- سبحانه- وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا بيان لما دار في عقولهم من أفكار، حين رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 21 ص 156.(11/182)
والظنون جمع الظن. وهو مصدر يطلق على القليل والكثير منه. وجاء بصيغة الجمع لتعدد أنواعه، واختلافه باختلاف قوة الإيمان وضعفه.
أى: وتظنون- أيها المؤمنون- بالله- تعالى- الظنون المختلفة، فمنكم من ازداد يقينا على يقينه، وازداد ثقة بوعد الله- تعالى- وبنصره، ومنكم من كان أقل من ذلك في ثباته ويقينه، ومنكم من كان يظهر أمامكم الإيمان والإسلام، ويخفى الكفر والعصيان، وهم المنافقون وهؤلاء ظنوا الظنون السيئة، بأن اعتقدوا بأن الدائرة ستدور عليكم:
قال ابن كثير: قوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا قال الحسن: ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه- سبحانه- سيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
عن أبى سعيد قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقول، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: نعم. قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.
قال: فضرب الله- تعالى- وجوه أعدائه بالريح فهزمهم «1» .
ولفظ هُنالِكَ في قوله- تعالى-: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ: ظرف مكان للبعيد، وهو منصوب بقوله ابْتُلِيَ والابتلاء: الاختبار والامتحان بالشدائد والمصائب.
أى: في ذلك المكان الذي أحاط به الأحزاب من كل جانب، امتحن الله- تعالى- المؤمنين واختبرهم، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.
وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أى: واضطربوا اضطرابا شديدا، من شدة الفزع، لأن الأعداء حاصروهم، ولأن بنى قريظة نقضوا عهودهم.
ولقد بلغ انشغال المسلمين بعدوهم انشغالا عظيما، حتى أنهم لم يستطيعوا أن يؤدوا بعض الصلوات في أوقاتها، وقال بعض الصحابة: يا رسول الله، ما صلينا، فقال لهم صلّى الله عليه وسلم:
«ولا أنا، والله ما صليت ثم قال: شغلنا المشركون عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا» .
وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا، فالتقتا- دون أن تعرف إحداهما الأخرى- فتقاتلا.
وحدث بينهم ما حدث من جراح وقتل، ولم يشعروا أنهم من المسلمين، حتى تنادوا بشعار الإسلام: «حم. لا ينصرون» ، فكف بعضهم عن بعض.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 389.(11/183)
فلما بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد» .
ومما زاد في بلاء المسلمين وحزنهم. ما ظهر من أقوال قبيحة من المنافقين. حكاها- سبحانه- في قوله: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً أى: واذكروا- أيضا- أيها المؤمنون- وقت أن كشف المنافقون وأشباههم عن نفوسهم الخبيثة وطباعهم الذميمة، وقلوبهم المريضة، فقالوا لكم وأنتم في أشد ساعات الحرج والضيق: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بالنصر والظفر إِلَّا غُرُوراً أى: إلا وعدا باطلا، لا يطابق الواقع الذي نعيش فيه.
وقال أحدهم: إن محمدا كان يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يستطيع أن يذهب إلى الغائط.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ...
أى: واذكروا- كذلك- أيها المؤمنون- وقت أن قالت لكم طائفة من هؤلاء المنافقين:
يا أَهْلَ يَثْرِبَ أى: يا أهل المدينة، لا مقام لكم في هذا المكان الذي تقيمون فيه بجوار الخندق لحماية بيوتكم ومدينتكم، فارجعوا إلى مساكنكم، واستسلموا لأعدائكم.
قال الشوكانى: وذلك أن المسلمين خرجوا في غزوة الخندق، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع، وجعلوا وجوههم إلى العدو، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم. فقال هؤلاء المنافقون:
ليس ها هنا موضع إقامة وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة «1» .
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بهذا القول الذميم، بل كانوا يهربون من الوقوف إلى جانب المؤمنين، فقال- تعالى-: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً.
أى: أنهم كانوا يحرضون غيرهم على ترك مكانه في الجهاد، ولا يكتفون بذلك، بل كان كل فريق منهم يذهب إلى النبي- صلى الله عليهم- فيستأذنه في الرجوع إلى بيوتهم، قائلين له: يا رسول الله: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أى: خالية ممن يحرسها. يقال: دار ذات عورة إذا سهل دخولها لقلة حصانتها.
وهنا يكشف القرآن عن حقيقتهم ويكذبهم في دعواهم فيقول وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أى:
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 6 ص 266.(11/184)
والحال أن بيوتهم ليست كما يزعمون، وإنما الحق أنهم يريدون الفرار من ميدان القتال، لضعف إيمانهم، وجبن نفوسهم.
روى أن بنى حارثة بعثوا أحدهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليقول له: إن بيوتنا عورة، وليست دار من دور الأنصار مثل دورنا، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فأذن لنا كي نرجع إلى دورنا، فمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم صلّى الله عليه وسلم.
فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال: يا رسول الله، لا تأذن لهم، إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا فعلوا ذلك.. فردهم.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المنافقين جمعوا لأنفسهم كل نقيض، فهم يسرعون إلى ما يؤذى المؤمنين، ويبطئون عما ينفعهم، فقال- تعالى-: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً.
والضمير في قوله- تعالى- دُخِلَتْ للبيوت أو للمدينة. وفاعل الدخول من يدخل هذه البيوت أو المدينة من أهل الكفر والفساد. وأسند- سبحانه- الدخول إلى بيوتهم، للإشعار بأن الأعداء يدخلونها وهم قابعون فيها.
والأقطار: جمع قطر بمعنى الناحية والجانب والجهة.
والمراد بالفتنة هنا، الردة عن الإسلام أو قتال المسلمين.
وقوله لَآتَوْها قرأه الجمهور بالمد بمعنى لأعطوها. وقرأه نافع وابن كثير لأتوها بالقصر، بمعنى لجاءوها وفعلوها والتلبث: الإبطاء والتأخر.
والمعنى إن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أن بيوتهم عورة، هم كاذبون في زعمهم، وهم أصحاب نيات خبيثة، ونفوس عارية عن كل خير.
والدليل على ذلك، أن بيوتهم هذه التي يزعمون أنها عورة، لو اقتحمها عليهم مقتحم من المشركين وهم قابعون فيها، ثم طلب منهم أن ينضم إليهم في مقاتلة المسلمين، لسارعوا إلى تلبية طلبه، ولكانوا مطيعين له كل الطاعة، وما تأخروا عن تلبية طلبه إلا لمدة قليلة، يعدون العدة خلالها لقتالكم- أيها المسلمون-، وللانسلاخ عن كل رابطة تربطكم بهم. لأن عقيدتهم واهنة، ونفوسهم مريضة خائرة.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ أى: المدينة. وقيل: بيوتهم. من قولك: دخلت على فلان داره مِنْ أَقْطارِها أى. من جوانبها. يريد: ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة- التي يفرون منها- مدينتهم من نواحيها كلها وانثالت على أهاليهم(11/185)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
وأولادهم ناهبين سابين، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة، الْفِتْنَةَ أى: الردة والرجعة إلى الكفر، ومقاتلة المسلمين، لأتوها، أى: لجاءوها ولفعلوها. وقرئ. لآتوها، أى لأعطوها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرا، فإن الله يهلكهم «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك، أن من الصفات اللازمة للمنافقين، نقضهم لعهودهم فقال- تعالى-: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا.
أى: ولقد كان هؤلاء المنافقون قد حلفوا من قبل غزوة الأحزاب، أنهم سيكونون معكم في الدفاع عن الحق وعن المدينة المنورة التي يساكنونكم فيها، ولكنهم لم يفوا بعهودهم.
وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أى: مسئولا عنه صاحبه الذي عاهد الله- تعالى- على الوفاء، وسيجازى- سبحانه- كل ناقض لعهده، بما يستحقه من عقاب.
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين، فوبختهم على سوء فهمهم، وعلى جبنهم وخورهم، وعلى سلاطة ألسنتهم.. فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 16 الى 20]
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 528.(11/186)
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المنافقين: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، لأن كل إنسان لا بد له من نهاية تنتهي عندها حياته، سواء أكانت تلك النهاية عن طريق القتل بالسيف، أم عن طريق الموت على الفراش.
وما دام الأمر كذلك، فعلى هؤلاء المنافقين أن يعلموا: أن الجبن لا يؤخر الحياة، وأن الشجاعة لا تقدمها عن موعدها. وصدق الله إذ يقول: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ.
وقوله: إِنْ فَرَرْتُمْ.. جوابه محذوف لدلالة ما سبق عليه. أى: إن فررتم لن ينفعكم فراركم.
وقوله: وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا تذييل قصد به زجرهم عن الجبن الذي استولى عليهم.
أى: إن فراركم من الموت أو القتل، إن نفعكم- على سبيل الفرض- لفترة من الوقت، فلن ينفعكم طويلا، لأنكم لن تتمتعوا بالحياة بعد هذا الفرار إلا وقتا قليلا، ثم ينزل بكم قضاء الله- تعالى- الذي لا مرد لكم منه، فما تفرون منه هو نازل بكم قطعا.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقرعهم بحجة أخرى لا يستطيعون الرد عليها، فقال: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ، إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً.
أى: قل- أيها الرسول- لهؤلاء الجاهلين: من هذا الذي يملك أن يدفع ما يريده الله-(11/187)
تعالى- بكم من خير أو شر، ومن نعمة أو نقمة، ومن موت أو حياة.
إن أحدا لا يستطيع أن يمنع قضاء الله عنكم. فالاستفهام للإنكار والنفي.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة، ولا عصمة إلا من السوء؟
قلت: معناه، أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قول:
«متقلدا سيفا ورمحا» - أى: «متقلدا سيفا وحاملا رمحا» «1» .
وقوله- تعالى-: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً معطوف على ما قبله. أى: لا يجدون من يعصمهم مما يريده الله- تعالى- بهم، ولا يجدون من دونه- سبحانه- وليا ينفعهم، أو نصيرا ينصرهم، إذ هو وحده- سبحانه- الناصر والمغيث والمجير.
قال- تعالى-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ثم بين- سبحانه- أن علمه محيط بهؤلاء المنافقين، وأنهم لن يفلتوا من عقابه، فقال:
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا.
قال الآلوسى ما ملخصه: قال ابن السائب: الآية في عبد الله بن أبى وأمثاله ممن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة. كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر، أن ائتونا فإنا ننتظركم.
وكان بعضهم يقول لبعض: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فخلوهم «2» .
و «قد» للتحقيق، لأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء. و «المعوقين» من العوق وهو المنع والصرف، يقال: عاق فلان فلانا، إذا صرفه عن الجهة التي يريدها.
و «من» في قوله مِنْكُمْ للبيان. والمراد بالأخوة: التطابق والتشابه في الصفات الذميمة، والاتجاهات القبيحة. التي على رأسها كراهيتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه.
و «هلم» اسم فعل أمر بمعنى أقبل.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 529.
(2) تفسير الآلوسى ج 21 ص 163.(11/188)
والمعنى: إن الله- تعالى- لا يخفى عليه حال أولئك المنافقين. الذين يخذلون ويثبطون ويصرفون إخوانهم في النفاق والشقاق، عن الاشتراك مع المؤمنين، في حرب جيوش الأحزاب، ويقولون لهم: هَلُمَّ إِلَيْنا أى: أقبلوا نحونا، وتعالوا إلى جوارنا، ولا تنضموا إلى صفوف المسلمين.
وقوله- سبحانه-: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ذم لهم على جبنهم وخورهم.
أى: أن من صفاتهم الأصيلة أنهم جبناء، ولا يقبلون على الحرب والقتال، إلا إقبالا قليلا. فهم تارة يخرجون مع المؤمنين، لإيهامهم أنهم معهم، أو يخرجون معهم على سبيل الرياء والطمع في غنيمة.
ثم أخذت السورة الكريمة في تصوير ما جبلوا عليه من سوء تصويرا معجزا، فقال- تعالى- أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، جمع شحيح من الشح وهو البخل في أقبح صوره. ولفظ أَشِحَّةً منصوب على الحال من الضمير في قوله: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا.
أى: أن من صفات هؤلاء المنافقين الجبن والخور، حالة كونهم بخلاء بكل خير يصل إليكم- أيها المؤمنون- فهم لا يعاونونكم في حفر الخندق، ولا في الدفاع عن الحق والعرض والشرف ولا في أى شيء فيه منفعة لكم.
فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ، أى فإذا اقترب الوقت الذي يتوقع فيه اللقاء بينكم وبين أعدائكم. رَأَيْتَهُمْ أيها الرسول الكريم- يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بجبن وهلع تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في مآقيهم يمينا وشمالا.
وحالهم كحال الذي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أى: كحال الذي أحاط به الموت من كل جانب، فصار في أقصى دركات الوهن والخوف والفزع.
هذه هي حالهم عند ما يتوقعون الشدائد والمخاوف، أما حالهم عند الأمان وذهاب الخوف، فهي كما قال- تعالى- فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ.
وقوله سَلَقُوكُمْ من السّلق. وأصله بسط العضو ومده للأذى، سواء أكان هذا العضو يدا أو لسانا. والمراد به الإيذاء بالكلام السيئ القبيح.
أى: أنهم عند الشدائد جبناء بخلاء، فإذا ما ذهب الخوف وحل الأمان، سلطوا عليكم ألسنتهم البذيئة بالأذى والسوء، ورموكم بألسنة ماضية حادة، تؤثر تأثير الحديد في الشيء، وارتفعت أصواتهم بعد أن كانوا إذا ما ذكر القتال أمامهم، صار حالهم كحال المغشى عليه من الموت.(11/189)
ثم هم بعد كل ذلك أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أى بخلاء بكل خير، فهم يحرصون على جمع الغنائم، وعلى الأموال بكل وسيلة، ولكنهم لا ينفقون شيئا منها في وجه من وجوه الخير والبر.
قال ابن كثير قوله أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أى: ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر:
أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك
أى: هم في حال المسالمة كأنهم الحمير الأعيار. والأعيار جمع عير وهو الحمار. وفي الحرب كأنهم النساء الحيض «1» .
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم فقال: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
أى: أولئك المنافقون الموصوفون بما سبق من الصفات السيئة لَمْ يُؤْمِنُوا بما يجب الإيمان به إيمانا صادقا، بل قالوا بألسنتهم قولا تكذبه قلوبهم وأفعالهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ بأن أبطلها وجعلها هباء منثورا، وكان ذلك الإحباط على الله- سبحانه- هينا يسيرا.
وخص- سبحانه- يسر إحباط عملهم بالذكر مع أن كل شيء يسير عليه- تعالى- لبيان أن أعمالهم جديرة بالإحباط والإفساد، لصدورها عن قلوب مريضة، ونفوس خبيثة.
قال صاحب الكشاف: وهل يثبت للمنافقين عمل حتى يرد عليه الإحباط؟
قلت: لا، لكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يوطئه القلب، وان ما يعمل المنافق من الأعمال يجدي عليه، فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل، وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء من غير أساس، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثورا «2» .
ثم ختم- سبحانه- هذا الحديث الجامع عن صفات المنافقين عند الشدائد والمحن فقال:
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا.
أى: أن هؤلاء المنافقين بلغ بهم الجبن والخور، أنهم حتى بعد رحيل الأحزاب عن المدينة،
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 392.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 530. [.....](11/190)
ما زالوا يحسبون ويظنون أنهم لم يذهبوا عنها، فهم يأبون أن يصدقوا أن الله- تعالى- قد رد الذين كفروا بغيظهم دون أن ينالوا خيرا.
وفي هذه الجملة ما فيها من التهكم بالمنافقين، حيث وصفتهم بأنهم حتى بعد ذهاب أسباب الخوف، ما زالوا في جبنهم يعيشون.
ثم بين- سبحانه- حالهم فيما لو عاد الأحزاب على سبيل الفرض والتقدير فقال:
وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ.
أى: إلى المدينة مرة ثانية.
يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أى: وإن تعد جيوش الأحزاب إلى مهاجمة المدينة مرة ثانية، يتمنى هؤلاء المنافقون، أن يكونوا غائبين عنها، نازلين خارجها مع أهل البوادي من الأعراب، حتى لا يعرضوا أنفسهم للقتال.
فقوله: بادُونَ جمع باد وهو ساكن البادية. يقال: بدا القوم بدا، إذا نزحوا من المدن إلى البوادي.
والأعراب: جمع أعرابى وهو من يسكن البادية.
ثم بين- سبحانه- تلهفهم على سماع الأخبار السيئة عن المؤمنين فقال: يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا.
أى: هؤلاء المنافقون يسألون القادمين من المدينة، والذاهبين إليها عن أخباركم- أيها المؤمنون- حتى لكأنهم غير ساكنين فيها.
ولو كانوا فيكم عند ما يعود الكافرون إلى المدينة- على سبيل الفرض- ما قاتلوا معكم إلا قتالا قليلا حتى لا ينكشف أمرهم انكشافا تاما. فهم لا يقاتلون عن رغبة، وإنما يقاتلون رياء ومخادعة.
وهكذا نجد الآيات الكريمة قد أفاضت في شرح الأحوال القبيحة التي كان عليها المنافقون عند ما هاجمت جيوش الأحزاب المدينة، ووصفتهم بأبشع الصفات وأبغضها إلى كل نفس كريمة، حتى يحذرهم المؤمنون.
وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين الأخيار والأشرار، ساقت السورة بعد ذلك صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين، الذين عند ما رأوا جيوش الأحزاب قالوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ والذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه دون أن يبدلوا تبديلا.(11/191)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
لنستمع إلى القرآن الكريم وهو يصور لنا موقف المؤمنين في غزوة الأحزاب، كما يحكى جانبا من فضل الله عليهم، ومن لطفه بهم فيقول- سبحانه-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 27]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
قال القرطبي: قوله- تعالى-: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أى: كان لكم قدوة في النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله، في خروجه إلى الخندق.(11/192)
والأسوة: القدوة. وقرأ عاصم أُسْوَةٌ بضم الهمزة. والباقون بكسرها. والجمع أسى وإسى- بضم الهمزة وكسرها «1» .
يقال: فلان ائتسى بفلان، إذا اقتدى به، وسار على نهجه وطريقته.
وقال الإمام ابن كثير: هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسى برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أمر الناس بالتأسى بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه- تعالى-.. «2» .
والذي يقرأ السيرة النبوية الشريفة. يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في هذه الغزوة بصفة خاصة، وفي غيرها بصفة عامة القدوة الحسنة الطيبة في كل أقواله وأفعاله وأحواله صلّى الله عليه وسلّم.
لقد شارك أصحابه في حفر الخندق، وفي الضرب بالفأس. وفي حمل التراب بل وشاركهم في أراجيزهم وأناشيدهم، وهم يقومون بهذا العمل الشاق المتعب.
وشاركهم في تحمل آلام الجوع، وآلام السهر.. بل كان صلّى الله عليه وسلّم هو القائد الحازم الرحيم، الذي يلجأ إليه أصحابه عند ما يعجزون عن إزالة عقبة صادفتهم خلال حفرهم للخندق.
قال ابن إسحاق ما ملخصه: وعمل المسلمون فيه- أى في الخندق- حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له «جعيل» سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرا، فقالوا:
سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا
فإذا مروا بعمرو، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عمرا» وإذا مروا بظهر قال: «ظهرا» .
ثم قال ابن إسحاق: وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني فيها تحقيق نبوته صلّى الله عليه وسلّم فكان فيما بلغني أن جابر بن عبد الله كان يحدث، أنهم اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية- أى صخرة عظيمة-، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 155.
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 392.(11/193)
حضرها: فو الذي بعثه بالحق نبيا لانهالت- أى: لتفتت- حتى عادت كالكثيب- أى كالرمل المتجمع- لا ترد فأسا ولا مسحاة «1» .
وهذه الآية الكريمة وإن كان نزولها في غزوة الأحزاب، إلا أن المقصود بها وجوب الاقتداء بالرسول صلّى الله عليه وسلّم في جميع أقواله وأفعاله، كما قال- تعالى-: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
والجار والمجرور في قوله- سبحانه-: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ متعلق بمحذوف صفة لقوله حَسَنَةٌ، أو بهذا اللفظ نفسه وهو حَسَنَةٌ.
والمراد بمن كان يرجو الله واليوم الآخر: المؤمنون الصادقون الذين وفوا بعهودهم.
أى: لقد كان لكم- أيها الناس- قدوة حسنة في نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، وهذه القدوة الحسنة كائنة وثابتة للمؤمنين حق الإيمان. الذين يرجون ثواب الله- تعالى-، ويؤملون رحمته يوم القيامة، إذ هم المنتفعون بالتأسى برسولهم صلّى الله عليه وسلّم وقوله: وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً معطوف على كانَ، أى: هذه الأسوة الحسنة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ثابتة لمن كان يرجو الله واليوم والآخر، ولمن ذكر الله- تعالى- ذكرا كثيرا، لأن الملازمة لذكر الله- تعالى- توصل إلى طاعته والخوف منه- سبحانه-.
وجمع- سبحانه- بين الرجاء والإكثار من ذكره، لأن التأسى التام بالرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يتحقق إلا بهما.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك- على سبيل التشريف والتكريم- ما قاله المؤمنون الصادقون عند ما شاهدوا جيوش الأحزاب، فقال- تعالى-: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً.
واسم الإشارة هذا يعود إلى ما رأوه من الجيوش التي جاء بها المشركون، أو إلى ما حدث لهم من ضيق وكرب بسبب ذلك.
أى: وحين رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أقبلت نحو المدينة، لم يهنوا ولم يجزعوا، بل ثبتوا على إيمانهم وقالوا هذا الذي نراه من خطر داهم، هو ما وعدنا به الله ورسوله، وأن هذا الخطر سيعقبه النصر، وهذا الضيق سيعقبه الفرج، وهذا العسر سيأتى بعده اليسر.
__________
(1) راجع السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 229 وما بعدها.(11/194)
قال الآلوسى ما ملخصه: وأرادوا بقولهم ذلك، ما تضمنه قوله- تعالى- في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
وكان نزول هذه الآية قبل غزوة الخندق بحول- كما جاء عن ابن عباس.
وفي رواية عن ابن عباس- أيضا- أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا، أى: في آخر تسع ليال أو عشر، أى: من وقت الاخبار، أو من غرة الشهر فلما رأوهم قد أقبلوا في الموعد الذي حدده صلّى الله عليه وسلّم قالوا ذلك «1» .
وقوله- تعالى-: وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ داخل في حيز ما قالوه.
أى: قالوا عند ما شاهدوا جيوش الأحزاب: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وقالوا- أيضا- على سبيل التأكيد وقوة اليقين والتعظيم لذات الله، ولشخصية رسوله: وصدق الله ورسوله، أى: وثبت صدق الله- تعالى- في أخباره، وصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم في أقواله.
والضمير في قوله: وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً يعود إلى ما رأوه من جيوش الأحزاب، ومن شدائد نزلت بهم بسبب ذلك.
أى- وما زادهم ما شاهدوه من جيوش الأحزاب، ومن بلاء أحاط بهم بسبب ذلك، إلا إيمانا بقدرة الله- تعالى- وتسليما لقضائه وقدره، وأملا في نصره وتأييده.
ثم أضاف- سبحانه- إلى هذا المديح لهم، مديحا آخر فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا والنحب: النذر، وهو أن يلتزم الإنسان الوفاء بأمر تعهد به.
وقضاؤه: الفراغ منه، والوفاء به على أكمل وجه.
وكان رجال من الصحابة قد نذروا، أنهم إذا صاحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حرب، أن يثبتوا معه، وأن لا يفروا عنه.
والمعنى: من المؤمنين رجال كثيرون، وفوا أكمل وفاء بما عاهدوا الله- تعالى- عليه، من التأييد لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ومن الثبات معه في كل موطن.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أى: فمنهم من وفى بوعده حتى أدركه أجله فمات شهيدا-
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 21 ص 169.(11/195)
كحمزة بن عبد المطلب، ومصعب ابن عمير وغيرهما- رضى الله عنهم أجمعين-.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أى: ومنهم من هو مستمر على الوفاء، وينتظر الشهادة في سبيل الله- تعالى- في الوقت الذي يريده- سبحانه- ويختاره، كبقية الصحابة الذين نزلت هذه الآية وهم ما زالوا على قيد الحياة.
قال الامام ابن كثير: قال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال أنس: غاب عمى أنس بن النضر- سمّيت به- لم يشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، لئن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليريّن الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد.
فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين واها «1» لريح الجنة أجده دون أحد.
قال: فقاتلهم حتى قتل: قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية.
فقالت أخته- عمتي الرّبيّع ابنة النضر- فما عرفت أخى إلا ببنانه.
قال: فنزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه- رضى الله عنهم، ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة «2» .
وقوله- تعالى-: وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا معطوف على صَدَقُوا أى: هؤلاء الرجال صدقوا صدقا تاما في عهودهم مع الله- تعالى- حتى آخر لحظة من لحظات حياتهم، وما غيروا ولا بدلوا شيئا مما عاهدوا الله- تعالى- عليه.
ثم بين- سبحانه- الحكمة من هذا الابتلاء والاختبار فقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ.
أى: فعل- سبحانه- ما فعل في غزوة الأحزاب من أحداث، ليجزي الصادقين في إيمانهم الجزاء الحسن الذي يستحقونه بسبب صدقهم ووفائهم.
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أى: إن شاء تعذيبهم بسبب موتهم على نفاقهم.
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ من نفاقهم بفضله وكرمه فلا يعذبهم.
__________
(1) واها: كلمة تحنن وتلهف قالها أنس لسعد- رضى الله عنهما.
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 395.(11/196)
قال الجمل: وقوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ جوابه محذوف، وكذلك مفعول شاءَ محذوف- أيضا- أى: إن شاء تعذيبهم عذبهم.
والمراد بتعذيبهم إماتتهم على النفاق، بدليل العطف في قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ «1» .
إِنَّ اللَّهَ- تعالى- كانَ وما زال غَفُوراً رَحِيماً أى: واسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده.
ثم بين- سبحانه- المصير السيئ الذي انتهى إليه الكافرون فقال: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً.
أى: ورد الله- تعالى- بفضله وقدرته الذين كفروا عنكم- أيها المؤمنون- حالة كونهم متلبسين بغيظهم وحقدهم. دون أن ينالوا أى خير من إتيانهم إليكم، بل رجعوا خائبين خاسرين.
فقوله بِغَيْظِهِمْ حال من الموصول، والباء للملابسة، وجملة لَمْ يَنالُوا خَيْراً حال ثانية من الموصول أيضا.
وقوله: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بيان للمنة العظمى التي امتن بها- سبحانه- عليهم.
أى: وأغنى الله- تعالى- بفضله وإحسانه المؤمنين عن متاعب القتال وأهواله بأن أرسل على جنود الأحزاب ريحا شديدة، وجنودا من عنده.
وَكانَ اللَّهُ- تعالى- قَوِيًّا على إحداث كل أمر يريده عَزِيزاً أى:
غالبا على كل شيء.
قال ابن كثير: وفي قوله وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش. وهكذا وقع بعدها، لم يغزهم المشركون، بل غزاهم المسلمون في بلادهم.
قال محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» فلم تغز قريش بعد ذلك المسلمين، وكان صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة.
وروى الإمام أحمد عن سليمان بن صرد قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول يوم
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 431.(11/197)
الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» «1» .
ثم ختم- سبحانه- الحديث عن غزوة الأحزاب، ببيان ما حل ببني قريظة من عذاب مهين، بسبب نقضهم لعهودهم فقال: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ.
والصياصي: جمع صيصية وهي كل ما يتحصن به من الحصون وغيرها. ومنه قيل لقرن الثور صيصية لأنه يدفع به عن نفسه.
أى: وبعد أن رحلت جيوش الأحزاب عنكم أيها المؤمنون- أنزل الله- تعالى- بقدرته الذين ظاهروهم وناصروهم عليكم، وهم يهود بنى قريظة، أنزلهم من حصونهم، ومكنكم من رقابهم.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الشديد منكم، بحيث صاروا مستسلمين لكم، ونازلين على حكمكم.
فَرِيقاً منهم تَقْتُلُونَ وهم الرجال. وتأسرون فريقا آخر وهم الذرية والنساء.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ أى: وأورثكم الله- تعالى- أرض هؤلاء اليهود وزروعهم كما أورثكم دِيارَهُمْ أى حصونهم وَأَمْوالَهُمْ التي تركوها من خلفهم، كنقودهم ومواشيهم.
كما أورثكم أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد يقصد القتال وهي أرض خيبر، أو أرض فارس والروم.
وفي هذه الجملة الكريمة وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بشارة عظيمة للمؤمنين، بأن الله- تعالى- سينصرهم على أعدائهم.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء.
أخرج الشيخان عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: «لما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل فقال: يا محمد قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه فاخرج إليهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإلى أين؟ قال: هاهنا. وأشار إلى بنى قريظة. فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم» .
وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: قال النبي- صلّى الله عليه وسلّم- يوم الأحزاب، لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 396.(11/198)
بعضهم: لا نصلّى حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلّى، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يعنف أحدا «1» .
وبعد أن حاصر المسلمون بنى قريظة خمسا وعشرين ليلة، نزلوا بعدها على حكم سعد بن معاذ- رضى الله عنه- فحكم بقتل رجالهم، وتقسيم أموالهم، وسبى نسائهم وذراريهم.
وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم له: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات» «2» .
وإلى هنا نجد السورة الكريمة قد حدثتنا حديثا جامعا حكيما عن غزوة الأحزاب، فقد ذكرت المؤمنين- أولا- بنعم الله- تعالى- عليهم، ثم صورت أحوالهم عند ما أحاطت بهم جيوش الأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم.
ثم حكت ما قاله المنافقون في تلك الساعات العصيبة، وما أشاروا به على أشباههم في النفاق، وما اعتذروا به من أعذار باطلة، وما جبلوا عليه من أخلاق قبيحة، على رأسها الجبن والخور وضعف العزيمة وفساد النية.
ثم انتقلت إلى الحديث عن المواقف المشرقة الكريمة التي وقفها المؤمنون الصادقون عند ما رأوا الأحزاب، وكيف أنهم ازدادوا إيمانا على إيمانهم، ووفوا بعهودهم مع الله- تعالى- دون أن يبدلوا تبديلا.
وكما بدئت الآيات بتذكير المؤمنين بنعم الله- تعالى- عليهم، ختمت- أيضا- بهذا التذكير حيث رد الله أعداءهم عنهم دون أن ينالوا خيرا، ومكنهم من معاقبة الغادرين من اليهود.
ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى- بعد هذا الحديث عن غزوة الخندق- إلى بيان التوجيهات الحكيمة التي وجهها الله- تعالى- إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم وإلى أزواجه، فقال- سبحانه-:
__________
(1) صحيح البخاري: باب مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب ج 5 ص 142.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 297 والآلوسى ج 21 ص 176.(11/199)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
ففي هاتين الآيتين يأمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يخير أزواجه بين أن يعشن معه معيشة الكفاف والزهد في زينة الحياة الدنيا وبين أن يفارقهن ليحصلن على ما يشتهينه من زينة الحياة الدنيا.
قال الإمام القرطبي ما ملخصه: قال علماؤنا: هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنه شيئا من عرض الدنيا.
وقيل: سألنه زيادة في النفقة.
روى البخاري ومسلم- واللفظ لمسلم- عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبى بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلّى الله عليه وسلّم جالسا حوله نساؤه.
قال: فقال عمر، والله لأقولن شيئا يضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت زيد- زوجة عمر- سألتنى النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هن حولي كما ترى يسألننى النفقة» .
فقام أبو بكر إلى ابنته عائشة ليضربها، وقام عمر إلى ابنته حفصة ليضربها وكلاهما يقول:
تسألن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده.
فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا أبدا ليس عنده.
ثم نزلت هاتان الآيتان. فبدأ صلّى الله عليه وسلّم بعائشة فقال لها: «يا عائشة، إنى أريد أن أعرض عليك أمرا، أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيرى أبويك» .
قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها هاتين الآيتين. فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوى!! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة.(11/200)
وفعل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل ما فعلت عائشة «1» .
وقال الإمام ابن كثير- بعد أن ساق جملة من الأحاديث في هذا المعنى وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة وحفصة، وأم حبيبة وسودة، وأم سلمة.
وأربع من غير قريش- وهن: صفية بنت حيي النضرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة- رضى الله عنهن.
وقال الإمام الآلوسى: فلما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، مدحهن الله- تعالى- على ذلك، إذ قال- سبحانه-: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.. فقصره الله- تعالى- عليهن، وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة» «2» .
والمعنى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ اللائي في عصمتك إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها.
أى: إن كنتن تردن سعة الحياة الدنيا وبهجتها وزخارفها ومتعها من مأكل ومشرب وملبس، فوق ما أنتن فيه عندي من معيشة مقصورة على ضروريات الحياة، وقائمة على الزهد في زينتها.
إن كنتن تردن ذلك: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا.
قال الجمل: وقوله: فَتَعالَيْنَ فعل أمر مبنى على السكون، ونون النسوة فاعل.
وأصل هذا الأمر أن يكون الآمر أعلى مكانا من المأمور، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه، ثم كثر استعماله حتى صار معناه أقبل. وهو هنا كناية عن الاختيار والإرادة. والعلاقة هي أن المخبر يدنو إلى من يخبره «3» .
وقوله: أُمَتِّعْكُنَّ مجزوم في جواب الأمر. والمتعة: ما يعطيه الرجل للمرأة التي طلقها، زيادة على الحقوق المقررة لها شرعا، وقد جعلها- سبحانه- حقا على المحسنين الذين يبغون رضا الله- تعالى- وحسن ثوابه.
وقوله وَأُسَرِّحْكُنَّ معطوف على ما قبله، والتسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر ليخلص بعضه من بعض. ويقال: سرح فلان الماشية، إذا أرسلها لترعى.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 163.
(2) تفسير الآلوسى ج 21 ص 181.
(3) حاشية الجمل ج 3 ص 433.(11/201)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
والمراد به هنا: طلاق الرجل للمرأة، وتركها لعصمته.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، ولا تستطعن الصبر على المعيشة معى، فلكن أن تخترن مفارقتي، وإنى على استعداد أن أعطيكن المتعة التي ترضينها، وأن أطلقكن طلاقا لا ضرر فيه، ولا ظلم معه، لأنى سأعطيكن ما هو فوق حقكن.
وَإِنْ كُنْتُنَّ لا تردن ذلك، وإنما تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
أى: وإنما تردن ثواب الله- تعالى- والبقاء مع رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإيثار شظف الحياة على زينتها، وإيثار ثواب الدار الآخرة على متع الحياة الدنيا.
إن كنتن تردن ذلك فاعلمن أن اللَّهَ- تعالى- أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ، بسبب إيمانهن وإحسانهن أَجْراً عَظِيماً لا يعلم مقداره إلا الله- تعالى-.
وبهذا التأديب الحكيم، والإرشاد القويم، أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يؤدب نساءه، وأن يرشدهن إلى ما فيه سعادتهن، وأن يترك لهن حرية الاختيار.
ثم وجه- سبحانه- الخطاب إلى أمهات المؤمنين، فأدبهن أكمل تأديب وأمرهن بالتزام الفضائل، وباجتناب الرذائل، لأنهن القدوة لغيرهن من النساء، ولأنهن في بيوتهن ينزل الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 34]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)(11/202)
فقوله- سبحانه- يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ.. نداء من الله تعالى- لهن، على سبيل الوعظ والإرشاد والتأديب، والعناية بشأنهن لأنهن القدوة لغيرهن، والفاحشة: ما قبح من الأقوال والأفعال.
والمعنى: يا نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم من يأت منكن بمعصية ظاهرة القبح، يضاعف الله- تعالى- لها العقاب ضعفين، لأن المعصية من رفيع الشأن تكون أشد قبحا، وأعظم جرما.
قال صاحب الكشاف: وإنما ضوعف عذابهن، لأن ما قبح من سائر النساء، كان أقبح منهن وأقبح، لأن زيادة قبح المعصية، تتبع زيادة الفضل والمرتبة.. وليس لأحد من النساء، مثل فضل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا على أحد منهن مثل ما لله عليهن من النعمة.. ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم: أشد منه للعاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح «1» .
وقد روى عن زين العابدين بن على بن الحسين- رضى الله عنهم- أنه قال له رجل:
إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب، وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا، ما أجرى الله- تعالى- على نساء نبيه صلّى الله عليه وسلّم من أن لمسيئنا ضعفين من العذاب، ولمحسننا ضعفين من الأجر.
وقوله- سبحانه-: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ.. جملة شرطية. والجملة الشرطية لا تقتضي وقوع الشرط، كما في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.. وكما في قوله- سبحانه-: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان أن منزلتهن- رضى الله عنهن- لا تمنع من وقوع العذاب بهن في حالة ارتكابهن لما نهى الله- تعالى- عنه، فقال: وَكانَ ذلِكَ عَلَى
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 536. [.....](11/203)
اللَّهِ يَسِيراً أى: وكان ذلك التضعيف للعذاب لهن، يسيرا وهينا على الله، لأنه- سبحانه- لا يصعب عليه شيء.
هذا هو الجزاء في حالة ارتكابهن- على سبيل الفرض- لما نهى الله- تعالى- عنه، أما في حالة طاعتهن، فقد بين- سبحانه- جزاءهن بقوله: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً.
والقنوت: ملازمة الطاعة لله- تعالى-، والخضوع والخشوع لذاته.
أى: ومن يقنت منكن- يا نساء النبي- لله- تعالى-، ويلازم طاعته، ويحرص على مرضاة رسوله صلّى الله عليه وسلم، وتعمل عملا صالحا.
من يفعل ذلك منكن، نؤتها أجرها الذي تستحقه مضاعفا، فضلا منا وكرما، وَأَعْتَدْنا لَها أى: وهيأنا لها زيادة على ذلك رِزْقاً كَرِيماً لا يعلم مقداره إلا الله- تعالى-.
وهكذا نرى أن الله- تعالى- قد ميز أمهات المؤمنين، فجعل حسنتهن كحسنتين لغيرهن، كما جعل سيئتهن بمقدار سيئتين لغيرهن- أيضا- وذلك لعظم مكانتهن، ومشاهدتهن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما لا يشاهده غيرهن، من سلوك كريم، وتوجيه حكيم.
ثم وجه- سبحانه- إليهن نداء ثانيا فقال: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ.
أى: يا نساء النبي، لقد أعطاكن الله- تعالى- من الفضل ومن سمو المنزلة ما لم يعط غيركن، فأنتن في مكان القدوة لسائر النساء، وهذا الفضل كائن لكن إن اتقيتن الله- تعالى- وصنتن أنفسكن عن كل ما نهاكن- سبحانه- عنه.
قال صاحب الكشاف: أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. ومعنى قوله لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ:
لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء. أى: إذا استقصيت أمة النساء جماعة جماعة، لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة «1» .
وجواب الشرط في قوله إِنِ اتَّقَيْتُنَّ محذوف لدلالة ما قبله عليه. أى: إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء.
قال الآلوسى: قوله إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرط لنفى المثلية وفضلهن على النساء، وجوابه
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 536.(11/204)
محذوف دل عليه المذكور.. والمفعول محذوف. أى: إن اتقيتن مخالفة حكم الله- تعالى- ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك. والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن، بمنزلة الخروج من التقوى «1» .
فالمقصود بالجملة الكريمة بيان أن ما وصلن إليه من منزلة كريمة، هو بفضل تقواهن وخشيتهن لله- تعالى- وليس بفضل شيء آخر.
ثم نهاهن- سبحانه- عن النطق بالكلام الذي يطمع فيهن من في قلبه نفاق وفجور فقال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.
أى: فلا ترققن الكلام، ولا تنطقن به بطريقة لينة متكسرة تثير شهوة الرجال، وتجعل مريض القلب يطمع في النطق بالسوء معكن فإن من محاسن خصال المرأة أن تنزه خطابها عن ذلك، لغير زوجها من الرجال.
وهكذا يحذر الله- تعالى- أمهات المؤمنين- وهن الطاهرات المطهرات- عن الخضوع بالقول، حتى يكون في ذلك عبرة وعظة لغيرهن في كل زمان ومكان فإن مخاطبة المرأة- لغير زوجها من الرجال- بطريقة لينة مثيرة للشهوات والغرائز، تؤدى إلى فساد كبير، وتطمع من لا خلاق لهم فيها.
ثم أرشدهن- سبحانه- إلى القول الذي يرضيه فقال: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
أى: اتركن الكلام بطريقة تطمع الذي في قلبه مرض فيكن، وقلن قولا حسنا محمودا، وانطقن به بطريقة طبيعية، بعيدة عن كل ريبة أو انحراف عن الحق والخلق الكريم.
ثم أمرهن- سبحانه- بعد ذلك بالاستقرار في بيوتهن، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله وَقَرْنَ قرأه الجمهور- بكسر القاف- من القرار تقول: قررت بالمكان- بفتح الراء- أقر- بكسر القاف- إذا نزلت فيه- والأصل:
اقررن- بكسر الراء- فحذفت الراء الأولى تخفيفا.. ونقلوا حركاتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف.. فصارت الكلمة قَرْنَ- بكسر القاف-.
وقرأ عاصم ونافع وقرن- بفتح القاف- من قررت في المكان- بكسر الراء- إذا أقمت فيه.. والأصل اقررن- بفتح الراء- فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف،
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 5.(11/205)
وألقيت حركتها على القاف.. فتقول: قَرْنَ- بالفتح للقاف- «1» .
والمعنى: الزمن يا نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بيوتكن، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة، ومثلهن في ذلك جميع النساء المسلمات، لأن الخطاب لهن في مثل هذه الأمور، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب اولى، وإنما خاطب- سبحانه- أمهات المؤمنين على سبيل التشريف، واقتداء غيرهن بهن.
قال بعض العلماء: والحكمة في هذا الأمر: أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التي هي من خصائصهن، ولا يحسنها الرجال، وإلى تربية الأولاد في عهد الطفولة وهي من شأنهن. وقد جرت السنة الإلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما، فللرجال أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء، وللنساء أعمال من خصائصهن لا يحسنها الرجال، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله، اختل النظام في البيت والمعيشة «2» .
وقال صاحب الظلال ما ملخصه: والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله- تعالى- ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه السليم، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها، أوجب على الرجل النفقة، وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيء به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها.
فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده.. لا يمكن أن تهيء للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تهيء للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.
إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال «3» .
وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة، كأداء الصلاة في المسجد، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والأقارب، وكقضاء مصالحهن التي لا تقضى إلا بهن.. بشرط أن يكون خروجهن مصحوبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل.
ولذا قال- سبحانه- بعد هذا الأمر، وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 178.
(2) صفوة البيان في تفسير القرآن ج 2 ص 183. لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.
(3) في ظلال القرآن ج 22 ص 83.(11/206)
وقوله: تَبَرَّجْنَ مأخوذ من البرج- بفتح الباء والراء- وهو سعة العين وحسنها، ومنه قولهم: سفينة برجاء، أى: متسعة ولا غطاء عليها.
والمراد به هنا: إظهار ما ينبغي ستره من جسد المرأة، مع التكلف والتصنع في ذلك.
والجاهلية الأولى، بمعنى المتقدمة، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة: أول وأولى.
أو المراد بها: الجاهلية الجهلاء التي كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج.
وقد فسروها بتفسيرات متعددة، منها: قول مجاهد: كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية.
ومنها قول قتادة: كانت المرأة في الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر.
ومنها قول مقاتل: والتبرج: أنها تلقى الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وعنقها.
ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه في الآية الكريمة، يشمل كل ذلك، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإسلام وتشريعاته.
والمعنى: الزمن يا نساء النبي بيوتكن، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة، وإذا خرجتن فاخرجن في لباس الحشمة والوقار، ولا تبدى إحداكن شيئا أمرها الله- تعالى- بستره وإخفائه، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال، ويلفت أنظارهم إليهن.
ثم أتبع- سبحانه- هذا النهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن- عز وجل- فقال:
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ أى: داومن على إقامتها في أوقاتها بخشوع وإخلاص. وَآتِينَ الزَّكاةَ التي فرضها الله- تعالى- عليكن. وخص- سبحانه- هاتين الفريضتين بالذكر من بين سائر الفرائض، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى في كل ما تأتين وتتركن، لا سيما فيما أمرتن به، ونهيتن عنه.
وقوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً تعليل لما أمرن به من طاعات، ولما نهين عنه من سيئات.
والرجس في الأصل: يطلق على كل شيء مستقذر. وأريد به هنا: الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس.
وقوله أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على النداء، أو على المدح. ويدخل في أهل البيت هنا(11/207)
دخولا أوليا: نساؤه صلّى الله عليه وسلّم بقرينة سياق الآيات.
أى: إنما يريد الله- تعالى- بتلك الأوامر التي أمركن بها، وبتلك النواهي التي نهاكن عنها، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ... هذا نص في دخول أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في أهل البيت ها هنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية..
وقد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك، فقد روى الإمام أحمد بسنده- عن أنس بن مالك قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: الصلاة يا أهل البيت: ثم يتلو هذه الآية..» «1» .
وقال بعض العلماء: والتحقيق- إن شاء الله- أنهن داخلات في الآية، بدليل السياق، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت..
ونظير ذلك من دخول الزوجات في اسم أهل البيت، قوله- تعالى- في زوجة إبراهيم:
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
وأما الدليل على دخول غيرهن في الآية، فهو أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في على وفاطمة والحسن والحسين- رضى الله عنهم-: «إنهم أهل البيت» ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا.
وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين.
فإن قيل: الضمير في قوله: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وفي قوله: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ضمير الذكور، فلو كان المراد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن؟.
فالجواب: ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها..
ومن أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل،
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 406 فقد ساق بضعة أحاديث في هذا المعنى.(11/208)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر، ومنه قوله- تعالى- في موسى فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا وقوله سَآتِيكُمْ والمخاطب امرأته كما قاله غير واحد..
وقال بعض أهل العلم: إن أهل البيت في الآية هم من تحرم عليهم الصدقة «1» .
ثم ختم- سبحانه- هذه التوجيهات الحكيمة بقوله- عز وجل-: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ...
أى: واذكرن في أنفسكن ذكرا متصلا، وذكّرن غيركن على سبيل الإرشاد، بما يتلى في بيوتكن من آيات الله البينات الجامعة بين كونها معجزات دالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم، وبين كونها مشتملة على فنون الحكم والآداب والمواعظ..
ويصح أن يكون المراد بالآيات: القرآن الكريم، وبالحكمة: أقوال النبي صلّى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته..
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنهن- وقد خصهن الله- تعالى- بجعل بيوتهن موطنا لنزول القرآن، ولنزول الحكمة- أحق بهذا التذكير، وبالعمل الصالح من غيرهن.
إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أى: لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، وقد أنزل عليكم ما فيه صلاح أموركم في الدنيا والآخرة.
وبعد هذه التوجيهات الحكيمة لأمهات المؤمنين، ساق- سبحانه- توجيها جامعا لأمهات الفضائل، وبشر المتصفين بهذه الفضائل بالمغفرة والأجر العظيم فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
__________
(1) أضواء البيان ج 6 ص 577 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى- رحمه الله-.(11/209)
ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها: ما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم: مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إلا نداؤه على المنبر، وهو يتلو هذه الآية: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ....
وأخرج الترمذي وغيره عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت هذه الآية.
وأخرجه ابن جرير عن قتادة قال: دخل نساء على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلن: قد ذكركن الله- تعالى- في القرآن، وما يذكرنا بشيء أما فينا ما يذكر، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية «1» .
والمعنى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ والإسلام: الانقياد لأمر الله- تعالى- وإسلام الوجه له- سبحانه- وتفويض الأمر إليه وحده.
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ والإيمان: هو التصديق القلبي، والإذعان الباطني، لما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم.
وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ والقنوت: هو المواظبة على فعل الطاعات عن رضا واختيار.
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ والصدق: هو النطق بما يطابق الواقع، والبعد عن الكذب والقول الباطل..
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ والصبر: هو توطين النفس على احتمال المكاره والمشاق في سبيل الحق، وحبس النفس عن الشهوات.
وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ والخشوع: صفة تجعل القلب والجوارح في حالة انقياد تام لله- تعالى- ومراقبة له، واستشعار لجلاله وهيبته.
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ والتصدق: تقديم الخير إلى الغير بإخلاص، دفعا لحاجته، وعملا على عونه ومساعدته.
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ والصوم: هو تقرب إلى الله- تعالى-، واستعلاء على مطالب الحياة ولذائذها، من أجل التقرب إليه- سبحانه- بما يرضيه.
وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وحفظ الفرج: كناية عن التعفف والتطهر والتصون عن أن يضع الإنسان شهوته في غير الموضع الذي أحله الله- تعالى-.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 21.(11/210)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وذكر الله- تعالى- يتمثل في النطق بما يرضيه كقراءة القرآن الكريم، والإكثار من تسبيحه- عز وجل- وتحميده وتكبيره..
وفي شعور النفس في كل لحظة بمراقبته- سبحانه-.
هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات من الرجال والنساء أَعَدَّ اللَّهُ- تعالى- لَهُمْ مَغْفِرَةً واسعة لذنوبهم وَأَجْراً عَظِيماً لا يعلم مقداره إلا هو- عز وجل-.
وهكذا نجد القرآن الكريم يسوق الصفات الكريمة، التي من شأن الرجل والمرأة إذا ما اتصفا بها، أن يسعدا في دنياهما وفي أخراهما، وأن يسعد بهما المجتمع الذي يعيشان فيه ...
إنها صفات نظمت علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبغيره، تنظيما حكيما، يهدى الى الرشد، ويوصل إلى الظفر والنجاح.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الحقوق الواجبة على المسلم نحو خالقه- عز وجل- ونحو رسوله صلّى الله عليه وسلم، وعن تأكيد إبطال عادة التبني التي كانت منتشرة قبل نزول هذه السورة، وعن بيان الحكمة لهذا الإبطال، وعن علاقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بغيره من أتباعه.. فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)(11/211)
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ روايات منها: أنها نزلت في زينب بنت جحش- رضى الله عنها- خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد ابن حارثة فاستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسبا، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية.
وفي رواية أنها قالت: يا رسول الله، لست بناكحته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «بل فانكحيه» فقالت: يا رسول الله، أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحادثان، أنزل الله- تعالى- هذه الآية. فقالت: يا رسول الله، قد رضيته لي زوجا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا أعصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد زوجته نفسي.
وذكر بعضهم أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وكانت أول من هاجر من النساء.. يعنى بعد صلح الحديبية، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها من مولاه زيد بن حارثة، بعد فراقه لزينب فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فزوجنا عبده، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد «1» .
قال ابن كثير: هذه الآية عامة في جميع الأمور. وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هاهنا ولا رأى ولا قول، كما قال- تعالى-: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
وفي الحديث الشريف: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» .
والمعنى: لا يصح ولا يحل لأى مؤمن ولا لأية مؤمنة إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أى: إذا أراد الله ورسوله أمرا، من الأمور.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 14 ص 186. وتفسير ابن كثير ج 6 ص 417.(11/212)
وقال- سبحانه-: إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً للإشعار، بأن ما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلّم إنما يفعله بأمر الله- تعالى- لأنه صلّى الله عليه وسلّم لا ينطق عن الهوى.
وقوله: أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أى: لا يصح لمؤمن أو مؤمنة إذا أراد الله ورسوله أمرا، أن يختاروا ما يخالف ذلك، بل يجب عليهم أن يذعنوا لأمره صلّى الله عليه وسلّم وأن يجعلوا رأيهم تابعا لرأيه في كل شيء.
وكلمة الخيرة: مصدر من تخيّر، كالطّيرة مصدر من تطيّر. وقوله: مِنْ أَمْرِهِمْ متعلق بها، أو بمحذوف وقع حالا منها.
وجاء الضمير في قوله لَهُمُ وفي قوله مِنْ أَمْرِهِمْ بصيغة الجمع: رعاية للمعنى إذ أن لفظي مؤمن ومؤمنة وقعا في سياق النفي، فيعمان كل مؤمن وكل مؤمنة.
وقوله- سبحانه-: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً بيان لسوء عاقبة من يخالف أمر الله ورسوله.
أى: ومن يعص الله ورسوله في أمر من الأمور، فقد ضل عن الحق والصواب ضلالا واضحا بينا.
ثم ذكر- سبحانه- قصة زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من السيدة زينب بنت جحش، وما ترتب على هذا الزواج من هدم لعادات كانت متأصلة في الجاهلية فقال- تعالى-: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ.. أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- وقت أن قلت للذي أنعم الله- تعالى- عليه بنعمة الإيمان، وهو زيد بن حارثة- رضى الله عنه-.
وأنعمت عليه، بنعمة العتق، والحرية، وحسن التربية، والمحبة، والإكرام..
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ أى: اذكر وقت قولك له: أمسك عليك زوجك زينب بنت جحش، فلا تطلقها، واتق الله في أمرها، واصبر على ما بدر منها في حقك..
وكان زيد- رضى الله عنه- قد اشتكى للنبي صلّى الله عليه وسلّم من تطاولها عليه، وافتخارها بحسبها ونسبها، وتخشينها له القول، وقال: يا رسول الله، إنى أريد أن أطلقها.
وقوله- تعالى-: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ معطوف على تَقُولُ. أى:
تقول له ذلك وتخفى في نفسك الشيء الذي أظهره الله- تعالى- لك، وهو إلهامك بأن زيدا سيطلق زينب، وأنت ستتزوجها بأمر الله- عز وجل-.
قال الآلوسى: والمراد بالموصول مَا على ما أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن على(11/213)
ابن الحسين ما أوحى الله- تعالى- به إليه من أن زينب سيطلقها زيد. ويتزوجها هو صلى الله عليه وسلم.
وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين، كالزهرى، وبكر بن العلاء، والقشيري، والقاضي أبى بكر بن العربي، وغيرهم «1» .
وقال بعض العلماء ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ جملة: الله مبديه صلة الموصول الذي هو مَا. وما أبداه- سبحانه- هو زواجه صلى الله عليه وسلّم بزينب، وذلك في قوله- تعالى-: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها وهذا هو التحقيق في معنى الآية، الذي دل عليه القرآن، وهو اللائق بجنابه صلّى الله عليه وسلم.
وبه تعلم أن ما قاله بعض المفسرين، من أن ما أخفاه في نفسه صلّى الله عليه وسلّم وأبداه الله- تعالى-، هو وقوع زينب في قلبه صلّى الله عليه وسلّم ومحبته لها، وهي زوجة لزيد، وأنها سمعته يقول عند ما رآها: سبحان مقلب القلوب.. إلى آخر ما قالوا ... كله لا صحة له.. «2» .
وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: ذكر ابن جرير وابن أبى حاتم- وغيرهما- هاهنا آثارا عن بعض السلف، أحببنا أن نضرب عنها صفحا، لعدم صحتها. فلا نوردها.. «3» .
هذا، ولفضيلة شيخنا الجليل الدكتور أحمد السيد الكومى رأى في معنى هذه الجملة الكريمة، وهو أن ما أخفاه الرسول في نفسه: هو علمه بإصرار زيد على طلاقه لزينب، لكثرة تفاخرها عليه، وسماعه منها ما يكرهه. وما لا يستطيع معه الصبر على معاشرتها.
وما أبداه الله- تعالى-: هو علم الناس بحال زيد معها، ومعرفتهم بأن زينب تخشن له القول، وتسمعه ما يكره، وتفخر عليه بنسبها..
فيكون المعنى: تقول للذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه، أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفى في نفسك أن زيدا لن يستطيع الصبر على معاشرة زوجه زينب لوجود التنافر بينهما.. مع أن الله- تعالى- قد أظهر ذلك، عن طريق كثرة شكوى زيد منها، وإعلانه أنه حريص على طلاقها، ومعرفة كثير من الناس بهذه الحقيقة..
ومما يؤيد هذا الرأى أنه لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ما يدل دلالة صريحة على أن الله
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 24.
(2) تفسير أضواء البيان ج 6 ص 580 للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.
(3) تفسير ابن كثير ج 6 ص 420.(11/214)
قد أوحى إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن زيدا سيطلق زينب، وأنه صلّى الله عليه وسلّم سيتزوجها، وكل ما ورد في ذلك هي تلك الرواية التي سبق أن ذكرناها عن على بن الحسين- رضى الله عنهما-.
قال صاحب الظلال: وهذا الذي أخفاه النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفسه، وهو يعلم أن الله مبديه، هو ما ألهمه الله أن سيفعله. ولم يكن أمرا صريحا من الله. وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله. ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه. ولكنه صلى الله عليه وسلّم كان أمام إلهام يجده في نفسه، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ومواجهة الناس به حتى أذن الله بكونه. فطلق زيد زوجه في النهاية. وهو لا يفكر لا هو ولا زينب فيما سيكون بعد.. «1» .
وهذه الأقوال جميعها تهدم هدما تاما كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث، والتي تشبث بها أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات.
وقوله- سبحانه-: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ معطوف على ما قبله، ومؤكد لمضمونه.
أى: تقول له ما قلت، وتخفى في نفسك ما أظهره الله، وتخشى أن تواجه الناس بما ألهمك الله- تعالى- به من أمر زيد وزينب، مع أن الله- تعالى- أحق بالخشية من كل ما سواه.
فالجملة الكريمة عتاب رقيق من الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وإرشاد له إلى أفضل الطرق، وأحكم السبل، لمجابهة أمثال هذه الأمور، وحلها حلا سليما.
ثم بين- سبحانه- الحكمة من زواجه صلّى الله عليه وسلّم بزينب فقال: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
والوطر: الحاجة. وقضاء الوطر: بلوغ منتهى ما تريده النفس من الشيء، يقال: قضى فلان وطره من هذا الشيء: إذا أخذ أقصى حاجته منه.
والمراد هنا: أن زيدا قضى حاجته من زينب، ولم يبق عنده أدنى رغبة فيها، بل صارت رغبته العظمى في مفارقتها.
أى: فلما قضى زيد حاجته من زينب، وطلقها، وانقضت عدتها، زوجناكها، أى:
جعلناها زوجة لك، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أو ضيق أو مشقة فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ أى: في الزواج من أزواج أدعيائهم، الذين تبنوهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً
__________
(1) في ظلال القرآن ج 22 ص 595.(11/215)
أى: إذا طلق هؤلاء الأدعياء أزواجهم، وانقضت عدة هؤلاء الأزواج، فلا حرج على الذين سبق لهم تبنى هؤلاء الأدعياء أن يتزوجوا بنسائهم، ولهم في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة.
وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أى: وكان ما يريده الله- تعالى- حاصلا لا محالة.
قال الإمام ابن كثير: قوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها.. أى: لما فرغ منها وفارقها زوجناكها، وكان الذي ولى تزويجها منه هو الله- عز وجل-. بمعنى: أنه أوحى إليه أن يدخل بها بلا ولىّ ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر..
روى الإمام أحمد عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب- رضى الله عنها- قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد بن حارثة: «اذهب فاذكرها على» فانطلق حتى آتاها وهي تخمر عجينها.
قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها. وجعلت أقول- وقد وليتها ظهري، ونكصت على عقبى- يا زينب. أبشرى. أرسلنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي- أى: أستشيره في أمرى-، فقامت إلى مسجدها. ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن ...
وروى البخاري عن أنس بن مالك، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.. «1» .
وقال الإمام الشوكانى: وقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ...
أى: في التزوج بأزواج من يجعلونه ابنا، كما كانت تفعله العرب، فإنهم كانوا يتبنون من يريدون.. وكانوا يعتقدون أنه يحرم عليهم نساء من تبنوه، كما تحرم نساء أبنائهم على الحقيقة. والأدعياء: جمع دعى، وهو الذي يدعى ابنا من غير أن يكون ابنا على الحقيقة.
فأخبرهم الله- تعالى- أن نساء الأدعياء حلال لهم- بعد انقضاء العدة- بخلاف الأبناء من الصلب، فإن نساءهم تحرم على الآباء بنفس العقد عليها.. «2» .
وبعد أن بين- سبحانه- الحكمة من زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسيدة زينب بنت جحش، التي كانت قبل ذلك زوجة لزيد بن حارثة- الذي كان الرسول قد تبناه وأعتقه- بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في تقرير هذه الحكمة وتأكيدها، وإزالة كل ما علق بالأذهان بشأنها، فقال- تعالى-: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ...
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 420. [.....]
(2) تفسير فتح القدير ج 6 ص 285.(11/216)
أى: ما كان على النبي صلّى الله عليه وسلّم من حرج أو لوم أو مؤاخذة، في فعل ما أحله الله له، وقدره عليه، وأمره به من زواجه بزينب بعد أن طلقها ابنه بالتبني زيد بن حارثة فقوله:
فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أى: فيما قسمه له، وقدره عليه، مأخوذ من قولهم: فرض فلان لفلان كذا، أى: قدر له هذا الشيء، وجعله حلالا له.
وقوله- تعالى-: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً زيادة في تأكيد هذه الحكمة، وفي تقرير صحة ما فرضه الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلم.
أى: ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم من زواجه بزينب بعد طلاقها من زيد، قد جعله الله- تعالى- سنة من سننه في الأمم الماضية، وكان أمر الله- تعالى- قدرا مقدورا. أى:
واقعا لا محالة.
والقدر: إيجاد الله- تعالى- للأشياء على قدر مخصوص حسبما تقتضي حكمته.
ويقابله القضاء: وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه. وقد يستعمل كل منهما بمعنى الآخر. والأظهر أن قدر الله- تعالى- هنا بمعنى قضائه.
ولفظ مَقْدُوراً وصف جيء به للتأكيد، كما في قولهم: ظل ظليل، وليل أليل، ثم مدح- سبحانه- هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يبلغون دعوته دون أن يخشوا أحدا سواه فقال:
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ للذين يكلفهم- سبحانه- بتبليغها لهم. والموصول في محل جر صفة للذين خلوا. أو منصوب على المدح.
وَيَخْشَوْنَهُ أى: ويخافونه وحده وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ- عز وجل- في كل ما يأتون وما يذرون، وما يقولون وما يفعلون.
وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أى: وكفى بالله- تعالى- محاسبا لعباده على نيات قلوبهم وأفعال جوارحهم، وأقوال ألسنتهم.
ثم حدد- سبحانه- وظيفة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأثنى عليه بما هو أهله، فقال- تعالى-:
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أى: لم يكن محمد صلّى الله عليه وسلّم أبا لأحد من رجالكم أبوة حقيقية، تترتب عليها آثارها وأحكامها من الإرث، والنفقة والزواج ... وزيد كذلك ليس ابنا له صلّى الله عليه وسلّم فزواجه صلّى الله عليه وسلّم بزينب التي طلقها زيد لا حرج فيه، ولا شبهة في صحته، وقوله: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ استدراك لبيان وظيفته وفضله.
أى: لم يكن صلّى الله عليه وسلّم أبا لأحدكم على سبيل الحقيقة، ولكنه كان رسولا من عند الله- تعالى- ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وكان- أيضا- خاتم النبيين، بمعنى(11/217)
أنهم ختموا به، فلا نبي بعده، فهو كالخاتم والطابع لهم. ختم الله- تعالى- به الرسل والأنبياء، فلا رسول ولا نبي بعده إلى قيام الساعة.
قال القرطبي: قرأ الجمهور وَخاتَمَ- بكسر التاء- بمعنى أنه ختمهم، أى: جاء آخرهم.
وقرأ عاصم وَخاتَمَ- بفتح التاء- بمعنى أنهم ختموا به، فهو كالخاتم والطابع لهم.
وقيل: الخاتم والخاتم- بالفتح والكسر- لغتان، مثل طابع وطابع..
وقد روى الإمام مسلم عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها، إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: ما أجمل هذه الدار، هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال صلّى الله عليه وسلّم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء» «1» .
وقد ذكر الإمام ابن كثير عددا من الأحاديث في هذا المعنى منها ما رواه الإمام مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» .
ثم قال- رحمه الله- بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره: والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله- تعالى- بالعباد إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم إليهم، ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر- تعالى- في كتابه، وأخبر رسوله في السنة المتواترة عنه، أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم.. «2» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.
أى: وكان- عز وجل- وما زال، هو العليم علما تاما بأحوال خلقه، وبما ينفعهم ويصلحهم، ولذا فقد شرع لكم ما أنتم في حاجة إليه من تشريعات، واختار رسالة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلّم لتكون خاتمة الرسالات، فعليكم أن تقابلوا ذلك بالشكر والطاعة، ليزيدكم- سبحانه- من فضله وإحسانه.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 196.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 424.(11/218)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
ثم جاءت الآيات الكريمة بعد ذلك لتؤكد هذا المعنى وتقرره، فأمرت المؤمنين بالإكثار من ذكر الله- تعالى- ومن تسبيحه وتحميده وتكبيره، فقال- سبحانه-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
والمقصود بذكر الله- تعالى- في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ما يشمل التهليل والتحميد والتكبير وغير ذلك من الأقوال والأفعال التي ترضيه- عز وجل-.
أى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، أكثروا من التقرب إلى الله- تعالى- بما يرضيه، في كل أوقاتكم وأحوالكم، فإن ذكر الله- تعالى- هو طب النفوس ودواؤها، وهو عافية الأبدان وشفاؤها، به تطمئن القلوب، وتنشرح الصدور..
والتعبير بقوله: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً يشعر بأن من شأن المؤمن الصادق في إيمانه، أن يواظب على هذه الطاعة مواظبة تامة.
ومن الأحاديث التي وردت في الحض على الإكثار من ذكر الله، ما رواه الإمام أحمد عن أبى الدرداء.. رضى الله عنه.. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق- أى:
الفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم، قالوا:
وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله- عز وجل-» .
وعن عمرو بن قيس قال: سمعت عبد الله بن بسر يقول: جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله، أى الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» .
وقال الآخر: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فمرني بأمر أتشبث به.
قال: «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله» .(11/219)
وقال ابن عباس: لم يفرض الله- تعالى- فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله- تعالى- لم يجعل له حدا ينتهى إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها. فقال- تعالى-: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ.. وقال- سبحانه-: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ.. أى: بالليل وبالنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال.. «1» .
وقوله: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا معطوف على اذْكُرُوا ... والتسبيح: التنزيه.
مأخوذ من السبح، وهو المر السريع في الماء أو في الهواء. فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء. والبكرة: أول النهار. والأصيل: آخره.
أى: أكثروا- أيها المؤمنون- من ذكر الله- تعالى- في كل أحوالكم، ونزهوه- سبحانه- عن كل ما لا يليق به، في أول النهار وفي آخره.
وتخصيص الأمر بالتسبيح في هذين الوقتين، لبيان فضلهما، ولمزيد الثواب فيهما، وهذا لا يمنع أن التسبيح في غير هذين الوقتين له ثوابه العظيم عند الله- تعالى-.
- وأيضا- خص- سبحانه- التسبيح بالذكر مع دخوله في عموم الذكر، للتنبيه على مزيد فضله وشرفه..
قال صاحب الكشاف: والتسبيح من جملة الذكر. وإنما اختصه- تعالى- من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال.. «2» .
وقوله- سبحانه-: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ.. استئناف جار مجرى التعليل لما قبله، من الأمر بالإكثار من الذكر ومن التسبيح.
والصلاة من الله- تعالى- على عباده معناها: الرحمة بهم، والثناء عليهم، كما أن الصلاة من الملائكة على الناس معناها: الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ.. قال ابن عباس: لما نزل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصة، وليس لنا فيه شيء، فأنزل الله هذه الآية.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 426.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 545.(11/220)
ثم قال القرطبي: قلت: وهذه نعمة من الله- تعالى- على هذه الأمة من أكبر النعم، ودليل على فضلها على سائر الأمم. وقد قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
والصلاة من الله على العبد هي رحمته له، وبركته لديه. وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال- تعالى-: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «1» .
وقوله: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ متعلق بقوله: يُصَلِّي أى: يرحمكم- سبحانه- برحمته الواسعة، ويسخر ملائكته للدعاء لكم، لكي يخرجكم بفضله ومنته، من ظلمات الضلال والكفر إلى النور والهداية والإيمان.
وَكانَ- سبحانه- وما زال بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً رحمة عظيمة واسعة، تشمل الدنيا والآخرة.
أما رحمته لهم في الدنيا فمن مظاهرها: هدايته إياهم إلى الصراط المستقيم.
وأما رحمته- سبحانه- لهم في الآخرة فمن مظاهرها: أنهم يأمنون من الفزع الأكبر.
وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها فألصقته إلى صدرها وأرضعته فقال: «أترون هذه تلقى ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا. قال: فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها» .
ثم بين- عز وجل- ما أعده للمؤمنين في الآخرة فقال: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ.
والتحية: أن يقول قائل للشخص: حياك الله، أى: جعل لك حياة طيبة.
وهذه التحية للمؤمنين في الآخرة، تشمل تحية الله- تعالى- لهم، كما في قوله- سبحانه-: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «2» .
وتشمل تحية الملائكة لهم، كما في قوله- تعالى-: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ «3» .
كما تشمل تحية بعضهم لبعض كما في قوله- عز وجل-: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 198.
(2) سورة يس. الآية 85.
(3) سورة الرعد. الآية 22، 23.
(4) سورة يونس. الآية 10.(11/221)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
أى: تحية المؤمنين يوم يلقون الله- تعالى في الآخرة، أو عند قبض أرواحهم، سلام وأمان لهم من كل ما يفزعهم أو يخيفهم أو يزعجهم..
وَأَعَدَّ لَهُمْ- سبحانه- يوم القيامة أَجْراً كَرِيماً هو الجنة التي فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حدد له فيه وظيفته، وأمره بتبشير المؤمنين بما يسرهم، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
وقوله: وَمُبَشِّراً من التبشير، وهو الإخبار بالأمر السار لمن لا علم له بهذا الأمر.
وقوله: وَنَذِيراً من الإنذار، وهو الإخبار بالأمر المخيف لكي يجتنب ويحذر.
والمعنى: يا أيها النبي الكريم إِنَّا أَرْسَلْناكَ إلى الناس شاهِداً أى: شاهدا لمن آمن منهم بالإيمان، ولمن كفر منهم بالكفر، بعد أن بلغتهم رسالة ربك تبليغا تاما كاملا.
وَمُبَشِّراً أى: ومبشرا المؤمنين منهم برضا الله- تعالى-.
وَنَذِيراً أى: ومنذرا للكافرين بسوء العاقبة، بسبب إعراضهم عن الحق الذي جئتهم به من عند الخالق- عز وجل-.
وقدم- سبحانه- التبشير على الإنذار، تكريما للمؤمنين المبشرين، وإشعارا بأن الأصل في رسالته صلّى الله عليه وسلّم التبشير، فقد أرسله الله- تعالى- رحمة للعالمين.
وقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ أى: وأرسلناك- أيضا- داعيا للناس إلى عبادة الله- تعالى- وحده، وهذه الدعوة لهم منك كائنة بإذنه- سبحانه- وبأمره وبتيسيره.(11/222)
فالتقييد بقوله بِإِذْنِهِ لبيان أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يدع الناس إلى ما دعاهم إليه من وجوب إخلاص العبادة له- سبحانه-، من تلقاء نفسه، وإنما دعاهم إلى ذلك بأمر الله- تعالى- وإذنه ومشيئته، وللإشارة إلى أن هذه الدعوة لا تؤتى ثمارها المرجوة منها إلا إذا صاحبها إذن الله- تعالى- للنفوس بقبولها.
وقوله: وَسِراجاً مُنِيراً معطوف على ما قبله. والسراج: المصباح الذي يستضاء به في الظلمات.
أى: وأرسلناك- أيها الرسول الكريم- بالدين الحق، لتكون كالسراج المنير الذي يهتدى به الضالون، ويخرجون بسببه من الظلمات إلى النور.
ووصف السراج بالإنارة، لأن من المصابيح ما لا يضيء إذا لم يوجد به ما يضيئه من زيت أو ما يشبهه.
قال صاحب الكشاف: جلى الله- تعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم ظلمات الشرك، فاهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به. أو أمد الله بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار. ووصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه- أى: زيته- ودقت فتيلته.. «1» .
وبعد أن وصف الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الصفات الكريمة، اتبع ذلك بأمره بتبشير المؤمنين برضا الله عنهم، وبنهيه عن طاعة الكافرين، فقال- تعالى-: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ... أى: انظر- أيها الرسول الكريم- إلى أحوال الناس وإلى موقفهم من دعوتك. وبشر المؤمنين منهم بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ- تعالى- فَضْلًا كَبِيراً أى: عطاء كبيرا، وأجرا عظيما، ومنزلة سامية بين الأمم.
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فيا يشيرون به عليك من ترك الناس وما يعبدون، أو من عدم بيان ما هم عليه من باطل وجهل، بل اثبت على ما أنت عليه من حق، وامض في تبليغ دعوتك دون أن تخشى أحدا إلا الله- تعالى-.
وَدَعْ أَذاهُمْ أى: ولا تبال بما ينزلونه بك من أذى، بسبب دعوتك إياهم إلى ترك عبادة الأصنام والأوثان، واصبر على ما يصيبك منهم حتى يحكم الله- تعالى- بحكمه العادل بينك وبينهم.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 547.(11/223)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كل أمورك وَكَفى بِاللَّهِ- تعالى- وَكِيلًا توكل إليه الأمور، وترد إليه الشئون..
هذا، ومن الأحاديث النبوية التي اشتملت على بعض المعاني التي اشتملت عليها هذه الآيات، ما رواه الإمام البخاري والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له: أخبرنى عن صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة؟ قال: والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزا للمؤمنين، أنت عبدى ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله- تعالى- حتى يقيم به الملة العوجاء، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا «1» .
ثم عادت السورة الكريمة- بعد هذا الحديث الجامع عن وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعن فضله- إلى الحديث عن جانب من أحكام الزواج والطلاق، فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
والمراد بالنكاح هنا في قوله إِذا نَكَحْتُمُ العقد، لأن الحديث في حكم المرأة التي تم طلاقها قبل الدخول بها.
وهذا الحكم شامل للمؤمنات ولغيرهن كالكتابيات، إلا أن الآية الكريمة خصت المؤمنات بالذكر، للتنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيرا للنطفة.
والعدة: هي الشيء المعدود. وعدة المرأة معناها: المدة التي بانقضائها يحل لها الزواج من شخص آخر، غير الذي كان زوجا لها.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أى: إذا عقدتم عليهن عقد النكاح، ولم يبق بينكم وبينهن سوى الدخول بهن.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 47.(11/224)
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أى: ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن.
قال الآلوسى: وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة، إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخى الطلاق، له دخل في إيجاب العدة، لاحتمال الملاقاة والجماع سرا.. «1» .
أى: أن الحكم الذي اشتملت عليه الآية الكريمة، ثابت سواء تم الطلاق بعد عقد الزواج مباشرة، أم بعده بمدة طويلة.
وفي التعبير عن الجماع بالمس كناية لطيفة. من شأنها أن تربى في الإنسان حسن الأدب، وسلامة التعبير، وتجنب النطق بالألفاظ التي تخدش الحياء.
وقوله: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها جواب إذا، وبيان للحكم المترتب على طلاق المرأة قبل الدخول بها.
أى: إذا طلقتموهن قبل الدخول بهن، فلا عدة عليهن، بل من حقهن أن يتزوجن بغيركم، بعد طلاقكم لهن بدون التقيد بأية مدة من الزمان.
قال الجمل: وقوله: تَعْتَدُّونَها صفة لعدة. وتعتدونها تفتعلونها، إما عن العد، وإما عن الاعتداد، أى، تحسبونها أو تستوفون عددها، من قولك: عد فلان الدراهم فاعتدها، أى: فاستوفى عددها.. «2» .
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن المطلقة قبل الدخول بها لا عدة عليها إطلاقا بنص الكتاب وإجماع الأمة، أما المطلقة بعد الدخول بها فعليها العدة إجماعا.
وقوله- سبحانه-: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه، بالنسبة لمن طلقت قبل الدخول بها.
وأصل المتعة والمتاع، ما ينتفع به الإنسان من مال أو كسوة أو غير ذلك. ثم أطلقت المتعة على ما يعطيه الرجل للمرأة من مال أو غيره عند طلاقها منه، لتنتفع به، جبرا لخاطرها، وتعويضا لها عما نالها بسبب هذا الفراق.
وأصل التسريح: أن ترعى الإبل السرح، وهو شجر له ثمرة، ثم أطلق على كل إرسال في الرعي، ثم على كل إرسال وإخراج.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 48.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 443.(11/225)
والتسريح الجميل: هو الذي لا ضرر معه. وإنما معه الكلام الطيب، والفعل الحسن.
والمعنى: إذا طلقتموهن قبل الدخول بهن، فأعطوهن من المال ما يجبر خاطرهن، وما يكون عوضا عن فراقهن.. وأطلقوا سراحهن ليستأنفن حياة جديدة مع غيركم، وساعدوهن على ذلك إن استطعتم، فإن من شأن العقلاء أن يعاشروا أزواجهن بالمعروف، وأن يفارقوهن- أيضا- بالمعروف.
ومن العلماء من يرى أن المتعة واجبة للمرأة على الرجل في حال مفارقتها قبل الدخول بها، لأن الآية الكريمة قد أمرت بذلك، والأمر يقتضى الوجوب.
وقد بينا ذلك بالتفصيل عند تفسيرنا لقوله- تعالى- في سورة البقرة: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمَتِّعُوهُنَّ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «1» .
والملاحظ أن الآية الكريمة التي معنا، قد أضافت حكما جديدا، وهو أنه لا عدة على المطلقة قبل الدخول بها.
ومن مجموع هذه الآيات، نرى أحكم التشريعات، وأسمى التوجيهات.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جانبا من مظاهر فضله عليه. وتكريمه له حيث خصه بأمور تتعلق بالنكاح لم يخص بها أحدا غيره. فقال- تعالى-:
__________
(1) راجع تفسيرنا لسورة البقرة ص 540 وما بعدها. [.....](11/226)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
والمراد بالأجور في قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... المهور التي دفعها صلّى الله عليه وسلّم لأزواجه.
قال ابن كثير: يقول- تعالى- مخاطبا نبيه- صلوات الله وسلامه عليه- بأن قد أحل له من النساء أزواجه اللائي أعطاهن مهورهن، وهي الأجور هاهنا، كما قاله مجاهد وغير واحد.
وقد كان مهره صلّى الله عليه وسلّم لنسائه: اثنتي عشرة أوقية ونصف أوقية. فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبى سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشيّ- رحمه الله- بأربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبى خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس وتزوجها.
وفي قوله: آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إشارة إلى أن إعطاء المهر كاملا للمرأة دون إبقاء شيء منه، هو الأكمل والأفضل، وأن تأخير شيء منه إنما هو أمر مستحدث، لم يكن معروفا عند السلف الصالح.(11/227)
وأطلق على المهر أجر لمقابلته الاستمتاع الدائم بما يحل الاستمتاع به من الزوجة، كما يقابل الأجر بالمنفعة.
وقوله: وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ بيان لنوع آخر مما أحله الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلم.
والمعنى: يا أيها النبي إنا أحللنا لك- بفضلنا- على سبيل التكريم والتشريف لك، الاستمتاع بأزواجك الكائنات عندك، واللاتي أعطيتهن مهورهن- كعائشة وحفصة وغيرهما-، لأنهن قد اخترنك على الحياة الدنيا وزينتها.
كما أحللنا لك التمتع بما ملكت يمينك من النساء اللائي دخلن في ملكك عن طريق الغنيمة في الحرب، كصفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث.
ثم بين- سبحانه- نوعا ثالثا أحله- سبحانه- له فقال: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ.
أى: وأحللنا لك- أيضا- الزواج بالنساء اللائي تربطك بهن قرابة من جهة الأب، أو قرابة من جهة الأم.
وقوله اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إشارة إلى ما هو أفضل، وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر.
والمراد بالمعية هنا. الاشتراك في الهجرة. لا المصاحبة فيها، لما في قوله- تعالى- حكاية عن ملكة سبأ: الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
قال بعض العلماء: وقد جاء في الآية الكريمة عدة قيود، ما أريد بواحد منها إلا التنبيه على الحالة الكريمة الفاضلة.
منها: وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم باللاتى آتى أجورهن، فإنه تنبيه على الحالة الكاملة، فإن الأكمل إيتاء المهر كاملا دون أن يتأخر منه شيء.
ومنها: أن تخصيص المملوكات بأن يكن من الفيء، فإن المملوكة إذا كانت غنيمة من أهل الحرب كانت أحل وأطيب مما يشترى من الجلب، لأن المملوكة عن طريق الغنيمة تكون معروفة الحال والنشأة.
ومنها: قيد الهجرة في قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، ولا شك أن من هاجرت مع النبي صلى الله عليه وسلّم أولى بشرف زوجية النبي صلّى الله عليه وسلّم ممن عداها «1» .
__________
(1) تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 22 للمرحوم الشيخ محمد على السائس.(11/228)
ثم بين- سبحانه- نوعا رابعا من النساء، أحله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
والجملة الكريمة معطوفة على مفعول أَحْلَلْنا.
وقد اشتملت هذه الجملة على شرطين، الثاني منهما قيد للأول، لأن هبتها نفسها له صلى الله عليه وسلّم لا توجب حلها له إلا بقبوله الزواج منها.
وقوله يَسْتَنْكِحَها بمعنى ينكحها. يقال: نكح واستنكح، بمعنى عجل واستعجل:
ويجوز أن يكون بمعنى طلب النكاح.
وقوله: خالِصَةً منصوب على الحال من فاعل وَهَبَتْ أى: حال كونها خالصة لك دون غيرك. أو نعت لمصدر مقدر. أى: هبة خالصة..
والمعنى وأحللنا لك كذلك امرأة مؤمنة، إن ملكتك نفسها بدون مهر وإن أنت قبلت ذلك عن طيب خاطر منك، وهذا الإحلال إنما هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين، لأن غيرك من المؤمنين لا تحل لهم من وهبت نفسها لواحد منهم إلا بولي ومهر.
وقد ذكروا ممن وهبن أنفسهن له صلّى الله عليه وسلّم خولة بنت حكيم، وأم شريك بنت جابر، وليلى بنت الحطيم..
وقد اختلف العلماء في كونه صلّى الله عليه وسلّم قد تزوج بواحدة من هؤلاء الواهبات أنفسهن له أم لا.
والأرجح أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوج بواحدة منهن، وإنما زوجهن لغيره. ويشهد لذلك ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، إنى قد وهبت نفسي لك. فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال:
يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزارى هذا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا. فقال: لا أجد شيئا. فقال: التمس ولو خاتما من حديد، فقام الرجل فلم يجد شيئا. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شيء؟
قال نعم. سورة كذا وسورة كذا- لسور يسميها- فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن «1» .
__________
(1) صحيح البخاري «كتاب النكاح» ج 7 ص 17.(11/229)
وإلى هنا يتضح لنا أن المقصود بالإحلال في الآية الكريمة: الإذن العام والتوسعة عليه صلى الله عليه وسلم في الزواج من هذه الأصناف، والإباحة له في أن يختار منهن من تقتضي الحكمة الزواج منها، واختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بأمور تتعلق بالنكاح، لا تحل لأحد سواه.
ولهذا قال- سبحانه- بعد ذلك: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ.. فإن هذه الجملة الكريمة معترضة ومقررة لمضمون ما قبلها، من اختصاصه صلى الله عليه وسلّم بأمور في النكاح لا تحل لغيره، كحل زواجه ممن تهبه نفسها بدون مهر، إن قبل ذلك العرض منها.
أى: هذا الذي أحللناه لك- أيها الرسول الكريم- هو خاص بك، أما بالنسبة لغيرك من المؤمنين فقد علمنا ما فرضناه عليهم في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه، فلا يجوز لهم الإخلال بها، كما لا يجوز لهم الاقتداء بك فيما خصك الله- تعالى- به، على سبيل التوسعة عليك، والتكريم لك، فهم لا يجوز لهم التزوج إلا بعقد وشهود ومهر، كما لا يجوز لهم أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة.
وعلمنا- أيضا- ما فرضناه عليهم بالنسبة لما ملكت أيمانهم، من كونهن ممن يجوز سبيه وحربه، لا ممن لا يجوز سبيه، أو كان له عهد مع المسلمين.
وقوله: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ متعلق بقوله: أَحْلَلْنا وهو راجع إلى جميع ما ذكر، فيكون المعنى:
أحللنا من آتيت أجورهن من النساء، والمملوكات، والأقارب، والواهبة نفسها لك، لندفع عنك الضيق والحرج، ولتتفرغ لتبليغ ما أمرناك بتبليغه.
وقيل: إنه متعلق بخالصة، أو بعاملها، فيكون المعنى: خصصناك بنكاح من وهبت نفسها لك بدون مهر، لكي لا يكون عليك حرج في البحث عنه.
ويرى بعضهم أنه متعلق بمحذوف، أى: بينا لك ما بينا من أحكام خاصة بك، حتى تخرج من الحرج، وحتى يكون منا تفعله هو بوحي منا وليس من عند نفسك.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أى: وكان الله- تعالى- وما زال واسع المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين.
وقوله- عز وجل- تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ شروع في بيان جانب آخر من التوسعة التي وسعها- سبحانه- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في معاشرته لنسائه، بعد بيان ما أحله له من النساء.(11/230)
وقوله: تُرْجِي من الإرجاء بمعنى التأخير والتنحية، وقرئ مهموزا وغير مهموز.
تقول: أرجيت الأمر وأرجأته، إذا أخرته، ونحيته جانبا حتى يحين موعده المناسب.
وقوله: وَتُؤْوِي من الإيواء بمعنى الضم والتقريب، ومنه قوله- تعالى-: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ.. أى: ضمه إليه وقربه منه.
والضمير في قوله مِنْهُنَّ يعود إلى زوجاته صلى الله عليه وسلم اللائي كن في عصمته.
قال القرطبي ما ملخصه: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها:
التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته.
وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح، عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أو تهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله- تعالى-: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ....
قالت: قلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
قال ابن العربي: هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه. والمعنى المراد: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في أزواجه، إن شاء أن يقسم قسم، وإن شاء أن يترك القسم ترك. لكنه كان يقسم من جهة نفسه، تطييبا لنفوس أزواجه.
وقيل كان القسم واجبا عليه ثم نسخ الوجوب بهذه الآية.
وقيل: الآية في الطلاق. أى: تطلق من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء.
وقيل: المراد بالآية: الواهبات أنفسهن له صلى الله عليه وسلم.
ثم قال القرطبي: وعلى كل معنى، فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة، وما اخترناه أصح والله أعلم «1» .
أى: لقد وسعنا عليك- أيها الرسول الكريم- في معاشرة نسائك، فأبحنا لك أن تؤخر المبيت عند من شئت منهن، وأن تضم إليك من شئت منهن، بدون التقيد بوجوب القسم بينهن، كما هو الشأن بالنسبة لأتباعك حيث أوجبنا عليهم العدل بين الأزواج في البيتوتة وما يشبهها.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 214.(11/231)
ومع هذا التكريم من الله- تعالى- لنبيه، إلا أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقسم بينهن إلى أن لحق بربه؟ عدا السيدة سودة، فإنها قد وهبت ليلتها لعائشة..
أخرج البخاري عن عائشة رضى الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية ترجى من تشاء منهن..
فقيل لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن كان ذاك إلىّ فإنى لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا «1» .
وقوله- تعالى-: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ. زيادة في التوسعة عليه صلى الله عليه وسلّم وفي ترك الأمر لإرادته واختياره.
أى: أبحنا لك- أيها الرسول الكريم- أن تقسم بين نسائك، وأن تترك القسمة بينهن، وأبحنا لك- أيضا- أن تعود إلى طلب من اجتنبت مضاجعتها إذ لا حرج عليك في كل ذلك.
بعد أن فوضنا الأمر إلى مشيئتك واختيارك.
فالابتغاء بمعنى الطلب، وعزلت بمعنى اجتنبت واعتزلت وابتعدت، ومن شرطية، وجوابها: فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أى: فلا حرج ولا إثم عليك في عدم القسمة بين أزواجك، وفي طلب إيواء من سبق لك أن اجتنبتها.
قال الشوكانى: والحاصل أن الله- سبحانه- فوض الأمر إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم كي يصنع مع زوجاته ما شاء، من تقديم وتأخير، وعزل وإمساك، وضم من أرجأ، وإرجاء من ضم إليه، وما شاء في أمرهن فعل توسعة عليه، ونفيا للحرج عنه «2» .
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ، وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ.. يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق من تفويض أمر الإرجاء والإيواء إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأدنى بمعنى أقرب. وتَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ كناية عن تقبل ما يفعله معهن برضا وارتياح نفس. يقال قرت عين فلان، إذا رأت ما ترتاح لرؤيته، مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار والسكون..
وقوله: وَلا يَحْزَنَّ معطوف على أَنْ تَقَرَّ وقوله وَيَرْضَيْنَ معطوف عليه- أيضا-.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 437.
(2) تفسير فتح القدير ج 6 ص 293.(11/232)
والمعنى، ذلك الذي شرعناه لك من تفويض الأمر إليك في شأن أزواجك، أقرب إلى رضا نفوسهن لما تصنعه معهن، وأقرب إلى عدم حزنهن وإلى قبولهن لما تفعله معهن، لأنهن يعلمن أن ما تفعله معهن إنما هو بوحي من الله- تعالى- وليس باجتهاد منك، ومتى علمن ذلك طابت نفوسهن سواء سويت بينهن في القسم والبيتوتة والمجامعة ... أم لم تسو.
قال القرطبي: قال قتادة وغيره: أى: ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن، إذ كان من عندنا- لا من عندك-، لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين..
وكان- عليه الصلاة والسلام- مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبا لقلوبهن ويقول: «اللهم هذه قدرتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» «1» .
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأزواجه، ويندرج فيه جميع المؤمنين والمؤمنات وجمع بجمع الذكور للتغليب.
أى: والله- تعالى- يعلم ما في قلوبكم من حب وبغض، ومن ميل إلى شيء، ومن عدم الميل إلى شيء آخر.
قال صاحب الكشاف: وفي هذه الجملة وعيد لمن لم ترض منهن بما دبر الله- تعالى- من ذلك، وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما فيه طيب نفسه «2» .
وَكانَ اللَّهُ- تعالى- عَلِيماً بكل ما تظهره القلوب وما تسره حَلِيماً حيث لم يعاجل عباده بالعقوبة قبل الإرشاد والتعليم.
ثم كرم- سبحانه- أمهات المؤمنين بعد تكريمه لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ....
أى: لا يحل لك، - أيها الرسول الكريم- أن تتزوج بنساء أخريات من بعد التسع اللائي في عصمتك اليوم، لأنهن قد اخترنك وآثرنك على زينة الحياة الدنيا، ورضين عن طيب نفس أن يعشن معك وتحت رعايتك، مهما كان في حياتك معهن من شظف العيش، والزهد في متع الدنيا.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 216.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 552.(11/233)
وقوله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ معطوف على ما قبله.
أى: لا يحل لك الزواج بعد اليوم بغير من هن في عصمتك، كما لا يحل لك- أيضا- أن تطلق واحدة منهن وتتزوج بأخرى سواها، حتى ولو أعجبك جمال من تريد زواجها من غير نسائك اللائي في عصمتك عند نزول هذه الآية.
فالآية الكريمة قد اشتملت على حكمين: أحدهما: حرمة الزواج بغير التسع اللائي كن في عصمته عند نزولها. والثاني: حرمة تطليق واحدة منهن، للزواج بأخرى بدلها.
وقوله: بَعْدُ ظرف مبنى على الضم لحذف المضاف اليه. أى: من بعد اليوم.
وأَزْواجٍ مفعول به، ومِنْ مزيدة لاستغراق الجنس. أى: ولا أن تبدل بهن أزواجا أخريات مهما كان شأن هؤلاء الأخريات.
وجملة: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ في موضع الحال من الفاعل وهو الضمير في تَبَدَّلَ. أى: لا يحل لك الزيادة عليهن، ولا أن تتبدل بهن أزواجا غيرهن في أية حالة من الأحوال، حتى ولو في حال إعجابك بغيرهن ويصح أن تكون هذه الجملة شرطية، وقد حذف جوابها لفهمه من الكلام، ويكون المعنى: ولو أعجبك حسنهن لا يحل لك نكاحهن.
وقوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من هذا الحكم. أى: لا يحل لك الزيادة عليهن، ولا استبدال غيرهن بهن، ولكن يحل لك أن تضيف إليهن ما شئت من النساء اللائي تملكهن عن طريق السبي.
وهذا الذي سرنا عليه من أن الآية الكريمة في شأن أزواجه صلّى الله عليه وسلّم هو الذي سار عليه جمهور المفسرين.
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم- أن هذه الآية الكريمة نزلت مجازاة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضا الله عنهن على حسن صنيعهن، في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما تقدم، فلما اخترن رسول الله، كان جزاؤهن أن قصره عليهن، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن، ولو أعجبه حسنهن، إلا الإماء والسرائر، فلا حجر عليه فيهن.
ثم إنه- سبحانه- رفع عنه الحجر في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكنه لم يقع منه بعد ذلك زواج لغيرهن، لتكون المنة للرسول صلّى الله عليه وسلّم عليهن. روى الإمام(11/234)
أحمد عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحل الله له النساء «1» .
ومن العلماء من يرى أن قوله- تعالى- مِنْ بَعْدُ المراد به: من بعد من أحللنا لك الزواج بهن، وهن الأصناف الأربعة اللائي سبق الحديث عنهن في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ...
وهذا الرأى الثاني وإن كان أشمل من سابقه، إلا أننا نرجح أن الآية الكريمة مسوقة لتكريم أمهات المؤمنين اللائي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها.
هذا، والنساء التسع اللائي حرم الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم الزيادة عليهن، والاستبدال بهن، هن: عائشة بنت أبى بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبى سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبى أمية، وصفية بنت حيي بن أخطب، وميمونة بنت الحارث، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث «2» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً.
أى: وكان الله- تعالى- وما زال، مطلعا على كل شيء من أحوالكم- أيها الناس- فاحذروا أن تتجاوزوا ما حده الله- تعالى- لكم، لأن هذا التجاوز يؤدى إلى عدم رضا الله- سبحانه- عنكم.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة، قد ذكرت ألوانا متعددة من مظاهر تكريم الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ومن توسعته عليه في شأن أزواجه، وفي شأن ما أحله له من عدم التقيد في القسم بينهن، وفي تقديم أو تأخير من شاء منهن..
كما أنها قد كرمت أمهات المؤمنين تكريما عظيما. لاختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من التشريعات الحكيمة، والآداب القويمة. التي تتعلق بدخول بيوت النبي صلّى الله عليه وسلم، وبحقوق أزواجه صلّى الله عليه وسلّم في حياته وبعد مماته، وبوجوب احترامه وتوقيره صلّى الله عليه وسلّم فقال- تعالى-:
__________
(1، 2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 438.(11/235)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... روايات متعددة منها، ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال:
وافقت ربي في ثلاث. فقلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله- تعالى-: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تمالأن عليه في الغيرة عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزل كذلك.
وروى البخاري عن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام، فلما قام صلّى الله عليه وسلّم قام معه من قام، وقعد ثلاثة نفر.
فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... الآية.
قال ابن كثير: وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت(11/236)
جحش: التي تولى الله- تعالى- تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة، في قول قتادة والواقديّ وغيرهما «1» .
والمراد ببيوت النبي: المساكن التي أعدها صلّى الله عليه وسلّم لسكنى أزواجه.
والاستثناء في قوله- تعالى-: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ استثناء مفرغ من أعم الأحوال.
وقوله: غَيْرَ ناظِرِينَ. حال من ضمير تَدْخُلُوا وإِناهُ أى: نضجه وبلوغه الحد الذي يؤكل معه. يقال: أنى الطعام يأنى أنيا وإنى- كقلى يقلى- إذا نضج وكان معدا للأكل.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، لا تدخلوا بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم في حال من الأحوال، إلا في حال الإذن لكم بدخولها من أجل حضور طعام تدعون إلى تناوله، وليكن حضوركم في الوقت المناسب لتناوله، لا قبل ذلك بأن تدخلوا قبل إعداده بفترة طويلة، منتظرين نضجه وتقديمه إليكم للأكل منه.
قالوا: وكان من عادة بعضهم في الجاهلية أنهم يلجون البيوت بدون استئذان، فإذا وجدوا طعاما يعد، انتظروا حتى ينضج ليأكلوا منه.
فالنهي في الآية الكريمة مخصوص بمن دخل من غير دعوة، وبمن دخل بدعوة ولكنه مكث منتظرا للطعام حتى ينضج، دون أن تكون هناك حاجة لهذا الانتظار. أما إذا كان الدخول بدعوة أو لحضور طعام بدون انتظار مقصود لوقت نضجه، فلا يتناوله النهى.
قال الآلوسى: والآية على ما ذهب إليه جمع من المفسرين، خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه، فهي مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل. فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة، وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهى عن الدخول بإذن لغير طعام، ولا من الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر «2» .
وقوله- سبحانه- وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا استدراك على ما فهم من النهى عن الدخول بغير إذن، وفيه إشعار بأن الإذن متضمن معنى الدعوة.
أى: لا تدخلوا بدون إذن، فإذا أذن لكم ودعيتم إلى الطعام فادخلوا لتناوله وقوله
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 440- طبعة دار الشعب.
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 70.(11/237)
- تعالى- فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ بيان للون آخر من ألوان الآداب الحكيمة التي شرعها الإسلام في تناول الطعام عند الغير.
أى: إذا دعيتم لحضور طعام في بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فادخلوا، فإذا ما انتهيتم من طعامكم عنده، فتفرقوا ولا تمكثوا في البيت مستأنسين لحديث بعضكم مع بعض، أو لحديثكم مع أهل البيت.
فقوله مُسْتَأْنِسِينَ مأخوذ من الأنس بمعنى السرور والارتياح للشيء. تقول: أنست، لحديث فلان، إذا سررت له، وفرحت به.
وأطلق- سبحانه- نفى الاستئناس للحديث، من غير بيان صاحب الحديث، للإشعار بأن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق، مادام ليس هناك من حاجة إلى هذا المكث. وهذا أدب عام لجميع المسلمين.
واسم الإشارة في قوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ يعود إلى الانتظار والاستئناس للحديث، والدخول بغير إذن. والجملة بمثابة التعليل لما قبلها.
أى: إن ذلكم المذكور كان يؤذى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويدخل الحزن على قلبه، لأنه يتنافى مع الأدب الإسلامى الحكيم، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم كان يستحيى أن يصرح لكم بذلك، لسمو خلقه، وكمال أدبه، كما أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يستحيى أن يقول لكم كلاما تدركون منه أنه يريد انصرافكم.
وقوله- تعالى-: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أى: والله- تعالى- لا يستحيى من إظهار الحق ومن بيانه، بل من شأنه- سبحانه- أن يقول الحق، ولا يسكت عن ذلك.
وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد منعه حياؤه من أن يقول قولا تفهمون منه ضجره من بقائكم في بيته بعد تناول طعامكم عنده.. فإن الله- تعالى- وهو خالقكم لا يمتنع عن بيان الحق في هذه الأمور وفي غيرها، حتى تتأدبوا بأدب دينه القويم. ثم ذكر- سبحانه- بعض الآداب التي يجب عليهم أن يلتزموها مع نساء نبيهم صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..
أى: وإذا طلبتم- أيها المؤمنون- من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا يتمتع به سواء أكان هذا الشيء حسيا كالطعام أم معنويا كمعرفة بعض الأحكام الشرعية.. إذا سألتموهن شيئا من ذلك فليكن سؤالكم لهن من وراء حجاب ساتر بينكم وبينهن..
لأن سؤالكم إياهن بهذه الطريقة، أطهر لقلوبكم وقلوبهن، وأبعد عن الوقوع في(11/238)
الهواجس الشيطانية التي قد تتولد عن مشاهدتكم لهن، ومشاهدتهن لكم..
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
أى: وما صح وما استقام لكم- أيها المؤمنون- أن تؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأى لون من ألوان الأذى، سواء أكان بدخول بيوته بغير إذنه، أم بحضوركم إليها انتظارا لنضج الطعام أم بجلوسكم بعد الأكل بدون مقتض لذلك، أم بغير ذلك مما يتأذى به صلّى الله عليه وسلم.
كما أنه لا يصح لكم بحال من الأحوال أن تنكحوا أزواجه من بعده، أى: من بعد وفاته.
إِنَّ ذلِكُمْ أى: إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده كانَ عِنْدَ اللَّهِ- تعالى- ذنبا عَظِيماً وإثما جسيما، لا يقادر قدره.
ثم حذرهم- سبحانه- من مخالفة أمره، بأن بين لهم بأنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء، من أمرهم، فقال: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً بأن تظهروه على ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ بأن تضمروه في قلوبكم، فإنه في الحالين لا يعزب عن علمنا، وسنحاسبكم عليه، فَإِنَّ اللَّهَ- تعالى- كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً بحيث لا يخفى عليه شيء، في الأرض ولا في السماء.
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة التي تسمى بآية الحجاب، جملة من الأحكام والآداب منها:
1- وجوب الاستئذان عند دخول البيوت لتناول طعام، ووجوب الخروج بعد تناوله إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو للبقاء، كما أن من الواجب الحضور إلى الطعام في الوقت المناسب له، وليس قبله انتظارا لنضجه وتقديمه.
2- حرمة الاختلاط بين الرجال والنساء سواء أكان ذلك في الطعام أم في غيره، فقد أمر- سبحانه- المؤمنين، إذا سألوا أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا أن يسألوهن من وراء حجاب، وعلل ذلك بأن سؤالهن بهذه الطريقة، يؤدى إلى طهارة القلوب، وعفة النفوس، والبعد عن الريبة وخواطر السوء..
وحكم نساء المؤمنين في ذلك كحكم أمهات المؤمنين، لأن قوله- سبحانه- ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ علة عامة تدل على تعميم الحكم، إذ جميع الرجال والنساء في كل زمان ومكان في حاجة إلى ما هو أطهر للقلوب، وأعف للنفوس..
قال بعض العلماء ما ملخصه: وقوله: ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من العقلاء، إن غير ازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لا حاجة(11/239)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
بهن إلى أطهرية قلوبهن، وقلوب الرجال من الريبة منهن..
فالجملة الكريمة فيها الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء، لا خاص بأمهات المؤمنين، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه.. «1» .
3- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية أنه لا يجوز للرجل الأجنبى أن يصافح امرأة أجنبية عنه. ولا يجوز له أن يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها.
والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ثبت عنه أن قال: «إنى لا أصافح النساء» والله- تعالى- يقول: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.. فيلزمنا أن لا نصافح النساء الأجنبيات اقتداء به صلّى الله عليه وسلم «2» .
4- تكريم الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ودفاعه عنه، وإلزام المؤمنين بالعمل على كل ما يرضيه ولا يؤذيه، وبعدم نكاح أزواجه من بعده أبدا ...
ثم استثنت السورة الكريمة بعض الأصناف الذين يجوز للمرأة أن تظهر أمامهم بدون حجاب، وبينت سمو منزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأكدت التحذير من إيذائه، ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات، وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرشد أزواجه وبناته ونساء المؤمنين إلى وجوب الاحتشام في ملابسهن.. فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 55 الى 59]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
__________
(1) راجع «أضواء البيان» ج 6 ص 584 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.
(2) راجع تفسير أضواء البيان ج 6 ص 602.(11/240)
قال القرطبي: لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم:
ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ.. «1» .
فالآية الكريمة مسوقة لبيان من لا يجب على النساء أن يحتجبن منه.
أى: لا حرج ولا إثم على أمهات المؤمنين ولا على غيرهن من النساء، في ترك الحجاب بالنسبة لآبائهن، أو أبنائهن أو إخوانهن، أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن، أو نسائهن اللاتي تربطهن بهن رابطة قرابة أو صداقة، أو ما ملكت أيمانهن من الذكور أو الإناث.
فهؤلاء يجوز للمرأة أن تخاطبهم بدون حجاب، وأن تظهر أمامهم بدون ساتر. وهذا لون من ألوان اليسر والسماحة في شريعة الإسلام.
ولم يذكر سبحانه- العم والخال، لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد يسمى العم أبا. كما في قوله- تعالى- حكاية عن يعقوب: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي، قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وإسماعيل كان عما ليعقوب لا أبا له.
قال الجمل: وقوله: وَلا نِسائِهِنَّ أى: ولا جناح على زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم في عدم الاحتجاب عن نسائهن، أى: عن النساء المسلمات وإضافتهن لهن من حيث المشاركة في الوصف، وهو الإسلام، وأما النساء الكافرات فيجب على أزواج النبي الاحتجاب عنهن،
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 231.(11/241)
كما يجب على سائر المسلمات. أى: ما عدا ما يبدو عند المهنة، أما هو فلا يجب على المسلمات حجبه وستره عن الكافرات «1» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: في سورة النور: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ، أَوْ آبائِهِنَّ، أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ، أَوْ أَبْنائِهِنَّ، أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ ... الآية.
ثم عقب. سبحانه هذا الترخيص والتيسير بقوله: وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً.
والجملة الكريمة معطوفة على محذوف، والتقدير: لقد أبحت لكن يا معشر النساء مخاطبة هؤلاء الأصناف بدون حجاب: فامتثلن أمرى، واتقين الله- تعالى- في كل أحوالكن، واحرصن على العفاف والتستر والاحتشام، لأن الله- تعالى- مطلع على كل ما يصدر عنكن، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم أثنى الله- تعالى- على نبيه ثناء كبيرا وأمر المؤمنين بأن يعظموه ويوقروه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
قال القرطبي ما ملخصه: هذه الآية شرف الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم في حياته وموته، وذكر منزلته منه.. والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره..
والضمير في يُصَلُّونَ لله- تعالى- ولملائكته. وهذا قول من الله شرف به ملائكته..
أو في الكلام حذف. والتقدير: إن الله يصلى وملائكته يصلون «2» .
وقال ابن كثير: والمقصود من هذه الآية الكريمة، أن الله- تعالى- أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى: بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلى عليه، ثم أمر الله أهل العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه. ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلى جميعا «3» .
والمعنى: إن الله- تعالى- يثنى على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم ويرضى عنه، وإن الملائكة تثنى عليه صلّى الله عليه وسلّم وتدعو له بالظفر بأعلى الدرجات وأسماها.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أى: عظموه ووقروه وادعوا له بأرفع الدرجات وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أى: وقولوا: السلام عليك أيها النبي. والسلام: مصدر بمعنى السلامة.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 454. [.....]
(2) تفسير القرطبي ج 14 ص 232.
(3) تفسير ابن كثير ج 6 ص 447.(11/242)
أى: السلامة من النقائص والآفات ملازمة لك.
والتعبير بالجملة الاسمية في صدر الآية، للإشعار بوجوب المداومة والاستمرار على ذلك.
وخص المؤمنين بالتسليم، لأن الآية وردت بعد النهى عن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، والإيذاء له صلّى الله عليه وسلّم إنما يكون من البشر.
وقد ساق المفسرون- وعلى رأسهم ابن كثير والقرطبي والآلوسى- أحاديث متعددة في فضل الإكثار من الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، وفي كيفية الصلاة عليه..
ومنها: ما رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن عامر بن ربيعة قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى على صلاة لم تزل الملائكة تصلى عليه ما صلّى على، فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر» .
ومنها ما رواه الشيخان وغيرهما عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت هذه الآية قلنا:
يا رسول الله، قد علمنا السلام، فكيف الصلاة عليك، قال: قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد «1» .
والآية الكريمة تدل على وجوب الصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون الصادقون هم الذين يكثرون من ذلك. قال صاحب الكشاف ما ملخصه: فإن قلت: الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره صلّى الله عليه وسلّم ومنهم من قال تجب في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره.
ومنهم من أوجبها في العمر مرة.. والذي يقتضيه الاحتياط: الصلاة عليه عند كل ذكر..
لما ورد من الأخبار في ذلك.
ومنها: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على» «2» .
ثم توعد- سبحانه- الذين يسيئون إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأى لون من ألوان الإساءة فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً.
والمراد بأذى الله ورسوله: ارتكاب ما يبغضان ويكرهان من الكفر والفسوق والعصيان،
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 448 وما بعدها إلى صن 469.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 557.(11/243)
ويشمل ذلك ما قاله اليهود: عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، وما قاله النصارى: من أن المسيح ابن الله، كما يشمل ما قاله الكافرون في الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أنه كاهن أو ساحر أو شاعر..
وقيل: إن المقصود بالآية هنا: إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وذكر الله- تعالى- معه للتشريف، وللإشارة إلى أن ما يؤذى الرسول يؤذى الله- تعالى-، كما جعلت طاعة الرسول، طاعة لله.
قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من آذى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بشيء، فإن من آذاه فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، ففي الحديث الشريف: «الله الله في أصحابى، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» «1» .
أى: إن الذين يؤذون الله- تعالى- ورسوله صلّى الله عليه وسلم، بارتكاب مالا يرضياه من كفر أو شرك أو فسوق أو عصيان..
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أى: طرد الله- تعالى- هؤلاء الذين ارتكبوا الأذى من رحمته، وأبعدهم من رضاه في الدنيا والآخرة.
وَأَعَدَّ لَهُمْ- سبحانه- في الآخرة عَذاباً مُهِيناً أى: عذابا يهينهم ويجعلهم محل الاحتقار والازدراء من غيرهم.
وبعد هذا الوعيد الشديد لمن آذى الله ورسوله، جاء وعيد آخر لمن آذى المؤمنين والمؤمنات، فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
أى: والذين يرتكبون في حق المؤمنين والمؤمنات ما يؤذيهم في أعراضهم أو في أنفسهم أو في غير ذلك مما يتعلق بهم، دون أن يكون المؤمنون أو المؤمنات قد فعلوا ما يوجب أذاهم..
فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أى: فقد ارتكبوا إثما شنيعا، وفعلا قبيحا، وذنبا ظاهرا بينا، بسبب إيذائهم للمؤمنين والمؤمنات.
وقال- سبحانه- هنا بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ولم يقل ذلك في الآية السابقة عليها، لأن الناس بطبيعتهم يدفع بعضهم بعضا، ويعتدى بعضهم على بعض، ويؤذى بعضهم بعضا، أما
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 469.(11/244)
الله- تعالى- ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فلا يتصور منهما ذلك.
وجمع- سبحانه- في ذمهم بين البهتان والإثم المبين، للدلالة على فظاعة ما ارتكبوه في حق المؤمنين والمؤمنات، إذ البهتان هو الكذب الصريح الذي لا تقبله العقول، بل يحيرها ويدهشها لشدته وبعده عن الحقيقة.
والإثم المبين: هو الذنب العظيم الظاهر البين، الذي لا يخفى قبحه على أحد.
روى ابن أبى حاتم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أى الربا أربى عند الله؟.
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أربى الربا عند الله، استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية «1» .
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين عامة، بالاحتشام والتستر في ملابسهن فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ....
قال الآلوسى: روى عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة، تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل، من غير تمييز بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء، وربما تعرضوا للحرائر، فإذا قيل لهم قالوا: حسبناهن إماء، فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي والتستر فلا يطمع فيهن.. «2» .
وقوله: يُدْنِينَ من الإدناء بمعنى التقريب، ولتضمنه معنى السدل والإرخاء عدّى بعلى. وهو جواب للأمر، كما في قوله- تعالى-: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ....
والجلابيب: جمع جلباب، وهو ثوب يستر جميع البدن، تلبسه المرأة، فوق ثيابها.
والمعنى: يا أيها النبي قل لأزواجك اللائي في عصمتك، وقل لبناتك اللائي هن من نسلك، وقل لنساء المؤمنين كافة، قل لهن: إذا ما خرجن لقضاء حاجتهن، فعليهن أن يسدلن الجلابيب عليهن، حتى يسترن أجسامهن سترا تاما، من رءوسهن إلى أقدامهن، زيادة في التستر والاحتشام، وبعدا عن مكان التهمة والريبة.
قالت أم سلمة- رضى الله عنها-: لما نزلت هذه الآية، خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 470.
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 88.(11/245)
وقوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ بيان للحكمة من الأمر بالتستر والاحتشام.
أى: ذلك التستر والاحتشام والإدناء عليهن من جلابيبهن يجعلهن أدنى وأقرب إلى أن يعرفن ويميزن عن غيرهن من الإماء، فلا يؤذين من جهة من في قلوبهم مرض.
قال بعض العلماء: وقد يقال إن تأويل الآية على هذا الوجه، وقصرها على الحرائر، قد يفهم منه أن الشارع قد أهمل أمر الإماء، ولم يبال بما ينالهن من الإيذاء ممن ضعف إيمانهم، مع أن في ذلك من الفتنة ما فيه، فهلا كان التصون والتستر عاما في جميع النساء؟
والجواب، أن الإماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن وترددهن في الأسواق، فإذا كلفن أن يتقنعن ويلبسن الجلباب السابغ كلما خرجن، كان في ذلك حرج ومشقة عليهن، وليس كذلك الحرائر فإنهن مأمورات بعدم الخروج من البيوت إلا لضرورة ومع ذلك فإن القرآن الكريم قد نهى عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات جميعا، سواء الحرائر والإماء، وتوعد المؤذين بالعذاب المهين.. والشارع- أيضا- لم يحظر على الإماء التستر والتقنع، ولكنه لم يكلفهن بذلك دفعا للحرج والعسر، فللأمة أن تلبس الجلباب السابغ متى تيسر لها ذلك.. «1» .
هذا، ويرى الإمام أبو حيان أن الأرجح أن المراد بنساء المؤمنين، ما يشمل الحرائر والإماء وأن الأمر بالتستر يشمل الجميع، وأن الحكمة من وراء هذا الأمر بإسدال الجلابيب عليهن، درء التعرض لهن بسوء من ضعاف الإيمان.
فقد قال- رحمه الله-: والظاهر أن قوله: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن، بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح.. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها «2» .
ويبدو لنا أن هذا الرأى الذي اتجه إليه أبو حيان- رحمه الله- أولى بالقبول من غيره، لتمشيه مع شريعة الإسلام التي تدعو جميع النساء إلى التستر والعفاف.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أى: وكان الله- تعالى- وما زال واسع المغفرة والرحمة لمن تاب إليه توبة صادقة مما وقع فيه من أخطاء وسيئات.
__________
(1) تفسير آيات الأحكام ج 4 ص 53 للشيخ محمد على السائس- رحمه الله-.
(2) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 7 ص 250.(11/246)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
ثم هدد- سبحانه- المنافقين وأشباههم بسوء المصير، إذا ما استمروا في إيذائهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين والمؤمنات. وبين- عز وجل- أن وقت قيام الساعة مرد علمه إليه وحده. وأن الكافرين عند قيامها سيندمون ولكن لن ينفعهم الندم، فقال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 68]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
والمنافقون: جمع منافق، وهو الذي يظهر الإسلام ويخفى الكفر.
والذين في قلوبهم مرض: هم قوم ضعاف الإيمان، قليلو الثبات على الحق.
والمرجفون في المدينة: هم الذين كانوا ينشرون أخبار السوء عن المؤمنين ويلقون الأكاذيب الضارة بهم ويذيعونها بين الناس. وأصل الإرجاف: التحريك الشديد للشيء، مأخوذ من الرجفة التي هي الزلزلة. ووصف به الأخبار الكاذبة، لكونها في ذاتها متزلزلة غير ثابتة، أو لإحداثها الاضطراب في قلوب الناس.(11/247)
وقد سار بعض المفسرين، على أن هذه الأوصاف الثلاثة، كل وصف منها لطائفة معينة، وسار آخرون على أن هذه الأوصاف لطائفة واحدة هي طائفة المنافقين، وأن العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات.
قال القرطبي: قوله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ... أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ... والواو مقحمة كما في قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهما ... م وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة.
وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة، وقوم يشككون المسلمين.. «1» .
وقد سار صاحب الكشاف على أن هذه الأوصاف لطوائف متعددة من الفاسقين، فقال:
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قوم كان فيهم ضعف إيمان، وقلة ثبات عليه..
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيقولون: هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين.
والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عدائكم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوؤهم وتنوؤهم «2» .
وقوله: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ جواب القسم. أى: لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد، يقال: أغرى فلان فلانا بكذا، إذا حرضه على فعله.
وقوله: ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا معطوف على جواب القسم. أى: لنغرينك بهم ثم لا يبقون بعد ذلك مجاورين لك فيها إلا زمانا قليلا، يرتحلون بعده بعيدا عنكم، لكي تبتعدوا عن شرورهم.
وجاء العطف بثم في قوله: ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ للإشارة إلى أن إجلاءهم عن المدينة نعمة عظيمة بالنسبة للمؤمنين، ونقمة كبيرة بالنسبة لهؤلاء المنافقين وأشباههم. وقوله: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أى: مطرودين من رحمة الله- تعالى- ومن فضله، أينما وجدوا وظفر بهم المؤمنون.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 246.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 561.(11/248)
ومَلْعُونِينَ منصوب على الحال من فاعل يُجاوِرُونَكَ وثُقِفُوا بمعنى وجدوا.
تقول ثقفت الرجل في الحرب أثقفه، إذا أدركته وظفرت به.
وقوله: أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا بيان لما يحيق بهم من عقوبات عند الظفر بهم.
أى: هم ملعونون ومطرودون من رحمة الله بسبب سوء أفعالهم، فإذا ما أدركوا وظفر بهم، أخذوا أسارى أذلاء، وقتلوا تقتيلا شديدا، وهذا حكم الله- تعالى- فيهم حتى يقلعوا عن نفاقهم وإشاعتهم قالة السوء في المؤمنين، وإيذائهم للمسلمين والمسلمات.
ثم بين- سبحانه- أن سنته قد اقتضت تأديب الفجار والفسقة حتى يقلعوا عن فجورهم وفسقهم فقال: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ... وقوله: لِسُنَّةِ منصوب على أنه مصدر مؤكد. أى: سن الله- تعالى- ذلك سنة، في الأمم الماضية من قبلكم- أيها المؤمنون- بأن جعل تأديب الذين يسعون في الأرض بالفساد، ويؤذون أهل الحق، سنة من سننه التي لا تتخلف.
وَلَنْ تَجِدَ- أيها الرسول الكريم- لِسُنَّةِ اللَّهِ الماضية في خلقه تَبْدِيلًا أو تحويلا، لقيامها على الإرادة الحكيمة، والعدالة القويمة.
ثم بين- سبحانه- أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا هو فقال: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً.
والسائلون هنا قيل: هم اليهود، وسؤالهم عنها كان بقصد التعنت والإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أى: يسألك اليهود وأشباههم في الكفر والنفاق عن وقت قيام الساعة، على سبيل التعنت والامتحان لك.
قُلْ لهم- أيها الرسول الكريم- إِنَّما علم وقت قيامها عند الله- تعالى- وحده، دون أى أحد سواه.
وَما يُدْرِيكَ أى: وما يعلمك لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أى. لعل قيامها وحصولها يتحقق في وقت قريب ولكن هذا الوقت مهما قرب لا يعلمه إلا علام الغيوب- سبحانه-.
ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ويشير إلى إصبعيه السبابة والوسطى.(11/249)
ثم بين- تعالى- ما أعده للكافرين من عقاب فقال: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ بأن طردهم من رحمته، وأبعدهم عن مغفرته.
وَأَعَدَّ لَهُمْ فوق ذلك في الآخرة سَعِيراً أى: نارا شديدة الاشتعال والاتقاد.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: خالدين فيها خلودا أبديا لا خروج لهم منها معه.
لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أى لا يجدون من يحول بينهم وبين الدخول في هذه النار المسعرة، كما لا يجدون من يخلصهم من عذابها وسعيرها.
ثم بين- سبحانه- حسراتهم عند ما يحل بهم العذاب في الآخرة فقال: يوم تقلب وجوههم في النار، يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا.
ويَوْمَ ظرف لعدم الوجدان لمن يدافع عنهم أو ينصرهم أى: لا يجدون من يدفع عنهم العذاب: يوم تقلب وجوههم في النار تارة إلى جهة، وتارة إلى جهة أخرى، كما يقلب اللحم عند شوائه.
وحينئذ يقولون على سبيل التحسر والتفجع: يا ليتنا أطعنا الله- تعالى- فيما أمرنا به، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من عند ربه.
قال صاحب الكشاف: وقوله: تُقَلَّبُ بمعنى تتقلب، ومعنى تقليبها: تصريفها في الجهات، كما ترى البيضة تدور في القدر إذا غلت، فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها، أو طرحها في النار مقلوبة منكوسة.
وخصت الوجوه بالذكر، لأنه الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة «1» .
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، أى: وقال هؤلاء الكافرون- بعد هذا التحسر والتفجع- يا ربنا إنا أطعنا في الدنيا سادَتَنا وَكُبَراءَنا أى: ملوكنا ورؤساءنا وزعماءنا، فجعلونا في ضلال عن الصراط المستقيم، وعن السبيل الحق.
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أى: يا ربنا أنزل بهؤلاء السادات والكبراء عذابا مضاعفا، بسبب ضلالهم في أنفسهم، وبسبب إضلالهم لغيرهم.
وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أى واطردهم من رحمتك، وأبعدهم عن مغفرتك، إبعادا شديدا عظيما، فهم الذين كانوا سببا لنا في هذا العذاب المهين الذي نزل بنا.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 562.(11/250)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
وهكذا نرى الآيات الكريمة، تصور لنا أحوال الكافرين في الآخرة هذا التصوير المؤثر، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
وبعد أن فصلت السورة الكريمة ما فصلت من أحكام، وأرشدت إلى ما أرشدت من آداب، وقصت ما قصت من أحداث.. بعد كل ذلك وجهت في أواخرها نداءين إلى المؤمنين، أمرتهم فيهما بتقوى الله- تعالى- وبالاقتداء بالأخيار من عباده، وباجتناب سلوك الأشرار، كما ذكرتهم بثقل الأمانة التي رضوا بحملها، وبحسن عاقبة الصالحين وسوء عاقبة المكذبين، قال- تعالى-:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
والمراد بالذين آذوا موسى- عليه السلام- في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... قومه الذين أرسله الله إليهم.
فقد حكى القرآن الكريم ألوانا من إيذائهم له، ومن ذلك قولهم له: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ... وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.(11/251)
ومن إيذائهم له- عليه السلام- ما رواه الإمام البخاري والترمذي عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بنى إسرائيل، وقالوا: ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما آفة. وإن الله- تعالى- أراد أن يبرئه مما قالوا، وإن موسى خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، وأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ بنى إسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله- تعالى-، وأبرأه الله- تعالى- مما يقولون..
فذلك قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... «1» .
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، التزموا الأدب والطاعة والاحترام لنبيكم صلّى الله عليه وسلّم واحذروا أن تسلكوا معه المسلك الذي سلكه بنو إسرائيل مع نبيهم موسى- عليه السلام- حيث آذوه بشتى أنواع الأذى.
وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ... واتخاذهم العجل إلها من دون الله في غيبة نبيهم موسى- عليه السلام-..
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أى: فأظهر الله- تعالى- براءته من كل ما نسبوه إليه من سوء.
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أى: وكان عند الله- تعالى- ذا جاه عظيم، ومكانة سامية، ومنزلة عالية، حيث نصره- سبحانه- عليهم، واصطفاه لحمل رسالته..
يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه وقدر..
ثم أمرهم- سبحانه- بمراقبته وبالخوف منه، بعد أن نهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في إيذائهم لنبيهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ...
والقول السديد: هو القول الصادق الصحيح الخالي من كل انحراف عن الحق والصواب، مأخوذ من قولك: سدد فلان سهمه يسدده، إذا وجهه بإحكام الى المرمى الذي يقصده فأصابه. ومنه قولهم: سهم قاصد. إذا أصاب الهدف.
أى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وراقبوه وخافوه في كل ما تأتون وما تذرون، وفي كل ما تقولون وما تفعلون، وقولوا قولا كله الصدق والصواب.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 474.(11/252)
فإنكم إن فعلتم ذلك يُصْلِحْ الله- تعالى- لَكُمْ أَعْمالَكُمْ بأن يجعلها مقبولة عنده وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ التي فرطت منكم، بأن يمحوها عنكم ببركة استقامتكم في أقوالكم وأفعالكم.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل الأقوال والأعمال فَقَدْ فازَ في الدارين فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره، ولا يعلم أحد كنهه وعلو منزلته.
ثم بين- سبحانه- ضخامة التبعة التي حملها الإنسان فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ...
وأرجح الأقوال وأجمعها في المراد بالأمانة هنا: أنها التكاليف والفرائض الشرعية التي كلف الله- تعالى- بها عباده، من إخلاص في العبادة، ومن أداء للطاعات، ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه.
وسمى- سبحانه- ما كلفنا به أمانة، لأن هذه التكاليف حقوق أمرنا- سبحانه- بها، وائتمننا عليها، وأوجب علينا مراعاتها والمحافظة عليها، وأداءها بدون إخلال بشيء منها.
والمراد بالإنسان: آدم- عليه السلام- أو جنس الإنسان.
والمراد بحمله إياها: تقبله لحمل هذه التكاليف والأوامر والنواهي مع ثقلها وضخامتها.
وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهات، فمنهم من يرى أن الكلام على حقيقته، وأن الله- تعالى- قد عرض هذه التكاليف الشرعية المعبر عنها بالأمانة، على السموات والأرض والجبال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها لثقلها وضخامتها وَأَشْفَقْنَ مِنْها أى: وخفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك ما يؤدى بهن إلى عذاب الله وسخطه بسبب التقصير في أداء ما كلفن بأدائه.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أى: وقبل الإنسان حمل هذه الأمانة عند عرضها عليه، بعد أن أبت السموات والأرض والجبال حملها، وأشفقن منها.
إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أى: إنه كان مفرطا في ظلمه لنفسه، ومبالغا في الجهل، لأن هذا الجنس من الناس لم يلتزموا جميعا بأداء ما كلفهم الله- تعالى- بأدائه. وإنما منهم من أداها على وجهها- وهم الأقلون-، ومنهم من لم يؤدها وإنما عصى ما أمره به ربه، وخان الأمانة التي التزم بأدائها.
فالضمير في قوله إِنَّهُ يعود على بعض أفراد جنس الإنسان، وهم الذين لم يؤدوا(11/253)
حقوق هذه الامانة التي التزموا بحملها.
قال الآلوسى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أى: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله ويكفى في صدق الحكم على الجنس بشيء، وجوده في بعض أفراده، فضلا عن وجوده في غالبها.. «1» .
وقال بعض العلماء: ورجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي معروف في اللغة التي نزل بها القرآن.
وقد جاء فعلا في آية من كتاب الله، وهي قوله- تعالى-: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ... لأن الضمير في قوله: وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي، كما هو ظاهر.
وهذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة: عندي درهم ونصفه. أى: ونصف درهم آخر «2» .
وأصحاب هذا الاتجاه يقولون: لا مانع إطلاقا من أن يخلق الله- تعالى- إدراكا ونطقا للسموات والأرض والجبال، ولكن هذا الإدراك والنطق لا يعلمه إلا هو- سبحانه-.
ومما يشهد لذلك قوله- تعالى-: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «3» .
قال الجمل: وكان هذا العرض عليهن- أى على السموات والأرض والجبال تخييرا لا إلزاما، ولو ألزمهن لم يمتنعن عن حملها. والجمادات كلها خاضعة لله- تعالى- مطيعة لأمره، ساجدة له.
قال بعض أهل العلم: ركب الله- تعالى- فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن الخطاب، وأجبن بما أجبن «4» .
ويرى بعضهم أن العرض في الآية الكريمة من قبيل ضرب المثل، أو من قبيل المجاز.
قال الإمام القرطبي ما ملخصه: لما بين- تعالى- في هذه السورة من الأحكام ما بين، أمر بالتزام أوامره، والأمانة تعم جميع وظائف الدين، على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور..
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 96. [.....]
(2) تفسير «أضواء البيان» ج 6 ص 606 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.
(3) سورة الإسراء الآية 44.
(4) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 458.(11/254)
ويصح أن يكون عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال على سبيل الحقيقة..
وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أى: أن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها، لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب.
أى: أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد حمله الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ، لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ....
وقال قوم: إن الآية من المجاز: أى: أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبّر عن هذا بعرض الأمانة. كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد: قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه..
وقيل: عَرَضْنَا يعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة. ورجحت الأمانة بثقلها عليها.. «1» .
ويبدو لنا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى بالقبول، لأنه ما دام لم يوجد مانع يمنع منه، فلا داعي لصرفه عن ذلك.
ومما لا شك أن قدرة الله- تعالى- لا يعجزها أن تخلق في السموات والأرض والجبال إدراكا وتمييزا ونطقا لا يعلمه إلا هو- سبحانه.
واللام في قوله- سبحانه-: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ.. متعلقة بقوله:
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ....
أى: وحملها الإنسان ليعذب الله- تعالى- بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يؤدوا ما التزموا بحمله وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أى: ويقبل الله- تعالى- توبة المؤمنين والمؤمنات، بأن يكفر عنهم سيئاتهم وخطاياهم.
وَكانَ اللَّهُ- تعالى- وما زال غَفُوراً رَحِيماً أى: واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 254.(11/255)
أما بعد: فهذا تفسير لسورة (الأحزاب) نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده..
والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر مساء الخميس: 18 من رمضان سنة 1405 هـ 6/ 6/ 1985 م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(11/256)
تفسير سورة سبأ(11/257)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة سبأ هي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب المصحف، أما في ترتيب النزول فهي السورة السابعة والخمسون، وكان نزولها بعد سورة لقمان.
2- وسورة سبأ من السور المكية الخالصة، وقيل هي مكية إلا الآية السادسة منها وهي قوله- تعالى-: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ.
3- وعدد آياتها خمس وخمسون آية في المصحف الشامي، وأربع وخمسون آية في غيره.
وسميت بهذا الاسم، لاشتمالها على قصة أهل سبأ، وما أصابهم من نقم بسبب عدم شكرهم لنعم الله- تعالى- عليهم.
4- وتبدأ سورة سبأ بالثناء على الله- تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ.
ثم تحكى السورة الكريمة جانبا من أقوال الكافرين في تكذيبهم ليوم القيامة، كما تحكى- أيضا- بعض أقوالهم الباطلة التي قالوها في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم.
5- ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة داود وسليمان- عليهما السلام-، فتحكى ما آتاهم الله- تعالى- إياه من خير وقوة وكيف أنهما قابلا نعم الله- تعالى- بالشكر والطاعة، فزادهما- سبحانه- من فضله وعطائه: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.
وكعادة القرآن الكريم في جمعه بين الترغيب والترهيب، وبين حسن عاقبة الشاكرين، وسوء عاقبة الجاحدين.. جاءت في أعقاب قصة داود وسليمان- عليهما السلام-، قصة قبيلة سبأ، وكيف أنهم قابلوا نعم الله الوفيرة بالجحود والإعراض، فمحقها- سبحانه- من بين أيديهم، كما قال- تعالى-: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.(11/259)
6- ثم ساقت السورة بعد ذلك بأسلوب تلقيني ألوانا من الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وعلى وجوب إخلاص العبادة له.
نرى ذلك في قوله- تعالى-: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ..
وفي قوله- تعالى-: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وفي قوله- عز وجل-: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ، كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
7- ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً.
وعن أحوال الكافرين السيئة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب، وكيف أن كل فريق منهم يلقى التبعة على غيره وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ، بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ.
8- ثم ترد السورة الكريمة على أولئك المترفين، الذين زعموا أن أموالهم وأولادهم ستنفعهم يوم القيامة، فتقرر أن ما ينفع يوم القيامة إنما هو الإيمان والعمل الصالح، وأن الله- تعالى- هو صاحب الإعطاء والمنع والإغناء والإفقار.
قال- تعالى-: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى، إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ.
9- وبعد أن ساقت السورة ما ساقت من شبهات المشركين حول دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وردت عليهم بما يزيد المؤمنين ثباتا على ثباتهم، ويقينا على يقينهم، أتبعت ذلك بدعوة هؤلاء الكافرين إلى التفكير والتدبر على انفراد، في شأن دعوة هذا الرسول الكريم الذي يدعوهم إلى الحق، لعل هذا التفكر يهديهم إلى الرشد.
قال- تعالى-: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ، أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ.(11/260)
ثم ختمت السورة الكريمة بتهديدهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم وعنادهم، وأنهم سيندمون- إذا ما استمروا على كفرهم- ولن ينفعهم الندم.
قال- تعالى-: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
10- وهكذا نرى سورة سبأ قد ساقت أنواعا من الأدلة على وحدانية الله- تعالى-، وعلى أن يوم القيامة حق، وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه.. كما أنها حكت شبهات المشركين، وردت عليهم بما يبطلها، والحمد لله حمدا كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى(11/261)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
التفسير قال الله تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
افتتحت سورة سبأ بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين، وهي أن المستحق للحمد المطلق، والثناء الكامل، هو الله رب لعالمين.
والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
وأل في الحمد للاستغراق، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد، ولكافة ألوان الثناء، هو الله- تعالى-.(11/262)
وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة عليه وحده- سبحانه-، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء، فهو صادر عنه، ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، هو في الحقيقة حمد له- تعالى-، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
وقد اختار- سبحانه- افتتاح هذه السورة بصفة الحمد، دون المدح أو الشكر، لأنه وسط بينهما، إذ المدح أعم من الحمد، لأن المدح يكون للعاقل وغيره، فقد يمدح الإنسان لعقله، وتمدح اللؤلؤة لجمالها، أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر عنه من إحسان.
والحمد أخص من الشكر، لأن الشكر يكون من أجل نعمة وصلت إليك أما الحمد فيكون من أجل نعمة وصلت إليك أو إلى غيرك «1» .
وفي القرآن الكريم خمس سور اشتركت في الافتتاح بقوله- تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ..
وهي سورة الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر.
ولكن لكل سورة من هذه السور، منهج خاص في بيان أسباب أن الحمد لله- تعالى- وحده.
وقد أحسن القرطبي- رحمه الله- عند ما قال: فإن قيل: قد افتتح غيرها أى: سورة الأنعام- بالحمد لله، فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره؟ فالجواب أن لكل واحدة منه معنى في موضعه، لا يؤدى عن غيره، من أجل عقده بالنعم المختلفة، وأيضا- فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون «2» .
والمعنى: الحمد الكامل الشامل لله- تعالى- وحده، لأنه هو، الذي له ما في السموات وما في الأرض، خلقا وملكا وتصرفا، بحيث لا يخرج شيء فيهما عن إرادته ومشيئته.
قوله: وله الحمد في الآخرة، تنبيه إلى أن حمده- عز وجل- ليس مقصورا على الدنيا، بل يشمل الدنيا والآخرة.
فالمؤمنون يحمدونه في الدنيا على ما وهبهم من نعم الإيمان والإحسان، ويحمدونه في الآخرة على ما منحهم من جنة عرضها السموات والأرض، ويقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ «3» .
__________
(1) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام ص 27.
(2) راجع تفسير القرطبي ج 6 ص 384.
(3) سورة الزمر. الآية 74.(11/263)
قال صاحب الكشاف: ولما قال- سبحانه-: الحمد لله، ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، كان معناه: أنه المحمود على نعم الدنيا، تقول: احمد أخاك الذي كساك وحملك، تريد: احمده على كسوته وحملانه.
ولما قال: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب «1» .
وقال الآلوسى: والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل، أن الأول على نهج العبادة، والثاني على وجه التلذذ والاغتباط وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس «2» .
وقال الجمل: فإن قلت: الحمد مدح للنفس، ومدحها مستقبح فيما بين الخلق، فما وجه ذلك؟
فالجواب: ان هذا المدح دليل على أن حاله- تعالى- بخلاف حال الخلق، وأنه يحسن منه ما يقبح من الخلق، وذلك يدل على أنه- تعالى- مقدس عن أن تقاس أفعاله، على أفعال العباد «3» .
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ أى: وهو- تعالى- الذي أحكم أمور الدارين، ودبرها بحكمته، وهو العليم بظواهر عباده وبواطنهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
ثم فصل- سبحانه- بعض مظاهر علمه فقال: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ، والولوج الدخول، يقال: ولج فلان منزله، فهو يلجه ولجا وولوجا، إذا دخله.
أى: أنه- سبحانه- يعلم ما يلج في الأرض وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء، ومن جواهر دفنت في طياتها، ومن بذور ومعادن في جوفها.
ويعلم- أيضا- ما يَخْرُجُ مِنْها من نبات وحبوب وكنوز، وغير ذلك من أنواع الخيرات.
ويعلم كذلك ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من أمطار، وثلوج، وبرد، وصواعق، وبركات، من عنده- تعالى- لأهل الأرض.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 566.
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 103.
(3) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 459.(11/264)
وَما يَعْرُجُ فِيها أى: ويعلم ما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة، كما قال- تعالى-: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
وعدى العروج بفي لتضمنه معنى الاستقرار، وهو في الأصل يعدى بإلى قال- تعالى-:
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وقوله: يَعْرُجُ من العروج، وهو الذهاب في صعود. والسماء جهة العلو مطلقا.
وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أى: وهو- سبحانه- صاحب الرحمة الواسعة، والمغفرة العظيمة، لمن يشاء من عباده.
وهذه الآية الكريمة- مع وجازة ألفاظها- تصور تصويرا بديعا معجزا، مظاهر علم الله- تعالى-، ولو أن أهل الأرض جميعا حاولوا إحصاء ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها لما استطاعوا أن يصلوا إلى إحصاء بعض تلك الحشود الهائلة من خلق الله- تعالى- في أرضه أو سمائه.
ولكن هذه الحشود العجيبة في حركاتها، وأحجامها، وأنواعها، وأجناسها، وصورها، وأحوالها.. قد أحصاها علم الله- تعالى- الذي لا يخفى عليه شيء.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله الكافرون في شأن يوم القيامة، فقال- تعالى- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ.
أى: وقال الذين كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لا تأتينا الساعة بحال من الأحوال، وإنما نحن نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وإذا متنا فإن الأرض تأكل أجسادنا، ولا نعود إلى الحياة مرة أخرى.
وعبروا عن إنكارهم لها بقولهم: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ مبالغة في نفيها نفيا كليا، فكأنهم يقولون: لا تأتينا الساعة في حال من الأحوال، لأننا ننكر وجودها أصلا، فضلا عن إتيانها.
وقد أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يؤكد وجودها وإتيانها تأكيدا قاطعا فقال: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ.
و «بلى» حرف جواب لرد النفي، فتفيد إثبات المنفي قبلها، ثم أكد- سبحانه- ذلك بجملة القسم.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المنكرين لإتيان الساعة: ليس الأمر كما زعمتم، بل هي ستأتيكم بغتة، وحق ربي الذي أوجدنى وأوجدكم.(11/265)
فالجملة الكريمة قد اشتملت على جملة من المؤكدات التي تثبت أن الساعة آتية لا ريب فيها، ومن ذلك التعبير ب بَلى وبالجملة القسمية.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن، مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد: فإحداهن في سورة يونس، وهي قوله- تعالى-: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.
والثانية: هذه الآية التي معنا. والثالثة: في سورة التغابن وهي قوله- تعالى-: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ.. «1» .
وقوله- تعالى-: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ تقوية لتأكيد إتيان الساعة.
قالوا: لأن تأكيد القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه، وقوة إثباته، وصحته، لما أن ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر «2» .
وقوله يَعْزُبُ بمعنى يغيب ويخفى، وفعله من باب «قتل وضرب» . يقال: عزب الشيء يعزب- بضم الزاى وكسرها- إذا غاب وبعد.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المنكرين لإتيان الساعة: كذبتم في إنكاركم وحق الله- تعالى- لتأتينكم، والذي أخبرنى بذلك هو الله- تعالى- عالِمِ الْغَيْبِ أى: عالم ما غاب وخفى عن حسكم، وهو- سبحانه- لا يغيب عن علمه مقدار أو وزن مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك المثقال، ولا أكبر منه، إلا وهو مثبت وكائن في علمه- تعالى- الذي لا يغيب عنه شيء، أو في اللوح المحفوظ الذي فيه تسجل أحوال الخلائق وأقوالهم وأفعالهم.
وقوله- سبحانه-: عالِمِ الْغَيْبِ قرأه بعضهم بكسر الميم على أنه نعت لقوله رَبِّي.
أى: قل بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم الساعة.
وقرأه آخرون بضم الميم على أنه مبتدأ، وخبره جملة: لا يَعْزُبُ عَنْهُ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف. أى: هو عالم الغيب.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 482.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 459.(11/266)
وقوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ تمثيل لقلة الشيء، ودقته، والمراد انه لا يغيب عن علمه شيء ما، مهما دق أو صغر، إذ المثقال: مفعال من الثقل، ويطلق على الشيء البالغ النهاية في الصغر، والذرة تطلق على النملة، وعلى الغبار الذي يتطاير من التراب عند النفخ.
وفي قوله- سبحانه-: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ إعجاز علمي بليغ للقرآن الكريم، إذ كان من المعروف إلى عهد قريب، أن الذرة أصغر الأجسام، فأشار القرآن إلى أن هناك ما هو أصغر منها، وهذا ما اكتشفه العلم الحديث بعد تحطيم الذرة، وتقسيمها إلى جزئيات.
قال الجمل: وقوله: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ العامة على رفع أصغر وأكبر، وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء، والخبر إلا في كتاب، والثاني: العطف على مِثْقالُ، وعلى هذا فيكون قوله: إِلَّا فِي كِتابٍ تأكيد للنفي في لا يَعْزُبُ كأنه قال: لكنه في كتاب مبين.
فإن قيل: فأى حاجة إلى ذكر الأكبر، فإن من علم ما هو أصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب: لما كان الله- تعالى- أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته، فقال: الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر مكتوب أيضا «1» .
واللام في قوله- تعالى- لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. متعلقة بقوله لَتَأْتِيَنَّكُمْ وهي للتعليل ولبيان الحكمة في إتيانها.
أى: لتأتينكم الساعة أيها الكافرون، والحكمة في ذلك ليجزي- سبحانه- الذي آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن الذي يستحقونه.
أُولئِكَ الموصوفون بصفتى الإيمان والعمل الصالح لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة من ربهم لذنوبهم وَلهم كذلك رِزْقٌ كَرِيمٌ تنشرح له صدورهم، وتقرّ به عيونهم.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أى: والذين سعوا في إبطال آياتنا، وفي تكذيب رسلنا مُعاجِزِينَ أى مسابقين لنا، لتوهمهم أننا لا نقدر عليهم، وأنهم يستطيعون الإفلات من عقابنا. يقال: عاجز فلان فلانا وأعجزه إذا غالبه وسبقه.
أُولئِكَ الذين يفعلون ذلك لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أى: لهم عذاب من أسوأ أنواع العذاب وأشده ألما وإهانة.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 460.(11/267)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
وهكذا نرى الآيات الكريمة بعد ثنائها على الله- تعالى- بما هو أهله، وبعد إثباتها لعلمه الذي لا يعزب عنه شيء، وبعد حكايتها لأقوال المشركين وردها عليهم.
بعد كل ذلك تصرح بأن الحكمة من إتيان الساعة، مجازاة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بما يستحقون من ثواب، ومجازاة الذين كفروا وسعوا في آيات الله بالقدح فيها وصد الناس عنها. بما يستحقون من عقاب.
ثم بين- سبحانه- موقف أهل العلم النافع مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وموقف الكافرين من ذلك، ورد- سبحانه- على هؤلاء الكافرين بما يثبت ضلالهم وجهلهم، فقال- تعالى-:
[سورة سبإ (34) : الآيات 6 الى 9]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
والمراد بالرؤية في قوله- تعالى-: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ المعرفة والعلم واليقين. والمراد بالذين أوتوا العلم: المؤمنون الصادقون الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاءهم به من عند ربه، سواء أكانوا من العرب أم من غيرهم، كمؤمنى أهل الكتاب من اليهود والنصارى.(11/268)
والجملة الكريمة مستأنفة لمدح هؤلاء العلماء العقلاء على إيمانهم بالحق، أو معطوفة على يجزى في قوله- تعالى- قبل ذلك: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
والمراد ب الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ القرآن الكريم.
والمعنى: لا تحزن- أيها الرسول الكريم- لما يقوله الكافرون بشأنك ولما يفعلونه لإبطال دعوتك، فإن الذين أوتوا العلم وهم أتباعك الصادقون، يعلمون ويعتقدون أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق الذي لا يحوم حوله باطل، وهو الصدق الذي لا يشوبه كذب، وهو الكتاب الذي يهدى من اتبعه وأطاع توجيهاته إلى دين الله- تعالى-، العزيز، الذي يقهر ولا يقهر الْحَمِيدِ أى المحمود في جميع شئونه.
والمفعول الأول ليرى قوله: الَّذِي أُنْزِلَ.. والمفعول الثاني «الحق» و «هو» ضمير فصل متوسط بين المفعولين و «يهدى» معطوف على المفعول الثاني من باب عطف الفعل على الاسم لتأويله به، أى: يرونه حقا وهاديا.
وعبر- سبحانه- عن إيمان أهل العلم بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
وَيَرَى، للإشعار بأنهم قد آمنوا هذا الإيمان الجازم عن إدراك ومشاهدة ويقين، وأنهم قد صاروا لا يشكون في كون هذا المنزّل عليه من ربه، هو الحق الهادي إلى الصراط المستقيم.
وفي وصفهم بقوله: أُوتُوا الْعِلْمَ ثناء عظيم عليهم، لأنهم انتفعوا بعلمهم وسخروه لخدمة الحق، وللشهادة له بأنه حق، ويهدى إلى السعادة الدينية والدنيوية والأخروية.
وهكذا العلماء العاملون بمقتضى علمهم النافع. يكونون أنصارا للحق والهدى في كل زمان ومكان.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله أولئك الكافرون فيما بينهم، على سبيل الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ....
وتمزيق الشيء: تخريقه وجعله قطعا قطعا. يقال: ثوب ممزق ومزيق. إذا كان مقطعا مخرقا. والمراد بالرجل: الرسول صلى الله عليه وسلم.
أى: وقال الذين كفروا بعضهم لبعض، ألا تريدون أن ندلكم ونرشدكم إلى رجل، هذا الرجل يخبركم ويحدثكم، بأنكم إذا متم، وفرقت أجسامكم في الأرض كل تفريق، وصرتم رفاتا وعظاما، وأصبحتم طعاما في بطون الطيور والوحوش.(11/269)
إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أى: إنكم بعد هذا التمزيق والتفريق، تخلقون خلقا جديدا، وتعودون إلى الحياة مرة أخرى، للحساب على أعمالكم التي عملتموها في حياتكم.
وقالوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ وهو صلى الله عليه وسلم أشهر من نار على علم بينهم، لقصد تجاهل أمره، والاستخفاف بشأنه، والاستهزاء بدعوته.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا بينهم، فما معنى قولهم: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول؟
قلت: كانوا يقصدون بذلك الطّنز- أى: الاستخفاف والسخرية- فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجى التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، متجاهلين به وبأمره «1» .
وقال الآلوسى- رحمه الله-: وقوله: يُنَبِّئُكُمْ أى يحدثكم بأمر مستغرب عجيب ... وإذا في قوله: إِذا مُزِّقْتُمْ شرطية، وجوابها محذوف لدلالة ما بعده عليه.
أى: تبعثون أو تحشرون، وهو العامل في «إذا» على قول الجمهور. والجملة الشرطية بتمامها معمولة لقوله: يُنَبِّئُكُمْ لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق تبعثون، ثم أكد ذلك بقوله- تعالى-: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ «2» .
وقوله- سبحانه- بعد ذلك: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ حكاية لقول آخر من أقوالهم الباطلة، التي قالوها بشأن ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام لتعجبهم مما قاله صلى الله عليه وسلم لأن قوله لهم: إنكم ستبعثون وتحاسبون يوم القيامة، جعلهم لجهلهم وانطماس عقولهم- يستنكرون ذلك، ويرجعون قوله صلى الله عليه وسلم إلى أمرين: إما افتراء الكذب واختلاقه على الله- تعالى- وإما إصابته بالجنون الذي جعله يقول قولا لا يدرى معناه.
وقد رد الله- تعالى- بما ينفى عن رسوله صلى الله عليه وسلم ما اتهموه به، وبما يثبت جهلهم وغباءهم فقال. بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ.
أى: ليس الأمر كما زعم هؤلاء الكافرون، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخبرهم بأن هناك بعثا وحسابا، به جنة أو افترى على الله كذبا، بل الحق أن هؤلاء الكافرين الذين
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 570. [.....]
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 109.(11/270)
لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب، غارقون في العذاب الذي لا نهاية له. وفي الضلال البعيد عن الحق غاية البعد.
ثم هددهم- سبحانه- بسوء العاقبة، إذا ما استمروا في ضلالهم وجهالاتهم وذكرهم بما يشاهدونه من عجائب قدرته فقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.
والاستفهام للتعجب من حالهم، ومن ذهولهم عن التفكر والتدبر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والمعنى: أعمى هؤلاء الكافرون فلم يعتبروا ولم يتعظوا بما يشاهدونه من مظاهر قدرته- عز وجل- المحيطة بهم من كل جانب والمنتشرة في آفاق السموات وفي جوانب الأرض؟
إن تأملهم في مظاهر قدرتنا الواضحة أمام أعينهم، من شأنه أن يهديهم إلى الحق الذي جاءهم به رسولنا صلّى الله عليه وسلّم ومن شأنه أن يجعلهم يوقنون بأننا إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما فعلنا بقارون.
أَوْ إن نشأ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ والكسف جمع كسفة بمعنى قطعة أى:
لا يعجزنا أن نخسف بهم الأرض. كما لا يعجزنا- أيضا- أن ننزل عليهم قطعا من العذاب الكائن من السماء فنهلكهم، كما أنزلناها على أصحاب الأيكة فأهلكناهم بسبب تكذيبهم وجحودهم.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ.
أى: إن في ذلك الذي ذكرناه من مظاهر قدرتنا الواضحة بين أيديهم، لآية بينة، وعبرة ظاهرة، لكل عبد مُنِيبٍ أى: راجع إلى الله- تعالى- بالتوبة الصادقة، وبالطاعة الخالصة لما جاءه به نبينا صلّى الله عليه وسلم.
ثم ساق- سبحانه- نموذجين من الناس، أولهما: أعطاه الله- تعالى- الكثير من نعمه وفضله وإحسانه، فوقف من كل ذلك موقف المعترف بنعم الله الشاكر لفضله.
وثانيهما: أعطاه الله- تعالى- النعم فوقف منها موقف الجاحد البطر الكنود.
أما النموذج الأول فنراه في شخص النبيين الكريمين داود وسليمان- عليهما السلام- فقد قال- سبحانه- في شأنهما:(11/271)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا بيان لما منّ الله- تعالى- به على عبده داود- عليه السلام- من خير وبركة.
أى: ولقد آتينا عبدنا داود فضلا عظيما، وخيرا وفيرا، وملكا كبيرا، بسبب إنابته إلينا، وطاعته لنا.
ثم فصل- سبحانه- مظاهر هذا الفضل فقال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ والتأويب الترديد والترجيع. يقال: أوّب فلان تأويبا إذا رجّع مع غيره ما يقوله.
والجملة مقول لقول محذوف: أى: وقلنا يا جبال رددى ورجعي مع عبدنا داود تسبيحه لنا، وتقديسه لذاتنا، وثناءه علينا، كما قال- تعالى-: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ.(11/272)
وقوله: وَالطَّيْرَ بالنصب عطفا على قوله فَضْلًا أى: وسخرنا له الطير لتسبح معه بحمدنا. أو معطوف على محل يا جِبالُ أى: ودعونا الجبال والطير إلى التسبيح معه.
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله: يخبر- تعالى- عما أنعم به على عبده ورسوله داود- عليه السلام- مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوى العدد والعدد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم، الذي كان إذا سبح به، تسبح معه الجبال الراسيات، الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات. والغاديات الرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات.
وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع صوت أبى موسى الأشعرى يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال: «لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود» «1» .
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فرق بين هذا النظم وبين أن يقال: «وآتينا داود منا فضلا» تأويب الجبال معه والطير؟
قلت: كم بينهما من الفرق؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية، حيث جعلت الجبال منزلة منزلة العقلاء، الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته «2» .
وقوله- تعالى-: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، بيان لنعمة أخرى من النعم التي أنعم بها- سبحانه- عليه.
أى: وصيرنا الحديد لينا في يده، بحيث يصبح- مع صلابته وقوته- كالعجين في يده، يشكله كيف يشاء، من غير أن يدخله في نار، أو أن يطرقه بمطرقة.
فالجملة الكريمة معطوفة على قوله آتَيْنا، وهي من جملة الفضل الذي منحه- سبحانه- لنبيه داود- عليه السلام-.
وأَنِ في قوله: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ مصدرية على حذف حرف الجر. وسابغات صفة لموصوف محذوف.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 485.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 571.(11/273)
أى: ألنا له الحديد، لكي يعمل منه دروعا سابغات. والدرع السابغ، هي الدرع الواسعة التامة. يقال: سبغ الشيء سبوغا، إذا كان واسعا تاما كاملا. ومنه قولهم: نعمة سابغة، إذا كانت تامة كاملة.
قال- تعالى-: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً «1» .
وقوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ والتقدير هنا بمعنى الإحكام والإجادة وحسن التفكير في عمل الشيء. والسرد: نسج الدروع وتهيئتها لوظيفتها.
أى: آتينا داود كل هذا الفضل الذي من جملته إلانة الحديد في يده، وقلنا له يا داود:
اصنع دروعا سابغات تامات، وأحكم نسج هذه الدروع، بحيث تكون في أكمل صورة، وأقوى هيئة.
روى أن الدروع قبل عهد داود كانت تعمل بطريقة تثقل الجسم، ولا تؤدى وظيفتها في الدفاع عن صاحبها، فألهم الله- تعالى- داود- عليه السلام- أن يعملها بطريقة لا تثقل الجسم ولا تتعبه، وفي الوقت نفسه تكون محكمة إحكاما تاما بحيث لا تنفذ منها الرماح، ولا تقطعها السيوف، وكان الأمر كله من باب الإلهام والتعليم من الله- تعالى- لعبده داود- عليه السلام-.
ثم أمر- سبحانه- داود وأهله بالعمل الصالح فقال: وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أى: واعملوا عملا صالحا يرضيني، فإنى مطلع ومحيط ومبصر لكل ما تعملونه من عمل، وسأجازيكم عليه يوم القيامة بالجزاء الذي تستحقونه.
قال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم. بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم، إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخالي عن الامتنان. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن خير ما أكل المرء من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» «2» .
هذا ما أعطاه الله- تعالى- لنبيه داود من فضل، أما نبيه سليمان بن داود، فقد
__________
(1) سورة لقمان. الآية 20.
(2) تفسير القرطبي ج 14 ص 267.(11/274)
أعطاه- سبحانه- أفضالا أخرى، عبر عنها في قوله- تعالى-: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ.
والغدوة والغداة: أول النهار إلى الزوال. والرواح: من الزوال إلى الغروب.
والمعنى: وسخرنا لنبينا سليمان بن داود- عليهما السلام- الريح، تجرى بأمره في الغدوة الواحدة مسيرة شهر، وتعود بأمره في الروحة الواحدة مسيرة شهر. أى: أنها لسرعتها تقطع في مقدار الغدوة الواحدة ما يقطعه الناس في شهر من الزمان، وكذلك الحال بالنسبة للروحة الواحدة، وهي في كل مرة تسير بأمر سليمان، ووفق إرادته التي منحه الله- تعالى- إياها.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها «1» .
وقوله- سبحانه-: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ «2» .
ثم بين- تعالى- نعمة ثانية من النعم التي أنعم بها على سليمان فقال: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ.
والقطر: هو النحاس المذاب. مأخوذ من قطر الشيء يقطر قطرا وقطرانا، إذا سال.
أى: كما ألنا لداود الحديد، أسلنا لابنه سليمان النحاس وجعلناه مذابا، فكان يستعمله في قضاء مصالحه، كما يستعمل الماء، وهذا كله بفضلنا وقدرتنا.
ثم بين- سبحانه- نعمة ثالثة أنعم بها على سليمان- عليه السلام- فقال: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ.
أى: وسخرنا له من الجن من يكونون في خدمته، ومن يعملون بين يديه ما يريده منهم، وهذا كله بأمرنا ومشيئتنا وقدرتنا.
وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أى: من ينحرف من هؤلاء الجن عما أمرناه به من طاعة سليمان، نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أى: ننزل به عذابنا الأليم، الذي يذله ويخزيه في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 81.
(2) سورة «ص» الآية 36.(11/275)
ثم بين- سبحانه- بعض الأشياء التي كان الجن يعملونها لسليمان- عليه السلام- فقال: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ، وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ.
والمحاريب: جمع محراب. وهو كل مكان مرتفع، ويطلق على المكان الذي يقف فيه الإمام في المسجد، كما يطلق على الغرفة التي يصعد إليها، وعلى أشرف أماكن البيوت.
قالوا والمراد بها: أماكن العبادة، والقصور المرتفعة.
والتماثيل: جمع تمثال وقد يكون من حجر أو خشب أو نحاس أو غير ذلك.
قال القرطبي ما ملخصه: والتماثيل جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة حيوان أو غير حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام، تماثيل أشياء ليست بحيوان.
وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس. فيزدادوا عبادة واجتهادا.
وهذا يدل على أن ذلك كان مباحا في زمانهم، ونسخ ذلك بشرع محمد صلّى الله عليه وسلم «1» .
والجفان: جمع جفنة. وهي الآنية الكبيرة. والجواب: جمع جابية، وهي الحوض الكبير الذي يجبى فيه الماء ويجمع لتشرب منه الدواب.
والقدور: جمع قدر. وهو الآنية التي يطبخ فيها الطعام من نحاس أو فخار أو غيرهما.
وراسيات: جمع راسية بمعنى ثابتة لا تتحرك.
أى: أن الجن يعملون لسليمان- عليه السلام- ما يشاء من مساجد وقصور، ومن صور متنوعة، ومن قصاع كبار تشبه الأحواض الضخمة، ومن قدور ثابتات على قواعدها، بحيث لا تحرك لضخامتها وعظمها.
وقوله- سبحانه-: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ مقول لقول محذوف.
أى: أعطينا سليمان كل هذه النعم، وقلنا له ولأهله: اعملوا يا آل داود عملا صالحا، شكرا لله- تعالى- على فضله وعطائه، وقليل من عبادي هو الذي يشكرني شكرا خالصا على نعمى وفضلي وإحسانى.
وقوله شُكْراً يجوز أن يكون مفعولا لأجله. أى: اعملوا من أجل الشكر، أو مصدرا واقعا موقع الحال. أى: اعملوا شاكرين.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 272.(11/276)
وقَلِيلٌ خبر مقدم. ومِنْ عِبادِيَ صفة له. و، الشَّكُورُ مبتدأ مؤخر.
وهكذا يختم القرآن هذه النعم بهذا التعقيب الذي يكشف عن طبيعة الناس في كل زمان ومكان، حتى يحملهم على أن يخالفوا أهواءهم ونفوسهم، ويكثروا من ذكر الله- تعالى- وشكره.
وحقيقة الشكر: الاعتراف بالنعمة للمنعم، والثناء عليه لإنعامه، واستعمال نعمه- سبحانه- فيما خلقت له.
والإنسان الشكور: هو المتوفر على أداء الشكر، الباذل قصارى جهده في ذلك، عن طريق قلبه ولسانه وجوارحه.
ثم ختم- سبحانه- النعم التي أنعم بها على داود وسليمان، ببيان مشهد وفاة سليمان، فقال: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ.
والمراد بدابة الأرض: قيل هي الأرضة التي تأكل الخشب وتتغذى به، يقال: أرضت الدابة الخشب أرضا- من باب ضرب-، إذا أكلته. فإضافة الدابة إلى الأرض- بمعنى الأكل والقطع- من إضافة الشيء إلى فعله.
ومِنْسَأَتَهُ أى: عصاه التي كان مستندا عليها. وسميت العصا بذلك لأنها تزجر بها الأغنام إذا جاوزت مرعاها. من نسأ البعير- كمنع- إذا زجره وساقه، أو إذا أخره ودفعه.
والمعنى: فلما حكمنا على سليمان- عليه السلام- بالموت، وأنفذناه فيه، وأوقعناه عليه، ما دَلَّهُمْ أى: الجن الذين كانوا في خدمته عَلى مَوْتِهِ بعد أن مات وظل واقفا متكئا على عصاه إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ.
أى: انهم لم يدركوا أنه مات، واستمروا في أعمالهم الشاقة التي كلفهم بها، حتى جاءت الدابة التي تفعل الأرض- أى الأكل والقطع- فأكلت شيئا من عصاه التي كان متكئا عليها، فسقط واقعا بعد أن كان واقفا.
فَلَمَّا خَرَّ أى: فلما سقط سليمان على الأرض تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أى: ظهر لهم ظهورا جليا أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كما يزعم بعضهم.
ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أى: ما بقوا في الأعمال الشاقة التي كلفهم بها سليمان.
وذلك أن الجن استمروا فيما كلفهم به سليمان من أعمال شاقة، ولم يدركوا أنه قد مات،(11/277)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
حتى جاءت الأرضة فأكلت شيئا من عصاه، فسقط على الأرض وهنا فقط علموا أنه قد مات.
قال ابن كثير: يذكر- تعالى- في هذه الآية كيفية موت سليمان- عليه السلام- وكيف عمّى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئا على عصاه، - وهي منسأته- مدة طويلة نحوا من سنة، فلما أكلتها دابة الأرض، - وهي الأرضة- ضعف وسقط إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة- تبينت الجن والإنس أيضا- أن الجن لا يعلمون الغيب، كما كانوا يتوهمون ويواهمون الناس ذلك» «1» .
هذا هو النموذج الأول الذي ساقه الله- تعالى- للشاكرين، متمثلا في موقف داود وسليمان- عليهما السلام- مما أعطاهما- سبحانه- من نعم جزيله..
أما النموذج الثاني- الذي جاء في أعقاب سابقه- فقد ساقه- سبحانه- لسوء عاقبة الجاحدين، متمثلا في قصة قبيلة سبأ، وكيف أنهم قابلوا نعم الله بالبطر، فمحقها- سبحانه- من بين أيديهم وفي شأنهم يقول- عز وجل-:
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 489.(11/278)
ولِسَبَإٍ في الأصل اسم لرجل، وهو: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود، وهو أول ملك من ملوك اليمن..
والمراد به هنا: الحي أو القبيلة المسماة باسمه، فيصرف على الأول ويترك صرفه على الثاني.
وكانوا يسكنون بمأرب باليمن، على مسيرة ثلاثة أيام من صنعاء وكانت أرضهم مخصبة ذات بساتين وأشجار متنوعة، وزاد خيرهم ونعيمهم بعد أن أقاموا سدا، ليأخذوا من مياه الأمطار على قدر حاجتهم، وكان هذا السد يعرف بسد مأرب، ولكنهم لم يشكروا الله- تعالى- على هذه النعم، فسلبها- سبحانه- منهم.
قال ابن كثير: كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس منهم، وكانوا في نعمة وغبطة، وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته فكانوا كذلك ما شاء الله، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد.
أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال: إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن سبأ:
ما هو؟ رجل أم امرأة أم أرض؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: بل هو رجل. كان له عشرة أولاد، سكن اليمن منهم ستة، وهم: مذحج، وكنده، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير. وسكن الشام منهم أربعة وهم: لخم، وجذام، وعاملة، وغسّان..
وإنما سمى «سبأ» لأنه أول من سبأ في العرب- أى: جمع السبايا-، وكان يقال له الرائش، لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه، فسمى الرائش، والعرب تسمى المال- ريشا ورياشا، وذكروا أنه بشر برسول الله صلّى الله عليه وسلم، في زمانه المتقدم» «1» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 491.(11/279)
والمعنى: والله لقد كان لقبيلة سبأ في مساكنهم التي يعيشون فيها آيَةٌ بينة واضحة، وعلامة ظاهرة تدل على قدرة الله- تعالى- وعلى فضله على خلقه وعلى وجوب شكره على نعمه، وعلى سوء عاقبة الجاحدين لهذه النعم.
فالمراد بالآية: العلامة الواضحة الدالة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته وبديع صنعه، ووجوب شكره، والتحذير من معصيته.
ثم وضح- سبحانه- هذه الآية فقال: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أى: كانت لأهل سبأ طائفتان من البساتين والجنان: طائفة من يمين بلدهم، وطائفة أخرى عن شماله.
وهذه البساتين المحيطة بهم كانت زاخرة بما لذ وطاب من الثمار.
قالوا: كانت المرأة تمشى تحت أشجار تلك البساتين وعلى رأسها المكتل، فيمتلئ من أنواع الفواكه التي تتساقط في مكتلها دون جهد منها.
ولفظ جَنَّتانِ مرفوع على البدل من آيَةٌ أو على أنه مبتدأ، وخبره قوله: عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ.
وقوله- تعالى-: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ... مقول لقول محذوف.
أى: وقلنا لهم على ألسنة رسلنا، وعلى ألسنة الصالحين منهم، كلوا من الأرزاق الكريمة، والثمار الطيبة، التي أنعم بها ربكم عليكم، واشكروا له- سبحانه- هذا العطاء، فإنكم إذا شكرتموه زادكم من فضله وإحسانه.
وقوله: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ كلام مستأنف لبيان موجبات الشكر.
أى: هذه البلدة التي تسكنونها بلدة طيبة لاشتمالها على كل ما تحتاجونه من خيرات، وربكم الذي أعطاكم هذه النعم، رب واسع المغفرة والرحمة لمن تاب إليه وأناب، ويعفو عن كثير من ذنوب عباده بفضله وإحسانه.
ثم بين- سبحانه- ما أصابهم بسبب جحودهم وبطرهم فقال: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ، وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ.
والعرم: اسم للوادي الذي كان يأتى منه السيل. وقيل: هو المطر الشديد الذي لا يطاق.
فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة. أى: أرسلنا عليهم السيل الشديد المدمر.
ويرى بعضهم أن المراد بالعرم: السدود التي كانت مبنية لحجز الماء من خلفها، ويأخذون منها لزروعهم على قدر حاجتهم، فلما أصيبوا بالترف والجحود تركوا العناية بإصلاح هذه(11/280)
السدود، فتصدعت، واجتاحت المياه أراضيهم فأفسدتها، واكتسحت مساكنهم، فتفرقوا عنها، ومزقوا شر ممزق، وضربت بهم الأمثال التي منها قولهم: تفرقوا أيدى سبأ. وهو مثل يضرب لمن تفرق شملهم تفرقا لا اجتماع لهم معه.
وهذا ما حدث لقبيلة سبأ، فقد تفرق بعضهم إلى المدينة المنورة كالأوس والخزرج، وذهب بعضهم إلى عمان كالأزد، وذهب بعضهم إلى الشام كقبيلة غسان.
وقوله: ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ الأكل: هو الثمر، ومنه قوله- تعالى-: فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ أى: ثمرها. والخمط: هو ثمر الأراك أو هو النبت المر الذي لا يمكن أكله.
و (الأثل) هو نوع من الشجر يشبه شجر الطرفاء. أو هو نوع من الشجر كثير الشوك و (السدر) هو ما يعرف بالنبق. أو هو نوع من الثمار التي يقل الانتفاع بها.
والمعنى: فأعرض أهل سبأ عن شكرنا وطاعتنا ... فكانت نتيجة ذلك، أن أرسلنا عليهم السيل الجارف، الذي اجتاح أراضيهم، فأفسد مزارعهم، وأجلاهم عن ديارهم، ومزقهم شر ممزق.. وبدلناهم بالجنان اليانعة التي كانوا يعيشون فيها، بساتين أخرى قد ذهبت ثمارها الطيبة اللذيذة، وحلت محلها ثمار مرة لا تؤكل، وتناثرت في أماكنهم الأشجار التي لا تسمن ولا تغنى من جوع، بدلا من تلك الأشجار التي كانت تحمل لهم ما لذ وطاب، وعظم نفعه.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن الجحود والبطر، يؤديان إلى الخراب والدمار، وإلى زوال النعم وتحويلها إلى نقم.
ولذا جاء التعقيب بعد هذه الآية بقوله- تعالى-: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
أى: ذلك الذي فعلناه بهم من تبديل جنتيهم، بجنتين ذواتي أكل خمط.. هو الجزاء العادل لهم بسبب جحودهم وترفهم وفسوقهم عن أمرنا.
وإننا من شأننا ومن سنتنا أننا لا نعاقب ولا نجازي هذا الجزاء الرادع الشديد، إلا لمن جحد نعمنا، وكفر بآياتنا، وآثر الغي على الرشد، والعصيان على الطاعة.
فاسم الإشارة يعود إلى التبديل الذي تحدثت عنه الآية السابقة. وهو المفعول الثاني لجزيناهم مقدم عليه. أى: جزيناهم ذلك التبديل لا غيره. والمراد بالجزاء هنا: العقاب.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ بمعنى: وهل يعاقب.
وهو الوجه الصحيح. وليس لقائل أن يقول: لم قيل: وهل يجازى إلا الكفور، على اختصاص الكفور بالجزاء، والجزاء عام للمؤمن والكافر، لأنه لم يرد الجزاء العام وإنما أريد(11/281)
الخاص وهو العقاب «1» .
ثم بين- سبحانه- نقمة أخرى أصابتهم بسبب جهلهم وحمقهم، وكيف أن هذه النقمة قد حلت محل نعمة كانوا فيها، فقال- تعالى-: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً، وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ، سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ.
أى: وجعلنا- بقدرتنا ورحمتنا بين أهل سبأ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها كمكة في الجزيرة العربية، وكبيت المقدس في بلاد الشام، جعلنا بينهم وبين تلك القرى المباركة، قُرىً ظاهِرَةً أى: قرى متقاربة متواصلة، بحيث يرى من في إحداها غيرها.
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أى: وجعلنا زمن السير من قرية إلى أخرى مقدرا محددا، بحيث لا يتجاوز مدة معينة قد تكون نصف يوم أو أقل.
وقالوا: كان المسافر يخرج من قرية، فيدخل الأخرى قبل حلول الظلام بها.
وقوله: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ مقول لقول محذوف. أى: وقلنا لهم: سيروا في تلك القرى المتقاربة العامرة بالخيرات، والتي توصلكم إلى القرى المباركة.. سيروا فيها ليالي وأياما آمنين من كل شر سواء سرتم بالليل أم بالنهار، فإن الأمن فيها مستتب في كل الأوقات: وفي كل الأحوال.
فالآية الكريمة تحكى نعمة عظمى أخرى أنعم الله- تعالى- بها على أهل سبأ، وهي نعمة تيسير سبل السفر لهم إلى القرى المباركة، وتهيئة الأمان والاطمئنان لهم خلال سفرهم، وهي نعمة عظمى لا يدرك ضخامتها إلا من مارس الأسفار من مكان إلى آخر.
ولكنهم لم يقدروا هذه النعمة، بل بلغ بهم الجهل والحمق والبطر، أنهم دعوا الله- تعالى- بقولهم- كما حكى القرآن عنهم-: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا.
أى: مع أننا بفضلنا وإحساننا قد أعطيناهم تلك النعمة، ومكانهم منها، وهي نعمة تيسير وسائل السفر، ومنحهم الأمان والاطمئنان خلاله.. إلا أنهم- لشؤمهم وضيق تفكيرهم وشقائهم- تضرعوا إلينا وقالوا: يا ربنا اجعل بيننا وبين القرى المباركة، مفاوز وصحارى متباعدة الأقطار، بدل تلك القرى العامرة المتقاربة، فهم- كما يقول صاحب الكشاف-:
بطروا النعمة، وبشموا. أى: سئموا- من طيب العيش، وملوا العافية، فطلبوا النكد والتعب، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم، مكان المن والسلوى «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 576.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 577.(11/282)
وفي هذه الجملة الكريمة قراءات متعددة ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه: فقراءة العامة رَبَّنا- بالنصب- على أنه نداء مضاف.. باعِدْ- بزنة فاعل- سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو رَبَّنا كذلك على الدعاء بعد- بتشديد العين- من التبعيد.
وقرأ يعقوب وغيره ربنا- بالرفع- باعِدْ- بفتح العين والدال- على الخبر. أى: لقد باعد ربنا بَيْنَ أَسْفارِنا «1» .
وقوله: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أى: قالوا ذلك القول السيئ، وظلموا أنفسهم بسببه، حيث أجيب دعاؤهم، فكان نقمة عليهم، لأنهم بعد أن كانوا يسافرون بيسر وأمان، صاروا يسافرون بمشقة وخوف.
وقوله: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بيان لما آل إليه أمرهم.
والأحاديث: جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به الناس على سبيل التلهي والتعجب أى: قالوا ما قالوا من سوء وفعلوا ما فعلوا من منكر، فكانت نتيجة ذلك. أن صيرناهم أحاديث يتلهى الناس بأخبارهم، ويضربون بهم المثل، فيقولون: تفرقوا أيدى سبأ، ومزقناهم كل ممزق في البلاد المتعددة، فمنهم من ذهب إلى الشام، ومنهم من ذهب إلى العراق ... بعد أن كانوا أمة متحدة، يظلها الأمان والاطمئنان، والغنى والجاه ...
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فعلناه بهم بسبب جهلهم وفسوقهم وبطرهم لَآياتٍ واضحات بينات لِكُلِّ صَبَّارٍ على طاعة الله- تعالى- شَكُورٍ له- سبحانه- على نعمه.
وخص- سبحانه- الصبار والشكور بالذكر. لأنهما هما المنتفعان بآياته وعبره ومواعظه.
ثم بين- عز وجل- الأسباب التي أدت إلى جحودهم وفسوقهم فقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
ولفظ صَدَّقَ قرأه بعض القراء السبعة بتشديد الدال المفتوحة، وقرأه البعض الآخر بفتح الدال بدون تشديد. وقوله: عَلَيْهِمْ متعلق بصدق.
وقوله ظَنَّهُ مفعول به على قراءة التشديد، ومنصوب بنزع الخافض على القراءة بالتخفيف، وضمير الجمع في عَلَيْهِمْ وفي فَاتَّبَعُوهُ يعود إلى قوم سبأ.
والمعنى على القراءة بالتشديد: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه في قدرته على إغوائهم، وحقق ما كان يريده منهم من الانصراف عن طاعة الله- تعالى- وشكره، فاتبعوا خطوات الشيطان،
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 14 ص 290.(11/283)
بسبب انغماسهم في الفسوق والعصيان، إلا فريقا من المؤمنين، لم يستطع إبليس إغواءهم لأنهم أخلصوا عبادتهم لخالقهم- عز وجل-، واستمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
والمعنى على القراءة بالتخفيف: ولقد صدق إبليس في ظنه أنه إذا أغواهم اتبعوه، لأنه بمجرد أن زين لهم المعاصي أطاعوه، إلا فريقا من المؤمنين لم يطيعوه.
قال القرطبي ما ملخصه: وقوله: إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نصب على الاستثناء وفيه قولان: أحدهما: أنه يراد به بعض المؤمنين- فتكون من للتبعيض-، لأن كثيرا من المؤمنين يذنبون وينقادون لإبليس في بعض المعاصي. أى: ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق، وهو المقصود بقوله- تعالى-: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ....
والثاني: أن المراد بهم جميع المؤمنين، فعن ابن عباس أنه قال: هم المؤمنون كلهم.
وعلى هذا تكون مِنَ للبيان لا للتبعيض.. «1» .
ثم بين- سبحانه- أن إغواء الشيطان لأهل سبأ ولأشباههم من بنى آدم، لم يكن عن قسر وإكراه، وإنما كان عن اختيار منهم ليتميز الخبيث من الطيب فقال- تعالى-: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ ...
والمراد بالسلطان هنا: التسلط بالقهر والغلبة والإكراه. والمراد بالعلم في قوله- تعالى- إِلَّا لِنَعْلَمَ إظهار هذا العلم للناس ليتميز قوى الإيمان من غيره.
أى: وما كان لإبليس عليهم من سلطان قاهر يجعلهم لا يملكون دفعه، وإنما كان له عليهم الوسوسة التي يملكون صرفها ودفعها متى حسنت صلتهم بنا، ونحن ما أبحنا لإبليس الوسوسة لبنى آدم، إلا لنظهر في عالم الواقع حال من يؤمن بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب وحساب، ولنميزه عمن هو منها في شك وريب وإنكار ...
قال الشوكانى- رحمه الله-: والاستثناء في قوله إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ منقطع أى: لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم.
وقيل: هو متصل مفرغ من أعم العلل. أى: ما كان له عليهم من تسلط بحال من الأحوال، ولا لعلة من العلل، إلا ليتميز من يؤمن ومن لا يؤمن، لأنه- سبحانه- قد علم ذلك علما أزليا. وقال الفراء: إلا لنعلم ذلك عندكم. والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 293. [.....]
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 4 ص 322.(11/284)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أى: وربك- أيها الرسول الكريم- على كل شيء رقيب وحفيظ، بحيث لا يخرج شيء عن حفظه وهيمنته وعلمه وقدرته.
وهكذا نجد القرآن قد ساق لنا قصتين متعاقبتين، إحداهما تدل على أن طاعة الله- تعالى- وشكره، وإخلاص العبادة له، وحسن الصلة به- سبحانه-، كل ذلك يؤدى إلى المزيد من نعمه- تعالى-، كما حدث لداود وسليمان- عليهما السلام-.
وأما الثانية فتدل على أن الجحود والبطر والانغماس في المعاصي والشهوات. كل ذلك يؤدى إلى زوال النعم، كما حدث لقبيلة سبأ.
وصدق الله إذ يقول: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «1» .
ثم نجد السورة الكريمة بعد ذلك، تلقن النبي صلى الله عليه وسلم الحجج التي تؤيد ما هو عليه من حق وصدق، وتزهق ما عليه أعداؤه من باطل وكذب.. فتقول:
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 27]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
__________
(1) سورة يوسف. الآية 111.(11/285)
والأمر بالدعاء في قوله- سبحانه-: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. للتوبيخ والتعجيز. ومفعولا زَعَمْتُمْ محذوفان.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين على سبيل التقريع والتعجيز: هؤلاء آلهتكم الذين زعمتموهم آلهة من دون الله، اطلبوا منهم أن ينفعوكم أو أن يرفعوا عنكم ضرا نزل بكم، إنهم بالقطع لن يستطيعوا شيئا من ذلك.
ولذا جاء التأكيد على عجز هذه الآلهة المزعومة بعد ذلك في قوله- تعالى-: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ...
أى: هؤلاء الشركاء لا يملكون شيئا ما قل أو كثر لا في السموات ولا في الأرض، بل الذي يملك كل شيء، هو الله- تعالى- وحده.
فالجملة الكريمة مستأنفة لبيان حال هذه الآلهة، وللكشف عن حقيقتها.
والتعبير بعدم ملكيتهم لمثقال ذرة، المقصود به أنهم لا يملكون شيئا على الإطلاق، لأن مثقال الذرة أقل ما يتصور في الحقارة والقلة.
وذكر- سبحانه- السموات والأرض لقصد التعميم، إذ هما محل الموجودات الخارجية.
أى: لا يملكون شيئا ما في هذا الكون العلوي والسفلى.
وبعد أن نفى عن الشركاء الملكية الخالصة لأى شيء في هذا الكون، أتبع ذلك بنفي ملكيتهم لشيء ولو على سبيل المشاركة، فقال- تعالى-: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ.
أى: أن هؤلاء الذين زعمتموهم شركاء لله- تعالى- في العبادة، لا يملكون شيئا ما في هذا الكون ملكية خاصة، ولا يملكون شيئا ما- أيضا- على سبيل المشاركة لغيرهم. وليس لله-(11/286)
تعالى- أحد يعينه أو يظاهره فيما يريد من إيجاد أو إعدام، بل الأمر كله إليه وحده.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد نفت عن تلك الآلهة المزعومة، ملكية أى شيء في هذا الكون، سواء أكانت ملكية خالصة، أم ملكية على سبيل المشاركة، وأثبتت أن المالك والمتصرف في هذا الكون إنما هو الله- تعالى- وحده، دون أن يكون في حاجة إلى عون من تلك الآلهة أو من غيرها.
ثم نفى- سبحانه- أن تكون هناك شفاعة من أحد لأحد إلا بإذنه- تعالى- فقال: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.
والشفاعة: من الشفع الذي هو ضد الوتر- أى: الفرد-، ومعناها: انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه ما يمكن دفعه من ضر.
أى: ولا تنفع الشفاعة عند الله- تعالى- من أحد لأحد، إلا لمن أذن الله- تعالى- له في ذلك.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد نفى شفاعة الأصنام لعابديها، لكنه- سبحانه- ذكر ذلك على وجه عام، ليكون طريقا برهانيا. أى: لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال، أو كائنة لمن كانت، إلا كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة.
ومن البين أنه لا يؤذن في الشفاعة للكفار، فقد قال- تعالى-: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب، وعدم الإذن للأصنام أبين وأبين، فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية ... «1» .
وقوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ.. بيان لما يكون عليه المنتظرون للشفاعة، من لهفة وقلق.
والتضعيف في قوله فُزِّعَ للسلب. كما في قولهم: مرّضت المريض إذا عملت على إزالة مرضه.
فمعنى: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ: كشف الفزع عنها، وهدأت أحوالها بعد أن أصابها ما أصابها من هول وخوف في هذا اليوم الشديد، وهو يوم القيامة.
وحَتَّى غاية لما فهم من الكلام قبلها، من أن هناك تلهفا وترقبا من الراجين للشفاعة ومن الشفعاء، إذ الكل منتظر بقلق لما يؤول إليه أمره من قبول الشفاعة أو عدم قبولها.
والمعنى: ولا تقبل الشفاعة يوم القيامة من أحد إلا لمن أذن الله- تعالى- له في ذلك، وفي
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 136.(11/287)
هذا اليوم الهائل الشديد، يقف الناس في قلق ولهفة منتظرين قبول الشفاعة فيهم. حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بسبب إذن الله- تعالى- في قبولها ممن يشاء ولمن يشاء، واستبشر الناس وقال بعضهم لبعض، أو قالوا للملائكة: ماذا قالَ رَبُّكُمْ أى:
ماذا قال ربكم في شأننا ومصيرنا.
وهنا تقول لهم الملائكة، أو يقول بعضهم لبعض: قالُوا الْحَقَّ أى: يقولون قال ربنا القول الحق وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى.
فلفظ الْحَقَّ منصوب بفعل مضمر. أى: قالوا قال ربنا الحق أو صفة لموصوف محذوف. أى: قالوا: قال ربنا القول الحق.
وَهُوَ- سبحانه- الْعَلِيُّ أى: المتفرد بالعلو فوق خلقه الْكَبِيرُ أى: المتفرد بالكبرياء والعظمة.
قال صاحب الكشاف- رحمه الله-: فإن قلت: بم اتصل قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، ولأى شيء وقعت حتى غاية؟.
قلت: اتصل بما فهم من هذا الكلام، من أن ثم انتظارا للإذن، وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أولا؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملىّ من الزمان، وطول التربص ...
كأنه قيل: ينتظرون ويتوقفون كليا فزعين وهلين، حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن: تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا ماذا قالَ رَبُّكُمْ، قالُوا قال الْحَقَّ أى: القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.. «1» .
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم للمرة الثانية على سبيل التنبيه والتوبيخ، من الذي يملك أن يرزقهم، فقال- سبحانه-: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين: من الذي يرزقكم من السماء بالمطر وغيره، ويرزقكم من الأرض بالنباتات والمعادن وغير ذلك من المنافع.
وقوله- تعالى-: قُلِ اللَّهُ جواب على هذا السؤال، وهو جواب لا يملكون إلا الاعتراف به.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 580.(11/288)
أى: قل لهم منبها ولافتا أنظارهم إلى ما هم فيه من جهل: الله وحده هو الذي يرزقكم بما لا يحصى من الأرزاق التي بعضها من السموات، وبعضها من الأرض.
وقوله- سبحانه-: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ داخل في حيز الأمر السابق، ولكن بأسلوب فيه ما فيه من الحكمة والتلطف، ومن حمل المخاطب على التفكر والتدبر حتى يعود إلى الرشد والصواب.
أى: وقل لهم- أيضا- أيها الرسول الكريم- لقد علمتم- يا معشر المشركين أن المستحق للعبادة هو الله- تعالى- وحده، لأنه هو الذي خلقكم ورزقكم من السموات والأرض ...
وإن أحدنا لا بد أن يكون على الهدى والآخر على الضلال. وسنترك تحديد من هو المهتدى ومن هو الضال لعقولكم وضمائركم.
وستعلمون- علم اليقين- بعد التفكر والتدبر أننا نحن المسلمين على الحق، وأنتم يا معشر المشركين على الباطل..
فالجملة الكريمة لون من ألوان الدعوة إلى الله- تعالى- بأسلوب مهذب حكيم، من شأنه أن يحمل القلوب النافرة عن الحق، إلى الاستسلام له، والدخول فيه..
قال القرطبي: وقوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ هذا على وجه الإنصاف في الحجة، كما يقول القائل لغيره: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق، وأن صاحبه كاذب، والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن، والآخر ضال وهو أنتم، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب.
والمعنى: أنتم الضالون حين أشركتم بالله الذي يرزقكم من السموات والأرض ... «1» .
وقوله: أَوْ إِيَّاكُمْ معطوف على اسم إن، وخبرها هو المذكور. وحذف خبر الثاني للدلالة عليه.
أى: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.
ثم أتبع- سبحانه- هذا الكرم الحكيم في الدعوة إلى الحق، بكلام لا يقل عنه حكمة وبلاغة فقال: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أى: وقل لهم للمرة الثالثة- أيها الرسول الكريم- أنتم- أيها المشركون- لا تسألون يوم القيامة عن إجرامنا في حق أنفسنا- إن كنا قد أجرمنا وأخطأنا في حقها-، ونحن- أيضا- لا يسألنا الله- تعالى-
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 298.(11/289)
عن سبب بقائكم في الكفر وفي الأعمال السيئة، لأننا قد بلغناكم رسالة ربكم- عز وجل-، ونصحناكم بالإقلاع عن الشرك والمعاصي.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-، وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ «1» .
ثم أمره- سبحانه- أن يذكرهم بيوم القيامة وما فيه من حساب دقيق، فقال: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ.
أى: وقل لهم- أيها الرسول الكريم- إن الله- تعالى- بقدرته سيجمعنا وإياكم يوم القيامة، ثم يحكم بيننا جميعا بحكمه العادل، وهو- سبحانه- الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أى: الحاكم في كل أمر بالحكم الحق، المطلع على جميع أحوال عباده.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات بتوجيه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقول لهم قولا يخرس به ألسنتهم، ويبطل حججهم فقال: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ والرؤية هنا بصرية.
ومفعولها الأول الياء، ومفعولها الثاني الاسم الموصول، ولفظ شركاء: حال.
أى: وقل لهم- أيضا- للمرة الخامسة على سبيل إلزامهم الحجة: أرونى وأطلعونى على أصنامكم التي ألحقتموها بالله- تعالى- في العبادة، واتخذتموها شركاء له في الطاعة ... إنها ما هي إلا أشياء لا تضر ولا تنفع، وأنتم تعرفون ذلك عنها، وها هي أمامكم واقعها وحالها ينبئ بعجزها التام، فكيف أشركتموها مع الله- تعالى- في العبادة والطاعة؟
فالمقصود من الرؤية إشهادهم على عجزها، وتبكيتهم على جهالاتهم، وحضهم على نبذ الشركاء، وإخلاص العبادة لله الواحد القهار.
ويحتمل أن تكون الرؤية هنا علمية، فيكون لفظ شُرَكاءَ هو المفعول الثالث.
أى: عرفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله- تعالى- في العبادة.
ثم زجرهم- سبحانه- عن هذا الضلال فقال: كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى:
كلا ليس الأمر كما زعمتم من أن لله- تعالى- شركاء، بل هو- سبحانه- العزيز الذي لا يغلبه غالب، الحكيم في كل أقواله وأفعاله.
وهكذا نجد الآيات الكريمة قد لقنت النبي صلى الله عليه وسلم الحجج التي يرد بها على المشركين، والتي من شأنها أن تحملهم على اعتناق الحق، واجتناب الباطل، لو كانوا يعقلون.
__________
(1) سورة يونس الآية 41.(11/290)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
ثم بين- سبحانه- وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم ورد على شبهات المشركين فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 30]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قال الآلوسى: المتبادر أن كَافَّةً حال من الناس، قدم «إلا» عليه للاهتمام وأصله من الكف بمعنى المنع، وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج، واشتهر في ذلك حتى قطع فيه النظر عن معنى المنع بالكلية. فمعنى جاء الناس كافة: جاءوا جميعا..
قال ابن عباس: أرسل الله- تعالى- محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم، فأكرمهم على الله- تعالى- أطوعهم له ... «1» .
أى: وما أرسلناك- أيها الرسول الكريم- إلا إلى الناس جميعا، لتبشر المؤمن منهم بحسن الثواب، وتنذر من أعرض عن الحق الذي جئت به بسوء العقاب. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ هذه الحقيقة، وهي عموم رسالتك وكونك بشيرا ونذيرا.
وَيَقُولُونَ أى: المشركون على سبيل الاستهزاء بما جئتهم به مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا به وهو قيام الساعة، وما فيها من حساب وثواب وعقاب.
أخبرونا عنه- أيها المؤمنون- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تحدثوننا عنه، وفيما تدعوننا إليه من إيمان.
وهنا أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ردا فيه كل معاني التهديد والوعيد فقال: قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ومِيعادُ يجوز أن يكون مصدرا مرادا به الوعد، وأن يكون اسم زمان، والإضافة للبيان.
والمراد بالساعة الوقت الذي هو في غاية القلة. وليس ما اصطلح عليه الناس من كونها ستين دقيقة.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 141.(11/291)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
اى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- لا تتعجلوا- ايها الكافرون- ما أخبرتكم عنه من أن يوم القيامة آت لا ريب فيه، ومن أن العاقبة الطيبة ستكون لنا لا لكم فإن لكم ميقاتا محددا، وموعدا معلوما، عند ما يأذن الله- تعالى- بحلوله وبانتهاء حياتكم ويبعثكم..
لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً من الزمان وَلا تَسْتَقْدِمُونَ عنه ساعة كما قال- تعالى-: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1» .
وكما قال- سبحانه-: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «2» .
ثم حكى- سبحانه- بعض الأقوال الباطلة التي قالها المشركون في شأن القرآن الكريم، وصور أحوالهم السيئة يوم العرض والحساب، وكيف أن كل فريق منهم صار يلقى التبعة على غيره، قال- تعالى-:
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
__________
(1) سورة نوح الآية 4.
(2) سورة هود الآيتان 104- 105.(11/292)
والمراد بالذي بين يديه في قوله- تعالى-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ..: الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل.
قالوا: وذلك لأن المشركين سألوا بعض أهل الكتاب، عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروهم بأن صفاته في التوراة والإنجيل، فغضبوا وقالوا ما قالوا.. «1» .
أى: وقال الذين كفروا بإصرار وعناد وجحود لكل ما هو حق: قالوا لن نؤمن بهذا القرآن الذي جئت به يا محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند ربك، ولا نؤمن- أيضا- بالكتب السماوية الأخرى التي تؤيد أنك رسول من عند الله- تعالى- فالآية الكريمة تحكى ما جبل عليه هؤلاء الكافرون من تصميم على الباطل، ومن نبذ للحق مهما تعددت مصادره.
قال الإمام الرازي: لما بين- سبحانه- الأمور الثلاثة، من التوحيد والرسالة والحشر، وكانوا بالكل كافرين، بيّن كفرهم العام بقوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ، وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وقوله: وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ المشهور أنه التوراة والإنجيل، وعلى هذا فالمراد بالذين كفروا، المشركون المنكرون للنبوات والحشر.
ويحتمل أن يكون المعنى: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بما فيه من الأخبار والآيات والدلائل فيكون المراد بالذي بين يديه ما اشتمل عليه من أخبار وأحكام- ويكون المراد بالذين كفروا عموم الكافرين بما فيهم أهل الكتاب لأن الجميع لا يؤمن بالقرآن ولا بما اشتمل عليه «2» .
وقوله- تعالى-: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ بيان لأحوالهم السيئة يوم القيامة، ولإصرارهم على الكفر.
ولَوْ شرطية، وجوابها محذوف كما أن مفعول تَرى محذوف أيضا ومَوْقُوفُونَ أى محبوسون للحساب يوم القيامة.
يقال: وقفت الرجل عن فعل هذا الشيء، إذا منعته وحجزته عن فعله.
أى: ولو ترى- أيها المخاطب- حال الظالمين وقت احتباسهم عند ربهم يوم القيامة، وهم يتحاورون ويتجادلون فيما بينهم بالأقوال السيئة وكل فريق، يلقى التبعة على غيره.
لو ترى ذلك لرأيت أمرا عجيبا، وحالا فظيعة، تنفطر لها القلوب، وترتعد من هولها النفوس.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 144.
(2) تفسير الفخر الرازي- بتصرف وتلخيص ج 7 ص 18.(11/293)
والتعبير بقوله- سبحانه-: مَوْقُوفُونَ يشعر بذلتهم وبؤسهم، فهم محبوسون للحساب على غير إرادة منهم، كما يحبس المجرم في سجنه انتظارا لمصيره السيئ.
وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ تبكيت وتوبيخ لهم، على ما كانوا يفعلونه في الدنيا من إنكار لليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب وحساب.
وقوله- سبحانه-: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ تفصيل لجانب من محاوراتهم فيما بينهم، ولما كانوا يراجعون فيه القول بعضهم مع بعض.
والمراد بالذين استضعفوا: الأتباع والعامة من الناس، والمراد بالذين استكبروا: الزعماء والقادة والرؤساء.
أى: يقول الأتباع من الكافرين لقادتهم ورؤسائهم بغيظ وحسرة: لولا أنتم منعتمونا عن اتباع الحق لكنا مؤمنين به، ومتبعين لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم.
إنهم يقولون لهم في موقف الحساب يوم القيامة، ما كانوا عاجزين عن قوله في الدنيا.
عند ما كانوا مستذلين لهم، وخاضعين لسلطانهم.
وهنا يرد الزعماء باستنكار وضيق، ويحكى ذلك القرآن فيقول: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا على سبيل التوبيخ والتقريع أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ
كلا، إننا ما فعلنا ذلك، ولسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين اتباع الحق.
بَلْ أنتم الذين كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ في حق أنفسكم، حيث اتبعتمونا باختياركم، ورضيتم عن طواعية منكم أن تتبعوا غيركم بدون تفكر أو تدبر للأمور.
ولم يقتنع الأتباع بما رد به عليهم السادة والكبراء، بل حكى القرآن للمرة الثانية ردهم عليهم فقال: وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في الرد عليهم بحسرة وألم:
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أى قالوا لهم أنتم لستم صادقين في قولكم لنا: إنكم لم تصدونا عن اتباع الهدى بعد إذ جاءنا بل إن مكركم بنا الليل والنهار وإغراءكم لنا بالبقاء على الكفر.
وتهديدكم إيانا بالقتل أو التعذيب إذا ما خالفناكم، وأمركم لنا بأن نكفر بالله- تعالى- ونجعل له أندادا، أى شركاء في العبادة والطاعة. كل ذلك هو الذي حال بيننا وبين اتباع الحق الذي جاءنا به الرسول صلّى الله عليه وسلم.
والمكر: هو الاحتيال والخديعة. يقال مكر فلان بفلان، إذا خدعه وأراد به شرا.
وهو هنا فاعل لفعل محذوف والتقدير: بل الذي صدنا عن الإيمان مكركم بنا في الليل(11/294)
والنهار، فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف اتساعا.
وقوله: إِذْ تَأْمُرُونَنا.. ظرف للمكر. أى: بل مكركم الدائم بنا وقت أمركم لنا بأن نكفر بالله ونجعل له أشباها ونظراء نعبدها من دونه- تعالى- هو الذي حال بيننا وبين اتباع الحق والهدى.
قال الجمل: وقوله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يجوز رفع مَكْرُ من ثلاثة أوجه:
أحدها: على الفاعلية بتقدير: بل صدنا مكركم في هذين الوقتين، الثاني ان يكون مبتدأ خبره محذوف. أى: مكر الليل صدنا عن اتباع الحق. الثالث: العكس، أى: سبب كفرنا مكركم. وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازى كقولهم: ليل ماكر، فيكون مصدرا مضافا لمرفوعه وإما على الاتساع في الظرف، فجعل كالمفعول به فيكون مضافا لمنصوبه «1» .
والضمير المرفوع في قوله- سبحانه-: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يعود إلى الأتباع والزعماء. وأسروا من الإسرار بمعنى الكتمان والإخفاء.
أى: وأضمر الذين استضعفوا والمستكبرون الندامة والحسرة حين شاهدوا العذاب المعد لهم جميعا، وذلك لأنهم بهتوا وشهدوا حين عاينوه، ودفنت الكلمات في صدورهم فلم يتمكنوا من النطق بها وأصابهم ما أصابهم من الكمد الذي يجعل الشفاه لا تتحرك، والألسنة لا تنطق.
فالمقصود من إسرار الندامة: بيان عجزهم الشديد عن النطق بما يريدون النطق به لفظاعة ما شهدوه من عذاب غليظ قد أعد لهم.
وقيل إن أَسَرُّوا النَّدامَةَ بمعنى أظهروها: لأن لفظ أسر من الأضداد.
قال الآلوسى ما ملخصه: وَأَسَرُّوا أى: أضمر الظالمون من الفريقين النَّدامَةَ على ما كان منهم في الدنيا.. لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق.
وقيل: أسروا الندامة. بمعنى أظهروها، فإن لفظ «أسر» من الأضداد، إذ الهمزة تصلح للإثبات وللسلب، فمعنى أسره: جعله سره، أو أزال سره.. «2» .
ثم بين- سبحانه- ما حل بهم من عذاب بسبب كفرهم فقال: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 475.
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 146.(11/295)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
والأغلال. جمع غل وهي القيود التي يقيد بها المجرمون.
أى: وجعلنا القيود في أعناق الذين كفروا جميعا، سواء منهم من كان تابعا أم متبوعا. وما جزيناهم بهذا الجزاء المهين الأليم، إلا بسبب أعمالهم السيئة. وأقوالهم القبيحة.
وهكذا نرى الآيات الكريمة تصور لنا تصويرا مؤثرا بديعا، ما يكون عليه الكافرون يوم القيامة من حسرة وندم، ومن عداوة وبغضاء، ومن تهم يلقيها كل فريق على الآخر، بدون احترام من المستضعفين لزعمائهم الذين كانوا يذلونهم في الدنيا، بعد أن سقطت وزالت الهيبة الزائفة التي كان الزعماء يحيطون بها أنفسهم في الحياة الدنيا، وأصبح الجميع يوم الحساب في الذلة سواء وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.
ثم تحكى السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من الأقوال الزائفة، التي كان المترفون يتذرعون بها للبقاء على كفرهم، ومن الإجابات التي لقنها- سبحانه- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم لكي يخرس بها ألسنتهم، ويزيل بها شبهاتهم قال- تعالى-:
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)(11/296)
قال صاحب الكشاف عند تفسيره لقوله- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ... : هذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد، والتكبر بذلك على المؤمنين.. وأنه- سبحانه- لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير، إلا قالوا له مثل ما قال أهل مكة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» .
والمعنى: وما أرسلنا في قرية، من القرى مِنْ نَذِيرٍ ينذر أهلها بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم. إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أى: إلا قال أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها المتسعون في النعم فيها، لمن جاءوا لإنذارهم وهدايتهم إلى الحق.
إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ من الدعوة إلى عبادة الله- تعالى- كافِرُونَ بما نحن عليه من شرك وتقليد للآباء مؤمنون.
فالآية الكريمة تحكى موقف المترفين في كل أمة، من الرسل الذين جاءوا لهدايتهم، وأن هؤلاء المترفين في كل زمان ومكان، كانوا أعداء للأنبياء وللمصلحين، لأن الترف من شأنه أن يفسد الفطرة، ويبعث على الغرور والتطاول، ويحول بين الإنسان وبين التمسك بالفضائل والقيم العليا، ويهدى إلى الانغماس في الرذائل والشهوات الدنيا.
ثم يحكى القرآن الكريم أن هؤلاء المترفين لم يكتفوا بإعلان كفرهم، وتكذيبهم للأنبياء والمصلحين، بل أضافوا إلى ذلك التبجح والتعالي على المؤمنين. فقال- تعالى-:
وَقالُوا أى المترفون الذين أبطرتهم النعمة للمؤمنين الفقراء نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً منكم- أيها المؤمنون-، إذ أموالنا أكثر من أموالكم، وأولادنا أكثر من أولادكم، ولولا أننا أفضل عند الله منكم، لما أعطانا. مالا يعطيكم ...
فنحن نعيش حياتنا في أمان واطمئنان وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ بشيء من العذاب الذي تعدوننا به لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال الامام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: افتخر المترفون- بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم، واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا، ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك. قال- تعالى-: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 585. [.....]
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 509.(11/297)
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يصحح لهؤلاء المترفين خطأهم، وأن يكشف لهم عن جهلهم، وأن يبين لهم أن مسألة الغنى والفقر بيد الله- تعالى- وحده، وأن الثواب والعقاب لا يخضعان للغنى أو للفقر، وإنما يتبعان الإيمان أو الكفر، فقال- تعالى- قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
وبسط الرزق: سعته وكثرته. وتقديره: تقليله وتضييقه.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الجاهلين إِنَّ رَبِّي وحده هو الذي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسطه له وَيَقْدِرُ أى: ويقتر الرزق ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه. والأمر في كلتا الحالتين مرده إلى الله- تعالى- وحده، على حسب ما تقتضيه حكمته في خلقه.
وربما يوسع رزق العاصي ويضيق رزق المطيع. أو العكس، وربما يوسع على شخص في وقت ويضيق عليه في وقت آخر، ولا ينقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب، لأن مناطهما الطاعة وعدمها.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ هذه الحقيقة التي اقتضتها حكمة الله- تعالى- وإرادته، فزعموا أن بسط الرزق دليل الشرف والكرامة، وأن ضيق الرزق دليل الهوان والذل، ولم يدركوا- لجهلهم وانطماس بصائرهم- أن بسط الرزق قد يكون للاستدراج، وأن تضييقه قد يكون للابتلاء والاختبار، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.
ثم زاد- سبحانه- هذه القضية توضيحا وتبيينا فقال: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى.
الزلفى: مصدر كالقربى، وانتصابه على المصدرية من معنى العامل. أى ليست كثرة أموالكم، ولا كثرة أولادكم بالتي من شأنها أن تقربكم إلينا قربى، لأن هذه الكثرة ليست دليل محبة منا لكم، ولا تكريم منا لكم، وإنما الذي يقربكم منا هو الإيمان والعمل الصالح.
كما وضح- سبحانه- هذه الحقيقة في قوله بعد ذلك: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ.
أى: ليس الأمر كما زعمتم- أيها المترفون- من أن كثرة الأموال والأولاد ستنجيكم من العذاب، ولكن الحق والصدق أن الذي ينجيكم من ذلك ويقربكم منا، هو الإيمان والعمل الصالح. فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة لهم عند الله- تعالى- الجزاء الحسن المضاعف، وهم في غرفات الجنات آمنون مطمئنون.(11/298)
قال الشوكانى ما ملخصه: قوله: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً هو استثناء منقطع فيكون محله النصب. أى: لكن من آمن وعمل صالحا.. والإشارة بقوله: فَأُولئِكَ إلى مَنْ والجمع باعتبار المعنى. وهو مبتدأ. وخبره لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أى: فأولئك يجازيهم الله الضعف، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. أو فأولئك لهم الجزاء المضاعف فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة.. «1» .
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة المصرين على كفرهم فقال: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ.
أى: والذين يسعون في إبطال آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، مُعاجِزِينَ.
أى: زاعمين سبقهم لنا، وعدم قدرتنا عليهم أُولئِكَ الذين يفعلون ذلك فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أى: في عذاب جهنم مخلدون، حيث تحضرهم ملائكة العذاب بدون شفقة أو رحمة، وتلقى بهم فيها.
وقوله- سبحانه-: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ تأكيد وتقرير لتلك الحقيقة التي سبق الحديث عنها، وهي أن التوسع والتضييق في الرزق بيد الله- تعالى- وحده.
والضمير في قوله- تعالى- لَهُ يعود إلى الشخص الموسع عليه أو المضيق عليه في رزقه. أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المترفين على سبيل التأكيد وإزالة ما هم عليه من جهل: إن ربي- عز وجل- يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويضيق هذا الرزق على من يشاء أن يضيقه منهم، وليس في ذلك ما يدل على السعادة أو الشقاوة، لأن هذه الأمور خاضعة لحكمته في خلقه- سبحانه-.
وَما أَنْفَقْتُمْ أيها المؤمنون مِنْ شَيْءٍ في سبيل الله- تعالى- وفي أوجه طاعته فَهُوَ- سبحانه- يُخْلِفُهُ أى: يعوضه لكم بما هو خير منه. يقال: فلان أخلف لفلان وأخلف عليه، إذا أعطاه العوض والبدل.
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أى: وهو- سبحانه- خير رازق لعباده لأن كل رزق يصل إلى الناس إنما هو بتقديره وإرادته، وقد جرت سنته- سبحانه- أن يزيد الأسخياء من فضله وكرمه.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه،
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 4 ص 330.(11/299)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم اعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم اعط ممسكا تلفا.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت جانبا من شبهات المشركين، ومن أقوالهم الباطلة، وردت عليهم بما يزهق باطلهم، ويمحو شبهاتهم، لكي يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
ثم بين- سبحانه- حال أولئك المشركين يوم القيامة، وكيف أن الملائكة يكذبونهم في مزاعمهم، فقال- تعالى-:
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
أى: واذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتتعظ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أى: يجمع الله- سبحانه- الكافرين جميعا. الذين استضعفوا في الدنيا والذين استكبروا.
ثُمَّ يَقُولُ- عز وجل- لِلْمَلائِكَةِ على سبيل التبكيت والتقريع للمشركين أَهؤُلاءِ الكافرون إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ أى: أهؤلاء كانوا يعبدونكم في الدنيا.
وأنتم رضيتم بذلك.
وهؤُلاءِ مبتدأ، وخبره «كانوا يعبدون» وإِيَّاكُمْ مفعول يعبدون.
وتخصيص الملائكة بالخطاب مع أن من الكفار من كان يعبد الأصنام، ومن كان يعبد غيرها، لأن المقصود من الخطاب حكاية ما يقوله الملائكة في الرد عليهم.
قال صاحب الكشاف: هذا الكلام خطاب للملائكة. وتقريع للكفار وارد على المثل السائر: إياك أعنى واسمعي يا جارة، ونحوه قوله- تعالى- لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقد علم- سبحانه- كون الملائكة وعيسى، منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال، والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون التقريع(11/300)
للمشركين أشد، والتعبير أبلغ، وهوانهم ألزم. «1» .
وقوله- تعالى-: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ حكاية لأقوال الملائكة.
أى: قال الملائكة في الإجابة على سؤال خالقهم. سُبْحانَكَ أى: ننزهك ونقدسك عن أن يكون لك شريك في عبادتك وطاعتك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أى: أنت الذي نواليك ونتقرب إليك وحدك بالعبادة، وليس بيننا وبين هؤلاء المشركين أى موالاة أو قرب، ولا دخل لنا في عبادتهم لغيرك.
ثم صرحوا بما كان المشركون يعبدونه في الدنيا فقالوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ.
أى: إن هؤلاء المشركين لا علم لنا بأنهم كانوا يعبدوننا، ونبرأ من ذلك إن كانوا قد عبدونا، وهم إنما كانوا يعبدون في الدنيا الْجِنَّ أى الشياطين، وكان أكثر هؤلاء المشركين يؤمنون بعبادة الشياطين، ويطيعونهم فيما يأمرونهم به، أو ينهونهم عنه.
فقوله- تعالى- بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ إضراب انتقالي، لبيان السبب في شرك هؤلاء المشركين، وتصريح بمن كانوا يعبدونهم في الدنيا.
قال الجمل: فإن قيل جميعهم كانوا متابعين للشياطين، فما وجه قوله- تعالى- أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فإنه يدل على أن بعضهم لم يؤمن بالجن ولم يطعهم؟
فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الملائكة احترزوا عن دعوى الإحاطة بهم، فقالوا أكثرهم، لأن الذين رأوهم واطلعوا على أحوالهم كانوا يعيدون الجن، ولعل في الوجود من لم يطلع الله الملائكة على حاله من الكفار.
الثاني: هو أن العبادة عمل ظاهر، والإيمان عمل باطن، فقالوا: بل كانوا يعبدون الجن لاطلاعهم على أعمالهم، وقالوا: أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب، لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب، فإن القلب لا يطلع على ما فيه إلا الله «2» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن الملك في يوم الحساب له وحده فقال: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا.
أى: فاليوم لا يملك أحد من المعبودين أن ينفع أحدا من العابدين، أو أن يضره، بل الذي يملك كل ذلك هو الله- تعالى- وحده.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 587.
(2) حاشية الجمل ج 3 ص 478.(11/301)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن مرد النفع والضر في هذا اليوم إلى الله- تعالى.
وحده، فالعابدون لا يملكون شيئا، والمعبودون كذلك لا يملكون شيئا.
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أى: ونقول في هذا اليوم الهائل الشديد للذين ظلموا أنفسهم وظلموا الحق بعبادتهم لغيرنا، نقول لهم ذُوقُوا فظاعة وشدة عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، وتنكرون أن يكون هناك بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب.
ثم تعود السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من أقوال هؤلاء المشركين في شأن النبي صلى الله عليه وسلّم وفي شأن القرآن الكريم، وتهددهم بسوء المصير إذا استمروا في طغيانهم وجهلهم فتقول:
[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 45]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
وقوله: تُتْلى من التلاوة، وهي قراءة الشيء بتدبر وتفهم.
أى: وإذا ما تليت آياتنا الدالة دلالة واضحة على وحدانيتنا وقدرتنا، وعلى صدق رسولنا صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عنا.
قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ أى: قالوا على سبيل الإنكار والاستهزاء، ما هذا التالي لتلك الآيات إلا رجل يريد أن يمنعكم عن عبادة الآلهة التي كان يعبدها آباؤكم الأقدمون.(11/302)
ويعنون بقولهم «ما هذا إلا رجل» : الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويقصدون بالإشارة إليه، الاستخفاف به، والتحقير من شأنه صلّى الله عليه وسلم.
وقالوا: يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ لإثارة حمية الجاهلية فيهم فكأنهم يقولون لهم: احذروا اتباع هذا الرجل، لأنه يريد أن يجعلكم من أتباعه، وأن يقطع الروابط التي تربط بينكم وبين آبائكم الذين أنتم قطعة منهم.
ولم يكتفوا بالتشكيك في صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم بل أضافوا إلى ذلك التكذيب للقرآن الكريم، ويحكى- سبحانه- ذلك فيقول: وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً.
أى: وقالوا في شأن القرآن الكريم: ما هذا الذي يتلوه محمد صلّى الله عليه وسلّم علينا، إلا إِفْكٌ أى: كلام مصروف عن وجهه، وكذب في ذاته مُفْتَرىً أى: مختلق على الله- تعالى- من حيث نسبته إليه.
فقوله مُفْتَرىً صفة أخرى وصفوا بها القرآن الكريم، فكأنهم يقولون- قبحهم الله- ما هذا القرآن إلا كذب في نفسه، ونسبته إلى الله- تعالى- ليست صحيحة.
ثم أضافوا إلى تكذيبهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللقرآن، تكذيبا عاما لكل ما جاءهم به الرسول من حق، فقالوا- كما حكى القرآن عنهم-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
أى: وقال الكافرون في شأن كل حق جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر واضح.
وهكذا نراهم- لعنادهم وجهلهم- قد كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكذبوا القرآن. وكذبوا كل توجيه قويم، وإرشاد حكيم، أرشدهم إليه صلّى الله عليه وسلّم إذ اسم الإشارة الأول يعود إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم والثاني يعود إلى القرآن، والثالث يعود إلى تعاليم الإسلام كلها.
ثم بين- سبحانه- أن أقوالهم هذه لا تستند إلى دليل أو ما يشبه الدليل، وإنما هم يهرفون بما لا يعرفون، فقال- تعالى-: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ.
أى: أن هؤلاء الذين قالوا ما قالوا من باطل وزور، لم نأتهم بكتب يدرسونها ويقرءونها ليعرفوا منها أن الشرك حق، فيكون لهم عذرهم في التمسك به، وكذلك لم نرسل إليهم قبلك- أيها الرسول الكريم- نذيرا يدعوهم إلى عبادة الأصنام، ويخوفهم من ترك عبادتها.
وما دام الأمر كذلك، فمن أين أتوا بهذا التصميم على شركهم، وبهذا الإنكار للحق الذي(11/303)
جاءهم؟ إن أمرهم هذا لهو في غاية الغرابة والعجب.
فالمقصود من الآية الكريمة تجهيلهم والتهكم بهم، ونفى أن يكون عندهم حتى ما يشبه الدليل على صحة ما هم فيه من شرك.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ وقوله- عز وجل-: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ.
ثم بين لهم- سبحانه- بعد ذلك هوان أمرهم. وتفاهة شأنهم بالنسبة لمن سبقوهم، فقال: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، فَكَذَّبُوا رُسُلِي، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.
والمعشار بمعنى العشر وهو لغة فيه. تقول: عندي عشر دينار ومعشار دينار، قال أبو حيان: والمعشار مفعال من العشر، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع. ومعناهما: العشر والربع.. «1» .
والضمير في قوله وَما بَلَغُوا يعود لكفار مكة، وقوله: ما آتَيْناهُمْ وفي قوله:
فَكَذَّبُوا رُسُلِي يعود إلى الأمم السابقة.
والنكير: مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل.
والمعنى: لا تحزن- أيها الرسول الكريم- لتكذيب قومك لك، فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم، وإن قومك لم يبلغوا من القوة والغنى والكثرة.. عشر ما كان عليه سابقوهم، ولكن لما كذب أولئك السابقون أنبياءهم، أخذتهم أخذ عزيز مقتدر، بأن دمرناهم جميعا.
والاستفهام في قوله- تعالى- فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للتهويل. والجملة الكريمة معطوفة على مقدر والمعنى: فحين تمادوا في تكذيب رسلي، جاءهم إنكارى بالتدمير، فكيف كان إنكارى عليهم بالتدمير والإهلاك؟ لقد كان شيئا هائلا فظيعا تركهم في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها، فعلى قومك أن يحذروا من أن يصيبهم مثله.
وجعل- سبحانه- التدمير إنكارا، تنزيلا للفعل منزلة القول، كما في قول بعضهم:
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم.
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله وَما بَلَغُوا يعود على الذين من قبلهم، وفي قوله آتَيْناهُمْ يعود إلى كفار مكة.
__________
(1) تفسير البحر المحيط ج 7 ص 290.(11/304)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
وقد رجح الإمام الرازي هذا الرأى فقال ما ملخصه: قال المفسرون: معنى الآية: ما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين.. ثم إن الله أخذ هؤلاء المتقدمين، دون أن تنفعهم قوتهم، لما كذبوا رسلهم، فكيف حال هؤلاء الضعفاء- وهم قومك.
ثم قال- رحمه الله-: وعندي وجه آخر في معنى الآية، وهو أن يقال: وكذب الذين من قبلهم، وما بلغوا معشار ما آتيناهم، أى: الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قومك من البيان والبرهان. وذلك لأن كتابك يا محمد أكمل من سائر الكتب.
فإذا كنت قد أنكرت على المتقدمين لما كذبوا رسلهم- مع أنهم لم يؤتوا معشار ما أوتى قومك من البيان-، فكيف لا أنكر على قومك بعد تكذيبهم لأوضح الكتب، وأفصح الرسل.. «1»
ويبدو لنا أن المعنى الأول الذي عبر عنه الإمام الرازي بقوله: قال المفسرون، هو الأرجح لأنه هو المتبادر من معنى الآية الكريمة، لأنه يفيد التقليل من شأن مشركي مكة، بالنسبة لمن سبقهم من الأمم، من ناحية القوة والغنى.
وفي القرآن الكريم آيات متعددة تؤيد هذا المعنى، منها قوله- تعالى-: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «2» .
وبعد هذا الحديث عن أقوال المشركين في شأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي شأن القرآن.. وبعد هذا الرد الملزم لهم، والمزهق لباطلهم. بعد كل ذلك لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم الحجج القاطعة، والأقوال الحكيمة، التي تهدى إلى الرشد بأبلغ أسلوب، وأصدق بيان، فقال- تعالى-:
[سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 50]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 24.
(2) سورة الروم. الآية 9.(11/305)
وقوله- تعالى- أَعِظُكُمْ من الوعظ، وهو تذكير الغير بالخير والبر بكلام مؤثر رقيق يقال: وعظه يعظه وعظا وعظة، إذا أمره بالطاعة ووصاه بها.
وقوله بِواحِدَةٍ صفة لموصوف محذوف.
والتقدير: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين الذين قالوا الكذب في شأنك وفي شأن ما جئت به، قل لهم: إنما أعظكم وآمركم وأوصيكم بكلمة واحدة، أو بخصلة واحدة.
ثم فسر- سبحانه- هذه الكلمة بقوله: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى. والمراد بالقيام هنا: التشمير عن ساعد الجد، وتلقى ما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقلب مفتوح.
وعقل واع، ونفس خالية من التعصب والحقد والعكوف على التقليد.
ومَثْنى وَفُرادى أى: متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، وهما منصوبان على الحال.
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا بعد ذلك في أمر هذا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي أمر رسالته، وفي أمر ما جاء به من عند ربه، فعند ذلك ترون أنه على الحق، وأنه قد جاءكم بما يسعدكم.
فالآية الكريمة تأمرهم أن يفكر كل اثنين بموضوعية وإنصاف في أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم يعرض كل واحد منهما حصيلة تفكيره على صاحبه، وأن يفكر كل واحد منهم على انفراد- أيضا في شأن هذا الرسول، من غير تعصب وهوى.
وقدم الاثنين في القيام على المنفرد، لأن تفكير الاثنين في الأمور بإخلاص واجتهاد وتقدير، أجدى في الوصول إلى الحق من تفكير الشخص الواحد ولم يأمرهم بأن يتفكروا في جماعة، لأن العقلية الجماعية كثيرا ما تتبع الانفعال الطارئ، وقلما تتريث في الحكم على الأمور.(11/306)
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها، أصبتم الحق، وتخلصتم من الباطل-، وهي: أن تقوموا لوجه الله خالصا، متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به.
أما الاثنان: فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتباع هوى، ولا ينبض لهما عرق عصبية، حتى يهجم بهما الفكر الصالح، والنظر الصحيح على جادة الحق.
وكذلك الفرد: يفكر في نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها، ويعرض فكره على عقله وذهنه، وما استقر عنده من عادات العقلاء، ومجاري أحوالهم. والذي أوجب تفرقهم مثنى وفرادى، أن الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمى البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول. ومع ذلك يقل الإنصاف ويكثر الاعتساف: ويثور عجاج التعصب «1» .
وقوله- سبحانه-: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ كلام مستأنف جيء به لتنزيه ساحته صلى الله عليه وسلّم عما افتراه عليه المفترون من كونه قد أصيب بالجنون.
أى: اجتمعوا اثنين اثنين، أو واحدا واحدا، ثم تفكروا بإخلاص وروية فترون بكل تأكيد أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس به شيء من الجنون، إنما هو أرجح الناس عقلا، وأصدقهم قولا، وأفضلهم علما، وأحسنهم عملا، وأزكاهم نفسا، وأنقاهم قلبا، وأجمعهم لكل كمال يشرى.
وقوله- تعالى- إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ بيان لوظيفته صلّى الله عليه وسلم أى: ليس به صلّى الله عليه وسلّم من جنون، وإنما هو نذير لكم، يحذركم ويخوفكم من العذاب الشديد الذي سينزل بكم يوم القيامة، إذا ما بقيتم على شرككم وكفركم، وهذا العذاب ليس بعيدا عنكم.
قال الإمام ابن كثير: قال الامام أحمد: حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فنادى ثلاث مرات فقال: «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: «إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم خافوا عدوا يأتيهم. فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه وقال: أيها الناس أوتيتم.
أيها الناس أوتيتم ... »
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 590.(11/307)
وبهذا الاسناد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة جميعا، إن كادت لتسبقني» «1» .
ثم أمره- سبحانه- للمرة الثانية أن يصارحهم بأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته إياهم إلى ما يسعدهم فقال: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
أى: وقل لهم- أيها الرسول الكريم. بعد أن دعوتهم إلى التفكير الهادئ، المتأنى في أمرك: إنى ما طلبت منكم أجرا على دعوتي إياكم إلى الحق والخير، وإذا فرض وطلبت فهو مردود عليكم. لأنى لا ألتمس أجرى إلا من الله- تعالى- وحده، وهو- سبحانه- على كل شيء شهيد ورقيب، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال الآلوسى قوله: قل ما سألتكم من أجر، أى: مهما سألتكم من نفع على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ والمراد نفى السؤال رأسا، كقولك لصاحبك إن أعطيتنى شيئا فخذه، وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا: فما شرطية. مفعول سَأَلْتُكُمْ وقوله فَهُوَ لَكُمْ الجواب- وقيل هي موصولة، والعائد محذوف، ومن للبيان ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط. أى: الذي سألتكموه من الأجر فهو لكم، وثمرته تعود إليكم «2» .
ثم أمره- سبحانه- للمرة الثالثة، أن يبين لهم أنهم لا قدرة لهم على مجادلته أو محاربته، لأن الله- تعالى- قد سلحه بما ينصره عليهم فقال: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وأصل القذف: الرمي بقوة وشدة والمراد به هنا: ما يوحيه الله- تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلّم من قرآن وتوجيهات وإلهامات، والباء في قوله بِالْحَقِّ للسببية.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- إن ربي يلقى الوحى إلى وإلى أنبيائه، بسبب الحق الذي كلفهم بتبليغه إلى الناس، وهو- سبحانه- وحده علام الغيوب.
قال الجمل: ما ملخصه قوله: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يجوز أن يكون مفعوله محذوفا، لأن القذف في الأصل الرمي، وعبر به هنا عن الإلقاء. أى: يلقى الوحى إلى أنبيائه بالحق، أى: بسبب الحق، أو متلبسا الحق.
ويجوز أن يكون التقدير: يقذف الباطل بالحق، كما قال- تعالى- بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 513.
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 155.(11/308)
ويجوز أن يكون المعنى: قل إن ربي يقضى ويحكم بالحق، بتضمين «يقذف» معنى يقضى ويحكم «1» .
ثم أمره- عز وجل- للمرة الرابعة أن يبين لهم أن باطلهم سيزول لا محالة وسينتهي أمره انتهاء لن تقوم له بعد قائمة فقال- تعالى- قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ والإبداء: هو فعل الأمر ابتداء. والإعادة: فعله مرة أخرى، ولا يخلو الحي منهما، فعدمهما كناية عن هلاكه. كما يقول: فلان لا يأكل ولا يشرب، كناية عن هلاكه.
أى: قل أيها الرسول لهؤلاء الكافرين، لقد جاء الحق المتمثل في دين الإسلام الذي أرسلنى به إليكم ربي، ومادام الإسلام قد جاء، فإن الباطل المتمثل في الكفر الذي أنتم عليه، قد آن له أن يذهب وأن يزول، وأن لا يبقى له إبداء أو إعادة، فقد اندثر وأهيل عليه بالتراب إلى غير رجعة.
ثم أمره- سبحانه- للمرة الخامسة أن يصارحهم بأنه مسئول أمام الله عما يرشدهم إليه، وأنهم ليسوا مسئولين عن هدايته أو ضلاله، فقال- تعالى-: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي.
أى: وقل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل الإرشاد والتنبيه، إنى إن ضللت عن الصراط المستقيم، وعن اتباع الحق، فإنما إثم ضلالي على نفسي وحدها لا عليكم، وإن اهتديت إلى طريق الحق والصواب، فاهتدائى بسبب ما يوحيه الله- تعالى- إلى من توجيهات حكيمة، وإرشادات قويمة، إِنَّهُ- سبحانه- سَمِيعٌ لكل شيء قَرِيبٌ منى ومنكم.
وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة قد أمرت الرسول صلّى الله عليه وسلّم خمس مرات، أن يخاطب المشركين بما يقطع عليهم كل طريق للتشكيك في شأن دعوته، وبما يوصلهم إلى طريق الهداية والسعادة لو كانوا يعقلون:
وأخيرا نرى سورة «سبأ» تختتم بهذه الآيات، التي تصور تصويرا مؤثرا، حالة الكافرين عند ما يخرجون من قبورهم للبعث والحساب، يعلوهم الهلع والفزع، ويحال بينهم وبين ما يشتهون، لأن توبتهم جاءت في غير أوانها ... قال- تعالى-:
__________
(1) حاشية الجمل ج 3 ص 480.(11/309)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وجواب لَوْ محذوف. وكذلك مفعول تَرى. والفزع: حالة من الخوف والرعب تعترى الإنسان عند ما يشعر بما يزعجه ويخيفه. والفوت: النجاة والمهرب.
وهذا الفزع للكافرين يكون عند خروجهم من قبورهم للبعث والحساب، أو عند قبض أرواحهم.
أى: ولو ترى- أيها العاقل- حال الكافرين، وقت خروجهم من قبورهم للحساب، وقد اعتراهم الفزع والهلع.. لرأيت شيئا هائلا، وأمرا عظيما ...
وقوله فَلا فَوْتَ أى: فلا مهرب لهم ولا نجاة يومئذ من الوقوف بين يدي الله- تعالى- للحساب، ولمعاقبتهم على كفرهم وجحودهم ...
وقوله: وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ معطوف على فَزِعُوا أى: فزعوا دون أن ينفعهم هذا الفزع، وأخذوا ليلقوا مصيرهم السيئ من مكان قريب من موقف الحساب.
قال الآلوسى: والمراد بذكر قرب المكان، سرعة نزول العذاب بهم والاستهانة بهم وبهلاكهم، وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله- عز وجل- ... » «1» .
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أى: وقال هؤلاء الكافرون عند ما رأوا العذاب المعد لهم في الآخرة:
آمنا بالله- تعالى- وبأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا معبود بحق سواه، وآمنا بهذا الدين الذي جاءنا به رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم.
وقوله- سبحانه-: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بيان لعدم انتفاعهم بما قالوه من إظهار الإيمان في هذا الوقت.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 157.(11/310)
والتناوش: التناول. يقال: فلان ناش الشيء ينوشه نوشا إذا تناوله. ومنه قولهم:
تناوشوا بالرماح، أى: تناول بعضهم بعضا بها.
أى: لقد قالوا بعد البعث آمنا بهذا الدين، ومن أين لهم في الآخرة تناول الإيمان والتوبة من الكفر، وكان ذلك قريبا منهم في الدنيا فضيعوه، وكيف يظفرون به في الآخرة وهي بعيدة عن دار الدنيا التي هي محل قبول الإيمان.
فالجملة الكريمة تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد أن فات أوانه، وأن هذا الطلب في نهاية الاستبعاد كما يدل عليه لفظ أَنَّى.
قال صاحب الكشاف: والتناوش والتناول أخوان. إلا أن التناوش تناول سهل لشيء قريب ...
وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في هذا الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة- أى: من مكان بعيد-، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه ... » «1» .
وقوله- سبحانه- وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أى: قالوا آمنا بأن يوم القيامة حق، والحال أنهم قد كفروا به من قبل في الدنيا، عند ما دعاهم إلى الإيمان به رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقوله- تعالى-: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بيان لما كانوا عليه في الدنيا من سفاهة في القول، وجرأة في النطق بالباطل، وفيما لا علم لهم به.
والعرب تقول لكل من تكلم فيما لا يعلمه: هو يقذف ويرجم بالغيب، والجملة الكريمة معطوفة على قوله: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ.
أى: لقد كفروا بهذا الدين في الدنيا، وكانوا ينطقون بأقوال لا علم لهم بها، وبينها وبين الحق والصدق مسافات بعيدة. فقد نسبوا إلى الله- تعالى- الولد والشريك، ويقولون في الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنه ساحر ... ، وفي شأن البعث: إنه لا حقيقة له، وفي شأن القرآن: إنه أساطير الأولين.
فالمقصود بالآية تقريعهم وتجهيلهم، على ما كانوا يتفوهون به من كلام ساقط، بينه وبين الحقيقة مسافات بعيدة.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببيان حرمانهم التام مما يشتهونه فقال:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 593.(11/311)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
وقوله حِيلَ فعل مبنى للمجهول مأخوذ من الحول بمعنى المنع والحجز. تقول حال الموج بيني وبين فلان. أى: منعني من الوصول إليه، ومنه قوله- تعالى-: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
أى: وحجز وفصل بين هؤلاء المشركين يوم القيامة وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ويتمنون من قبول إيمانهم في هذا اليوم، أو من العفو عنهم في هذا اليوم، أو من العفو عنهم ورجوعهم إلى الدنيا.. حيل بينهم وبين كل ذلك، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أى: كما هو الحال بالنسبة لأمثالهم ونظرائهم الذين سبقوهم في الكفر.
إِنَّهُمْ كانُوا جميعا على نمط واحد فِي شَكٍّ من أمر هذا الدين مُرِيبٍ أى:
موقع في الريبة.
وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة «سبأ» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(11/312)
تفسير سورة فاطر(11/313)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة فاطر هي السورة الخامسة والثلاثون في ترتيب المصحف، وكان نزولها بعد سورة الفرقان- كما ذكر صاحب الإتقان «1» .
وهي من السور المكية الخالصة، وتسمى أيضا- بسورة «الملائكة» .
قال القرطبي: هي مكية في قول الجميع. وهي خمس وأربعون آية «2» .
2- سورة فاطر هي آخر السور التي افتتحت بقوله- تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ وقد سبقها في هذا الافتتاح سور: الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ.
قال- سبحانه- في افتتاح سورة فاطر: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
3- ثم تحدث- سبحانه- بعد ذلك عن مظاهر نعمه على عباده ورحمته بهم، فقال:
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ....
4- ثم توجه السورة الكريمة نداءين إلى الناس، تأمرهم في أولهما بشكر الله- تعالى- على نعمه، وتنهاهم في ثانيهما عن الاغترار بزينة الحياة الدنيا وعن اتباع خطوات الشيطان..
قال- سبحانه-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ... وقال- جل شأنه-: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 27 للسيوطي. [.....]
(2) تفسير القرطبي ج 14 ص 318.(11/315)
5- وبعد أن تسلى السورة الكريمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عما أصابه من أعدائه، تأخذ في بيان مظاهر قدرة الله- تعالى- في خلقه، فتذكر قدرته- سبحانه- في إرسال الرياح والسحب، وفي خلقه للإنسان من تراب، وفي إيجاده للبحرين: أحدهما عذب فرات سائغ شرابه، والثاني: ملح أجاج، وفي إدخاله الليل في النهار، والنهار في الليل، وفي تسخيره الشمس والقمر..
قال- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها، وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ.
6- ثم وجه- سبحانه- نداء ثالثا إلى الناس، بين لهم فيه: افتقارهم اليه- تعالى- وحاجتهم إلى عونه وعطائه، وتحمل كل إنسان لمسئولياته ولنتائج أعماله..
كما بين لهم- سبحانه- أن الفرق بين الهدى والضلال، كالفرق بين الإبصار والعمى، وبين النور والظلمات، وبين الحياة والموت، وبين الظل والحرور.
قال- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
7- ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله- تعالى- ورحمته بعباده، وعن الثواب العظيم الذي أعده- سبحانه- لمن يتلون كتابه ولمن يحافظون على فرائضه- وعن عقابه الأليم للكافرين الجاحدين لنعمه..
قال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ.
ثم قال- سبحانه-: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ، لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ.
8- ثم انتقلت السورة الكريمة في أواخرها إلى الحديث عن جهالات المشركين، حيث عبدوا من دون الله- تعالى- مالا يملك لهم ضرا ولا نفعا، وعن مكرهم السيئ الذي لا يحيق(11/316)
إلا بأهله، وعن نقضهم لعهودهم حيث أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ...
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببيان سعة رحمته بالناس فقال: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً.
9- وهكذا نرى سورة فاطر قد طوفت بالنفس الإنسانية في أرجاء هذا الكون، وأقامت الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته. عن طريق نعم الله- تعالى- المبثوثة في الأرض وفي السماء، وفي الليل وفي النهار، وفي الشمس وفي القمر: وفي الرياح وفي السحب، وفي البر وفي البحر.. وفي غير ذلك من النعم التي سخرها- سبحانه- لعباده.
كما نراها قد حددت وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وساقت له ما يسليه ويزيده ثباتا على ثباته، وما يرشد كل عاقل إلى حسن عاقبة الأخيار، وسوء عاقبة الأشرار.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..(11/317)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
التفسير قال الله تعالى:
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
افتتحت سورة «فاطر» كما سبق أن ذكرنا عند تفسيرنا لسورة «سبأ» بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين، وهي أن المستحق للحمد المطلق، والثناء الكامل، هو الله رب العالمين.
والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة وغيرها.
و «أل» في الحمد للاستغراق. بمعنى أن المستحق لجميع المحامد، ولكافة ألوان الثناء هو الله- تعالى- «1» .
وقوله: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى خالقهما وموجدهما على غير مثال يحتذي، إذ المراد بالفطر هنا: الابتداء والاختراع للشيء الذي لم يوجد ما يشبهه من قبل.
__________
(1) راجع تفسيرنا لأوائل سور: الفاتحة- الأنعام- الكهف- سبأ.(11/318)
قال القرطبي: والفاطر: الخالق، والفطر- بفتح الفاء-: الشق عن الشيء. يقال:
فطرته فانفطر. ومنه: فطر ناب البعير، أى: طلع. وتفطر الشيء، أى: تشقق ...
والفطر: الابتداء والاختراع. قال ابن عباس: كنت لا أدرى ما فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أى: أنا ابتدأتها..
والمراد بذكر السموات والأرض: العالم كله. ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء، قادر على الإعادة «1» .
والمعنى: الحمد المطلق والثناء التام الكامل لله- تعالى- وحده، فهو- سبحانه- الخالق للسموات والأرض، ولهذا الكون بأسره، دون أن يسبقه إلى ذلك سابق، أو يشاركه فيما خلق وأوجد مشارك.
وقوله- تعالى-: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته- تعالى- التي لا يعجزها شيء.
والملائكة: جمع ملك. والتاء لتأنيث الجمع، وأصله ملاك. وهم جند من خلق الله- تعال- وقد وصفهم- سبحانه- بصفات متعددة، منها: أنهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ وأنهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ.
قال الجمل: وقوله: جاعل الملائكة، أى: بعضهم. إذ ليس كلهم رسلا كما هو معلوم.
وقوله: أُولِي أَجْنِحَةٍ نعت لقوله رُسُلًا، وهو جيد لفظا لتوافقهما تنكيرا. أو هو نعت للملائكة، وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة، فهي صفة كاشفة.. «2» .
وقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أسماء معدول بها عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وهي ممنوعة من الصرف، للوصفية والعدل عن المكرر وهي صفة لأجنحة.
أى: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض بقدرته، والذي جعل الملائكة رسلا إلى أنبيائه. وإلى من يشاء من عباده، ليبلغوهم ما يأمرهم- سبحانه- بتبليغه إليهم..
وهؤلاء الملائكة المكرمون، ذوو أجنحة عديدة. منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، لأن المراد بهذا الوصف، بيان كثرة الأجنحة لا حصرها.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 319.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 483.(11/319)
قال الآلوسى ما ملخصه قوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا.. معناه: جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده، يبلغون إليهم رسالته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة، أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه، كالأمطار والرياح وغيرهما.
وقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معناه: أن من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا دلالة في الآية على نفى الزائد، وما ذكر من عد للدلالة على التكثير والتفاوت، لا للتعيين ولا لنفى النقصان عن اثنين..
فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود في قوله- تعالى- لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل وله ستمائة جناح.. «1» .
وقوله- تعالى-: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ استئناف مقرر لمضمون ما قبله، من كمال قدرته، ونفاذ إرادته.
أى يزيد- سبحانه- في خلق كل ما يزيد خلقه ما يشاء أن يزيده من الأمور التي لا يحيط بها الوصف، ومن ذلك أجنحة الملائكة فيزيد فيها ما يشاء، وكذلك ينقص في الخلق ما يشاء، والكل جاء على مقتضى الحكمة والتدبير.
قال صاحب الكشاف: قوله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أى: يزيد في خلق الأجنحة، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته.
والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق: من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأى، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأن في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.. «2» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى: إن الله- تعالى- لا يعجزه شيء يريده، لأنه قدير على فعل كل شيء، فالجملة الكريمة تعليل لما قبلها من كونه- سبحانه- يزيد في الخلق ما يشاء، وينقص منه ما يشاء.
وقوله- تعالى-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ... بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته وفضله على عباده.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 161.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 595.(11/320)
والمراد بالفتح هنا: الإطلاق والإرسال على سبيل المجاز. بعلاقة السببية لأن فتح الشيء المغلق، سبب لإطلاق ما فيه وإرساله.
أى: ما يرسل الله- تعالى- بفضله وإحسانه للناس من رحمة متمثلة في الأمطار، وفي الأرزاق، وفي الصحة.. وفي غير ذلك، فلا أحد يقدر على منعها عنهم.
وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أى: وما يمسك من شيء لا يريد إعطاءه لهم، فلا أحد من الخلق يستطيع إرساله لهم. بعد أن منعه الله- تعالى- عنهم.
وَهُوَ- سبحانه- الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه غالب الْحَكِيمُ في كل أقواله وأفعاله.
وعبر- سبحانه- في جانب الرحمة بالفتح، للإشعار بأن رحمته- سبحانه- من أعظم النعم وأعلاها، حتى لكأنها بمنزلة الخزائن المليئة بالخيرات، والتي متى فتحت أصاب الناس منها ما أصابوا من نفع وبر.
ومِنْ في قوله مِنْ رَحْمَةٍ للبيان. وجاء الضمير في قوله: فَلا مُمْسِكَ لَها مؤنثا، لأنه يعود إليها وحدها.
وجاء مذكرا في قوله فَلا مُرْسِلَ لَهُ لأنه يشملها ويشمل غيرها. أى: وما يمسك من رحمة أو غيرها عن عباده فلا يستطيع أحد أن يرسل ما أمسكه- سبحانه-.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» .
قال ابن كثير: وثبت في صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدري. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده. اللهم ربنا لك الحمد. ملء السموات والأرض. وملء ما شئت من شيء بعد.. اللهم لا مانع لما أعطيت. ولا معطى لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد «3» - أى: ولا ينفع صاحب الغنى غناه وإنما الذي ينفعه عمله الصالح..
__________
(1) سورة يونس الآية 107.
(2) سورة الأنعام الآية 17.
(3) تفسير ابن كثير ج 6 ص 520.(11/321)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
ثم وجه- سبحانه- نداء الى الناس. أمرهم فيه بذكره وشكره فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...
والمراد من ذكر النعمة: ذكرها باللسان وبالقلب، وشكر الله تعالى عليها، واستعمالها فيما خلقت له.
والمراد بالنعمة هنا: النعم الكثيرة التي أنعم بها- سبحانه- على الناس. كنعمة خلقهم، ورزقهم، وتسخير كثير من الكائنات لهم.
والاستفهام في قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ للنفي والإنكار، أى: يا أيها الناس اذكروا بألسنتكم وقلوبكم، نعم الله- تعالى- عليكم، واشكروه عليها.
واستعملوها في الوجوه التي أمركم باستعمالها فيها، واعلموا أنه لا خالق غير الله- تعالى يرزقكم من السماء بالمطر وغيره، ويرزقكم من الأرض بالنبات والزروع والثمار وما يشبه ذلك من الأرزاق التي فيها حياتكم وبقاؤكم.
وقوله- تعالى- لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة مستأنفة لتقرير النفي المستفاد مما قبله أى:
لا إله مستحق للعبادة والطاعة إلا الله- تعالى-، إذ هو الخالق لكم، وهو الذي أعطاكم النعم التي لا تعد ولا تحصى.
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أى: ومادام الأمر كذلك: فكيف تصرفون عن إخلاص العبادة لخالقكم ورازقكم، إلى الشرك في عبادته.
فقوله تُؤْفَكُونَ من الأفك- بالفتح- بمعنى الصرف والقلب يقال: أفكه عن الشيء، إذا صرفه عنه، ومنه قوله- تعالى-: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا.. أى: لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا.
وبعد هذا البيان المعجز لمظاهر قدرة الله- تعالى- ورحمته بعباده، وهيمنته على شئون خلقه.. أخذت السورة الكريمة في تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي دعوة الناس إلى اتباع ما جاءهم به هذا النبي الكريم، وفي بيان مصير المؤمنين ومصير الكافرين، فقال- تعالى-:
[سورة فاطر (35) : الآيات 4 الى 8]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)(11/322)
قال الآلوسى: قوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية له صلّى الله عليه وسلم بعموم البلية، والوعد له صلّى الله عليه وسلّم والوعيد لأعدائه.
والمعنى: وإن استمروا على أن يكذبوك فيما بلغت إليهم من الحق المبين.. فتأس بأولئك الرسل في الصبر، فقد كذبهم قومهم فصبروا على تكذيبهم. فجملة فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ قائمة مقام جواب الشرط، والجواب في الحقيقة تأس. وأقيمت تلك الجملة مقامه، اكتفاء بذكر السبب عن ذكر المسبب.. «1» .
وجاء لفظ الرسل بصيغة التنكير، للإشعار بكثرة عددهم، وسمو منزلتهم.
أى: وإن يكذبك- أيها الرسول الكريم- قومك، فلا تحزن، ولا تبتئس، فإن إخوانك من الأنبياء الذين سبقوك، قد كذبهم أقوامهم، فأنت لست بدعا في ذلك.
ومن الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ.. «2» .
وقوله- عز وجل-: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ.. «3» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 167.
(2) سورة فصلت الآية 43.
(3) سورة الأنعام الآية 34.(11/323)
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يزيد في تسليته صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
أى: وإلى الله- تعالى- وحده ترجع أمور الناس وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم. وسيجازى- سبحانه- الذين أساءوا بما عملوا، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم وجه- سبحانه- نداء ثانيا إلى الناس. بين لهم فيه أن البعث حق، وأن من الواجب عليهم أن يستعدوا لاستقبال هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح فقال- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ....
أى: إن ما وعدكم الله- تعالى- به من البعث والحساب والثواب والعقاب، حق لا ريب فيه، وما دام الأمر كذلك، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أى: فلا تخدعنكم بمتعها، وشهواتها، ولذائذها، فإنها إلى زوال وفناء، ولا تشغلنكم هذه الحياة الدنيا من أداء ما كلفكم- سبحانه- بأدائه من فرائض وتكاليف.
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أى: ولا يخدعنكم عن طاعة ربكم، ومالك أمركم الْغَرُورُ.
أى: الشيطان المبالغ في خداعكم، وفي صرفكم عن كل ما هو خير وبر.
فالمراد بالغرور هنا: الشيطان الذي أقسم بالأيمان المغلظة، بأنه لن يكف عن إغواء بنى آدم، وعن تزيين الشرور والآثام لهم.
فالمقصود بالآية الكريمة تذكير الناس بيوم القيامة وما فيه من أهوال. وتحذيرهم من اتباع خطوات الشيطان، فإنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.
ثم أكد- سبحانه- هذا التحذير بقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ يا بنى آدم، عداوة قديمة وباقية إلى يوم القيامة.
وما دام الأمر كذلك فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أى: فاتخذوه أنتم عدوا لكم في عقائدكم. وفي عباداتكم. وفي كل أحوالكم، بأن تخالفوا وسوسته وهمزاته وخطواته..
وقوله: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ تقرير وتأكيد لهذه العداوة.
أى: اتخذوا- يا بنى آدم- الشيطان عدوا لكم، لأنه لا يدعو أتباعه ومن هم من حزبه إلى خير أبدا، وإنما يدعوهم الى العقائد الباطلة. والأقوال الفاسدة، والأفعال القبيحة التي تجعلهم يوم القيامة من أهل النار الشديدة الاشتعال..
ثم بين- سبحانه- أقسام الناس يوم القيامة فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا بكل ما يجب(11/324)
الإيمان به لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمر خالقهم- عز وجل- واتباعهم للشيطان..
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ لَهُمْ من ربهم مَغْفِرَةٌ عظيمة وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لا يعلم مقداره إلا الله- تعالى-.
ثم بين- سبحانه- الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر، والمطيع، والعاصي، فقال:
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ...
والاستفهام للإنكار. و «من» موصولة في موضع رفع على الابتداء. والجملة بعدها صلتها، والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه، وزُيِّنَ من التزيين بمعنى التحسين. وقوله سُوءُ عَمَلِهِ أى: عمله السيئ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف.
والمعنى: أفمن زين له الشيطان عمله السيئ، فرآه حسنا، كمن ليس كذلك؟ كلا إنهما لا يستويان في عرف أى عاقل، فإن الشخص الذي ارتكب الأفعال القبيحة التي زينها له الشيطان، أو نفسه الأمارة بالسوء، أو هواه.. مصيره إلى الشقاء والتعاسة.
أما الشخص الذي خالف الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المردى.. فمصيره إلى السعادة والفلاح.
وقد صرح- سبحانه- بالأمرين في آيات منها قوله- تعالى- أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟
وجملة فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ تعليل لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنا..
أى: هؤلاء الذين يعملون الأعمال السيئة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، لا قدرة لك على هدايتهم- أيها الرسول الكريم- فإن الله- تعالى- وحده، هو الذي يضل من يشاء إضلاله، ويهدى من يشاء هدايته.
والفاء في قوله- تعالى-: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ للتفريع. والحسرات جمعه حسرة، وهي أشد ما يعترى الإنسان من ندم على أمر قد مضى وانتهى والجار والمجرور «عليهم» متعلق بقوله «حسرات» .
أى: إذا كان الأمر كما أخبرناك- أيها الرسول الكريم- فامض في طريقك وبلغ رسالة ربك، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولا تهلك نفسك هما وغما وحزنا من أجل هؤلاء الذين أعرضوا عن الحق، واعتنقوا الباطل، وظنوا أنهم بذلك يحسنون صنعا..(11/325)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يزيد في تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال- تعالى-:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ.
أى: إن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء مما يفعله هؤلاء الجاهلون من أفعال قبيحة، وسيجازيهم يوم القيامة بما يستحقونه من عقاب.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «1» .
وقوله- سبحانه-: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «2» .
وبعد هذه التسلية من الله- تعالى- لرسوله صلّى الله عليه وسلّم وبعد هذا التحذير من وسوسة الشيطان ومن خداعه، وبعد هذا البيان لسوء عاقبة الكافرين، وحسن عاقبة المؤمنين، بعد كل ذلك.. ساقت السورة الكريمة ألوانا من نعم الله- تعالى- على عباده، ومن رحمته بهم، نرى ذلك في الرياح وفي السحب، وفي البحار والأنهار، وفي الليل نهار، وفي الشمس القمر.. وفي غير ذلك من النعم الظاهرة والباطنة في هذا الكون.
قال- تعالى-:
[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 14]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
__________
(1) سورة الشعراء الآية 3.
(2) سورة الكهف الآية 6. [.....](11/326)
قال أبو حيان- رحمه الله- لما ذكر- سبحانه- أشياء من الأمور السماوية، وإرسال الملائكة، أتبع ذلك بذكر أشياء من الأمور الأرضية كالرياح وإرسالها، وفي هذا احتجاج على منكري البعث، دلهم على المثال الذي يعاينونه، وهو وإحياء الموتى سيان. وفي الحديث أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف يحيى الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «هل مررت بوادي أهلا محلا- أى مجدبا لا نبات فيه- ثم مررت به يهتز خضرا؟ فقالوا: نعم، فقال:
فكذلك يحيى الله الموتى، وتلك آيته في خلقه» «1» .
فقوله- تعالى-: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته- عز وجل- ومن سعة رحمته بعباده.
__________
(1) تفسير البحر المحيط ج 7 ص 302 لأبى حيان.(11/327)
وقوله: فَتُثِيرُ من الإثارة بمعنى التهييج والتحريك من حال إلى حال.
أى: والله- تعالى- وحده، هو الذي أرسل الرياح، فجعلها بقدرته النافذة تحرك السحب من مكان إلى مكان، فتذهب بها تارة إلى جهة الشمال، وتارة إلى جهة الجنوب، وتارة إلى غير ذلك.
وقوله: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ بيان للحكمة من هذه الإثارة. والمراد بالبلد الميت:
الأرض الجدباء التي لا نبات فيها. والضمير في فَسُقْناهُ يعود إلى السحاب.
وقوله: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أى: فأحيينا بالمطر النازل من السحاب الأرض الجدباء، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
فالضمير في قوله بِهِ يعود إلى المطر، لأن السحاب يدل عليه لما بينهما من تلازم، ويصح أن يعود إلى السحاب لأنه سبب نزول الأمطار.
وقال- سبحانه- فَتُثِيرُ بصيغة المضارع. استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على قدرة الله- تعالى-، والتي من شأنها أن تغرس العظات والعبر في النفوس.
وقال- سبحانه-: فَسُقْناهُ فَأَحْيَيْنا بنون العظمة، وبالفعل الماضي، للدلالة على تحقق قدرته ورحمته بعباده.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: فإن قلت: لم جاء فَتُثِيرُ على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟.
قلت: ليحكى الحال التي تقع فيها إثارة الرياح للسحاب، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية..
ولما كان سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها، من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فسقنا، وأحيينا، معدولا بهما عن لفظ الغيبة، إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه.. «1» .
والكاف في قوله- تعالى-: كَذلِكَ النُّشُورُ بمعنى مثل، وهي في محل رفع على الخبرية. أى: مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه للأرض بعد نزول المطر عليها، يكون إحياء الأموات منكم.
قال الإمام الرازي: فإن قيل ما وجه التشبيه بقوله: كَذلِكَ النُّشُورُ؟ فالجواب من وجوه:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 601.(11/328)
أحدها: أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
ثانيها: كما أن الريح يجمع القطع السحابية، كذلك يجمع- سبحانه- بين أجزاء الأعضاء..
ثالثها: كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت، كذلك نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت «1» .
والنشور: الإحياء والبعث بعد الموت. يقال: أنشر الله- تعالى- الموتى ونشرهم، إذا أحياهم بعد موتهم. ونشر الراعي غنمه، إذا بثها بعد أن آواها.
ثم بين- سبحانه- أن العزة الكاملة إنما هي لله- تعالى- وحده فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً....
والمراد بالعزة: الشرف والمنعة والاستعلاء، من قولهم: أرض عزاز، أى: صلبة قوية.
ومَنْ شرطية، وجواب الشرط محذوف. وقوله: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً تعليل للجواب المحذوف.
والمعنى من كان من الناس يريد العزة التي لا ذلة معها. فليطع الله وليعتمد عليه وحده فلله- تعالى- العزة كلها في الدنيا والآخرة، وليس لغيره منها شيء.
وفي هذا رد على المشركين وغيرهم ممن يطلبون العزة من الأصنام أو من غيرها من المخلوقات قال- تعالى-: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «2» .
وقال- سبحانه-: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «3» .
قال القرطبي ما ملخصه: يريد- سبحانه- في هذه الآية، أن ينبه ذوى الأقدار والهمم، من أين تنال العزة ومن أين تستحق، فمن طلب العزة من الله- تعالى- وجدها عنده، - إن شاء الله-، غير ممنوعة ولا محجوبة عنه.. ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. وقال صلّى الله عليه وسلّم مفسرا لهذه الآية: «من أراد عز الدارين فليطع العزيز» ، ولقد أحسن القائل.
وإذا تذللت الرقاب تواضعا ... منا إليك فعزها في ذلها
__________
(1) تفسير البخر الرازي ج 7 ص 32.
(2) سورة مريم الآيتان 81، 82.
(3) سورة النساء الآية 139.(11/329)
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، فليعتز بالله- تعالى-، فإن من اعتز بغير الله، أذله الله، ومن اعتز به- سبحانه أعزه «1» .
ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله- تعالى-: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لأن العزة الكاملة لله- تعالى- وحده، أما عزة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فمستمدة من قربه من الله- تعالى-، كما أن عزة المؤمنين مستمدة من إيمانهم بالله- تعالى- وبرسوله صلّى الله عليه وسلم.
والخلاصة أن هذه الآية الكريمة ترشد المؤمنين إلى الطريق الذي يوصلهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية. ألا وهو طاعة الله- تعالى-، والاعتماد عليه والاعتزاز به.
وقوله- سبحانه-: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ حض للمؤمنين على النطق بالكلام الحسن، وعلى الإكثار من العمل الصالح.
ويَصْعَدُ من الصعود بمعنى الارتفاع إلى أعلى والعروج من مكان منخفض إلى مكان مرتفع. يقال صعد في السلم ويصعد صعودا إذا ارتقاه وارتفع فيه.
والْكَلِمُ اسم جنس جمعى واحده كلمة.
والمراد بالكلم الطيب: كل كلام يرضى الله- تعالى- من تسبيح وتحميد وتكبير. وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وغير ذلك من الأقوال الحسنة.
والمراد بصعوده: قبوله عند الله- تعالى- ورضاه عن صاحبه، أو صعود صحائف هذه الأقوال الطيبة.
والمعنى: إليه- تعالى- وحده، لا إلى غيره يصعد الكلم الطيب، أى: يقبل عنده، ويكون مرضيا لديه، أو إليه- وحده- ترفع صحائف أعمال عباده، الصادقين فيجازيهم بما يستحقون من ثواب، والعمل الصالح الصادر عن عباده المؤمنين يرفعه الله- تعالى- إليه، ويقبله منهم، ويكافئهم عليه.
فالفاعل لقوله يَرْفَعُهُ ضمير يعود على الله- تعالى-، والضمير المنصوب يعود إلى العمل الصالح أى: يرفع الله- تعالى- العمل الصالح إليه، ويقبله من أصحابه.
ومنهم من يرى أن الفاعل لقوله يَرْفَعُهُ هو العمل الصالح. والضمير المنصوب يعود إلى الكلم الطيب. أى: أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب. بأنه يجعله مقبولا عند الله- تعالى-.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 328.(11/330)
ومنهم من يرى العكس. أى: أن الكلم الطيب هو الذي يرفع العمل الصالح.
قال الشوكانى ما ملخصه: ومعنى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. كما قال الحسن وغيره. ووجهه أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا من العمل الصالح وقيل: إن فاعل يَرْفَعُهُ هو الكلم الطيب، ومفعوله العمل الصالح. ووجهه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان وقيل: إن فاعل يَرْفَعُهُ ضمير يعود إلى الله- تعالى-.
والمعنى: أن الله- تعالى- يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب، لأن العمل يحقق الكلام. وقيل: والعمل الصالح هو الذي يرفع صاحبه. «1» .
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال، أن يكون الفاعل لقوله يَرْفَعُهُ هو الله- تعالى-، وأن الضمير المنصوب عائد إلى العمل الصالح لأن الله- تعالى- هو الذي يقبل الأقوال الطيبة، وهو- سبحانه- الذي يرفع الأعمال الصالحة ويقبلها عنده من عباده المؤمنين.
ثم بين- تعالى- بعد ذلك سوء عاقبة الذين يمكرون السوء فقال: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ.
والمكر: التدبير المحكم. أو صرف غيرك عما يريده بحيلة. وهو مذموم إن تحرى به صاحبه الشر والسوء- كما في الآية الكريمة، ومحمود إن تحرى به صاحبه الخير والنفع والسَّيِّئاتِ جمع سيئة وهي صفة لموصوف محذوف.
وقوله يَبُورُ أى: يبطل ويفسد، من البوار: يقال: بار المتاع بوارا إذا كسد وصار في حكم الهالك.
أى: والذين يمكرون المكرات السيئات من المشركين والمنافقين وأشباههم، لهم عذاب شديد من الله- تعالى-، ومكر أولئك الماكرين المفسدين، مصيره إلى الفساد والخسران، لأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.
ويدخل في هذا المكر السيئ ما فعله المشركون مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة، حيث بيتوا قتله، ولكن الله- تعالى- نجاه من شرورهم، كما دخل فيه غير ذلك من أقوالهم القبيحة، وأفعالهم الذميمة، ونياتهم الخبيثة.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك دليلا آخر على صحة البعث والنشور، وعلى كمال قدرته- تعالى- فقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أى: خلقكم ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 4 ص 340.(11/331)
من تراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وأصلها الماء الصافي أو الماء القليل الذي يبقى في الدلو أو القربة، وجمعها: نطف ونطاف. يقال: نطفت القربة إذا قطرت.
والمراد بها هنا: المنى الذي هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة.
ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أى: أصنافا ذكرانا وإناثا، كما قال- تعالى-: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً. أو المراد: ثم جعلكم تتزاوجون، فالرجل يتزوج المرأة، والمرأة تتزوج الرجل. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أى: لا يحصل من الأنثى حمل، كما لا يحصل منها وضع لما في بطنها، إلا والله- تعالى- عالم به علما تاما لأنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء.
وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ والمراد بالعمر الشخص الذي يطيل الله- تعالى- عمره.
والضمير في قوله مِنْ عُمُرِهِ يعود إلى شخص آخر، فيكون المعنى: ما يمد- سبحانه- في عمر أحد من الناس، ولا ينقص من عمر أحد آخر، إلا وكل ذلك كائن وثابت في كتاب عنده- تعالى- وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، أو صحائف أعمال العباد أو علم الله الأزلى.
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله مِنْ عُمُرِهِ يعود إلى الشخص ذاته وهو المعمر فيكون المعنى: وما يمد الله- تعالى- في عمر إنسان، ولا ينقص من عمره بمضى أيام حياته، إلا وكل ذلك ثابت في علمه- سبحانه-.
قال بعض العلماء: وقد أطال بعضهم الكلام في ذلك ومحصله: أنه اختلف في معنى مُعَمَّرٍ فقيل: هو المزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله ولا ينقص، وقيل: المراد بقوله مُعَمَّرٍ من يجعل له عمر. وهل هو شخص واحد أو شخصان؟
فعلى رأى من قال بأن المعمر، هو من يجعل له عمر يكون شخصا واحدا بمعنى انه يكتب عمره مائة سنة- مثلا-، ثم يكتب تحته مضى يوم، مضى يومان، وهكذا فكتابة الأصل هي التعمير.. والكتابة بعد ذلك هو النقص كما قيل:
حياتك أنفاس تعدّ فكلما ... مضى نفس منها انتقصت به جزءا
والضمير حينئذ راجع إلى المذكور. والمعمر على هذا هو الذي جعل الله- تعالى- له عمرا طال هذا العمر أو قصر.
وعلى رأى من قال بأن المعمر هو من يزاد في عمره، يكون من ينقص في عمره غير الذي(11/332)
يزاد في عمره فهما شخصان. والضمير في «عمره» على هذا الرأى يعود إلى شخص آخر، إذ لا يكون المزيد في عمره منقوصا من عمره..» «1» .
وقد رجح ابن جرير- رحمه الله- الرأى الأول وهو أن الضمير في قوله مِنْ عُمُرِهِ يعود إلى شخص آخر- فقال: وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، التأويل الأول، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه، وأشبههما بظاهر التنزيل «2» .
واسم الإشارة في قوله إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعود إلى الخلق من تراب وما بعده.
أى: إن ذلك الذي ذكرناه لكم من خلقكم من تراب، ثم من نطفة.. يسيروهين على الله- تعالى- لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء على الإطلاق.
ثم ذكر- سبحانه- نوعا آخر من أنواع بديع صنعه، وعجيب قدرته، فقال:
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ...
والماء العذب الفرات: هو الماء السائغ للشرب، الذي يشعر الإنسان عند شربه باللذة وهو ماء الأنهار. وسمى فراتا لأنه يفرت العطش، أى: يقطعه ويزيله ويكسره.
والماء الملح الأجاج: هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار. سمى أجاجا من الأجيج وهو تلهب النار، لأن شربه يزيد العطشان عطشا وتعبا.
قالوا: والآية الكريمة مثل للمؤمن والكافر. فالبحر العذب: مثل للمؤمن، والبحر الملح:
مثل للكافر.
فكما أن البحرين اللذين أحدهما عذب فرات سائغ شرابه. والآخر ملح أجاج.
لا يتساويان في طعمهما ومذاقهما. وإن اشتركا في بعض الفوائد- فكذلك المؤمن والكافر، لا يتساويان في الخاصية العظمى التي خلقا من أجلها، وهي إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وإن اشتركا في بعض الصفات الأخرى كالسخاء والشجاعة- لأن المؤمن استجاب لفطرته فآمن بالحق، أما الكافر فقد عاند فطرته، فأصر على الكفر.
وقوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا بيان لبعض النعم التي وهبها- سبحانه- لعباده من وجود البحرين.
أى: ومن كل واحد منهما تأكلون لحما طريا، أى: غضا شهيا مفيدا لأجسادكم، عن طريق ما تصطادونه منهما من أسماك وما يشبهها.
__________
(1) تفسير القاسمى ج 14 ص 4976.
(2) تفسير ابن جرير ج 22 ص 81.(11/333)
قال بعض العلماء. وفي وصفه بالطراوة، تنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله، لأنه يسرع إليه الفساد والتغيير. وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر المأكولات فسبحان الخبير بشئون خلقه..
وفيه- أيضا- إيماء إلى كمال قدرته- تعالى- حيث أوجد هذا اللحم الطري النافع في الماء الملح الأجاج الذي لا يشرب.
وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء، وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجهه، لحديث جابر بن عبد الله، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نضب عنه الماء فكلوه. وما لفظه الماء فكلوه، وما طفا- على وجه الماء- فلا تأكلوه» .
فالمراد من ميتة البحر في حديث: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه البحر لا ما مات فيه من غير آفة» «1» .
وقوله- تعالى-: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها بيان لنعمة ثانية من النعم التي تصل إلى الناس عن طريق البحرين.
والحلية- بكسر الحاء-: اسم لما يتحلى به الناس، ويتزينون بلبسه، وجمع حلية: حلى وحلى- بكسر الحاء وضمها- يقال: تحلت المرأة إذا لبست الحلي.
أى: ومن النعم التي تصل إليكم عن طريق البحرين، استخراجكم منهما ما ينفعكم، وما تتحلى به نساؤكم، كاللؤلؤ والمرجان وغيرهما.
والتعبير بقوله: وَتَسْتَخْرِجُونَ يشير إلى كثرة الإخراج. فالسين والتاء للتأكيد. كما يشير بأن من الواجب على المسلمين، أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما في البحرين من كنوز نافعة، وأن لا يتركوا ذلك لأعدائهم.
وأسند- سبحانه- لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور، فقال تَلْبَسُونَها على سبيل التغليب، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء في الأعم الأغلب من الأحوال.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: تَلْبَسُونَها أى: تلبسها نساؤكم وأسند الفعل إلى ضمير الرجال، لاختلاطهم بهن، وكونهم متبوعين، أو لأنهم سبب لتزينهن فإن النساء يتزين- في الغالب- ليحسن في أعين الرجال..» «2» .
__________
(1) تفسير المراغي ج 14 ص 61.
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 113.(11/334)
وقال بعض العلماء: وفي الآية دليل قرآنى واضح على بطلان دعوى بعض العلماء من أن اللؤلؤ والمرجان، لا يستخرجان إلا من البحر الملح خاصة» «1» .
وقوله- تعالى- وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ بيان لنعمة ثالثة من نعمه- تعالى- عن طريق وجود البحار في الأرض.
وأصل المخر: الشق. يقال مخرت السفينة البحر إذا شقته وسارت بين أمواجه، ومخر الماء الأرض إذا شقها.
أى: وترى- أيها العاقل- ببصرك السفن في كل من البحرين مَواخِرَ أى تشق الماء بمقدماتها، وتسرع السير فيه من جهة إلى جهة..
والضمير في قوله فِيهِ يعود إلى البحر الملح، لأن أمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب، وإن كانت السفن تجرى في البحرين.
ويجوز أن يكون الضمير في قوله فِيهِ يعود إلى جنس البحر. أى: وترى السفن تشق كل بحر، لتسير فيه من مكان إلى مكان..
واللام في قوله- تعالى-: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام السابق.
أى: أوجدنا البحرين، وسخرناهما لمنفعتكم، لتطلبوا أرزاقكم فيهما، وهذه الأرزاق هي من فضل الله- تعالى- عليكم، ومن رحمته بكم، ولعلكم بعد ذلك تشكروننا على آلائنا ونعمنا، فإن من شكرنا زدناه من خيرنا وعطائنا.
ثم بين- سبحانه- نعما أخرى تتجلى في الليل وفي النهار، وفي الشمس والقمر، فقال:
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى..
أى: ومن مظاهر فضله عليكم، ورحمته بكم، أنه أوجد لكم الليل والنهار بهذا النظام البديع، بأن أدخل أحدهما في الآخر، وجعلهما متعاقبين، مع زيادة أحدهما عن الآخر في الزمان، على حسب اختلاف المطالع، والمغارب، وأوجد- أيضا- بفضله ورحمته الشمس والقمر لمنفعتكم، وكل واحد منهما يسير بنظام بديع محكم، إلى الأجل والوقت الذي حدده الله- تعالى- لانتهاء عمر هذه الدنيا..
__________
(1) اضواء البيان ج 6 ص 640 للشيخ الشنقيطى- رحمه الله-.(11/335)
والإشارة في قوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ... تعود إلى الخالق والموجد لتلك الكائنات العجيبة البديعة، وهو الله- عز وجل-.
أى: ذلكم الذي أوجد كل هذه المخلوقات لمنفعتكم، هو الله- تعالى- ربكم وهو وحده الذي له ملك هذا الكون، لا يشاركه فيه مشارك، ولا ينازعه في ملكيته منازع وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أى: والذين تعبدونهم من دون الله- تعالى-، وتصفونهم بأنهم آلهة.
ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ والقطمير: القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة.
أو هو النقطة في ظهر النواة، ويضرب مثلا لأقل شيء وأحقره.
أى: والذين تعبدونهم من دون الله- تعالى- لا يملكون معه- سبحانه- شيئا، ولو كان هذا الشيء في نهاية القلة والحقارة والصغر، كالنكتة التي تكون في ظهر النواة.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى وقرره فقال: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ....
أى: إن هذه المعبودات الباطلة لا تملك من شيء مع الله- تعالى-، بدليل أنكم إن تدعوهم لنفعكم، لن يسمعوا دعاءكم، وإن تستغيثوا بهم عند المصائب والنوائب، لن يلبوا استغاثتكم..
وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض والتقدير مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لأنهم لا قدرة لهم على هذه الاستجابة لعجزهم عن ذلك.
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ الذي تتجلى فيه الحقائق، وتنكشف الأمور يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ.
أى: يتبرءون من عبادتكم لهم، ومن إشراككم إياهم العبادة مع الله- تعالى-، فضلا عن عدم استجابتهم لكم إذا دعوتموهم لنصرتكم.
وَلا يُنَبِّئُكَ أى: ولا يخبرك بهذه الحقائق التي لا تقبل الشك أو الريب.
مِثْلُ خَبِيرٍ أى: مثل من هو خبير بأحوال النفوس وبظواهرها وببواطنها. وهو الله- عز وجل-، فإنه- سبحانه- هو الذي يعلم السر وأخفى.
وبهذا نرى الآيات الكريمة، قد طوفت بنا في أرجاء هذا الكون، وساقت لنا ألوانا من نعم الله- تعالى- على الناس، كالرياح، والسحاب، والأمطار والبحار، والليل والنهار، والشمس والقمر ... وهي نعم تدل على وحدانية المنعم بها، وعلى قدرته- عز وجل- وفي كل ذلك هداية إلى الحق لكل عبد منيب.
ثم وجه- سبحانه- نداء ثالثا إلى الناس، نبههم فيه إلى فقرهم إليه- سبحانه-، وإلى غناه عنهم، وإلى مسئولية كل إنسان عن نفسه، وإلى وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي(11/336)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
أرسله إليهم، وإلى الفرق الشاسع بين الإيمان والكفر، وإلى سوء مصير المكذبين، فقال- تعالى-:
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
وقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ ... نداء منه- سبحانه- للناس، يعرفهم فيه حقيقة أمرهم، ولأنهم لا غنى لهم عن خالقهم- عز وجل-.
أى: يا أيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله- تعالى- في كل شئونكم الدنيوية والأخروية وَاللَّهُ- تعالى- وحده هو الغنى، عن كل مخلوق سواه، وهو الْحَمِيدُ أى:(11/337)
المحمود من جميع الموجودات، لأنه هو الخالق لكل شيء، وهو المنعم عليكم وعلى غيركم بالنعم التي لا تحصى.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنه لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم، لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر، وقد شهد الله- سبحانه- على الإنسان بالضعف في قوله: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء» «1» .
وجمع- سبحانه- في وصف ذاته بين الغنى والحميد، للإشعار بأنه- تعالى- بجانب غناه عن خلقه، هو الذي يفيض عليهم من نعمه، وهو الذي يعطيهم من خيره وفضله، ما يجعلهم يحمدونه بألسنتهم وقلوبهم.
قال الآلوسى: قوله الْحَمِيدُ أى: المنعم على جميع الموجودات، المستحق بإنعامه للحمد، وأصله المحمود، وأريد به ذلك عن طريق الكناية، ليناسب ذكره بعد فقرهم، إذ الغنى لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما، ومثله مستحق للحمد، وهذا كالتكميل لما قبله..» «2» .
وقوله- سبحانه-: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بيان لمظهر من مظاهر غناه عن الناس.
أى: إن يشأ- سبحانه- يهلككم ويزيلكم من هذا الوجود، ويأت بأقوام آخرين سواكم، فوجودكم في هذه الحياة متوقف على مشيئته وإرادته.
واسم الإشارة في قوله وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يعود على الإذهاب بهم، والإتيان بغيرهم.
وما ذلك الذي ذكرناه لكم من إفنائكم والإتيان بغيركم، بعزيز، أى: بصعب أو عسير أو ممتنع على الله- تعالى-، لأن قدرته- تعالى- لا يعجزها شيء.
ثم بين- سبحانه- أن كل نفس تتحمل نتائج أعمالها وحدها فقال: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
وقوله: تَزِرُ من الوزر بمعنى الحمل. يقال: فلان وزر هذا الشيء إذا حمله. وفعله
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 606.
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 183. [.....](11/338)
من باب «وعد» ، وأكثر ما يكون استعمالا في حمل الآثام.
وقوله وازِرَةٌ: صفة لموصوف محذوف. أى: ولا تحمل نفس آثمة، إثم نفس أخرى، وإنما كل نفس مسئولة وحدها عن أفعالها وأقوالها التي باشرتها، أو تسببت فيها.
وقوله: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى مؤكد لمضمون ما قبله، من مسئولية كل نفس عن أفعالها.
وقوله: مُثْقَلَةٌ صفة لموصوف محذوف، والمفعول محذوف- أيضا- للعلم به.
وقوله حِمْلِها أى: ما تحمله من الذنوب والآثام، إذ الحمل- بكسر الحاء- ما يحمله الإنسان من أمتعة على ظهره أو رأسه أو كتفه.
والمعنى: لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، وإن تطلب نفس مثقلة بالذنوب من نفس أخرى، أن تحمل عنها شيئا من ذنوبها التي أثقلتها، لا تجد استجابة منها، ولو كانت تلك النفس الأخرى من أقربائها وذوى رحمها.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ...
وقال- سبحانه-: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل: ولا تزر نفس وزر أخرى؟ قلت: لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها، لا وزر غيرها.
فإن قلت: كيف توفق بين هذا، وبين قوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ؟
قلت: تلك الآية في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلالهم لغيرهم، مع أثقالهم، وذلك كله أوزارهم، ما فيها شيء من وزر غيرهم.
فإن قلت: فما الفرق بين معنى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وبين معنى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ..؟
قلت: الأول في الدلالة على عدل الله- تعالى- في حكمه، وأنه- تعالى- لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها.
والثاني: في أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث.. وإن كان المستغاث به بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ ...(11/339)
فإن قلت: إلام أسند كان في قوله وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى؟ قلت: إلى المدعو المفهوم من قوله: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ.
فإن قلت: فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت: «ليعم ويشمل كل مدعو..» «1» .
وقوله- تعالى-: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ.
كلام مستأنف مسوق لبيان من هم أهل للاتعاظ والاستجابة للحق.
أى: أنت- أيها الرسول الكريم- إنما ينفع وعظك وإنذارك. أولئك العقلاء الذين يخشون ربهم- عز وجل- دون أن يروه، أو يروا عذابه، والذين يؤدون الصلاة في مواقيتها بإخلاص وخشوع واطمئنان.
ثم حض- سبحانه- على تزكية النفوس وتطهيرها فقال: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أى: ومن تطهر من دنس الكفر والفسوق والعصيان. وحصن نفسه بالإيمان، والعمل الصالح، والتوبة النصوح، فإن ثمرة تطهره إنما تعود إلى نفسه وحدها، وإليها يرجع الأجر والثواب، والله- تعالى- إليه وحده مصير العباد لا إلى غيره.
فالجملة الكريمة دعوة من الله- تعالى- للناس، إلى تزكية النفوس وتطهيرها من كل سوء، بعد بيان أن كل نفس مسئولة وحدها عن نتائج أفعالها، وأن أحدا لن يلبى طلب غيره في أن يحمل شيئا عنه من أوزاره.
ثم ساق- سبحانه- أمثلة، لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر، وبين الحق والباطل، وبين العلم والجهل.. فقال- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ...
والحرور: هو الريح الحارة التي تلفح الوجوه من شدة حرها، فهو فعول من الحر.
أى: وكما أنه لا يستوي في عرف أى عاقل الأعمى والبصير، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، وكما لا تصلح المساواة بين الظلمات والنور، كذلك لا تصلح المساواة بين الكفر والإيمان، وكما لا يتساوى المكان الظليل مع المكان الشديد الحرارة، كذلك لا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب النار.
فأنت ترى أن الآيات الكريمة قد مثلت الكافر في عدم اهتدائه بالأعمى، والمؤمن بالبصير، كما مثلت الكفر بالظلمات والإيمان بالنور، والجنة بالظل الظليل، والنار بالريح الحارة التي تشبه السموم.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 607.(11/340)
وكرر- سبحانه- لفظ لَا أكثر من مرة، لتأكيد نفى الاستواء، بأية صورة من الصور.
وقوله: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل آخر للمؤمنين الذين استجابوا للحق، وللكافرين الذين أصروا على باطلهم. أو هو تمثيل للعلماء والجهلاء قال الإمام ابن كثير: يقول- تعالى- كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى والبصير لا يستويان، بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا يستوي الأحياء ولا الأموات. وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين الأحياء، وللكافرين وهم الأموات، كقوله- تعالى-: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ...
وقال- تعالى-: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا فالمؤمن سميع بصير في نور يمشى.. والكافر أعمى أصم، في ظلمات يمشى، ولا خروج له منها، حتى يفضى به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم..» «1» .
وقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ بيان لنفاذ قدرة الله- تعالى-، ومشيئته.
أى: إن الله- تعالى- يسمع من يشاء أن يسمعه، ويجعله مدركا للحق، ومستجيبا له أما أنت- أيها الرسول الكريم- فليس في استطاعتك أن تسمع هؤلاء الكافرين المصرين على كفرهم وباطلهم، والذين هم أشبه ما يكونون بالموتى في فقدان الحس، وفي عدم السماع لما تدعوهم إليه.
فالجملة الكريمة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين.
ثم حدد الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وظيفته فقال: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ.
أى: ما أنت- أيها الرسول الكريم- إلا منذر للناس من حلول عذاب الله- تعالى- بهم، إذا ما استمروا على كفرهم، أما الهداية والضلال فهما بيد الله- تعالى- وحده.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ- أيها الرسول الكريم- إرسالا ملتبسا بِالْحَقِّ الذي لا يحوم حوله الباطل بَشِيراً وَنَذِيراً أى: أرسلناك بالحق مبشرا المؤمنين بحسن الثواب، ومنذرا الكافرين بأشد ألوان العقاب.
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أى: وما من أمة من الأمم الماضية، إلا وجاءها
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 529.(11/341)
نذير ينذرها من سوء عاقبة الكفر، ويدعوها إلى إخلاص العبادة لله- تعالى-.
فمن أفراد هذه الأمة من أطاعوا هذا النذير فسعدوا وفازوا، ومنهم من استحب العمى على الهدى، والكفر على الإيمان فشقوا وخابوا.
ثم أضاف- سبحانه- إلى تسليته لرسوله صلّى الله عليه وسلّم تسلية أخرى فقال: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ، فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ....
أى: وإن يكذبك قومك يا محمد فلا تحزن، فإن الأقوام السابقين قد كذبوا إخوانك الذين أرسلناهم إليهم، كما كذبك قومك.
وإن هؤلاء السابقين قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أى: بالمعجزات الواضحات وَبِالزُّبُرِ أى: وبالكتب المنزلة من عند الله- تعالى- جمع زبور وهو المكتوب، كصحف إبراهيم وموسى.
وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أى: وبالكتاب الساطع في براهينه وحججه، كالتوراة التي أنزلناها على موسى، والإنجيل الذي أنزلناه على عيسى.
قال الشوكانى: قيل: الكتاب المنير داخل تحت الزبر، وتحت البينات، والعطف لتغير المفهومات، وإن كانت متحدة في الصدق. والأولى تخصيص البينات بالمعجزات. والزبر بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع وأحكام» «1» .
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالعذاب الشديد، بسبب إصرارهم على كفرهم، وتكذيبهم لرسلهم.
ووضع الظاهر موضع ضميرهم، لذمهم وللأشعار بعلة الأخذ.
والاستفهام في قوله- تعالى- فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للتهويل. أى: فانظر- أيها العاقل- كيف كان إنكارى عليهم، لقد كان إنكارا مصحوبا بالعذاب الأليم الذي دمرهم تدميرا، واستأصلهم عن آخرهم.
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك أدلة أخرى على عظيم قدرته. وبين من هم أولى الناس بخشيته، ومدح الذين يكثرون من تلاوة كتابه، ويحافظون على أداء فرائضه، ووعدهم على ذلك بالأجر الجزيل فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 4 ص 346.(11/342)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 31]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً..
لتقرير ما قبله، من أن اختلاف الناس في عقائدهم وأحوالهم أمر مطرد، وأن هذا الاختلاف موجود حتى في الحيوان والحجارة والنبات..
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ.. هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك، فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب، بأن شبه من لم ير الشيء، بحال من رآه. في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه، ثم أجرى الكلام معه. كما يجرى مع من رأى، قصدا إلى المبالغة في شهرته..» «1» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 160.(11/343)
والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى له الخطاب، بتقرير دليل من أدلة القدرة الباهرة.
والمعنى: لقد علمت- أيها العاقل- علما لا يخالطه شك، أن الله- تعالى- أنزل من السماء ماء كثيرا، فأخرج بسببه من الأرض، ثمرات مختلفا ألوانها. فبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر.. وبعضها حلو المذاق، وبعضها ليس كذلك، مع أنها جميعا تسقى بماء واحد، كما قال- تعالى-: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ، صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «1» .
وجاء قوله فَأَخْرَجْنا.. على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى التكلم، لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة، ولأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء.
وقوله مُخْتَلِفاً صفة لثمرات، وقوله أَلْوانُها فاعل به.
وقوله- تعالى-: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ معطوف على ما قبله، لبيان مظهر آخر من مظاهر قدرته- عز وجل-.
قال القرطبي ما ملخصه: «الجدد جمع جدّة- بضم الجيم- وهي الطرائق المختلفة الألوان» .. والجدّة: الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة: الطريقة والجمع جدد..
أى: طرائق تخالف لون الجبل، ومنه قولهم: ركب فلان جدّة من الأمر، إذا رأى فيه رأيا» «2» .
وغرابيب: جمع غربيب، وهو الشيء الشديد السواد، والعرب تقول للشيء الشديد السواد، أسود غربيب.
وقوله: سُودٌ بدل من غَرابِيبُ.
أى: أنزلنا من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، وجعلنا بقدرتنا من الجبال قطعا ذات ألوان مختلفة، فمنها الأبيض، ومنها الأحمر، ومنها ما هو شديد السواد، ومنها ما ليس كذلك، مما يدل على عظيم قدرتنا. وبديع صنعنا..
__________
(1) سورة الرعد الآية 4.
(2) تفسير القرطبي ج 14 ص 342.(11/344)
ثم بين- سبحانه- أن هذا الاختلاف ليس مقصورا على الجبال فقال: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ ...
وقوله: مُخْتَلِفٌ صفة لموصوف محذوف. وقوله كَذلِكَ صفة- أيضا- لمصدر محذوف، معمول لمختلف.
أى: ليس اختلاف الألوان مقصورا على قطع الجبال وطرقها وأجزائها، بل- أيضا- من الناس والدواب والأنعام، أصناف وأنواع مختلف ألوانها اختلافا، كذلك الاختلاف الكائن في قطع الجبال، وفي أنواع الثمار.
وإنما ذكر- سبحانه- هنا اختلاف الألوان في هذه الأشياء، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله- تعالى- وعلى بديع صنعه.
ثم بين- سبحانه- أولى الناس بخشيته فقال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أى: إنما يخاف الله- تعالى- ويخشاه، العالمون بما يليق بذاته وصفاته، من تقديس وطاعة وإخلاص في العبادة، أما الجاهلون بذاته وصفاته- تعالى-، فلا يخشونه ولا يخافون عقابه، لانطماس بصائرهم، واستحواذ الشيطان عليهم، وكفى بهذه الجملة الكريمة مدحا للعلماء، حيث قصر- سبحانه- خشيته عليهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لا بد من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم الله، وأخرت العلماء، كان المعنى. إن الذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله، كقوله- تعالى-: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وهما معنيان مختلفان.
فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟
قلت: لما قال أَلَمْ تَرَ بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء، وعدد آيات الله، وأعلام قدرته، وآثار صنعته.. أتبع ذلك بقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته، وعلمه كنه علمه.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم به» «1» .
وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على أنه يعاقب على المعصية، ويغفر الذنوب لمن تاب من عباده توبة نصوحا.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 611.(11/345)
ثم مدح- سبحانه- المكثرين من تلاوة كتابه، المحافظين على أداء فرائضه فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ....
أى: إن الذين يداومون على قراءة القرآن الكريم بتدبر لمعانيه، وعمل بتوجيهاته، وَأَقامُوا الصَّلاةَ بأن أدوها في مواقيتها بخشوع وإخلاص.
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً أى: وبذلوا مما رزقناهم من خيرات، تارة في السر وتارة في العلانية.
وجملة يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ في محل رفع خبر إن. والمراد بالتجارة: ثواب الله- تعالى- ومغفرته.
وقوله: تَبُورَ بمعنى تكسد وتهلك. يقال: بار الشيء يبور بورا وبوارا، إذا هلك وكسد.
أى: هؤلاء الذين يكثرون من قراءة القرآن الكريم، ويؤدون ما أوجبه الله- تعالى- عليهم، يرجون من الله- تعالى- الثواب الجزيل، والربح الدائم، لأنهم جمعوا في طاعتهم له- تعالى- بين الإكثار من ذكره، وبين العبادات البدنية والمالية.
واللام في قوله: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.. متعلقة بقوله لَنْ تَبُورَ على معنى، يرجون تجارة لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجورهم التي وعدهم بها، ويزيدهم في الدنيا والآخرة من فضله ونعمه وعطائه.
أو متعلقة بمحذوف، والتقدير: فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إِنَّهُ- سبحانه- غَفُورٌ أى: واسع المغفرة شَكُورٌ أى: كثير العطاء لمن يطيعه ويؤدى ما كلفه به.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة، بتثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلم، وتسليته عما أصابه من أعدائه فقال: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أى القرآن الكريم هُوَ الْحَقُّ الثابت الذي لا يحوم حوله باطل.
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أى: أن من صفات هذا القرآن أنه مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية. كالتوراة والإنجيل.
إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ أى: إن الله- تعالى- لمحيط إحاطة تامة بأحوال عباده، مطلع على ما يسرونه وما يعلنونه من أقوال أو أفعال.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله- تعالى-(11/346)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
وقدرته، وأثنت على العلماء، وعلى التالين للقرآن الكريم، والمحافظين على أداء ما كلفهم الله- تعالى- ثناء عظيما.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان أقسام الناس في هذه الحياة. ووعدت المؤمنين الصادقين بجنات النعيم، فقال- تعالى-:
[سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 35]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
و «ثم» في قوله- تعالى-: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا للتراخي الرتبى. وأَوْرَثْنَا أى أعطينا ومنحنا، إذ الميراث عطاء يصل للإنسان عن طريق غيره.
والمراد بالكتاب: القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من عقائد وأحكام وآداب وتوجيهات سديدة.. وهو المفعول الثاني لأورثنا، وقدم على المفعول الأول، وهو الموصول للتشريف.
واصْطَفَيْنا بمعنى اخترنا واستخلصنا، واشتقاقه من الصفو، بمعنى الخلوص من الكدر والشوائب.
والمراد بقوله: مِنْ عِبادِنا الأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس.
والمعنى: ثم جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك- أيها الرسول الكريم- ميراثا منك(11/347)
لأمتك، التي اصطفيناها على سائر الأمم، وجعلناها أمة وسطا. وقد ورثناها هذا الكتاب لتنتفع بهداياته.. وتسترشد بتوجيهاته، وتعمل بأوامره ونواهيه.
قال الآلوسى: قوله: الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا هم- كما قال ابن عباس وغيره- أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، فإن الله- تعالى- اصطفاهم على سائر الأمم..» «1» .
وفي التعبير بالاصطفاء، تنويه بفضل هؤلاء العباد، وإشارة إلى فضلهم على غيرهم، كما أن التعبير بالماضي يدل على تحقق هذا الاصطفاء.
ثم قسم- سبحانه- هؤلاء العباد إلى ثلاثة أقسام فقال: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ...
وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة، تعود إلى أفراد هذه الأمة الإسلامية.
وأن المراد بالظالم لنفسه، من زادت سيئاته على حسناته.
وأن المراد بالمقتصد: من تساوت حسناته مع سيئاته.
وأن المراد بالسابقين بالخيرات: من زادت حسناتهم على سيئاتهم.
وعلى هذا يكون الضمير في قوله- تعالى- بعد ذلك: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها..
يعود إلى تلك الأقسام الثلاثة، لأنهم جميعا من أهل الجنة بفضل الله ورحمته.
ومن العلماء من يرى أن المراد بالظالم لنفسه: الكافر، وعليه يكون الضمير في قوله:
يَدْخُلُونَها يعود إلى المقتصد والسابق بالخيرات، وأن هذه الآية نظير قوله- تعالى- في سورة الواقعة: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ...
ومن المفسرين الذين رجحوا القول الأول ابن كثير فقد قال ما ملخصه: يقول- تعالى- ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم ... وهم هذه الأمة على ثلاثة أقسام: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو المفرط في بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو المؤدى للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وهو الفاعل للواجبات والمستحبات.
قال ابن عباس: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ورثهم الله- تعالى- كل كتاب أنزله. فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 194.(11/348)
وفي رواية عنه: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله- تعالى-، والظالم لنفسه يدخل الجنة بشفاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الشريف: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتى» ..
وقال آخرون: الظالم لنفسه: هو الكافر.
والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من طرق يشد بعضها بعضا.
ثم أورد الإمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث منها: ما أخرجه الإمام أحمد عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية: «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة» .
ومعنى قوله «بمنزلة واحدة» أى: في أنهم من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة» «1» .
وقال الإمام ابن جرير: فإن قال لنا قائل: إن قوله يَدْخُلُونَها إنما عنى به المقتصد والسابق بالخيرات؟
قيل له: وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قال: قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد، وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد.
قيل: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله- تعالى- أنهم يدخلون جنات عدن: وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا ... ثم يدخلون الجنة بعد ذلك، فيكون ممن عمه خبر الله- تعالى- بقوله:
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها «2» .
وقال الشوكانى: والظالم لنفسه: هو الذي عمل الصغائر. وقد روى هذا القول عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأبى الدرداء، وعائشة. وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور ... ووجه كونه ظالما لنفسه، أنها نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات، لكان لنفسه فيها من الثواب حظا عظيما.. «3» .
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 532.
(2) راجع تفسير ابن جرير ج 22 ص 90.
(3) تفسير الشوكانى ج 4 ص 349.(11/349)
قالوا: وتقديم الظالم لنفسه على المقتصد وعلى السابق بالخيرات. لا يقتضى تشريفا، كما في قوله- تعالى- لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ...
ولعل السر في مجيء هذه الأقسام بهذا الترتيب، أن الظالمين لأنفسهم أكثر الأقسام عددا، ويليهم المقتصدون، ويليهم السابقون بالخيرات، كما قال- تعالى- وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.
وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أى: بتوفيقه وإرادته وفضله.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعود إلى ما تقدم من توريث الكتاب ومن الاصطفاء.
أى: ذلك الذي أعطيناه- أيها الرسول الكريم- لأمتك من الاصطفاء ومن توريثهم الكتاب، هو الفضل الواسع الكبير، الذي لا يقادر قدره، ولا يعرف كنهه إلا الله- تعالى-.
ثم بين- سبحانه- مظاهر هذا الفضل فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها والضمير للأنواع الثلاثة.
أى: هؤلاء الظالمون لأنفسهم والمقتصدون والسابقون بالخيرات، ندخلهم بفضلنا ورحمتنا، الجنات الدائمة التي يخلدون فيها خلودا أبديا.
يقال: عدن فلان بالمكان، إذا أقام به إقامة دائمة.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أى أنهم يدخلون الجنات دخولا دائما، وهم في تلك الجنات يتزينون بأجمل الزينات، وبأفخر الملابس، حيث يلبسون في أيديهم أساور من ذهب ولؤلؤا، أما ثيابهم فهي من الحرير الخالص.
ثم حكى- سبحانه- ما يقولونه بعد فوزهم بهذا النعيم فقال: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.
والحزن: غم يعترى الإنسان لخوفه من زوال نعمة هو فيها. والمراد به هنا: جنس الحزن الشامل لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة.
أى: وقالوا عند دخولهم الجنات الدائمة، وشعورهم بالأمان والسعادة والاطمئنان:
الحمد لله الذي أذهب عنا جميع ما يحزننا من أمور الدنيا أو الآخرة.
إِنَّ رَبَّنا بفضله وكرمه لَغَفُورٌ شَكُورٌ أى: لواسع المغفرة لعباده ولكثير العطاء للمطيعين، حيث أعطاهم الخيرات الوفيرة في مقابل الأعمال القليلة. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ(11/350)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ أى: الحمد لله الذي أذهب عنا الأحزان بفضله ورحمته، والذي أَحَلَّنا أى: أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ أى: الدار التي لا انتقال لنا منها، وإنما نحن سنقيم فيها إقامة دائمة وهي الجنة التي منحنا إياها بفضله وكرمه.
وهذه الدار لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أى: لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة ولا عناء.
يقال: نصب فلان- كفرح- إذا نزل به التعب والإعياء.
وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أى: ولا يصيبنا فيها كلال وإعياء بسبب التعب والهموم، يقال: لغب فلان لغبا ولغوبا. إذا اشتد به الإعياء والهزال.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللّغوب؟
قلت: النصب، التعب والمشقة، التي تصيب المنتصب للأمر، المزاول له.
وأما اللغوب، فما يلحقه من الفتور بسبب النصب. فالنصب: نفس المشقة والكلفة.
واللغوب: نتيجة ما يحدث منه من الكلال والفتور» «1» .
وبعد هذا البيان البليغ الذي يشرح الصدور لحسن عاقبة المفلحين، ساقت السورة الكريمة حال الكافرين، وما هم فيه من عذاب مهين، فقال- تعالى-:
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 38]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 614.(11/351)
اى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا في الدنيا بكل ما يجب الإيمان به لَهُمْ في الآخرة نارُ جَهَنَّمَ يعذبون فيها تعذيبا أليما.
ثم بين- سبحانه- حالهم في جهنم فقال: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أى: لا يحكم عليهم فيها بالموت مرة أخرى كما ماتوا بعد انقضاء آجالهم في الدنيا، وبذلك يستريحون من العذاب. ولا يخفف عنهم من عذاب جهنم، بل هي كلما خبت أو هدأ لهيبها، عادت مرة أخرى إلى شدتها، وازدادت سعيرا.
والمراد أنهم باقون في العذاب الأليم بدون موت، أو حياة يستريحون فيها.
كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أى: مثل هذا الجزاء الرادع الفظيع، نجزى في الآخرة، كل شخص كان في الدنيا شديد الجحود والكفران لآيات ربه، الدالة على وحدانيته وقدرته..
وقوله- تعالى-: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ بيان لما يجأرون به إلى ربهم وهم ملقون في نار جهنم.
ويصطرخون، بمعنى يستغيثون ويضجون بالدعاء رافعين أصواتهم، افتعال من الصراخ، وهو الصياح الشديد المصحوب بالتعب والمشقة، ويستعمل كثيرا في العويل والاستغاثة.
وأصله يصترخون، فأبدلت التاء طاء.
وجملة رَبَّنا أَخْرِجْنا ... مقول لقول محذوف.
أى: وهم بعد أن ألقى بهم في نار جهنم، أخذوا يستغيثون ويضجون بالدعاء والعويل ويقولون: يا ربنا أخرجنا من هذه النار، وأعدنا إلى الحياة الدنيا، لكي نؤمن بك وبرسولك، ونعمل أعمالا صالحة أخرى ترضيك، غير التي كنا نعملها في الدنيا.
وقولهم هذا يدل على شدة حسرتهم، وعلى اعترافهم بجرمهم، وبسوء أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا.
وهنا يأتيهم من ربهم الرد الذي يخزيهم فيقول- سبحانه- أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ....
والاستفهام للتوبيخ والتقريع، والكلام على إضمار القول، وقوله نُعَمِّرْكُمْ من التعمير بمعنى الإبقاء والإمهال في الحياة الدنيا إلى الوقت الذي كان يمكنهم فيه الإقلاع عن الكفر إلى الإيمان.
وما في قوله ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ نكرة موصوفة بمعنى مدة. والضمير في قوله فِيهِ يعود إلى عمرهم الذي قضوه في الدنيا.(11/352)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
والمعنى: أن هؤلاء الكافرين عند ما يقولون بحسرة وضراعة: يا ربنا أخرجنا من النار وأعدنا إلى الدنيا لنعمل عملا صالحا غير الذي كنا نعمله فيها، يرد عليهم ربهم بقوله لهم على سبيل الزجر والتأنيب: أو لم نمهلكم في الحياة الدنيا، ونعطيكم العمر والوقت الذي كنتم تتمكنون فيه من التذكر والاعتبار واتباع طريق الحق، وفضلا عن كل ذلك فقد جاءكم النذير الذي ينذركم بسوء عاقبة إصراركم على كفركم، ولكنكم كذبتموه وأعرضتم عن دعوته.
والمراد بالنذير: جنسه فيتناول كل رسول أرسله الله- تعالى- إلى قومه، فكذبوه ولم يستجيبوا لدعوته، وعلى رأس هؤلاء المنذرين سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
والفاء في قوله- تعالى-: فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم، فاخسئوا في جهنم، واتركوا الصراخ والعويل، وذوقوا عذابها الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، فليس للمصرين على كفرهم من نصير ينصرهم، أو يدفع عنهم شيئا من العذاب الذي يستحقونه.
ثم ختم- سبحانه- الآيات الكريمة ببيان سعة علمه. فقال: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
أى: إن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء سواء أكان هذا الشيء في السموات أم في الأرض، إنه- سبحانه- عليم بما تضمره القلوب، وما تخفيه الصدور، وما توسوس به النفوس.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جانبا من مظاهر فضله على عباده، وأقام الأدلة على وحدانيته وقدرته، فقال- تعالى-:
[سورة فاطر (35) : الآيات 39 الى 41]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)(11/353)
وقوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ.. بيان لجانب من فضله- تعالى- على بنى آدم.
وخَلائِفَ جمع خليفة، وهو من يخلف غيره.
أى: هو- سبحانه- الذي جعلكم خلفاء في أرضه، وملككم كنوزها وخيراتها ومنافعها، لكي تشكروه على نعمه، وتخلصوا له العبادة والطاعة.
أو جعلكم خلفاء لمن سبقكم من الأمم البائدة، فاعتبروا بما أصابهم من النقم بسبب إعراضهم عن الهدى، واتبعوا ما جاءكم به رسولكم صلّى الله عليه وسلم.
وقوله فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أى: فمن كفر بالحق الذي جاءه به الرسول صلّى الله عليه وسلم واستمر على ذلك، فعلى نفسه يكون وبال كفره لا على غيره.
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً أى: لا يزيدهم إلا بغضا شديدا من ربهم لهم، واحتقارا لحالهم وغضبا عليهم ...
فالمقت: مصدر بمعنى البغض والكراهية، وكانوا يقولون لمن يتزوج امرأة أبيه وللولد الذي يأتى عن طريق هذا الزواج، المقتى، أى: المبغوض.
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أى: ولا يزيدهم إصرارهم على كفرهم إلا خسارا وبوارا وهلاكا في الدنيا والآخرة.
فالآية الكريمة تنفر أشد التنفير من الكفر، وتؤكد سوء عاقبته، تارة عن طريق بيان أنه مبغوض من الله- تعالى-، وتارة عن طريق بيان أن المتلبس به، لن يزداد إلا خسرانا وبوارا.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يتحدى هؤلاء المشركين، وأن يوبخهم على(11/354)
عنادهم وجحودهم فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ....
أى: قل- أيها الرسول الكريم- على سبيل التبكيت والتأنيب لهؤلاء المشركين.
أخبرونى وأنبئونى عن حال شركائكم الذين عبدتموهم من دون الله، ماذا فعلوا لكم من خير أو شر، وأرونى أى جزء خلقوه من الأرض حتى استحقوا منكم الألوهية والشركة مع الله- تعالى- في العبادة؟
إنهم لم يفعلوا- ولن يفعلوا- شيئا من ذلك، فكيف أبحتم لأنفسكم عبادتهم؟
وقوله أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ تبكيت آخر لهم. أى: وقل لهم: إذا كانوا لم يخلقوا شيئا من الأرض، فهل لهم معنا شركة في خلق السموات أو في التصرف فيها، حتى يستحقوا لذلك مشاركتنا في العبادة والطاعة.
وقوله: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ تبكيت ثالث لهم. أى: وقل لهم إذا كانوا لم يخلقوا شيئا من الأرض، ولم يشاركونا في خلق السموات، فهل نحن أنزلنا عليهم كتابا أقررنا لهم فيه بمشاركتنا، فتكون لهم الحجة الظاهرة البينة على صدق ما يدعون؟
والاستفهام في جميع أجزاء الآية الكريمة للإنكار والتوبيخ.
والمقصود بها قطع كل حجة يتذرعون بها في شركهم، وإزهاق باطلهم بألوان من الأدلة الواضحة التي تثبت جهالاتهم، حيث أشركوا مع الله- تعالى- ما لا يضر ولا ينفع، وما لا يوجد دليل أو ما يشبه الدليل على صحة ما ذهبوا إليه من كفر وشرك.
ولذا ختمت الآية الكريمة بالإضراب عن أوهامهم وبيان الأسباب التي حملتهم على الشرك، فقال- تعالى-: بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً.
أى: أن هؤلاء الشركاء لم يخلقوا شيئا لا من الأرض ولا من السماء، ولم نؤتهم كتابا بأنهم شركاء لنا في شيء، بل الحق أن الظالمين يخدع بعضهم بعضا، ويعد بعضهم بعضا بالوعود الباطلة، بأن يقول الزعماء لأتباعهم: إن هؤلاء الآلهة هم شفعاؤنا عند الله، وأننا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فيترتب على قولهم هذا، أن ينساق الأتباع وراءهم كما تنساق الأنعام وراء راعيها.
وبعد أن بين- سبحانه- ما عليه المعبودات الباطلة من عجز وضعف، أتبع ذلك ببيان جانب من عظيم قدرته، وعميم فضله فقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ...(11/355)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
أى: إن الله- تعالى- بقدرته وحدها، يمسك السموات والأرض كراهة أن تزولا، أو يمنعهما ويحفظهما من الزوال أو الاضمحلال أو الاضطراب، ولئن زالتا- على سبيل الفرض والتقدير- فلن يستطيع أحد أن يمسكهما ويمنعهما عن هذا الزوال سوى الله- تعالى- إِنَّهُ- سبحانه- كانَ وما زال حَلِيماً بعباده غَفُوراً لمن تاب إليه وأناب، كما قال- تعالى-: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى.
قال الآلوسى: قوله: وَلَئِنْ زالَتا أى: إن أشرفتا على الزوال على سبيل الفرض والتقدير، إِنْ أَمْسَكَهُما أى: ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أى: من بعد إمساكه- تعالى- أو من بعد الزوال، والجملة جواب القسم المقدر قبل لام التوطئة في لَئِنْ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ... ومِنْ الأولى مزيدة لتأكيد العموم. والثانية للابتداء «1» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بما كان عليه المشركون من نقض العهود، ومن مكر سىء حاق بهم، ودعاهم- سبحانه- إلى الاعتبار بمن سبقهم، وبين لهم جانبا من مظاهر فضله عليهم. ورأفته بهم فقال- تعالى-:
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 204.(11/356)
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ..: هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم حين بلغهم أن أهل الكتاب، كذبوا رسلهم، فلعنوا من كذب نبيه منهم..» «1» .
وجَهْدَ أَيْمانِهِمْ أى: أقوى أيمانهم وأغلظها والجهد: الطاقة والوسع والمشقة.
يقال: جهد نفسه يجهدها في الأمر، إذا بلغ بها أقصى وسعها وطاقتها فيه.
والمراد: أنهم أكدوا الأيمان ووثقوها، بكل ألفاظ التوكيد والتوثيق.
أى: أن كفار مكة، أقسموا بالله- تعالى- قسما مؤكدا موثقا مغلظا، لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ أى: نبي ينذرهم بأن الكفر باطل وأن الإيمان بالله هو الحق.
لَيَكُونُنَّ أَهْدى سبيلا مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ أى: ليكونن أهدى من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم في اتباعهم وطاعتهم، لهذا الرسول الذي يأتيهم من عند ربهم لهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. الذي هو أشرف الرسل.
ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أى: ما زادهم مجيئه لهم إلا نفورا عن الحق، وتباعدا عن الهدى. أى: أنهم قبل مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتمنون أن يكون الرسول منهم، لا من غيرهم، وأقسموا بالله بأنهم سيطيعونه فلما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلّم نفروا عنه ولم يؤمنوا به.
وإنما كان القسم بالله- تعالى- غاية أيمانهم، لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وبأصنامهم، فإذا اشتد عليهم الحال، وأرادوا تحقيق الحق، حلفوا بالله- تعالى-.
وقوله لَيَكُونُنَّ جواب للقسم المقدر. وقوله: ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً جواب لمّا.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 14 ص 358. [.....](11/357)
وقوله- تعالى-: اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ بدل من نُفُوراً أو مفعول لأجله وَمَكْرَ السَّيِّئِ معطوف على استكبارا.
والمراد بمكرهم السيئ: تصميمهم على الشرك، وتكذيبهم للرسول صلّى الله عليه وسلم، من أجل المعاندة للحق، والاستكبار عنه، ومن أجل المكر السيئ الذي استولى على نفوسهم، والحقد الدفين الذي في قلوبهم.
وقوله السَّيِّئِ صفة لموصوف محذوف. وأصل التركيب: وأن مكروا المكر السيئ، فأقيم المصدر مقام أن والفعل، وأضيف إلى ما كان صفة له.
وقوله- تعالى-: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ بيان لسوء عاقبة مكرهم، وأن شره ما نزل إلا بهم.
وقوله: يَحِيقُ بمعنى يحيط وينزل. يقول: حاق بفلان الشيء، إذا أحاط ونزل به.
أى: ولا ينزل ولا يحيط شر ذلك المكر السيئ إلا بأهله الماكرين.
قال صاحب الكشاف: لقد حاق بهم يوم بدر. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا، فإن الله- تعالى- يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا، فإن الله- تعالى- يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» .
وقال الآلوسى- رحمه الله-: والآية عامة على الصحيح، والأمور بعواقبها، والله- تعالى- يمهل ولا يهمل، ووراء الدنيا الآخرة، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
وبالجملة: من مكر به غيره، ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر، ففي الحقيقة هو الفائز، والماكر هو الهالك «2» .
وقوله- تعالى-: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ حض لهم على الاستجابة للحق، وترك المكر والمخادعة والعناد. والسنة: الطريقة..
أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا، فهل ينتظر هؤلاء الماكرون، إلا طريقتنا في الماكرين من قبلهم. وهي إهلاكهم ونزول العذاب والخسران بهم؟ إنهم ما ينتظرون إلا ذلك.
وقوله- سبحانه-: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا تأكيد لثبات سنته- تعالى- في خلقه، وتعليل لما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 618.
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 206.(11/358)
أى: هذه سنتنا وطريقتنا في الماكرين والمكذبين لرسلهم، أننا نمهلهم ولا نهملهم، ونجعل العاقبة السيئة لهم. ولن تجد لسنة الله- تعالى- في خلقه تبديلا بأن يضع غيرها مكانها، ولن تجد لها تحويلا عما سارت عليه وجرت به.
قال الجمل ما ملخصه: قوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ مصدر مضاف لمفعوله تارة كما هنا، ولفاعله أخرى كقوله فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنه- تعالى- سنها بهم، فصحت إضافتها للفاعل وللمفعول. والفاء في قوله فَلَنْ تَجِدَ لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب. ونفى وجدان التبديل والتحويل، عبارة عن نفى وجودهما بالطريق البرهاني، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما.
والمراد: بعدم التبديل. أن العذاب لا يبدل بغيره. وبعدم التحويل: أنه لا يحول عن مستحقه إلى غيره. وجمع بينهما هنا: تعميما لتهديد المسيء لقبح مكره «1» .
ثم ساق لهم- سبحانه- ما يؤكد عدم تغيير سنته في خلقه، بأن حضهم على الاعتبار بأحوال المهلكين من قبلهم، والذين يرون بأعينهم آثارهم، فقال- تعالى-: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
أى أعمى هؤلاء الماكرون عن التدبر، ولم يسيروا في الأرض، فيروا بأعينهم في رحلاتهم إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما، كيف كانت عاقبة المكذبين من قبلهم، لقد دمرناهم تدميرا، مع أنهم كانوا أشد من مشركي مكة قوة، وأكثر جمعا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أى وما كان من شأن الله- تعالى- أن يعجزه شيء من الأشياء، سواء أكان في السموات أم في الأرض. بل كل شيء تحت أمره وتصرفه.
إِنَّهُ- سبحانه- كانَ عَلِيماً بكل شيء قَدِيراً على كل شيء.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببيان جانب من رحمته بعباده فقال وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الذنوب أو الخطايا.
ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أى: على ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ من الدواب التي تدب عليها. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة.
فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الذي حدده- سبحانه- لحسابهم، جازاهم بما يستحقون فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أى: لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 500.(11/359)
وبعد: فهذا لسورة فاطر. نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/360)
فهرس إجمالى لسورة «العنكبوت»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة والتمهيد 5 1 الم. أحسب الناس أن يتركوا 11 8 ووصينا الإنسان بوالديه 15 10 ومن الناس من يقول آمنا بالله 17 14 ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه 20 18 وإن تكذبوا فقد كذب أمم 23 24 فما كان جواب قومه 27 28 ولوطا إذ قال لقومه 30 36 وإلى مدين أخاهم شعيبا 35 41 مثل الذين اتخذوا من دون الله 39 44 خلق الله السموات والأرض 41 46 ولا تجادلوا أهل الكتاب 44 50 وقالوا لولا أنزل عليه آيات 48 57 يا عبادي الذين آمنوا إن أرضى 51 61 ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض 64(11/361)
فهرس إجمالى لسورة «الروم»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة 61 1 الم 65 8 أولم يتفكروا في أنفسهم 68 11 الله يبدأ الخلق ثم يعيده 71 17 فسبحان الله حين تمسون 73 28 ضرب لكم مثلا 80 23 وإذا مس الناس ضر 85 38 فآت ذا القربى حقه 88 41 ظهر الفساد في البر والبحر 91 46 ومن آياته أن يرسل 94 54 الله الذي خلقكم من ضعف 99(11/362)
فهرس إجمالى لتفسير سورة «لقمان»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة 107 1 الم 109 6 ومن الناس من يشترى لهو الحديث 111 8 إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات 113 12 ولقد آتينا لقمان الحكمة 115 20 ألم تروا أن الله سخر لكم 124 22 ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن 126 27 ولو أن ما في الأرض من شجرة 128 29 ألم تر أن الله يولج 130 33 يا أيها الناس اتقوا ربكم 133(11/363)
فهرس إجمالى لتفسير سورة «السجدة»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة 139 1 الم 141 10 وقالوا أإذا ضللنا في الأرض 147 15 إنما يؤمن بآياتنا الذين 150 18 أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا 152 23 ولقد آتينا موسى الكتاب 154 26 أو لم يهد لهم كم أهلكنا 157(11/364)
فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأحزاب»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة 163 1 يا أيها النبي اتق الله 169 4 ما جعل الله لرجل من قلبين 171 6 النبي أولى بالمؤمنين 175 7 وإذ أخذنا من النبيين 178 9 يا أيها الذين آمنوا اذكروا 180 16 قل لن ينفعكم الفرار 186 21 لقد كان لكم في رسول الله 192 28 يا أيها النبي قل لأزواجك 200 30 يا نساء النبي من يأت منكن 202 35 إن المسلمين والمسلمات 209 36 وما كان لمؤمن ولا مؤمنة 211 41 يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله 219 45 يا أيها النبي إنا أرسلناك 222 49 يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم 224 50 يا أيها النبي إنا أحللنا لك 226 53 يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا 236 55 لا جناح عليهن في آبائهن 240 60 لئن لم ينته المنافقون 247 69 يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا 251(11/365)
فهرس إجمالى لتفسير سورة «سبأ»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة 259 1 الحمد لله الذي له ما في السموات 262 6 ويرى الذين أوتوا العلم 268 10 ولقد آتينا داود منا فضلا 272 15 لقد كان لسبأ في مسكنهم 278 22 قل ادعوا الذين زعمتم 285 28 وما أرسلناك إلا كافة 291 31 وقال الذين كفروا لن نؤمن 292 34 وما أرسلنا في قرية من نذير 296 40 ويوم يحشرهم جميعا 300 43 وإذا تتلى عليهم آياتنا 302 46 قل إنما أعظكم بواحدة 305 51 ولو ترى إذ فزعوا 310(11/366)
فهرس إجمالى لتفسير سورة «فاطر»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة 315 1 الحمد لله فاطر السموات والأرض 318 4 وإن يكذبوك فقد كذبت 322 9 والله الذي أرسل الرياح 326 15 يا أيها الناس أنتم الفقراء 337 27 ألم تر أن الله أنزل 343 32 ثم أورثنا الكتاب 347 36 والذين كفروا لهم نار جهنم 351 39 هو الذي جعلكم خلائف 353 42 وأقسموا بالله جهد أيمانهم 356(11/367)
[المجلد الثاني عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) صدق الله العظيم(12/3)
تفسير سورة يس(12/5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
1- سورة «يس» من السور التي يحفظها كثير من الناس، لاشتهارها فيما بينهم، وهي السورة السادسة والثلاثون في ترتيب المصحف، وكان نزولها بعد سورة «الجن» .
قال القرطبي: وهي مكية بإجماع، وهي ثلاث وثمانون آية. إلا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى-: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ... نزلت في بنى سلمة من الأنصار، حين أرادوا أن يتركوا ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم «1» .
2- وقد ذكروا في فضلها كثيرا من الآثار، إلا أن معظم هذه الآثار ضعفها المحققون من العلماء، لذا نكتفي بذكر ما هو مقبول منها.
قال ابن كثير ما ملخصه: أخرج الحافظ أبو يعلى عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ «يس» في ليلة أصبح مغفورا له» ...
وأخرج ابن حيان في صحيحه، عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من قرأ «يس» في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له» .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده، عن معقل بن يسار، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «البقرة سام القرآن، ويس قلب القرآن. لا يقرأها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم» أى: في ساعات الاحتضار وعند خروج الروح.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان. قال: كان المشيخة يقولون: إذا قرئت- يعنى يس- عند الميت، خفف عنه بها «2» .
وقال الآلوسى ما ملخصه: صح من حديث الإمام أحمد، وأبى داود، وابن ماجة، والطبراني، وغيرهم عن معقل بن يسار، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يس قلب القرآن» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 1.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 548.(12/7)
وذكر أنها تسمى المعمّة، والمدافعة، والقاضية، ومعنى المعمة: التي تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة. ومعنى المدافعة التي تدفع عن صاحبها كل سوء، ومعنى القاضية: التي تقضى له كل حاجة- بإذن الله وفضله «1» .
3- وقد افتتحت سورة «يس» بتأكيد صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وبتكذيب أعدائه الذين أعرضوا عن دعوته، وبتسليته عما أصابه منهم من أذى.
قال- تعالى-: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
4- ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك قصة أصحاب القرية، وما جرى بينهم وبين الرسل الذين جاءوا إليهم لهدايتهم، وكيف أهلك الله- تعالى- المكذبين لرسله ...
قال- سبحانه-: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
5- ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك، ألوانا من مظاهر قدرة الله- تعالى-، ومن نعمه على عباده، تلك النعم التي نراها في الأرض التي نعيش عليها، وفي الخيرات التي تخرج منها، كما نراها في الليل والنهار. وفي الشمس وفي القمر، وفي غير ذلك من مظاهر نعمه التي لا تحصى.
قال- تعالى- وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها، وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ، وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ. سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ.
6- وبعد هذا البيان الحكيم لمظاهر قدرة الله- تعالى-، وفضله على عباده، حكت السورة الكريمة جانبا من دعاوى المشركين الباطلة، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم، وصورت أحوالهم عند ما يخرجون من قبورهم مسرعين، ليقفوا بين يدي الله- تعالى للحساب والجزاء ...
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 22 ص 209.(12/8)
قال- تعالى-: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
7- وبعد أن تحكى السورة الكريمة ما أعده الله تعالى بفضله وكرمه لعباده المؤمنين، من جنات النعيم، ومن خير عميم، تعود فتحكى ما سيكون عليه الكافرون من هم وغم، وكرب وبلاء، بسبب كفرهم، وتكذيبهم للحق الذي جاءهم به نبيهم صلّى الله عليه وسلم.
قال- تعالى-: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
8- ثم تنزه السورة الكريمة النبي صلّى الله عليه وسلم عما اتهمه به أعداؤه، من أنه شاعر، وتسليه عما أصابه منهم، وتبين للناس أن وظيفته صلّى الله عليه وسلم إنما هي الإنذار والبلاغ.
قال- تعالى-: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ.
إلى أن يقول- سبحانه-: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
9- ثم تختتم السورة الكريمة بحكاية ما قاله أحد الأشقياء منكرا للبعث والحساب، وردت عليه وعلى أمثاله برد جامع حكيم، برشد كل عاقل إلى إمكانية البعث، وأنه حق لا شك فيه ...
قال- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
10- وبعد. فهذا عرض مجمل لسورة «يس» ومنه نرى، أن هذه السورة الكريمة، قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلى كمال قدرته كما اهتمت بإبراز الأدلة المتعددة على أن البعث حق، وعلى أن الرسول صلّى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ...
كما اهتمت بضرب الأمثال لبيان حسن عاقبة الأخيار، وسوء عاقبة الأشرار.
كل ذلك بأسلوب بليغ مؤثر، يغلب عليه قصر الآيات، وإيراد الشواهد المتنوعة على قدرة(12/9)
الله- تعالى-، عن طريق مخلوقاته المبثوثة في هذا الكون، والتي من شأن المتأمل فيها بعقل.
سليم، أن يهتدى إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم.
وصدق الله- تعالى- في قوله: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،، القاهرة- مدينة نصر د. محمد سيد طنطاوى صباح الخميس: 23 من شوال سنة 1405 هـ 11/ 7/ 1985 م(12/10)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
قوله- تعالى- يس من الألفاظ التي اختلف المفسرون في معناها، فمنهم من يرى أن هذه الكلمة اسم للسورة، أو للقرآن، أو للرسول صلّى الله عليه وسلم.
ومنهم من يرى أن معناها: يا رجل، أو يا إنسان.
ولعل أرجح الأقوال أن هذه الكلمة من الألفاظ المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، للإشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، وللتنبيه إلى أن هذا القرآن المؤلف من جنس الألفاظ التي ينطقون بها، هو من عند الله- تعالى-، وأنهم ليس في إمكانهم أو إمكان غيرهم(12/11)
أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله ...
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: يس: الكلام فيه كالكلام في «ألم» ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل بعض السور، إعرابا ومعنى عند الكثيرين.
وظاهر كلام بعضهم أن «يس» بمجموعه، اسم من أسمائه صلّى الله عليه وسلم.
وقرأ جمع بسكون النون مدغمة في الواو، وقرأ آخرون بسكونها مظهرة، والقراءتان سبعيتان ... «1» .
قوله- تعالى-: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ قسم منه- تعالى- بكتابه ذي الحكمة العالية.
والهدايات السامية، والتوجيهات السديدة، والتشريعات القويمة، والآداب الحميدة ...
وقوله- سبحانه-: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ جواب لهذا القسم.
أى: وحق هذا القرآن الحكيم، إنك أيها الرسول الكريم- لمن عبادنا الذين اصطفيناهم لحمل رسالتنا، وتبليغ دعوتنا إلى الناس، لكي يخلصوا العبادة لنا، ولا يشركوا معنا في ذلك غيرنا.
وجاء هذا الجواب مشتملا على أكثر من مؤكد، للرد على أولئك المشركين الذين استنكروا رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم وقالوا في شأنه: «لست مرسلا» .
قال بعض العلماء: واعلم أن الأقسام الواقعة في القرآن. وإن وردت في صورة تأكيد المحلوف عليه، إلا أن المقصود الأصلى بها تعظيم المقسم به لما فيه من الدلالة على اتصافه- تعالى- بصفات الكمال، أو على أفعاله العجيبة، أو على قدرته الباهرة فيكون المقصود من الحلف: الاستدلال به على عظم المحلوف عليه، وهو هنا عظم شأن الرسالة. كأنه قال: إن من أنزل القرآن- وهو من هو في عظم شأنه- هو الذي أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم ومثل ذلك يقال له في الأقسام التي في السور الآتية ... «2» .
وقوله- تعالى-: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر ثان لحرف «إن» في قوله- تعالى- قبل ذلك: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
أى: إنك- يا محمد- لمن أنبيائنا المرسلين، على طريق واضح قويم، لا اعوجاج فيه ولا اضطراب، ولا ارتفاع فيه ولا انخفاض، بل هو في نهاية الاعتدال والاستقامة.
قال صاحب الكشاف: قوله: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر، أو صلة للمرسلين.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 210.
(2) تفسير «صفوة البيان» ج 2 ص 215 لفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف.(12/12)
فإن قلت: أى حاجة إليه خبرا كان أو صلة، وقد علم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟
قلت: ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته. وإنما الغرض وصفه، ووصف ما جاء به من الشريعة، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال: إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت، وأيضا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة، على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه- أى: في التضخيم والتعظيم- «1» .
ثم مدح- سبحانه- كتابه بمدائح أخرى فقال: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ وقد قرأ بعض القراء السبعة: تَنْزِيلَ بالنصب على المدح، أو على المصدرية لفعل محذوف. أى: نزل الله- تعالى- القرآن تنزيل العزيز الرحيم.
وقرأ البعض الآخر: تَنْزِيلَ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى: هذا القرآن هو تنزيل العزيز- الذي لا يغلبه غالب-، الرحيم أى الواسع الرحمة بعباده.
ثم بين- سبحانه- الحكمة من إرساله لنبيه صلّى الله عليه وسلم فقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ.
واللام في قوله: لِتُنْذِرَ متعلقة بفعل مضمر يدل عليه قوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
والإنذار: إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتحفظ من الخوف. فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار. وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله- تعالى-.
والمراد بالقوم: كفار مكة الذين بعث النبي صلّى الله عليه وسلم لإنذارهم، وهذا لا يمنع أن رسالته عامة إلى الناس جميعا، كما قال- تعالى-: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ... وما نافية. والمراد بآبائهم: آباؤهم الأقربون، لأن آباءهم الأبعدون قد أرسل الله- تعالى- إليهم إسماعيل- عليه السلام-.
أى: أرسلناك- يا محمد- بهذه الرسالة من لدنا، لتنذر قوما، وهم قريش المعاصرون لك، لم يسبق لهم أو لآبائهم أن جاءهم نذير منا يحذرهم من سوء عاقبة الإشراك بالله- تعالى- فهم لذلك غافلون عما يجب عليهم نحو خالقهم من إخلاص العبادة له، وطاعته في السر والعلن.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 4.(12/13)
قال ابن كثير: قوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ يعنى بهم العرب، فإنه ما أتاهم من نذير من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفى من عداهم كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفى العموم، الذي وردت به الآيات والأحاديث المتواترة ... «1» .
وقال الجمل ما ملخصه: قوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ... أى العرب وغيرهم وقوله ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أى الأقربون، وإلا فآباؤهم الأبعدون قد أنذروا فآباء العرب الأقدمون أنذروا بإسماعيل، وآباء غيرهم أنذروا بعيسى.. و «ما» نافية، لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل نبينا صلّى الله عليه وسلم فالجملة صفة لقوله «قوما» أى: قوما لم تنذروا. وقوله فَهُمْ غافِلُونَ مرتب على الإنذار ... «2» .
ثم بين- سبحانه- مصير هؤلاء الغافلين، الذين استمروا في غفلتهم وكفرهم بعد أن جاءهم النذير، فقال: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
والجملة جواب لقسم محذوف. ومعنى حَقَّ ثبت ووجب.
والمراد بالقول: العذاب الذي أعده الله- تعالى- لهم بسبب إصرارهم على كفرهم.
أى: والله لقد ثبت وتحقق الحكم أولا بالعذاب على أكثر هؤلاء المنذرين بسبب عدم إيمانهم برسالتك، وجحودهم الحق الذي جئتهم به، وإيثارهم باختيارهم الغي على الرشد، والضلال على الهدى ...
وقال- سبحانه- عَلى أَكْثَرِهِمْ لأن قلة منهم اتبعت الحق، وآمنت به، وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ «3» .
ثم صور- سبحانه- انكبابهم على الكفر، وإصرارهم عليه، تصويرا بليغا فقال: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ.
والأغلال: جمع غل- بضم الغين، وهو القيد الذي تشد به اليد إلى العنق بقصد التعذيب والأذقان: جمع ذقن- بفتح الذال- وهو أسفل الفم.
ومقمحون. من الإقماح، وهو رفع الرأس مع غض البصر. يقال: قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. والفاء في قوله فَهِيَ وفي قوله فَهُمْ: للتقريع.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 549.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 503.
(3) سورة يونس الآيتان 96، 97.(12/14)
أى: إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الجاحدين قيودا عظيمة، فهي- أى هذه القيود- واصلة إلى أذقانهم، فهم بسبب ذلك مرفوعة رءوسهم، مع غض أبصارهم، بحيث لا يستطيعون أن يخفضوها، لأن القيود التي وصلت إلى أذقانهم منعتهم من خفض رءوسهم.
فقد شبه- سبحانه- في هذه الآية، حال أولئك الكافرين، المصرين على جحودهم وعنادهم، بحال من وضعت الأغلال في عنقه ووصلت إلى ذقنه، ووجه الشبه أن كليهما لا يستطيع الانفكاك عما هو فيه.
ثم أكد- سبحانه- هذا الإصرار من الكافرين على كفرهم فقال: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. أى: أننا لم نكتف بجعل الأغلال في أعناقهم، بل أضفنا إلى ذلك أننا جعلنا من أمامهم حاجزا عظيما، ومن خلفهم كذلك حاجزا عظيما. فَأَغْشَيْناهُمْ أى: فجعلنا على أبصارهم غشاوة وأغطية تمنعهم من الرؤية فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ شيئا بسبب احتجاب الرؤية عنهم.
فالآية الكريمة تمثيل آخر لتصميمهم على كفرهم، حيث شبههم- سبحانه- بحال من أحاطت بهم الحواجز من كل جانب، فمنعتهم من الرؤية والإبصار.
ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهاتين الآيتين: ثم مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل الى ارعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله» «1» .
وقد ذكروا في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة، أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن، فأنزل الله- تعالى- قوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا ... فكانوا يقولون لأبى جهل: هذا محمد صلّى الله عليه وسلم فيقول: أين هو؟
ولا يبصره «2» .
وقوله- تعالى-: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بيان لما وصل إليه هؤلاء الجاحدون من عناد وانصراف عن الحق.
وقوله سَواءٌ اسم مصدر بمعنى الاستواء، والمراد به اسم الفاعل. أى: مستو.
أى: أن هؤلاء الذين جعلنا في أعناقهم أغلالا ... وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 5.
(2) لباب النقول في أسباب النزول ج 187 للسيوطي. [.....](12/15)
سدا، مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه، فهم- لسوء استعدادهم وفساد فطرهم- لا يؤمنون بالحق الذي جئتهم به سواء دعوتهم إليه أم لم تدعهم إليه، وسواء خوفتهم بالعذاب أم لم تخوفهم به، لأنهم ماتت قلوبهم، وصارت لا تتأثر بشيء مما تدعوهم إليه..
ثم بين- سبحانه- من هم أهل للتذكير فقال: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ.
أى: إنما تنذر- أيها الرسول الكريم- إنذارا نافعا، أولئك الذين اتبعوا إرشادات القرآن الكريم وأوامره ونواهيه ...
وينفع إنذارك- أيضا- مع من خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أى: مع من خاف عقاب الرحمن دون أن يرى هذا العقاب، ودون أن يرى الله- تعالى- الذي له الخلق والأمر.
هؤلاء هم الذين ينفع معهم الإنذار والتذكير والإرشاد، لأنهم فتحوا قلوبهم للحق، واستجابوا له.
والفاء في قوله: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ لترتيب البشارة أو الأمر بها، على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية.
أى: فبشر- أيها الرسول الكريم- هذا النوع من الناس، بمغفرة عظيمة منا لذنوبهم، وبأجر كريم لا يعلم مقداره أحد سوانا.
ثم أكد- سبحانه- أن البعث حق، وأن الجزاء حق، لكي لا يغفل عنهما الناس، ولكي يستعدوا لهما بالإيمان والعمل الصالح فقال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى....
أى: إنا نحن بقدرتنا وحدها نحيى الموتى بعد موتهم، ونعيدهم إلى الحياة مرة أخرى لكي نحاسبهم على أعمالهم.
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ أى: وإنا نحن الذين نسجل عليهم أعمالهم التي عملوها في الدنيا سواء أكانت هذه الأعمال صالحة أم غير صالحة.
ونسجل لهم- أيضا- آثارهم التي تركوها بعد موتهم سواء أكانت صالحة كعلم نافع، أو صدقة جارية ... أم غير صالحة كدار للهو واللعب، وكرأى من الآراء الباطلة التي اتبعها من جاء بعدهم، وسنجازيهم على ذلك بما يستحقون من ثواب أو عقاب وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أى: وكل شيء أثبتناه وبيناه في أصل عظيم، وفي كتاب واضح عندنا. ألا وهو اللوح المحفوظ، أو علمنا الذي لا يعزب عنه شيء.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: وفي قوله: آثارَهُمْ قولان:
أحدهما: ونكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها- أى تركوها- من(12/16)
بعدهم، فنجزيهم على ذلك- أيضا-، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. كقوله صلّى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء..
والثاني: أن المراد بقوله وَآثارَهُمْ أى: آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية. فقد روى مسلم والإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لهم: «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى المسجد؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: يا بنى سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم» .
ثم قال ابن كثير: ولا تنافى بين هذا القول والذي قبله، بل في القول الثاني تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب، فلأن تكتب التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى «1» .
هذا، وتلك الرواية الصحيحة تشير إلى أن هذه الآية ليست مدنية- كما قيل-، لأن هذه الرواية تصرح بأن الرسول صلّى الله عليه وسلم قد قال لبنى سلمة، «دياركم تكتب آثاركم» أى:
ألزموا دياركم تكتب آثاركم.. دون إشارة إلى سبب النزول.
قال الآلوسى ما ملخصه: والأحاديث التي فيها أن الله- تعالى- أنزل هذه الآية، حين أراد بنو سلمة أن ينتقلوا من ديارهم. معارضة بما في الصحيحين من أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية، ولم يذكر أنها نزلت فيهم، وقراءته صلّى الله عليه وسلم لا تنافى تقدم النزول. أى: أن الآية مكية كبقية السورة «2» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد أثبتت صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وبينت الحكمة من رسالته، كما بينت أن يوم القيامة آت لا ريب فيه.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقرأ على الناس- ليعتبروا ويتعظوا- قصة أصحاب القرية، وما جرى بينهم وبين الرسل الذين جاءوا لهدايتهم وإرشادهم إلى الطريق المستقيم فقال- تعالى-.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 551.
(2) تفسير الآلوسى ج 22 ص 218.(12/17)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 19]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهذه القرية هي «أنطاكية» في قول جميع المفسرين ... والمرسلون: قيل: هم رسل من الله على الابتداء. وقيل: إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله- تعالى- «1» .
ولم يرتض ابن كثير ما ذهب إليه القرطبي والمفسرون من أن المراد بالقرية «أنطاكية» كما أنه لم يرتض الرأى القائل بأن الرسل الثلاثة كانوا من عند عيسى- عليه السلام- فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه: وقد تقدم عن كثير من السلف، أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عيسى- عليه السلام- وفي ذلك نظر من وجوه:
أحدها: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله- عز وجل- لا من جهة عيسى، كما قال- تعالى-: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ...
الثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل عيسى إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح عليه السلام، ولهذا كانت عند النصارى، إحدى المدن الأربعة التي فيها بتاركة- أى، علماء بالدين المسيحي..
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 15 ص 14.(12/18)
الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب عيسى، كانت بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغيره، أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ...
فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة. قرية أخرى غير أنطاكية.. فإن هذه القرية المشهورة بهذا الاسم لم يعرف أنها أهلكت، لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك «1» .
والذي يبدو لنا أن ما ذهب إليه الإمام ابن كثير هو الأقرب إلى الصواب وأن القرآن الكريم لم يذكر من هم أصحاب القرية، لأن اهتمامه في هذه القصة وأمثالها، بالعبر والعظات التي تؤخذ منها.
وضرب المثل في القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل في تطبيق حالة غريبة، بأخرى تشبهها، كما في قوله- تعالى- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.
فيكون المعنى: واجعل- أيها الرسول الكريم- حال أصحاب القرية، مثلا لمشركي مكة في الإصرار على الكفر والعناد، وحذرهم من أن مصيرهم سيكون كمصير هؤلاء السابقين، الذين كانت عاقبتهم أن أخذتهم الصيحة فإذا هم خامدون، لأنهم كذبوا المرسلين.
وقوله- سبحانه-: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ بدل اشتمال من أَصْحابَ الْقَرْيَةِ.
والمراد بالمرسلين: الذين أرسلهم الله إلى أهل تلك القرية، لهدايتهم إلى الحق.
وقوله: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما ... بيان لكيفية الإرسال ولموقف أهل القرية ممن جاءوا لإرشادهم إلى الدين الحق.
أى: إن موقف المشركين منك- أيها الرسول الكريم-، يشبه موقف أصحاب القرية من الرسل الذين أرسلناهم لهدايتهم، إذ أرسلنا إلى أصحاب هذه القرية اثنين من رسلنا، فكذبوهما. وأعرضوا عن دعوتهما.
والفاء في قوله فَكَذَّبُوهُما للإفصاح، أى: أرسلنا إليهم اثنين لدعوتهم إلى إخلاص العبادة لنا فذهبا إليهم فكذبوهما.
وقوله: فعززنا بثالث أى: فقو بنا الرسالة برسول ثالث، من التعزيز بمعنى التقوية، ومنه
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 559.(12/19)
قولهم: تعزز لحم الناقة، إذا اشتد وقوى. وعزز المطر الأرض، إذا قواها وشدها. وأرض عزاز، إذا كانت صلبة قوية.
ومفعول فَعَزَّزْنا محذوف لدلالة ما قبله عليه أى: فعززناهما برسول ثالث فَقالُوا أى الرسل الثلاثة لأصحاب القرية: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ لا إلى غيركم، فأطيعونا فيما ندعوكم إليه من إخلاص العبادة لله- تعالى-، ونبذ عبادة الأصنام.
ثم حكى- سبحانه- ما دار بين الرسل وأصحاب القرية من محاورات فقال: قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ.
أى: قال أصحاب القرية للرسل على سبيل الاستنكار والتطاول: أنتم لستم إلا بشرا مثلنا في البشرية، ولا مزية لكم علينا، وكأن البشرية في زعمهم تتنافى مع الرسالة، ثم أضافوا إلى ذلك قولهم: وما أنزل الرحمن من شيء مما تدعوننا إليه.
ثم وصفوهم بالكذب فقالوا لهم: ما أنتم إلا كاذبون، فيما تدعونه من أنكم رسل إلينا.
وهكذا قابل أهل القرية رسل الله، بالإعراض عن دعوتهم وبالتطاول عليهم، وبالإنكار لما جاءوا به، وبوصفهم بالكذب فيم يقولونه.
ولكن الرسل قابلوا كل ذلك بالأناة والصبر، شأن الواثق من صدقه، فقالوا لأهل القرية: بُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
أى: قالوا لهم بثقة وأدب: ربنا- وحده- يعلم إنا إليكم لمرسلون، وكفى بعلمه علما، وبحكمه حكما، وما علينا بعد ذلك بالنسبة لكم إلا أن نبلغكم ما كلفنا بتبليغه إليكم تبليغا واضحا، لا غموض فيه ولا التباس.
فأنت ترى أن الرسل لم يقابلوا سفاهة أهل القرية بمثلها، وإنما قابلوا تكذيبهم لهم.
بالمنطق الرصين، وبتأكيد أنهم رسل الله، وأنهم صادقون في رسالتهم، لأن قولهم رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ جار مجرى القسم في التوكيد.
وقولهم: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تحديد للوظيفة التي أرسلهم الله- تعالى- من أجلها.
ولكن أهل القرية لم يقتنعوا بهذا المنطق السليم، بل ردوا على الرسل ردا قبيحا، فقالوا لهم: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ والتطير:
التشاؤم. أى قالوا في الرد عليهم: إنا تشاءمنا من وجودكم بيننا، وكرهنا النظر إلى(12/20)
وجوهكم، وإذا لم ترحلوا عنا، وتكفوا عن دعوتكم لنا إلى ما لا نريده، لنرجمنكم بالحجارة، وليمسنكم منا عذاب شديد الألم قد ينتهى بقتلكم وهلاككم.
قال صاحب الكشاف: قوله تَطَيَّرْنا بِكُمْ أى: تشاءمنا بكم، وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه، واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا مما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم خير أو بلاء، قالوا:
ببركة هذا وبشؤم هذا.. «1» .
ولكن الرسل قابلوا هذا التهديد- أيضا- بالثبات، والمنطق الحكيم فقالوا لهم:
طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ.
أى: قال الرسل لأهل القرية: ليس الأمر كما ذكرتم من أننا سبب شؤمكم، بل الحق أن شؤمكم معكم، ومن عند أنفسكم، بسبب إصراركم على كفركم، وإعراضكم عن الحق الذي جئناكم به من عند خالقكم.
وجواب الشرط لقوله: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ محذوف، والتقدير: أئن وعظتم وذكرتم بالحق، وخوفتم من عقاب الله.. تطيرتم وتشاءمتم.
وقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سببا للشؤم.
أى: ليس الأمر كما ذكرتم من أن وجودنا بينكم هو سبب شؤمكم، بل الحق أنكم قوم عادتكم الإسراف في المعاصي، وفي إيثار الباطل على الحق، والغي على الرشد، والتشاؤم على التيامن.
ثم بين- سبحانه- بعد تلك المحاورة التي دارت بين أهل القرية وبين الرسل، والتي تدل على أن أهل القرية كانوا مثلا في السفاهة والكراهة للخير والحق.
بين- سبحانه- بعد ذلك ما دار بين أهل القرية، وبين رجل صالح منهم ساءه أن يرى من قومه تنكرهم لرسل الله- تعالى- وتطاولهم عليهم، وتهديدهم لهم بالرجم: فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 9.(12/21)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 32]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
«1» وقوله- سبحانه-: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ... معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة، والتقدير:
وانتشر خبر الرسل بين أصحاب القرية، وعلم الناس بتهديد بعضهم لهم وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ أى من أبعد مواضعها رَجُلٌ يَسْعى أى: رجل ذو فطرة سليمة، يسرع
__________
(1) أول الجزء الثالث والعشرون.(12/22)
الخطا لينصح قومه، وينهاهم عن إيذاء الرسل ويأمرهم باتباعهم.
قالوا: وهذا الرجل كان اسمه حبيب النجار، لأنه كان يشتغل بالنجارة.
وقد أكثر بعض المفسرين هنا من ذكر صناعته وحاله قبل مجيئه، ونحن نرى أنه لا حاجة إلى ذلك، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه فيما ذكروه عنه.
ويكفيه فخرا هذا الثناء من الله- تعالى- عليه بصرف النظر عن اسمه أو صنعته أو حاله، لأن المقصود من هذه القصة وأمثالها في القرآن الكريم هو الاعتبار والافتداء بأهل الخير.
وعبر هنا بالمدينة بعد التعبير عنها في أول القصة بالقرية للإشارة إلى سعتها، وإلى أن خبر هؤلاء الرسل قد انتشر فيها من أولها إلى آخرها.
والتعبير بقوله: يَسْعى: يدل على صفاء نفسه، وسلامة قلبه، وعلو همته، ومضاء عزيمته، حيث أسرع بالحضور إلى الرسل وإلى قومه، ليعلن أمام الجميع كلمة الحق، ولم يرتض أن يقبع في بيته- كما يفعل الكثيرون- بل هرول نحو قومه، ليقوم بواجبه في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وقوله- تعالى-: قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ بيان لما بدأ ينصح قومه به بعد وصوله إليهم.
أى: قالَ لقومه على سبيل الإرشاد والنصح يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الذين جاءوا لهدايتكم إلى الصراط المستقيم، ولإنقاذكم من الضلال المبين الذي انغمستم فيه.
ثم أكد هذه الدعوة بقوله: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ اتبعوا هؤلاء الرسل الذين جاءوا بأمر ربكم إليكم، ليرشدوكم الى الطريق الحق، والحال أنهم في أنفسهم ثابتون على الهدى، راسخون في التمسك بالعقيدة السليمة.
ثم أخذ بعد ذلك في حض قومه على اتباع الحق، عن طريق بيان الأسباب التي حملته على الإيمان، حتى يستثير قلوبهم نحو الهدى، فقال- كما حكى القرآن عنه-: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ.
أى: قال الرجل الصالح لقومه: وأى مانع يمنعني من أن أعبد الله- تعالى- وحده، لأنه هو الذي خلقني ولم أكن قبل ذلك شيئا مذكورا، وهو الذي إليه يكون مرجعكم بعد مماتكم، فيحاسبكم على أعمالكم في الدنيا، ويجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.(12/23)
والاستفهام في قوله: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. للإنكار والنفي.
أى: لا يصح ولا يجوز أن اتخذ معه في العبادة آلهة أخرى، كائنة ما كانت هذه الآلهة، لأنه إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً من النفع، حتى ولو كان هذا النفع في نهاية القلة والحقارة.
وَلا يُنْقِذُونِ: ولا تستطيع هذه الآلهة إنقاذى وتخليصي مما يصيبني من ضر أراد الرحمن أن ينزله بي.
إِنِّي إِذاً لو اتخذت هذه الآلهة شريكا مع الله في العبادة لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أى:
لأكونن في ضلال واضح لا يخفى على أحد من العقلاء.
ثم ختم حديثه معهم بإعلان إيمانه بكل صراحة وقوة فقال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ، الذي خلقكم ورزقكم فَاسْمَعُونِ أى: فاسمعوا ما نطقت به، واشهدوا لي بأنى آمنت بربكم الذي خلقكم وخلقني، وكفرت بهؤلاء الشركاء، ولن أشرك معه- سبحانه- في العبادة أحدا. مهما كانت النتائج.
وهكذا نرى الرجل الصالح الذي استقر الإيمان في قلبه ومشاعره ووجدانه يدافع عن الحق الذي آمن به دفاعا قويا دون أن يخشى أحدا إلا الله، ويدعو قومه بشتى الأساليب إلى اتباعه ويقيم لهم ألوانا من الأدلة على صحة ما يدعو إليه.
ثم يصارحهم في النهاية، ويشهدهم على هذه المصارحة، بأنه قد آمن بما جاء به الرسل إيمانا لا يقبل الشك أو التردد، ولا يثنيه عنه وعد أو وعيد أو إيذاء أو قتل.
ورحم الله صاحب الكشاف، فقد أجاد في تصوير هذه المعاني فقال ما ملخصه: قوله:
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ كلمة جامعة في الاستجابة لدعوة الرسل، أى: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم، فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة.
ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه، وهو يريد مناصحتهم، وليتلطف بهم ويداريهم.. فقال: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
ثم قال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ يريد فاسمعوا قولي وأطيعونى، فقد نهيتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه، أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم.. «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 11.(12/24)
ولكن هذه النصائح الغالية الحكيمة من الرجل الصالح لقومه، لم تصادف أذنا واعية بل إن سياق القصة بعد ذلك ليوحى بأن قومه قتلوه، فقد قال- تعالى- بعد أن حكى نصائح هذا الرجل لقومه، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ....
أى: قالت الملائكة لهذا الرجل الصالح عند موته على سبيل البشارة: ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الطيب.
قال الآلوسى: قوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ.. استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك.
والظاهر أن الأمر المقصود به الإذن له بدخول الجنة حقيقة، وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الحياة، فعن ابن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه..
وقيل: الأمر للتبشير لا للإذن بالدخول حقيقة، أى: قالت ملائكة الموت وذلك على سبيل البشارة له بأنه من أهل الجنة- يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث «1» .
وقوله- تعالى-: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ استئناف بيانى لبيان ما قاله عند البشارة.
أى: قيل له ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الصالح، فرد وقال: يا ليت قومي الذين قتلوني ولم يسمعوا نصحى، يعلمون بما نلته من ثواب من ربي، فقد غفر لي- سبحانه-، وجعلني من المكرمين عنده، بفضله وإحسانه..
قال ابن كثير: ومقصوده- من هذا القول- أنهم لو اطلعوا على ما حصل عليه من ثواب ونعيم مقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضى عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه.
روى ابن أبى حاتم أن عروة بن مسعود الثقفي، قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام، فقال له صلّى الله عليه وسلم «إنى أخاف أن يقتلوك» ، فقال: يا رسول الله، لو وجدوني نائما ما أيقظونى. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم «انطلق إليهم» فانطلق إليهم، فمر على اللات والعزى فقال: لأصبحنك غدا بما يسوؤك، فغضبت ثقيف فقال لهم: يا معشر ثقيف: أسلموا تسلموا- ثلاث مرات-. فرماه رجل منهم فأصاب أكحله فقتله- والأكحل: عرق في وسط الذراع- فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «هذا مثله كمثل صاحب يس قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ «2» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 22 ص 228.
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 558.(12/25)
وقال صاحب الكشاف ما ملخصه: وقوله: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ.. إنما تمنى علم قومه بحاله، ليكون علمهم بها سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم، بالتوبة عن الكفر، والدخول في الإيمان.. وفي حديث مرفوع: «نصح قومه حيا وميتا» .
وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به، والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، وللباغين له الغوائل وهم كفرة وعبدة أصنام.. «1» .
ثم بين- سبحانه- ما نزل بأصحاب القرية من عذاب أهلكهم فقال: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ: أى: من بعد موته.
مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ لأنهم كانوا أحقر وأهون من أن نفعل معهم ذلك.
وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أى: وما صح وما استقام في حكمتنا أن ننزل عليهم جندا من السماء، لهوان شأنهم، وهوان قدرهم.
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أى: ما كانت عقوبتنا لهم إلا صيحة واحدة صاحها بهم جبريل بأمرنا.
فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أى: هامدون ميتون، شأنهم في ذلك كشأن النار التي أصابها الخمود والانطفاء، بعد أن كانت مشتعلة ملتهبة، يقال. خمدت النار تخمد خمودا. إذا سكن لهيبها، وانطفأ شررها، وخمد الرجل- كقعد- إذا مات وانقطعت أنفاسه.
وهكذا كانت نهاية الذين كذبوا المرسلين، وقتلوا المصلحين، فقد نزلت بهم عقوبة الله- تعالى- فجعلتهم في ديارهم جاثمين.
وبعد أن بين- سبحانه- سوء مصارع المكذبين، أتبع ذلك بدعوة الناس إلى الاتعاظ بذلك من قبل فوات الأوان، فقال- تعالى-: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
والحسرة: الغم والحزن على ما فات، والندم عليه ندما لا نفع من ورائه، كأن المتحسر قد انحسرت عنه قواه وذهبت، وصار في غير استطاعته إرجاعها.
و «يا» حرف نداء. و «حسرة» منادى ونداؤها على المجاز بتنزيلها منزلة العقلاء.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 11.(12/26)
والمراد بالعباد: أولئك الذين كذبوا الرسل، وآثروا العمى على الهدى، ويدخل فيهم دخولا أوليا أصحاب تلك القرية المهلكة.
والمقصود من الآية الكريمة، التعجب من حال هؤلاء المهلكين، وبيان أن حالهم تستحق التأثر والتأسف والاعتبار، لأنها حالة تدل على بؤسهم وظلمهم لأنفسهم وجهلهم.
والمعنى: يا حسرة على العباد الذين أهلكوا بسبب إصرارهم على كفرهم احضرى فهذا أوان حضورك، فإن هؤلاء المهلكين كانوا في دنياهم ما يأتيهم من رسول من الرسل، إلا كانوا به يستهزئون، ويتغامزون، ويستخفون به وبدعوته، مع أنهم- لو كانوا يعقلون. لقابلوا دعوة رسلهم بالطاعة والانقياد.
قال صاحب الكشاف: قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ... نداء للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضرى فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل.
والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون، ويتلهف عليهم المتلهفون. أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين.
وقرئ: يا حسرة العباد، على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم، من حيث إنها موجهة إليهم «1» .
أى: يا حسرة العباد منهم على أنفسهم، بسبب تكذيبهم لرسلهم، واستهزائهم بهم.
ثم وبخ- سبحانه- كفار مكة، بسبب عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ.
والقرون: جمع قرن. وهم القوم المقترنون في زمن واحد. و «كم» خبرية بمعنى كثير.
أى: ألم يعلم كفار مكة أننا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة عليهم، بسبب إصرارهم على كفرهم، واستهزائهم برسلهم، وأن هؤلاء المهلكين لا يرجعون إليهم ليخبروهم بما جرى لهم، لأنهم لن يستطيعوا ذلك في الدنيا، لحكمة أرادها الله- تعالى-.
ولكن الجميع سيعودون إليه- سبحانه- وسيبعثهم يوم القيامة من قبورهم للحساب والجزاء، كما قال- تعالى-: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ.
و «إن» حرف نفى، و «كل» مبتدأ، والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 13.(12/27)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
و «لما» بمعنى إلا. و «جميع» خبر المبتدأ. و «محضرون» خبر ثان.
أى: لقد علم أهل مكة وغيرهم أننا أهلكنا كثيرا من القرى الظالم أهلها. وأن هؤلاء المهلكين لن يرجعوا إلى أهل مكة في الدنيا، ولكن الحقيقة التي لا شك فيها أنه ما من أمة من الأمم، أو جماعة من الجماعات المتقدمة أو المتأخرة إلا ومرجعها إلينا يوم القيامة، لنحاسبها على أعمالها، ولنجازيها بالجزاء الذي تستحقه.
كما قال- سبحانه- في آية أخرى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ «1» .
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ألوانا من الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته، وهذه الأدلة منها ما هو أرضى، ومنها ما هو سماوي، ومنها ما هو بحرى، وكلها تدل- أيضا- على فضله ورحمته، قال- تعالى-:
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
__________
(1) سورة هود آية 111.(12/28)
قال الإمام الرازي ما ملخصه قوله: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وجه تعلقه بما قبله، أنه- سبحانه- لما قال: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ كان ذلك إشارة إلى الحشر، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإنكارهم واستبعادهم، وعنادهم فقال: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها.. أى: وكذلك نحيى الموتى ... «1» .
والمراد بالآية هنا: العلامة والبرهان والدليل.
والمراد بالأرض الميتة: الأرض الجدباء التي لا نبات فيها.
والمراد بالحب: جنسه من حنطة وشعير وغيرهما.
أى: ومن العلامات الواضحة لهؤلاء المشركين على قدرتنا على إحياء الموتى، أننا ننزل الماء على الأرض الجدباء. فتهتز وتربو، وتخرج ألوانا وأصنافا من الحبوب التي يعيشون عليها.
ويأكلون منها.
ونكر- سبحانه- لفظ آيَةٌ للإشعار بأنها آية عظيمة، كان ينبغي لهؤلاء المشركين أن يلتفتوا إليها، لأنهم يشاهدون بأعينهم الأرض القاحلة السوداء، كيف تتحول إلى أرض خضراء بعد نزول المطر عليها.
والله- تعالى- الذي قدر على ذلك، قادر- أيضا- على إحياء الموتى وإعادتهم إلى الحياة.
وقوله: أَحْيَيْناها كلام مستأنف مبين لكيفية كون الأرض الميتة آية.
وقدم- سبحانه- الجار والمجرور في قوله فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي تكون منه معظم المأكولات التي يعيشون عليها، وأن قلّته تؤدى الى القحط والجوع.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 77.(12/29)
ثم بين- سبحانه- بعض النعم الأخرى التي تحملها الأرض لهم فقال: وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ.
والآية الكريمة معطوفة على قوله أَحْيَيْناها، ونخيل: جمع نخل، كعبيد جمع عبد، وأعناب: جمع عنب: والعيون، جمع عين. والمراد بها الآبار التي تسقى بها الزروع.
أى: أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء.. وجعلنا فيها- بقدرتنا ورحمتنا- بساتين كثيرة من نخيل وأعناب، وفجرنا وشققنا فيها كثيرا من الآبار والعيون التي تسقى بها تلك الزروع والثمار.
وخص النخيل والأعناب بالذكر، لأنها أشهر الفواكه المعروفة لديهم، وأنفعها عندهم.
واللام في قوله: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ متعلق بقوله: وَجَعَلْنا.....
والضمير في قوله: مِنْ ثَمَرِهِ يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل والأعناب. أو إلى الله- تعالى-.
أى: وجعلنا في الأرض ما جعلنا من جنات ومن نخيل ومن أعناب، ليأكلوا ثمار هذه الأشياء التي جعلناها لهم، وليشكرونا على هذه النعم.
و «ما» في قوله: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ الظاهر أنها نافية والجملة حالية، والاستفهام للحض على الشكر.
أى: جعلنا لهم في الأرض جنات من نخيل وأعناب، ليأكلوا من ثمار ما جعلناه لهم، وإن هذه الثمار لم تصنعها أيديهم، وإنما الذي أوجدها وصنعها هو الله- تعالى- بقدرته ومشيئته.
وما دام الأمر كذلك، فهلا شكرونا على نعمنا، وأخلصوا العبادة لنا.
قال ابن كثير: وقوله: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أى: وما ذاك كله إلا من رحمتنا بهم، لا بسعيهم ولا كدهم، ولا بحولهم وقوتهم. قاله ابن عباس وقتادة. ولهذا قال: أَفَلا يَشْكُرُونَ أى: فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى «1» .
ويصح أن تكون «ما» هنا موصولة فيكون المعنى: ليأكلوا من ثمره ومن الذي عملته أيديهم من هذه الثمار كالعصير الناتج منها، وكغرسهم لتلك الأشجار وتعهدها بالسقى وغيره، إلى أن آتت أكلها.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 561. [.....](12/30)
قال الشوكانى: وقوله: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ معطوف على ثمره، أى: ليأكلوا من ثمره، ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن «ما» موصولة، وقيل: هي نافية، والمعنى: لم يعملوه بأيديهم، بل العامل له هو الله.. «1» .
ثم أثنى- سبحانه- على ذاته بما هو أهل له من ثناء فقال: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ.
ولفظ: سُبْحانَ اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق بفعل محذوف، والتقدير:
سبحت الله سبحانا: أى: تسبيحا. بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء، وعظمته تعظيما.
و «من» في الآية الكريمة للبيان.
أى: ننزه الله- تعالى- تنزيها عن كل سوء. ونعظمه تعظيما لا نهاية له، فهو- عز وجل- الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أى: الأنواع، والأصناف كلها ذكورا وإناثا.
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أى: خلق الأصناف كلها التي تنبت في الأرض من حبوب وغيرها.
وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أى: وخلقها من أنفسهم إذ الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر.
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أى: وخلق هذه الأصناف كلها من أشياء لا علم لهم بها، وإنما مرد علمها إليه وحده- تعالى- كما قال- سبحانه- وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان لمظهر من مظاهر قدرته- تعالى- وبديع خلقه، حيث خلق الأصناف كلها، نرى بعضها نابتا في الأرض، ونرى بعضها متمثلا في الإنسان المكون من ذكر وأنثى، وهناك مخلوقات أخرى لا يعلمها إلا الله- تعالى-.
وبعد أن بين- سبحانه- مظاهر قدرته عن طريق التأمل في الأرض التي نعيش عليها، عقب ذلك ببيان مظاهر قدرته عن طريق التأمل في تقلب الليل والنهار، وتعاقب الشمس والقمر، فقال- تعالى-: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ. فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ.
وقوله: نَسْلَخُ من السلخ بمعنى الكشط والإزالة، يقال: سلخ فلان جلد الشاة، إذا أزاله عنها.
والمراد هنا: إزالة ضوء النهار عن الليل، ليبقى لليل ظلمته.
قال صاحب الكشاف: سلخ جلد الشاة، إذا كشطه عنها وأزاله. ومنه: سلخ الحية
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 368.(12/31)
لخرشائها- أى: لجلدها- فاستعير ذلك لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل، وملقى ظله «1» .
أى: ومن البراهين والعلامات الواضحة، الدالة على وحدانية الله، وقدرته على إحياء الموتى، وجود الليل والنهار بهذه الطريقة التي نشاهدها، حيث ينزع- سبحانه- عن الليل النهار، فيبقى لليل ظلامه، ويصير الناس في ليل مظلم، بعد أن كانوا في نهار مضيء.
فمعنى: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ: فإذا هم داخلون في الظلام، بعد أن كانوا بعيدين عنه.
يقال: أظلم القوم. إذا دخلوا في الظلام. وأصبحوا، إذا دخلوا في وقت الصباح.
وقوله- تعالى-: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها بيان لدليل آخر على قدرته- تعالى- وهو معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ ...
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: لِمُسْتَقَرٍّ لَها أى لحد معين تنتهي إليه.. شبه بمستقر المسافر إذا انتهى من سيره، والمستقر عليه اسم مكان، واللام بمعنى إلى..
ويصح أن يكون اسم زمان، على أنها تجرى إلى وقت لها لا تتعداه، وعلى هذا فمستقرها:
انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا.. «2» .
والمعنى: وآية أخرى لهم على قدرتنا، وهي أن الشمس تجرى إلى مكان معين لا تتعداه، وإلى زمن محدد لا تتجاوزه، وهذا المكان وذلك الزمان، كلاهما لا يعلمه إلا الله- تعالى-.
قال بعض العلماء: قوله- تعالى-: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أى: والشمس تدور حول نفسها، وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها. ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة في مكانها، وإنما هي تجرى فعلا.. تجرى في اتجاه واحد، في هذا الفضاء الكونى الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثنى عشر ميلا في الثانية.
والله ربها الخبير بجريانها وبمصيرها يقول: إنها تجرى لمستقر لها، هذا المستقر الذي ستنتهى إليه لا يعلمه إلا هو- سبحانه- ولا يعلم موعده سواه.
وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه، وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك أو تجرى في الفضاء لا يسندها شيء، حين نتصور ذلك، ندرك طرفا من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم «3» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 16.
(2) تفسير الآلوسى ج 23 ص 12.
(3) تفسير في ظلال القرآن ج 23 ص 25.(12/32)
وقد ساق القرطبي عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث فقال: وفي صحيح مسلم عن أبى ذر قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله- تعالى-: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال مستقرها تحت العرش.
ولفظ البخاري عن أبى ذر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم لي حين غربت الشمس. «تدرى أين تذهب» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها. فقال لها:
ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها. فذلك قوله- تعالى-: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها «1» .
واسم الإشارة في قوله ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يعود الى الجري المفهوم من «تجرى» .
أى: ذلك الجريان البديع العجيب المقدر الشمس، تقدير الله- تعالى- العزيز الذي لا يغلبه غالب، العليم بكل شيء في هذا الكون علما لا يخفى معه قليل أو كثير من أحوال هذا الكون.
ثم ذكر- سبحانه- آية أخرى تتعلق بكمال قدرته فقال: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ...
ولفظ القمر قرأه جمهور القراء بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف يفسره ما بعده.
والمنازل جمع منزل. والمراد بها أماكن سيره في كل ليلة، وهي ثمان وعشرون منزلا، تبدأ من أول ليلة في الشهر، إلى الليلة الثامنة والعشرين منه. ثم يستتر القمر ليلتين إن كان الشهر تاما. ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعا وعشرين ليلة.
أى: وقدرنا سير القمر في منازل، بأن ينزل في كل ليلة في منزل لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، إذ كل شيء عندنا بمقدار..
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «والقمر» بالرفع على الابتداء، وخبره جملة «قدرناه» .
قال الآلوسى ما ملخصه. قوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ- بالنصب- أى: وصيرنا سيره، أى: محله الذي يسير فيه «منازل» فقدّر بمعنى صيّر الناصب لمفعولين. والكلام على
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 15 ص 17 وابن كثير ج 6 ص 562.(12/33)
حذف مضاف، والمضاف المحذوف مفعوله الأول ومَنازِلَ مفعوله الثاني.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو: وَالْقَمَرَ بالرفع، على الابتداء، وجملة قَدَّرْناهُ خبره.
والمنازل: جمع منزل، والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة «1» .
وقوله- سبحانه-: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ تصوير بديع لحالة القمر وهو في آخر منازله.
والعرجون: هو قنو النخلة ما بين الشماريخ إلى منبته منها، وهو الذي يحمل ثمار النخلة سواء أكانت تلك الثمار مستوية أم غير مستوية. وسمى عرجونا من الانعراج، وهو الانعطاف والتقوس، شبه به القمر في دقته وتقوسه واصفراره.
أى: وصيرنا سير القمر في منازل لا يتعداها ولا يتقاصر عنها، فإذا صار في آخر منازله، أصبح في دقته وتقوسه كالعرجون القديم، أى: العتيق اليابس.
قال بعض العلماء: والذي يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة. يدرك ظل التعبير القرآنى العجيب حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وبخاصة ظل ذلك اللفظ «القديم» . فالقمر في لياليه الأولى هلال. وفي لياليه الأخيرة هلال. ولكنه في لياليه الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وقوة.
وفي لياليه الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم، ويكون فيه شحوب وذبول. ذبول العرجون القديم. فليست مصادفة أن يعبر القرآن عنه هذا التعبير الموحى العجيب «2» .
وقوله- تعالى-: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ بيان لدقة نظامه- سبحانه- في كونه، وأن هذا الكون الهائل يسير بترتيب في أسمى درجات الدقة، وحسن التنظيم.
أى: لا يصح ولا يتأتى للشمس أن تدرك القمر في مسيره فتجتمع معه بالليل.
وكذلك لا يصح ولا يتأتى الليل أن يسبق النهار، بأنه يزاحمه في محله أو وقته، وإنما كل واحد من الشمس والقمر، والليل والنهار، يسير، في هذا الكون بنظام بديع قدره الله- تعالى- له، بحيث لا يسبق غيره، أو يزاحمه في سيره.
قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى-: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ قال
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 23 ص 16.
(2) تفسير في ظلال القرآن ج 23 ص 25.(12/34)
مجاهد: لكل منهما حد لا يعدوه، ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا..
وقال عكرمة: يعنى أن لكل منهما سلطانا فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل.
وقوله: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يقول: لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر، حتى يكون النهار.. «1» .
وقوله- تعالى-: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ التنوين في «كل» عوض عن المضاف إليه..
قال الآلوسى: والفلك: مجرى الكواكب، سمى بذلك لاستدارته، كفلكة المغزل، وهي الخشبة المستديرة في وسطه، وفلكة الخيمة، وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة «2» .
أى: وكل من الشمس والقمر، والليل والنهار، في أجزاء هذا الكون يسيرون بانبساط وسهولة، لأن قدرة الله- تعالى- تمنعهم من التصادم أو التزاحم أو الاضطراب.
ثم ذكر- سبحانه- نوعا آخر من النعم التي امتن بها على عباده فقال: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.
وللمفسرين في تفسير هذه الآية أقوال منها: أن الضمير في «لهم» يعود إلى أهل مكة، والمراد بذريتهم: أولادهم صغارا أو كبارا، والمراد بالفلك المشحون: جنس السفن.
فيكون المعنى: ومن العلامات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، أننا حملنا- بفضلنا ورحمتنا- أولادهم صغارا وكبارا في السفن المملوءة بما ينفعهم دون أن يصيبهم أذى، وسخرنا لهم هذه السفن لينتقلوا فيها من مكان إلى آخر.
ويرى بعضهم أن الضمير في «لهم» يعود إلى الناس عامة، والمراد بذريتهم آباؤهم الأقدمون، والمراد بالفلك المشحون: سفينة نوح- عليه السلام- التي أنجاه الله- تعالى- فيها بمن معه من المؤمنين، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم.
فيكون المعنى: وعلامة ودليل واضح للناس جميعا على قدرتنا، أننا حملنا- بفضلنا ورحمتنا- آباءهم الأقدمين الذين آمنوا بنوح- عليه السلام- في السفينة التي أمرناه بصنعها، والتي كانت مليئة ومشحونة، بما ينتفعون به في حياتهم.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 564.
(2) تفسير الآلوسى ج 23 ص 23.(12/35)
قال الجمل: وإطلاق الذرية على الأصول صحيح، فإن لفظ الذرية مشترك بين الضدين، الأصول والفروع لأن الذرية من الذرء بمعنى الخلق. والفروع مخلوقون من الأصول، والأصول خلقت منها الفروع. فاسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد «1» .
وهذا الرأى الثاني قد اختاره الإمام ابن كثير ولم يذكر سواه، فقد قال رحمه الله: يقول- تعالى-: ودلالة لهم- أيضا- على قدرته- تعالى- تسخيره البحر ليحمل السفن، فمن ذلك- بل أوله- سفينة نوح التي أنجاه الله فيها بمن معه من المؤمنين، ولهذا قال: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أى: آباءهم.
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أى: في السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين «2» .
وقوله- تعالى-: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ بيان لنعمة أخرى من نعمه- تعالى- على عباده.
والضمير في قوله- تعالى-: مِنْ مِثْلِهِ يعود على السفن المشبهة لسفينة نوح- عليه السلام-.
قال القرطبي: ما ملخصه قوله- تعالى-: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ والأصل ما يركبونه ... والضمير في «من مثله» للإبل. خلقها لهم للركوب في البر، مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تشبه الإبل بالسفن. وقيل إنه للإبل والدواب وكل ما يركب.
والأصح أنه للسفن. أى: خلقنا لهم سفنا أمثالها، أى: أمثال سفينة نوح يركبون فيها.
قال الضحاك وغيره: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح- عليه السلام- «3» .
ثم بين- سبحانه- مظهرا آخر من مظاهر فضله على الناس فقال: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ.
الصريخ: المغيث. أى: فلا مغيث لهم. أو فلا إغاثة لهم، على أنه مصدر كالصراخ، لأن المستغيث الخائف ينادى من ينقذه، فيصرخ المغيث له قائلا: جاءك الغوث والعون.
والاستثناء هنا مفرغ من أعم العلل.
أى: وإن نشأ أن نغرق هؤلاء المحمولين في السفن أغرقناهم، دون أن يجدوا من يغيثهم
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 515.
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 565.
(3) تفسير القرطبي ج 15 ص 34.(12/36)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
منا، أو من ينقذهم من الغرق، سوى رحمتنا بهم، وفضلنا عليهم، وتمتيعنا إياهم بالحياة إلى وقت معين تنقضي عنده حياتهم.
فالآيتان الكريمتان تصوران مظاهر قدرة الله ورحمته بعباده أكمل تصوير وذلك لأن السفن التي تجرى في البحر- مهما عظمت- تصير عند ما تشتد أمواجه في حالة شديدة من الاضطراب، ويغشى الراكبين فيها من الهول والفزع ما يغشاهم، وفي تلك الظروف العصيبة لا نجاة لهم مما هم فيه إلا عن طريق رعاية الله- تعالى- ورحمته بهم.
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من رد المشركين السيئ على من يدعوهم إلى الخير، ومن جهالاتهم حيث تعجلوا العذاب الذي لا محيص لهم عنه، ومن أحوالهم عند قيام الساعة، فقال- تعالى-:
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 54]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)(12/37)
وقوله- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ.. حكاية لموقف المشركين من الناصحين لهم، وكيف أنهم صموا آذانهم عن سماع الآيات التنزيلية، بعد صممهم عن التفكر في الآيات التكوينية.
أى: وإذا قال قائل لهؤلاء المشركين على سبيل النصح والإرشاد: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ أى: احذروا ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر، وصونوا أنفسكم عن ارتكاب المعاصي التي ارتكبها الظالمون من قبلكم، فأهلكوا بسببها وأبيدوا، وآمنوا بالله ورسوله واعملوا العمل الصالح، لعلكم بسبب ذلك تنالون الرحمة من الله- تعالى-.
وجواب «إذا» محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا عن الناصح، واستخفوا به، وتطاولوا عليه.
ويشهد لهذا الجواب المحذوف قوله- تعالى- بعد ذلك: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ.
و «من» الأولى مزيدة لتأكيد إعراضهم وصممهم عن سماع الحق، والثانية للتبعيض.
أى: ولقد بلغ الجحود والجهل والعناد عند هؤلاء المشركين، أنهم ما تأتيهم آية من الآيات التي تدل على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وعلى أن الرسول صلّى الله عليه وسلم صادق في دعوته، إلا كانوا عن كل ذلك معرضين إعراضا تاما، شأنهم في ذلك شأن الجاحدين من قبلهم.
وأضاف- سبحانه- إليه الآيات التي أتتهم، لتفخيم شأنها، وبيان أنها آيات عظيمة، كان من شأنهم- لو كانوا يعقلون- أن يتدبروها، ويتبعوا من جاء بها.
ثم حكى- سبحانه- موقفا آخر، من مواقفهم القبيحة ممن نصحهم وأرشدهم إلى الصواب، فقال- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ....
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أن أبا بكر الصديق- رضى الله عنه- كان يطعم مساكين المسلمين، فلقيه أبو جهل فقال له: يا أبا بكر: أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟.(12/38)
قال نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال أبو بكر: ابتلى- سبحانه- قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء.
فقال أبو جهل: والله يا أبا بكر: إن أنت إلا في ضلال، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم، ثم تطعمهم أنت.. فنزلت هذه الآية.
وقيل: كان العاصي بن وائل السهمي، إذا سأله المسكين قال له: اذهب إلى ربك فهو أولى منى بك. ثم يقول: قد منعه الله فأطعمه أنا.. «1» .
والمعنى. وإذا قال قائل من المؤمنين لهؤلاء الكافرين: أنفقوا على المحتاجين شيئا من الخير الكثير الذي رزقكم الله- تعالى- إياه.
قال الكافرون- على سبيل الاستهزاء والسخرية- للمؤمنين: هؤلاء الفقراء الذين طلبتم منا أن ننفق عليهم، لو شاء الله لأطعمهم ولأغناهم كما أغنانا.
إِنْ أَنْتُمْ أيها المؤمنون إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في أمركم لنا بالإنفاق عليهم أو على غيرهم.
قال الشوكانى ما ملخصه: وقوله: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ حكاية لتهكم الكافرين، وقد كانوا سمعوا المؤمنين يقولون: إن الرزاق هو الله، وإنه يغنى من يشاء، ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمؤمنين، وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل، فإن الله- سبحانه- أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا، وأمر الغنى أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة، وقولهم: مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ هو وإن كان كلاما صحيحا في نفسه، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله، وإنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله، كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا.
وقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من تتمة كلام الكفار. وقيل: هو رد من الله عليهم.. «2» .
ثم يحكى القرآن إنكارهم للبعث، واستهزاءهم بمن يؤمن به فيقول: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
أى: ويقول الكافرون للمؤمنين- على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالبعث- مَتى هذَا الْوَعْدُ
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 517.
(2) تفسير فتح القدير ج 4 ص 373. [.....](12/39)
الذي تعدوننا به من أن هناك بعثا، وحسابا وجزاء ... أحضروه لنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تعدوننا به.
وهنا يجيء الرد الذي يزلزلهم، عن طريق بيان بعض مشاهد يوم القيامة، فيقول- سبحانه-: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ.
المراد بالصيحة هنا: النفخة الأولى التي ينفخها إسرافيل بأمر الله- تعالى- فيموت جميع الخلائق.
وقوله يَخِصِّمُونَ أى: يختصمون في أمور دنياهم. وفي هذا اللفظ عدة قراءات سبعية.
منها قراءة أبو عمرو وابن كثير: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ- بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد مع الفتح- ومنها قراءة عاصم والكسائي: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد مع الكسر.
ومنها قراءة حمزة يَخِصِّمُونَ بإسكان الخاء وكسر الصاد مع التخفيف.
أى: أن هؤلاء الكافرين الذين يستنكرون قيام الساعة، ويستبعدون حصولها، جاهلون غافلون، فإن الساعة آتية لا ريب فيها، وستحل بهم بغتة فإنهم ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يصيحها إسرافيل بأمرنا، فتأخذهم هذه الصيحة وتصعقهم وتهلكهم وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أى: وهم يتخاصمون ويتنازعون في أمور دنياهم.
وعند ما تنزل بهم هذه الصيحة، لا يستطيع بعضهم أن يوصى بعضا بما يريد أن يقول له ولا يستطيعون جميعا الرجوع إلى أهليهم، لأنهم يصعقون في أماكنهم التي يكونون فيها عند حدوث هذه الصيحة.
فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أبلغ تصوير لأهوال علامات يوم القيامة، ولسرعة مجيء هذه الأهوال.
أخرج الشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة والرجل يليط حوضه- أى يسده بالطين- فلا يسقى منه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن ناقته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» «1» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 31.(12/40)
ثم بين- سبحانه- حالهم عند النفخة الثانية فقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ..
والمراد بالنفخ هنا: النفخة الثانية التي يكون معها البعث والحساب.
والصور: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، ولا يعلم كيفيته سوى الله- تعالى-:
والأجداث: جمع جدث- بفتحتين- كفرس وأفراس- وهي القبور.
وينسلون: أى: يسرعون بطريق الجبر والقهر لا بطريق الاختيار، والنّسلان: الإسراع في السير.
أى: ونفخ في الصور النفخة الثانية، فإذا بهؤلاء الكافرين الذين كانوا يستبعدون البعث وينكرونه، يخرجون من قبورهم سراعا- وبدون اختيار منهم- متجهين إلى ربهم ومالك أمرهم ليقضى فيهم بقضائه العادل.
قالُوا بعد خروجهم من قبورهم بسرعة وفزع يا وَيْلَنا أى: يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك.
ثم يقولون بفزع أشد: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أى من أثارنا من رقادنا، وكأنهم لهول ما شاهدوا قد اختلطت عقولهم، وأصيبت بالهول، فتوهموا أنهم كانوا نياما.
قال ابن كثير- رحمه الله- قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوه في محشرهم قالوا:
يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، وهذا لا ينفى عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
وقوله: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ رد من الملائكة أو من المؤمنين عليهم.
أو هو حكاية لكلام الكفرة في رد بعضهم على بعض على سبيل الحسرة واليأس.
و «ما» موصولة والعائد محذوف، أى: هذا الذي وعده الرحمن والذي صدّقه المرسلون.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: إذا جعلت «ما» مصدرية، كان المعنى: هذا وعد الرحمن، وصدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدق فيه بالوعد والصدق، فما وجه قوله:
وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ؟ إذا جعلتها موصولة؟.
قلت: تقديره: هذا الذي وعده الرحمن، والذي صدقه المرسلون، بمعنى: والذي صدق فيه المرسلون، من قولهم: صدقوهم الحديث والقتال ...(12/41)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
ثم بين- سبحانه- سرعة امتثالهم وحضورهم للحساب فقال: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ.
أى: ما كانت النفخة التي حكيت عنهم آنفا إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاحها إسرافيل بإذننا وأمرهم فيها بالقيام من قبورهم فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ دون أن يتخلف أحد منهم لدينا محضرون ومجموعون للحساب والجزاء.
فَالْيَوْمَ وهو يوم القيامة لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً من الظلم، وإنما كل نفس توفى حقها.
وقوله- تعالى- وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى: ولا تجزون إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا، فالجملة الكريمة تأكيد وتقرير لما قبلها.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ «1» .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن أحوال الكافرين يوم القيامة، جاء الحديث عما أعده الله- تعالى- بفضله وكرمه للمؤمنين، وعما يقال للكافرين في هذا اليوم من تبكيت وتأنيب فقال- تعالى-:
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 64]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 47.(12/42)
فقوله- تعالى-: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ بيان لأحوالهم الطيبة، بعد بيان أحوال الكافرين السيئة.
والشغل: الشأن الذي يشغل الإنسان عما سواه من الشئون، لكونه أهم عنده من غيره، وما فيه من التنكير للتفخيم، كأنه قيل: في شغل أى شغل.
وفاكهون. أى: متنعمون متلذذون في النعمة التي تحيط بهم، مأخوذ من الفكاهة- بفتح الفاء- وهي طيب العيش مع النشاط. يقال: فكه الرجل فكها وفكاهة فهو فكه وفاكه، إذا طاب عيشه، وزاد سروره، وعظم نشاطه وسميت الفاكهة بذلك لتلذذ الإنسان بها.
أى: يقال للكافرين في يوم الحساب والجزاء زيادة في حسرتهم- إن أصحاب الجنة اليوم في شغل عظيم، يتلذذون فيه بما يشرح صدورهم، ويرضى نفوسهم، ويقر عيونهم، ويجعلهم في أعلى درجات التنعم والغبطة.
وعبر عن حالهم هذه بالجملة الاسمية المؤكدة، للإشعار بأن هذه الحال ثابتة لهم ثبوتا تاما، بفضل الله- تعالى- وكرمه.
ثم بين- سبحانه- جانبا من كيفية هذا التمتع بالجنة ونعيمها فقال: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ.
و «هم» مبتدأ، و «أزواجهم» معطوف عليه. و «متكئون» خبر المبتدأ.
قال الامام الرازي. ولفظ الأزواج هنا يحتمل وجهين:
أحدهما: أشكالهم في الإحسان. وأمثالهم في الإيمان، كما قال- تعالى-: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ.
وثانيهما: الأزواج هم المفهومون من زوج المرأة وزوجة الرجل، كما في قوله- تعالى-:
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ... «1» .
ويبدو أن المراد بالأزواج هنا: حلائلهم اللاتي أحلهن الله لهم، زيادة في مسرتهم وبهجتهم، وعلى هذا سار عامة المفسرين.
والظلال: جمع ظل أو ظلة، وهي ما يظل الإنسان ويقيه من الحر.
والأرائك: جمع أريكة وهي ما يجلس عليه الإنسان من سرير ونحوه للراحة والمتعة.
أى: أن أصحاب الجنة هم وحلائلهم يجلسون على الأرائك متكئين في متعة ولذة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 100.(12/43)
لَهُمْ فِيها أى في الجنة فاكِهَةٌ كثيرة متنوعة وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أى: ولهم فوق ذلك جميع ما يطلبونه من مطالب وما يتمنونه من أمنيات.
فقوله: يَدَّعُونَ يصح أن يكون من الدعاء بمعنى الطلب، كما يصح أن يكون من الادعاء بمعنى التمني.
يقال: ادع علىّ ما شئت أى: تمن علىّ ما شئت. ويقال: فلان في خير ما يدّعى، أى: في خير ما يتمنى.
ثم ختم- سبحانه- هذا العطاء الجزيل للمؤمنين بقوله: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ.
وللمفسرين في إعراب قوله: سَلامٌ أقوال منها: أنه مبتدأ خبره الناصب للفظ قَوْلًا أى: سلام يقال لهم قولا ... «1» .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى بعض هذه الأقوال فقال: وقوله: سَلامٌ بدل من قوله ما يَدَّعُونَ كأنه قال لهم: سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم.
والمعنى: أن الله- تعالى- يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تكريمهم، وذلك غاية متمناهم.. «2» .
وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث، منها ما رواه ابن أبى حاتم- بسنده- عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينما أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطح لهم نور، فرفعوا رءوسهم فإذا الرب- تعالى- قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه. حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم» «3» .
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة- كما يقول الإمام الفخر الرازي- يراها تشير إلى أن أصحاب الجنة ليسوا في تعب، كما تشير إلى وحدتهم، وإلى حسن المكان، وإلى إعطائهم كل ما يحتاجونه، وإلى تلذذهم بالنعيم وإلى تلقيهم لأجمل تحية..» «4» .
هذا هو حال المؤمنين، وهذا بعض ما يقال لهم من ألفاظ التكريم، فماذا يقال للمجرمين.
__________
(1) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 521.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 22.
(3) تفسير ابن كثير ج 6 ص 570.
(4) راجع تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 101.(12/44)
لقد بين- سبحانه- بعد ذلك ما يقال للمجرمين فقال: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أى: ويقال للمجرمين في هذا اليوم- على سبيل الزجر والتأنيب انفردوا- أيها المجرمون- عن المؤمنين، واتجهوا إلى ما أعد لكم من عذاب في جهنم، بسبب كفركم وجحودكم للحق.
يقال: امتاز وتميز القوم بعضهم عن بعض، إذا انفصل كل فريق عن غيره.
قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ
«1» .
وقوله- تعالى- بعد ذلك: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ من جملة ما يقال لهم- أيضا- على سبيل التقريع والتوبيخ.
والعهد بالشيء: الوصية به، والمراد به هنا: وصية الله- تعالى- للناس على ألسنة رسله، أن يخلصوا له العبادة والطاعة، وأن يخالفوا: ما يوسوس لهم به الشيطان من شرك ومعصية قال الآلوسى: والمراد بالعهد هنا. ما كان منه- تعالى- على ألسنة الرسل- عليهم السلام- من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله- تعالى- يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ....
وقيل: هو الميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر، إذ قال- سبحانه- أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى.
وقيل: هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله- تعالى- الزاجرة عن عبادة غيره ...
والمراد بعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم، ويزينه لهم، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها «2» .
والمعنى: لقد عهدت إليكم- يا بنى آدم- عهدا مؤكدا على ألسنة رسلي، أن لا تعبدوا الشيطان وأن لا تستمعوا لوسوسته، وأن لا تتبعوا خطواته، لأنه لكم عدو ظاهر العداوة، بحيث لا تخفى عداوته على أحد من العقلاء.
فجملة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل لوجوب الانتهاء عن طاعة الشيطان.
__________
(1) سورة الروم الآيات من 14- 16.
(2) تفسير الآلوسى ج 23 ص 40.(12/45)
وقوله: وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ بيان لما يجب عليهم أن يفعلوه بعد النهى عما يجب عليهم أن يجتنبوه.
و «أن» في قوله أَنْ لا تَعْبُدُوا وفي قوله وَأَنِ اعْبُدُونِي مفسرة، والجملة الثانية معطوفة على الأولى.
أى: لقد عهدت إليكم بأن تتركوا عبادة الشيطان، وعهدت إليكم أن تعبدونى وحدي دون غيرى.
والإشارة في قوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ تعود إلى إخلاص العبادة لله- تعالى-.
أى: هذا الذي أمرتكم به من إخلاص العبادة والطاعة لي هو الطريق الواضح المستقيم، الذي يوصلكم إلى عز الدنيا، وسعادة الآخرة.
وقوله- سبحانه- وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ استئناف مسوق لتأكيد النهى عن طاعة الشيطان. ولتشديد التوبيخ لمن اتبع خطواته.
«وجبلا كثيرا» بمعنى: خلقا كثيرا حتى إنهم لكثرتهم كالجبل العظيم.
ولفظ «جبلّا» قرأه نافع وعاصم- بكسر الجيم والباء، وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي جِبِلًّا بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام وجميع القراءات بمعنى واحد. أى: ولقد أغوى الشيطان منكم يا بنى آدم خلقا كثيرا، فهل عقلتم ذلك، واتعظتم بما فعله مع كثير من أبناء جنسكم، وأخلصتم لنا العبادة والطاعة، واتخذتم الشيطان عدوا لكم كما صرح بعداوتكم. وبالعمل على إغوائكم.
قال- تعالى-: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ «1» .
وقال- سبحانه- حكاية عنه. قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «2» .
وبعد هذا التوبيخ لمن أطاعوا الشيطان، يقال لهم في النهاية: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
أى: هذه جهنم ماثلة أمام أعينكم أيها الكافرون، وهي التي كنتم توعدون بها في الدنيا.
وكنتم تقابلون ذلك بالسخرية والتكذيب.
__________
(1) سورة فاطر آية 6.
(2) سورة ص الآيتان 82، 83.(12/46)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أى: ذوقوا حرها ولهيبها وسعيرها، بسبب كفركم في الدنيا، وموتكم على هذا الكفر.
والأمر في قوله- تعالى-: اصْلَوْهَا للتحقير والإهانة، كما في قوله- تعالى-: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ والذين يأمرونهم بذك هم خزنة النار، بأمر من الله- تعالى- ثم تنتقل السورة الكريمة فتحكى لنا جانبا آخر من أحوال الكافرين في هذا اليوم العصيب، كما تحكى لنا جانبا من مظاهر قدرة الله- تعالى- فتقول:
[سورة يس (36) : الآيات 65 الى 68]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
والمراد باليوم في قوله- تعالى-: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ... يوم القيامة.
وقوله: نَخْتِمُ من الختم، والختم الوسم على الشيء بطابع ونحوه. مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء وطبعه فيه للاستيثاق، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخله ما هو خارج عنه.
أى: في يوم القيامة نختم على أفواه الكافرين فنجعلها لا تنطق، وإنما تكلمنا أيديهم، وتشهد عليهم أرجلهم بما كانوا يكسبونه في الدنيا من أقوال باطلة، وأفعال قبيحة.
قالوا: وسبب الختم على أفواههم، أنهم أنكروا أنهم كانوا مشركين في الدنيا، كما حكى عنهم- سبحانه- ذلك في قوله- تعالى-: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» .
__________
(1) سورة الأنعام آية 23.(12/47)
أو ليكونوا معروفين لأهل الموقف في ذلك اليوم العصيب، أو لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق، أو ليعلموا أن أعضاءهم التي ارتكبت المعاصي في الدنيا، قد صارت شهودا عليهم في الآخرة.
وجعل- سبحانه- ما تنطق به الأيدى كلاما، وما تنطق به الأرجل شهادة، لأن مباشرة المعاصي- غالبا- تكون بالأيدى، أما الأرجل فهي حاضرة لما ارتكب بالأيدى من سيئات، وقول الحاضر على غيره شهادة بما له، أما قول الفاعل فهو إقرار ونطق بما فعله.
قال الجمل: وقال الكرخي: أسند سبحانه فعل الختم إلى نفسه، وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدى والأرجل، لئلا يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا، أو قهرا. والإقرار مع الإجبار غير مقبول. فقال: تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم، أى باختيارها بعد إقدار الله لها على الكلام، ليكون أدل على صدور الذنب منهم «1» .
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث. التي صرحت بأن أعضاء الإنسان تشهد عليه يوم القيامة بما ارتكبه في الدنيا من سيئات. ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أنس بن مالك- رضى الله عنه- أنه قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: «أتدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال من مجادلة العبد ربه يوم القيامة.
يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز علىّ إلا شاهدا من نفسي، فيقول الله- تعالى- له: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا.
قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه- أى لأعضائه-: انطقى. فتنطق بما عمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا وسحقا فعنكن كنت أناضل» . «2» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «3» . ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء الكافرين هم في قبضته في كل وقت فقال: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 522.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 6 ص 572، وتفسير القرطبي ج 15 ص 48. [.....]
(3) سورة فصلت الآية 19، 20.(12/48)
وقوله: لَطَمَسْنا الطمس إزالة أثر الشيء عن طريق محوه. يقال: طمست الشيء طمسا- من باب ضرب- بمعنى محوته وأزلت أثره، والمطموس والطميس الأعمى. ومفعول المشيئة محذوف. والصراط: الطريق وهو منصوب بنزع الخافض.
أى: ولو نشاء طمس أعينهم بأن نمحو عنها الرؤية والإبصار لفعلنا، ولكنا لم نفعل بهم ذلك فضلا منا عليهم، ورحمة بهم، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوا نعمنا بالشكر لا بالكفر.
وقوله- سبحانه-: فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ معطوف على لَطَمَسْنا على سبيل الفرض.
أى: لو نشاء محو أبصارهم لمحوناها، فلو أرادوا في تلك الحالة المبادرة إلى الطريق ليسيروا فيه، أو ليعبروه لما استطاعوا ذلك. لأنهم كيف يستطيعون ذلك وهم لا يبصرون شيئا.
فالاستفهام في قوله- تعالى-: فَأَنَّى يُبْصِرُونَ لاستبعاد اجتيازهم الطريق، ونفى قدرتهم على التصرف.
وقوله- سبحانه-: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ والمسخ: تبديل الخلقة وتحويلها من حال إلى حال، ومن هيئة إلى هيئة.
أى: وفي قدرتنا إذا شئنا، أن نغير صورهم الإنسانية إلى صور أخرى قبيحة، كأن نحولهم إلى قردة أو حيوانات وهم عَلى مَكانَتِهِمْ أى: وهم في مكانهم الذي يقيمون فيه فَمَا اسْتَطاعُوا بسبب هذا المسخ مُضِيًّا أى: ذهابا إلى مقاصدهم وَلا يَرْجِعُونَ أى: ولما استطاعوا- أيضا- إذا ذهبوا أن يرجعوا.
أى: في إمكاننا أن نمسخهم وهم جالسون في أماكنهم، فلا يقدرون أن يمضوا إلى الأمام، أو أن يعودوا إلى الخلف.
فالمقصود بالآيتين الكريمتين تهديدهم على استمرارهم في كفرهم، وبيان أنهم تحت قدرة الله- تعالى- وفي قبضته، وأنه- سبحانه- قادر على أن يفعل بهم ما يشاء من طمس للأبصار، ومن مسخ للصور، ومن غير ذلك مما يريده- تعالى-.
ثم بين- سبحانه- أحوال الإنسان عند ما يتقدم به العمر فقال: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ.
وقوله: نُعَمِّرْهُ من التعمير، بمعنى إطالة العمر.
قال القرطبي: وقوله: نُنَكِّسْهُ قرأه عاصم وحمزة- بضم النون الأولى وتشديد(12/49)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
الكاف- من التنكيس. وقرأه الباقون: نُنَكِّسْهُ- بفتح النون الأولى وضم الكاف- من نكست الشيء أنكسه نكسا إذا قلبته على رأسه فانتكس.
قال قتادة: المعنى: أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا ... قال الشاعر:
من عاش أخلقت الأيام جدّته ... وخانه ثقتاه السمع والبصر
فطول العمر يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا.. وقد استعاذ النبي صلّى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر..» «1» .
والمعنى: «ومن نطل عمره ننكسه في الخلق» أى: نرده إلى أرذل العمر، فنجعله- بقدرتنا- ضعيفا بعد أن كان قويا، وشيخا بعد أن كان شابا فتيا، وناقص العقل بعد أن كان مكتمله ... أَفَلا يَعْقِلُونَ ذلك- أيها الناس- مع أنه من الأمور المشاهدة أمام أبصاركم، وتعرفون أن من قدر على تحويل الإنسان من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف.. قادر- أيضا- على إعادته إلى الحياة مرة أخرى بعد موته.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ «2» .
وقوله- سبحانه- وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً «3» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد هددت الكافرين بسوء المصير إذا استمروا في كفرهم، وبينت جانبا من فضل الله- تعالى- عليهم، لعلهم يفيئون إلى رشدهم، ويشكرونه على نعمه.
ثم رد- سبحانه- على الكافرين الذين وصفوا النبي صلّى الله عليه وسلم بأنه شاعر، كما قالوا عن القرآن أنه شعر، فقال- تعالى-:
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 51.
(2) سورة الروم آية 54.
(3) سورة النحل الآية 70.(12/50)
أى: وما علّمنا الرسول صلّى الله عليه وسلم الشعر وإنما الذي علمناه إياه هو القرآن الكريم، المشتمل على ما يسعد الناس في دنياهم وفي آخرتهم.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة، نفى أن يكون القرآن شعرا بأبلغ وجه لأن الذي علمه الله- تعالى- لنبيه هو القرآن وليس الشعر، وما دام الأمر كذلك فالقرآن ليس شعرا.
وقوله- تعالى-: وَما يَنْبَغِي لَهُ. أى: ما علمناه الشعر، وإنما علمناه القرآن، فقد اقتضت حكمتنا أن لا نعجل الشعر في طبعه صلّى الله عليه وسلم ولا في سليقته، فحتى لو حاوله- على سبيل الفرض- فإنه لا يتأتى له، ولا يسهل عليه ولا يستقيم مع فطرته صلّى الله عليه وسلم.
والضمير في قوله- تعالى-: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ يعود إلى القرآن الكريم:
أى: ما هذا القرآن الكريم إلا ذكر من الأذكار النافعة، والمواعظ الناجحة، والتوجيهات الحكيمة، وهو في الوقت نفسه قُرْآنٌ مُبِينٌ أى: كتاب مقروء من الكتب السماوية الواضحة، التي لا تختلط ولا تلتبس بكلام البشر.
وقد أنزلناه على الرسول الكريم لِيُنْذِرَ به مَنْ كانَ حَيًّا.
أى: من كان مؤمنا عاملا ذا قلب حي، ونفس نقية، وأذن واعية، لأن من كانت هذه صفاته انتفع بالإنذار والتذكير.
وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أى: أن من كان ذا قلب فإنه ينتفع بالإنذار، أما من كان مصرا على كفره وضلاله، فإن كلمة العذاب قد حقت عليه، وصارت نهايته الإلقاء به في جهنم وبئس القرار.
وقد تكلم المفسرون هنا كلاما مفصلا. عن كون القرآن ليس شعرا، وكون الرسول صلّى الله عليه وسلم ليس شاعرا، وعلى رأسهم صاحب الكشاف فقد قال ما ملخصه: كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه شاعر. فرد عليهم بقوله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أى: أن القرآن ليس بشعر، وأين هو من الشعر. والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟
وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء من معانيه؟ وأين نظم كلامهم من نظمه وأساليبه ...
وَما يَنْبَغِي لَهُ أى: وما يصح له، ولا يتطلبه إن طلبه، أى: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له، ولم يتسهل كما جعلناه أميا.. لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض ...(12/51)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
فإن قلت: فقوله:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
قلت: ما هو إلا كلام من جنس كلامه صلّى الله عليه وسلم الذي كان يرمى به على السليقة. من غير صنعة ولا تكلف، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك، ولا التفات منه إذا جاء موزونا، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم، أشياء موزونة، ولا يسميها أحد شعرا، ولا يخطر ببال السامع ولا المتكلم أنها شعر ... » «1» .
ثم ذكر- سبحانه- المشركين ببعض النعم التي أسبغها عليهم، والتي يرونها بأعينهم، ويعلمونها بعقولهم، وسلّى النبي صلّى الله عليه وسلم عما لقيه منهم، فقال- تعالى-:
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 76]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً ...
للإنكار والتعجب من أحوال هؤلاء المشركين، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والأنعام: جمع نعم: وهي الإبل والبقر والغنم.
والمعنى: أعمى هؤلاء المشركون عن مظاهر قدرتنا، ولم يروا بأعينهم، ولم يعلموا بعقولهم.
أنا خلقنا لهم مما عملته أيدينا. وصنعته قدرتنا. أنعاما كثيرة هم لها مالكون يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه.
وأسند- سبحانه- العمل إلى الأيدى، للإشارة إلى أن خلق هذه الأنعام كان بقدرته
__________
(1) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 29. وراجع تفسير الآلوسى ج 23 ص 47.(12/52)
- تعالى- وحده دون أن يشاركه في ذلك مشارك، أو يعاونه معاون. كما يقول القائل: هذا الشيء فعلته بيدي وحدي، للدلالة على تفرده بفعله.
والتعبير بقوله- تعالى- لَهُمْ للإشعار بأن خلق هذه الأنعام إنما حدث لمنفعتهم ومصلحتهم.
وما في قوله مِمَّا عَمِلَتْ موصولة. والعائد محذوف. أى: مما عملته أيدينا.
وقوله: فَهُمْ لَها مالِكُونَ بيان لإحدى المنافع المترتبة على خلق هذه الأنعام لهم.
أما المنافع الأخرى فقد جاءت بعد ذلك في قوله: وَذَلَّلْناها لَهُمْ ... أى: وجعلنا هذه الأنعام مذللة ومسخرة لهم، بحيث أصبحت في أيديهم سهلة القيادة، مطواعة لما يريدونه منها، يقودونها فتنقاد للصغير والكبير. كما قال القائل:
لقد عظم البعير بغير لبّ ... فلم يستغن بالعظم البعير
يصرّفه الصبى بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير «1»
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير «2»
ففي هذه الجملة الكريمة تذكير لهم بنعمة تسخير الأنعام لهم، ولو شاء- سبحانه- لجعلها وحشية بحيث ينفرون منها.
والفاء في قوله: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ تفريع على ما تقدم وركوب بمعنى مركوب.
أى: وصيرنا هذه الأنعام مذللة ومسخرة لهم، فمنها ما يستعملونه في ركوبهم والانتقال عليها من مكان إلى آخر، ومنها ما يستعملونه في مآكلهم عن طريق ذبحه.
وفضلا عن كل ذلك، فإنهم «لهم» في تلك الأنعام «منافع» أخرى غير الركوب وغير الأكل كالانتفاع بها في الحراثة وفي نقل الأثقال ... ولهم فيها- أيضا- «مشارب» حيث يشربون من ألبانها.
والاستفهام في قوله: أَفَلا يَشْكُرُونَ للتخصيص على الشكر، أى: فهلا يشكرون الله- تعالى- على هذه النعم، ويخلصون له العبادة والطاعة.
ثم بين- سبحانه- موقفهم الجحودى من هذه النعم فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ.
__________
(1) الجرير. الحبل الذي يربط به البعير.
(2) فلا غير لديه ولا نكير: أى فلا غيرة لديه ولا إنكار منه لما ينزل به من خسف.(12/53)
أى: إن هؤلاء الكافرين لم يقابلوا نعمنا عليهم بالشكر، وإنما قابلوها بالجحود والبطر.
فقد تركوا عبادتنا، واتخذوا من دوننا آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر، متوهمين أنها تنصرهم عند ما يطلبون نصرها. وراجين أن تدفع عنهم ضرا عند التماس ذلك منها.
وقوله- تعالى-: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ.. دفع لما توهموه من نصرهم ونفى لما توقعوه من نفعهم.
أى: هذه الآلهة المزعومة، لا يستطيعون نصر هؤلاء الكافرين. لأنهم أعجز من أن ينصروا أنفسهم، فضلا عن نصرهم لغيرهم.
وقال- سبحانه-: لا يَسْتَطِيعُونَ بالواو والنون على طريقة جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أن هذه الأصنام تنفع أو تضر أو تعقل.
والضمير «هم» في قوله- تعالى-: وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ يعود إلى المشركين، والضمير في قوله لَهُمْ يعود إلى الآلهة المزعومة.
أى: وهؤلاء الكفار- لجهالتهم وانطماس بصائرهم- قد صاروا في الدنيا بمنزلة الجند الذين أعدوا أنفسهم لخدمة هذه الآلهة والدفاع عنها. والحضور عندها لخدمتها، ورعايتها وحفظها.
ويرى بعضهم أن الضمير «هم» للآلهة، والضمير في «لهم» للمشركين، عكس القول الأول، فيكون المعنى: وهؤلاء الآلهة لا يستطيعون نصر المشركين وهم أى الآلهة- «لهم» أى: للمشركين، «جند محضرون» أى: جند محضرون معهم إلى النار، ليلقوا فيها كما يلقى الذين عبدوهم، كما قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ.
والفاء في قوله- تعالى-: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ للإفصاح. أى: إذا كان حال هؤلاء المشركين كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم من الجهالة والغفلة، فأعرض عنهم، ولا تحزن عليهم، ولا تبال بأقوالهم.
وقوله- سبحانه-: إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ تعليل للنهى عن الحزن بسبب أقوالهم. أى لا تحزن- أيها الرسول الكريم- بسبب أقوالهم الباطلة، فإنا نعلم علما تاما ما يسرونه من حقد عليك، وما يعلنونه من أعمال قبيحة، وسنعاقبهم على كل ذلك العقاب الذي يستحقونه.
فالآية الكريمة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من هؤلاء المشركين.(12/54)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بإقامة الأدلة الساطعة على أن البعث حق، وعلى أن قدرته- تعالى- لا يعجزها شيء، فقال- تعالى-:
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات، أن أبىّ بن خلف جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذريه في الهواء ويقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: نعم. يميتك الله- تعالى- ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» . ونزلت هذه الآيات إلى آخر السورة ...
والمراد بالإنسان: جنسه. ويدخل فيه المنكرون للبعث دخولا أوليا.
وأصل النطفة: الماء القليل الذي يبقى في الدلو أو القربة. وجمعها نطف ونطاف. يقال:
نطفت القربة، إذا تقاطر ماؤها بقلة.
والمراد بها هنا: المنى الذي يخرج من الرجل، إلى رحم المرأة.
والخصيم: الشديد الخصام والجدال لغيره، والمراد به هنا: الكافر والمجادل بالباطل.
والمعنى: أبلغ الجهل بهذا الإنسان، أنه لم يعلم أنا خلقناه بقدرتنا، من ذلك الماء المهين(12/55)
الذي يخرج من الرجل فيصب في رحم المرأة، وأن من أوجده من هذا الماء قادر على أن يعيده إلى الحياة بعد الموت.
لقد كان من الواجب عليه أن يدرك ذلك، ولكنه لغفلته وعناده، بادر بالمبالغة في الخصومة والجدل الباطل. وجاهر بذلك مجاهرة واضحة، مع علمه بأصل خلقته.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث، بعد ما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به ... والهمزة للإنكار والتعجب من أحوالهم، وإيراد الإنسان مورد الضمير، لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان. والمراد بالإنسان الجنس. والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا.
وقوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ عطف على الجملة المنفية، داخل في حيز الإنكار والتعجب كأنه قيل: أو لم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها، فأظهر الخصومة في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة ... » «1» .
وقوله- تعالى-: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ معطوف على الكلام المتقدم، وداخل في حيز الإنكار.
أى: أن هذا الإنسان الجاهل المجادل بالباطل، لم يكتف بذلك، بل ضرب لنا مثلا هو في غاية الغرابة، حيث أنكر قدرتنا على إحياء الموتى، وعلى بعثهم يوم القيامة، فقال: - دون أن يفطن إلى أصل خلقته- من يحيى العظام وهي رميم، أى: وهي بالية أشد البلى. فرميم بزنة فعيل بمعنى فاعل. من رمّ اللازم بمعنى بلى، أو بمعنى مفعول، من رم المتعدى بمعنى أبلى.
يقال: رمه إذا أبلاه. فيستوى فيه المذكر والمؤنث.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم سمى قوله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ مثلا؟
قلت: لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله- تعالى- على إحياء الموتى.. مع أن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله- تعالى- بالقدرة عليه، بدليل النشأة الأولى.. «2» .
ثم لقن الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم الجواب الذي يخرس ألسنة المنكرين للبعث فقال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ...
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 53.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 30.(12/56)
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الجاهلين المنكرين لإعادة الحياة إلى الأجساد بعد موتها، قل لهم: يحيى هذه الأجسام والأجساد البالية، الله- تعالى- الذي أوجدها من العدم دون أن تكون شيئا مذكورا، ومن قدر على إيجاد الشيء من العدم قادر من باب أولى على إعادته بعد هلاكه. وهو- سبحانه- بكل شيء في هذا الوجود عليم علما تاما، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء أكان هذا الشيء صغيرا أم كبيرا، مجموعا أم مفرقا.
قال الشوكانى: وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعى بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة- أى أنها بعد الموت تكون نجسة.
وقال الشافعى: لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ من يحيى أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف. ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر» «1» .
وقوله- تعالى-: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ دليل آخر على إمكانية البعث وهو بدل من قوله- تعالى- قبل ذلك: الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ....
والمراد بالشجر الأخضر: الشجر النّدى الرطب، كشجر المرخ والعفار وهما نباتان أخضران إذا ضرب أحدهما بالآخر اتقدت منهما شرارة نار بقدرة الله- تعالى-.
قال ابن كثير المراد بذلك سرح- أى: شجر المرخ والعفار. ينبت بأرض الحجاز فيأتى من أراد قدح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد سواء سواء.
روى هذا عن ابن عباس- رضى الله عنهما- وفي المثل: «لكل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار» «2» .
أى: لكل شجر حظ من النار، ولكن أكثر الأشجار حظا من النار: المرخ والعفار. فهو مثل يضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المنكرين للبعث، يحيى الأجساد البالية الله- تعالى- الذي أنشأها أول مرة، والذي جعل لكم- بفضله ورحمته وقدرته- من الشجر الأخضر الرطب نارا، فإذا أنتم من هذا الشجر الأخضر توقدون النار. وتنتفعون بها في كثير
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 383.
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 581.(12/57)
من أحوال حياتكم.
وإذا فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر- مع ما فيه من المائية المضادة لها- كان أقدر على إعادة الأجساد بعد فنائها.
ثم أضاف- سبحانه- إلى توبيخهم على جهلهم وكفرهم توبيخا آخر. فقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.
والاستفهام- كسابقه- للإنكار والتعجيب من جهالاتهم، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام والضمير في «مثلهم» يعود إلى المنكرين للبعث.
والمعنى: إن من قدر على خلق السموات والأرض- وهما في غاية العظم- قادر من باب أولى على إعادة خلق البشر، الذي هو صغير الشكل، ضعيف القوة.
وجملة: بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ جواب من جهته- تعالى- وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكارى، من تقرير ما بعد النفي، وتأكيد قدرته- سبحانه- على الخلق والإعادة. لأن «بلى» حرف جواب، يؤتى به لإثبات فعل ورد قبله منفيا.
أى: بلى إنه لقادر- سبحانه- على أن يخلق مثلهم، وعلى أن يعيدهم للحياة مرة أخرى، وهو- سبحانه- «الخلاق» أى: الكثير المخلوقات «العليم» أى: الكثير العلم بحيث لا يخفى عليه شيء.
ثم أكد- سبحانه- شمول قدرته لكل شيء فقال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
أى: إنما شأنه- سبحانه- في إيجاد الشيء، أنه إذا أراد إحداثه، أن يقول له كن، أى: كن موجودا فيكون، أى: فهذا الشيء يكون ويوجد في الحال ... قال الشاعر:
إذا ما أراد الله أمرا فإنما ... يقول له «كن» قولة فيكون
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتنزيهه- تعالى- عن كل نقص، فقال فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أى: فتنزه الله- تعالى- الذي له ملك كل شيء ملكا تاما، والذي إليه المرجع والمآب، عن كل ما يقوله الكافرون من عدم قدرته على إحياء الموتى.
فهو- سبحانه- لا يعجزه شيء، ولا يخفى على علمه شيء، ولا يحول دون قدرته شيء أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.(12/58)
وبعد: فهذا تفسير محرر لسورة «يس» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى.
القاهرة- مدينة نصر: صباح الثلاثاء 5 من ذي القعدة سنة 1405 هـ- الموافق 23/ 7/ 1985 م(12/59)
تفسير سورة الصّافّات(12/61)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة الصافات هي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب المصحف، وكان نزولها كما ذكر صاحب الإتقان- بعد سورة «الأنعام» «1» .
ومعنى ذلك أن نزولها كان في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة، لأننا قد سبق أن قلنا عند تفسيرنا لسورة الأنعام، أنه يغلب على الظن أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة «2» .
2- قال الآلوسى: هي مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا. وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين، ومائة واثنتان وثمانون آية عند غيرهم «3» .
وتعتبر هذه السورة- من حيث عدد الآيات- السورة الثالثة من بين السور المكية، ولا يفوقها في ذلك سوى سورتي الأعراف والشعراء.
3- وسميت بهذا الاسم لافتتاحها بقوله- تعالى-: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. وقد سماها بعض العلماء بسورة «الذبيح» ، وذلك لأن قصة الذبيح لم تأت في سور أخرى سواها.
4- وقد افتتحت سورة «الصافات» بقسم من الله- تعالى- بجماعات من خلقه على أن الألوهية والربوبية الحقة إنما هي لله- تعالى- وحده، ثم أقام- سبحانه- بعد ذلك ألوانا من الأدلة على صدق هذه القضية، منها خلقه للسموات والأرض وما بينهما، ومنها تزيينه لسماء الدنيا بالكواكب.
قال- تعالى-: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ. إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ.
5- ثم حكى- سبحانه- بعض الشبهات التي تذرع بها المشركون في إنكارهم للبعث
__________
(1) راجع الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 27.
(2) راجع مقدمة تفسير سورة الانعام للمؤلف.
(3) تفسير الآلوسى ج 23 ص 64. [.....](12/63)
والحساب، ورد عليها بما يمحقها، فقال- تعالى-: وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ.
6- وبعد أن بين- سبحانه- سوء عاقبة هؤلاء المشركين، وتوبيخ الملائكة لهم، وإقبال بعضهم على بعض للتساؤل والتخاصم.. بعد كل ذلك بين- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين، فقال- تعالى-. وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ.
7- ثم حكى- سبحانه- جانبا من المحاورات التي تدور بين أهل الجنة وأهل النار، وكيف أن أهل الجنة يتوجهون بالحمد والشكر لخالقهم، حيث أنعم عليهم بنعمة الإيمان، ولم يجعلهم من أهل النار الذين يأكلون من شجرة الزقوم.
قال- تعالى-: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ. إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ.
8- ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك جانبا من قصة نوح مع قومه، ومن قصة إبراهيم مع قومه. ومع ابنه إسماعيل- عليهما السلام.
ومن قصة موسى وهارون وإلياس ولوط ويونس- عليهم الصلاة والسلام-.
9- ثم أخذت السورة الكريمة- في أواخرها- في توبيخ المشركين الذين جعلوا بين الله- سبحانه- وبين الملائكة نسبا، ونزه- سبحانه- ذاته عن ذلك. وهدد أولئك الكافرين بأشد ألوان العذاب بسبب كفرهم وأقوالهم الباطلة.
وبين بأن عباده المؤمنين هم المنصورون، وختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله:
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
10- والمتأمل في هذه السورة الكريمة- بعد هذا العرض المجمل لآياتها- يراها بأنها قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى-، وعلى أن البعث حق، وعلى أن الرسول صلّى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه، وذلك لكي تغرس العقيدة السليمة في النفوس.. كما يراها تهتم بحكاية أقوال المشركين وشبهاتهم.. ثم ترد على تلك الأقوال والشبهات بما يزهقها ويبطلها.(12/64)
كما يراها- كذلك- تسوق ألوانا من المحاورات التي تدور بين المشركين فيما بينهم عند ما يحيط بهم العذاب يوم القيامة، وألوانا من المحاورات التي تدور بينهم وبين أهل الجنة الذين نجاهم الله- تعالى- من النار وسعيرها.
كما يراها- أيضا- تسوق لنا نماذج من قصص الأنبياء مع أقوامهم، تارة بشيء من التفصيل كما في قصة إبراهيم مع قومه، وتارة بشيء من التركيز والإجمال كما في بقية قصص الأنبياء الذين ورد الحديث عنهم فيها.
وتمتاز بعرضها للمعاني والأحداث بأسلوب مؤثر. ترى فيه قصر الفواصل وكثرة المشاهد، والمواقف. مما يجعل القارئ لآياتها في شوق إلى ما تسوقه من نتائج.
نسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وأنس نفوسنا.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه القاهرة- مدينة نصر د. محمد سيد طنطاوى مساء الجمعة 8 من ذي القعدة سنة 1405 هـ 26/ 7/ 1985(12/65)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
«تفسير» قال الله- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
والواو في قوله- تعالى-: وَالصَّافَّاتِ للقسم. وجوابه قوله: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ.
و «الصافات» من الصف، وهو أن تجعل الشيء على خط مستقيم. تقول: صففت القوم فاصطفوا، إذا أقمتهم على خط مستقيم. سواء أكانوا في الصلاة، أم في الحرب، أم في غير ذلك.
و «الزاجرات» : من الزجر، وهو الدفع بقوة. تقول: زجرت الإبل زجرا- من باب قتل- إذا منعتها من الدخول في شيء ودفعتها إلى غيره.
و «التاليات» : من التلاوة، بمعنى القراءة في تدبر وتأمل.
وأكثر المفسرين على أن المراد بالصافات والزاجرات والتاليات: جماعة من الملائكة.
موصوفة بهذه الصفات.
فيكون المعنى: وحق الملائكة الذين يصفون أنفسهم صفا لعبادة الله- تعالى- وطاعته، أو الذين يصفون أجنحتهم في السماء انتظارا لأمر الله، والذين يزجرون غيرهم عن ارتكاب المعاصي، أو يزجرون السحاب إلى الجهات التي كلفهم الله- تعالى- بدفعه إليها، والذين يتلون آيات الله المنزلة على أنبيائه تقربا إليه- تعالى- وطاعة له.
وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافون في قوله- تعالى- في السورة نفسها: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.(12/66)
كما جاء وصفهم بذلك فيما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا. وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» «1» .
وفي حديث آخر رواه مسلم وغيره عن جابر بن سمره قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم» ؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال:
«يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف» «2» .
وجاء وصفهم بما يدل على أنهم يلقون الذكر على غيرهم من الأنبياء، لأجل الإعذار والإنذار به. كما في قوله- تعالى- في أوائل المرسلات: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً.
قال الإمام ابن كثير: قوله: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس، وهذه الآية كقوله- تعالى-: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً «3» ومنهم من يرى أن المراد بالصافات والزاجرات والتاليات هنا: العلماء الذين يصفون أقدامهم عند الصلاة وغيرها من الطاعات، ويزجرون غيرهم عن المعاصي، ويتلون كلام الله- تعالى-.
ومنهم من يرى أن المراد بالصافات: الطيور التي تصف أجنحتها في الهواء وبالزاجرات وبالتاليات: جماعات الغزاة في سبيل الله، الذين يزجرون أعداء الله- تعالى-: ويكثرون من ذكره.
ويبدو لنا أن القول الأول هو الأظهر والأرجح، لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي سقناها قبل ذلك تؤيده، ويؤيده- أيضا- ما يجيء بعد ذلك من أوصاف للملائكة كما في قوله- تعالى-: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ والمراد بالملإ الأعلى هنا. الملائكة.
ولأن هذا القول هو المأثور عن جماعة من الصحابة والتابعين، كابن مسعود وابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جبير، وعكرمة ومجاهد.
وإنما أقسم الله- تعالى- هنا بالملائكة، لشرفهم، وسمو منزلتهم وامتثالهم لأوامره-
__________
(1) صحيح مسلم: في كتاب المساجد ج 2 ص 63.
(2) صحيح مسلم كتاب الصلاة ج 2 ص 29.
(3) تفسير ابن كثير ج 7 ص 3.(12/67)
سبحانه- امتثالا تاما وله- تعالى- أن يقسم بما شاء من خلقه، تنويها بشأن المقسم، ولفتا لأنظار الناس إلى ما فيه من منافع.
ولفظ «الصافات» مفعوله محذوف. والتقدير، وحق الملائكة الصافات نفوسها أو أجنحتها طاعة وامتثالا لأمر الله- تعالى-.
والترتيب بالفاء في هذه الصفات، على سبيل الترقي، إذ الأولى كمال، والثانية أكمل، لتعدى منفعتها إلى الغير، والثالثة أكمل وأكمل، لتضمنها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل.
وقوله «صفا، وزجرا، وذكرا» مصادر مؤكدة لما قبلها.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ جواب للقسم، وهو المقسم عليه. أى:
وحق الملائكة الذين تلك صفاتهم، إن ربكم- أيها الناس- لواحد لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولا في خلقه.
وقوله: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ بدل من قوله لَواحِدٌ أو خبر بعد خبر لمبتدأ محذوف.
أى: إن إلهكم- أيها الناس- لواحد: هو- سبحانه- رب السموات والأرض، ورب ما بينهما من مخلوقات كالهواء وغيره، ورب المشارق التي تشرق منها الشمس في كل يوم على مدار العام، إذ لها في كل يوم مشرق معين تشرق منه. ولها في كل يوم- أيضا مغرب تغرب فيه.
واكتفى هنا بذكر المشارق عن المغارب، لأن كل واحد منهما يستلزم الآخر، ولأن الشروق أدل على القدرة، وأبلغ في النعمة، ولأن الشروق سابق على الغروب، وقد قال- تعالى- في آية أخرى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا «1» .
والمراد بهما هنا جنسهما، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون مشرقا- كما يقول العلماء- وعلى كل مغرب من مغاربها التي هي كذلك.
وقال في سورة الرحمن: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أى: مشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما، أو مشرق الشمس والقمر ومغربهما.
وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجيء هذه الألفاظ تارة مفردة، وتارة على سبيل التثنية،
__________
(1) سورة المزمل الآية 9.(12/68)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
وتارة على سبيل الجمع.
قال بعض العلماء: قوله وَرَبُّ الْمَشارِقِ أى: ولكل نجم مشرق، ولكل كوكب مشرق فهي مشارق كثيرة في كل جانب من جوانب السموات الفسيحة.
وللتعبير دلالة أخرى دقيقة في التعبير عن الواقع في هذه الأرض التي نعيش عليها كذلك.
فالأرض في دورتها أمام الشمس تتوالى المشارق على بقاعها المختلفة- كما تتوالى المغارب، فكلما جاء قطاع منها أمام الشمس، كان هناك مشرق على هذا القطاع. وكان هناك مغرب على القطاع المقابل له في الكرة الأرضية.. وهي حقيقة ما كان يعرفها الناس في زمان نزول القرآن الكريم، أخبرهم الله- تعالى- بها في ذلك الزمان القديم.. «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض مظاهر قدرته في خلقه لهذه السموات وكيف أنه- تعالى- قد زين السماء الدنيا بالكواكب. وحفظها من تسلل أى شيطان إليها فقال تعالى:
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
وقوله- تعالى-: زَيَّنَّا من التزيين بمعنى التحسين والتجميل. والمراد بالسماء الدنيا:
السماء التي هي أقرب سماء إلى الأرض. فالدنيا مؤنث أدنى بمعنى أقرب.
والكواكب: جمع كوكب وهو النجم الذي يرى في السماء.
وقوله: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ فيه ثلاث قراءات سبعية، فقد قرأ الجمهور بإضافة زينة إلى الكواكب. أى: بلا تنوين في لفظ «بزينة» . وقرأ بعضهم بتنوين لفظ «زينة» وخفض لفظ الكواكب على أنه بدل منه. وقرأ بعضهم بتنوين لفظ بِزِينَةٍ ونصب لفظ الكواكب، على أنه مفعول لفعل محذوف أى: أعنى الكواكب.
والمعنى: إنا بقدرتنا وفضلنا زينا السماء الدنيا التي ترونها بأعينكم- أيها الناس- بالكواكب، فجعلناها مضيئة بحيث تهتدون بها في سيركم من مكان إلى مكان.
__________
(1) في ظلال القرآن ج 23 ص 46.(12/69)
كما قال- تعالى- في آية أخرى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «1» .
ومما لا شك أن منظر السماء وهي مليئة بالنجوم، يشرح الصدور، ويؤنس النفوس، وخصوصا للسائرين في فجاج الأرض، أو ظلمات البحر.
قوله- سبحانه-: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ بيان لما أحاط به- سبحانه- السماء الدنيا من حفظ ورعاية.
ولفظ «حفظا» منصوب على المصدرية بإضمار فعل قبله. أى وحفظناها حفظا، أو معطوف على محل «بزينة» .
والشيطان: كل متمرد من الجن والإنس والدواب. والمراد به هنا: المتمرد من الجن.
والمارد: الشديد العتو والخروج عن طاعة الله- تعالى- المتعرى من كل خير.
أى: إنا جعلنا السماء الدنيا مزينة بالكواكب وضيائها، وجعلناها كذلك محفوظة من كل شيطان متجرد من الخير، خارج عن طاعتنا ورحمتنا.
وقوله- سبحانه-: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ جملة مستأنفة لبيان حالهم عند حفظ السماء، وبيان كيفية الحفظ، وما يصيبهم من عذاب وهلاك إذا ما حاولوا استراق السمع منها.
ولفظ «يسّمّعون» بتشديد السين- وأصله يتسمعون. فأدغمت التاء في السين والضمير للشياطين، وقرأ الجمهور لا يَسَّمَّعُونَ بإسكان السين.
قال صاحب الكشاف: الضمير في «لا يسمعون» لكل شيطان، لأنه في معنى الشياطين، وقرئ بالتخفيف والتشديد. وأصله «يتسمعون» . والتسمع: تطلب السماع. يقال: تسمع فسمع. أو فلم يسمع.
فإن قلت: أى فرق بين سمعت فلانا يتحدث، وسمعت إليه يتحدث. وسمعت حديثه، وإلى حديثه؟
قلت: المعدى بنفسه يفيد الإدراك، والمعد بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك «2» .
والملأ في الأصل: الجماعة يجتمعون على أمر فيملئون النفوس هيبة، والمراد بالملإ الأعلى هنا: الملائكة الذين يسكنون السماء.
__________
(1) سورة الملك آية 5.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 35.(12/70)
وسموا بذلك لشرفهم، ولأنهم في جهة العلو، بخلاف غيرهم فإنهم يسكنون الأرض.
وقوله: وَيُقْذَفُونَ من القذف بمعنى الرجم والرمي، ودُحُوراً مفعولا لأجله، أى: يقذفون لأجل الدّحور، وهو الطرد والإبعاد، مصدر دحره يدحره دحرا ودحورا: إذا طرده وأبعده.
والواصب: الدائم، من الوصوب بمعنى الدوام، يقال: وصب الشيء يصب وصوبا، إذا دام وثبت، ومنه قوله: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أى: دائما ثابتا.
والمعنى: إنا زينا السماء الدنيا بنور الكواكب، وحفظناها- بقدرتنا ورعايتنا- من كل شيطان متجرد من الخير، فإن هذا الشيطان وأمثاله كلما حاولوا الاستماع إلى الملائكة في السماء، لم نمكنهم من ذلك، بل قذفناهم ورجمناهم بالشهب والنيران من كل جانب من جوانب السماء، من أجل أن ندمرهم ونطردهم ونبعدهم عنها، ولهم منا- فوق كل ذلك- عذاب دائم ثابت لا نهاية له.
وقوله: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من الواو في «يسمعون» و «من» في محل بدل من الواو.
والخطف: الأخذ للشيء بسرعة وخفية واختلاس وغفلة من المأخوذ منه.
أى: لا يسمع الشياطين إلى الملأ الأعلى، إلا الشيطان الذي خطف الخطفة من كلام الملائكة بسرعة وخفة، فيما يتفاوضون فيه من أحوال البشر- دون ما يتعلق بالوحي- فإنه في هذه الحالة يتبع هذا الشيطان ويلحقه شِهابٌ ثاقِبٌ أى: شعلة من النار تثقب الجو بضوئها فتهلكه وتحرقه وتثقبه وتمزقه.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «1» .
ومما يدل على أن استراقهم للسمع، واختطافهم للخطفة، إنما يكون في غير الوحى، قوله- تعالى- إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «2» .
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: كانت للشياطين مقاعد في السماء فكانوا يستمعون الوحى قال: وكانت النجوم لا تجرى، وكانت الشياطين لا ترمى. قال: فإذا سمعوا الوحى نزلوا إلى الأرض، فزادوا في الكلمة تسعا. قال: فلما بعث رسول
__________
(1) سورة الجن الآيتان 8، 9.
(2) سورة الشعراء الآية 212.(12/71)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
الله صلّى الله عليه وسلم جعل الشيطان إذا قعد مقعده، جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه «1» .
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يوبخ المنكرين للبعث والحساب، وحكى جانبا من أقوالهم الباطلة حول هذه القضية، ورد عليهم ردا يزهق باطلهم.. فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 21]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
والفاء في قوله- تعالى-: فَاسْتَفْتِهِمْ.. هي الفصيحة، والاستفتاء: الاستخبار عن الشيء ومعرفة وجه الصواب فيه.
والمراد من الاستفهام في الآية: توبيخ المشركين على إصرارهم على شركهم وجهلهم.
وتعجيب العقلاء من أحوالهم.
واللازب: أى: الملتصق بعضه ببعض. يقال: لزب الشيء يلزب لزبا ولزوبا، إذا تداخل بعضه في بعض، والتصق بعضه ببعض. والطين اللازب: هو الذي يلزق باليد- مثلا- إذا ما التقت به قال النابغة الذبياني:
فلا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب
أى: ضربة ملازمة لا مفارقة لها.
والمعنى: إذا كان الأمر كما أخبرناك أيها الرسول الكريم- من أن كل شيء في هذا
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 5.(12/72)
الكون يشهد بوحدانيتنا وقدرتنا، فاسأل هؤلاء المشركين «أهم أشد خلقا» أى: أهم أقوى خلقة وأمتن بنية، وأضخم أجسادا.. «أم من خلقنا» من ملائكة غلاظ شداد، ومن سماوات طباق، ومن أرض ذات فجاج.
لا شك أنهم لن يجدوا جوابا يردون به عليك، سوى قولهم: إن خلق الملائكة والسموات والأرض. أشد من خلقنا.
وقوله- تعالى- إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ إشارة إلى المادة الأولى التي خلقوا منها في ضمن خلق أبيهم آدم- عليه السلام-.
أى: إنا خلقناهم من طين ملتصق بعضه ببعض، ومتداخل بعضه في بعض.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ساقت دليلين واضحين على صحة البعث الذي أنكره المشركون.
أما الدليل الأول فهو ما يعترفون به من أن خلق السموات والأرض والملائكة.. أعظم وأكبر منهم ... ومن كان قادرا على خلق الأعظم والأكبر كان من باب أولى قادرا على خلق الأقل والأصغر.
وقد ذكر- سبحانه- هذه الحقيقة في آيات كثيرة منها قوله- تعالى- لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «1» .
وأما الدليل الثاني فهو قوله- تعالى-: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ وذلك لأن من خلقهم أولا من طين لازب، قادر على أن يعيدهم مرة أخرى بعد أن يصيروا ترابا وعظاما.
إذ من المعروف لدى كل عاقل أن الإعادة أيسر من الابتداء. وقد قرر- سبحانه- هذه الحقيقة في آيات منها قوله- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» .
ثم بين- سبحانه- أن حال هؤلاء المشركين تدعو إلى العجب فقال: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ.
قال الجمل: وقوله: بَلْ عَجِبْتَ إضراب إما عن مقدر دل عليه قوله:
فَاسْتَفْتِهِمْ أى: هم لا يقرون بل عجبت، وإما عن الأمر بالاستفتاء، أى:
__________
(1) سورة غافر الآية 57.
(2) سورة الروم الآية 27.(12/73)
لا تستفتهم فإنهم معاندون، بل انظر إلى تفاوت حالك وحالهم «1» .
أى: بل عجبت- أيها الرسول الكريم- ومن حقك أن تعجب، من إنكار هؤلاء الجاحدين لإمكانية البعث، مع هذه الأدلة الساطعة التي سقناها لهم على أن البعث حق.
وجملة «يسخرون» حالية. أى: والحال أنهم يسخرون من تعجبك ومن إنكارك عليهم ذلك، ومن إيمانك العميق بهذه الحقيقة، حتى إنك لترددها على مسامعهم صباح مساء.
قال الآلوسى: وقرأ حمزة والكسائي: بَلْ عَجِبْتَ- بضم التاء-.. وأولت هذه القراءة بأن ذلك من باب الفرض، أى: لو كان العجب مما يجوز علىّ لعجبت من هذه الحال.
ثم قال: والذي يقتضيه كلام السلف أن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل للسبب، ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب، وهو في الله- تعالى- بمعنى يليق لذاته- تعالى- وهو- سبحانه- أعلم به، فلا يعينون معناه «2» .
وقوله- تعالى-: وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ بيان لشدة تماديهم في الباطل، وإصرارهم عليه.
أى: أن هؤلاء القوم من دأبهم ومن صفاتهم الملازمة لهم، أنهم إذا وعظوا بما ينفعهم لا يتعظون، وإذا رأوا آية واضحة في دلالتها على الحق يَسْتَسْخِرُونَ أى: يبالغون في السخرية وفي الاستهزاء بها، يقال: استسخر القوم من الشيء، إذا استدعى بعضهم بعضا للاستهزاء به.
ثم بين- سبحانه- أنهم لا يكتفون بالسخرية، بل قالوا أقوالا تدل على جحودهم وجهلهم، فقال- تعالى- وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
أى: وقالوا- على سبيل الجحود والعناد- ما هذا الذي أتانا به محمد- صلى الله عليه وسلم- إلا سحر واضح بين، ولا يشك أحد منا في كونه كذلك.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
أى: أنهم لم يكتفوا بقولهم: إن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم سحر واضح، بل أضافوا إلى ذلك على سبيل المبالغة في الإنكار لما جاءهم به قولهم: أإذا متنا وانتهت حياتنا ووضعنا في قبورنا، وصرنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى؟ وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون أيضا؟.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 532.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 23 ص 77. [.....](12/74)
ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على انطماس بصائرهم، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله- تعالى- التي لا يعجزها شيء. والتي من آثارها إيجادهم من العدم.
ولذا لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلم الجواب الذي يخرس ألسنتهم فقال: قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- ستبعثون أنتم وآباؤكم الأقدمون، وأنتم جميعا داخِرُونَ أى: صاغرون مستسلمون، لا تستطيعون التأخر أو التردد.. يقال: دخر الشخص يدخر- بفتح الخاء- دخورا، إذا ذل وصغر وهان.
ثم بين- سبحانه- أن بعثهم من قبورهم إنما يقع بصيحة واحدة فقال: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ.
والزجرة واحدة من الزجر، يقال: زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها، ومنعها من شيء معين. والضمير راجع إلى البعثة المدلول عليها بسياق الكلام، والفاء: هي الفصيحة.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا. فإنما بعثهم من مرقدهم يكون بصيحة واحدة يصيحها إسرافيل فيهم بأمرنا، فإذا هم قيام من قبورهم ينظرون إلى ما حولهم في ذهول، وينتظرون في استسلام وذلة حكم الله- تعالى- فيهم.
والمراد بهذه الزجرة: النفخة الثانية التي يقوم بها إسرافيل بأمر الله- تعالى- كما قال- تعالى-: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1» .
والتعبير عن الصيحة بالزجرة للدلالة على شدتها وعنفها على هؤلاء المشركين، وأنها قد أتتهم ممن لا يستطيعون معصية أمره.
ثم بين- سبحانه- أحوالهم بعد هذه الزجرة فقال: وَقالُوا يا وَيْلَنا أى: وقالوا بعد أن خرجوا من قبورهم في ذهول: يا وَيْلَنا أى: يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك.
وقوله: هذا يَوْمُ الدِّينِ يصح أن يكون من كلام بعضهم مع بعض بعد أن رأوا أن ما كانوا ينكرونه، قد أصبح حقيقة واقعة أمام أعينهم.
أى: قال بعضهم لبعضهم في ذعر وفزع: يا ويلنا هذا يوم الجزاء على الأعمال. الذي كنا ننكره في الدنيا، قد أصبح حقيقة ماثلة أمام أعيننا.
__________
(1) سورة الزمر الآية 68.(12/75)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
ويصح أن يكون هو وما بعده، وهو قوله- تعالى-: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من كلام الملائكة على سبيل التأنيب لهم.
أى: تقول لهم الملائكة: اطلبوا ما شئتم من الويل والهلاك، فهذا اليوم هو يوم الجزاء على الأعمال، وهو يوم الفصل والقضاء الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، وتستهزءون ممن يأمركم بحسن الاستعداد له، وينذركم بسوء المصير إذا ما سرتم في طريق الكفر به، والإنكار له.
ثم بين- سبحانه- حكمه العادل فيهم، وصور أحوالهم البائسة تصويرا تقشعر من هوله الجلود، وحكى جانبا من حسراتهم خلال تساؤلهم فيما بينهم فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 39]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
وقوله- تعالى-: احْشُرُوا من الحشر بمعنى الجمع مع السوق يقال: حشر القائد جنده حشرا- من باب قتل- إذا جمعهم. والمحشر: المكان الذي يجتمع فيه الخلائق.(12/76)
والمراد بالذين ظلموا: المشركون الذين أشركوا مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة، ومن الآيات التي وردت وأطلق فيها الظلم على الشرك والكفر، قوله- تعالى-: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وقوله- سبحانه- وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك في قوله- تعالى-:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ «1» .
والمراد بأزواجهم: أشباههم، ونظراؤهم وأمثالهم في الشرك والكفر، وهذا التفسير مأثور عن عدد من الصحابة والتابعين، منهم عمر بن الخطاب، والنعمان بن بشير، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة ومجاهد، وأبو العالية.
وقيل المراد بأزواجهم. قرناؤهم من الشياطين، بأن يحشر كل كافر مع شيطانه.
وقيل المراد بهم: نساؤهم اللائي كن على دينهم، بأن كن مشركات في الدنيا كأزواجهن، ويبدو لنا أن جميع من ذكروا محشور. والعياذ بالله. إلى جهنم، إلا أن تفسير الأزواج هنا:
بالأشباه والنظائر والأصناف أولى، خصوصا وأن إطلاق الأزواج على الأصناف والأشباه جاء كثيرا في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله- تعالى-: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ.
والمراد بما كانوا يعبدونه: الآلهة الباطلة التي كانوا في الدنيا يعبدونها من دون الله، كالأصنام والأوثان.
والأمر من الله- تعالى- للملائكة في هذا اليوم الشديد، وهو يوم القيامة.
أى: احشروا واجمعوا الذين كانوا مشركين في الدنيا، واجمعوا معهم كل من كان على شاكلتهم في الكفر والضلال، ثم اجمعوا معهم- أيضا- آلهتهم الباطلة التي عبدوها من دون الله- تعالى- ثم ألقوا بها جميعا في جهنم، ليذوقوا سعيرها وحرها.
وفي حشر الآلهة الباطلة مع عابديها، زيادة تحسير وتخجيل لهؤلاء العابدين لأنهم رأوا بأعينهم بطلان وخسران ما كانوا يفعلونه في الدنيا.
والضمير في قوله: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ يعود إلى المشركين وأشباههم وآلهتهم. وقوله: فَاهْدُوهُمْ من الهداية بمعنى الدلالة على الشيء والإرشاد إليه.
أى: احشروهم جميعا إلى جهنم، وعرفوهم طريقها إن كانوا لا يعرفونه، وأروهم إياه إن كانوا لا يرونه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82.(12/77)
والتعبير بالهداية والصراط فيه ما فيه من التهكم بهم، والتأنيب لهم فكأنه- سبحانه- يقول: بما أنهم لم يهتدوا في الدنيا إلى الخير وإلى الحق، وإلى الصراط المستقيم، فليهتدوا في الآخرة إلى صراط الجحيم.
وقوله- سبحانه- وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ زيادة في توبيخهم وإذلالهم، والوقف هنا: بمعنى الحبس.
قال القرطبي: يقال: وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا.. أى: احبسوهم، وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم، وفيه تقديم وتأخير أى: قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار.. «1» أى: واحبسوهم في موقف الحساب، لأنهم مسئولون عما كانوا يقترفونه في الدنيا من عقائد زائفة، وأفعال منكرة، وأقوال باطلة.
ولا تعارض بين هذه الآية وأمثالها من الآيات التي صرحت بأن المجرمين يسألون يوم القيامة، وبين آيات أخرى صرحت بأنهم لا يسألون كما في قوله- تعالى-: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ.
أقول لا تعارض بين هذه الآيات، لأن في يوم القيامة مواقف متعددة، فقد يسألون في موقف ولا يسألون في آخر.. أو أن السؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع والسؤال المنفي هو سؤال الاستعلام والاستخبار.
قوله- تعالى-: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ تقريع آخر لهم، أى: ما الذي جعلكم في هذا اليوم عاجزين عن التناصر فيما بينكم- أيها الكافرون- مع أنكم في الدنيا كنتم تزعمون أنكم جميع منتصر؟
ثم أضرب- سبحانه- عما تقدم إلى بيان حالهم يوم القيامة فقال: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ.
والاستسلام: أصله طلب السلامة، والمراد به هنا: الانقياد التام، والخضوع المطلق.
يقال: استسلم العدو لعدوه، إذا انقاد له وخضع لأمره.
أى: ليسوا في هذا اليوم بقادرين على التناصر، بل هم اليوم خاضعون ومستسلمون، لعجزهم عن أى حيلة تنقذهم مما هم فيه من بلاء.
ثم يحكى- سبحانه- ما يدور بينهم من مجادلات يوم القيامة فيقول: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 74.(12/78)
ويبدو أن التساؤل والتجادل هنا، يكون بين الأتباع والمتبوعين، أو بين العامة والزعماء.
كما تدل عليه آيات منها قوله- تعالى-: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما قاله الضعفاء للزعماء فقال: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ وللمفسرين في تأويل معنى اليمين هنا اتجاهات منها:
أن المراد باليمين هنا: الجهة التي هي جهة الخير واليمن: أى: قال الضعفاء للرؤساء:
إنكم كنتم في الدنيا توهموننا وتخدعوننا بالبقاء على ما نحن عليه من عبادة الأصنام والأوثان، لأن بقاءنا على ذلك فيه الخير واليمن والسلامة. فأين مصداق ما قلتموه لنا وقد نزل بنا ما نزل من أهوال وآلام؟
فالمقصود بالآية الكريمة بيان ما يقوله الأتباع للمتبوعين على سبيل الحسرة والندامة، لأنهم خدعوا بوسوستهم، وأصيبوا بالخيبة بسبب اتباعهم لهم.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما، وكانوا يتيمنون بها، فبها يصافحون، ويماسحون، ويناولون ويتناولون، ويزاولون أكثر الأمور.
لما كانت كذلك استعيرت لجهة الخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين، أى من الخير وناحيته.. «2» .
ومنهم من يرى أن المراد باليمين هنا: اليمين الشرعية التي هي القسم، وعن بمعنى الباء.
أى: قالوا لهم: إنكم كنتم في الدنيا تأتوننا بالأيمان المغلظة على أننا وأنتم على الحق فصدقناكم، فأين نحن وأنتم الآن من هذه الأيمان المغلظة؟ لقد ظهر كذبها وبطلانها، وأنتم اليوم مسئولون عما نحن فيه من كرب.
ومنهم من يرى أن المراد باليمين هنا: القوة والغلبة. أى: أنكم كنتم في الدنيا تجبروننا وتقسروننا على اتباعكم لأننا كنا ضعفاء وكنتم أقوياء.
والذي نراه أن الآية الكريمة تسع كل هذه الأقوال، لأن الرؤساء أوهموا الضعفاء بأنهم على
__________
(1) سورة سبأ الآية 31.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 39.(12/79)
الحق، وأقسموا لهم على ذلك، وهددوهم بالقتل أو الطرد إن هم اتبعوا ما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم.
ومقصود الضعفاء من هذا القول، إلقاء المسئولية كاملة على الرؤساء، توهما منهم أن هذا الإلقاء سيخفف عنهم شيئا من العذاب.
ثم يحكى القرآن بعد ذلك: أن الرؤساء قد ردوا عليهم بخمسة أجوبة.
أولها: قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أى: قال الرؤساء للأتباع: نحن لم نتسبب في كفركم في الدنيا، بل أنتم الذين أبيتم الإيمان باختياركم، وآثرتم عليه الكفر باختياركم- أيضا- فكفركم نابع من ذواتكم، وليس من شيء خارج عنكم، ولم يدخل الإيمان قلوبكم في وقت من الأوقات.
فالجملة الكريمة إضراب إبطالى من المتبوعين، عما ادعاه التابعون.
وثانيها: يتجلى في قوله- تعالى-: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أى: وما كان لنا عليكم من قوة أو غلبة تجبركم على البقاء في الكفر والضلال، ولكنكم أنتم الذين رضيتم بالكفر عن اختيار واقتناع منكم به.
وثالثها قوله- تعالى-: بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أى: نحن لم يكن لنا سلطان عليكم، بل أنتم الذين كنتم في الدنيا قوما طاغين وضالين مثلنا. والطغيان مجاوزة الحد في كل شيء.
ورابعها: نراه في قوله- سبحانه-: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ والفاء للتفريع على ما تقدم، من كون الرؤساء لم يجبروا الضعفاء على البقاء في الكفر. أى: نحن وأنتم لم تكونوا مؤمنين أصلا. فكانت نتيجتنا جميعا، أن استحققنا العذاب، وأن لزمنا ما توعدنا به خالقنا من ذوق العذاب، جزاء كفرنا وشركنا به- تعالى-.
وخامس هذه الأجوبة: بينه- سبحانه- في قوله- حكاية عنهم-: فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ.
أى: فدعوناكم للغواية والضلالة دعوة غير ملجئة، فاستجبتم لنا باختياركم الغي على الرشد إِنَّا كُنَّا غاوِينَ مثلكم، فلا تلومونا ولوموا أنفسكم فنحن ما أجبرناكم على اتباعنا ولكن أنتم الذين اتبعتمونا باختياركم.
وهكذا رد الرؤساء على الضعفاء فيما اتهموهم به من أنهم السبب فيما حل بهم من عذاب أليم يوم القيامة.(12/80)
وهنا يبين- سبحانه- حكمه العادل في الجميع، في الرؤساء والأتباع فيقول فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ.
أى: كما كانوا متشاركين في الدنيا في الغواية والضلالة، فإنهم في الآخرة مشتركون جميعا في حلول العذاب بهم، وذوقهم لآلامه وسعيره.
فالضمير في قوله فَإِنَّهُمْ يعود للتابعين والمتبوعين، لأنهم جميعا مستحقون للعذاب.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت بالكافرين جميعا إلى هذا المصير السيئ فقال:
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أى: مثل هذا العذاب الأليم نفعل بالمجرمين، لأنهم أشركوا معنا غيرنا في العبادة، وآذوا رسلنا الذين جاءوا لهدايتهم وإرشادهم.
إِنَّهُمْ كانُوا في الدنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ على سبيل النصيحة والدعوة إلى الحق لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول هذه النصيحة، ويعرضون عنها، ويصرون على كفرهم وجحودهم للحق، ويستكبرون عن النطق بكلمة الإيمان.
وَيَقُولُونَ لمن نصحهم: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ.
أى: ويقولون باستهزاء وغرور لمن دعاهم إلى الإيمان وإلى قول لا إله إلا الله، يقولون له أتدعونا إلى أن نترك ما عليه آباؤنا وأجدادنا من عقائد وأفعال، وإلى أن نتبع ما جاءنا به هذا الشاعر المجنون.
ويعنون بالشاعر المجنون- قبحهم الله- رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي أرسله الله- تعالى- لهدايتهم.
ولذا رد الله- تعالى- عليهم بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ.
أى: ليس الرسول صلّى الله عليه وسلم شاعرا أو مجنونا، كما زعمتم- أيها الجاهلون-، بل هو رسول صادق فيما يبلغه عن ربه، وقد جاءكم بالحق وهو دين التوحيد الذي دعا إليه جميع الرسل، فكان مصدقا لهم في الدعوة إليه. فكيف تزعمون أنه شاعر مجنون؟
إِنَّكُمْ.. أيها المشركون بسبب هذه المزاعم لَذائِقُوا في هذا اليوم الْعَذابِ الْأَلِيمِ الذي يذلكم ويخزيكم ويجعلكم في حزن دائم.
وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى: وما نجازيكم بهذا الجزاء الموجع المؤلم. إلا بسبب أعمالكم القبيحة في الدنيا.
وهكذا نجد الآيات الكريمة قد بينت لنا بأسلوب مؤثر بديع، سوء عاقبة الكافرين، بسبب(12/81)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
إعراضهم عن الحق. واستكبارهم عن الدخول فيه، ووصفهم للرسول صلّى الله عليه وسلم بما هو برىء منه.
وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين مصير الأشرار ومصير الأخيار- ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة- أتبع- سبحانه- الحديث عن سوء عاقبة الكافرين- بالحديث عن حسن عاقبة المؤمنين، فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 49]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من ضمير «ذائقو» وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق. ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا. فإلا مؤولة بلكن.
فالمعنى: إنكم- أيها المشركون- لذائقو العذاب الأليم، لكن عباد الله المخلصين- ليسوا كذلك- أولئك لهم رزق معلوم.. «1» .
ولفظ الْمُخْلَصِينَ قرأه بعض القراء السبعة- بفتح اللام-، أى: لكن عباد الله- تعالى- الذين أخلصهم الله- تعالى- لطاعته وتوحيده ليسوا كذلك.
وقرأه البعض الآخر بكسر اللام. أى: لكن عباد الله الذين أخلصوا له العبادة والطاعة، لا يذوقون حر النار كالمشركين.
واسم الإشارة في قوله: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ يعود إلى هؤلاء العباد المخلصين.
أى: أولئك العباد المتصفون بتلك الصفة الكريمة وهي الإخلاص، لهم رزق عظيم معلوم في وقته، كما قال- تعالى-: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا. ومعلوم في خصائصه الكريمة
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 85.(12/82)
وصفاته الحسنة ككونه لذيذ الطعم، حسن المنظر، غير مقطوع ولا ممنوع إلى غير ذلك من الصفات التي تجعله محل الرغبة والاشتهاء.
وقوله- تعالى-: فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ بدل مما قبله، أو خبر لمبتدأ محذوف، أى هذا الرزق المعلوم، هو فواكه.
والمراد بهذه الفواكه: ما يأكله الآكل على سبيل التلذذ والتفكه، وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم والخبز، لأنهم في الجنة في غنى عن القوت الذي يحفظون به حياتهم. وخصت الفاكهة بالذكر لأنها أطيب ما يأكله الآكلون.
وفضلا عن كل ذلك فهم فيها منعمون مكرمون، لا يحتاجون إلى شيء إلا ويجدونه بين أيديهم، بفضل الله- تعالى- ورحمته.
ثم بين- سبحانه- مكانهم وهيئتهم فقال: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.
أى: هم في جنات ليس فيها إلا النعيم الدائم، وهم في الوقت نفسه يجلسون على سرر متقابلين، بأن تكون وجوههم متقابلة لا متدابرة، فإن من شأن المتصافين أن يجلسوا متقابلين.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ والكأس. هو الإناء الذي فيه شراب، فإن لم يكن فيه شراب فهو قدح، وقد يسمى الشراب ذاته كأسا، فيقال: شربت كأسا، وذلك من باب تسمية الشيء باسم محله.
و «معين» اسم فاعل من معن وهو صفة لكأس مأخوذ من عان الماء إذا نبع وظهر على الأرض. أى: يطاف على هؤلاء العباد المخلصين وهم في الجنة، بكأس ملئ بخمر لذة للشاربين، نابعة من العيون، وظاهرة للأبصار، تجرى في أنهار الجنة كما تجرى المياه في الأنهار.
فالتعبير بقوله- تعالى- بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ يشعر بكثرتها، وقربها ممن يريدها.
وقوله- تعالى-: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ صفتان للكأس باعتبار ما فيه.
أى هذه الخمر التي يطاف بها عليهم، بيضاء اللون، لذيذة الطعم والرائحة عند الشاربين.
لا فِيها غَوْلٌ أى: أذى أو مضرة، والغول. إهلاك الشيء- على غرة وغفلة.
يقال: غاله يغوله غولا، واغتاله اغتيالا، إذا قضى عليه بغتة، وأخذه من حيث لا يشعر.
أى: أن خمر الآخرة ليس فيها ما يضر أو يؤذى، كما هو الحال بالنسبة لخمر الدنيا.(12/83)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ وعن هنا للسببية، فهي بمعنى الباء، أى: ولا هم بسبب شربها تذهب عقولهم، وتختل أفكارهم، كما هو الحال في خمر الدنيا.
وأصل النّزف: نزع الشيء من مكانه وإذهابه بالتدريج، يقال: نزف فلان ماء البئر ينزفه- من باب ضرب- إذا نزحه شيئا فشيئا إلى نهايته، ويقال: نزف الرجل- كعنى- إذا سكر حتى اختل عقله، وخصت هذه المفسدة بالذكر مع عموم ما قبلها، لكونها من أعظم مفاسد الخمر.
وقوله- تعالى-: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ بيان لمتعة أخرى من المتع التي أحلها الله- تعالى- لهم.
وقاصرات: من القصر بمعنى الحبس، وعين، جمع عيناء، وهي المرأة الواسعة العين في جمال. أى وفضلا عن ذلك، فقد متعنا هؤلاء العباد بمتع أخرى. وهي أننا جعلنا عندهم للمؤانسة نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمدونها إلى غيرهم، لشدة محبتهن لهم، ومن صفات هؤلاء النساء- أيضا أنهن جميلات العيون.
كَأَنَّهُنَّ أى: هؤلاء النسوة بَيْضٌ مَكْنُونٌ، أى: كأنهن كبيض النعام. الذي أخفاه الريش في العش، فلم تمسه الأيدى، ولم يصبه الغبار، في صفاء البشرة، ونقاء الجسد.
وشبههن ببيض النعام، لأن لونه مع بياضه وصفائه يخالطه شيء من الصفرة وهو لون محبوب في النساء عند العرب ولذا قالوا في النساء الجميلات: بيضات الخدور.
وإلى هنا تجد الآيات الكريمة قد بشرت عباد الله المخلصين. بالعطاء المتنوع الجزيل، الذي تنشرح له الصدور، وتقر به العيون، وتبتهج له النفوس.
ثم حكى- سبحانه- بعض المحاورات التي تدور بين عباده المخلصين، بعد أن رأوا ما أعده- سبحانه- لهم من نعيم مقيم.. فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)(12/84)
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: علام عطف قوله: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ؟
قلت هو معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ والمعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشاربين.
قال الشاعر:
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام
فيقبل بعضهم على بعض يَتَساءَلُونَ عما جرى لهم وعليهم في الدنيا. إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره «1» .
أى: أن هؤلاء العباد المخلصين، بعد أن أعطاهم الله ما أعطاهم من النعم، أقبل بعضهم على بعض يَتَساءَلُونَ فيما بينهم عن ذكرياتهم، وإذا بواحد منهم يقول لإخوانه- من باب التحدث بنعمة الله:
إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أى: إنى في الدنيا كان لي صديق ملازم لي، ينهاني عن الإيمان- بالبعث والحساب، ويقول لي- بأسلوب التهكم والاستهزاء:
أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أى: أإنك- أيها الرجل- لمن المصدقين بأن هناك بعثا وحسابا، وثوابا وعقابا، وجنة ونارا.
ثم يضيف إلى ذلك قوله: أَإِذا مِتْنا وانتهت حياتنا في هذه الدنيا، ووضعنا في قبورنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أى: وصارت أجسادنا مثل التراب ومثل العظام البالية. أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أى: أإنا بعد كل ذلك لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى، ومجزيون بأعمالنا. فقوله- تعالى-: لَمَدِينُونَ من الدين بمعنى الجزاء، ومنه قوله- تعالى-: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والاستفهام: للاستبعاد والإنكار من ذلك القرين للبعث والحساب.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 44.(12/85)
وهنا يعرض هذا المؤمن على إخوانه، أن يشاركوه في الاطلاع على مصير هذا القرين الكافر بالبعث فيقول لهم: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أى: هل أنتم مطلعون معى على أهل النار لنرى جميعا حال ذلك القرين الذي حكيت لكم حاله؟ والاستفهام للتخصيص، أى: هيا صاحبونى في الاطلاع على هذا القرين الكافر.
فَاطَّلَعَ ذلك الرجل المؤمن ومعه إخوانه على أهل النار. فرآه في سواء الجحيم، أى: فرأى ذلك الرجل الذي كان قرينه وصاحبه الملازم له في الدنيا، ملقى به في «سواء الجحيم» أى: في وسط النار، وسمى الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى باقى الجوانب.
قال الآلوسى: واطلاع أهل الجنة على أهل النار، ومعرفة من فيها، مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله- تعالى- فيهم حدة النظر، ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه.
ولعلهم- إن أرادوا ذلك- وقفوا على الأعراف. فاطلعوا على من أرادوا الاطلاع عليه من أهل النار. وقبل: إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار، وعلم القائل بأن القرين من أهل النار، لأنه كان منكرا للبعث «1» .
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما قاله ذلك الرجل المؤمن لقرينه في الدنيا بعد أن رآه في وسط الجحيم فيقول. قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ.
وقوله: تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجب، وإِنْ مخففة من الثقيلة. واللام في قوله: لَتُرْدِينِ هي الفارقة بين إن المخففة والنافية، والجملة جواب القسم، وتردين:
أى تهلكني يقال: أردى فلان فلانا إذا أهلكه. وردى فلان- من باب رضى- إذا هلك.
والْمُحْضَرِينَ من الإحضار، يقال: أحضر المجرم ليلقى جزاءه، وهذا اللفظ يستعمل عند الإطلاق في الشر، إذ يدل على السوق مع الإكراه والقسر.
أى: قال الرجل المؤمن لقرينه الملقى في وسط جهنم. وحق الله- تعالى- لقد كدت أيها القرين أن تهلكني بصدك إياى عن الإيمان بالبعث والحساب ولولا نعمة ربي علىّ، حيث عصمنى من طاعتك، ووفقني للإيمان ... لكنت اليوم من الذين أحضروا للعذاب مثلك ومثل أشباهك، ولساقنى ملائكة العذاب إلى هذا المصير الأليم الذي أنت فيه اليوم، فحمدا لله- تعالى- على الإيمان والهداية.
وقوله- تعالى-: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ بيان لما
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 92.(12/86)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
يقوله هذا الرجل المؤمن لأصحابه الذين معه في الجنة، وبعد أن انتهى من كلامه مع قرينه.
وهذا الكلام يقوله على سبيل التلذذ والتحدث بنعمة الله عليهم.
والاستفهام للتقرير، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام، والمعطوف عليه محذوف.
والمعنى: أنحن مخلدون في هذا النعيم، ولن يلحقنا موت مرة أخرى بعد موتتنا الأولى التي لحقتنا في الدنيا، ولن يصيبنا شيء من العذاب كما أصاب غيرنا؟
إننا لنشعر جميعا بأننا لن نموت مرة أخرى، وسنبقى في هذا النعيم الدائم بفضل الله ورحمته.
وبعضهم يرى أن هذا السؤال من أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت.
قال القرطبي: قوله: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى: هو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت، ويقال: «يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت» «1» .
والإشارة في قوله- تعالى-: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لما سبق الإخبار به من نفى الموت والعذاب عن أهل الجنة. وهذا القول- أيضا- حكاية لما يقوله ذلك المؤمن لمن معه في الجنة، أى: إن هذا النعيم الدائم الذي نحن فيه- يا أهل الجنة- لهو الفوز العظيم، الذي لا يدانيه فوز، ولا يقاربه فلاح.
ثم يقول لهم- أيضا-: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أى: لمثل هذا العطاء الجزيل، والنعيم المقيم، فليعمل العاملون، لا لغير ذلك من الأعمال الدنيوية الزائلة الفانية.
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على البون الشاسع. بين النعيم المقيم الذي يعيش فيه عباد الله المخلصون. وبين الشقاء الدائم الذي يعيش فيه الكافرون، فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 84.(12/87)
واسم الإشارة «ذلك» في قوله- تعالى-: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ يعود إلى نعيم الجنة الذي سبق الحديث عنه، والذي يشمل الرزق المعلوم وما عطف عليه.
والاستفهام للتوبيخ والتأنيب. والنزل: ما يقدم للضيف وغيره من طعام ومكان ينزل به.
و «ذلك» مبتدأ، و «خير» خبره، و «نزلا» : تمييز لخير، والخيرية بالنسبة لما اختاره الكفار على غيره. والجملة مقول لقول محذوف.
وشجرة الزقوم هي شجرة لا وجود لها في الدنيا، وإنما يخلقها الله- تعالى- في النار، كما يخلق غيرها من أصناف العذاب كالحيات والعقارب.
وقيل: هي شجرة سامة متى مست جسد أحد تورم ومات، وتوجد في الأراضي المجدية المجاورة للصحراء.
والزقوم: من التزقم، وهو ابتلاع الشيء الكريه، بمشقة شديدة.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الكافرين أذلك النعيم الدائم الذي ينزل به المؤمنون في الجنة خير، أم شجرة الزقوم التي يتبلغ بها الكافرون وهم في النار، فلا يجدون من ورائها إلا الغم والكرب لمرارة طعمها، وقبح رائحتها وهيئتها.
ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى بهم إلى نعيم الجنة وهو الإيمان والعمل الصالح، واختار الكافرون ما أدى بهم إلى النار وبئس القرار، قيل لهم ذلك على سبيل التوبيخ والتقريع، لسوء اختيارهم.
ثم بين- سبحانه- شيئا عن هذه الشجرة فقال: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أى:
إنا جعلنا هذه الشجرة محنة وابتلاء وامتحانا لهؤلاء الكافرين الظالمين، لأنهم لما أخبرهم(12/88)
رسولنا صلّى الله عليه وسلم بوجود هذه الشجرة في النار. كذبوه واستهزءوا به، فحق عليهم عذابنا بسبب هذا التكذيب والاستهزاء.
قال القرطبي ما ملخصه قوله- تعالى- إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أى، المشركين. وذلك أنهم قالوا. كيف تكون في النار شجرة، مع أن النار تحرق الشجر..؟
وكان هذا القول جهلا منهم، إذ لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيات والعقارب.. «1» .
ثم بين- سبحانه- أصل هذه الشجرة ومنبتها فقال: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أى: منبتها وأصلها يخرج من أسفل الجحيم، أما أغصانها وفروعها فترتفع إلى دركاتها.
ثم بين- سبحانه- ثمرها فقال: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أى: ثمرها الذي يخرج منها، وحملها الذي يتولد عنها، يشبه في تناهى قبحه وكراهيته، رؤوس الشياطين التي هي أقبح ما يتصوره العقل، وأبغض شيء يرد على الخاطر.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: شبه حمل شجرة الزقوم برءوس الشياطين، للدلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر، لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخالطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، أو كأنه رأس شيطان، وإذا صوره المصورون صوروه على أقبح صورة.
كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه، فشبهوا به الصورة الحسنة، قال الله- تعالى-: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. وهذا تشبيه تخييلى.
وقيل: الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر.. فجاء التشبيه بها.. «2» .
وقوله- تعالى-: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ تفريع على ما تقدم من كونها فتنة لهم.
أى: هذا هو حال تلك الشجرة، وهذا هو أصلها وثمرها، وإن هؤلاء الكفار الذين يستهزئون بمن يحدثهم عنها لآكلون من ثمارها حتى تمتلئ بطونهم، رغما عنهم، وإذلالا لهم.
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أى: على ما يأكلونه منها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أى: لشرابا مخلوطا بماء شديد الحرارة يقطع الأحشاء، كما قال- تعالى-: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 86.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 46.(12/89)
فالشوب: الخلط يقال: شاب فلان طعامه، إذا خلطه بغيره.
والحميم: الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة. فطعامهم- والعياذ بالله- قد اجتمع فيه مرارة الزقوم وحرارة الماء وهذا أشنع ما يكون عليه الطعام.
ثم بين- سبحانه- مصيرهم الدائم فقال. ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أى: ثم إن مرجعهم ومصيرهم ومقرهم الدائم بعد كل ذلك لإلى دركات الجحيم لا إلى غيرها.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال- تعالى-: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ: فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ.
وقوله: أَلْفَوْا من الإلف للشيء بمعنى التعود عليه بعد وجوده وحصوله.
وقوله: يُهْرَعُونَ من الإهراع بمعنى الإسراع الشديد، أو الإسراع الذي تصحبه رعدة وفزع، يقال: هرع وأهرع- بالبناء للمجهول فيهما- إذا استحث وأزعج، ويقال:
فلان يهرع- بضم الياء- إذا جاء مسرعا في غضب أو ضعف أو خوف.
أى: إن ما أصاب هؤلاء الكافرين من عذاب أليم، سببه أنهم وجدوا آباءهم مقيمين على الضلال، فاقتدوا بهم اقتداء أعمى، وساروا خلفهم وعلى آثارهم بسرعة وبغير تدبر أو تعقل، كما يسير الأعمى خلف من يذهب به إلى طريق هلاكه.
فالآيتان الكريمتان توبيخ شديد لهؤلاء الكافرين، لأنهم لم يكتفوا بتقليد آبائهم في الضلال، بل أسرعوا إلى ذلك إسراعا لا تمهل معه ولا تدبر.
ثم بين- سبحانه- أحوال السابقين عليهم فقال: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ.
أى: ولقد ضل قبل هؤلاء الظالمين من قومك- أيها الرسول الكريم- أكثر الأقوام السابقين الذين أرسلنا إليهم رسلنا لهدايتهم.
وفي التعبير بقوله: أَكْثَرُ إنصاف ومدح للقلة المؤمنة التي اتبعت الحق.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أى: ولقد أرسلنا في هؤلاء الأقوام السابقين أنبياء كثيرين ينذرونهم ويخوفونهم من عاقبة الكفر والشرك، ولكن أكثر هؤلاء الأقوام لم يستجيبوا للحق.
فَانْظُرْ- أيها الرسول الكريم- كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أى: فانظر وتأمل كيف كانت عاقبة هؤلاء الذين أنذروا فلم يستجيبوا للحق، لقد كانت عاقبتهم أن دمرناهم تدميرا إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أى: دمرنا هؤلاء الأقوام إلا عبادنا الذين أخلصوا لنا العبادة والطاعة فقد أنجيناهم بفضلنا ورحمتنا.
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك قصص بعض الأنبياء السابقين مع أقوامهم لتثبيت فؤاد(12/90)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
النبي صلّى الله عليه وسلم وتسليته عما أصابه من قومه، وابتدأ تلك القصص ببيان جانب من قصة نوح- عليه السلام- مع قومه فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
وقصة نوح- عليه السلام- قد وردت في القرآن الكريم في سور متعددة منها: سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة نوح، وسورة المؤمنون.
وهنا يحدثنا القرآن عن جانب من النعم التي أنعم بها الله- تعالى- على نبيه نوح- عليه السلام- حيث أجاب له دعاءه، ونجاه وأهله من الكرب العظيم وأهلك أعداءه المكذبين.
واللام في قوله: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ ... واقعة في جواب قسم محذوف والمراد بالنداء الدعاء الذي تضرع به نوح- عليه السلام- وطلب منا أن ننصره على قومه الكافرين فاستجبنا له أحسن إجابة، ونعم المجيبون نحن، فقد أهلكنا أعداءه بالطوفان.
أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: كان النبي- صلّى الله عليه وسلم- إذا صلّى في بيتي فمر بهذه الآية، قال: «صدقت ربنا، أنت أقرب من دعى، وأقرب من بغى- أى طلب لإجابة الدعاء- فنعم المدعو أنت، ونعم المعطى أنت. ونعم المسئول أنت ربنا ونعم النصير» «1» .
والمراد بأهله في قوله- تعالى-: وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الذين آمنوا معه.
أى: ونجيناه وأهله الذين آمنوا معه- بفضلنا وإحساننا- من الكرب العظيم، الذي حل بأعدائه الكافرين، حيث أغرقناهم أجمعين.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 98.(12/91)
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أى: وجعلنا ذريته من بعده هم الذين بقوا وبقي نسلهم من بعدهم، وذلك لأن الله- تعالى- أهلك جميع الكافرين من قومه، أما من كان معه من المؤمنين من غير ذريته، فقد قيل إنهم ماتوا، ولم يبق سوى أولاده.
قال ابن كثير: قوله- تعالى-: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ: قال ابن عباس: لم تبق إلا ذرية نوح.
وقال قتادة: الناس كلهم من ذرية نوح.
وروى الترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم عن سمرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله:
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال: «هم سام، وحام، ويافث» .
وروى الإمام أحمد- بسنده- عن سمرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم» «1» .
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أى: وأبقينا عليه في الأمم التي ستأتى من بعده إلى يوم القيامة، الذكر الحسن، والكلمة الطيبة ألا وهي قولهم: سلام على نوح في العالمين، أى: تحية وأمان وثناء جميل على نوح في العالمين.
وقوله: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لما منحه- سبحانه- لعبده نوح من نعم وفضل وإجابة دعاء.
أى: مثل ذلك الجزاء الكريم الذي جازينا به نوحا- عليه السلام- نجازي كل من كان محسنا في أقواله وأفعاله. وإن عبدنا نوحا قد كان من عبادنا الذين بلغوا درجة الكمال في إيمانهم وإحسانهم.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أى من الأمم هذه الكلمة، وهي: «سلام على نوح» يعنى: يسلمون عليه تسليما ويدعون له. فإن قلت: فما معنى قوله: فِي الْعالَمِينَ.
قلت: معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا، وأن لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل: ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، يسلمون عليه عن آخرهم.
علل- سبحانه- مجازاة نوح بتلك التكرمة السنية، من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر، بأنه كان محسنا، ثم علل كونه محسنا، بأنه كان عبدا مؤمنا، ليريك جلالة
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 19.(12/92)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله وفي الازدياد منه «1» .
ثم ختم- سبحانه- القصة بقوله: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أى: لقد أضفنا إلى تلك النعم التي أعطيناها لنبينا نوح- عليه السلام- أننا أغرقنا أعداءه الذين آذوه، وأعرضوا عن دعوته.
وتلك سنتنا لا تتخلف، أننا ننجي المؤمنين، ونهلك الكافرين.
وجاءت بعد قصة نوح- عليه السلام- قصة إبراهيم- عليه السلام- وقد حكى الله- تعالى- ما دار بين إبراهيم وبين قومه، كما حكى بعض النعم التي أنعمها- سبحانه- عليه، بسبب إيمانه وإحسانه، فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 113]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 19. [.....](12/93)
والضمير في قوله: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ يعود على نوح- عليه السلام- وشيعة الرجل: أعوانه وأنصاره وأتباعه، وكل جماعة اجتمعوا على أمر واحد أو رأى واحد فهم شيعة، والجمع شيع مثل سدرة وسدر.
قال القرطبي: الشيعة: الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد. «1» .
والمعنى: وإن من شيعة نوح لإبراهيم- عليهما السلام- لأنه تابعه في الدعوة إلى الدين الحق، وفي الصبر على الأذى من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة شريعته.. وهكذا جميع الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- اللاحق منهم يؤيد السابق، ويناصره في دعوته التي جاء بها من عند ربه، وإن اختلفت شرائعهم في التفاصيل والجزئيات، فهي متحدة في الأصول والأركان.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 91.(12/94)
وكان بين نوح وإبراهيم، نبيان كريمان هما: هود، وصالح- عليهما السلام- والظرف في قوله- تعالى-: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ متعلق بمحذوف تقديره: اذكر أى: اذكر- أيها العاقل لتعتبر وتتعظ- وقت أن جاء إبراهيم إلى ربه بقلب سليم من الشرك ومن غيره من الآفات كالحسد والغل والخديعة والرياء.
والمراد بمجيئه ربه بقلبه: إخلاص قلبه لدعوة الحق، واستعداده لبذل نفسه وكل شيء يملكه في سبيل رضا ربه- عز وجل-.
فهذا التعبير يفيد الاستسلام المطلق لربه والسعى الحثيث في كل ما يرضيه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه أنه أخلص لله قلبه، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلا لذلك «1» .
وقوله: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ شروع في حكاية ما دار بينه وبين أبيه وقومه. والجملة بدل من الجملة السابقة عليها، أو هي ظرف لقوله سَلِيمٍ أى: لقد كان إبراهيم- عليه السلام- سليم القلب، نقى السريرة، صادق الإيمان، وقت أن جادل أباه وقومه قائلا لهم: أى شيء هذا الذي تعبدونه من دون الله- تعالى- ثم أضاف إلى هذا التوبيخ لهم توبيخا آخر فقال لهم: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟. والإفك أسوأ الكذب. يقال أفك فلان يأفك إفكا فهو أفوك.. إذا اشتد كذبه. وهو مفعول به لقوله تُرِيدُونَ وقوله آلِهَةً بدل منه. وجعلت الآلهة نفس الإفك على سبيل المبالغة.
أى: أتريدون إفكا آلهة دون الله؟ إن إرادتكم هذه يمجها ويحتقرها كل عقل سليم.
ثم حذرهم من السير في طريق الشرك فقال: فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
والاستفهام للإنكار والتحذير من سوء عاقبتهم إذا ما استمروا في عبادتهم لغيره- تعالى-. أى: فما الذي تظنون أن يفعله بكم خالقكم ورازقكم إذا ما عبدتم غيره؟ إنه لا شك سيحاسبكم على ذلك حسابا عسيرا، ويعذبكم عذابا أليما، وما دام الأمر كذلك فاتركوا عبادة هذه الآلهة الزائفة. وأخلصوا عبادتكم لخالقكم ورازقكم.
قال الآلوسى: قوله: فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أى: أى شيء ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة، لكونه ربا للعالمين؟ أشككتم فيه حتى تركتم عبادته- سبحانه- بالكلية، أو أعلمتم أى شيء هو حتى جعلتم الأصنام شركاءه أو أى شيء ظنكم بعقابه- عز وجل- حتى اجترأتم على الإفك عليه، ولم تخافوا عذابه. «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 48.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 23 ص 110.(12/95)
وعلى أية حال فالآية تدل دلالة واضحة على استنكاره لما كان عليه أبوه وقومه من عبادة لغير الله- تعالى- وعلى نفور فطرته لما هم عليه من باطل.
ويهمل القرآن الكريم هنا ردهم عليه لتفاهته. وتنتقل السورة للإشارة إلى ما أضمره إبراهيم- عليه السلام- لتلك الآلهة الباطلة فتقول: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ.
قالوا: كان قوم إبراهيم يعظمون الكواكب، ويعتقدون تأثيرها في العالم.. وتصادف أن حل أوان عيد لهم. فدعوه إلى الخروج معهم كما هي عادتهم في ذلك العيد.
فتطلع إلى السماء، وقلب نظره في نجومها، ثم قال لهم معتذرا عن الخروج معهم- ليخلوا بالأصنام فيحطمها-: إِنِّي سَقِيمٌ أى مريض مرضا يمنعني من مصاحبتكم. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ. أى: فتركوه وحده وانصرفوا إلى خارج بلدتهم.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: وإنما قال إبراهيم لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلى بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على ما يعتقدونه، فتولوا عنه مدبرين.
قال قتادة: والعرب تقول لمن تفكر في أمر: نظر في النجوم، يعنى قتادة: أنه نظر في السماء متفكرا فيما يلهيهم به فقال إِنِّي سَقِيمٌ أى: ضعيف.
وقول النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم غير ثلاث كذبات: اثنتين في ذات الله، قوله:
«إنى سقيم» وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» وقوله في سارة «هي أختى» .
ليس المراد بالكذب هنا الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب.
وقيل قوله «إنى سقيم» أى: بالنسبة لما يستقبل، يعنى مرض الموت.
وقيل: أراد بقوله: «إنى سقيم» أى، مريض القلب من عبادتكم للأوثان من دون الله- تعالى- ... «1» .
ويبدو لنا أى نظر إبراهيم- عليه السلام- في النجوم، إنما هو نظر المؤمن المتأمل في ملكوت الله- تعالى- المستدل بذلك على وحدانية الله وقدرته، وأنه إنما فعل ذلك أمامهم-
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 20.(12/96)
وهم قوم يعظمون النجوم- ليقنعهم بصدق اعتذاره عن الخروج معهم، ويتم له ما يريده من تحطيم الأصنام.
كما يبدو لنا أن قوله: «إنى سقيم» المقصود منه: إنى سقيم القلب بسبب ما أنتم فيه من كفر وضلال، فإن العاقل يقلقه ويزعجه ويسقمه ما أنتم فيه من عكوف على عبادة الأصنام.
وقال لهم ذلك ليتركوه وشأنه، حتى ينفذ ما أقسم عليه بالنسبة لتلك الأصنام.
فكلام إبراهيم حق في نفس الأمر- كما قال الإمام ابن كثير- وقد ترك لقومه أن يفهموه على حسب ما يعتقدون.
ثم حكى- سبحانه- ما فعله إبراهيم بالأصنام بعد أن انفرد بها فقال: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ.
وأصل الروغ: الميل إلى الشيء بسرعة على سبيل الاحتيال. يقال: راغ فلان نحو فلان. إذا مال إليه لأمر يريده منه على سبيل الاحتمال.
أى: فذهب إبراهيم مسرعا إلى الأصنام بعد أن تركها القوم وانصرفوا إلى عيدهم، فقال لها على سبيل التهكم والاستهزاء: أيتها الأصنام ألا تأكلين تلك الأطعمة التي قدمها لك الجاهلون على سبيل التبرك؟
وخاطبها كما يخاطب من يعقل فقال: «ألا تأكلون» ، لأن قومه أنزلوها تلك المنزلة. وقوله: «ما لكم لا تنطقون» زيادة في السخرية بتلك الأصنام، وفي إظهار الغيظ منها، والضيق بها، والغضب عليها.
هذا الغضب الذي كان من آثاره ما بينه القرآن في قوله: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أى: فمال عليهم ضاربا إياهم بيده اليمنى، حتى حطمهم كما قال- تعالى- في آية أخرى:
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.
وقال- سبحانه-: ضَرْباً بِالْيَمِينِ للدلالة على أن إبراهيم- عليه السلام- لشدة حنقه وغضبه على الأصنام- قد استعمل في تحطيمها أقوى جارحة يملكها وهي يده اليمنى.
وقيل: يجوز أن يراد باليمين: اليمين التي حلفها حين قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ.
وانتهى إبراهيم من تحطيم الأصنام، وارتاحت نفسه لما فعله بها، وشفى قلبه من الهم والضيق الذي كان يجده حين رؤيتها ...
وجاء قومه من رحلتهم، ووجدوا أصنامهم قد تحطمت، ويترك القرآن هنا ما قالوه(12/97)
لإبراهيم عند ما رأوا منظر آلهتهم بهذه الصورة المفزعة لهم، مكتفيا بإبراز حالهم فيقول:
«فأقبلوا إليه يزفون» .
أى: فحين رأوا آلهتهم بهذه الصورة. أقبلوا نحو إبراهيم يسرعون الخطا ولهم جلية وضوضاء تدل على شدة غضبهم لما أصاب آلهتهم.
يقال: زفّ النعام يزفّ زفّا وزفيفا، إذا جرى بسرعة حتى لكأنه يطير.
ولم يأبه إبراهيم- عليه السلام- لهياج قومه، وإقبالهم نحوه بسرعة وغضب، بل رد عليهم ردا منطقيا سليما، فقال لهم: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ.
أى: قال لهم مؤبخا ومؤنبا: أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها وتقطعونها من الحجارة أو من الخشب بأيديكم، وتتركون عبادة الله- تعالى- الذي خلقكم وخلق الذي تعملونه من الأصنام وغيرها.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ «ما» في موضع نصب، أى: خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام، يعنى الخشب والحجارة وغيرها.
وقيل إن «ما» استفهام، ومعناه: التحقير لعملهم. وقيل: هي نفى أى: أنتم لا تعملون ذلك لكن الله خالقه والأحسن أن تكون «ما» مع الفعل مصدرا. والتقدير: والله خلقكم وعملكم، وهذا مذهب أهل السنة، أن الأفعال خلق لله- عز وجل- واكتساب للعباد.
وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خالق كل صانع وصنعته» «1» .
ولكن هذا المنطق الرصين من إبراهيم، لم يجد أذنا واعية من قومه، بل قابلوا قوله هذا بالتهديد والوعيد الذي حكاه- سبحانه- في قوله: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أى قالوا فيما بينهم: ابنوا لإبراهيم بنيانا، ثم املئوه بالنار المشتعلة، ثم ألقوا به فيها فتحرقه وتهلكه.
فالمراد بالجحيم: النار الشديدة التأجج. وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، وهذا اللفظ مأخوذ من الجحمة وهي شدة التأجج والاتقاد- يقال: جحم فلان النار- كمنع- إذا أوقدها وأشعلها، واللام فيه عوض عن المضاف إليه- أى- ألقوه في جحيم ذلك البنيان المليء بالنار.
وبنوا البنيان، وأضرموه بالنار، وألقوا بإبراهيم فيها، فماذا كانت النتيجة؟
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 96.(12/98)
كانت كما قال- سبحانه- بعد ذلك: فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أى: شرا وهلاكا عن طريق إحراقه بالنار فَجَعَلْناهُمُ- بقدرتنا التي لا يعجزها شيء- الأسفلين أى: الأذلين المقهورين، حيث أبطلنا كيدهم. وحولنا النار إلى برد وسلام على عبدنا إبراهيم- عليه السلام-.
وهكذا رعاية الله- تعالى- تحرس عباده المخلصين، وتجعل العاقبة لهم على القوم الكافرين.
ثم تسوق لنا السورة الكريمة بعد ذلك جانبا آخر من قصة إبراهيم- عليه السلام- هذا الجانب يتمثل في هجرته من أجل نشر دعوة الحق وفي تضرعه إلى ربه أن يرزقه الذرية الصالحة، فتقول: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ...
أى: قال إبراهيم بعد أن نجاه الله- تعالى- من كيد أعدائه إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أى: إلى المكان الذي أمرنى ربي بالسير إليه، وهو بلاد الشام، وقد تكفل- سبحانه- بهدايتى إلى ما فيه صلاح ديني ودنياى.
قال القرطبي: «هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم- عليه السلام- وذلك حين خلصه الله من النار قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أى: مهاجر من بلد قومي ومولدي، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي، فإنه سَيَهْدِينِ فيما نويت إلى الصواب «1» .
قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة. إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام..» «2» .
والسين في قوله سَيَهْدِينِ لتأكيد وقوع الهداية في المستقبل، بناء على شدة توكله، وعظيم أمله في تحقيق ما يرجوه من ربه، لأنه ما هاجر من موطنه إلا من أجل نشر دينه وشريعته- سبحانه-.
ثم أضاف إلى هذا الأمل الكبير في هداية الله- تعالى- له، أملا آخر وهو منحه الذرية الصالحة فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ.
أى: وأسألك يا ربي بجانب هذه الهداية إلى الخير والحق، أن تهب لي ولدا هو من عبادك الصالحين، الذين أستعين بهم على نشر دعوتك، وعلى إعلاء كلمتك.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 96.
(2) تفسير القرطبي ج 15 ص 97.(12/99)
وأجاب الله- تعالى- دعاء عبده إبراهيم، كما حكى ذلك في قوله: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ.
أى: فاستجبنا لإبراهيم دعاءه فبشرناه على لسان ملائكتنا بغلام موصوف بالحلم وبمكارم الأخلاق.
قال صاحب الكشاف: - وقد انطوت البشارة على ثلاثة: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليما «1» .
وهذا الغلام الذي بشره الله- تعالى- به. المقصود به هنا إسماعيل- عليه السلام-.
والفاء في قوله- تعالى-: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فصيحة، أى: بشرناه بهذا الغلام الحليم، ثم عاش هذا الغلام حتى بلغ السن التي في إمكانه أن يسعى معه فيها، ليساعده في قضاء مصالحه.
قيل: كانت سن إسماعيل في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة.
قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى.
أى: فلما بلغ الغلام مع أبيه هذه السن، قال الأب لابنه: يا بنى إنى رأيت في منامي أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى في شأن نفسك.
قال الآلوسى ما ملخصه: يحتمل أنه- عليه السلام- رأى في منامه أنه فعل ذلك..
ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك، ولكنه لم يذكره وذكر التأويل، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة: رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة.
ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى في اليقظة، وفي رواية أنه رأى ذلك في ليلة التروية فأخذ يفكر في أمره، فسميت بذلك، فلما رأى ما رآه سابقا عرف أن هذه الرؤيا من الله، فسمى بيوم عرفة، ثم رأى مثل ذلك في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمى بيوم النحر.
ولعل السر في كونه مناما لا يقظة، أن تكون المبادرة إلى الامتثال، أدل على كمال الانقياد والإخلاص.. «2» .
وإنما شاوره بقوله: فَانْظُرْ ماذا تَرى مع أنه سينفذ ما أمره الله- تعالى- به في منامه سواء رضى إسماعيل أم لم يرض، لأن في هذه المشاورة إعلاما له بما رآه، لكي يتقبله بثبات وصبر، وليكون نزول هذا الأمر عليه أهون، وليختبر عزمه وجلده.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 53.
(2) تفسير الآلوسى ج 23 ص 129.(12/100)
وقوله: قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ حكاية لما رد به إسماعيل على أبيه إبراهيم- عليهما السلام- وهو رد يدل على علو كعبه في الثبات، وفي احتمال البلاء، وفي الاستسلام لقضاء الله وقدره.
أى: قال الابن لأبيه: يا أبت افعل ما تؤمر به من قبل الله- تعالى- ولا تتردد في ذلك وستجدني إن شاء الله من الصابرين على قضائه.
وفي هذا الرد ما فيه من سمو الأدب، حيث قدم مشيئة الله- تعالى-، ونسب الفضل إليه، واستعان به- سبحانه- في أن يجعله من الصابرين على البلاء.
وهكذا الأنبياء- عليهم السلام- يلهمهم الله- تعالى- في جميع مراحل حياتهم ما يجعلهم في أعلى درجات السمو النفسي، واليقين القلبي، والكمال الخلقي.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما كان من الابن وأبيه فقال: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وأسلما: بمعنى استسلما وانقادا لأمر الله، فالفعل لازم، أو بمعنى: سلّم الذبيح نفسه وسلم الأب ابنه، فيكون متعديا والمفعول محذوف.
وقوله وَتَلَّهُ أى: صرعه وأسقطه، وأصل التل: الرمي على التّل وهو الرمل الكثيف المرتفع، ثم عمم في كل رمى ودفع، يقال: تل فلان فلانا إذا صرعه وألقاه على الأرض.
والجبين: أحد جانبي الجبهة، وللوجه جبينان، والجبهة بينهما.
أى: فلما استسلم الأب والابن لأمر الله- تعالى- وصرع الأب ابنه على شقه، وجعل جبينه على الأرض، واستعد الأب لذبح ابنه.. كان ما كان منا من رحمة بهما. ومن إكرام لهما، ومن إعلاء لقدرهما.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أين جواب لما؟ قلت: هو محذوف تقديره: فلما أسلما وتله للجبين «وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا» كان ما كان مما تنطق به الحال، ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما، وحمدهما لله، وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما اكتسبا في تضاعيفه من الثواب، ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب.. «1» .
وقد ذكروا هنا آثارا منها أن إسماعيل- عليه السلام- لما هم أبوه بذبحه قال له: يا أبت اشدد رباطى حتى لا أضطرب، واكفف عنى ثيابك حتى لا يتناثر عليها شيء من دمى فتراه أمى فتحزن، وأسرع مرّ السكين على حلقى ليكون أهون للموت على، فإذا أتيت أمى فاقرأ
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 55.(12/101)
عليها السلام منى.. وكان ذلك عند الصخرة التي بمنى.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أى: وعند ما صرع إبراهيم ابنه ليذبحه، واستسلما لأمرنا.. نادينا إبراهيم بقولنا يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أى: قد فعلت ما أمرناك به، ونفذت ما رأيته في رؤياك تنفيذا كاملا، يدل على صدقك في إيمانك، وعلى قوة إخلاصك.
قال الجمل: فإن قلت: كيف قال الله- تعالى- لإبراهيم: قد صدقت الرؤيا وهو إنما رأى أن يذبح ابنه، وما كان تصديقها إلا لو حصل منه الذبح؟
قلت: جعله الله مصدقا لأنه بذل جهده ووسعه، وأتى بما أمكنه، وفعل ما يفعله الذابح، فأتى بالمطلوب، وهو انقيادهما لأمر الله «2» .
وجملة «إنا كذلك نجزى المحسنين» تعليل لما قبلها. أى: فعلنا ما فعلنا من تفريج الكرب عن إبراهيم وإسماعيل، لأن سنتنا قد اقتضت أن نجازي المحسنين الجزاء الذي يرفع درجاتهم، ويفرج كرباتهم، ويكشف الهم والغم عنهم.
واسم الإشارة في قوله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ يعود إلى ما ابتلى الله- تعالى- نبيه إبراهيم وإسماعيل.
أى: إن هذا الذي ابتلينا به هذين النبيين الكريمين، لهو البلاء الواضح، والاختبار الظاهر، الذي به يتميز قوى الإيمان من ضعيفه، والذي لا يحتمله إلا أصحاب العزائم العالية، والقلوب السليمة، والنفوس المخلصة لله رب العالمين.
ثم بين- سبحانه- مظاهر فضله على هذين النبيين الكريمين فقال: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ والذبح بمعنى المذبوح فهو مصدر بمعنى اسم المفعول كالطحن بمعنى المطحون.
أى: وفدينا إسماعيل- عليه السلام- بمذبوح عظيم في هيئته، وفي قدره، لأنه من عندنا، وليس من عند غيرنا.
قيل: افتداه الله- تعالى- بكبش أبيض، أقرن، عظيم القدر.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.
أى: ومن مظاهر فضلنا وإحساننا وتكريمنا لنبينا إبراهيم- أننا أبقينا ذكره الحسن في الأمم التي ستأتى من بعده، وجعلنا التحية والسلام منا ومن المؤمنين عليه إلى يوم الدين، ومثل هذا
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 130.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 548.(12/102)
الجزاء نجزى المحسنين، إنه- عليه السلام- من عبادنا الصادقين في إيمانهم.
ثم بين- سبحانه- مظهرا آخر من مظاهر فضله على نبيه إبراهيم فقال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.
أى: ومن مظاهر تكريمنا لإبراهيم، أننا بشرناه بولد آخر هو إسحاق، الذي جعلناه نبيا من أنبيائنا الصالحين لحمل رسالتنا، وأفضنا على إبراهيم وعلى إسحاق الكثير من بركاتنا الدينية والدنيوية، بأن جعلنا عددا كبيرا من الأنبياء من نسلهما.
ومع ذلك فقد اقتضت حكمتنا أن نجعل من ذريتهما من هو محسن في قوله وعمله، ومن هو ظالم لنفسه بالكفر والمعاصي ظلما واضحا بينا، وسنجازى كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
هذا ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- أن الرسل جميعا قد جاءوا من عند الله- تعالى- بدين واحد في أصوله، وأن كل واحد منهم قد سار على نهج سابقه في الدعوة إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، وقد بين- سبحانه- في مطلع هذه القصة، أن إبراهيم كان من شيعة نوح- عليه السلام- أى:
من أتباعه الذين ساروا على سنته في دعوة الناس إلى عبادة الله وحده.
وقد أمر- عز وجل- نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يقتدى بإخوانه السابقين من الأنبياء، فقال:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ.
2- أن تعاطى الحيل الشرعية من أجل إزالة المنكر، أمر مشروع، فإن إبراهيم- عليه السلام- لكي يقضى على الأصنام، اعتذر لقومه عن الخروج معهم في يوم عيدهم، وقال لهم: إنى سقيم- بعد أن نظر في النجوم.
وكان مقصده من وراء ذلك، أن يختلى بالأصنام ليحطمها، ويثبت لقومه أنها لا تصلح للألوهية.
3- أن سنة الله- تعالى- قد اقتضت أن يراعى- بفضله وكرمه- عباده المخلصين، وأن ينصرهم على أعدائهم، الذين يبيتون لهم الشرور والسوء.
ونرى ذلك جليا في هذه القصة، فقد أضمر الكافرون لإبراهيم الكيد والإهلاك. فأنجاه الله- تعالى- من مكرهم، كما قال- تعالى-: فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ. 4- أن على المؤمن إذا لم يتمكن من نشر دعوة الحق في مكان معين أن ينتقل منه إلى مكان(12/103)
آخر متى كان قادرا على ذلك.
وهذا ما فعله إبراهيم- عليه السلام- فقد قال لقومه بعد أن يئس من صلاحهم، وبعد أن نجاه الله من كيدهم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ.
5- أن الدعاء متى صدر من نفس عامرة بالإيمان والتقوى، ومن قلب سليم من الهوى..
كان جديرا بالإجابة.
فلقد تضرع إبراهيم إلى ربه أن يرزقه الذرية الصالحة، فأجاب الله دعاءه.
كما حكى- سبحانه- ذلك في قوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ.
ثم قال- سبحانه- بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.
6- أن إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- قد ضربا أروع الأمثال في صدق الإيمان، وفي الاستسلام لأمر الله- تعالى- وفي الرضاء بقضائه.
فكافأهما- عز وجل- على ذلك مكافأة جزيلة، بأن جعل الذكر الحسن باقيا لإبراهيم إلى يوم القيامة، وبأن افتدى الذبيح بذبح عظيم.
قال- تعالى-: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.
7- أن الذبيح الذي ورد ذكره في هذه القصة، والذي افتداه الله- تعالى- بذبح عظيم، هو إسماعيل- عليه السلام- وعلى ذلك سار جمهور العلماء، ومن أدلتهم على ما ذهبوا إليه ما يأتى:
(أ) أن سياق القصة يدل دلالة واضحة على أن الذبيح إسماعيل، لأن الله- تعالى- حكى عن إبراهيم أنه تضرع إليه- تعالى- بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فبشره- سبحانه- بِغُلامٍ حَلِيمٍ، وهذا الغلام عند ما بلغ السن التي يمكنه معها مساعدة أبيه في أعماله. قال له أبوه: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى ثم افتدى الله- تعالى- هذا الغلام بذبح عظيم.
ثم قال- تعالى- بعد كل ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.
وهذا يدل على أن المبشر به الأول وهو إسماعيل، غير المبشر به الثاني وهو إسحاق.
(ب) أن البشارة بمولد إسحاق- عليه السلام- قد جاء الحديث عنها مفصلا في سورة(12/104)
هود. وظروف هذه البشارة وملابساتها، تختلف عن الظروف والملابسات التي وردت هنا في سورة الصافات، وقد أشار إلى ذلك الإمام السيوطي فقال:
وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضى القطع- أو ما يقرب منه- على أن الذبيح إسماعيل، وذلك لأن البشارة وقعت مرتين:
مرة في قوله- تعالى- رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ....
فهذه الآية قاطعة في أن المبشر به هو الذبيح.
ومرة في قوله- في سورة هود-: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ.
فقد صرح فيها بأن المبشر به إسحاق، ولم يكن بسؤال من إبراهيم، بل قالت امرأته إنها عجوز، وأنه شيخ، وكان ذلك في بلاد الشام، لما جاءت الملائكة إليه، بسبب قوم لوط، وكان إبراهيم في آخر عمره.
أما البشارة الأولى فكانت حين انتقل من العراق إلى الشام، وحين كان سنه لا يستغرب فيه الولد، ولذلك سأله، فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين بغلامين، أحدهما بغير سؤال، وهو إسحاق، والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره، فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح «1» .
ج- أن القول بأن الذبيح إسماعيل قد ورد- كما قال الإمام ابن القيم- عن كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها.
ثم قال الإمام ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه «بكره» وفي لفظ «وحيده» ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاد إبراهيم «2» .
ومن العلماء الذين فصلوا القول في هذه المسألة، الإمام ابن كثير، فقد قال رحمه الله:
«وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكى ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة- أيضا- وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقّى إلا عن أحبار أهل الكتاب، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه
__________
(1) راجع تفسير القاسمى ج 14 ص 5057.
(2) راجع تفسير القاسمى ج 14 ص 5053. [.....](12/105)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.
ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ وقال- تعالى-:
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أى: يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل.
وقد قدمنا أنه لا يجوز بعد ذلك أن يؤمر بذبحه وهو صغير، لأن الله قد وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا، وإسماعيل وصف هنا بالحلم، لأنه مناسب لهذا المقام» «1» .
قال الآلوسى- رحمه الله- بعد أن ساق أقوال العلماء في ذلك بالتفصيل: «والذي أميل إليه أنه- أى الذبيح- إسماعيل- عليه السلام-، بناء على أن ظاهر الآية يقتضيه، وأنه المروي عن كثير من أئمة أهل البيت، ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضى خلاف ذلك، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوى الألباب» «2» .
هذه بعض الأحكام والآداب التي يمكن أن نأخذها من هذه القصة، التي حكاها- سبحانه- عن نبيه إبراهيم- عليه السلام- في هذه السورة الكريمة، وهناك أحكام وآداب أخرى يستطيع أن يستخلصها المتدبر في هذه الآيات الكريمة.
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من قصة موسى وهارون- عليهما السلام- وهما من ذرية إبراهيم وإسحاق، فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 23.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 23 ص 136.(12/106)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
وموسى: هو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق، وكانت ولادته في حوالى القرن الثالث عشر ق م.
وهارون: أخو موسى، قيل كان شقيقا له، وقيل كان أخا له لأمه..
والمعنى: لقد أنعمنا على موسى- وهارون- عليهما السلام بنعمة النبوة، وبغيرها من النعم الأخرى.
والتي من بينها أننا نجيناهما وقومهما المؤمنين، من استعباد فرعون إياهم، ومن ظلمه لهم.
وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أى: ونصرنا موسى وهارون ومن آمن بهما. فكانوا بسبب هذا النصر الذي منحناهم إياه، هم الغالبين لأعدائهم، بعد أن كانوا تحت أسرهم وقهرهم.
وَآتَيْناهُمَا بعد كل ذلك الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ أى: الكتاب المبين الواضح وهو التوراة.
يقال: استبان الشيء، إذا ظهر ووضح وضوحا تاما.
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، أى: وهديناهما وأرشدناهما- بفضلنا وإحساننا- إلى الطريق الواضح الذي لا عوج فيه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ أى: وأبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل، والذكر الحسن.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أى: مثل هذا التكريم نجازي عبادنا المحسنين إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أى الذين صدقوا في إيمانهم، وفي طاعتهم لنا.
ثم ساق- سبحانه- جانبا من قصة إلياس- عليه السلام- وهو أيضا من ذرية إبراهيم وإسحاق، فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)(12/107)
وإلياس- عليه السلام- هو ابن فنحاص بن العيزار بن هارون- عليه السلام- فهو ينتهى نسبه- أيضا- إلى إبراهيم وإسحاق.
ويعرف إلياس في كتب الإسرائيليين باسم إيليا وقد أرسله الله- تعالى- إلى قوم كانوا يعبدون صنما يسمونه بعلا.
ويقال: إن رسالته كانت في عهد «آحاب» أحد ملوك بنى إسرائيل في حوالى القرن العاشر ق م.
والمعنى: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلناهم إلى الناس ليخرجونهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
وقوله: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ شروع في بيان ما نصح به إلياس قومه، والظرف مفعول لفعل محذوف، والتقدير اذكر وقت أن قال لقومه ألا تتقون الله. وتخشون عذابه ونقمته. والاستفهام للحض على تقوى الله- تعالى- واجتناب ما يغضبه.
ثم أنكر عليهم عبادتهم لغيره- سبحانه- فقال: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ.
والبعل: اسم للصنم الذي كان يعبده قومه، وهو صنم قيل: سميت باسمه مدينة بعلبك بالشام، وكان قومه يسكنون فيها، وقيل: البعل: الرب بلغة اليمن.
أى: قال لهم على سبيل التوبيخ والزجر: أتعبدون صنما لا يضر ولا ينفع وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق، وهو الله- عز وجل- الذي خلقكم ورزقكم.
ولفظ الجلالة في قوله: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بدل من أَحْسَنَ الْخالِقِينَ.(12/108)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
أى: أتعبدون صنما صنعتموه بأيديكم، وتذرون عبادة الله- تعالى- الذي هو ربكم ورب آبائكم الأولين.
وقرأ غير واحد من القراء السبعة اللَّهَ- بالرفع- على أنه مبتدأ، ورَبَّكُمْ خبره.
والتعرض لذكر ربوبيته- تعالى- لآبائهم الأولين، الغرض منه التأكيد على بطلان عبادتهم لغيره- سبحانه- فكأنه يقول لهم: إن الله- تعالى- الذي أدعوكم لعبادته وحده ليس هو ربكم وحدكم بل- أيضا- رب آبائكم الأولين، الذين من طريقهم أتيتم إلى هذه الحياة.
وقوله- تعالى- فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ بيان لموقفهم من نبيهم، ولما حل بهم من عذاب بسبب إعراضهم عن دعوته.
أى: دعا إلياس قومه إلى عبادة الله- تعالى- وحده، فكذبوه وأعرضوا عن دعوته، وسيترتب على تكذيبهم هذا، إحضارهم إلى جهنم إحضارا فيه ذلهم وهوانهم.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فإنهم ناجون من الإحضار الأليم، لأنهم سيكونون يوم القيامة محل تكريمنا وإحساننا.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أى: وأبقينا على إلياس في الأمم الآخرين سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أى: أمان وتحية منا ومنهم على إلياس ومن آمن معه.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك جانبا من قصة لوط مع قومه. فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
ولوط- عليه السلام- هو ابن أخ لسيدنا إبراهيم- عليه السلام- وكان قد آمن به وهاجر معه، كما في قوله- تعالى-: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي.(12/109)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
وقد أرسل الله- تعالى- لوطا إلى قرية سدوم- من قرى الشام- وكان أهلها يعبدون الأصنام ويرتكبون الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
أى: وَإِنَّ لُوطاً- عليه السلام- لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلناهم لهداية الناس، إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أى: اذكر- أيها العاقل- وقت أن نجيناه وجميع المؤمنين معه، بفضلنا ورحمتنا.
إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ والمراد بالعجوز: امرأته التي بقيت على كفرها وكانت تفشى أسرار زوجها. أى: نجينا لوطا والمؤمنين معه من أهله، إلا عجوزا بقيت في العذاب مع القوم الغابرين أى: مع الباقين في العذاب.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
أى: ثم دمرنا القوم الآخرين الباقين على كفرهم، كما دمرنا من بقي على كفره من أهل لوط، كامرأته التي أعرضت عن دعوة الحق، وانحازت إلى قومها المفسدين.
ثم وجه- سبحانه- الخطاب لمشركي قريش فقال: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
؟.
أى: وإنكم يا أهل مكة لتمرون على مساكن قوم لوط المهلكين، وأنتم سائرون إلى بلاد الشام، تارة تمرون عليهم وأنتم داخلون في وقت الصباح، وتارة تمرون عليهم وأنتم داخلون في وقت الليل، وترون بأعينكم ما حل بهم من دمار.
وقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ
معطوف على مقدر، أى: أتشاهدون ذلك فلا تعقلون، فالاستفهام للتوبيخ والحض على الاعتبار بأحوال الماضين.
ثم ختم- سبحانه- هذه القصص، بذكر جانب من قصة يونس- عليه السلام- فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)(12/110)
ويونس- عليه السلام-: هو ابن متى، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى» .
وملخص قصته أن الله- تعالى- أرسله إلى أهل نينوى بالعراق، وفي حوالى القرن الثامن قبل الميلاد، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- فاستعصوا عليه، فضاق بهم ذرعا، وأخبرهم أن العذاب سيأتيهم خلال ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث خرج يونس من بلدة قومه، قبل أن يأذن الله له بالخروج، فلما افتقده قومه، آمنوا وتابوا، وتضرعوا بالدعاء إلى الله قبل أن ينزل بهم العذاب.
فلما لم ير يونس نزول العذاب، استحى أن يرجع إليهم وقال: لا أرجع إليهم كذابا أبدا، ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت ولم تتحرك.
فقال صاحبها: ما يمنعها أن تسير إلا أن فيكم رجلا مشئوما، فاقترعوا ليلقوا في البحر من وقعت عليه القرعة، فكانت على يونس ثم أعادوها فوقعت عليه، فلما رأى ذلك ألقى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت.. «1» .
والمعنى: وإن يونس- عليه السلام- لمن المرسلين الذين اصطفيناهم لحمل رسالتنا وتبليغها إلى الناس.
إِذْ أَبَقَ
أى: هرب من قومه بغير إذن من ربه- يقال: أبق العبد- كضرب ومنع- إذا هرب من سيده فهو آبق.
إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
أى: هرب من قومه إلى الفلك المليء بالناس والأمتعة فَساهَمَ
أى: فقارع من في السفينة بالسهام، يقال: استهم القوم إذا اقترعوا فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ.
أى: من المغلوبين حيث وقعت عليه القرعة دون سواء. يقال: دحضت حجة فلان، إذا بطلت وخسرت.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 23 ص 143.(12/111)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ أى بعد أن وقعت القرعة عليه، ألقى بنفسه في البحر، «فالتقمه الحوت» أى: ابتلعه بسرعة: يقال: لقم فلان الطعام- كسمع- والتقمه، إذا ابتلعه بسرعة، وتلقّمه إذا ابتلعه على مهل.
وجملة «وهو مليم» حالية في محل نصب، أى: فالتقمه الحوت وهو مكتسب من الأفعال ما يلام عليه، حيث غادر قومه بدون إذن من ربه.
يقال: رجل مليم، إذا أتى من الأقوال أو الأفعال ما يلام عليه، وهو اسم فاعل من آلام الرجل، إذا أتى ما يلام عليه.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أى: فلولا أن يونس- عليه السلام- كان من المسبحين لله- تعالى- المداومين على ذكره. لولا هذا التسبيح للبث يونس في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
فهاتان الآيتان تدلان دلالة واضحة على أن الإكثار من ذكر الله- تعالى- وتسبيحه..
سبب في تفريج الكروب، وإزالة الهموم، بإذن الله ورحمته. وفي الحديث الشريف: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» .
ورحم الله الإمام القرطبي فقد قال: «أخبر الله- عز وجل- أن يونس كان من المسبحين، وأن تسبيحه كان سبب نجاته، ولذا قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر.
وفي الحديث الشريف: «من استطاع منكم أن تكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل» فليجتهد العبد، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويسترها عن خلق الله، لكي يصل إليه نفعها وهو أحوج ما يكون إليه «1» .
فنبذناه بالعراء وهو سقيم، والنبذ: الطرح، والعراء: الخلاء.
أى: أن يونس- عليه السلام- بعد أن التقمه الحوت أخذ في الإكثار من تسبيحنا ومن دعائنا، فاستجبنا له دعاءه، وأمرنا الحوت بطرحه في الفضاء الواسع من الأرض.
وجملة «وهو سقيم» حالية. أى: ألقيناه بالأرض الفضاء حالة كونه عليلا سقيما، لشدة ما لحقه من تعب وهو في بطن الحوت.
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أى: ومن مظاهر رحمتنا به، أننا جعلنا فوقه شجرة من يقطين لكي تظلل عليه وتمنع عنه الحر.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 127.(12/112)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
واليقطين: يطلق على كل شجر لا يقوم على ساق، كالبطيخ والقثاء والقرع وهو مأخوذ من قطن بالمكان إذا أقام به.
وقد قالوا إن المراد بهذه الشجرة، هي شجرة القرع، وقيل غير ذلك.
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أى: وبعد أن تداركته رحمتنا، وأخرجناه من بطن الحوت، ورعيناه برعايتنا، أرسلناه إلى مائة ألف من الناس أو يزيدون على ذلك في نظر الناظر إليهم، فآمنوا جميعا فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة إِلى حِينٍ انتهاء آجالهم.
قال الإمام ابن كثير: ولا مانع من أن يكون الذين أرسل إليهم أولا، أمر بالعودة إليهم بعد خروجه من بطن الحوت، فصدقوه كلهم، وآمنوا به. وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت، كانوا مائة ألف أو يزيدون «1» .
هذا ومن العبر التي نأخذها من هذه القصة، أن رحمة الله- تعالى- قريب من المحسنين، وأن العبد إذا تاب توبة صادقة نصوحا، وفي الوقت الذي تقبل فيه التوبة، قبل الله- تعالى- توبته، وفرج عنه كربه، وأن التسبيح يكون سببا في رفع البلاء.
وبعد هذه الجولة مع قصص بعض الأنبياء، أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يسأل هؤلاء المشركين، سؤال توبيخ وتأنيب، عما قالوه في شأن الملائكة من باطل وزور، وأن يرد على أكاذيبهم ردا يخرص ألسنتهم فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 170]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 35.(12/113)
وقوله- تعالى- فَاسْتَفْتِهِمْ.. معطوف على قوله- تعالى- في أوائل السورة:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا.. عطف جملة على جملة. والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم والاستفتاء: الاستخبار والاستفهام وطلب الفتيا من المفتي.
أى: أسأل- أيها الرسول- هؤلاء المشركين سؤال تقريع وتأنيب: أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أى: أسألهم بأى وجه من وجوه القسمة جعلوا لربك البنات وجعلوا لأنفسهم البنين؟ إن قسمتهم هذه لهى قسمة جائرة وفاسدة عند كل عاقل، لأنه لا يليق في أى عقل أن يجعلوا لله- تعالى- الجنس الأدنى وهو جنس الإناث، بينما يجعلون لأنفسهم الجنس الأعلى.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «1» .
قال صاحب الكشاف: فَاسْتَفْتِهِمْ معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة، أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث أولا. ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها، حيث جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور، في قولهم الملائكة بنات الله، مع كراهتهم الشديدة لهن. ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر:
أحدها: التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام.
__________
(1) سورة النجم الآيتان 21، 22.(12/114)
والثاني: تفضيل أنفسهم على ربهم، حيث جعلوا أوضع الجنسين له، وأرفعهما لهم.
والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله، وأقربهم إليه، حيث أنثوهم. ولو قيل لأقلهم وأدناهم: فيك أنوثة، أو شكلك شكل النساء، للبس لقائله جلد النمور، ولا تقلبت حماليقه- أى: أجفان عينيه. «1» .
وقوله- سبحانه-: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ، تقريع آخر لهم على جهالاتهم وسفههم، حيث أضرب- سبحانه- عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت والتأنيب.
أى: إنهم زعموا أن لربك البنات ولهم البنون، فهل كانوا حاضرين وقت أن خلقنا الملائكة حتى يعرفوا أنهم إناث؟ كلا إنهم لم يكونوا حاضرين وإنما هم يهرفون بما لا يعرفون.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ «2» .
قال صاحب الكشاف فإن قلت: لم قال: وَهُمْ شاهِدُونَ فخص علم المشاهدة؟
قلت: ما هو إلا الاستهزاء بهم وتجهيل.. وذلك لأنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر «3» .
ثم أخبر- سبحانه- عن كذبهم فقال: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والإفك: أشنع الكذب وأقبحه. يقال: أفك فلان كضرب وعلم- إفكا وأفكا، إذا كذب كذبا فاحشا.
أى: ألا إن هؤلاء الكافرين. من شدة كذبهم، وشناعة جهلهم ليقولون زورا وبهتانا:
وَلَدَ اللَّهُ أى: اتخذ الله ولدا وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في ذلك كذبا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا.
وافتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح «ألا» لتأكيد قولهم، وأنهم كانوا مصرين على هذا القول الذي لا نهاية لبطلانه.
ثم كرر- سبحانه- توبيخهم وتقريعهم فقال: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ والاصطفاء: الاختيار والانتقاء. والاستفهام للإنكار والنفي، أى: هل اختار الله البنات على
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 63.
(2) سورة الزخرف الآية 19.
(3) تفسير الكشاف ج 4 ص 63.(12/115)
البنين في زعمهم؟ كلا إن الله- تعالى- لم: يفعل شيئا من ذلك لأنه- سبحانه- غنى عن العالمين.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أى: أى شيء حدث لكم، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل.
وقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ. معطوف على كلام محذوف والتقدير: أتجهلون هذه الأمور الواضحة، فلا تعقلون ولا تتذكرون ولا تعتبرون.
وقوله- تعالى-: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إضراب وانتقال من توبيخهم على جهالاتهم، إلى تحديهم وإثبات كذبهم.
أى: بل ألكم حجة واضحة على صحة هذا القول الذي قلتموه من أن الملائكة بنات الله؟
إن كانت عندكم هذه الحجة فأتوا بها إن كنتم صادقين فيما زعمتم.
فالمقصود بالآيتين الكريمتين تعجيزهم وإثبات المزيد من جهالاتهم وأكاذيبهم. ثم حكى- سبحانه- زعما آخر من زعمهم في شأن الملائكة فقال: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ.
والمراد بالجنة هنا: الملائكة. سمو بذلك لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين.
أى: أن المشركين لم يكتفوا بما قالوا في الآيات السابقة، بل أضافوا إلى ذلك جريمة أخرى، وهي أنهم جعلوا بين الله- تعالى- وبين الملائكة نسبا، ولقد علمت الجنة، - أى الملائكة-، «إنهم» أى القائلون لهذه المقالة الباطلة «لمحضرون» أى: إلى العذاب يوم القيامة. ليذوقوا سوء عاقبة كذبهم.
قال القرطبي: أكثر أهل التفسير أن الجنة هاهنا الملائكة. عن مجاهد قال: قالوا- يعنى كفار قريش- الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهن؟ قالوا: مخدرات الجن ... ومعنى «نسبا» : مصاهرة. وقال قتادة: قالت اليهود إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهن.
وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه «1» .
ثم نزه- سبحانه- ذاته عما افتروه فقال: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أى: تنزه الله- تعالى- وتقدس عما يقوله هؤلاء الجاهلون.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 134.(12/116)
وقوله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من قوله لَمُحْضَرُونَ وما بينهما جملة معترضة لتنزيه الله- تعالى- وتقديسه.
أى: والله لقد علمت الملائكة أن المشركين القائلين بهذا القول الفاسد لمحضرون إلى النار، ويدعّون إليها دعا، لكن عباد الله الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ليسوا كذلك، بل هم ناجون من عذاب جهنم، لتنزيههم الخالق- عز وجل- عما لا يليق به.
ثم حقر- سبحانه- من شأن المشركين، ومن شأن آلهتهم المزعومة فقال: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ.
وهذا الكلام يجوز أن يكون حكاية لما رد به الملائكة على المشركين الذين قالوا الإفك والزور قبل ذلك، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا من الله- تعالى- على سبيل الاستخفاف والتهكم بالمشركين وبآلهتهم.
والفاء في قوله فَإِنَّكُمْ واقعة في جواب شرط مقدر. و «الواو» في قوله وَما تَعْبُدُونَ للعطف على اسم إن، أو بمعنى مع. و «ما» موصولة أو مصدرية. و «ما» في قوله: ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ نافية والضمير في «عليه» يعود على الله- عز وجل- والجار والمجرور متعلق «بفاتنين» . والمراد بالفتن: هنا الإفساد، من قولهم: فلان فتن على فلان خادمه. إذا أفسده. وجملة «ما أنتم عليه بفاتنين» خبر إن.
و «صال» - بكسر اللام- اسم فاعل منقوص- كقاض- مضاف إلى ما بعده.
وحذفت ياؤه لالتقاء الساكنين.
والمعنى: إذا أدركتم- أيها المشركون- ما قلناه لكم. فثقوا أنكم أنتم وآلهتكم لن تستطيعوا أن تضلوا أحدا هداه الله- تعالى- لكنكم تستطيعون أن تضلوا من كان من أهل الجحيم مثلكم.
فالمقصود بهذه الآيات الكريمة، الاستخفاف بالمشركين وبآلهتهم، وبيان أن من هداه الله، تعالى- لا سلطان لهم عليه في إغوائه أو إضلاله.
قال صاحب الكشاف: والضمير في «عليه» لله- تعالى- ومعناه: فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله، إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.
فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم.(12/117)
من قولك: فتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها وخيبها عليه.. «1» .
ثم بين- سبحانه- أن الملائكة معترفون اعترافا تاما بطاعتهم لله- تعالى- وبمداومتهم على عبادته وتسبيحه فقال: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.
أى: لقد اعترف الملائكة بطاعتهم الكاملة لله- تعالى- وقالوا: وما منا أحد إلا له مقام معلوم في عبادة الله- تعالى- وطاعته، وإنا لنحن الصافون أنفسنا في مواقف العبودية والطاعة لله- عز وجل- وإنا لنحن المسبحون والمنزهون له- تعالى- عن كل مالا يليق به.
وقد ذكر الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث منها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه: «أطّت السماء وحق لها أن تئط- أى سمع لها صوت شديد- ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد، ثم قرأ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ «2» .
ثم أخبر- سبحانه- عن حال المشركين قبل أن يأتيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال:
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
و «إن» في قوله وَإِنْ كانُوا.. هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير محذوف.
والقائلون هم كفار مكة، والفاء في قوله فَكَفَرُوا بِهِ وهي الفصيحة الدالة على محذوف مقدر.
والمعنى إن حال هؤلاء الكافرين وشأنهم، أنهم كانوا يقولون قبل مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلم إليهم «لو أن عندنا ذكرا من الأولين» أى: لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل. لكنا عباد الله المخلصين أى: لكنا بسبب وجود هذا الكتاب من عباد الله الذين يخلصون له العبادة والطاعة.
فجاءهم محمد صلّى الله عليه وسلم بالكتاب المبين كما تمنوا وطلبوا، فكانت النتيجة أن كفروا به، فسوف يعلمون سوء عاقبة هذا الكفر، يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «3» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 65.
(2) تفسير ابن كثير ج 7 ص 38.
(3) سورة العنكبوت الآية 55.(12/118)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببشارة المؤمنين بنصره، وبتسلية النبي صلّى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه، فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
والمراد بكلمتنا في قوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا.. ما وعد الله- تعالى- به رسله وعباده الصالحين من جعل العاقبة الطيبة لهم.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «1» وقوله- سبحانه- كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «2» .
أى: والله لقد سبق وعدنا لعبادنا المرسلين بالنصر والفوز إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ.
على أعدائهم إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
لمن عاداهم وناوأهم.
وهذا الوعد بالنصر لا يتعارض مع هزيمتهم في بعض المواطن- كيوم أحد مثلا- لأن هذه الهزيمة إنما هي لون من الابتلاء الذي اقتضته حكمة الله- تعالى- ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه، أما النصر في النهاية فهو للمؤمنين وهذا ما حكاه لنا التاريخ الصحيح، فقد تم فتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، بعد أن جاهد النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وهزموا
__________
(1) سورة غافر آية 51. [.....]
(2) سورة المجادلة آية 21.(12/119)
الكافرين، ولم يفارق الرسول صلّى الله عليه وسلم هذه الدنيا إلا بعد أن صارت كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين، وبالصبر على أذاهم، فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أى: فأعرض عنهم إلى الوقت الذي يأذن الله لك فيه بقتالهم وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أى: وانظر إليهم وراقبهم عند ما ينزل بهم عذابنا، فسوف يبصرون هم ذلك في دنياهم وفي آخرتهم.
والأمر بمشاهدة ذلك: إشعار بأن نصره صلّى الله عليه وسلم عليهم، آت لا ريب فيه حتى لكأنه واقع بين يديه، مشاهد أمامه.
والاستفهام في قوله- سبحانه-: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ للتوبيخ والتأنيب.
أى أبلغ الجهل وانطماس البصيرة بهؤلاء المشركين، أنهم يستعجلون عذابنا.
عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به، فنزلت هذه الآية.
ثم بين- سبحانه- حالهم عند ما ينزل بهم هذا العذاب الذي استعجلوا نزوله فقال فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ.
والساحة في الأصل تطلق على الفناء الواسع للدار والمراد بها هنا القوم الذين يكونون فيها والمخصوص بالذم محذوف.
أى: فإذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين. فبئس الصباح صباحهم. ولن ينفعهم حينئذ ندم أو توبة، وخص الصباح بالذكر، لأن العذاب كان يأتيهم فيه في الغالب.
أخرج الشيخان عن أنس، رضى الله عنه. قال: صبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر، فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا يقولون: محمد والله، محمد والخميس- أى: والجيش فقال صلّى الله عليه وسلم: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» .
ثم كرر- سبحانه- تهديده ووعيده لهم على سبيل التأكيد لعلهم يعتبرون فقال: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أى: وأعرض عنهم حتى حين، وأبصر ما توعدناهم به من عذاب أليم، فسوف يبصرون هم ذلك.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ أى. تنزه وتقدس ربك- أيها الرسول الكريم- عما وصفه به الواصفون الجاهلون من صفات لا تليق بذاته.(12/120)
وقوله رَبِّ الْعِزَّةِ بدل من ربك: أى هو صاحب العزة والغلبة والقوة التي لا يقف أمام قوتها شيء والتي لا يملكها أحد سواه.
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أى: وسلام وأمان وتحية منا على المرسلين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أى: والثناء الكامل لله- تعالى- رب العالمين جميعا وخالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم.
وبعد فهذا تفسير لسورة الصافات، نسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؟
القاهرة- مدينة نصر كتبه الراجي عفو ربه الأربعاء: 20 من ذي القعدة 1405 هـ د. محمد سيد طنطاوى 7/ 8/ 1985 م(12/121)
تفسير سورة ص(12/123)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة
1- سورة «ص» هي السورة الثامنة والثلاثون في ترتيب المصحف، وكان نزولها بعد سورة «القمر» وهي من السور المكية الخالصة. ويقال لها سورة «داود» .
قال الآلوسى: هي مكية- كما روى عن ابن عباس وغيره- وهي ثمان وثمانون آية في المصحف الكوفي. وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي ... وهي كالمتممة لسورة الصافات التي قبلها، من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء، كداود وسليمان ... » «1» .
2- وقد افتتحت سورة «ص» بقسم من الله- تعالى- بالقرآن الكريم، على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم، فيما يبلغه عن ربه.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله المشركون فيما بينهم، لإنكار نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولإنكار يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب، ورد عليهم بما يثبت جهلهم وغفلتهم واستكبارهم عن قبول الحق..
قال- تعالى-: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ.
3- ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى وكيد، فحكت له أن أقوام الرسل السابقين قد قابلوا رسلهم بالتكذيب، وأمرته بالصبر على جهالاتهم، وساقت جانبا من قصة داود- عليه السلام فذكرت بعض النعم التي أنعم الله- تعالى- بها عليه، كما ذكرت ما دار بينه وبين الخصوم الذين تسوروا عليه المحراب.
قال- تعالى-: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ. وثمود وقوم لوط
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 160.(12/125)
وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب. وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق. وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب. اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) ...
4- وبعد هذا الحديث الذي فيه شيء من التفصيل عن وجوه النعم التي أنعم بها- سبحانه- على عبده داود، وعن لون من ألوان الامتحانات التي امتحنه- تعالى- بها، وعن الإرشادات الحكيمة التي أرشده الله- عز وجل- إليها ...
بعد كل ذلك ساق- سبحانه- أنواعا من الأدلة على وحدانيته وقدرته، وبين أن حكمته قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والفجار.
قال- تعالى-: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
5- ثم أثنى- سبحانه- بعد ذلك على نبيه سليمان- عليه السلام- وبين بعض النعم التي منحها له، كما بين موقفه مما اختبره- تعالى- به ...
قال- تعالى-: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ. قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ. وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ.
6- ثم مدح- سبحانه- نبيه أيوب- عليه السلام- على صبره، وعلى كثرة تضرعه إلى ربه، وكيف أنه- تعالى- قد كافأه على ذلك بما يستحقه.
قال- تعالى-: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ. وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ، إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ، إِنَّهُ أَوَّابٌ.
7- ثم أثنى- سبحانه- على أنبيائه: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإسماعيل واليسع وذا الكفل، وبين ما أعده لهم ولأمثالهم من عباده الأخيار، كما بين ما توعد به الفجار من عذاب أليم..
قال- تعالى-: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ. مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ. هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ. هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.(12/126)
8- ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالحديث عن قصة آدم وإبليس وكيف أن الملائكة جميعا سجدوا لآدم إلا إبليس فإنه أبى واستكبر وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. فكانت عاقبته الطرد من رحمة الله- تعالى-.
9- ومن هذا العرض المجمل لسورة «ص» نرى أنها قد اهتمت اهتماما واضحا، بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته. وعلى صدق النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن يوم القيامة حق، كما اهتمت بحكاية شبهات المشركين ثم الرد عليها، كما ذكرت جانبا من قصص بعض الأنبياء ليعتبر بقصصهم كل ذي عقل سليم، كما أنها قد اهتمت ببيان حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر د. محمد سيد طنطاوى الخميس 21 من ذي القعدة سنة 1405 هـ الموافق 8/ 8/ 1985 م(12/127)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
سورة «ص» من السور القرآنية التي افتتحت ببعض حروف التهجي، وقد سبق أن بينا بشيء من التفصيل آراء العلماء في هذه المسألة، عند تفسيرنا لسورة البقرة، وآل عمران، والأعراف. ويونس..
وقلنا ما خلاصته: لعل أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت في بعض السور القرآنية على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.(12/128)
فكأن الله- تعالى- يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم.
فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك، أو في الإتيان بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة من مثله.
فعجزوا وانقلبوا خاسرين. وثبت أن هذا القرآن من عند الله- تعالى-.
والواو في قوله- تعالى-: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ للقسم. والمقسم به القرآن الكريم. وجواب القسم محذوف، لدلالة ما بعده عليه.
والذكر، يطلق على الشرف ونباهة الشأن، يقال فلان مذكور، أى: صاحب شرف ونباهة. ومنه قوله- تعالى-: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ.
ويطلق وبراد به التذكير على أنه مصدر، لأن القرآن مشتمل على المواعظ والأحكام وقصص الأنبياء. وغير ذلك مما يسعد الناس في دينهم ودنياهم.
وهذان الإطلاقان ينطبقان على القرآن الكريم، فيكون المعنى: وحق القرآن الكريم ذي الشرف العظيم، وذي التذكير الحكيم المشتمل على ما ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم..
إنك- أيها الرسول الكريم- لصادق في كل ما تبلغه عن ربك ولم يصدر منك إطلاقا ما يخالف الحق الذي أمرناك بتبليغه للناس.
قال بعض العلماء ما ملخصه: اعلم أنهم اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله- تعالى- عليه في قوله: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ.
فقال بعضهم إن المقسم عليه مذكور، وهو قوله- تعالى-: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أو قوله- تعالى-: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أو قوله- تعالى-: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ..
والحق أن القول بأن المقسم عليه مذكور ظاهر السقوط.
وقال آخرون إن المقسم عليه محذوف، واختلفوا في تقديره، فقال صاحب الكشاف:
التقدير: «والقرآن ذي الذكر» إنه لمعجز. وقدره ابن عطية فقال: والتقدير: والقرآن ذي الذكر ليس الأمر كما يقول الكفار.. «1» .
__________
(1) راجع تفسير أضواء البيان ج 7 ص 8 الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.(12/129)
وقوله- تعالى-: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ انتقال من القسم والمقسم به، إلى بيان حال الكفار وما هم عليه من غرور وعناد.
والمراد بالعزة هنا: الحمية والاستكبار عن اتباع الحق، كما في قوله- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ «1» .
وليس المراد بها القهر والغلبة كما في قوله- تعالى-: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ «2» .
وأصل الشقاق: المخالفة والمنازعة بين الخصمين حتى لكأن كل واحد منهما في شق غير الذي فيه الآخر. والمراد به هنا: مخالفة المشركين لما جاءهم به النبي صلّى الله عليه وسلم.
والمعنى: وحق القرآن الكريم ذي الشرف وسمو القدر. إنك- أيها الرسول الكريم- لصادق فيما تبلغه عن ربك، ولست كما يقول أعداؤك في شأنك. بل الحق أن هؤلاء الكافرين في حمية واستكبار عن قبول الهداية التي جئتهم بها من عند ربك، وفي مخالفة ومعارضة لكل ما لا يتفق مع ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة للأصنام، ومن عكوف على عاداتهم الباطلة.
والتعبير بفي في قوله فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ للإشعار بأن ما هم عليه من عناد ومن مخالفته للحق، قد أحاط بهم من كل جوانبهم، كما يحيط الظرف بالمظروف.
ثم خوفهم- سبحانه- بما أصاب الأمم من قبلهم، وحذرهم من أن يكون مصيرهم كمصير المكذبين السابقين فقال: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ.
«وكم» هنا خبرية. ومعناها: الإخبار عن عدد كثير. وهي في محل نصب على أنها مفعول به لأهلكنا.
وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم. و «من» في قوله مِنْ قَبْلِهِمْ لابتداء الغاية، وفي قوله: مِنْ قَرْنٍ مميزة لكم. والقرن: يطلق على الزمان الذي يعيش فيه جيل من الناس، ومدته- على الراجح- مائة سنة والمراد به هنا أهل الزمان.
والمراد بالنداء في قوله- تعالى-: فَنادَوْا الاستغاثة والضراعة إلى الله أن يكشف عنهم العذاب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 206.
(2) سورة المنافقون الآية 8.(12/130)
ولاتَ هي لا المشبهة بليس- وهذا رأى سيبويه- فهي حرف نفى زيدت فيه التاء لتأكيد هذا النفي.
وأشهر أقوال النحويين فيها أنها تعمل عمل ليس، وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة، كالساعة والأوان، وأنها لا بد أن يحذف اسمها أو خبرها، والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب.
والحين: ظرف مبهم يتخصص بالإضافة.
وقوله: مَناصٍ مصدر ميمى بمعنى الفرار والخلاص. يقال: ناص فلان من عدوه- من باب قال- فهو ينوص نوصا ومناصا، إذا فر منه، وهرب من لقائه.
أو بمعنى النجاة والفوت. يقال: ناصه ينوصه إذا فاته ونجا منه.
والمراد بقوله- تعالى-: أَهْلَكْنا الشروع في الإهلاك بدليل قوله- تعالى- بعد ذلك فَنادَوْا إذ من المعروف أن من هلك بالفعل لا يستغيث ولا ينادى.
والمعنى: إن هؤلاء الكافرين المستكبرين عن طاعتنا وعبادتنا، قد علموا أننا أهلكنا كثيرا من السابقين أمثالهم، وأن هؤلاء السابقين عند ما رأوا أمارات العذاب ومقدماته، جأروا إلينا بالدعاء أن نكشفه عنهم، واستغاثوا استغاثة جاءت في غير وقتها، ولقد قلنا لهم عند ما استغاثوا بنا عند فوات الأوان: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ.
أى: ليس الوقت الذي استغثتم بنا فيه وقت نجاة وفرار من العقاب، بل هو وقت تنفيذ العقوبة فيكم، بعد أن تماديتم في كفركم، وأعرضتم عن دعوة الحق بدون إنابة أو ندم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا.. «1» .
وقوله- سبحانه-: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ «2» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك جانبا من أكاذيب المشركين الناتجة عن استكبارهم وشقاقهم فقال: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ..
__________
(1) سورة غافر الآيتان 84- 85.
(2) سورة المؤمنون الآيتان 64- 65.(12/131)
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها: أن جماعة من قريش اجتمعوا في نفر من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبى طالب، لنكلمه في شأن ابن أخيه ... فلما دخلوا على أبى طالب قالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه.
فقال أبو طالب للنبي صلّى الله عليه وسلم يا ابن أخى هؤلاء مشيخة قريش، وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك.
فقال صلّى الله عليه وسلم: «يا عم، أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال: وإلام تدعوهم؟
قال: أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم» .
فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك؟ لنعطينها لك وعشرة أمثالها، فقال صلّى الله عليه وسلم: «تقولون: لا إله إلا الله» .
فنفر أبو جهل وقال: سلنا غير هذا.
فقال صلّى الله عليه وسلم: «لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها في يدي، ما سألتكم غيرها» .
فقاموا غضابا. وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي أرسلك بهذا. «1» .
وقوله- تعالى-: وَعَجِبُوا ... مأخوذ من العجب، وهو تغير في النفس من أمر لا ترتاح إليه، وتخفى لديها أسبابه.
أى: وعجب هؤلاء الكافرون من مجيء منذر منهم ينذرهم بسوء عاقبة الشرك. ويأمرهم بعبادة الله- تعالى- وحده.
وَقالَ هؤلاء الْكافِرُونَ عند ما دعاهم الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الدين الحق.
هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أى: قالوا: هذا الرسول ساحر لأنه يأتينا بخوارق لم نألفها، وكذاب فيما يسنده إلى الله- تعالى- من أنه- سبحانه- أرسله إلينا.
وقال- سبحانه-: وَقالَ الْكافِرُونَ بالإظهار دون الإضمار، لتسجيل الكفر والجحود عليهم. وللإيذان بأن كفرهم هو الباعث لهم على وصف الرسول صلّى الله عليه وسلم بما هو منزه عنه من السحر والكذب.
ثم أضافوا إلى هذا القول الباطل، أقوالا أخرى لا تقل عن غيرها في البطلان والفساد.
فقالوا- كما حكى القرآن-: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 46.(12/132)
والاستفهام للإنكار. أى: أجعل محمد صلّى الله عليه وسلم الآلهة المتعددة، إلها واحدا. وطلب منا أن ندين له بالعبادة والطاعة؟.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أى: إن هذا الذي طلبه منا، ودعانا إليه، لشيء قد بلغ النهاية في العجب والغرابة ومجاوزة ما يقبله العقل.
وعُجابٌ أبلغ من عجيب. لأنك تقول في الرجل الذي فيه طول: هذا رجل طويل، بينما تقول في الرجل الذي تجاوز الحد المعقول في الطول: هذا رجل طوال.
فلفظ عُجابٌ صيغة مبالغة سماعية، وقد حكاها- سبحانه- عنهم للإشعار بأنهم كانوا يرون- لجهلهم وعنادهم- أن ما جاءهم به الرسول-- هو شيء قد تجاوز الحد في العجب والغرابة.
واسم الإشارة يعود إلى جعله صلّى الله عليه وسلم الآلهة إلها واحدا، لأنهم يرون- لانطماس بصائرهم- أن ذلك مخالف مخالفة تامة لما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من عبادة للأصنام.
وما كان مخالفا لما ورثوه عن آبائهم فهو- في زعمهم- متجاوز الحد في العجب.
ثم صور- سبحانه- حرصهم على صرف الناس عن دعوة الحق. تصويرا بديعا، فقال: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ.
أى: وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبى طالب، بعد أن سمعوا من الرسول صلّى الله عليه وسلم ما أغضبهم وخيب آمالهم.
انطلقوا يقولون: أن امشوا في طريقكم التي كان عليها آباؤكم واصبروا على عبادة آلهتكم مهما هوّن محمد صلّى الله عليه وسلم من شأنها، ومهما نهى عن عبادتها.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أى: إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم من عبادة الله- تعالى- وحده وترك عبادة آلهتنا لشيء يراد من جهته هو، وهو مصمم عليه كل التصميم، ونحن من جانبنا يجب أن نقابل تصميمه على دعوته، بتصميم منا على عبادة آلهتنا.
وعلى هذا المعنى تكون الإشارة هنا عائدة إلى ما يدعوهم إليه النبي صلّى الله عليه وسلم من عبادة الله وحده.
ويصح أن تكون الإشارة إلى دينهم هم، فيكون المعنى: إن هذا الدين الذي نحن عليه لشيء يراد لنا، وقد وجدنا عليه آباءنا، ومادام الأمر كذلك فلن نتركه مهما كرّهنا فيه محمد صلّى الله عليه وسلم.
قال الآلوسى: قوله: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ تعليل للأمر بالصبر، والإشارة إلى(12/133)
ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلّى الله عليه وسلم وتصلبه في أمر التوحيد، ونفى ألوهية آلهتهم..
أى: إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلّى الله عليه وسلم إمضاؤه وتنفيذه. فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا، فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر.
وقيل: إن هذا- أى: دينكم- يطلب لينتزع منكم ويطرح ويراد إبطاله.. «1» .
ثم يضيفون إلى ذلك قولهم: ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ... أى: ما سمعنا بهذا الدين الذي يدعونا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم في ملة العرب التي أدركنا عليها آباءنا، أو ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد صلّى الله عليه وسلم في الملّة الآخرة، وهي ملة عيسى- عليه السلام- فإن أتباعه يقولون بالتثليث، ويقولون بأنه الدين الذي جاء به عيسى.
وعلى هذين القولين يكون قوله فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ متعلق بسمعنا.
ويصح أن يكون المعنى: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم كائنا في الملة التي تكون في آخر الزمان، والتي حدثنا. عنها الكهان وأهل الكتاب.
وعلى هذا الرأى يكون قوله فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ حالا من اسم الإشارة وليس متعلقا بسمعنا.
ثم أكدوا نفيهم لعدم سماعهم لما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم بقولهم: إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أى: ما سمعنا شيئا مما يقوله، وما يقوله ما هو إلا كذب وتخرص اختلقه من عند نفسه، دون أن يسبقه إليه أحد.
يقال: اختلق فلان هذا القول، إذا افتراه واصطنعه واخترعه من عند نفسه، دون أن يكون له أصل من الواقع.
ثم صرحوا في نهاية المطاف بالسبب الحقيقي الذي حال بينهم وبين الإيمان، ألا وهو الحقد والحسد، وإنكار أن يختص الله تعالى رسوله من بينهم بالرسالة، فقالوا- كما حكى القرآن عنهم-: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ ....
والاستفهام للإنكار والنفي. أى: كيف يدعى محمد صلّى الله عليه وسلم أنه قد أنزل عليه القرآن من بيننا، ونحن السادة الأغنياء العظماء، وهو دوننا في ذلك؟ إننا ننكر وننفى دعواه النبوة من بيننا.
قال صاحب الكشاف: أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 23 ص 167.(12/134)
الكتاب من بينهم، كما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوة من بينهم. «1» .
ولقد حكى القرآن أحقادهم هذه على النبي صلّى الله عليه وسلم في آيات كثيرة ورد عليها بما يبطلها ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ... «2» .
ولقد صرح أبو جهل بهذا الحسد للنبي صلّى الله عليه وسلم فعند ما سأله سائل، أتظن محمدا على حق أم على باطل؟ كان جوابه: إن محمدا لعلى حق ولكن متى كنا لبنى هاشم تبعا. أى: متى كانت أسرتنا تابعة لبنى هاشم!!.
وفي رواية أنه قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه.
وقوله- سبحانه-: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي إضراب عن كلام يفهم من السياق. وتسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما أصابه منهم من أذى.
أى: هؤلاء الجاحدون الحاقدون لم يقطعوا برأى في شأنك- أيها الرسول الكريم- وفي شأن ما جئتهم به، ولم يستندوا في أقوالهم إلى دليل أو ما يشبه الدليل، وإنما هم في شك من هذا القرآن الذي أيدناك به، بدليل أنك تراهم يصفونك تارة بالسحر، وتارة بالكهانة، وتارة بالشعر، ولو عقلوا وأنصفوا لآمنوا بك وصدقوك.
وقوله- سبحانه-: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ إضراب عن مجموع الكلامين السابقين المشتملين على الحسد والشك.
أى: لا تحزن- أيها الرسول الكريم- من مسالكهم الخبيثة، وأقوالهم الفاسدة. فإنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم لم يذوقوا عذابي بعد، فإذا ذا قوة زال حسدهم وشكهم، وتيقنوا بأنك على الحق المبين، وهم على الباطل الذي لا يحوم حوله حق.
وفي التعبير بقوله لَمَّا إشارة إلى أن نزول العذاب بهم وتذوقهم له، قريب الحصول.
ثم أنكر عليهم- سبحانه- بعد ذلك اعتراضهم على اختيار نبيه صلّى الله عليه وسلم للرسالة، وساق هذا الإنكار بأسلوب توبيخي تهكمى فقال- تعالى-: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 74.
(2) سورة الأنعام الآية 124.(12/135)
الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. أى: أنهم لم يملكوا خزائن رحمة ربك- أيها الرسول الكريم- حتى يعطوا منها من يشاءون ويمنعوها عمن يشاءون، ويتخيروا للنبوة صناديدهم ويترفعوا بها عنك.. وإنما المالك لكل ذلك هو الله- تعالى- العزيز الذي لا يغلبه غالب- الوهاب، أى: الكثير العطاء لعباده.
والمراد بالعندية في قوله عِنْدَهُمْ: الملك والتصرف. وتقديم الظرف «عند» لأنه محل الإنكار. وفي إضافة الرب- عز وجل- إلى الضمير العائد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم تشريف وتكريم له صلّى الله عليه وسلم وجيء بصفة «العزيز» للرد على ما كانوا يزعمونه لأنفسهم وآلهتهم من ترفع وتكبر.
كما جيء بصفة «الوهاب» للإشارة إلى أن النبوة هبة من الله- تعالى- لمن يختاره من عباده، وهو- سبحانه- أعلم حيث يجعل رسالته.
وقوله- عز وجل-: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ... تأكيد لما أفادته الآية السابقة من عدم ملكيتهم لشيء من خزائن الله- تعالى-. أى: أن هؤلاء الكافرين ليست عندهم خزائن ربك- أيها الرسول الكريم- وليسوا بمالكين شيئا- أى شيء- من هذه العوالم العلوية أو السفلية، وإنما هم خلق صغير من خلقنا العظيم الكبير. وقوله- سبحانه-: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ تعجيز لهم، وتهكم بهم، واستخفاف بأقوالهم ومزاعمهم، والأسباب: جمع سبب وهو كل ما يتوصل به إلى غيره من حبل أو نحوه.
والفاء جواب لشرط محذوف. والتقدير: إن كان عندهم خزائن رحمتنا، ولهم شيء من ملك السموات والأرض وما بينهما، فليصعدوا في الطرق التي توصلهم إلى ما نملكه حتى يستولوا عليه، ويدبروا أمره، وينزلوا الوحى على من يختارونه للنبوة من أشرافهم وصناديدهم.
فالجملة الكريمة قد اشتملت على نهاية التعجيز لهم، والتهكم بهم وبأقوالهم، حيث بين- سبحانه- أنهم أدعياء فيما يزعمون، وأنهم يهرفون بما لا يعرفون..
ثم بشر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم بالنصر عليهم فقال: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ.
ولفظ «جند» خبر لمبتدأ محذوف. و «ما» مزيدة للتقليل والتحقير، نحو قولك: أكلت شيئا ما. أى: شيئا قليلا، وقيل: هي للتكثير والتهويل كقولهم: لأمر ما جدع قصير أنفه.(12/136)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
أى: لأمر عظيم.. وعلى كلا المعنيين فالمقصود أنهم لا وزن لهم بجانب قدرة الله- تعالى-.
و «هنالك» صفة لجند، أو ظرف لمهزوم. وهو إشارة إلى المكان البعيد.
و «مهزوم» خبر ثان للمبتدأ المقدر، وأصل الهزم: غمز الشيء اليابس حتى يتحطّم ويكسر.
يقال: تهزّمت القربة، بمعنى يبست. وتكسرت. وهزم الجيش بمعنى غلب وكسر.
والمعنى: هؤلاء المشركون- أيها الرسول الكريم- لا تهتم بأمرهم، ولا تكترث بجموعهم، فهم سواء أكانوا قليلين أم كثيرين، لا قيمة لهم بجانب قوتنا التي لا يقف أمامها شيء، ومهما تحزبوا عليك فهم جند مهزومون ومغلوبون أمام قوة المؤمنين في مواطن متعددة.
فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم كما قال- تعالى-: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
قال صاحب الكشاف: قوله: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ يريد ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث لما به يهذون، و «ما» مزيدة، وفيها معنى الاستعظام ... إلا أنه على سبيل الاستهزاء بهم. وهُنالِكَ إشارة حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست هنالك «1» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت أقوال المشركين، وردت عليها ردا يكبتهم ويزهق باطلهم، وختمت بما يبشر المؤمنين بالنصر عليهم.
ثم ساق- سبحانه- جانبا مما أصاب السابقين من دمار حين كذبوا رسلهم لكي يعتبر المشركون المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلم ولكي يقلعوا عن شركهم حتى لا يصيبهم ما أصاب أمثالهم من المتقدمين عليهم، فقال- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 16]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 75.(12/137)
فقوله- تعالى-: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... استئناف مقرر لوعيد قريش بالهزيمة.
ولوعد المؤمنين بالنصر. وتأنيث قوم باعتبار المعنى، وهو أنهم أمة وطائفة.
أى: ليس قومك- يا محمد- هم أول المكذبين لرسلهم، فقد سبقهم إلى هذا التكذيب قوم نوح، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان.
وسبقهم- أيضا- إلى هذا التكذيب قوم عاد، فقد كذبوا نبيهم هودا، فكانت عاقبتهم الإهلاك بالريح العقيم. التي ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم.
وقوله: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ معطوف على ما قبله أى: وكذب- أيضا- فرعون رسولنا موسى- عليه السلام-.
وقوله: ذُو الْأَوْتادِ صفة لفرعون. والأوتاد: جمع وتد، وهو ما يدق في الأرض لتثبيت الشيء وتقويته.
والمراد بها هنا: المبانى الضخمة العظيمة، أو الجنود الذين يثبتون ملكه كما تثبت الأوتاد البيت، أو الملك الثابت ثبوت الأوتاد.
قال الآلوسى ما ملخصه: والأصل إطلاق ذي الأوتاد على البيت المشدود والمثبت بها، فشبه هنا فرعون في ثبات ملكه.. ببيت ثابت ذي عماد وأوتاد..
أو المراد بالأوتاد الجنود: لأنهم يقوون ملكه كما يقوى الوتد الشيء. أو المراد بها المبانى العظيمة الثابتة.
ويصح أن تكون الأوتاد على حقيقتها فقد قيل إنه كان يربط من يريد قتله بين أوتاد متعددة، ويتركه مشدودا فيها حتى يموت.. «1» .
أى: وفرعون صاحب المبانى العظيمة، والجنود الأقوياء، والملك الوطيد ... كذب رسولنا موسى- عليه السلام-، فكانت عاقبة هذا التكذيب أن أغرقناه ومن معه جميعا من جنوده الكافرين.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 170.(12/138)
وكذب- أيضا- قوم ثمود نبيهم صالحا، وقوم لوط نبيهم لوطا، وأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب. كذبوه كذلك- فكانت نتيجة هذا التكذيب الإهلاك لهؤلاء المكذبين- كما قال- تعالى-: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «1» .
والإشارة في قوله- تعالى-: أُولئِكَ الْأَحْزابُ تعود إلى هؤلاء الأقوام المكذبين لرسلهم وسموا بالأحزاب، لأنهم تحزبوا ضد رسلهم، وانضم بعضهم إلى بعض في تكذيبهم، ووقفوا جميعا موقف المحارب لهؤلاء الرسل الكرام.
وقوله- سبحانه- إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ استئناف مقرر لما قبله من تكذيب هؤلاء الأقوام لرسلهم، وبيان للأسباب التي أدت إلى عقاب المكذبين.
و «إن» هنا نافية، ولا عمل لها لانتقاض النفي بإلا. و «إلا» أداة استثناء مفرغ من أعم الصفات أو الأحكام: وجملة «كذب الرسل» في محل رفع خبر «كل» .
أى: ليس لهؤلاء الأقوام من صفات سوى تكذيب الرسل، فكانت نتيجة هذا التكذيب أن حل بهم عقابي وثبت عليهم عذابي. الذي دمرهم تدميرا.
والإخبار عن كل حزب من هذه الأحزاب بأنه كذب الرسل، إما لأن تكذيب كل حزب لرسوله يعتبر من باب التكذيب لجميع الرسل لأن دعوتهم واحدة، وإما من قبيل مقابلة الجمع بالجمع، والمقصود تكذيب كل حزب لرسوله.
وقد جاء تكذيبهم في الآية السابقة بالجملة الفعلية «كذبت قبلهم ... » وجاء في هذه الآية بالجملة الاسمية: لبيان إصرارهم على هذا التكذيب، ومداومتهم عليه، وإعراضهم عن دعوة الرسل لهم إعراضا تاما.
وقوله- سبحانه-: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ. بيان للعذاب المعد للمشركين المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلم بعد بيان العقاب الذي حل بالسابقين.
والمراد بالصيحة هنا: النفخة الثانية التي ينفخها إسرافيل في الصور، فيقوم الخلائق من قبورهم للحساب والجزاء.
وقيل المراد بها النفخة الأولى، وضعف هذا القول بأنهم لن يكونوا موجودين وقتها حتى يصعقوا بها..
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 40. [.....](12/139)
وينظرون هنا بمعنى ينتظرون. وجعلهم- سبحانه- منتظرين للعقاب مع أنهم لم ينتظروه على سبيل الحقيقة للإشعار بتحقق وقوعه، وأنهم بصدد لقائه، فهم لذلك في حكم المنتظرين له.
أى: وما ينتظر هؤلاء المشركون الذين هم أمثال المهلكين من قبلهم، إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أى: نفخة واحدة ينفخها إسرافيل فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ، وهذه النفخة ما لَها مِنْ فَواقٍ أى: ليس لها من توقف وانتظار حتى ولو بمقدار فواق ناقة وهو الزمن الذي يكون بين الحلبتين، أو الزمن الذي يكون فيه رجوع اللبن في الضرع بعد الحلب.
والمقصود بيان أن هذه الصيحة سريعة الوقوع، وأنها لن تتأخر عن وقتها، وأنها صيحة واحدة فقط يتم بعدها كل شيء يتعلق بالبعث والجزاء.
قال الجمل في حاشيته ما ملخصه: قوله: ما لَها مِنْ فَواقٍ يجوز أن يكون قوله لَها رافعا لقوله: مِنْ فَواقٍ على الفاعلية لاعتماده على النفي.
وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر، وعلى التقديرين فالجملة المنفية صفة لصيحة، ومن مزيدة..
والفواق- بفتح الفاء وضمها- الزمان الذي بين حلبتى الحالب ورضعتى الراضع- والمعنى: ما لها من توقف قدر فواق ناقة. وفي الحديث: «العيادة قدر فواق ناقة» .. «1» .
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة، ببيان ما جبل عليه هؤلاء المشركون من جهالات وسفاهات، حيث تعجلوا العقاب قبل وقوعه بهم، فقال- تعالى-: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ.
والقطّ: النصيب والقطعة من الشيء. مأخوذ من قط الشيء إذا قطعه وفصله عن غيره.
فهم قد أطلقوا القطعة من العذاب على عذابهم، باعتبار أنها مقتطعة من العذاب الكلى المعد لهم ولغيرهم.
أى: وقال هؤلاء المشركون الجاهلون يا ربنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أى عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به، ولا تؤخره إلى يوم الحساب.
وتصدير دعائهم بنداء الله- تعالى- بصفة الربوبية، يشعر بشدة استهزائهم بهذا العذاب الذي توعدهم الله- تعالى- به على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 564.(12/140)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
ونسب- سبحانه- القول إليهم جميعا مع أن القائل هو النضر بن الحارث، أو أبو جهل.. لأنهم قد رضوا بهذا القول، ولم يعترضوا على قائله.
وقيل المراد بقوله- تعالى-: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا.. أى: صحائف أعمالنا لننظر فيها قبل يوم الحساب.
وقيل المراد به: نصيبهم من الجنة أى: عجل لنا نصيبنا من الجنة التي وعد رسولك بها أتباعه، وأعطنا هذا النصيب في الدنيا قبل يوم الحساب لأننا لا نؤمن بوقوعه.
وعلى جميع الأقوال، فالمراد بيان أنهم قوم قد بلغ بهم التطاول والغرور منتهاه، حيث استهزءوا بيوم الحساب، وطلبوا تعجيل نزول العذاب بهم في الدنيا، بعد أن سمعوا من الرسول صلّى الله عليه وسلم أن عقوبتهم مؤجلة إلى الآخرة..
قال- تعالى-: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «1» .
وقال- سبحانه-: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «2» .
ثم واصلت السورة الكريمة تسليتها للرسول صلّى الله عليه وسلم حيث أمرته بالصبر، وذكرت له- بشيء من التفصيل- قصص بعض الأنبياء- عليهم السلام- وبدأت بقصة داود- عليه السلام- الذي آتاه الله الملك والنبوة قال- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 17 الى 26]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 23.
(2) سورة الحج الآية 47.(12/141)
والخطاب في قوله- تعالى-: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ... للنبي صلّى الله عليه وسلم.
أى: اصبر- أيها الرسول الكريم- على ما قاله أعداؤك فيك وفي دعوتك لقد قالوا عنك إنك ساحر ومجنون وكاهن وشاعر.. وقالوا عن القرآن الكريم: إنه أساطير الأولين..
وقالوا في شأن دعوتك إياهم إلى وحدانية الله- تعالى- ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ..
وقالوا غير ذلك مما يدل على جهلهم وجحودهم للحق، وعليك- أيها الرسول الكريم- أن تصبر على ما صدر منهم من أباطيل، فإن الصبر مفتاح الفرج، وهو الطريق الذي سلكه كل نبي من قبلك..
وقال- سبحانه-: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ بصيغة المضارع، لاستحضار الصورة الماضية. وللإشعار بأن ما قالوه في الماضي سيجددونه في الحاضر وفي المستقبل فعليه أن بعد(12/142)
نفسه لاستقبال هذه الأقوال الباطلة بصبر وسعة صدر حتى يحكم الله- تعالى- بحكمه العادل، بينه وبينهم.
وقوله- تعالى-: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ معطوف على جملة «اصبر» ..
وداود- عليه السلام-: هو ابن يسى من سبط «يهوذا» بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وكانت ولادة داود في حوالى القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وقد منحه الله- تعالى- النبوة والملك.
وقوله- تعالى-: ذَا الْأَيْدِ صفة لداود، والأيد: القوة. يقال: آد الرجل يئيد أيدا وإيادا، إذا قوى واشتد عوده، فهو أيّد. ومنه قولهم في الدعاء: أيدك الله. أى: قواك وأَوَّابٌ صيغة مبالغة من آب إذا رجع.
أى: اصبر- أيها الرسول الكريم- على أذى قومك حتى يحكم الله بينك وبينهم واذكر- لتزداد ثباتا وثقة- قصة وحال عبدنا داود، صاحب القوة الشديدة في عبادتنا وطاعتنا وفي دحر أعدائنا.. إِنَّهُ أَوَّابٌ أى: كثير الرجوع إلى ما يرضينا.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر فضله ونعمه على عبده داود- عليه السلام- فقال:
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ....
والعشى: الوقت الذي يكون من الزوال إلى الغروب أو إلى الصباح. والإشراق: وقت إشراق الشمس، أى: سطوعها وصفاء ضوئها، قالوا: وهو وقت الضحى..
فالإشراق غير الشروق، لأن الشروق هو وقت طلوع الشمس. وهو يسبق الإشراق أى: إن من مظاهر فضلنا على عبدنا داود، أننا سخرنا وذللنا الجبال معه، بأن جعلناها بقدرتنا تقتدى به فتسبح بتسبيحه في أوقات العشى والإشراق.
وقال- سبحانه- مَعَهُ للإشعار بأن تسبيحها كان سبيل الاقتداء به في ذلك.
أى: أنها إذا سمعته يسبح الله- تعالى- ويقدسه وينزهه، رددت معه ما يقوله.
وهذا التسبيح من الجبال لله- تعالى- إنما هو على سبيل الحقيقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو- عز وجل- بدليل قوله- سبحانه-: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «1» .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 44.(12/143)
والقول بأن تسبيح الجبال كان بلسان الحال ضعيف لأمور منها: المخالفة لظاهر ما تدل عليه الآية من أن هناك تسبيحا حقيقيا بلسان المقال، ومنها: أن تقييد التسبيح بكونه بالعشي والإشراق. وبكونه مع داود، يدل على أنه تسبيح بلسان المقال، إذ التسبيح بلسان الحال موجود منها في كل وقت، ولا يختص بكونه في هذين الوقتين أو مع داود.
وخص- سبحانه- وقتى العشى والإشراق بالذكر. للإشارة إلى مزيد شرفهما، وسمو درجة العبادة فيهما.
وقوله- تعالى-: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ... معطوف على الجبال وكلمة محشورة: بمعنى مجموعة. وهي حال من الطير. والعامل قوله سَخَّرْنَا.
أى: إنا سخرنا الجبال لتسبح مع داود عند تسبيحه لنا، كما سخرنا الطير وجمعناها لتردد معه التسبيح والتقديس لنا.
والتعبير بقوله مَحْشُورَةً يشير إلى أن الطير قد حبست وجمعت لغرض التسبيح معه، حتى لكأنها تحلق فوقه ولا تكاد تفارقه من شدة حرصها على تسبيح الله- تعالى- وتقديسه.
وجملة «كل له أواب» مقررة لمضمون ما قبلها من تسبيح الجبال والطير.
واللام في «له» للتعليل، والضمير يعود إلى داود- عليه السلام-.
أى: كل من الجبال والطير. من أجل تسبيح داود، كان كثير الرجوع إلى التسبيح.
ويصح أن يكون الضمير يعود إلى الله- تعالى- فيكون المعنى: كل من داود والجبال والطير، كان كثير التسبيح والتقديس والرجوع إلى الله- تعالى- بما يرضيه.
وقوله- تعالى-: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أى: قوينا ملك داود، عن طريق كثرة الجند التابعين له، وعن طريق ما منحناه من هيبة ونصرة وقوة..
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أى: النبوة، وسعة العلم، وصالح العمل، وحسن المنطق.
وَفَصْلَ الْخِطابِ أى: وآتيناه أيضا الكلام البليغ الفاصل بين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ، ووفقناه للحكم بين الناس بطريقة مصحوبة بالعدل، وبالحزم الذي لا يشوبه تردد أو تراجع.
ثم ساق- سبحانه- ما يشهد لعبده داود بذلك فقال: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ.
والاستفهام للتعجيب والتشويق لما يقال بعده، لكونه أمرا غريبا تتطلع إلى معرفته النفس.
والنبأ: الخبر الذي له أهمية في النفوس..(12/144)
والخصم: أى المتخاصمين أو الخصماء. وهو في الأصل مصدر خصمه أى: غلبه في المخاصمة والمجادلة والمنازعة، ولكونه في الأصل مصدرا صح إطلاقه على المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث.. قالوا: وهو مأخوذ من تعلق كل واحد من المتنازعين بخصم الآخر.
أى: بجانبه..
والظرف في قوله: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ متعلق بمحذوف. والتسور: اعتلاء السور، والصعود فوقه، إذ صيغة التفعل تفيد العلو والتصعد. كما يقال تسنم فلان الجمل، إذ علا فوق سنامه.
والمحراب: المكان الذي كان يجلس فيه داود- عليه السلام- للتعبد وذكر الله- تعالى-.
والمعنى: وهل وصل إلى علمك- أيها الرسول الكريم- ذلك النبأ العجيب، ألا وهو نبأ أولئك الخصوم، الذين تسلقوا على داود غرفته، وقت أن كان جالسا فيها لعبادة ربه، دون إذن منه، ودون علم منه بقدومهم..
إن كان هذا النبأ العجيب لم يصل إلى علمك، فها نحن نقصه عليك.
وقوله: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ... بدل مما قبله. والفزع: انقباض في النفس يحدث للإنسان عند توقع مكروه.
أى: أن هؤلاء الخصوم بعد أن تسوروا المحراب، دخلوا على داود، فخاف منهم، لأنهم أتوه من غير الطريق المعتاد للإتيان وهو الباب، ولأنهم أتوه في غير الوقت الذي حدده للقاء الناس وللحكم بينهم، وإنما أتوه في وقت عبادته.
ومن شأن النفس البشرية أن تفزع عند ما تفاجأ بحالة كهذه الحالة.
قال القرطبي: فإن قيل: لم فزع داود وهو نبي، وقد قويت نفسه بالنبوة واطمأنت بالوحي، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة، وأظهر على يديه من الآيات، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟
قيل له: ذلك سبيل الأنبياء قبله، لم يأمنوا القتل والأذية، ومنهما كان يخاف.
ألا ترى إلى موسى وهارون- عليهما السلام- كيف قالا: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى - أى: فرعون-، فقال الله لهما: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى.. «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 170.(12/145)
ثم بين- سبحانه- ما قاله أولئك الخصوم لداود عند ما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع، فقال: قالُوا لا تَخَفْ. خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ..
والبغي: الجور والظلم ... وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إليه الفساد.
والشطط: مجاوزة الحد في كل شيء. يقال: شط فلان على فلان في الحكم واشتط.. إذا ظلم وتجاوز الحق إلى الباطل.
وقوله: خَصْمانِ خبر لمبتدأ محذوف أى: نحن خصمان. والجملة استئناف معلل للنهى في قولهم: «لا تخف» . أى: قالوا لداود: لا تخف، نحن خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحكم الحق، ولا تتجاوزه إلى غيره، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أى:
وأرشدنا إلى الطريق الوسط، وهو طريق الحق والعدل.
وإضافة سواء الصراط، من إضافة الصفة الى الموصوف.
ثم أخذا في شرح قضيتهما فقال أحدهما: «إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب» .
والمراد بالأخوة هنا: الأخوة في الدين أو في النسب، أو فيهما وفي غيرهما كالصحبة والشركة.
والنعجة: الأنثى من الضأن. وتطلق على أنثى البقر.
وقوله: أَكْفِلْنِيها أى: ملكني إياها، وتنازل لي عنها، بحيث تكون تحت كفالتى وملكيتى كبقية النعاج التي عندي، ليتم عددها مائة.
وقوله: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى: غلبني في المحاجة والمخاطبة لأنه أفصح وأقوى منى.. يقال: فلان عز فلانا في الخطاب، إذا غلبه. ومنه قولهم في المثل: من عزّ بزّ. أى:
من غلب غيره سلبه حقه. أى: قال أحدهما لداود- عليه السلام-: إن هذا الذي يجلس معى للتحاكم أمامك أخى. وهذا الأخ له تسع وتسعون نعجة، أما أنا فليس لي سوى نعجة واحدة، فطمع في نعجتى وقال لي: «أكفلنيها» أى: ملكنيها وتنازل عنها «وعزنى في الخطاب» .
أى: وغلبني في مخاطبته لي، لأنه أقوى وأفصح منى.
وأمام هذه القضية الواضحة المعالم، وأمام سكوت الأخ المدعى عليه أمام أخيه المدعى،(12/146)
وعدم اعتراضه على قوله.. أمام كل ذلك. لم يلبث أن قال داود في حكمه: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ...
واللام في قوله: لَقَدْ ... جواب لقسم محذوف.
وإضافة «سؤال» إلى «نعجتك» من إضافة المصدر إلى مفعوله، والفاعل محذوف.
أى: بسؤاله، كما في قوله- تعالى-: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أى: من دعائه.
وقوله نِعاجِهِ متعلق بسؤال على تضمينه معنى الضم.
أى: قال داود- عليه السلام- بعد فراغ المدعى من كلامه، وبعد إقرار المدعى عليه بصدق أخيه فيما ادعاه- والله إن كان ما تقوله حقا- أيها المدعى- فإن أخاك في هذه الحالة يكون قد ظلمك بسبب طلبه منك أن تتنازل له عن نعجتك لكي يضمها إلى نعاجه الكثيرة.
وإنما قلنا إن داود- عليه السلام- قد قال ذلك بعد إقرار المدعى عليه بصحة كلام المدعى، لأنه من المعروف أن القاضي لا يحكم إلا بعد سماع حجة الخصوم أو الخصمين حتى يتمكن من الحكم بالعدل.
ولم يصرح القرآن بأن داود- عليه السلام- قد قال حكمه بعد سماع كلام المدعى عليه، لأنه مقرر ومعروف في كل الشرائع، وحذف ما هو مقرر ومعلوم جائز عند كل ذي عقل سليم.
ثم أراد داود- عليه السلام- وهو الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب- أراد أن يهون المسألة عن نفس المشتكى، وأن يخفف من وقع ما قاله أخوه الغنى له، وما فعله معه، فقال:
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ....
أى: قال داود للمشتكى- على سبيل التسلية له-: وإن كثيرا من الخلطاء، أى الشركاء- جمع خليط، وهو من يخلط ماله بمال غيره.
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أى: ليعتدى بعضهم على بعض، ويطمع بعضهم في مال الآخر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا يفعلون ذلك لقوة إيمانهم، ولبعدهم عن كل ما لا يرضى خالقهم. فالجملة الكريمة منصوبة المحل على الاستثناء، لأن الكلام قبلها تام موجب.
وقوله: وَقَلِيلٌ ما هُمْ بيان لقلة عدد المؤمنين الصادقين الذين يعدلون في أحكامهم.(12/147)
ولفظ «قليل» خبر مقدم و «ما» مزيدة للإبهام وللتعجب من قلتهم. و «هم» مبتدأ مؤخر.
فكأنه- سبحانه- يقول: ما أقل هؤلاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويحرصون على إعطاء كل ذي حق حقه، والجملة الكريمة اعتراض تذييلى.
وبهذا نرى أن داود- عليه السلام- قد قضى بين الخصمين، بما يحق الحق ويبطل الباطل.
ثم بين- سبحانه- ما حاك بنفس داود- عليه السلام- بعد أن دخل عليه الخصمان، وبعد أن حكم بينهما بالحكم السابق فقال: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ.
والظن معناه: ترجيح أحد الأمرين على الآخر.
وفتناه: بمعنى امتحناه واختبرناه وابتليناه، مأخوذ من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار.
أى: وظن داود- عليه السلام- أن دخول الخصمين عليه بهذه الطريقة، إنما هو لأجل الاعتداء عليه. وأن ذلك لون من ابتلاء الله- تعالى- له، وامتحانه لقوة إيمانه، ولكن لما لم يتحقق هذا الظن، وإنما الذي تحقق هو القضاء بينهما بالعدل، استغفر ربه من ذلك الظن، «وخر راكعا» أى: ساجدا لله- تعالى- وعبر عنه بالركوع لأنه في كل منهما انحناء وخضوع لله- عز وجل- «وأناب» أى: ورجع داود إلى الله- تعالى- بالتوبة وبالمداومة على العبادة والطاعة.
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ... يعود إلى الظن الذي استغفر منه ربه، وهو ظنه بأن حضور الخصمين إليه بهذه الطريقة غير المألوفة، القصد منها الاعتداء عليه، فلما ظهر له أنهما حضرا إليه في خصومة بينهما ليحكم فيها، استغفر ربه من ذلك الظن السابق، فغفر الله- تعالى- له.
فقوله: - تعالى-: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أى: فغفرنا له ذلك الظن الذي استغفر منه..
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أى: لقربة منا ومكانة سامية وَحُسْنَ مَآبٍ أى: وحسن مرجع في الآخرة وهو الجنة.
ثم ختم- سبحانه- هذه القصة، بتلك التوجيهات الحكيمة، والآداب القويمة، التي وجهها- سبحانه- إلى كل حاكم في شخص داود- عليه السلام- فقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ... والخليفة: هو من يخلف غيره وينوب منابه. فهو فعيل بمعنى(12/148)
فاعل. والتاء فيه للمبالغة. أى: يا داود إنا جعلناك- بفضلنا ومنتنا- خليفة ونائبا عنا في الأرض، لتتولى سياسة الناس، ولترشدهم إلى الصراط المستقيم.
والجملة الكريمة مقولة لقول محذوف معطوفة على ما سبقتها. أى: فغفرنا له ذلك وقلنا له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض. ويصح أن تكون مستأنفة لبيان مظاهر الزلفى والمكانة الحسنة التي وهبها- سبحانه- لداود؟ حيث جعله خليفة في الأرض.
والفاء في قوله- تعالى-: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ... للتفريع، أو هي جواب لشرط مقدر. والهوى: ميل النفس إلى رغباتها بدون تحر للعدل والصواب.
أى: إذا كان الأمر كما أخبرناك فاحكم- يا داود- بين الناس بالحكم الحق الذي أرشدك الله- تعالى- إليه، وواظب على ذلك في جميع الأزمان والأحوال: ولا تتبع هوى النفس وشهواتها، فإن النفس أمارة بالسوء.
وقوله- سبحانه- فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... بيان للمصير السيئ الذي يؤدى إليه اتباع الهوى في الأقوال والأحكام.
وقوله فَيُضِلَّكَ منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية، على أنه جواب للنهى السابق. أى: ولا تتبع الهوى، فإن اتباعك له، يؤدى بك إلى الضلال عن طريق الحق، وعن مخالفة شرع الله- تعالى- ودينه.
ثم بين- سبحانه- عاقبة الذين يضلون عن سبيله فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ.
أى: إن الذين يضلون عن دين الله وعن طريقه وشريعته، بسبب اتباعهم للهوى، لهم عذاب شديد لا يعلم مقداره إلا الله- تعالى- لأنهم تركوا الاستعداد ليوم الحساب، وما فيه من ثواب وعقاب.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- سمو منزلة داود- عليه السلام- عند ربه، فقد افتتحت هذه الآيات، بأن أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يتذكر ما حدث لأخيه داود. ليكون هذا التذكير تسلية له عما أصابه من المشركين وعونا له على الثبات والصبر.
ثم وصف- سبحانه- عبده داود بأنه كان قويا في دينه، ورجاعا إلى ما يرضى ربه، وأنه- سبحانه- قد وهبه نعما عظيمة، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب.
ثم ختمت هذه الآيات- أيضا- بالثناء على داود- عليه السلام- حيث قال(12/149)
- سبحانه-: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. وببيان أنه- تعالى- قد جعله خليفة في الأرض.
ومن الأحاديث التي وردت في فضله- عليه السلام- ما أخرجه البخاري في تاريخه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا ذكر داود، وحدث عنه قال: «كان أعبد البشر» .
وأخرجه الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لا ينبغي لأحد أن يقول إنى أعبد من داود» .
2- أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب، قصة حقيقية، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس في شأن غنم لهما، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التي حكاها القرآن الكريم، فزع منها داود- عليه السلام- وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه، وأن الله- تعالى- يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث.
فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه، وإنما يريدان التحاكم إليه في مسألة معينة، استغفر ربه من ذلك الظن السابق- أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله- تعالى- له..
والذي يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا في تأييد هذا المعنى.
قال أبو حيان ما ملخصه- بعد أن ذكر جملة من الآراء-: والذي أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه، إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومته، وبرز منهم اثنان للتحاكم ... وأن ما ظنه غير واقع، استغفر من ذلك الظن، حيث اختلف ولم يقع مظنونه، وخر ساجدا منيبا إلى الله- تعالى- فغفر الله له ذلك الظن، ولذلك أشار بقوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ولم يتقدم سوى قوله- تعالى-: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا، ولا يمكن وقوعهم في شيء منها، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم، فما حكى الله- تعالى- في كتابه. يمر على ما أراده- تعالى-، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة، طرحناه.. «1» .
2- ومع أن ما ذكرناه سابقا، وما نقلناه عن الإمام أبى حيان، هو المعنى الظاهر من الآيات، وهو الذي تطمئن إليه النفس، لأنه يتناسب مع مكانة داود- عليه السلام-، ومع ثناء الله- تعالى- عليه وتكريمه له.
__________
(1) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 7 ص 393.(12/150)
أقول مع كل ذلك، إلا أننا وجدنا كثيرا من المفسرين عند حديثهم عن قصة الخصوم الذين تسوروا على داود المحراب، يذكرون قصصا في نهاية النكارة، وأقوالا في غاية البطلان والفساد.
فمثلا نرى ابن جرير وغيره يذكرون قصة مكذوبة ملخصها: «أن داود- عليه السلام- كان يصلى في محرابه.. ثم تطلع من نافذة المكان الذي كان يصلى فيه، فرأى امرأة جميلة فأرسل إليها فجاءته، فسألها عن زوجها فأخبرته بأن زوجها، اسمه «أوريا» وأنه خرج مع الجيش الذي يحارب الأعداء.. فأمر داود- عليه السلام- قائد الجيش أن يجعله في المقدمة لكي يكون عرضة للقتل.. وبعد قتله تزوج داود بتلك المرأة.. «1» .
ونرى صاحب الكشاف بعد أن يذكر هذه القصة، ثم يعلق عليها بقوله: «فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدّث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أبناء المسلمين، فضلا عن بعض أعلام الأنبياء..» نراه يذكر معها قصصا أخرى ملخصها: أن داود- عليه السلام- لم يعمل على قتل «أوريا» وإنما سأله أن يتنازل له عن امرأته، فانصاع لأمره وتنازل له عنها.. أو أنه خطبها بعد أن خطبها «أوريا» . فآثر أهلها داود على «أوريا» .
قال صاحب الكشاف: كان أهل زمان داود- عليه السلام- يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته، فيتزوجها إذا أعجبته، وكان لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها.. فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له «أوريا» . فأحبها، فسأله النزول عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل، فتزوجها، وهي أم سليمان- عليه السلام-.. وقيل: خطبها «أوريا» ثم خطبها داود فآثر أهلها داود على أوريا.. «2» .
والذي نراه أن هذه الأقوال وما يشبهها عارية عن الصحة، وينكرها النقل والعقل، ولا يليق بمؤمن أن يقبل شيئا منها..
ينكرها النقل: لأنها لم تثبت من طريق يعتد به، بل الثابت أنها مكذوبة.
قال ابن كثير: قد ذكر المفسرون هاهنا قصة، أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبى حاتم هنا حديثا لا يصح سنده، لأنه من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس- ويزيد وإن كان من الصالحين- لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة.. «3» .
__________
(1) راجع تفسير ابن جرير ج 23 ص 93، وتفسير القرطبي ج 15 ص 161.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 80.
(3) تفسير ابن كثير ج 7 ص 51.(12/151)
وقال السيوطي: القصة التي يحكونها في شأن المرأة وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل، أخرجها ابن أبى حاتم من حديث أنس مرفوعا، وفي إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف- عن ابن صخر، عن زيد الرقاشي، وهو ضعيف..
وقال البقاعي: وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود- وقد أخبرنى بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود- عليه السلام- لأن عيسى- عليه السلام- من ذريته، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه «1» .
إذا فهذه القصص وتلك الأقوال غير صحيحة من ناحية النقل، لأن رواتها معروفون بالضعف. وبالنقل عن الإسرائيليات.
ويروى أن الإمام عليا- رضى الله عنه- قال: «من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، وهو حد الفرية على الأنبياء» «2» .
وهي غير صحيحة من ناحية العقل، لأنه ليس من المعقول أن يمدح الله- تعالى- نبيه داود هذا المدح في أول الآيات وفي آخرها كما سبق أن أشرنا، ثم نرى بعد ذلك من يتهمه بأنه أعجب بامرأة، ثم تزوجها بعد أن احتال لقتل زوجها، بغير حق. أو طلب منه التنازل له عنها، أو خطبها على خطبته.
إن هذه الأفعال يتنزه عنها كثير من الناس الذين ليسوا بأنبياء، فكيف يفعلها واحد من أعلام الأنبياء. هو داود- عليه السلام-. الذي مدحه الله- تعالى- بالقوة في دينه.
وبكثرة الرجوع إلى ما يرضى الله- تعالى-، وبأنه- سبحانه- آتاه الحكمة وفصل الخطاب. وبأن له عند ربه «زلفى وحسن مآب» .
والخلاصة: أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة. لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل. بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا. لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء. الذين صانهم الله- تعالى- من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها.
قال الإمام ابن حزم ما ملخصه: «ما حكاه الله- تعالى- عن داود قول صادق صحيح.
لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولّدها اليهود.
وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك. مختصمين في نعاج من الغنم.
__________
(1) راجع تفسير القاسمى ج 14 ص 5088.
(2) راجع تفسير الكشاف ج 4 ص 81.(12/152)
ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء. فقد كذب على الله- تعالى- ما لم يقل، وزاد في القرآن ما ليس فيه.. لأن الله- تعالى- يقول: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فقال هو: لم يكونوا خصمين. ولا بغى بعضهم على بعض. ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة. ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له: أَكْفِلْنِيها ... «1» .
4- هذا: وهناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات. منها: أن استغفار داود- عليه السلام- إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزلة التي جعلت داود يستغفر ربه- إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر، فإنه لما قال له: «لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه..» فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل «2» .
والذي نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب، ولا يتناسب مع منزلة داود- عليه السلام- الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته، أن لا يحكم القاضي بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام الآخر.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟.
قلت: ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم.
ويروى أنه قال: أريد أخذها منه وأكمل نعاجى مائة فقال داود: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا. وأشار إلى طرف الأنف والجبهة.. «3» .
ومنهم من يرى، أن استغفار داود- عليه السلام- كان سببه: أن قوما من الأعداء أرادوا قتله، فتسوروا عليه المحراب، فلما دخلوا عليه لقصد قتله وجدوا عنده أقواما. فلم يستطيعوا تنفيذ ما قصدوه، وتصنعوا هذه الخصومة فعلم داود قصدهم، وعزم على الانتقام
__________
(1) راجع تفسير القاسمى ج 14 ص 5089.
(2) راجع تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 182.
(3) تفسير الكشاف ج 4 ص 87. [.....](12/153)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
منهم، ثم عفا عنهم، واستغفر ربه مما كان قد عزم عليه، لأنه كان يرى أن الأليق به العفو لا الانتقام «1» .
وهذا القول- وإن كان لا بأس به من حيث المعنى- إلا أن الرأى الذي سقناه سابقا، والذي ذهب إليه الإمام أبو حيان، أرجح وأقرب إلى ما هو ظاهر من معنى الآيات.
وملخصه: أن الخصومة حقيقية بين اثنين من البشر، واستغفار داود- عليه السلام- سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإيذائه، وأن هذا ابتلاء من الله- تعالى- ابتلاه به، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم في خصومة، فاستغفر ربه من ذلك الظن. فغفر الله- تعالى- له.
ولعلنا بهذا البيان نكون قد وفقنا للصواب، في تفسير هذه الآيات الكريمة، التي ذكر بعض المفسرين عند تفسيرها أقوالا وقصصا لا يؤيدها عقل أو نقل، ولا يليق بمسلم أن يصدقها، لأنها تتنافى مع عصمة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- الذين اختارهم الله- تعالى- لتبليغ دعوته، وحمل رسالته. وإرشاد الناس إلى إخلاص العبادة له- سبحانه- وإلى مكارم الأخلاق، وحميد الخصال.
ثم بين- سبحانه- أنه لم يخلق السموات والأرض عبثا، وأن حكمته اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار، وأن هذا القرآن قد أنزله- سبحانه- لتدبير آياته، والعمل بتوجيهاته فقال- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 186.(12/154)
والمراد بالباطل في قوله- تعالى-: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ...
العبث واللهو واللعب وما يخالف الحق، والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير أن يوم القيامة حق، وأن كفر الكافرين به ضلال وجهل. وقوله باطِلًا صفة لمصدر محذوف، أو مفعول لأجله. أى: وما خلقنا- بقدرتنا التي لا يعجزها شيء- السموات والأرض وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله- تعالى- ... ما خلقنا ذلك خلقا باطلا لا حكمة فيه، أو ما خلقناه من أجل متابعة الهوى وترك العدل والصواب.
وإنما خلقنا هذا الكون خلقا مشتملا على الحكم الباهرة، وعلى المصالح الجمة والأسرار البليغة، والمنافع التي لا يحصيها العد، والهيئات والكيفيات التي تهدى من يتفكر فيها إلى اتباع الحق والرشاد.
واسم الإشارة في قوله- سبحانه-: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... يعود إلى ما نفاه- سبحانه- من خلقه للسموات والأرض وما بينهما على سبيل اللهو والعبث.
أى: نحن ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا خلقا مشتملا على الحكم الباهرة..
ولكن الذين كفروا هم الذين يظنون ويعتقدون أننا خلقنا هذه الكائنات من أجل الباطل واللهو واللعب.. وسبب هذا الظن والاعتقاد الفاسد منهم، كفرهم بالحق، وجحودهم ليوم القيامة وما فيه من حساب وثواب وعقاب، وإعراضهم عما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم من هدايات وإرشادات.
وقوله- تعالى-: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ بيان للعاقبة السيئة التي حلت بهم بسبب هذا الظن الفاسد.. فالفاء: للتفريع على ظنهم الباطل والويل: الهلاك والدمار.
ومِنَ ابتدائية أو بيانية أو تعليلية.
أى: القول بأن خلق هذا الكون خال من الحكمة، هو ظن واعتقاد الذين كفروا وحدهم، ومادام هذا مظنونهم ومعتقدهم فهلاك لهم كائن من النار التي نسلطها عليهم فتحرق أجسادهم، وتجعلهم يذوقون العذاب المهين.
وقال- سبحانه- فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... بالإظهار في مقام الإضمار، للإشعار بعلية صلة الموصول للحكم أى: أن هذا الويل والهلاك كائن لهم بسبب كفرهم.
وقال- سبحانه-: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ولم يقل للذين ظنوا للإشارة إلى أن ظنهم القبيح هذا، ما هو إلا نتيجة كفرهم وجحودهم للحق.
ثم بين- سبحانه- أن حكمته قد اقتضت استحالة المساواة بين الأخيار والفجار، فقال(12/155)
- تعالى-: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ.
و «أم» في الآية الكريمة منقطعة بمعنى بل الإضرابية، والهمزة للاستفهام الإنكارى.
والإضراب هنا انتقالي من تقرير أن هذا الكون لم يخلقه الله- تعالى- عبثا إلى تقرير استحالة المساواة بين المؤمنين والكافرين.
والمعنى: وكما أننا لم نخلق هذا الكون عبثا، كذلك اقتضت حكمتنا وعدالتنا.. استحالة المساواة- أيضا- بين المتقين والفجار.
وذلك لأن المؤمنين المتقين، قد قدموا لنا في دنياهم ما يرضينا، فكافأناهم على ذلك بما يرضيهم، ويسعدهم ويشرح صدورهم، ويجعلهم يوم القيامة خالدين في جنات النعيم.
أما المفسدون الفجار، فقد قدموا في دنياهم ما يغضبنا ويسخطنا عليهم، فجازيناهم على ذلك بما يستحقون من عذاب السعير.
وربك- أيها العاقل- «لا يضيع أجر من أحسن عملا» «ولا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون» .
فالمقصود بالآية الكريمة إعلان استحالة التسوية في الآخرة بين المؤمنين والكافرين، لأن التسوية بينهما ظلم، وهو محال عليه- تعالى-، وما كان البعث والجزاء والثواب والعقاب يوم القيامة إلا ليجزي- سبحانه- الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
ومن الآيات التي تشبه في معناها هذه الآية قوله- تعالى-: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
«1» .
ثم مدح- سبحانه- القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلم وبين حكمة إنزاله، فقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
وقوله: كِتابٌ خبر لمبتدأ محذوف. والمقصود به القرآن الكريم.
أى: هذا كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ بقدرتنا ورحمتنا- أيها الرسول الكريم، ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى: كثير الخيرات والبركات..
وجعلناه كذلك لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أى ليتفكروا فيما اشتملت عليه آياته من أحكام
__________
(1) سورة الجاثية الآية 21.(12/156)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
حكيمة، وآداب قويمة، وتوجيهات جامعة لما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم..
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أى: وليتعظ أصحاب العقول السليمة بما جاء فيه من قصص وعبر عن السابقين، كما قال- سبحانه-: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «1» .
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من قصة سليمان- عليه السلام- فمدحه لكثرة رجوعه إلى الله، وذكر بعض النعم التي منحها إياه، كما ذكر اختباره له. وكيف أن سليمان- عليه السلام- طلب من ربه المغفرة والملك، فأعطاه- سبحانه- ما طلبه. قال- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
في هذه الآيات الكريمة مسألتان ذكر بعض المفسرين فيهما كلاما غير مقبول.
أما المسألة الأولى فهي مسألة: عرض الخيل على سيدنا سليمان والمقصود به.
__________
(1) سورة يوسف آية 111.(12/157)
وأما المسألة الثانية فهي مسألة المقصود بقوله- تعالى-: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ..
وسنسير في تفسير هذه الآيات على الرأى الذي تطمئن إلى صحته نفوسنا، ثم نذكر بعده بعض الأقوال التي قيلت في هذا الشأن، ونرد على ما يستحق الرد منه، فنقول- وبالله التوفيق-:
المخصوص بالمدح في قوله- تعالى-: نِعْمَ الْعَبْدُ محذوف، والمقصود به سليمان- عليه السلام-. أى: ووهبنا- بفضلنا وإحساننا- لعبدنا داود ابنه سليمان- عليهما السلام- ونعم العبد سليمان في دينه وفي خلقه وفي شكره لخالقه- تعالى-.
وجملة «إنه أواب» تعليل لهذا المدح من الله- تعالى- لسليمان- عليه السلام- أى:
إنه رجاع إلى ما يرضى الله- تعالى- مأخوذ من آب الرجل إلى داره، إذا رجع إليها.
و «إذ» في قوله: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ منصوب بفعل تقديره:
اذكر، و «عليه» متعلق بعرض و «العشى» يطلق على الزمان الكائن من زوال الشمس إلى آخر النهار. وقيل إلى مطلع الفجر.
والصافنات: جمع صافن، والصافن من الخيل: الذي يقف على ثلاثة أرجل ويرفع الرابعة فيقف على مقدم حافرها.
والجياد: جمع جواد، وهو الفرس السريع العدو، الجيد الركض، سواء أكان ذكرا أم أنثى، يقال: جاد الفرس يجود جودة فهو جواد، إذا كان سريع الجري، فاره المظهر..
أى: اذكر- أيها العاقل- ما كان من سليمان- عليه السلام- وقت أن عرض عليه بالعشي الخيول الجميلة الشكل. السريعة العدو..
قال صاحب الكشاف: فإن قلت. ما معنى وصفها بالصفون؟ قلت: الصفون لا يكاد يوجد في الهجن، وإنما هو في- الخيل- العراب الخلص وقيل: وصفها بالصفون والجودة، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين: واقفة وجارية، يعنى إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها.. «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما قاله سليمان- عليه السلام- خلال استعراضه للخيول الصافنات الجياد على سبيل الشكر لربه، فقال- تعالى-: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 91.(12/158)
والخير: يطلق كثيرا على المال الوفير، كما في قوله- تعالى-: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. والمراد به هنا: الخيل الصافنة الجيدة، والعرب تسمى الخيل خيرا، لتعلق الخير بها، روى البخاري عن أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وعَنْ هنا تعليلية. والمراد ب ذِكْرِ رَبِّي طاعته وعبادته والضمير في قوله حَتَّى تَوارَتْ يعود إلى الخيل الصافنات الجياد، والمراد بالحجاب: ظلام الليل الذي يحجب الرؤية.
والمعنى: فقال سليمان وهو يستعرض الخيل أو بعد استعراضه لها: إنى أحببت استعراض الصافنات الجياد، وأحببت تدريبها وإعدادها للجهاد، من أجل ذكر ربي وطاعته وإعلاء كلمته، ونصرة دينه، وقد بقيت حريصا على استعراضها وإعدادها للقتال في سبيل الله، حتى توارت واختفت عن نظري بسبب حلول الظلام الذي يحجب الرؤية رُدُّوها عَلَيَّ أى:
قال سليمان لجنده ردوا الصافنات الجياد علىّ مرة أخرى، لأزداد معرفة بها، وفهما لأحوالها..
والفاء في قوله- تعالى-: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ فصيحة تدل على كلام محذوف يفهم من السياق. و «طفق» فعل من أفعال الشروع يرفع الاسم وينصب الخبر، واسمه ضمير يعود على سليمان. و «مسحا» مفعول مطلق لفعل محذوف. والسوق والأعناق: جمع ساق وعنق.
أى: قال سليمان لجنده: ردوا الصافنات الجياد علىّ، فردوها عليه، فأخذ في مسح سيقانها وأعناقها إعجابا بها، وسرورا بما هي عليه من قوة هو في حاجة إليها للجهاد في سبيل الله- تعالى-.
هذا هو التفسير الذي تطمئن إليه نفوسنا لهذه الآيات، لخلوه من كل ما يتنافى مع سمو منزلة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
ولكن كثيرا من المفسرين نهجوا نهجا آخر، معتمدين على قصة ملخصها: أن سليمان- عليه السلام- جلس يوما يستعرض خيلا له، حتى غابت الشمس دون أن يصلى العصر، فحزن لذلك وأمر بإحضار الخيل التي شغله استعراضها عن الصلاة، فأخذ في ضرب سوقها وأعناقها بالسيف، قربة لله- تعالى-.
فهم يرون أن الضمير في قوله- تعالى- حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ يعود إلى الشمس.
أى: حتى استترت الشمس بما يحجبها عن الأبصار.
وأن المراد بقوله- تعالى- فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ الشروع في ضرب(12/159)
سوق الخيل وأعناقها بالسيف لأنها شغلته عن صلاة العصر.
قال الجمل: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أى: جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف. هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين «1» .
ولم يرتض الإمام الرازي- رحمه الله- هذا التفسير الذي عليه أكثر المفسرين، وإنما ارتضى أن الضمير في تَوارَتْ يعود إلى الصافنات الجياد وأن المقصود بقوله- تعالى-:
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ الإعجاب بها والمسح عليها بيده حبّا لها..
فقد قال ما ملخصه: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه كذلك في دين الإسلام، ثم إن سليمان- عليه السلام- احتاج إلى الغزو. فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها. وذكر أنى لا أحبها لأجل الدنيا وإنما أحبها لأمر الله، وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. ثم إنه- عليه السلام- أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أى: غابت عن بصره.
ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها.
والغرض من ذلك: التشريف لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو ... وإظهار أنه خبير بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.. «2» .
وقال بعض العلماء نقلا عن ابن حزم: تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة، خرافة موضوعة.. قد جمعت أفانين من القول لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها. وإتلاف مال منتفع به بلا معنى. ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل. ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها..
وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير، من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها.
ثم أمر بردها. فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده، برابها، وإكراما لها، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره، وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل، وتعطيل الصلاة.. «3» .
__________
(1) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 573 وغيرها من كتب التفسير.
(2) راجع تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 192 فقد أفاض وأجاد في تفسيره للآيات.
(3) راجع تفسير القاسمى ج 14 ص 5101.(12/160)
والحق أن ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن سليمان- عليه السلام- شغل باستعراض الخيل عن صلاة العصر، وأنه أمر بضرب سوقها وأعناقها.. لا دليل عليه لا من النقل الصحيح ولا من العقل السليم..
وأن التفسير المقبول للآية هو ما ذكره الإمام الرازي والإمام ابن حزم، وما سبق أن ذكرناه من أن المقصود بقوله- تعالى-: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ إنما هو تكريمها..
وأن الضمير في قوله: حَتَّى تَوارَتْ يعود إلى الصافنات لأنه أقرب مذكور.
ثم تحدثت الآيات الكريمة بعد ذلك عن فتنة سليمان- عليه السلام- فقال- تعالى-:
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ...
وقوله: فَتَنَّا من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار والامتحان. تقول: فتنت الذهب بالنار، أى: اختبرته لتعلم جودته..
قال الآلوسى: وأظهر ما قيل في فتنة سليمان- عليه السلام- أنه قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. تأتى كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله- تعالى- ولم يقل إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل.
وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة مرفوعا، وفيه: «فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا» .
ولكن الذي في صحيح البخاري أربعين بدل سبعين. وأن الملك قال له: قل إن شاء الله، فلم يقل- أى فلم يقل ذلك على سبيل النسيان..
والمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولدته له. ومعنى إلقائه على كرسيه: وضع القابلة له عليه ليراه «1» .
وقد ذكروا أن سليمان: إنما قال: «تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله» على سبيل التمني للخير، وطلب الذرية الصالحة المجاهدة في سبيل الله.
ومعنى «فلم يقل» أى: بلسانه على سبيل النسيان، والنسيان معفو عنه، إلا أن سليمان- عليه السلام- لسمو منزلته اعتبر ذلك ذنبا يستحق الاستغفار منه، فقال بعد ذلك «رب اغفر لي ... » .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 198.(12/161)
وقوله: «لأطوفن الليلة ... » كناية عن الجماع. قالوا: ولعل المقصود. طوافه عليهن ابتداء من تلك الليلة، ولا مانع من أن يستغرق طوافه بهن عدة ليال.
وقد استنبط العلماء من هذا الحديث أن فتنة سليمان، هي تركه تعليق ما طلبه على مشيئة الله، وأن عقابه على ذلك كان عدم تحقق ما طلبه.
وهذا الرأى في تقديرنا هو الرأى الصواب في تفسير الآية الكريمة لأنه مستند إلى حديث صحيح ثابت في الصحيحين وفي غيرهما، ولأنه يتناسب مع عصمة الأنبياء وسمو منزلتهم، فإن النسيان الذي لا يترتب عليه ترك شيء من التكاليف التي كلفهم الله- تعالى- بها جائز عليهم.
وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله- تعالى-: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن الوحى مكث فترة لم ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه نسى أن يقول- عند ما سأله المشركون عن بعض الأشياء إن شاء الله، وقال سأجيبكم على ما سألتمونى عنه غدا. «1» .
ومن العلماء من آثر عدم تعيين الفتنة التي اختبر الله- تعالى- بها سيدنا سليمان- عليه السلام-، بتركه المشيئة، فقال بعد أن ذكر الحديث السابق: وجائز أن تكون هذه الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق، ولكن هذا مجرد احتمال.
ثم قال: وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان- عليه السلام- في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان، كما يبتلى الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم. ويبعد خطاهم عن الزلل، وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع. وطلب المغفرة، واتجه إلى الله بالرجاء والدعاء.. «2» .
ونرى أنه رأى لا بأس به، وإن كنا نؤثر عليه الرأى السابق لاستناده في استنباط المراد من الفتنة هنا إلى الحديث الصحيح.
هذا. وهناك أقوال أخرى ذكروها في المقصود بفتنة سليمان وبالجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان، وهي أقوال ساقطة، تتنافى مع عصمة الأنبياء- عليهم السلام-.
ومن هذه الأقوال قول بعضهم: إن الجسد الذي ألقى على كرسي سليمان، عبارة عن شيطان تمثل له في صورة إنسان، ثم أخذ من سليمان خاتمه الذي كان يصرف به ملكه. وقعد
__________
(1) راجع تفسيرنا لسورة الكهف ص 498.
(2) راجع تفسير في ظلال القرآن ج 23 ص 100.(12/162)
ذلك الشيطان على كرسي سليمان، ولم يعد لسليمان ملكه إلا بعد أن عثر على خاتمه.
وقول بعضهم: إن سبب فتنة سليمان- عليه السلام- هو سجود إحدى زوجاته لتمثال أبيها الذي قتله سليمان في إحدى الحروب، وقد بقيت على هذه الحال هي وجواريها أربعين ليلة، دون أن تعلم سليمان بذلك.
وقول بعضهم: إن سبب فتنة سليمان أنه ولد له ولد فخاف عليه من الشياطين، فأمر السحاب بحفظه وتغذيته. ولكن هذا الولد وقع ميتا على كرسي سليمان، فاستغفر سليمان ربه لأنه لم يعتمد عليه في حفظ ابنه. إلى غير ذلك من الأقوال الساقطة الباطلة، التي تتنافى مع عصمة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. وتتنافى- أيضا- مع كل عقل سليم، ولا مستند لها إلا النقل عن الإسرائيليات وعن القصاص الذين يأتون بقصص ما أنزل الله بها من سلطان «1» .
قال أبو حيان- رحمه الله-: نقل المفسرون في هذه الفتنة وفي إلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهي مما لا يحل نقلها، وهي إما من أوضاع اليهود، أو الزنادقة، ولم يبين الله- تعالى- الفتنة ما هي، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان.
وأقرب ما قيل فيه، أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال فيه: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة.. والجسد الملقى هو المولود شق رجل.. «2» .
وقوله- سبحانه-: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ...
بيان لما قاله سليمان- عليه السلام- بعد الابتلاء والاختبار من الله- تعالى- له.
أى: قال سليمان- عليه السلام- يا رب اغفر لي ما فرط منى من ذنوب وزلات..
وَهَبْ لِي مُلْكاً عظيما لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أى: لا يحصل مثله لأحد من الناس من بعدي إِنَّكَ أَنْتَ يا إلهى الْوَهَّابُ أى: الكثير العطاء لمن تريد عطاءه.
وقدم سليمان- عليه السلام- طلب المغفرة على طلب الملك، للإشارة إلى أنها هي الأهم عنده.
قال الإمام الرازي- رحمه الله-: دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم الدين على مهم الدنيا، لأن سليمان طلب المغفرة أولا، ثم بعدها طلب المملكة، وأيضا الآية تدل على أن
__________
(1) راجع تفسير ابن جرير ج 23 ص 101. والآلوسى ج 23 ص 200 وغيرهما.
(2) راجع تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 7 ص 397.(12/163)
طلب المغفرة من الله- تعالى- سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا، لأن سليمان طلب المغفرة أولا، ثم توسل به إلى طلب المملكة «1» .
ولا يقال كيف طلب سليمان- عليه السلام- الدنيا والملك مع حقارتهما إلى جانب الآخرة وما فيها من نعيم دائم لأن سليمان- عليه السلام- ما طلب ذلك إلا من أجل خدمة دينه وإعلاء كلمة الله في الأرض، والتمكن من أداء الحقوق لأصحابها، ونشر العدالة بين الناس، وإنصاف المظلوم، وإعانة المحتاج. وتنفيذ شرع الله- تعالى- على الوجه الأكمل.
فهو- عليه السلام- لم يطلب الملك للظلم أو البغي.. وإنما طلبه للتقوى به على تنفيذ شريعة الله- تعالى- في الأرض.
ولقد وضح الإمام القرطبي هذا المعنى فقال: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا، مع ذمها من الله- تعالى- ... ؟
فالجواب: أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله- تعالى- وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده. والمحافظة على رسومه وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته ... وحوشي سليمان- عليه السلام- أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا. لأنه هو والأنبياء، أزهد خلق الله فيها، وإنما سأل مملكتها لله. كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك.
ومعنى قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أى: أن يسأله. فكأنه سأل منع السؤال بعده، حتى لا يتعلق به أمل أحد، ولم يسأل منع الإجابة.. «2» .
والفاء في قوله- تعالى-: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ للتفريع على ما تقدم من طلب سليمان من ربه أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
والتسخير: التذليل والانقياد. أى: دعانا- سليمان- عليه السلام والتمس منا أن نعطيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجبنا له دعاءه. وذللنا له الريح، وجعلناها منقادة لأمره بحيث تجرى بإذنه رخية لينة، إلى حيث يريدها أن تجرى.
وقوله: تَجْرِي حال من الريح. وقوله بِأَمْرِهِ من إضافة المصدر لفاعله. أى:
بأمره إياها. ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله- تعالى- في آية أخرى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ... «3» لأن المقصود من الآيتين بيان أن
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 196.
(2) تفسير القرطبي ج 15 ص 304. [.....]
(3) سورة الأنبياء الآية 81.(12/164)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
الريح تجرى بأمر سليمان، فهي تارة تكون لينة وتارة تكون عاصفة، وفي كلتا الحالتين هي تسير بأمره ورغبته.
وقوله: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ معطوف على الريح أي: سخرنا له الريح تجرى بأمره.. وسخرنا له الشياطين. بأن جعلناهم منقادين لطاعته، فمنهم من يقوم ببناء المبانى العظيمة التي يطلبها سليمان منهم. ومنهم الغواصون الذين يغوصون في البحار ليستخرجوا له منها اللؤلؤ والمرجان، وغير ذلك من الكنوز التي اشتملت عليها البحار.
وقوله- سبحانه-: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ معطوف على كل بناء، داخل معه في حكم البدل من الشياطين.
أى: أن الشياطين المسخرين لسليمان كان منهم البناءون، وكان منهم الغواصون، وكان منهم المقيدون بالسلاسل والأغلال، لتمردهم وكثرة شرورهم.
فمعنى «مقرنين» : مقرونا بعضهم ببعض بالأغلال والقيود. والأصفاد: جمع صفد وهو ما يوثق به الأسير من قيد وغلّ.
ثم بين- سبحانه- أنه أباح لسليمان- عليه السلام- أن يتصرف في هذا الملك الواسع كما يشاء فقال: هذا عَطاؤُنا أى: منحنا هذا الملك العظيم لعبدنا سليمان- عليه السلام- وقلنا له: هذا عطاؤنا لك فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ أى: فأعط من شئت منه. وأمسك عمن شئت. فأنت غير محاسب منا لا على العطاء ولا على المنع.
ثم بين- سبحانه- ما أعده لسليمان- عليه السلام- في الآخرة، فقال: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا أى في الآخرة لَزُلْفى لقربى وكرامة وَحُسْنَ مَآبٍ أى: وحسن مرجع إلينا يوم القيامة.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أيوب- عليه السلام- فذكرت نداءه لربه، واستجابة الله- تعالى- له وما وهبه من نعم جزاء صبره، فقال- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)(12/165)
قال الإمام الرازي: اعلم أن قصة أيوب هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، واعلم أن داود وسليمان كانا ممن أفاض الله عليه أصناف الآلاء والنعماء، وأيوب كان ممن خصه الله بأنواع البلاء، والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار.
فكأن الله- تعالى- يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلم: اصبر على سفاهة قومك، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا من داود وسليمان، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنظم لأحد، وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره.. «1» .
وأيوب- عليه السلام- هو ابن أموص بن برزاح، وينتهى نسبه إلى إسحاق بن ابراهيم- عليهما السلام- وكانت بعثته على الراجح بين موسى ويوسف- عليهما السلام-.
وكان صاحب أموال كثيرة، وله أولاد.. فابتلى في ماله وولده وجسده، وصبر على كل ذلك صبرا جميلا، فكافأه الله- تعالى- على صبره، بأن أجاب دعاءه، وآتاه أهله ومثلهم معهم..
وقوله- سبحانه-: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ... معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ....
و «النّصب» - بضم فسكون- وقرأ حفص ونافع- بضم النون والصاد: - التعب والمشقة مأخوذ من قولهم أنصبنى الأمر، إذا شق عليه وأتعبه. والعذاب: الآلام الشديدة التي يحس بها الإنسان في بدنه. أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- حال أخيك أيوب- عليه السلام- حين دعا ربه- تعالى- فقال: يا رب أنت تعلم أنى مسنى الشيطان بالهموم الشديدة، وبالآلام المبرحة التي حلت بجسدي فجعلتني في نهاية التعب والمرض.
وجمع- سبحانه- في بيان ما أصابه بين لفظي النصب والعذاب، للإشارة إلى أنه قد أصيب بنوعين من المكروه: الغم الشديد بسبب زوال الخيرات التي كانت بين يديه، وهو
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 198.(12/166)
ما يشير إليه لفظ «النصب» والألم الكثير الذي حل بجسده بسبب الأمراض والأسقام، والعلل، وهو ما يشير إليه لفظ «العذاب» ..
ونسب ما مسه من نصب وعذاب إلى الشيطان تأدبا منه مع ربه- عز وجل- حيث أبى أن ينسب الشر إليه- سبحانه-، وإن كان الكل من خلق الله- تعالى-.
وفي هذا النداء من أيوب لربه، أسمى ألوان الأدب والإجلال، إذ اكتفى في تضرعه بشرح حاله دون أن يزيد على ذلك، ودون أن يقترح على خالقه- عز وجل- شيئا معينا، أو يطلب شيئا معينا.
قال صاحب الكشاف: ألطف أيوب- عليه السلام- في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة.. ولم يصرح بالمطلوب.
ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت له: يا أمير المؤمنين، مشت جرذان- أي فئران- بيتي على العصا!! فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم لأجعلنها تثب وثب الفهود، وملأ بيتها حبا «1» ..
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في سورة الأنبياء: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وقد ذكر بعض المفسرين هنا قصصا وأقوالا في غاية السقوط والفساد، حيث ذكروا أن أيوب- عليه السلام- مرض زمنا طويلا، وأن الديدان تناثرت من جسده، وأن لحمه قد تمزق «2» .
وهذه كلها أقوال باطلة، لأن الله- تعالى- عصم أنبياءه من الأمراض المنفرة، التي تؤدى إلى ابتعاد الناس عنهم، سواء أكانت أمراضا جسدية أم عصبية أم نفسية..
والذي يجب اعتقاده أن الله- تعالى- قد ابتلى عبده أيوب ببعض الأمراض التي لا تتنافى مع منصب النبوة، وقد صبر أيوب على ذلك حتى ضرب به المثل في الصبر، فكانت عاقبة صبره أن رفع الله- تعالى- عنه الضر والبلاء، وأعطاه من فضله الكثير من نعمه.
وقوله- سبحانه-: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ حكاية لما قيل له بعد ندائه لربه، أو مقول لقول محذوف معطوف على قوله نادى.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 130.
(2) راجع على سبيل المثال تفسير الآلوسى ج 23 ص 306، والقرطبي ج 15 ص 208.(12/167)
وقوله: ارْكُضْ بمعنى الدفع والتحريك للشيء. يقال: ركض فلان الدابة برجله إذا دفعها وحركها بها.
والمغتسل: اسم للمكان الذي يغتسل فيه، والمراد به هنا: الماء الذي يغتسل به.
وقوله: هذا مُغْتَسَلٌ مقول لقول محذوف.
والمعنى: لقد نادانا عبدنا أيوب بعد أن أصابه من الضر ما أصابه، والتمس منا الرحمة والشفاء مما نزل به من مرض، فاستجبنا له دعاءه، وأرشدناه الى الدواء، بأن قلنا له:
«اركض برجلك» أى: اضرب بها الأرض، فضربها فنبعت من تحت رجله عين الماء، فقلنا له: هذا الماء النابع من العين إذا اغتسلت به وشربت منه، برئت من الأمراض، ففعل ما أمرناه به، فبرئ بإذننا من كل داء.
ثم بين- سبحانه- أنه بفضله وكرمه لم يكتف بمنح أيوب الشفاء من مرضه، بل أضاف إلى ذلك أن وهب له الأهل والولد فقال- تعالى-: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ.
والآية الكريمة معطوفة على كلام مقدر يفهم من السياق أى: استجاب أيوب لتوجيهنا، فاغتسل وشرب من الماء، فكشفنا عنه ما نزل به من بلاء، وعاد أيوب معافى، ولم نكتف بذلك بل وهبنا له أهله. ووهبنا له مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أى: بأن رزقناه بعد الشفاء أولادا كعدد الأولاد الذين كانوا معه قبل شفائه من مرضه، فصار عددهم مضاعفا.
وذلك كله رَحْمَةً مِنَّا أى من أجل رحمتنا به وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أى: ومن أجل أن يتذكر ذلك أصحاب العقول السليمة، فيصبروا على الشدائد كما صبر أيوب، ويلجئوا إلى الله- تعالى- كما لجأ، فينالوا منا الرحمة والعطاء الجزيل.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ الجمهور على أنه- تعالى- أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع له من تشتت منهم، وقيل- وإليه أميل- وهبه من كان حيا منهم، وعافاه من الأسقام، وأرغد لهم العيش فتناسلوا حتى بلغ عددهم عدد من مضى، ومثلهم معهم، فكان له ضعف ما كان، والظاهر أن هذه الهبة كانت في الدنيا «1» .
ثم بين- سبحانه- منة أخرى من المنن التي من بها على عبده أيوب فقال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ، إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 207.(12/168)
والجملة الكريمة معطوفة على قوله قبل ذلك: ارْكُضْ أو على وَهَبْنا بتقدير:
وقلنا له.
والضغث في اللغة: القبضة من الحشيش اختلط فيها الرطب باليابس. وقيل: هي قبضة من عيدان مختلفة يجمعها أصل واحد.
والحنث: يطلق على الإثم وعلى الخلف في اليمين.
والآية الكريمة تفيد أن أيوب- عليه السلام- قد حلف أن يضرب شيئا وأن عدم الضرب يؤدى إلى حنثه في يمينه، أى: إلى عدم وفائه فيما حلف عليه، فنهاه الله- تعالى- عن الحنث في يمينه، وأوجد له المخرج الذي يترتب عليه البر في يمينه دون أن يتأذى المضروب بأى أذى يؤلمه.
وقد ذكروا فيمن وقع عليه الضرب وسبب هذا الضرب، روايات لعل أقربها إلى الصواب، أن أيوب أرسل امرأته في حاجة له فأبطأت عليه، فأقسم أنه إذا برىء من مرضه ليضربنها مائة ضربة، وبعد شفائه رخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة- وهي المعبر عنها بالضغث- وبها مائة عود، ثم يضرب بها مرة واحدة، وبذلك يكون قد جمع بين الوفاء بيمينه، وبين الرحمة بزوجته التي كانت تحسن خدمته خلال مرضه، وتقوم بواجبها نحوه خير قيام. والمعنى: وهبنا له بفضلنا ورحمتنا أهله ومثلهم معهم، وقلنا له بعد شفائه خذ بيدك حزمة صغيرة من الحشيش فيها مائة عود، فاضرب بها من حلفت أن تضربه مائة ضربة، وبذلك تكون غير حانث في يمينك.
هذا وقد تكلم العلماء عن هذه الرخصة. أهي خاصة بأيوب، أم هي عامة للناس؟.
فقال بعضهم: إذا حلف الشخص أن يضرب فلانا مائة جلدة، أو أن يضربه ضربا غير شديد، فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور الذي جاء في الآية لأن شرع من قبلنا شرع لنا.
وقال آخرون: هذه الرخصة خاصة بأيوب- عليه السلام- ولا تنسحب إلى غيره، لأن الخطاب إليه وحده. ولأن الله- تعالى- لم يبين لنا في الآية كيفية اليمين، ولا من يقع عليه الضرب «1» .
ثم بين- سبحانه- أنه جعل لعبده أيوب هذا المخرج لصبره وكثرة رجوعه إلى ما يرضيه- تعالى- فقال: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 15 ص 212. وتفسير الآلوسى ج 23 ص 208.(12/169)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
أى: إنا وجدنا عبدنا أيوب صابرا على ما أصبناه به من بلاء، ونعم العبد هو. إنه كثير الرجوع إلينا في كل أحواله.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من فضائل أيوب- عليه السلام- ومن النعم التي أنعم الله- تعالى- بها عليه جزاء صبره وطاعته لربه.
وبعد أن عرض- سبحانه- قصص داود وسليمان وأيوب بشيء من التفصيل. أتبع ذلك بالحديث عن عدد من الأنبياء على سبيل الإجمال، فقال- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 48]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- حال عبادنا إبراهيم وإسحاق، ويعقوب. أصحاب القوة في الطاعة، وأصحاب البصيرة المشرقة الواعية في أمور الدين.
فالأيدى مجاز مرسل عن القوة، والأبصار جمع بصر بمعنى بصيرة على سبيل المجاز- أيضا- ويصح أن يكون المراد بقوله: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أى: أصحاب الأعمال الجليلة، والعلوم الشريفة، فيكون ذكر الأيدى من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، والأبصار بمعنى البصائر، لأن عن طريقها تكون العلوم النافعة.
قال صاحب الكشاف: قوله: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ يريد: أولى الأعمال والفكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوى الديانات، ولا يستبصرون، كأن هؤلاء في حكم الزمنى- أى المرضى- الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم. والمسلوبى العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل، مع كونهم متمكنين منهما «1» ..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 99.(12/170)
ثم بين- سبحانه- أسباب وصفهم بتلك الأوصاف الكريمة، فقال- تعالى-: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ....
ومعنى: أَخْلَصْناهُمْ خالصين لطاعتنا وعبادتنا. والباء في قوله بِخالِصَةٍ للسببية. وخالصة اسم فاعل. والتنوين فيها للتفخيم، وهي صفة لمحذوف.
وذِكْرَى الدَّارِ بيان لها بعد إبهامها للتفخيم. أو محلها النصب بإضمار أعنى.. أو الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى: هي.
وذِكْرى مصدر مضاف لمفعوله، وتعريف الدار للعهد. أى: الدار الآخرة.
والمعنى: إنا جعلنا هؤلاء العباد- وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب- خالصين لطاعتنا وعبادتنا، متبعين لأوامرنا ونواهينا، لا تصافهم بخصلة خالصة من كل ما لا يرضينا، وهي تذكرهم للدار الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.
وقرأ نافع بِخالِصَةٍ بدون تنوين على الإضافة لذكرى. من إضافة الصفة إلى الموصوف. أو المصدر لفاعله إن جعلت خالصة مصدرا كالعاقبة.
أى: أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار.
ثم أثنى عليهم- سبحانه- بثناء آخر فقال: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ.
أى: وإن هؤلاء العباد، لهم عندنا ممن اصطفيناهم لحمل رسالتنا، واخترناهم لتبليغ دعوتنا. ومن العباد الأخيار. أى: الذين يفضلون على غيرهم في المناقب الحميدة، والصفات الكريمة. جمع خير- بإسكان الياء- أفعل تفضيل.
ثم أثنى- سبحانه- على عدد آخر من عباده الصالحين فقال: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ.
وإسماعيل هو ابن إبراهيم- عليهما السلام-، ولم يذكر فيما سبق مع أبيه ومع أخيه إسحاق، ومع ابن أخيه يعقوب، اعتناء بشأنه، وللإشارة إلى عراقته في الصبر وفي تحمل الشدائد.
واليسع: هو ابن شافاط أو أخطوب: قيل استخلفه إلياس من بعده على بنى إسرائيل، ثم منحه الله- تعالى- النبوة. وكانت وفاته في حوالى سنة 840 ق. م ودفن بالسامرة.
وذا الكفل: هو ابن أيوب. بعثه الله- تعالى- بعد أبيه، وكان مقيما بالشام. والأكثرون على أنه نبي لذكره معهم.(12/171)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
وقيل هو رجل صالح من بنى إسرائيل. ولم يكن نبيا، وسمى بذلك لأنه تكفل لأحد أنبيائهم بالقيام بالطاعات فوفى بذلك.
والتنوين في قوله- تعالى-: وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ عوض عن المضاف إليه. أى:
وكل هؤلاء العباد الذين ذكرناهم، من أهل الخير والفضل والصلاح والصبر على الأذى.
ثم عقبت السورة الكريمة على ذلك، بعقد مقارنة بين عاقبة المؤمنين الصادقين، وعاقبة الكافرين الجاحدين، وذكرت جانبا مما يدور بين أهل النار من مجادلات.. فقال- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 49 الى 64]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53)
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63)
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)(12/172)
قال الآلوسى: «هذا» إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم «ذكر» أى:
شرف لهم ... والمراد أن في ذكر قصصهم ... شرف عظيم لهم.
أو المعنى: هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر الذي هو القرآن، وذكر ذلك للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر، كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر.
ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا، وكان كيت وكيت، ويحذف على ما قيل الخبر في مثل ذلك كثيرا، وعليه هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.. «1» .
وقوله- تعالى-: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ بيان لما أعده لهم- سبحانه- في الآخرة من عطاء جزيل، وثواب عظيم.
والمآب: اسم مكان من آب فلان يؤوب إذا رجع، والمراد بالمتقين: كل من تحققت فيه صفة التقوى والخوف من الله- تعالى- وعلى رأسهم الأنبياء الذين اصطفاهم الله- تعالى- واختارهم لتبليغ رسالته. أى: وإن للمتقين في الآخرة لمنزل كريم يرجعون إليه في الآخرة.
فيجدون فيه ما لا عين رأت. ولا أذن سمعت. ولا خطر على قلب بشر.
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: هذا ذِكْرٌ يعود إلى ما ذكره- سبحانه- في الآيات السابقة، عن هؤلاء الأنبياء من ثناء وتكريم. والذكر: الشرف والفضل.
أى: هذا الذي ذكرناه عن هؤلاء الأنبياء شرف لهم، وذكر جميل يذكرون به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثم فصل- سبحانه- ما أعده لهم في الآخرة من تكريم فقال: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ.
والعدن في اللغة: الإقامة الدائمة في المكان. يقال: عدن فلان بمكان كذا، إذا أقام به إقامة دائمة. وجنات: بدل اشتمال من قوله: لَحُسْنَ مَآبٍ.
أى: هؤلاء المتقون أكرمناهم في الدنيا بالذكر الحسن. ونكرمهم في الآخرة بأن ندخلهم جنات عظيمة دخولا دائما مؤبدا، وقد فتحت أبوابها على سبيل التكريم لهم. والحفاوة بمقدمهم.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 212.(12/173)
مُتَّكِئِينَ فِيها.. أى: في تلك الجنات. وانتصب لفظ «متكئين» على الحال من ضمير «لهم» والعامل فيه قوله مُفَتَّحَةً.
وقوله: يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ استئناف لبيان حالهم في الجنات، أو حال- أيضا- من ضمير «لهم» .
أى: أن المتقين لهم جنات عظيمة. فاتحة لهم أبوابها على سبيل التكريم ويجلسون فيها جلسة الآمن المطمئن المنعم، حيث يتكئون ويستندون على الأرائك، ويطلبون أنواعا كثيرة من الفاكهة اللذيذة، ومن الشراب الطيب، فيلبي طلبهم في الحال.
ثم يضاف إلى هذه الفاكهة والشراب، ما بينه- سبحانه- في قوله: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ. أى: وعندهم فضلا عن كل ما تقدم نساء ذوات حياء، قد قصرن أعينهن على أرواحهن فلا يتطلعن إلى غيرهم. لشدة محبتهن لهم. وهن متساويات في السن والجمال والأخلاق الكريمة.
فمعنى أتراب: أنهن متساويات في السن والجمال والشباب. مأخوذ من التراب. لأن التراب يمسهن في وقت واحد لاتحاد مولدهن: أو من الترائب وهي عظام الصدر المتماثلة.
ثم بين- سبحانه- أن هذا العطاء العظيم مقابل عملهم الصالح في الدنيا فقال: هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ.
واللام في قوله لِيَوْمِ للتعليل. أى: هذا الذي ذكرناه لكم من نعيم الجنات. هو جزاء إيمانكم وعملكم الصالح من أجل يوم الحساب.
ثم ختم- سبحانه- جزاءهم ببيان أنه جزاء خالد لا ينقطع ولا ينقص فقال: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ.
أى: إن هذا الذي ذكرناه لكم- أيها المتقون- من الجنات وما اشتملت عليه من نعيم، هو رزقنا الدائم لكم. وليس له من نفاذ أو انقطاع أو انتقاص. يقال نفد الشيء نفادا ونفدا، إذا فنى وهلك وذهب.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ «1» . أى غير مقطوع.
وبعد هذا الحديث الذي يشرح الصدور عن المؤمنين وحسن عاقبتهم. جاء الحديث عن
__________
(1) سورة فصلت الآية 8.(12/174)
الكافرين وسوء مصيرهم- كما هي عادة القرآن الكريم في قرن الترغيب بالترهيب فقال- تعالى-: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.
واسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف. أى الأمر هذا، أو مبتدأ محذوف الخبر أى: هذا للمؤمنين.
وجملة «وإن للطاغين لشر مآب» معطوفة على جملة «هذا» على التقديرين.
أى: الأمر كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- بالنسبة للمتقين، أما الطاغون الذين تجاوزوا الحدود في الكفر والجحود والإعراض عن الحق، فإن مرجعهم إلينا سيكون شر مرجع، بسبب إصرارهم على كفرهم.
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ أى: إذا كان المتقون يدخلون الجنات التي فتحت لهم أبوابها، فإن الطاغين تستقبلهم جهنم بسعيرها ولهيبها فيلقون فيها ويفترشون نارها، وبئست هي فراشا ومهادا.
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ واسم الإشارة هنا مرفوع على الابتداء، وخبره قوله حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وما بينهما اعتراض.
والحميم: الماء الذي بلغ النهاية في الحرارة. والغساق: صديد يسيل من أجساد أهل النار.
مأخوذ من قولهم غسق الجرح- كضرب وسمع- غسقانا إذا سال منه الصديد وما يشبهه. أى: هذا هو عذابنا الذي أعددناه لهم، يتمثل في ماء بلغ الغاية في الحرارة، وفي قيح وصديد يسيلان من أجسادهم، فليذوقوا كل ذلك جزاء كفرهم وجحودهم.
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ أى: ليس عذابهم مقصورا على الحميم والغساق بل لهم أنواع أخرى من العذاب، تشبه في شكلها وفي فظاعتها وفي شدتها، الحميم والغساق.
فقوله وَآخَرُ مبتدأ، وقوله مِنْ شَكْلِهِ صفته، وقوله: أَزْواجٌ خبره.
والآية الكريمة معطوفة على الآية التي قبلها.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما يقوله أهل النار بعضهم لبعض على سبيل الندم والتحسر والتقريع. فقال: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ.
والفوج: الجمع الكثير من الناس، والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها. يقال:
قحم فلان نفسه في الأمر، إذا رمى نفسه فيه من غير روية.
أى: قال الكفار بعضهم لبعض بعد أن رأوا غيرهم يلقى في النار معهم، أو قالت الملائكة لهم على سبيل التقريع والتأنيب: هذا فَوْجٌ أى جمع كثير من أتباعكم وإخوانكم في(12/175)
الضلال. مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أى داخل معكم النار وعلى غير اختيار منه. وإنما يساق إليها سوقا في ذلة ومهانة.
وهنا يقول زعماء الكفر: لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أى: لا مرحبا ولا أهلا بهؤلاء الداخلين في النار معنا، لأنهم سيصلون سعيرها مثلنا، ولن يستطيعوا أن يدفعوا شيئا من حرها عنا ...
فقوله مَرْحَباً مفعول به لفعل محذوف وجوبا، والتقدير: أتوا معنا لا مرحبا بهم.
والجملة دعائية لا محل لها من الإعراب أى: لا أتوا مكانا رحبا بل ضيقا، وهنا يحكى القرآن رد الفوج المقتحم للنار معهم فيقول: قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ ...
أى: قال الداخلون في النار وهم الأتباع لرؤسائهم: بل أنتم الذين لا مرحبا بكم، وإنما الضيق والهلاك لكم.
أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ أى: لا مرحبا بكم لأنكم أنتم أيها الزعماء الذين تسببتم لنا دخول النار معكم، إذ دعوتمونا في الدنيا إلى الكفر فاتبعناكم، فبئس القرار والمنزل لنا ولكم جهنم.
فالجملة الكريمة تعليل لأحقية الرؤساء بدخول النار، ويقولها الأتباع على سبيل التشفي منهم. ثم يضيفون إلى ذلك قولهم: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ.
أى: يا ربنا من كان سببا في نزول هذا العذاب بنا، فزده عذابا مضاعفا في النار، لأننا لولا هؤلاء الرؤساء وإضلالهم لنا، لما صرنا إلى هذا المصير الأليم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- حكاية عنهم: وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما يقوله أئمة الكفر، عند ما يدورون بأعينهم في النار، فلا يرون المؤمنين الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا فقال: وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ... أى: وقال رؤساء الكفر على سبيل التحسر والتعجب وهم ملقون في النار ما لنا لا نرى معنا في جهنم رجالا من فقراء المؤمنين، كنا نعدهم في الدنيا من الأراذل الأخساء، لسوء حالهم، وقلة ذات يدهم.
قال القرطبي: قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم يقول أبو جهل: أين
__________
(1) سورة الأحزاب الآيتان 67، 68(12/176)
بلال؟ أين صهيب؟ أين عمار؟ أولئك في الفردوس، وا عجبا لأبى جهل! مسكين أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه. وكفر هو. قال:
ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رجلي منه أسود مظلم «1»
ثم حكى القرآن ما سأله هؤلاء المشركون لأنفسهم عند ما تلفتوا في النار، فلم يجدوا أحدا من المؤمنين الذين كانوا يصفونهم بأنهم من الأشرار فقال: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا، أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ.
أى: إنهم بعد أن دخلوا النار أخذوا يدورون بأعينهم فيها فلم يروا المؤمنين الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا، فقالوا فيما بينهم: ما بالنا لا نرى الرجال الذين كنا نسخر منهم في الدنيا، ألم يدخلوا معنا النار؟ أم دخلوها ولكن أبصارنا لا تراهم وزاغت عنهم؟.
فهم يتحسرون على أحوالهم البائسة بعد أن وجدوا أنفسهم في النار، وليس معهم من كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم فقراء المؤمنين.
قال صاحب الكشاف: قوله: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لقوله رِجالًا مثل قوله كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. وقرئ بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم.
وقوله: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ له وجهان من الاتصال: أحدهما: أن يتصل بقوله:
ما لَنا. أى: ما لنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها؟ قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنهم خفى عليهم مكانهم.
الوجه الثاني: أن يتصل بقوله: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا ... على معنى أى الفعلين فعلنا بهم: الاستسخار منهم، أم الازدراء بهم والتحقير، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم، على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم ... » «2» .
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ يعود إلى التخاصم الذي حكى عنهم.
وقوله: لَحَقٌّ خبر إن. وقوله: تَخاصُمُ خبر لمبتدأ محذوف، والجملة بيان لاسم الإشارة، وفي الإبهام أولا والتبيين ثانيا مزيد تقرير له.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 224.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 102.(12/177)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
أى: إن ذلك الذي قصصناه عليك- أيها الرسول الكريم- من تخاصم أهل النار فيما بينهم وتلاعنهم.. حق لا شك فيه، وثابت ثبوتا لا يختلف عليه عاقلان.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت بأبلغ بيان ما أعده الله- تعالى- للمتقين من ثواب، وما أعده للطاغين من عقاب.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بتلقين رسوله صلّى الله عليه وسلم الرد الذي يرد به على المشركين المعترضين على دعوته، وببيان موقف إبليس من أمر الله- تعالى- له بالسجود لآدم، وببيان ما أعده- سبحانه- لإبليس وجنده من عذاب. فقال- تعالى-:
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 88]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)(12/178)
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين: إنما وظيفتي الإنذار والتخويف لكم من عذاب شديد، إذا بقيتم على كفركم، وأعرضتم عن دعوتي.
واقتصر على الإنذار مع أنه مبشر- أيضا- لأنه المناسب لردهم عن شركهم، وعن وصفهم له تارة بأنه ساحر، وأخرى بأنه كاهن.. إلخ.
وقوله- سبحانه-: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ نفى لكل شريك مع الله- تعالى- في ذاته، أو صفاته، أو في خلقه لهذا الكون. أى: ليس هناك من إله سوى الله- تعالى- في هذا الكون، وهو- سبحانه- الواحد الأحد، القاهر فوق عباده، الموجد للسموات والأرض وما بينهما، الغالب لكل شيء، الكثير المغفرة لمن يشاء من عباده.
فأنت ترى أنه- سبحانه- قد وصف ذاته في هاتين الآيتين بخمس صفات تليق بذاته وببيان أن الشرك به- سبحانه- في العبادة أو الطاعة ظلم عظيم وجهل فاضح.
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يبين لهم أن ما جاءهم به من عند ربه أمر عظيم، لا يليق بعاقل أن يعرض عنه فقال: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ.
أى: قل- يا محمد- لهؤلاء المشركين: إن ما جئتكم به من عند ربي من قرآن كريم، ومن هدايات بها تسعدون في دنياكم وآخرتكم، هو خبر عظيم، يجب أن تلقوا إليه أسماعكم، وأن تهيئوا نفوسكم لقبوله.. ولكنكم قابلتموه بالإعراض والصدود، لفرط غفلتكم، وشدة جهالتكم، وتماديكم في كفركم.
فالآية الأولى دعوة هامة لهم لكي يقلعوا عن شركهم، والآية الثانية توبيخ لهم على عنادهم حيث تركوا ما ينفعهم، وعكفوا على ما يضرهم.
ثم نفى صلّى الله عليه وسلم عن نفسه أن يكون عنده علم بشيء من أخبار الملأ الأعلى، إلا عن طريق الوحى فقال- كما حكى القرآن عنه: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ(12/179)
يَخْتَصِمُونَ
. والمراد بالملإ الأعلى: عالم السموات وما فيه من ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
قال القرطبي: الملأ الأعلى هم الملائكة في قول ابن عباس والسدى. اختصموا في أمر آدم حين خلق، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ.. وقال إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
وفي هذا بيان أن محمدا صلّى الله عليه وسلم أخبر عن قصة آدم وغيره وذلك لا يتصور إلا بتأييد إلهى ... » «1» .
وقال ابن كثير: وقوله: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ أى: لولا الوحى من أين كنت أدرى باختلاف الملأ الأعلى. يعنى في شأن آدم، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه..؟» «2» . فالآية تنفى عن الرسول صلّى الله عليه وسلم علم شيء من أخبار الملأ الأعلى إلا عن طريق الوحى.
وجملة «إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين» معترضة بين إيراد اختصامهم على سبيل الإجمال، ثم إيراده في الآيات الآتية بعد ذلك على سبيل التفصيل.
و «إن» نافية. ونائب فاعل «يوحى» ضمير تقديره هو يعود على المفهوم مما سبق.
وهو شأن الملأ الأعلى، و «أنما» بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل.
أى: ليس لي من علم بما يدور في الملأ الأعلى إلا عن طريق الوحى، وهذا الوحى لا ينزل على إلا من أجل أنى رسول من عند الله- تعالى- أنذركم بما يكلفني به إنذارا واضحا بينا.
ثم فصل- سبحانه- هذا التخاصم الذي أشار إليه- سبحانه- قبل ذلك في قوله:
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، فقال: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ.
و «إذ» في قوله إِذْ قالَ رَبُّكَ ... بدل من قوله إِذْ يَخْتَصِمُونَ، لاشتمال ما في حيزها على تفصيل تلك الخصومة. وقيل: هي منصوبة بتقدير اذكر.
قالوا: والمراد بالملائكة هنا، ما يشمل إبليس، بدليل أن الأمر بالسجود لآدم كان للجميع، وأنهم جميعا امتثلوا لأمر الله- تعالى- ما عدا إبليس.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 226.
(2) تفسير ابن كثير ج 7 ص 70. [.....](12/180)
والمراد بالبشر: آدم- عليه السلام- مأخوذ من مباشرته للأرض، أو من كونه ظاهر البشرة، أى الجلد والهيئة. أى: لم يكن لي من علم بالملإ الأعلى وقت اختصامهم، حين قال الله- تعالى- للملائكة ومعهم إبليس: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ هو آدم- عليه السلام-. فإذا صورته على صورة البشر، وأفضت عليه ما به الحياة من الروح التي هي من أمرى- ولا علم لأحد بها سواي، فاسجدوا له سجود تحية وتكريم.
ولا تعارض بين وصف آدم هنا بأنه خلق من طين، وبين وصفه في آيات أخرى بأنه خلق من تراب، أو من صلصال من حمأ مسنون، فإن المادة التي خلق منها آدم وإن كانت واحدة، إلا أنها مرت بمراحل متعددة، وكل آية تتحدث عن مرحلة معينة.
وأضاف- سبحانه- الروح إلى ذاته، للإشعار بأن هذه الروح لا يملكها إلا هو- تعالى-، وأن مرد كنهها وكيفية هذا النفخ، مما استأثر- سبحانه- به، ولا سبيل لأحد إلى معرفته، كما قال- تعالى-: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «1» .
والفاء في قوله: فَقَعُوا لَهُ ... جواب إذا. والمراد بالوقوع: السقوط أى:
فاسقطوا وخروا له حالة كونكم ساجدين له بأمرى وإذنى، على سبيل التحية له، لأن السجود بمعنى العبادة لا يكون لغير الله- تعالى-.
ثم بين- سبحانه- ما كان بعد ذلك فقال: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ.
أى: امتثل الملائكة لأمر الله- تعالى- فسجدوا جميعا لآدم في وقت واحد، إلا إبليس فإنه أبى الامتثال لأمر ربه، واستكبر عن طاعته، وصار بسبب ذلك من الكافرين الجاحدين لأمر الله- تعالى-.
قال صاحب الكشاف: ولفظ «كل» للإحاطة و «أجمعون» : للاجتماع، فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد، غير متفرقين في أوقات.
فإن قلت: كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت: الذي لا يسوغ هو السجود لغير الله على
__________
(1) سورة الإسراء الآية 85.(12/181)
وجه العبادة فأما على وجه التكرمة والتبجيل، فلا يأباه العقل، إلا أن يعلم الله تعالى فيه مفسدة فينهى عنه «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما قاله لإبليس حين عصى أمره فقال: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ....
ومذهب السلف في مثل هذا التعبير، أن اليد- مفردة أو غير مفردة- إذا وصف الله تعالى بها ذاته، فهي ثابتة له، على الوجه الذي يليق بكماله، مع تنزهه- سبحانه- عن مشابهته للحوادث.
ومذهب الخلف: تأويل اليد بالقدرة أو النعمة. والتثنية في يدي، للتأكيد الدال على مزيد القدرة في خلقه. أى: قال الله- تعالى- لإبليس على سبيل التأنيب والتقريع: يا إبليس ما الذي منعك من السجود لآدم الذي خلقته بيدي؟
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ. أى: أمنعك من السجود لآدم تكبرك من غير موجب لهذا التكبر، أم كنت ممن علا على غيره بدون حق؟ والاستفهام للتوبيخ والإنكار.
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أى: قال إبليس في الجواب على ربه- تعالى-: أنا خير من آدم.
خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فهو- لعنه الله- يرى أن النار أفضل من الطين، ولا يصح سجود الفاضل للمفضول.
ولا شك أن هذا التعليل من إبليس في نهاية سوء الأدب، لأنه بعدم سجوده قد عصى رب العالمين، وفضلا عن ذلك فإن هذه العلة لا تقتضي صحة المدعى، لأن النار ليست خيرا من الطين حتى يكون المخلوق منها أفضل، إذ النار يطفئها الطين..
وقد رد- سبحانه- على هذا التطاول من إبليس بقوله: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ.
والفاء في قوله فَاخْرُجْ لترتيب الأمر بالطرد على ما حدث منه. والضمير في «منها» يعود إلى السماء، أو إلى الجنة، لأنه كان فيهما.
أى: قال- تعالى- لإبليس على سبيل الزجر: مادمت يا إبليس قد عصيت أمرى، فاخرج من الجنة ومن كل مكان فيه تكريم لك، فإنك رجيم، أى: مطرود من رحمتي. وإن عليك لعنتي وغضبى إلى يوم القيامة، فإذا ما جاء هذا اليوم ازدادت لعنتي عليك.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 105.(12/182)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أى: فأمهلنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أى: فأخرنى ولا تمتنى إلى يوم البعث، لأتمكن من إغواء ذرية آدم.
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أى: قال- سبحانه- قد أجبت لك ما تقتضيه حكمتى، وهو أنى سأؤخر إهلاكك إلى الوقت الذي حددته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى، لا إلى وقت البعث الذي طلبه إبليس.
قالَ أى: إبليس فَبِعِزَّتِكَ أى: فبحق سلطانك وقهرك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أى: لأغوين بنى آدم جميعا بالمعاصي، ولأضلنهم ولأمنينهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فلا يتأثرون بإغوائى، لأنى لا قدرة لي عليهم.
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وقوله فَالْحَقُّ مبتدأ محذوف الخبر أى: فالحق قسمي لأملأن.. وقوله: وَالْحَقَّ أَقُولُ لفظ الحق منصوب هنا على أنه مفعول لأقول، قدم عليه لإفادة الحصر.
والجملة من الفاعل والمفعول معترضة بين القسم والمقسم عليه لتقرير مضمون الجملة القسمية. أى: قال الله- تعالى- في رده على إبليس: فالحق قسمي ويميني- ولا أقول إلا الحق- لأملأن جهنم من جنسك يا إبليس، وممن تبعك من الناس جميعا، لأن هذا جزاء من عصاني.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يبين للناس، أنه لا يريد من وراء دعوته عرضا زائلا من أعراض الدنيا فقال قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين وغيرهم: إنى لا أسألكم أجرا على تبليغكم ما أمرنى الله بتبليغه إليكم، وما أنا من الذين يتكلفون ويتصنعون القول أو الفعل الذي لا يحسنونه، بل أنا رسول من عند الله وصادق فيما أبلغه عنه.
وما هذا القرآن الذي جئتكم به من عند ربي، إلا وعظ بليغ للثقلين، وشرف عظيم لهما في اتباع أوامره ونواهيه.
لتعلمن- أيها الناس- صدق ما أخبركم به من وعد ومن وعيد بعد وقت محدد في علم الله- تعالى-.(12/183)
وبعد: فهذا تفسير لسورة «ص» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؟.
كتبه الراجي عفو ربه محمد سيد طنطاوى القاهرة- مدينة نصر- صباح الثلاثاء 4 من ذي الحجة سنة 1405 هـ الموافق 20/ 8/ 1985 م(12/184)
تفسير سورة الزّمر(12/185)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
1- سورة «الزمر» هي السورة التاسعة والثلاثون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثامنة والخمسون من السور المكية، وكان نزولها بعد سورة سبأ.
وقد ذكر صاحب الإتقان أنها تسمى- أيضا- سورة «الغرف» ، لقوله- تعالى-:
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ.
2- ويرى المحققون أن السورة بكاملها مكية.
قال الآلوسى: عن ابن عباس أنها نزلت بمكة ولم يستثن، وأخرج النحاس عنه أنه قال: نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة، وهي قوله- تعالى: - قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
3- وآياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي، وثلاث وسبعون في المصحف الشامي، واثنتان وسبعون في غيرهما «1» .
4- وتبدأ السورة الكريمة بالثناء على الله- تعالى- الذي أنزل القرآن بالحق على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم والذي خلق السموات والأرض بالحق والذي خلق الناس جميعا من نفس واحدة، قال- تعالى-: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ...
5- ثم تنتقل السورة إلى الحديث عن حالة الإنسان عند ما ينزل به الضر، وعن الجزاء الحسن الذي أعده- سبحانه- للصابرين، وعن العقاب الأليم الذي أعده للخاسرين.
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللَّهَ
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 232.(12/187)
أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ، قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.
6- ثم بين- سبحانه- مظاهر قدرته في هذا الكون عن طريق إنزاله الماء من السماء، وعن طريق إنزاله أحسن الحديث. كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم.
قال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ.
7- ثم دعا- سبحانه- الناس بعد ذلك إلى تدبر آيات القرآن، المشتمل على الهدايات والإرشادات والأمثال، وإلى اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي جاءهم بالصدق، لأن هذا الاتباع يؤدى إلى تكفير سيئاتهم، ورفع درجاتهم عند ربهم.
قال- تعالى-: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
8- وبعد أن عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله- تعالى- في قبضه للأرواح، وفي كشفه الضر عن خلقه.. أتبعت ذلك بمحاجة المشركين، وببيان ما هم عليه من ضلال، وبيان أحوالهم عند ما يذكر الله- تعالى- وحده، وببيان سوء عاقبتهم.
قال- تعالى-: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
9- ثم ساق- سبحانه- لعباده ما يدل على سعة رحمته بهم، ودعاهم إلى الإنابة إليه، من قبل أن يأتى اليوم الذي لا ينفع فيه الندم.
قال- تعالى-: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
10- ثم تحدثت السورة في أواخرها عن أحوال السعداء والأشقياء يوم القيامة، وعن أهوال هذا اليوم.
قال- تعالى-: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.(12/188)
وختمت ببيان ما أعده- سبحانه- للكافرين من شديد العقاب، وما أعده للمتقين من كريم الثواب.
قال- تعالى-: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ. وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
11- هذا، والمتأمل في سورة «الزمر» بعد هذا العرض المجمل لها. يراها قد اشتملت على مقاصد متنوعة من أهمها ما يأتى:
(أ) إقامة الأدلة المتعددة على وحدانية الله- تعالى- وعلى وجوب إخلاص العبادة له، تارة عن طريق خلق السموات والأرض، وتكوين الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، وخلق الناس جميعا من نفس واحدة ... وتارة عن طريق لجوء المشركين إليه وحده عند الشدائد، وتارة عن طريق توفى الأنفس حين موتها، وتارة عن طريق ضرب الأمثال، كما في قوله- تعالى-: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا. الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
(ب) تذكير الناس بأهوال الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب. وبعث ونشور، وفرح يعلو وجوه المتقين، وكآبة تجلل وجوه الكافرين.
نرى ذلك في مثل قوله- تعالى-: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ. وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وفي مثل قوله- تعالى-: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.
(ج) تلقين الرسول صلّى الله عليه وسلم الحجج والإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين، وعلى دعاواهم الباطلة، فقد تكرر لفظ «قل» في هذه السورة كثيرا، ومن ذلك قوله- تعالى-:
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ... ... قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ....(12/189)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ. قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ.
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
(د) الإكثار من المقارنة بين عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار، بأسلوب يغلب عليه طابع الاستفهام الإنكارى، الذي حذف فيه الخبر للعلم به من سياق الكلام.
ومن ذلك قوله- تعالى-: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
وقوله- تعالى-: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.
وقوله- سبحانه-: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وقوله- عز وجل-: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
هذه بعض المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة، وهناك مقاصد أخرى يدركها القارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتفكر.
نسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وأنس نفوسنا. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه القاهرة- مدينة نصر د. محمد سيد طنطاوى صباح الجمعة 28 من ذي الحجة سنة 1405 هـ 13/ 9/ 1985 م(12/190)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
افتتحت سورة «الزمر» بالثناء على القرآن الكريم، وببيان مصدره، قال- تعالى-:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
أى: هذا الكتاب وهو القرآن الكريم. قد نزل عليك- يا محمد- من لدن الله- تعالى- الْعَزِيزِ أى: الغالب على كل شيء الْحَكِيمِ في كل تصرفاته وأفعاله، وليس هذا القرآن قولا مفترى كما زعم الجاحدون الذين انطمست بصائرهم، واستحبوا العمى على الهدى.
والذي يتتبع آيات القرآن الكريم، يرى أن الله- تعالى- إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك ببعض أسمائه الحسنى، المتضمنة لصفاته الجليلة.
ففي أول سورة غافر نجد قوله- تعالى-: حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.(12/191)
وفي أول سورة الجاثية نجد قوله- تعالى-: حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وفي أول سورة الأحقاف نجد مثل هذا الافتتاح.
وفي أول سورة فصلت نجد قوله- تعالى-: حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وفي صدر سورة «يس» نجد قوله- سبحانه-: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ...
ولا يخفى أن ذكره- سبحانه- لبعض أسمائه الحسنى، بعد ذكره لتنزيل هذا القرآن على قلب رسوله صلّى الله عليه وسلم فيه ما فيه من الثناء على القرآن الكريم، ومن بيان أنه قد نزل من عند الله- تعالى- وحده، الذي له الخلق والأمر. تبارك الله رب العالمين.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يدعو الناس إلى قبول هذا الكتاب، وإلى العمل بهداياته، فقال- تعالى-: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ....
أى: هذا الكتاب هو تنزيل من عند الله- تعالى- الغالب على كل شيء. والحكيم في أقواله وأفعاله. وقد أنزله- سبحانه- عليك- يا محمد- تنزيلا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، أو ما يشبه الباطل، وذلك يوجب قبوله والعمل بكل ما فيه.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ بيان لكونه نازلا بالحق، وتوطئة لما يذكر بعد ... أو شروع في بيان المنزل إليه، وما يجب عليه إثر بيان شأن المنزل ... والباء متعلقة بالإنزال، وهي للسببية، أى: أنزلناه بسبب الحق. أى: إثباته وإظهاره. أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وهي للملابسة. أى: أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب.
والمراد أن كل ما فيه موجب للعمل والقبول حتما «1» .
والفاء في قوله- تعالى-: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والعبادة: أقصى درجات التذلل والخضوع للمعبود- عز وجل- والإخلاص معناه: أن يقصد المسلم بعبادته وقوله وعمله وجه الله- تعالى-.
أى: أنزلنا إليك- أيها الرسول الكريم- هذا الكتاب بالحق الذي لا يشوبه باطل، وما دام الأمر كذلك فعليك أن تخلص لربك عبادتك وطاعتك ودينك إخلاصا تاما، لا يحوم حوله
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 233.(12/192)
رياء أو تفاخر، أو غير ذلك مما يتنافى مع إخلاص الخضوع لله- تعالى- وحده.
قال الشوكانى: وفي الآية دليل على وجوب النية، وإخلاصها من الشوائب لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال النية، كما في حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وحديث: «لا قول ولا عمل إلا بنية» «1» .
وجملة أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ مؤكدة ومقررة لمضمون ما قبلها من وجوب إفراد العبادة والطاعة لله- تعالى-: وزادها تأكيدا وتقريرا لما قبلها تصديرها بأداة الاستفتاح أَلا واشتمالها على أسلوب القصر.
أى: ألا إن لله- تعالى- وحده- وليس لأحد سواه- الدين الخالص من شوائب الشرك والرياء. والعبادة لوجهه وحده، والخضوع لقدرته التي لا يعجزها شيء.
ثم بين- سبحانه- ما عليه المشركون من ضلال فقال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ...
فالمراد بالموصول المشركون، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله- تعالى- بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وجملة ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى في محل نصب على الحال بتقدير القول، والاستثناء مفرغ من أعم العلل. والزلفى: اسم أقيم مقام المصدر الذي يتلاقى معه في المعنى، والمأخوذ من قوله لِيُقَرِّبُونا.
أى: لله- تعالى- وحده الدين الخالص، والمشركون الذين اتخذوا معبودات باطلة ليعبدوها من دون الله، كانوا يقولون في الرد على من ينهاهم عن ذلك: إننا ما نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها، لكي تقربنا إلى الله قربى، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن.
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أى: بين هؤلاء المشركين وبين غيرهم من المؤمنين الذين أخلصوا لله- تعالى- العبادة والطاعة فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر التوحيد والشرك، بأن يجازى المؤمنين بحسن الثواب، ويجازى الكافرين بسوء العقاب.
إِنَّ اللَّهَ- تعالى- لا يَهْدِي أى: لا يوفق للاهتداء للحق مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ.
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 448.(12/193)
أى: من كان دائم الكذب على دين الله، شديد الجحود لآيات الله وبراهينه الدالة على وحدانيته، وعلى أنه لا رب لهذا الكون سواه.
ثم أبطل- سبحانه- كل تصور للشرك والشركاء، بأن نزه- تعالى- ذاته عن اتخاذ الولد فقال: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
أى: لو أراد الله- تعالى- على سبيل الفرض والتقدير- أن يتخذ ولدا، لاختار من خلقه ما يريده هو، لا ما يريده الضالون، لكنه- سبحانه- لم يختر أحدا ليكون ولدا له، فدل ذلك على بطلان زعم الزاعمين بأن الملائكة بنات الله، أو بأن عزيرا ابن الله، أو بأن المسيح ابن الله.
سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أى: تنزه- عز وجل- عن كل شيء من ذلك، فإنه هو الله الواحد في ذاته وفي صفاته، القهار لكل مخلوقاته.
قال الإمام ابن كثير: بيّن- تعالى- في هذه الآية أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزيز وعيسى فقال: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أى. لكان الأمر على خلاف ما يزعمون.
وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه، بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه، كما قال: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ وكما قال:
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ.
كل هذا من باب الشرط، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم «1» .
وقال بعض العلماء ما ملخصه: إرادة اتخاذ الولد هنا ممتنعة، لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالممكنات، واتخاذ الولد محال، كما ثبت بالبرهان القطعي فتستحيل إرادته. وجعلها في الآية شرطا وتعليق الجواب عليها، لا يقتضى إمكانها فضلا عن وقوعها، وقد عرف في فصيح الكلام: تعليق المحال على المحال جوازا ووقوعا.
على أن الوالدية تقتضي التجانس بين الوالد والولد. إذ هو قطعة منه. وقد ثبت أن كل ما عداه- سبحانه- مخلوق له. فيلزم بموجب التجانس أن يكون المخلوق من جنس الخالق، وهو يستلزم حدوث الخالق، أو قدم المخلوق، وكلاهما محال «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 75.
(2) صفوة البيان ج 2 ص 249 لفضيلة الشيخ محمد حسنين مخلوف.(12/194)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
ثم أقام- سبحانه- المزيد من الأدلة على وحدانيته وقدرته، عن طريق التأمل في ملكوت السموات والأرض، وفي ظاهرة الليل والنهار، وفي تسخير الشمس والقمر، وفي خلق بنى آدم من نفس واحدة ... فقال- تعالى-:
[سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
فقوله- تعالى-: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تفصيل لبعض أفعاله الدالة على وحدانيته- سبحانه- وقدرته.
أى: الله وحده هو الذي أوجد هذه السموات وتلك الأرض، إيجادا ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة التي تعود عليكم- أيها الناس- بالخير والمنفعة ومن كان شأنه كذلك، استحال أن يكون له شريك أو ولد.
ثم ساق- سبحانه- دليلا ثانيا على وحدانيته فقال: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ.(12/195)
والتكوير في اللغة: طرح الشيء بعضه على بعض. يقال: كور فلان المتاع، إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمامة. أى: انضمام بعض أجزائها على بعض.
والمقصود أن الليل والنهار كلاهما يكر على الآخر فيذهبه ويحل محله، بطريقة متناسقة محكمة لا اختلال معها ولا اضطراب.
قال صاحب الكشاف: «والتكوير: اللف واللى. يقال: كار العمامة على رأسه وكوّرها.
وفيه أوجه، منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويأتى مكانه هذا، وإذا غشى مكانه، فكأنما ألبسه ولف عليه، كما يلف اللباس على اللابس.
ومنها: أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار.
ومنها: أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض» «1» .
قال بعض العلماء ما ملخصه: «والتعبير بقوله «يكور..» تعبير عجيب، يقسر الناظر فيه قسرا على الالتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الأرض فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض، فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا. ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكور، فالنهار كان عليه مكورا، والليل يتبعه مكورا كذلك، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل، وهكذا في حركة دائبة «يكور- سبحانه- الليل على النهار ويكور النهار على الليل» .
واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها. وكروية الأرض ودورانها، يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أى تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية» «2» .
ثم ذكر- سبحانه- دليلا ثالثا على وحدانيته وقدرته فقال: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 113.
(2) في ضلال القرآن ج 23 ص 122.(12/196)
والتسخير: التذليل والانقياد والطاعة التامة. أى: وجعل- سبحانه- الشمس والقمر منقادين لأمره انقيادا تاما وكلاهما يجرى في مداره إلى الوقت المحدد في علم الله- تعالى- لنهاية دورانه، وانقطاع حركته.
وهما في جريانهما يسيران بنظام محكم دقيق غاية الدقة، كما قال- تعالى-:
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
وفي تصدير الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح أَلا إشارة إلى كمال الاعتناء بمضمونها، وإلى وجوب التدبر فيما اشتملت عليه.
أى: ألا إن الله- تعالى-: وحده هو الخالق لكل تلك المخلوقات، وهو وحده المتصرف فيها، والمهيمن عليها، وهو وحده الْعَزِيزُ الغالب على كل ما سواه، الكثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه توبة نصوحا.
ثم ساق- سبحانه- أدلة أخرى على وحدانيته فقال: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها.
أى خلقكم- سبحانه- من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم ثم خلق من هذه النفس الواحدة، زوجها وهي أمكم حواء.
قال الشوكانى: والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم. للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم، أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه، وخلق حواء على الصفة المذكورة لم تجربه عادة لكونه- تعالى- لم يخلق أنثى من ضلع رجل غيرها «1» .
وقال الجمل: فإن قلت كيف عطف بثم مع أن خلق حواء من آدم سابق على خلقنا منه؟ أجيب بأن ثم هنا للترتيب في الإخبار لا في الإيجاد. أو المعطوف متعلق بمعنى واحدة، فثم عاطفة عليه لا على خلقكم، فمعناه: خلقكم من نفس واحدة أفردت بالإيجاد، ثم شفعت بزوجة. أو هو معطوف على خلقكم، لكن المراد بخلقهم، خلقهم يوم أخذ الميثاق دفعة لا على هذا الخلق، الذي هم فيه الآن بالتوالد والتناسل «2» .
وقوله- تعالى-: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بيان لبعض آخر من
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 450.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 590.(12/197)
أفعاله- تعالى- الدالة على وحدانيته وقدرته. والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها وهي قوله: خَلَقَكُمْ.
أى: وأنزل لكم من كل من الإبل والبقر والغنم والمعز زوجين: ذكرا وأنثى يتم بهما التناسل وبقاء النوع.
قالوا: وعبر- سبحانه- عن الخلق بالإنزال، لما يروى أنه- تعالى- خلق هذه الأنواع في الجنة ثم أنزلها. فيكون الإنزال على سبيل الحقيقة.
أو أن الكلام على سبيل المجاز، لأن هذه الأنعام لا تعيش إلا عن طريق ما تأكله من نبات، والنبات لا يخرج إلا بالماء النازل من السماء فكأن الأنعام نازلة من السماء، لأن سبب سببها منزل منها.. أو أن «أنزل» هنا بمعنى أنشأ وأوجد. أو لأن الخلق إنما يكون بأمر من السماء.
وقوله- تعالى- يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ بيان لكيفية خلق ما خلقه الله من الأناسى والأنعام بتلك الطريقة العجيبة.
أى أنه- تعالى- يخلقكم- أيها الناس- بقدرته في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، بأن يحولكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى عظام مكسوة باللحم، ثم يحولكم بعد ذلك إلى خلق آخر، وهذه المراحل كلها تتم وأنتم في ظلمات بطون أمهاتكم، وظلمات الأرحام التي بداخل البطون وظلمات الغشاء الذي بداخل الأرحام والبطون، وذلك كله من أقوى الأدلة على قدرة الله- تعالى- ورعايته لخلقه.
وصدق الله إذ يقول: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ «1» .
واسم الإشارة في قوله- تعالى- ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يعود إليه- سبحانه- باعتبار أفعاله السابقة. وتصرفون: من الصرف بمعنى الابتعاد عن الشيء إلى غيره.
أى: ذلكم العظيم الشأن الذي ذكرنا لكم بعض مظاهر قدرته، هو الله ربكم الذي له ملك كل شيء، والذي لا معبود بحق سواه، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ وكيف تزعمون أن له شريكا أو ولدا ... مع توفر الأدلة على بطلان ذلك.
والمتأمل في هاتين الآيتين يراهما قد ذكرتا ألوانا من البراهين على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، كخلق السموات والأرض بالحق، وتكوير الليل على النهار، والنهار على الليل، وتسخير الشمس والقمر لمنافع الناس، وخلق الناس جميعا من نفس واحدة، ورعايتهم بلطفه
__________
(1) سورة المرسلات الآيات من 20- 23.(12/198)
وإحسانه في مراحل حياتهم، وإيجاد الأنعام التي تنفعهم في شئونهم المختلفة.
ثم بين- سبحانه- أنه غنى عن خلقه، وأنهم هم الفقراء إليه فقال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.
أى: إن تكفروا- أيها الناس- بعد أن سقنا لكم من الأدلة ما سقنا على صحة الإيمان وفساد الكفر، فإن الله- تعالى- غنى عنكم وعن إيمانكم وعبادتكم وعن الخلق أجمعين.
ومع ذلك فإنه- سبحانه- لرحمته بكم، لا يرضى لعباده الكفر، أى: لا يحبه منهم ولا يحمده لهم، ولا يجازى الكافر المجازاة التي يجازى بها المؤمن فإن المؤمن له جنات النعيم، أما الكافر فله نار الجحيم.
وإن تشكروا الله على نعمه- أيها الناس- بأن تخلصوا له العبادة والطاعة وتستعملوا نعمه فيما خلقت له، يرض لكم هذا الشكر، ويكافئكم عليه مكافأة جزيلة. بأن يزيدكم من نعمه وإحسانه وخيره.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أى: ولا تحمل نفس يوم القيامة حمل أخرى، وإنما كل نفس تجازى على حسب أعمالها في الدنيا.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ أى: فيخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دنياكم، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
إِنَّهُ- سبحانه- عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أى: عليم بما تخفيه الصدور من أسرار، وبما تضمره القلوب من أقوال وأفعال ... لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال الجمل في حاشيته: قوله: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ معنى عدم الرضا به، لا يفعل فعل الراضي، بأن يأذن فيه ويقر عليه، ويثيب فاعله ويمدحه، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه، ويذم عليه، ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته، إذ لا يخرج شيء عنها.
أو المعنى: ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله- تعالى- في شأنهم:
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فيكون الكلام عاما في اللفظ خاصا في المعنى، كقوله- تعالى-: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ أى بعض العباد «1» .
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 591.(12/199)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
وبذلك ترى هذه الآية الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة على وحدانية الله- تعالى- وعلى كمال قدرته، وعلى أن من شكر الله- تعالى- على نعمه، فإن عاقبة هذا الشكر تعود على الشاكر بالخير الجزيل، أما من جحد نعم الله- تعالى- وأشرك معه في العبادة غيره، فإن عاقبة هذا الجحود، تعود على الجاحد بالشر الوبيل، وبالشقاء في الدنيا والآخرة.
وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة المتعددة على وحدانيته وكمال قدرته، أتبع ذلك بالحديث عن طبيعة الإنسان في حالتي السراء والضراء، ونفى- سبحانه- المساواة بين المؤمنين والكافرين، والعلماء والجهلاء فقال- تعالى-:
[سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
والمراد بالإنسان هنا: الكافر، بدليل قوله- تعالى- وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
والمراد بالضر: ما يصيب الإنسان من مصائب في نفسه أو ماله أو أهله.
أى: وإذا نزل بالإنسان ضر من مرض أو غيره من المكاره دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ أي:
أسرع إلى الله- تعالى- بالدعاء والإنابة والتضرع، وترك الآلهة التي كان يدعوها في حالة الرخاء.
كما قال- تعالى-: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ.
وقوله- تعالى-: ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ.. بيان لحالة هذا الإنسان بعد أن كشف الله- تعالى- عنه الضر.(12/200)
وخوله من التخويل بمعنى الإعطاء مرة بعد أخرى، ومنه الحديث الشريف: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا أى: يتعهدنا بها وقتا بعد وقت.
وما في قوله نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ موصولة مرادا بها الضر، أو مرادا بها الباري- عز وجل-.
أى: هذا هو حال ذلك الإنسان عند نزول الضّرّ به، فإذا ما كشفنا عنه ضره، وأعطيناه نعما عظيمة على سبيل التفضل منا.. نسى الضر الذي كان يتضرع إلينا من قبل لنزيله عنه، أو نسى الخالق- عز وجل- الذي كشف عنه بقدرته ذلك الضر.
ولم يكتف بهذا النسيان، بل جعل لله- تعالى- أندادا أى: أمثالا وأشباها ونظائر يعبدها من دونه.
واللام في قوله- تعالى-: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ للتعليل. أى فعل ما فعل من جعله شركاء لله- تعالى- في العبادة، ليضل الناس بذلك الفعل عن سبيل الله وعن دينه الذي ارتضاه لعباده.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لِيُضِلَّ بفتح الياء. أى: ليزداد ضلالا على ضلاله.
وقوله- تعالى-: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ، بيان لسوء عاقبة هذا الإنسان المشرك.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهذا الإنسان الذي جعل لله شركاء في العبادة ... قل له تمتع بكفرك تمتعا قليلا، أو زمانا قليلا إنك من أصحاب النار الملازمين لها، والخالدين فيها.
ثم نفى- سبحانه- المساواة بين هذا الإنسان المشرك وبين الإنسان الملازم لطاعة ربه فقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ...
وكلمة «أمّن» أصلها «أم» التي بمعنى بل وهمزة الاستفهام. و «من» التي هي اسم موصول وهي هنا مبتدأ وخبره محذوف. والقانت: من القنوت بمعنى ملازمة الطاعة والمواظبة عليها بخشوع وإخلاص.
وآناء الليل: ساعاته: والاستفهام للإنكار والنفي.
أى: بل أمن هو قائم ساعات الليل لعبادة الله- ساجدا وقائما يحذر عذاب الآخرة، ويرجو رحمة ربه، كمن هو جاعل لله- تعالى- شركاء في العبادة؟
مما لا شك أنهما لا يستويان في عرف أى عاقل، وفي نظر أى ناظر.(12/201)
ويصح أن تكون «أم» متصلة. وقد حذف معادلها ثقة بدلالة الكلام عليه، فيكون المعنى:
أهذا الكافر الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيله أحسن حالا، أم الذي هو ملازم للطاعات آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه؟
ووصف القنوت بأنه في آناء الليل، لأن العبادة في تلك الأوقات أقرب إلى القبول وقدم السجود على القيام، لأن السجود أدخل في معنى العبادة.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقد ذكروا أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان، وقيل في عمار بن ياسر.. والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين، ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت، وفيها دليل على فضل الخوف والرجاء.
وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت، فقال له: كيف تجدك؟
قال: أرجو وأخاف. فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو، وآمنه الذي يخاف» «1» .
ثم نفى- سبحانه- أيضا المساواة بين العالم والجاهل فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله أندادا: إنه لا يستوي عند الله- تعالى- المشرك والمؤمن، ولا يستوي عنده- أيضا- الذين يعلمون الحق، ويعملون بمقتضى علمهم، والذين لا يعلمونه ويعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم، ويعرضون عن كل من يدعوهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أى: إنما يعتبر ويتعظ بهذه التوجيهات والإرشادات، أصحاب العقول السليمة والمدارك القويمة. ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين بأن يواظبوا على إخلاص العبادة لله- تعالى- وأن يهاجروا إلى الأرض التي يتمكنون فيها من نشر دينه وإعلاء كلمته، وأن ينذر المشركين بسوء المصير إذا ما استمروا في كفرهم وضلالهم.. فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 247. [.....](12/202)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
[سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 16]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لعبادي المؤمنين الصادقين: داوموا على الخوف من ربكم، وعلى صيانة أنفسكم من كل ما يغضبه.
وفي التعبير بقوله- تعالى-: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا دون قوله: قل لعبادي الذين آمنوا.. تكريم وتشريف لهم، لأنه- سبحانه- أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يناديهم بهذا النداء الذي فيه ما فيه من التكريم لهم، حيث أضافهم إلى ذاته- تعالى- وجعل وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلم إنما هي التبليغ عنه- عز وجل-.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة، إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب، وفيه إيذان بأنهم هم.
أى: قل لهم قولي هذا بعينه، وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، فإن نقل عين أمر الله- تعالى- أدخل في إيجاب الامتثال به «1» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 248.(12/203)
وجملة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ تعليل لوجوب الامتثال لما أمروا به من تقوى الله- تعالى- والاستجابة لإرشاداته.
وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا متعلق بمحذوف خبر مقدم، وقوله فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بقوله: أحسنوا، وقوله حَسَنَةٌ مبتدأ مؤخر.
أى: للذين أحسنوا في هذه الدنيا أقوالهم وأعمالهم.. حسنة عظيمة في الآخرة، ألا وهي جنة عرضها السموات والأرض.
وقوله- تعالى-: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ جملة معترضة لإزاحة ما عسى أن يتعللوا به من أعذار، إذا ما حملهم البقاء في أوطانهم على التفريط في أداء حقوق الله.
قال صاحب الكشاف: ومعنى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أن لا عذر للمفرطين في الإحسان ألبتة، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة، وبلاده كثيرة، فلا تجتمعوا مع العجز، وتحولوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم، وطاعة إلى طاعتهم «1» .
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ.
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة الصابرين فقال: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أى: إنما يوفى الصابرون على مفارقة الأوطان، وعلى تحمل الشدائد والمصائب في سبيل إعلاء كلمة الله ... يوفون أجرهم العظيم على كل ذلك بغير حساب من الحاسبين. لأنهم لا يستطيعون معرفة ما أعده- سبحانه- لهؤلاء الصابرين من عطاء جزيل، ومن ثواب عظيم، وإنما الذي يعرف ذلك هو الله- تعالى- وحده.
قال الإمام الشوكانى: أى: يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسبانه حاسب.
والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه. وهي فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة، تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير، أن يتوفر
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 117.(12/204)
على الصبر، ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيرا قد سلب، ولا يدفع مكروها قد وقع.. «1» .
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أمره به خالقه فقال: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ.
أى: قل لهم يا محمد إنى أمرت من قبل الله- عز وجل- أن أعبده عبادة خالصة لا مجال معها للشرك أو الرياء، أو غير ذلك مما يتنافى مع الطاعة التامة لخالقي- سبحانه-.
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أى: أمرنى ربي بأن أخلص له العبادة إخلاصا تاما وكاملا، لكي أكون على رأس المسلمين وجوههم له، حتى يقتدى بي الناس في إخلاصى وطاعتي له- عز وجل-.
قال- تعالى-: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.
وقوله- سبحانه-: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بيان لسوء عاقبة الشرك والمشركين.
أى: وقل لهم- أيها الرسول الكريم- إنى أخاف إن عصيت ربي، فلم أخلص له العبادة والطاعة، عذاب يوم عظيم الأهوال: شديد الحساب، وهو يوم القيامة، ولذلك فأنا لشدة خوفي من عذاب خالقي، أكثرهم إخلاصا له- عز وجل- وامتثالا لأمره، ومحافظة على طاعته.
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أى. وقل لهم- أيضا-: الله- تعالى- وحده هو الذي أعبده عبادة لا يحوم حولها شرك، ولا يخالطها شيء من الرياء أو التكلف.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أمر نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يعلن للناس بأساليب متنوعة، أنه لن يتراجع عن طاعته التامة لربه، وأن عليهم أن يتأسوا به في ذلك.
قال الجمل: أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أولا: بأن يخبرهم بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فيها. وثانيا: بأن يخبرهم بأنه مأمور بأن يكون أول من أطاع وانقاد وأسلم.
وثالثا: بأن يخبرهم بخوفه من العذاب على تقدير العصيان. ورابعا: بأن يخبرهم بأنه امتثل الأمر وانقاد وعبد الله- تعالى- وأخلص له الدين على أبلغ وجه وآكده، إظهارا لتصلبه في
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 454.(12/205)
الدين، وحسما لأطماعهم الفارغة، وتمهيدا لتهديدهم بقوله: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ... «1» .
فالأمر في قوله- تعالى-: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ... للتهديد والتقريع والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
والمعنى. إذا كان الأمر كما ذكرت لكم- أيها المشركون- من أنى أول المسلمين وجوههم لله- تعالى- وحده، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه- عز وجل- فسترون عما قريب سوء عاقبة شرككم وجحودكم لنعم الله- تعالى-.
وقوله: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لسوء عاقبة من أعرض عن دعوة الحق، وقوله: الَّذِينَ خَسِرُوا.. خبر إن.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ليس الخاسرون هم الذين أخلصوا عبادتهم لله- تعالى- وحده- كما زعمتم- وإنما الخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بسبب إلقائهم في النار، وحرمانهم من النعيم الذين أعده الله- تعالى- لعباده المؤمنين.
وقال- سبحانه- خسروا أنفسهم وأهليهم للإشعار بأن هؤلاء المشركين لم يخسروا أنفسهم فقط بسبب دخلوهم النار، وإنما خسروا فوق ذلك أهليهم لأنهم حيل بينهم وبين أهليهم، لأن أهليهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.
وجملة: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مستأنفة لتأكيد ما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه، للإشعار بأن هذا الخسران الذي حل بهم قد بلغ الغاية والنهاية في بابه.
وقوله- سبحانه-: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ... تفصيل لهذا الخسران بعد تهويله عن طريق الإبهام والإجمال.
والظلل: جمع ظلة، وأصلها السحابة التي تظل ما تحتها، والمراد بها هنا طبقات النار التي تكون من فوقهم ومن تحتهم. وأطلق عليها هذا الاسم من باب التهكم بهم، إذ الأصل في الظلل أنها تقى من الحر، بينما الظلل التي فوق المشركين وتحتهم محرقة.
أى: لهؤلاء المشركين طبقات من النار من فوقهم، وطبقات أخرى من النار من تحتهم، فهم محاطون بها من كل جانب، ولا يستطيعون التفلت منها.
__________
(1) حاشية الجمل ج 3 ص 594.(12/206)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
قال الجمل في حاشيته: «فإن قلت: الظلة ما فوق الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة؟.
قلت: فيه وجوه: الأول: أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. الثاني: أن الذي تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته في النار لأنها دركات. الثالث: أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة الفوقانية في الإيذاء والحرارة، سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة» «1» .
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ... يعود إلى العذاب الشديد الذي أعده- سبحانه- لأولئك المشركين.
أى: ذلك العذاب الشديد يخوف الله- تعالى- به عباده، حتى يحذروا ما يوصل إليه، ويجتنبوا كل قول أو فعل من شأنه أن يفضى إلى النار.
وقوله- تعالى-: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ نداء منه- تعالى- للناس يدل على رحمته بهم، وفضله عليهم، أى: عليكم يا عبادي أن تلتزموا طاعتي، وتجتنبوا معصيتي، لكي تنالوا رضائى وجنتي، وتبتعدوا عن سخطى وناري.
وإلى هنا نرى هذه الآيات الكريمة قد بشرت الصابرين بالعطاء الذي لا يعلم مقدار فضله إلا الله- تعالى-، وأمرت بإخلاص العبادة لله- سبحانه- بأساليب متنوعة، وحذرت المشركين من سوء المصير إذا ما استمروا في شركهم وكفرهم.
وبعد أن بين- سبحانه- ما أعده للخاسرين من عذاب أليم، أتبع ذلك ببيان ما أعده للمتقين من نعيم مقيم، فقال- تعالى-:
[سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 594.(12/207)
الطاغوت: يطلق على كل معبود سوى الله- تعالى- كالشيطان والأصنام وما يشبههما، مأخوذ من الطغيان، وهو مجاوزة الحد في كل شيء. ويستعمل في الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
والاسم الموصول مبتدأ. وجملة «أن يعبدوها» بدل اشتمال من الطاغوت، وجملة «لهم البشرى» هي الخبر.
والمعنى: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، وكرهوا عبادة غير الله- تعالى- أيا كان هذا المعبود، وأقبلوا على الخضوع والخشوع له وحده- عز وجل-.
أولئك الذين يفعلون ذلك «لهم البشرى» العظيمة في حياتهم، وعند مماتهم، وحين يقفون بين يدي الله- تعالى-: فَبَشِّرْ عِبادِ أى: فبشر- أيها الرسول الكريم- عبادي الذين هذه مناقبهم، وتلك صفاتهم....
ثم وصفهم- سبحانه- بما يدل على صفاء عقولهم، وطهارة قلوبهم، فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ....
وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة أقوال منها: أن المراد بالقول الذي يتبعون أحسنه.
ما يشمل تعاليم الإسلام كلها النابعة من الكتاب والسنة.
والمراد بالأحسن الواجب والأفضل، مع جواز الأخذ بالمندوب والحسن.
فهم يتركون العقاب مع أنه جائز، ويأخذون بالعفو لأنه الأفضل، كما قال- تعالى- وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى....
وكما قال- سبحانه-: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
فيكون المعنى: الذين يستمعون الأقوال الحسنة والأشد حسنا فيأخذون بما هو أشد حسنا....
ومنها أن المراد بالقول هنا ما يشمل الأقوال كلها سواء أكانت طيبة أم غير طيبة. فهم يستمعون من الناس إلى أقوال متباينة، فيتبعون الطيب منها، وينبذون غيره.(12/208)
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. هم الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة ... وأراد أن يكونوا نقادا في الدين، مميزين بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران: واجب ومندوب، اختاروا الواجب ... فهم حريصون على فعل ما هو أكثر ثوابا عند الله..
وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها. نحو القصاص والعفو، والانتصار والإغضاء..
وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ، فيحدث بأحسن ما سمع، ويكف عما سواه. «1» .
ويبدو لنا أن هذا القول الأخير المأثور عن ابن عباس- رضى الله عنهما- هو أقرب الأقوال إلى الصواب، لأنه هو الظاهر من معنى الجملة الكريمة.
وقوله- سبحانه-: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ثناء آخر من الله- تعالى- على هؤلاء المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، وأخلصوا لله- تعالى- العبادة.
أى: أولئك الذين هداهم الله- تعالى- إلى دينه الحق، وإلى الصراط المستقيم، وأولئك هم أصحاب العقول السليمة، والمدارك القويمة، والقلوب الطاهرة النقية..
قال الآلوسى: وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض، ولذا قيل:
شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ... ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله- تعالى- وقبول النفس لها ... «2» . ثم بين- سبحانه- أن من أحاطت به خطيئته، لن يستطيع أحد إنقاذه من العذاب.
فقال- تعالى- أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.
والاستفهام للنفي، والتقدير: أفمن وجب عليه العذاب بسبب إصراره على كفره حتى النهاية، أفتستطيع أنت- أيها الرسول الكريم- أن تنقذه من هذا المصير الأليم؟ لا- أيها الرسول الكريم- إنك لا تستطيع ذلك. لأن من سبق عليه قضاؤنا بأنه من أهل النار، بسبب استحبابه الكفر على الإيمان لن تستطيع أنت أو غيرك إنقاذه منها.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 121.
(2) تفسير الآلوسى ج 23 ص 253.(12/209)
وقوله- تعالى-: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ ... بيان لحسن عاقبة المؤمنين، بعد بيان سوء عاقبة من حقت عليهم كلمة العذاب..
والغرف جمع غرفة، وتطلق على الحجرة التي تكون مرتفعة عن الأرض.
أى: هذا حال الذين حقت عليهم كلمة العذاب، أما حال الذين اتقوا ربهم فيختلف اختلافا تاما عن غيرهم، فإن الله- تعالى- قد أعد لهم- على سبيل التكريم والتشريف- غرفا من فوقها غرف أخرى مبنية..
ووصفت بذلك للإشارة إلى أنها معدة ومهيأة لنزولهم فيها، قبل أن يقدموا عليها، زيادة في تكريمهم وحسن لقائهم.
وهذه الغرف جميعها «تجرى من تحتها الأنهار» ليكون ذلك أدعى إلى زيادة سرورهم.
وقوله- تعالى- وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ تذييل مؤكد لمضمون ما قبله من كون المتقين لهم تلك الغرف المبنية. ولفظ «وعد» مصدر منصوب بفعل مقدر.
أى: وعدهم- تعالى- بذلك وعدا لا يخلفه، لأنه- سبحانه- ليس من شأنه أن يخلف الموعد الذي يعده لعباده.
وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث، منها ما رواه الإمام أحمد عن أبى مالك الأشعرى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلّى والناس نيام» «1» .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد بشرت المتقين بأحسن البشارات وأكرمها، وتوعدت المصرين على كفرهم وفجورهم باستحالة إنقاذهم من عذاب النار.
ثم ضرب- سبحانه- مثلا لسرعة زوال الحياة الدنيا، وقرب اضمحلال بهجتها. كما بين حال من شرح الله صدره للإسلام فقال- تعالى-:.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 81.(12/210)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
[سورة الزمر (39) : الآيات 21 الى 22]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... للتقرير.
والينابيع: جمع ينبوع، وهو المنبع أو المجرى الذي يكون في باطن الأرض، والذي يحمل الكثير من المياه الجارية أو المخزونة في جوف الأرض.
والمعنى: لقد علمت- أيها العاقل- أن الله- تعالى- أنزل من السحب المرتفعة في جو السماء، ماء كثيرا، فأدخله بقدرته في عيون ومسارب في الأرض، هذه العيون والمسارب تارة تكون ظاهرة على وجه الأرض، وتارة تكون في باطنها، وكل ذلك من أعظم الأدلة على قدرة الله- تعالى- ورحمته بعباده.
ثم بين- سبحانه- مظهرا آخر من مظاهر قدرته فقال: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ....
أى: هذا الماء الذي أنزله- سبحانه- بقدرته من السماء، قد سلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج بسبب هذا الماء زرعا مختلفا في ألوانه وفي أشكاله، فمنه ما هو أخضر ومنه ما هو أصفر، ومنه ما ليس كذلك مما يدل على كمال قدرة الله- تعالى-.
وقوله- تعالى-: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته- عز وجل-.
والفعل «يهيج» مأخوذ من الهيج بمعنى اليبس والجفاف. يقال: هاج النبات هيجا وهياجا، إذا يبس وأصفر. أو مأخوذ من الهيج بمعنى شدة الحركة. يقال: هاج الشيء يهيج، إذا ثار لمشقة أو ضرر، ثم يعقب ذلك الهيجان الجفاف واليبس.
أى: ثم يصاب هذا الزرع المختلف الألوان بالجفاف والضمور، فتراه مصفرا من بعد اخضراره ونضارته، ثم يجعله- سبحانه- «حطاما» أى: فتاتا متكسرا. يقال: حطم الشيء حطما- من باب تعب- إذا تكسر وتفتت وتحطم.
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرناه من إنزال الماء من السماء، ومن سلكه ينابيع في الأرض، ومن إخراج النبات المختلف الألوان بسببه لَذِكْرى عظيمة لِأُولِي الْأَلْبابِ.(12/211)
أى: لأصحاب العقول السليمة، والأفكار القويمة.
والمقصود من هذه الآية الكريمة، التحذير من الانهماك في الحياة الدنيا ومتعها، حيث شبهها- سبحانه- في سرعة زوالها وقرب اضمحلالها- بالزرع الذي يبدو مخضرا وناضرا ... ثم يعقب ذلك الجفاف والذبول والاضمحلال.
وفي هذا المعنى وردت آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً «1» .
ثم نفى- سبحانه- المساواة بين المؤمن والكافر، وبين المهتدى والضال فقال: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ...
أى: أفمن شرح الله- تعالى- صدره للإسلام، وجعله مستعدا لقبول الحق فهو بمقتضى هذا الشرح والقبول صار على نور وهداية من ربه، كمن قسا قلبه وغلظ، وأصبح أسيرا للظلمات والأوهام..
لا شك أنهما لا يستويان في عقل أى عاقل.
فالاستفهام للإنكار والنفي، و «من» اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف لدلالة قوله- تعالى- فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عليه.
أى: فهلاك وخزي لأولئك المشركين الذين قست قلوبهم من أجل ذكر الله- تعالى-، الذي من شأنه أن تلين له القلوب، ولكن هؤلاء الكافرين إذا ما ذكر الله- تعالى-، اشمأزت قلوبهم، وقست نفوسهم، لانطماس بصائرهم. واستحواذ الشيطان عليهم.
ومنهم من جعل «من» في قوله مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بمعنى عن. أى: فويل للقاسية قلوبهم عن قبول ذكر الله وطاعته وخشيته.
قال صاحب الكشاف: قوله: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أى: من أجل ذكره، أى: إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزوا، وازدادت قلوبهم قساوة، كقوله- تعالى-: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وقرئ: عن ذكر الله.
فإن قلت: ما الفرق بين من وعن في هذا؟ قلت: إذا قلت قسا قلبه من ذكر الله، فالمعنى ما ذكرت، من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه. وإذا قلت: عن ذكر الله، فالمعنى: غلظ
__________
(1) سورة الكهف آية 45.(12/212)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
عن قبول الذكر وجفا عنه. ونظيره: سقاه من العيمة. أى: من أجل عطشه. وسقاه عن العيمة، إذا أرواه حتى أبعده عن العطش» «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان مآل هؤلاء الذين قست قلوبهم فقال: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
أى: أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة في ضلال واضح عن الصراط المستقيم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ «2» .
ثم مدح- سبحانه- كتابه مدحا يليق به، وبين حال المؤمنين الصادقين عند سماعه، وسلى نبيه صلّى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه. فقال- تعالى-:
[سورة الزمر (39) : الآيات 23 الى 26]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 122 «والعيمة- بفتح فسكون- شدة العطش» .
(2) سورة الأنعام الآية 122.(12/213)
وقوله- تعالى-: «مثاني» جمع مثنى من التثنية بمعنى التكرار والإعادة ولذا سميت سورة الفاتحة بالسبع المثاني، لأنها تكرر وتعاد مع كل صلاة.
أى: الله- تعالى- نزل بفضله ورحمته عليك- يا محمد- أحسن الحديث «كتابا متشابها» أى: يشبه بعضه بعضا في فصاحته وبلاغته، وفي نظمه وإعجازه، وفي صحة معانيه وأحكامه، وفي صدقه وهداياته وإرشاداته إلى ما يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم ...
«مثاني» أى: تثنى وتكرر فيه القصص والمواعظ، والأمثال والأحكام والوعد والوعيد، كما تثنى وتكرر قراءته فلا تمل على كثرة الترداد، وإنما يزداد المؤمنون حبا وتعلقا بتلاوته كلما أكثروا من هذه التلاوة.
وسمى- سبحانه- كتابه حديثا، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه، ويخبرهم بما كان ينزل عليه منه. فلفظ الحديث هنا بمعنى المحدث به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم.
ولفظ «كتابا» بدل من قوله أَحْسَنَ الْحَدِيثِ. وقوله: مُتَشابِهاً مَثانِيَ صفتان للكتاب.
ووصف بهما وهو مفرد وكلمة «مثاني» جمع، باعتبار اشتماله على الكثير من السور والآيات والقصص والمواعظ والأحكام..
أى: الله- تعالى- أنزل أحسن الحديث كتابا مشتملا على السور والآيات والمواعظ.. التي يشبه بعضها في الإعجاز ... والتي تثنى وتكرر فلا تمل على كثرة التكرار.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد عند تفسيره لهذه الآية فقال ما ملخصه: «وإيقاع اسم الله مبتدأ، وبناء «نزل» عليه، فيه تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله، وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث.
فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير، ألا تراك تقول: القرآن سور وآيات ... كما تقول الإنسان عظام وعروق، فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت: النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها، ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات، ليركزه في قلوبهم، كي يغرسه في صدورهم ... «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 123.(12/214)
وقوله- تعالى-: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ....
استئناف مسوق لبيان آثار هذا القرآن الكريم في نفوس قارئيه وسامعيه بعد بيان أوصافه في ذاته.
وقوله «تقشعر» من الاقشعرار، وهو الانقباض الشديد للبدن. يقال: اقشعر جسد فلان، إذا انقبض جلده واهتز ... وهو هنا كناية عن الخوف الشديد من الله- تعالى-.
أى: أن هذا الكتاب العظيم عند ما يقرؤه أو يسمعه المؤمنون الصادقون الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم من شدة ما اشتمل عليه من زواجر ونذر. ثم تلين جلودهم وقلوبهم إذا ما قرءوا أو استمعوا إلى آيات الرحمة والمغفرة.
قال الجمل: «فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أولا ثم قرنت القلوب بها ثانيا؟.
قلت: ذكر الخشية التي تحملها القلوب مستلزم لذكر القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم في أول الأمر، فإذا ذكروا الله- تعالى- وذكروا رحمته وسعتها، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم.. «1» .
والخلاصة أن من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين، أنهم يجمعون عند قراءتهم أو سماعهم للقرآن الكريم بين الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله- تعالى- والرجاء في رحمته ومغفرته، إذ أن اقشعرار الجلود كناية عن الخوف الشديد، ولين الجلود والقلوب كناية عن السرور والارتياح، وعدى الفعل «تلين» بإلى لتضمينه معنى تسكن وتطمئن.
ومفعول «ذكر الله» محذوف للعلم به، أى: ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته.
قال ابن كثير ما ملخصه: هؤلاء المؤمنون يخالفون غيرهم من وجوه:
أحدها: أن سماع هؤلاء تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات.
الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم، ولم يكونوا- كغيرهم- متشاغلين لاهين عنها.
الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها ... ولم يكونوا يتصارخون ويتكلفون ما ليس فيهم.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 598.(12/215)
قال قتادة عند قراءته لهذه الآية: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله بأنهم تقشعر جلودهم وتبكى أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع. وهذا من الشيطان ... «1» .
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعود إلى الكتاب الذي مرت أوصافه، وأوصاف القارئين له والمستمعين إليه.
أى: ذلك الكتاب العظيم المشتمل على أحسن الإرشادات وأحكمها، هدى الله الذي يهدى بسببه من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم، ومن يضلله- سبحانه- عن طريق الحق، فما له من هاد يهديه إلى هذا الطريق القويم.
ثم نفى- سبحانه- المساواة بين هؤلاء الذين يخشون ربهم، وبين غيرهم ممن قست قلوبهم، وانحرفت نفوسهم عن الحق، فقال- تعالى-: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
والاستفهام: للنفي والإنكار، و «من» اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف أى: أفمن كان يوم القيامة مصيره إلى النار المحرقة التي يتقيها ويحاول درأها عن نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه، كمن يأتى يوم القيامة آمنا مطمئنا بعيدا عن النار وسعيرها؟.
وفي الآية الكريمة ما فيها من تهويل عذاب يوم القيامة، إذ جرت عادة الإنسان أن يتقى الآلام بيديه وجوارحه، فإذا ما اتقاها بوجهه الذي هو أشرف أعضائه، كان ذلك دليلا على أن ما نزل به في نهاية الفظاعة والشدة.
وفي قوله- تعالى-: سُوءَ الْعَذابِ مبالغة أخرى، إذ نفس العذاب سوء، فإذا ما وصف بعد ذلك بالسوء، كان أشد في الفظاعة والإهانة والألم.
وجملة: «وقيل للظالمين ... » عطف على «يتقى ... » أى: هذا هو مصير الظالمين، إنهم يتقون النار بوجوههم التي هي أشرف أعضائهم، وهذا الاتقاء لن يفيدهم شيئا، بل ستغشاهم النار بلهبها، ويقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب ما كنتم تكسبون في الدنيا من أقوال باطلة، وأفعال قبيحة.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أمم الكفر والضلال فَأَتاهُمُ الْعَذابُ المقدر لكل أمة من أمم الكفر.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 85. [.....](12/216)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أى: من الجهة التي لا تخطر لهم على بال، أن العذاب يأتيهم منها، فيكون وقعه عليهم أشد وأفظع.
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أى: العذاب الذي يذلهم ويخزيهم في الحياة الدنيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ. المعد لهم أَكْبَرُ كيفا وكمّا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أى: لو كانوا من أهل العلم والفهم لما ارتكبوا ما ارتكبوا من كفر وفسوق وعصيان، أدى بهم إلى العذاب المهين.
ثم كرر- سبحانه- مدحه للقرآن الكريم، بأن بين أنه مشتمل على كل مثل نافع للناس، وأنه لا لبس فيه ولا اختلاف، وساق مثلا للمشرك الذي يعبد آلهة كثيرة، وللمؤمن الذي يعبد إلها واحدا، وبين أن جميع الناس سيعمهم الموت. وأنهم جميعا سيرجعون إلى الله للحساب، فقال- تعالى-:.
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
واللام في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ ... موطئة للقسم.
أى: والله لقد ضربنا وكررنا بأساليب متنوعة في هذا القرآن العظيم، من كل مثل يحتاج إليه الناس في أمورهم وشئونهم، وينتفعون به في دنياهم ودينهم.
وقوله- تعالى-: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ تعليل لضرب المثل. أى فعلنا ذلك في كتابنا الذي هو أحسن الحديث، كي يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرناهم به، أو نهيناهم عنه.
فلعل هنا بمعنى كي التعليلية، وهذا التعليل إنما هو بالنسبة إلى غيره- تعالى-.(12/217)
وقوله- سبحانه- قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ... ثناء آخر منه- تعالى- على كتابه الكريم.
والجملة الكريمة حال مؤكدة من قوله قبل ذلك: هذَا الْقُرْآنِ....
أى: هذا القرآن قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض.
قال صاحب الكشاف: قوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا حال مؤكدة كقولك: جاءني زيد رجلا صالحا، وإنسانا عاقلا. ويجوز أن ينتصب على المدح غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أى: مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف.
فإن قلت: فهلا قيل مستقيما، أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان:
إحداهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.
والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان ... وقيل: المراد بالعوج: الشك واللبس، وأنشد:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج ... من الإله وقول غير مكذوب «1»
وقوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ علة أخرى لاشتمال القرآن على الأمثال المتكررة المتنوعة.
أى: كررنا الأمثال النافعة في هذا القرآن للناس، كي يتقوا الله- تعالى- ويخشوا عقابه.
ثم ضرب- سبحانه- مثلا للعبد المشرك وللعبد المؤمن، فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ....
وقوله مَثَلًا مفعول ثان لضرب، ورَجُلًا مفعوله الأول. وأخر عن المفعول الثاني للتشويق إليه، وليتصل به ما هو من تتمته، وهو التمثيل لحال الكافر والمؤمن.
وقوله مُتَشاكِسُونَ من التشاكس بمعنى التنازع والتخاصم وسوء الخلق، يقال: رجل شكس وشكس- بفتح الشين مع إسكان الكاف أو كسرها وفعله من باب كرم- إذا كان صعب الطباع، عسر الخلق.
وقوله سلما» بفتح السين واللام- مصدر وصف به على سبيل المبالغة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «سالما» : أى خالصا لسيده دون أن ينازعه فيه منازع. والمعنى: إن مثل المشرك الذي يعبد آلهة متعددة، كمثل عبد مملوك لجماعة متشاكسين
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 125.(12/218)
متنازعين لسوء أخلاقهم وطباعهم، وهذا العبد موزع وممزق بينهم، لأن أحدهم يطلب منه شيئا معينا، والثاني يطلب منه شيئا يباين ما طلبه الأول، والثالث يطلب منه ما يتناقض مع ما طلبه الأول والثاني ... وهو حائر بينهم جميعا، لا يدرى أيطيع ما أمره به الأول أم الثاني أم الثالث ... ؟ لأنه لا يملك أن يطيع أهواءهم المتنازعة التي تمزق أفكاره وقواه.
هذا هو مثل المشرك في حيرته وضلاله وانتكاس حاله.
أما مثل المؤمن فهو كمثل عبد مملوك لسيد واحد، وخالص لفرد واحد، وليس لغيره من سبيل إليه، فهو يخدم سيده بإخلاص وطاعة، لأنه يعرف ماله وما عليه، وفي راحة تامة من الحيرة والمتاعب التي انغمس فيها ذلك العبد الذي يملكه الشركاء المتشاكسون. فالمقصود بهذين المثلين بيان ما عليه العبد المشرك من ضلال وتحير وتمزق، وما عليه العبد المؤمن من هداية واستقرار واطمئنان.
واختار- سبحانه- الرجل لضرب المثلين، لأنه أتم معرفة من غيره لما يتعبه ولما يريحه ولما يسعده ولما يشقيه.
قال صاحب الكشاف- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: واضرب- يا محمد- لقومك مثلا وقول لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء، بينهم اختلاف وتنازع.
كل واحد منهم يدعى أنه عبده، فهم يتجاذبونه، ويتعاورونه في مهن شتى، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره، قد تشعبت الهموم قلبه، وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته.
وفي آخر: قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتتق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد، وقلبه مجتمع، أى هذين العبدين أحسن وأجمل شأنا؟.
والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى.. ويبقى متحيرا ضائعا لا يدرى أيهم يعبد، وممن يطلب رزقه؟ فهمّه شعاع- بفتح الشين أى: متفرق-، وقلبه أوزاع، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه في عاجله، مؤمل للثواب في آجله، «1» .
والاستفهام في قوله- تعالى-: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا للإنكار والاستبعاد.
أى: لا يستوي الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون، والرجل الذي سلم لرجل آخر،
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 126.(12/219)
في رأى أى ناظر، وفي عقل أى عاقل، فالأول في حيرة من أمره، والثاني على بينة من شأنه.
وساق- سبحانه- هذا المعنى في صورة الاستفهام، للإشعار بأن ذلك من الجلاء والوضوح بحيث لا يخفى على كل ذي عقل سليم.
وانتصب لفظ «مثلا» على التمييز المحول عن الفاعل، لأن الأصل هل يستوي مثلهما وحالهما؟.
وجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ تقرير وتأكيد لما قبلها من نفى الاستواء واستبعاده، وتصريح بأن ما عليه المؤمنون من إخلاص في العبودية لله- تعالى- يستحق منهم كل شكر وثناء على الله- عز وجل- حيث وفقهم لذلك.
وقوله- تعالى-: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون هذه الحقيقة مع ظهورها ووضوحها لكل ذي عينين يبصرهما، وعقل يعقل به.
ثم أخبر- سبحانه- رسوله صلّى الله عليه وسلم بأن الموت سينزل به كما سينزل بأعدائه الذين يتربصون به ريب المنون، ولكن في الوقت الذي يشاؤه الله- تعالى- فقال-: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ.
أى: إنك- أيها الرسول الكريم- سيلحقك الموت، كما أنه سيلحق هؤلاء المشركين لا محالة، وما دام الأمر كذلك فأى موجب لتعجل الموت الذي يعم الخلق جميعا.
وجاء الحديث عن حلول الموت به صلّى الله عليه وسلم وبأعدائه، بأسلوب التأكيد، للإيذان بأنه لا معنى لاستبطائهم لموته صلّى الله عليه وسلم ولا للشماتة به صلّى الله عليه وسلم إذا ما نزل به الموت، إذ لا يشمت الفاني في الفاني مثله.
ثم بين- سبحانه- ما يكون بينه وبينهم يوم القيامة فقال ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.
أى: ثم إنكم جميعا يوم القيامة عند ربكم وخالقكم تختصمون وتحتكمون، فتقيم عليهم- أيها الرسول الكريم- الحجة، بأنك قد بلغت الرسالة، وهم يعتذرون بالأباطيل والتعليلات الكاذبة، والأقوال الفاسدة، وسينتقم ربك من الظالم للمظلوم، ومن المبطل للمحق.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية، جملة من الأحاديث والآثار فقال(12/220)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
ما ملخصه: ثم إن هذه الآية- وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة- فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.
روى ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام- رضى الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة؟ قال: نعم. قلت: إن الأمر إذا لشديد.
وروى الإمام أحمد عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا» .
وقال ابن عباس: يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهدىّ الضالّ، والضعيف المستكبر «1» .
ثم بين- سبحانه- أنه لا أحد أشد ظلما ممن كذب على الله- تعالى- وكذب بالصدق إذ جاءه، وأن من صفات المتقين أنهم يؤمنون بالحق، ويدافعون عنه، وأنه- سبحانه- سيكفر عنهم سيئاتهم ... فقال- تعالى-:.
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
«2»
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 87.
(2) أول الجزء الرابع والعشرون.(12/221)
والفاء في قوله- تعالى-: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ... لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والاستفهام للإنكار والنفي.
أى مادام الأمر كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- من أنك ستموت وهم سيموتون، وأنكم جميعا ستقفون أمام ربكم للحساب والجزاء.. فلا أحد أشد ظلما من هؤلاء المشركين الذين كذبوا على الله، بأن عبدوا من دونه آلهة أخرى، ونسبوا إليه الشريك أو الولد، ولم يكتفوا بكل ذلك، بل كذبوا بالأمر الصدق وقت أن جئتهم به من عند ربك.
والتعبير بقوله: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يدل على أنهم بادروا بتكذيب ما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم من عند ربه، بمجرد أن سمعوه، ودون أن يتدبروه أو يفكروا فيه.
وتكذيبهم بالصدق، يشمل تكذيبهم للقرآن الكريم، ولكل ما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم والاستفهام في قوله- تعالى- أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ للتقرير.
والمثوى: المكان مأخوذ من قولهم ثوى فلان بمكان كذا، إذا أقام به. يقال: ثوى يثوى ثواء، كمضى يمضى مضاء ...
أى: أليس في جهنم مكانا يكفى لإهانة الكافرين وإذلالهم وتعذيبهم؟ بل إن فيها لمكانا يذلهم ويذوقون فيه سوء العذاب.
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة أهل الصدق والإيمان فقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
والمراد بالذي جاء بالصدق: رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمراد بالذي صدق به: ما يشمل الرسول صلّى الله عليه وسلم ويشمل كل من آمن به واتبعه فيما جاء به، كأبى بكر الصديق وغيره من الصحابة.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ الموصول عبارة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس ...
والمؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية، دخول الجند في قولك: نزل الأمير موضع كذا ...(12/222)
والجمع في قوله- تعالى-: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ باعتبار دخول الأتباع تباعا:
ومراتب التقوى متفاوتة، ولرسول الله صلّى الله عليه وسلم أعلاها ... «1» .
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهؤلاء المتقين من نعيم فقال لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ....
أى: لهؤلاء المتقين كل ما يشاءونه عند ربهم ومالك أمرهم، بسبب تصديقهم للحق، واتباعهم لما جاءهم به رسولهم صلّى الله عليه وسلم.
وفي قوله: «عند ربهم» تكريم وتشريف لهم.
وقوله: ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أى: ذلك الذي ذكرناه من حصولهم على ما يشتهونه، جزاء من أحسنوا في أقوالهم وأفعالهم.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر تكريمه لهم، ورحمته بهم فقال: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ.
واللام في قوله: «ليكفر ... » متعلقة بمحذوف، أى: أعطاهم- سبحانه- ما أعطاهم من فضله ورحمته ليكفر عنهم أسوأ الذنوب التي عملوها، كالكفر قبل الإسلام، بأن يغفر لهم ذلك ولا يؤاخذهم عليه.
وإذا غفر الله- تعالى- لهؤلاء المتقين أسوأ أعمالهم، غفر لهم- بفضله ورحمته ما هو دونه بالطريق الأولى.
«ويجزيهم أجرهم» أى: ويعطيهم ثواب أعمالهم «بأحسن الذي كانوا يعملون» أى:
يعطيهم في مقابل عملهم الصالح في الدنيا جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وعلى هذا التفسير يكون قوله- تعالى-: أسوأ وأحسن، أفعل تفضيل حيث كفر- سبحانه- عنهم أسوأ أعمالهم، وكافأهم على أعمالهم بما هو أحسن منها وهو الجنة.
وهذا منتهى الفضل والإحسان من الله- تعالى- لعباده المتقين، حيث عاملهم بالفضل ولم يعاملهم بالعدل.
ومنهم من يرى أن قوله: أسوأ وأحسن، بمعنى السيئ والحسن، فيكون أفعل التفضيل ليس على بابه، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: ما معنى إضافة الأسوأ والأحسن إلى الذي عملوا؟ وما معنى التفضيل فيهما؟.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 24 ص 2.(12/223)
قلت: أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل. كقولك: الأشج أعدل بنى مروان.
وأما التفضيل فإيذان بأن السيئ الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ، وحسنهم بالأحسن» «1» .
ثم بين- سبحانه- عصمته لنبيه صلّى الله عليه وسلم بأبلغ وجه وأتمه فقال أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
وقراءة الجمهور: عَبْدَهُ بالإفراد وقرأ حمزة والكسائي: عباده، والاستفهام للتقرير.
قال القرطبي: وذلك أنهم خوفوا النبي صلّى الله عليه وسلم مضرة الأوثان فقالوا له: أتسب آلهتنا لئن لم تنته عن ذكرها لتصيبنك بالسوء.
وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس، فقال له سادنها: أحذرك منها يا خالد، فإن لها شدة لا يقوم لها شيء. فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها، وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلّى الله عليه وسلم لأنه هو الذي أرسله. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلّى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم..» «2» .
والمعنى: أليس الله- تعالى- بكاف عبده محمدا صلّى الله عليه وسلم من كل سوء؟ وكاف عباده المؤمنين الصادقين من أعدائهم؟ بلى إنه- سبحانه- لعاصم نبيه صلّى الله عليه وسلم من أعدائه، ولناصر عباده المتقين على من ناوأهم.
والحال أن هؤلاء المشركين يخوفونك- أيها الرسول الكريم- من أصنامهم التي يعبدونها من دونه- تعالى-، مع أن هذه الآلهة الباطلة أتفه من أن تدافع عن نفسها فضلا عن غيرها.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أى: من يضلله الله- تعالى- فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى الصراط المستقيم.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ أى: ومن يهده الله- تعالى- إلى طريق الحق والصواب.
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أى: فما له من أحد كائنا من كان يستطيع إضلاله.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 128.
(2) تفسير القرطبي ج 15 ص 258.(12/224)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ بلى إنه- سبحانه- لعزيز إذ لا يغلبه غالب، ولا يمانعه مانع، ولا ينازعه منازع. ولذو انتقام شديد من أعدائه، ولا يستطيع أحد أن يمنع انتقامه منهم.
ثم حكى- سبحانه- ما كان عليه هؤلاء المشركون من تناقض بين أقوالهم وأفعالهم.
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم أن يهددهم بسوء المصير إذا ما استمروا على كفرهم ... فقال- تعالى-
[سورة الزمر (39) : الآيات 38 الى 44]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)(12/225)
والمعنى: ولئن سألت- أيها الرسول الكريم- هؤلاء المشركين: من الذي خلق هذه السموات التي ترونها بأعينكم، وخلق هذه الأرض التي فوقها تعيشون ...
لئن سألتهم هذا السؤال، لا يملكون في الإجابة عليه إلا أن يقولوا: خلقهم الله، فلفظ الله فاعل لفعل محذوف.
وقولهم هذا دليل واضح على تناقضهم مع أنفسهم. لأنهم يعترفون بأن الخالق هو الله، ولكنهم يشركون معه في العبادة آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر..
ولذا أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يقول لهم مبكتا وموبخا: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ. أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الجاهلين: إذا كان الأمر كما ذكرتم من أن الخالق لهذا الكون هو الله، فأخبرونى عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه- سبحانه-:
أتستطيع أن تدفع ضرا أراده الله- تعالى- بي؟ أم تستطيع أن تمنع رحمة أو خيرا أعطاه الله لي؟ كلا إنها لا تستطيع شيئا من ذلك، وعبادتكم لها إنما هي نوع من السفه والحماقة.
وقال- سبحانه-: هَلْ هُنَّ.. بالتأنيث على سبيل التحقير لتلك الآلهة المزعومة، ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث، كاللات، والعزى، ومناة. إلخ.
وقدم الضر لأن دفعه أهم، وعلق- سبحانه- إرادة الضر والرحمة بذاته صلّى الله عليه وسلم فقال:
إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ ... ليرد عليهم ردا يخرس ألسنتهم، حيث خوفوه صلّى الله عليه وسلم منها وزعموا أنه لو استمر في تحقيرها فإنها ستؤذيه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم فرض المسألة في نفسه دونهم؟ قلت: لأنهم خوفوه مضرة الأوثان وتخبيلها، فأمر بأن يقررهم- أولا- بأن خالق العالم هو الله وحده، ثم يقول لهم بعد التقرير: فإذا أرادنى خالق العالم الذي أقررتم به بضر من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل، أو برحمة من صحة أو غنى أو نحوهما. هل هؤلاء اللائي خوفتمونى إياهن كاشفات عنى ضره، أو ممسكات رحمته، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم، حتى لا يحيروا ببنت شفة قال: حَسْبِيَ اللَّهُ كافيا لمضرة أوثانكم عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ وفيه تهكم.(12/226)
ويروى أنه صلّى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا، فنزل: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ... «1» .
أى: قل- أيها الرسول الكريم- في الرد عليهم وفي السخرية من آلهتهم: الله- تعالى- الخالق لكل شيء، كافينى في جميع أمورى، وعاصمنى من كيدكم وكيد من تتوهمون كيده، وعليه وحده لا على غيره يتوكل المتوكلون، لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته وقدرته.
ثم أمره- سبحانه- مرة أخرى أن يتحداهم وأن يتهددهم فقال: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ. أى: وقل لهم للمرة الثالثة: اعملوا ما شئتم عمله من العداوة لي، والتهديد بآلهتكم.
والمكانة مصدر مكن- ككرم-، يقال: مكن فلان من الشيء مكانة، إذا تمكن منه أبلغ تمكن.
أى: اعملوا ما في إمكانكم عمله معى. والأمر للتهديد والوعيد.
إِنِّي عامِلٌ أى: إنى سأقابل عملكم السيئ بعمل أحسن من جانبي، وهو الدعوة إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق.
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من منا الذي ينجح في عمله، ومن منا يأتيه عذاب يخزيه ويفضحه ويهينه في الدنيا، ومن منا الذي يحل عليه عذاب مقيم في الآخرة. فالمراد بالعذاب المخزى عذاب الدنيا، والمراد بالعذاب المقيم عذاب الآخرة.
ولقد تحقق ما توعدهم- سبحانه- به، حيث أنزل عليهم عقابه في بدر وفي غيرها فأخزاهم وهزمهم، أما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى.
ثم أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما أصابه منهم، فقال- تعالى-:
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ....
أى: إنا أنزلنا عليك- أيها الرسول الكريم- القرآن لأجل منفعة الناس ومصلحتهم، وقد أنزلناه متلبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.
فَمَنِ اهْتَدى إلى الصراط المستقيم، وإلى الحق المبين فهدايته تعود إلى نفسه وَمَنْ ضَلَّ عن الطريق المستقيم، فإثم ضلاله. إنما يعود على نفسه وحدها.
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ يا محمد بِوَكِيلٍ أى: بمكلف بهدايتهم، وبإجبارهم على اتباعك، وإنما أنت عليك البلاغ، ونحن علينا الحساب.
__________
(1) الكشاف ج 4 ص 129.(12/227)
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته، ونفاذ مشيئته فقال- تعالى-: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ...
أى: الله- بقدرته وحدها يقبض أرواح مخلوقاته حين انتهاء آجالها بأن يقطع تعلقها بالأجسام قطعا كليا، ويسلب هذه الأجسام والأبدان ما به قوام حياتها، بأن تصير أجساما هامدة لا إدراك لها. ولا حركة فيها.
وقوله- تعالى-: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها معطوف على الأنفس، أى: يسلب الحياة عن الأنفس التي انتهى أجلها سلبا ظاهرا وباطنا، ويسلب الحياة عنها سلبا ظاهرا فقط في حال نومها. إذ أنها في حالة النوم تشبه الموتى من حيث عدم التمييز والتصرف.
فالآية الكريمة تشير إلى أن التوفي للأنفس أعم من الموت، إذ أن هناك وفاتين. وفاة كبرى وتكون عن طريق الموت، ووفاة صغرى وتكون عن طريق النوم. كما قال- تعالى- وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ.. أى: يجعلكم تنامون فيه نوما يشبه الموت في انقطاع الإدراك والإحساس..
وقوله- تعالى-: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى بيان لحالة الأنفس التي انتهى أجلها، والتي لم ينته أجلها بعد.
أى: الله- تعالى- وحده هو الذي يتوفى الأنفس حين الموت، وحين النوم، أما الأنفس التي انتهى أجلها فيمسك- سبحانه- أرواحها إمساكا تاما بحيث لا تعود إلى أبدانها مرة أخرى، وأما التي لم يحن وقت موتها، فإن الله- تعالى- يعيدها إلى أبدانها عند اليقظة من نومها، وتستمر على هذه الحالة إلى أجل مسمى في علمه- تعالى- فإذا ما انتهى أجلها الذي حدده- سبحانه- لها، خرجت تلك الأرواح من أبدانها خروجا تاما، كما هو الشأن في الحالة الأولى.
ولا شك أن الله- تعالى- الذي قدر على ذلك، قادر أيضا- على إعادة الأرواح إلى أجسادها عند البعث والنشور يوم القيامة.
فالآية الكريمة مسوقة لبيان كمال قدرة الله- تعالى- ولبيان أن البعث حق، وأنه يسير على قدرة الله التي لا يعجزها شيء.
ولا منافاة بين هذه الآية التي صرحت بأن الله- تعالى- هو الذي يتوفى الأنفس عند موتها، وبين قوله- تعالى-: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ.. وقوله- تعالى- حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ... لأن المتوفى في الحقيقة هو الله- تعالى- وملك الموت(12/228)
إنما يقبض الأرواح بإذنه- سبحانه- ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الأرواح بأمره المستمد من أمر الله- عز وجل-.
قال القرطبي: «فإذا يقبض الله الروح في حالين: في حالة النوم وحالة الموت، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض. وما يقبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة.
وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته، وانفراده بالألوهية، وأنه يفعل ما يشاء ويحيى ويميت، ولا يقدر على ذلك سواه. «1» .
واسم الإشارة في قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعود إلى المذكور من التوفي والإمساك والإرسال.
أى: إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من قدرتنا على توفى الأنفس وإمساكها وإرسالها، لآيات بينات على وحدانيتنا وقدرتنا، لقوم يحسنون التأمل والتفكير والتدبر، فيما أرشدناهم إليه وأخبرناهم به.
ثم نعى- سبحانه- على الكفار غفلتهم وعدم تفكرهم فقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ.
و «أم» هنا بمعنى بل والهمزة، والاستفهام للإنكار، والمراد بالشفعاء تلك الأصنام التي زعموا أنها ستشفع لهم يوم القيامة.
والمعنى: لقد ترك هؤلاء المشركون التفكر والتدبر في دلائل وحدانيته وقدرته- سبحانه- ولم يلتفتوا إلى ما ينفعهم، بل اتخذوا الأصنام آلهة لينالوا بواسطتها الشفاعة عند الله.
قل لهم- أيها الرسول الكريم- مرشدا ومنبها: أتفعلون ذلك ولو كانت هذه الآلهة لا تملك شيئا من أمرها، ولا تعقل شيئا مما يتوجهون به إليها؟
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يبين لهم أن الله- تعالى- هو مالك الشفاعة كلها، وأنه لن يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه، فقال: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ...
أى: قل لهم: الله- تعالى- هو المالك للشفاعة كلها، وآلهتكم هذه لا تملك شيئا من ذلك، بل أنتم وآلهتكم- أيها المشركون- ستكونون وقودا لنار جهنم.
وهو سبحانه-: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا تاما لا تصرف لأحد في شيء منهما معه، ولا شفاعة لأحد إلا بإذنه.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 261.(12/229)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة فيحاسبكم على أعمالكم، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم بين- سبحانه- أحوال هؤلاء المشركين، عند ما يذكر- سبحانه- وحده دون أن تذكر معه آلهتهم، كما بين أحوالهم السيئة يوم القيامة، وكيف أنهم يندمون ولا ينفعهم الندم، وكيف أنهم لو ملكوا في هذا اليوم ما في الأرض جميعا ومثله معه، لقدموه فداء لأنفسهم من أهوال عذاب يوم القيامة.. فقال- تعالى-:
[سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 52]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49)
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)(12/230)
وقوله- تعالى-: اشْمَأَزَّتْ.. أى: نفرت وانقبضت وذعرت، مأخوذ من الشّمز، وهو نفور النفس مما تكرهه.
قال الإمام الرازي: اعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين وهو أنك إذا ذكرت الله وحده.. ظهرت آثار النفرة في وجوههم وقلوبهم، وإذا ذكرت الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح.. وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله رأس السعادة، وعنوان الخيرات، وأما ذكر الأصنام فهو رأس الحماقات..» «1» .
أى: إنك- أيها الرسول الكريم- إذا ذكرت الله- تعالى- وحده، ونسبت إليه ما يليق به- سبحانه- من وحدانيته وقدرته.. دون أن تذكر معه الأصنام اشمأزت وانقبضت وذعرت نفوس هؤلاء المشركين الجهلاء، أما إذا ذكرت آلهتهم سواء أذكرت الله- تعالى- معها أم لم تذكره، إذا هم يستبشرون ويبتهجون..
والتعبير بالاشمئزاز والاستبشار، يشعر بأنهم قد بلغوا الغاية في الأمرين، فهم عند ذكر الله- تعالى- تمتلئ قلوبهم إلى نهايتها غما وهما وانقباضا وذعرا. وعند ذكر أصنامهم تمتلئ قلوبهم إلى نهايتها- أيضا- بهجة وسرورا حتى لتظهر آثار ذلك على بشرتهم ...
وحالهم هذا يدل على أنهم قد بلغوا الغاية- أيضا- في الجهالة والسفاهة والغفلة..
وهذا الذي ذكرته الآية الكريمة من اشمئزاز الكافرين عند ذكر الله- تعالى- واستبشارهم عند ذكر غيره، نرى ما يشبهه عند كثير من الناس..
فكم من أناس إذا حدثتهم عن ذات الله- تعالى- وصفاته، وعن سلامة دينه وتشريعاته، وعن آداب قرآنه وهداياته، وعن كل ما يتعلق بوجوب تنفيذ أوامره ونواهيه.. انقبضت نفوسهم، واكفهرت وجوههم، وتمنوا لو أنك تركت الحديث عن ذلك.
أما إذا سمعوا ما يتعلق بالتشريعات والنظم التي هي من صنع البشر- استبشرت نفوسهم، وابتهجت أساريرهم..
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً، وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً «2» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 258.
(2) سورة الإسراء الآية 46.(12/231)
قال الآلوسى: وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله- تعالى- بها المشركين، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم.. وينقبضون من ذكر الله- تعالى- وحده- ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه- عز وجل- وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله. وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره..» «1» .
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يلتجئ إلى خالقه وحده من شرور هؤلاء المشركين، وأن يفوض أمره إليه، فقال- تعالى- قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
ولفظ: اللَّهُمَّ أصله يا الله. فلما استعمل دون حرف النداء. عوض عنه بالميم المشددة التي في آخره.
ولفظ «فاطر، وعالم» منصوبان على النداء.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- على سبيل الاستعاذة والاعتزال لما عليه هؤلاء المشركون من جهل وسفه، يا الله، يا خالق السموات والأرض ويا عالم الغائب والمشاهد.
والخفى والظاهر من أمور خلقك، أنت وحدك الذي تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا، فتجازى كل نفس بما تستحقه من ثواب أو عقاب.
وما دام الأمر كذلك، فاهدني إلى صراطك المستقيم، وجنبني الشرك والمشركين.
فالمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما فعله المشركون معه، وإرشاده إلى ما يعصمه من كيدهم. وتعليم العباد وجوب الالتجاء إلى الله- تعالى- وحده- لدفع كيد أعدائه عنهم.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث، منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة: بأى شيء كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟
قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بقوله: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض. عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم..» «2» .
__________
(1، 2) راجع تفسير الآلوسى ج 24 ص 11.(12/232)
وقال صاحب الكشاف: «بعل- بكسر العين- أى: دهش وفزع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من شدّة شكيمتهم في الكفر، فقيل له: «ادع الله بأسمائه الحسنى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم» . وفيه وصف لحالهم، وإعذار لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتسلية له، ووعيد لهم.. «1» .
وبعد هذه التسلية من الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلم بين- سبحانه- لهؤلاء الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم.. بين لهم ما لهم من سوء المصير فقال: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ، لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...
أى: أن العذاب المعد لهؤلاء المشركين شيء رهيب، ولو أن لهم جميع ما أعد في الأرض من خيرات، ولهم- أيضا- مثل ذلك منضما إليه، لقدموه فداء لأنفسهم، أملا في النجاة من سوء العذاب الذي ينتظرهم يوم القيامة.
فالآية الكريمة وعيد لهم ليس بعده وعيد، وتيئيس لهم من النجاة ليس بعده تيئيس.
ومن الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ، ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها، وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ «2» .
ثم هددهم- سبحانه- بتهديد آخر فقال: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ.
أى: وظهر لهم يوم القيامة من ألوان العقوبات، ومن فنون الآلام، ما لم يكونوا في الدنيا يظنون أنه سيقع بهم، وما لم يكن واردا في حسبانهم.
قال صاحب الكشاف: وقوله- تعالى- وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ.. وعيد لهم بعذاب ما دروا كنهه لفظاعته وشدته، وهو نظير قوله- تعالى- في الوعد: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ...
والمعنى: وظهر من سخط الله وعذابه، ما لم يكن قط في حسابهم، وما لم يحدثوا به أنفسهم.
وقيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات.
وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء. ويل لأهل الرياء.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 132.
(2) سورة المائدة الآيتان 36، 37. [.....](12/233)
وجزع بعض الصالحين عند موته، فسئل عن سبب ذلك فقال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه، ثم قرأ هذه الآية» «1» .
ثم تهديد ثالث يتمثل في قوله- تعالى-: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ والمراد بسيئات ما كسبوا: الأعمال السيئة التي اكتسبوها في دنياهم، وهذا البدو والظهور يكون عند عرض صحائف أعمالهم عليهم. و «ما» موصولة أو مصدرية.
أى: وظهر لهم عند عرض صحائف أعمالهم عليهم يوم القيامة، الذي عملوه واكتسبوه في الدنيا من رذائل وَحاقَ بِهِمْ أى: وأحاط ونزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به في حياتهم ويتهكمون بمن كان يحذرهم منه في الدنيا.
وبعد هذا التصوير الرهيب لمصير هؤلاء المشركين يوم القيامة، عادت السورة إلى بيان تناقضهم مع أنفسهم، فهم إن سئلوا عمن خلق السموات والأرض، قالوا: إن خالقهما هو الله، ومع ذلك يعبدون غيره وتشمئز قلوبهم عند ذكره وحده.
وهم يتقربون إلى آلهتهم بالطاعات، ومع ذلك فهم عند نزول الشدائد بهم، ينسون تلك الآلهة ويتجهون إلى الله- تعالى- وحده بالدعاء.
لنستمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى أحوالهم في السراء والضراء فتقول: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ....
والمراد بالإنسان هنا هو جنس الكفار، بدليل سياق، الآيات وسباقها ويصح أن يراد به جنس الإنسان عموما، ويدخل فيه الكفار دخولا أوليا.
أى: فإذا أصاب الإنسان ضر، من مرض أو فقر أو نحوهما، دعانا قاعدا أو قائما. لكي نكشف عنه ما نزل به من بلاء.
ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا.. أى: ثم إذا أجبنا لهذا الإنسان دعوته وكشفنا عنه الضر وأعطيناه على سبيل التفضل والإحسان نعمة من عندنا، بأن حولنا مرضه إلى صحة، وفقره إلى غنى.
قالَ هذا الإنسان الظلوم الكفار إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ منى بوجوه المكاسب، أو على علم منى بأن سأعطى هذه النعمة، بسبب استعدادي واجتهادي وتفوقى في مباشرة
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 133.(12/234)
الأسباب التي توصل إلى الغنى والجاه.
وقال- سبحانه-: خَوَّلْناهُ لأن التخويل معناه العطاء بدون مقابل، مع تكراره مرة بعد مرة.
وجاء الضمير في قوله أُوتِيتُهُ مذكرا مع أنه يعود إلى النعمة. لأنها بمعنى الإنعام.
أى: إذا خولناه شيئا من الإنعام الذي تفضلنا به عليه، قال إنما أوتيته على علم وتبوغ عندي.
وقوله- تعالى- بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ رد لقوله ذلك، وزجر لهذا الجاحد عما تفوه به.
أى: ليس الأمر كما زعم هذا الجاحد، فإننا ما أعطيناه هذه النعم بسبب علمه- كما زعم- وإنما أعطيناه ما أعطيناه على سبيل الإحسان منا عليه، وعلى سبيل الابتلاء والاختبار له، ليتبين قوى الإيمان من ضعيفه، وليتميز الشاكر من الجاحد.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق، ولا يفطن إليها إلا من استنارت بصيرته، وطهرت سريرته.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء، وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟ قلت: السبب في ذلك أن هذه وقعت مسببة من قوله. إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله، ويستبشرون بذكر الآلهة. فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره، دون من استبشر بذكره، وما بينهما من الآي اعتراض.. «1» .
ثم بين- سبحانه- المصير السيئ للجاحدين السابقين ليعتبر بهم اللاحقون فقال: قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.
والضمير في قوله قالَهَا يعود إلى ما حكاه- سبحانه- عن هذا الإنسان الجاحد من قوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ.
فهذه الكلمة قد قالها قارون عند ما نصحه الناصحون، فقد رد عليهم بقوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فكانت نهايته أن خسف الله به وبداره الأرض.
أى: قد قال هذه الكلمة الدالة على الجحود والغرور، بعض الأقوام الذين سبقوا قومك.
والذين يشبهونهم في البطر والكنود، فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله- تعالى- أخذ عزيز مقتدر، ولم ينفعهم شيئا ما جمعوه من حطام الدنيا، وما اكتسبوه من متاعها.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 134.(12/235)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا.. أى: فأصاب هؤلاء السابقين، العقاب الذي يستحقونه بسبب سيئاتهم التي اكتسبوها واقترفوها في دنياهم.
فالكلام على حذف مضاف. أى: فأصابهم جزاء سيئات كسبهم بأن أنزل الله- تعالى- بهم العقوبة التي يستحقونها بسبب إصرارهم على الكفر والمعاصي.
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ أى: من هؤلاء المشركين المعاصرين لك- أيها الرسول الكريم-.
سَيُصِيبُهُمْ- أيضا- سيئات ما كسبوا، كما أصاب الذين من قبلهم.
وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أى: وما هم بفائتين أو هاربين من عذابنا.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أى: أعموا عن التفكر والإبصار، ولم يشاهدوا بأعينهم أن الله- تعالى- يوسع الرزق لمن يشاء من عباده، ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه منهم، إذ أن ذلك مرجعه إلى مشيئته وحكمته- سبحانه- إذ سعة الرزق ليست دليلا على رضاه، كما أن ضيقه ليس دليلا على غضبه.
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرناه لَآياتٍ واضحات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالحق ويستجيبون له، وينتفعون بالهدايات التي نسوقها لهم.
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة، قد صورت حال المشركين أكمل تصوير، كما بينت ما أعدّ لهم من عذاب مقيم، بسبب إصرارهم على كفرهم، وإعراضهم عن دعوة الحق.
ثم فتح- سبحانه- لعباده باب رحمته، ونهاهم عن اليأس من مغفرته، وأمرهم أن يتوبوا إليه توبة صادقة نصوحا، قبل أن يفاجئهم الموت والحساب، فقال- تعالى:
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)(12/236)
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ. روايات منها: ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا على الهجرة. تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السّهمى وعيّاش بن أبى ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بنى غفار- أى: غدير بنى غفار- وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة، وحبس عنا هشام، وإذا به قد فتن فافتتن، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله- عز وجل- وآمنوا برسوله صلّى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم- أيضا- يقولون هذا في أنفسهم.
فأنزل الله- عز وجل- في كتابه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ.. إلى قوله- تعالى- أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ.
قال عمر: فكتبتها بيدي، ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت على خرجت بها إلى ذي طوى فقلت: اللهم فهمنيها، فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» .
والأمر في قوله- تعالى-: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ موجه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله- تعالى- للتشريف والتكريم.
والإسراف: تجاوز الحد في كل شيء، وأشهر ما يكون استعمالا في الإنفاق، كما في قوله- تعالى-: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 15 ص 268، تفسير الآلوسى ج 24 ص 15.(12/237)
والمراد بالإسراف هنا: الإسراف في اقتراف المعاصي والسيئات، والخطاب للمؤمنين المذنبين. وعدى الفعل «أسرفوا» بعلى، لتضمنه معنى الجناية، أى جنوا على أنفسهم.
والقنوط: اليأس، وفعله من بابى ضرب وتعب. يقال: فلان قانط من الحصول على هذا الشيء، أى يائس من ذلك ولا أمل له في تحقيق ما يريده.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لعبادي المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم بارتكابهم للمعاصي، قل لهم: لا تيأسوا من رحمة الله- تعالى- ومن مغفرته لكم.
وجملة «إن الله يغفر الذنوب جميعا» تعليلية. أى: لا تيأسوا من رحمة الله- تعالى- لأنه هو الذي تفضل بمحو الذنوب جميعها. لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة.
إِنَّهُ- سبحانه- هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أى: هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل- سبحانه- توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما، وإن ماتوا دون أن يتوبوا، فهم تحت رحمته ومشيئته، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه.
أما غير المؤمنين، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا في الإسلام، غفر- سبحانه- ما كان منهم قبل الإسلام لأن الإسلام يجبّ ما قبله.
وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله- تعالى- لهم، لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
قال الإمام الشوكانى: واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولا: أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم، ومزيد تبشيرهم. ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي.. ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة.. ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ..
فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده، فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك.
ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله جَمِيعاً فيا لها من بشارة ترتاح لها النفوس.. وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.. «1» .
وقال الجمل في حاشيته ما ملخصه: وفي هذه الآية من أنواع المعاني والبيان أشياء حسنة،
__________
(1) راجع تفسير فتح القدير للشوكانى ج 4 ص 470.(12/238)
منها إقباله عليهم، ونداؤهم، ومنها: إضافتهم إليه إضافة تشريف، ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة، في قوله: مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، ومنها: إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى، ومنها: إعادة الظاهر بلفظه في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ومنها: إبراز الجملة من قوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ مؤكدة بإن، والفصل، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة.
وقال عبد الله بن مسعود وغيره: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى «1» .
وبعد أن فتح- سبحانه- لعباده باب رحمته فتحا واسعا كريما.. أتبع ذلك بحضهم على التوبة والإنابة إليه، حتى يزيدهم من فضله وإحسانه فقال: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
أى قل لهم- أيها الرسول الكريم- لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، وارجعوا إليه بالتوبة والإنابة، وأخلصوا له العبادة، من قبل أن ينزل بكم العذاب الذي لا تستطيعون دفعه ثم لا تجدون من ينجيكم منه.
فأنت ترى أن الآية الأولى بعد أن فتحت للعصاة باب رحمة الله على مصراعيه، جاءت الآية الثانية فحثتهم على التوبة الصادقة النصوح، حتى تكون رحمة الله- تعالى- بهم أكمل وأتم وأوسع، فإن التوبة النصوح سبب في تحويل السيئات إلى حسنات.
كما قال- تعالى-: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «2» .
ثم أمرهم باتباع أوامر القرآن الكريم ونواهيه فقال: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
أى: واتبعوا هذا القرآن الكريم، الذي هو أحسن ما أنزله- سبحانه- إليكم، بسبب ما اشتمل عليه من هدايات سامية، ومن تشريعات حكيمة. ومن آداب قويمة.
فإن اتباع ما اشتمل عليه هذا القرآن من توجيهات. يؤدى إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ متعلق بالأمر بالاتباع، وإرشاد إلى وجوب الامتثال بدون تأخير أو تسويف.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 605.
(2) سورة الفرقان الآية 70.(12/239)
أى: سارعوا إلى اتباع إرشادات وتشريعات وآداب هذا القرآن، من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وبدون مقدمات، بحيث لا تشعرون بإتيانه إلا عند نزوله.
فالآية الكريمة تقرير وتأكيد لما قبلها: من الدعوة إلى المسارعة بالتوبة وبالعمل الصالح.
وقوله: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ في موضع المفعول لأجله بتقدير مضاف محذوف.
أى: اتبعوا ما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، كراهة أن تقول نفس يوم القيامة يا حَسْرَتى أى: يا ندامتي عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ... أى: بسبب تفريطي وتقصيرى في طاعة الله، وفي حقه- تعالى-.
وأصل الجنب والجانب: الجهة المحسوسة للشيء، وأطلق على الطاعة على سبيل المجاز، حيث شبهت بالجهة. بجامع تعلق كل منهما- أى الجانب والطاعة- بصاحبه. إذ الطاعة لها تعلق بالله- تعالى-. كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم نكرت «نفس» .؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر. ويجوز أن يكون نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعذاب عظيم، ويجوز أن يراد التكثير، كما قال الأعشى:
دعا قومه حولي فجاءوا لنصره ... وناديت قوما بالمسناة غيبا
ورب بقيع لو هتفت بجوه ... أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا
وهو يريد: أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا.. «1» .
وجملة: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ في محل نصب على الحال. أى: فرطت في جنب الله وطاعته، والحال أنى لم أكن إلا من الساخرين بدينه، المستهزئين بأتباع هذا الدين الحق.
قال قتادة: لم يكفه أنه ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.
ثم ذكر- سبحانه- مقالة أخرى مما تقوله تلك النفس فقال: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي إلى طاعته واتباع دينه لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ للشرك والمعاصي، ومن الذين صانوا أنفسهم عما يغضبه- سبحانه- ولا يرضيه.
ثم ذكر- سبحانه- مقالة ثالثة لها فقال: أَوْ تَقُولَ هذه النفس حِينَ تَرَى الْعَذابَ. في الآخرة لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أى رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ فيها
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 136.(12/240)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
مِنَ الْمُحْسِنِينَ لأقوالهم وأفعالهم، وعقائدهم، بحيث أخلص العبادة لله- تعالى- وأطيعه في السر والعلن.
وهكذا يصور القرآن الكريم أحوال النفوس في الآخرة، تصويرا مؤثرا بليغا، يحمل كل عاقل على الإيمان الصالح الذي ينفعه في ذلك اليوم الهائل الشديد.
وقوله- سبحانه-: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ رد منه- عز وجل- على هذا القائل: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وتكذيب له في هذه الدعوى.
والمراد بالآيات: الحجج والبراهين الدالة على حقيقة دين الإسلام، وعلى رأسها آيات القرآن الكريم.
أى ليس الأمر كما ذكرت أيها النادم على ما فرط منه، من أن الله لم يهدك إلى الطريق القويم، بل الحق أن الله- تعالى- قد أرشدك إليه عن طريق إرسال رسوله، وإنزال كتابه، ولكنك كذبت رسوله، واستكبرت عن سماع آيات الله وعن اتباعها، وكنت في دنياك من الكافرين بها، الجاحدين لصدقها، فأصابك ما أصابك من عذاب في الآخرة بسبب أعمالك القبيحة في الدنيا.
قال الشوكانى: وجاء- سبحانه- بخطاب المذكر في قوله: «جاءتك، وكذبت واستكبرت، وكنت» لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث. قال المبرد: تقول العرب.
نفس واحد. أى، إنسان واحد.. «1» .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، وعن مظاهر قدرة الله- تعالى- وعن تلقين الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلم الجواب الذي يرد به على المشركين. وعن أحوال الناس عند النفخ في الصور.. قال- تعالى-.
[سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 70]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 472.(12/241)
فقوله- تعالى-: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.. بيان لحالة الكافرين يوم القيامة، ولما تكون عليه هيئتهم من خزي وهوان.
أى: وفي يوم القيامة إذا نظرت- أيها الرسول الكريم- أو- أيها العاقل- إلى وجوه الذين كذبوا على الله، بأن أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى، أو جعلوا له صاحبة أو ولدا..
إذا نظرت إليها رأيتها مسودة مكفهرة بسبب ما أحاط بهم من عذاب، وما شاهدوه من أهوال.
وقوله: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ جملة من مبتدأ وخبر، وهي في محل نصب على الحال من(12/242)
الذين كذبوا.. والاستفهام في قوله: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ للتقرير.
والمثوى: المكان والمقام.
يقال: ثوى فلان بالمكان وأثوى فيه، إذا أقام به، فهو ثاو ومنه قوله- تعالى-:
وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ.
أى: أليس في جهنم مكانا ومقرا لإهانة المتكبرين وإذلالهم، بسبب تطاولهم على غيرهم، وتكذيبهم لآيات الله؟ بلى إن بها ما يجعلهم يذوقون العذاب الأليم.
ثم بين- سبحانه- حال المؤمنين يوم القيامة، بعد بيانه لحال الذين كذبوا على الله، فقال: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
ومفازتهم: اسم مصدر. أو مصدر ميمى. من فاز فلان بكذا، إذا ظفر به، ونال مراده منه.
أى: وينجى الله- تعالى- بفضله ورحمته، الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي من عذاب جهنم، بِمَفازَتِهِمْ أى: بسبب فوزهم برضا الله- تعالى- ورحمته، جزاء إيمانهم وتقواهم، وقرأ حمزة والكسائي بمفازاتهم بالجمع.
ويصح أن تكون الباء في قوله: بِمَفازَتِهِمْ للملابسة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الذين اتقوا. أى ينجيهما حالة كونهم متلبسين.
وقوله: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يجوز أن يكون تفسيرا لذلك الفوز، كأنه قيل: وما مظاهر فوزهم فكان الجواب: لا يمسهم السوء الذي يصيب غيرهم من الكافرين والعصاة، ولا هم يحزنون على شيء تركوه خلفهم في الدنيا.
ويجوز أن يكون حالا من الذين اتقوا. أي: ينجيهم بسبب مفازتهم، حال كونهم لا يمسهم السوء، أى: لا يمسهم شيء مما يكره لا في الحال ولا في الاستقبال، ولا هم يحزنون على ما كان منهم في الماضي.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد كرم المتقين تكريما عظيما، حيث نجاهم من عذاب جهنم، وجعلهم آمنين من كل ما يغمهم في كل زمان أو مكان.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: هذه آية جامعة، لأن الإنسان إذا علم أنه لا يمسه السوء، كان فارغ البال بحسب الحال، وإذا علم أنه لا يحزن كان هادئ النفس عما وقع في قلبه بسبب فوات الماضي، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات.(12/243)
وقد دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة، وتأكد هذا بقوله:
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ.. «1» .
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته فقال: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
أى: الله- تعالى- هو وحده الخالق لكل شيء في هذا الكون، وهو- سبحانه- المتصرف في كل شيء في هذا الوجود، بحيث لا يخرج مخلوق عن إذنه ومشيئته.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: له وحده مفاتيح خزائنهما، والمقاليد جمع مقلاد، أو اسم جمع لا واحد له من لفظه، مأخوذ من التقليد بمعنى الإلزام. أى: أنه لا يملك أمر السموات والأرض، ولا يتمكن من التصرف فيهما غيره- تعالى-.
قال صاحب الكشاف: قوله: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أى: هو مالك أمرهما وحافظهما لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها، هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت إليه مقاليد الملك، وهي المفاتيح، ولا واحد لها من لفظها وقيل: جمع مقليد.. والكلمة أصلها فارسية.
فإن قلت: ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟
قلت: التعريب أحالها عربية، كما أخرج الاستعمال المهمل عن كونه مهملا، «2» .
ثم بين- سبحانه- مصير الكافرين فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أى: والذين كفروا بآيات الله التنزيلية والكونية الدالة على وحدانيته، أولئك هم البالغون أقصى الدرجات في الخسران.
وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وما بينهما اعتراض للدلالة على هيمنة الله- تعالى- على شئون خلقه.. أى: وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم.. والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الكاملون في الخسران.
وهذه المقابلة فيها ما فيها من تأكيد الثواب العظيم للمتقين، والعقاب الأليم للكافرين.
ثم أمر الله- تعالى- رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يوبخ الكافرين على جهالاتهم. فقال:
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 267.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 140.(12/244)
وقد ذكروا في سبب نزولها أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، و «غير» منصوب بقوله: أَعْبُدُ، وأعبد معمول لتأمرونى على تقدير أن المصدرية، فلما حذفت بطل عملها.
والمعنى: قل- يا أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين على سبيل التوبيخ والتأنيب: أبعد أن شاهدتهم ما شاهدتم من الآيات الدالة على وحدانية الله- تعالى-، وعلى صدقى فيما أبلغه عنه، أبعد كل ذلك تأمرونى أن أعبد غير الله- تعالى- أيها الجاهلون بكل ما يجب لله- تعالى- من تنزيه وتقديس.
ووصفهم هنا بالجهل، لأن هذا الوصف هو الوصف المناسب للرد على ما طلبوه.
منه صلّى الله عليه وسلم من إشراك آلهتهم في العبادة.
ثم حذر- سبحانه- من الشرك أبلغ تحذير فقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
قال الجمل: قوله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ... هذه اللام دالة على قسم مقدر وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ. هذه اللام- أيضا- دالة على قسم مقدر، وقوله: لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ كل من هذين اللامين واقعة في جواب القسم الثاني. والثاني وجوابه جواب الأول. وأما جواب الشرط في قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ فمحذوف، لدخول جواب القسم عليه، فهو من قبيل قول ابن مالك:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم «1»
وقوله أُوحِيَ مسلط على إِلَيْكَ وعلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ فيكون المعنى:
ولقد أوحى إليك- أيها الرسول الكريم- وأوحى إلى الرسل الذين من قبلك أيضا لئن أشركت، بالله- تعالى- على سبيل الفرض لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، أى ليفسدن عملك فسادا تاما وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة في الدنيا والآخرة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: الموحى إليهم، جماعة، فكيف قال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ على التوحيد؟
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 608.(12/245)
قلت: معناه. أوحى إليك لئن أشركت ليحبطن عملك، وإلى الذين من قبلك مثله، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم: لئن أشركت ليحبطن عملك. كما تقول: فلان كسانا حلة. أى: كل واحد منا.
فإن قلت: هو على سبيل الفرض. والمحالات يصح فرضها.. «1» .
والآية الكريمة تحذر من الشرك بأسلوب فيه ما فيه من التنفير منه ومن التقبيح له، لأنه إذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلم لو وقع في شيء منه- على سبيل الفرض- حبط عمله، وكان من الخاسرين. فكيف بغيره من أفراد أمته؟
وقوله- تعالى-: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أمر منه- تعالى- بالثبات على عبادة الله- تعالى- وحده، وبالمداومة على شكره، ونهى عن طاعة المشركين، ولفظ الجلالة منصوب بقوله فَاعْبُدْ والفاء جزائية في جواب شرط مقدر.
أى: لا تطع- أيها الرسول الكريم- المشركين فيما طلبوه منك، بل اجعل عبادتك لله- تعالى- وحده، وكن من الشاكرين له على نعمه التي لا تحصى.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين بعبادتهم لغير الله- تعالى- قد تجاوزوا حدودهم معه- عز وجل-، ولم يعطوه ما يستحقه من تنزيه وتقديس فقال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
أى: أن هؤلاء المشركين بعبادتهم لغيره- تعالى-، ما عظموه حق تعظيمه، وما أعطوه ما يستحقه- سبحانه- من تقديس وتكريم وتنزيه وطاعة.
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على وحدانيته. وكمال قدرته. فقال: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.
والقبضة: المرة من القبض، وتطلق على المقدار المقبوض بالكف. ومطويات أى:
مجموعات تحت قدرته وملكه، كما يجمع الكتاب المطوى، والجملة الكريمة حال من لفظ الجلالة، فيكون المعنى: إن هؤلاء المشركين لم يعظموا الله حق تعظيمه، حيث أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى هي من مخلوقاته، والحال أنه- سبحانه- هو المتولى لإبقاء السموات والأرض على حالهما في الدنيا، وهو المتولى لتبديلهما أو إزالتهما في الآخرة، فالأرض كلها مع عظمتها
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 141.(12/246)
وكثافتها تكون يوم القيامة في قبضته وتحت قدرته، كالشىء الذي يقبض عليه القابض، والسموات كذلك مع ضخامتها واتساعها، تكون مطويات بيمينه وتحت قدرته وتصرفه، كما يطوى الواحد منا الشيء الهين القليل بيمينه، وما دام الأمر كذلك فكيف يشركون معه غيره في العبادة؟
فالمقصود من الآية الكريمة بيان وحدانيته وعظمته وقدرته- سبحانه- وبيان ما عليه المشركون من جهالة وانطماس بصيرة حين أشركوا معه في العبادة غيره.
قال صاحب الكشاف: والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعته، تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ... «1» .
وقال الآلوسى: والكلام في هذه الآية عند كثير من الخلف، تمثيل لحال عظمته- تعالى- ونفاذ قدرته.. بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا، ويمين بها يطوى السموات، أو بحال من يكون له قبضة فيها الأرض والسموات، ويمين بها يطوى السموات.
والسلف يقولون: إن الكلام هنا تنبيه على مزيد جلالته- تعالى-. إلا أنهم لا يقولون إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف، ولا اليمين مجاز عن القدرة، بل ينزهون الله- تعالى- عن الأعضاء والجوارح، ويؤمنون بما نسبه- تعالى-: إلى ذاته بالمعنى اللائق به الذي أراده- سبحانه- وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار الى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد. إنا نجد الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع.
فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ هذه الآية.. «2» .
وقدم- سبحانه- الأرض على السموات لمباشرتهم لها، ومعرفتهم بحقيقتها.
وخص يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا- أيضا- لأن الدعاوى تنقطع في ذلك اليوم. كما قال- تعالى- وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
روى الشيخان عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «يطوى الله
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 143.
(2) تفسير الآلوسى ج 24 ص 26. [.....](12/247)
السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون، أين ملوك الأرض» .
وقوله- تعالى-: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له- تعالى-: عما افتراه المفترون.
أى: تنزه وتقدس الله- تعالى- عن شرك المشركين، وعن ضلال الضالين.
ثم بين- سبحانه- حال الناس عند النفخة الأولى والثانية فقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.
والصور: اسم للقرن الذي ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله- تعالى- وحقيقته لا يعلمها إلا هو- سبحانه- وقوله فَصَعِقَ من الصعق بمعنى الموت أو بمعنى الصوت الشديد الذي يجعل الإنسان في حالة ذهول شديد حتى لكأنه قد فارق الحياة.
أى: ونفخ في الصور بأمر الله- تعالى- النفخة الأولى، فخر ميتا كل من كان حيا في السموات أو في الأرض.
إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ له الحياة من أهلهما، قالوا: والمستثنى من الصعق جبريل وإسرافيل وميكائيل. ولم يرد حديث صحيح يعتمد عليه في تعيين من استثناء الله- تعالى-: من ذلك، فالأولى تفويض من استثناه الله من الصعق إلى علمه- عز وجل-.
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى أى: ثم نفخ في الصور نفخة أخرى- وهي النفخة الثانية التي يكون بعدها البعث والنشور.
فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ أى: فإذا بهؤلاء الذين صعقوا بعد النفخة الأولى قيام من قبورهم، ينظرون حولهم بدهشة وحيرة ماذا يفعل بهم، أو ينظرون على أى حال يكون مصيرهم.
فالآية الكريمة تفيد أن النفخ في الصور يكون مرتين: المرة الأولى يكون بعدها الصعق والموت لجميع الأحياء، والنفخة الثانية يكون بعدها البعث والنشور وإعادة الحياة مرة أخرى.
والمراد بالأرض في قوله- تعالى-: بعد ذلك: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها..
أرض المحشر.
وأصل الإشراق: الإضاءة. يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت، وشرقت: إذا طلعت.
قال ابن كثير: وقوله: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أى: أضاءت- الأرض- يوم(12/248)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
القيامة، إذا تجلى الحق- تبارك وتعالى- للخلائق لفصل القضاء «1» .
والمراد بالكتاب في قوله- تعالى-: وَوُضِعَ الْكِتابُ صحائف الأعمال التي تكون في أيدى أصحابها.
فالمراد بالكتاب جنسه، أى: أعطى كل واحد كتابه إما بيمينه. وإما بشماله. وقيل المراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ الذي فيه أعمال الخلق.
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ أى: وبعد أن أعطى كل إنسان صحائف أعماله جيء بالنبيين لكي يشهدوا على أممهم أنهم بلغوهم ما كلفهم الله بتبليغه إليهم، وجيء بالشهداء وهم الملائكة الذين يسجلون على الناس أعمالهم من خير وشر، كما قال- تعالى-: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. وقيل المراد بهم: من استشهدوا في سبيل الله.
ثم بين- سبحانه- مظاهر عدالته في جمل حكيمة فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أى:
وقضى- سبحانه- بين الجميع بقضائه العادل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أى: نوع من الظلم.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ من خير أو شر وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ أى: وهو- سبحانه- عليم بما يفعلونه من طاعة أو معصية، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه، بل هو- تعالى- يعلم السر وأخفى.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببيان مصير الكافرين، وببيان مصير المتقين. وببيان ما يقوله المتقون عند ما يرون النعيم المقيم الذي أعده- سبحانه- لهم، فقال- تعالى-:
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 108.(12/249)
وقوله- تعالى- وَسِيقَ من السوق بمعنى الدفع، والمراد به هنا الدفع بعنف مع الإهانة وزُمَراً أى: جماعات متفرقة بعضها في إثر بعض. جمع زمرة وهي الجماعة القليلة، أى: وسيق الذين كفروا إلى نار جهنم جماعات جماعات، وأفواجا أفواجا.
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها لتستقبلهم بحرها وسعيرها، وكأنها قبل مجيئهم إليها كانت مغلقة كما تغلق أبواب السجون، فلا تفتح إلا لمن هم أهل لها بسبب جرائمهم.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها على سبيل الزجر والتأنيب أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أى: من جنسكم تفهمون عنهم ما يقولونه لكم.
وهؤلاء الرسل يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ المنزلة لمنفعتكم وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أى: ويخوفونكم من أهوال يومكم هذا وهو يوم القيامة.
قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أى: قالوا في جوابهم على سائليهم: بلى قد أتانا الرسل وبلغونا رسالة الله، ولكننا لم نطعهم، فحقت كلمة العذاب علينا، ووجبت علينا كلمة الله التي قال فيها: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وهنا رد عليهم السائلون بقولهم: ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، خلودا أبديا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أى: فبئس المكان المعد للمتكبرين جهنم.
وبعد هذا البيان المرعب لمصير الكافرين، جاء البيان الذي يشرح الصدور بالنسبة لحال المتقين فقال- تعالى-: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أى: جماعات.
قال الآلوسى: أى: جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل.(12/250)
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أول زمرة تدخل الجنة من أمتى على صورة القمر ليلة البدر» .
والمراد بالسوق هنا: الحث على المسير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة، وتعجيلهم إلى العقاب والآلام، واختير للمشاكلة.. «1» .
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهؤلاء المتقين من نعيم مقيم فقال: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ.
والواو في قوله وَفُتِحَتْ للحال، والجملة حالية بتقدير قد، وجواب إِذا مقدر بعد قوله خالِدِينَ.
أى: حتى إذا جاءوها، وقد فتحت أبوابها على سبيل التكريم لهم، وقال لهم خزنتها بفرح وحبور: سلام عليكم من جميع المكاره، طبتم من دنس المعاصي، فادخلوها خالدين أى:
حتى إذا جاءوها وقالوا لهم ذلك سعدوا وابتهجوا.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: وحتى هنا هي التي تحكى بعدها الجمل. والجملة المحكية بعدها هي الشرطية، إلا أن جزاءها محذوف لأنه صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحبط به الوصف. وحق موقعه ما بعد «خالدين» .
وقيل: حتى إذا جاءوها، وفتحت أبوابها. أى: مع فتح أبوابها.. «2» .
ثم بين- سبحانه- ما يقوله المتقون عند دخولهم الجنة على سبيل الشكر لله- تعالى-:
فقال: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بأن بعثنا من مرقدنا، ومنحنا المزيد من عطائه ونعمه وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أى: أرض الجنة التي استقروا فيها.
نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أى: ينزل كل واحد منا من جنته الواسعة حيث يريد، دون أن يزاحمه فيها مزاحم، أو ينازعه منازع.
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة التي منحها- سبحانه- لعباده المتقين.
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أى: محدقين محيطين بالعرش مصطفين بحافته وجوانبه. جمع حافّ وهو المحدق بالشيء. يقال: حففت بالشيء إذا أحطت به، مأخوذ من الحفاف وهو الجانب للشيء.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 24 ص 33.
(2) تفسير الكشاف ج 4 ص 147.(12/251)
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أى: يمجدون ربهم بكل خير، وينزهونه عن كل سوء.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أى: وقضى- سبحانه- بين العباد بالحق الذي لا يحوم حوله باطل. وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على قضائه بالحق، وعلى مجازاته الذين أساءوا بما عملوا، ومجازاته الذين أحسنوا بالحسنى.
وبعد. فهذا تفسير محرر لسورة «الزمر» نسأل الله- تعالى-: أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى القاهرة- مدينة نصر- مساء الخميس 27 من ذي الحجة سنة 1405 هـ الموافق 12/ 9/ 1985 م.(12/252)
تفسير سورة غافر(12/253)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد
1- سورة «غافر» هي السورة الأربعون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة التاسعة والخمسون من السور المكية، وكان نزولها بعد سورة «الزمر» .
ويبدو- والله أعلم- أن الحواميم، كان نزولها على حسب ترتيبها في المصحف، فقد ذكر صاحب الإتقان عند حديثه عن المكي والمدني من القرآن، وعن ترتيب السور على حسب النزول..
ذكر سورة الزمر، ثم غافر، ثم فصلت، ثم الشورى، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف «1» .
2- والمحققون من العلماء على أن سورة «غافر» من السور المكية الخالصة، وقد حكى أبو حيان الإجماع على ذلك، كما أن الإمام ابن كثير قال عنها بأنها مكية دون أن يستثنى منها شيئا.
وقيل: كلها مكية إلا قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ ... الآية.
ولكن هذا القيل وغيره لم تنهض له حجة يعتمد عليها، فالرأى الصحيح أنها جميعها مكية.
3- وهذه السورة تسمى- أيضا- بسورة «المؤمن» لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون. كما تسمى بسورة «الطول» لقوله- تعالى- في أوائلها: غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ....
وعدد آياتها خمس وثمانون آية في المصحف الكوفي والشامي، وأربع وثمانون في الحجازي، واثنتان وثمانون في البصري..
4- وسورة «غافر» هي أول السور السبعة التي تبدأ بقوله- تعالى- حم والتي يطلق عليها لفظ «الحواميم» .
__________
(1) راجع الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 1 ص 27.(12/255)
وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الآثار في فضل هذه السور، منها: ما روى عن ابن مسعود أنه قال: «آل حم» ديباج القرآن.. ومنها ما روى عن ابن عباس أنه قال: «إن لكل شيء لبابا، ولباب القرآن آل حم» أو قال «الحواميم» «1» .
5- وقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله- تعالى-، وبتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما لقيه من أذى المشركين ومن جدالهم، وببيان وظيفة الملائكة الذين يحملون عرشه- تعالى-، وأن منها الاستغفار للمؤمنين، والدعاء لهم بقولهم- كما حكى القرآن عنهم-:
... رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
6- ثم دعا- سبحانه- عباده إلى إخلاص الطاعة له، وذكرهم بأهوال يوم القيامة، وأن الملك في هذا اليوم إنما هو لله- تعالى- وحده.
قال- تعالى-: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
7- وبعد أن وبخ- سبحانه- الغافلين على عدم اعتبارهم بسوء عاقبة من سبقهم من الكافرين، أتبع ذلك بجانب من قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وهامان وقارون، وحكى ما دار بين موسى- عليه السلام- وبين هؤلاء الطغاة من محاورات.
كما حكى ما وجهه الرجل المؤمن من آل فرعون إلى قومه من نصائح حكيمة، منها قوله- كما حكى القرآن عنه-: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ. وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
8- وبعد أن ساق- سبحانه- تلك التوجيهات الحكيمة التي وجهها ذلك الرجل المؤمن- الذي يكتم إيمانه- إلى قومه.. أتبع ذلك بحكاية جانب من المحاورات التي تدور بين الضعفاء والمتكبرين بعد أن ألقى بهم جميعا في النار.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 116.(12/256)
كما حكى- سبحانه- ما يقولونه لخزنة جهنم على سبيل الاستعطاف والتذلل فقال:
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ.
9- ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده، لكي يشكروه عليها، ومن تلك النعم: إيجاده الليل والنهار، وجعله الأرض قرارا والسماء بناء، وتصويره الناس في أحسن تقويم، وتحليله لهم الطيبات، وخلقه لهم في أطوار متعددة.
قال- تعالى-: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
10- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الذين يجادلون في آيات الله بغير علم، فوبختهم على جهالاتهم وعنادهم، وهددتهم بسوء المصير، وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلم أن يصبر على أذاهم، وذكرته بأحوال الرسل السابقين مع أقوامهم، وأنذرت مشركي مكة بأن مصيرهم سيكون كمصير المشركين من قبلهم، إذ ما استمروا في طغيانهم وكفرهم، وأنهم لن ينفعهم الإيمان عند حلول العذاب بهم.
قال- تعالى-: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ.
11- هذا، والمتدبر في سورة «غافر» بعد هذا العرض المجمل لآياتها يراها قد أقامت أنصع الأدلة وأقواها على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، كما يراها قد ساقت ألوانا من التسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما لحقه من قومه، تارة عن طريق قصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم، وتارة عن طريق التصريح بأن العاقبة ستكون له ولأتباعه، كما في قوله- تعالى-: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ.
كما يراها قد فصلت الحديث عن تكريم الله- تعالى- لعباده المؤمنين، تارة عن طريق استغفار الملائكة لهم، وتضرعهم إلى خالقهم أن يبعد الذين آمنوا عن عذاب الجحيم.
قال- تعالى-: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ.
وتارة عن طريق وعدهم بإجابة دعائهم، كما في قوله- تعالى-: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ.(12/257)
كما يرها قد اهتمت بالحديث عن مصارع الغابرين، بأسلوب يغرس الخوف في القلوب، ويبعث على التأمل والتدبر.
كما في قوله- تعالى-: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، فَأَخَذْتُهُمْ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ.
وكما في قوله- تعالى-: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ.
كما يراها قبل كل ذلك وبعد كل ذلك لها أسلوبها البليغ المؤثر في إحقاق الحق وإبطال الباطل، وفي تثبيت المؤمن وزلزلة الكافر، وفي تعليم الدعاة كيف يخاطبون غيرهم بأسلوب مؤثر حكيم، نراه متمثلا في تلك النصائح الغالية التي وجهها مؤمن آل فرعون إلى قومه، والتي حكاها القرآن في قوله وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ.
نسأل الله- تعالى- أن ينفعنا بتوجيهات القرآن الكريم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوى القاهرة- مدينة نصر مساء الجمعة: 28 من ذي الحجة سنة 1405 هـ/ 13/ 9/ 1985 م(12/258)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
سورة «غافر» من السور التي افتتحت ببعض الحروف المقطعة، وهو قوله- تعالى-:
حم.
وقد ذكرنا آراء العلماء في تلك الحروف المقطعة بشيء من التفصيل، عند تفسيرنا لسور:
البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس..
وقلنا ما خلاصته: لعل أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة، قد جيء بها في افتتاح بعض السور: على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.
فكأنه- سبحانه- يقول لهؤلاء المعاندين والمعارضين في أن القرآن من عند الله: ها كم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هي(12/259)
من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم، فإن كنتم في شك في أنه من عند الله- تعالى- فهاتوا مثله، أو عشر سور من مثله، أو سورة واحدة من مثله، فعجزوا وانقلبوا خاسرين، وثبت أن هذا القرآن من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
وقوله- تعالى-: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ جملة من مبتدأ وخبر، أى: هذا الكتاب منزل عليك- أيها الرسول الكريم- من الله- تعالى- وحده، وليس من عند أحد غيره.
ثم وصف- سبحانه- ذاته بثماني صفات تليق بذاته فقال: الْعَزِيزِ أى: الغالب لكل من سواه، من العز بمعنى القوة والغلبة. يقال: عزّ فلان يعز- من باب تعب- فهو عزيز، إذا كان معروفا بالقوة والمنعة، ومنه قولهم: أرض عزاز إذا كانت صلبة قوية.
الْعَلِيمِ أى: المطلع على أحوال خلقه دون أن يخفى عليه شيء منها.
غافِرِ الذَّنْبِ أى: ساتر لذنوب عباده، ومزيل لأثرها عنهم بفضله ورحمته.
فلفظ غافِرِ من الغفر بمعنى الستر والتغطية، يقال: غفر الله- تعالى- ذنب فلان غفرا ومغفرة وغفرانا، إذا غطاه وستره وعفا عنه.
ولفظ الذنب: يطلق على كل قول أو فعل تسوء عاقبته، مأخوذ من ذنب الشيء، أى:
نهايته وَقابِلِ التَّوْبِ والتوب مصدر بمعنى الرجوع عن الذنب والتوبة منه. يقال: تاب فلان عن الذنب توبة وتوبا إذا رجع عنه.
أى: أنه- سبحانه- يغفر ذنوب عباده، ويقبل توبتهم فضلا منه وكرما.
قال صاحب الكشاف: ما بال الواو في قوله وَقابِلِ التَّوْبِ؟
قلت: فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأنه لم يذنب. كأنه قال: جامع المغفرة والقبول.. «1» .
شَدِيدِ الْعِقابِ أى: لمن أشرك به، وأعرض عن الحق الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ذِي الطَّوْلِ أى: ذي الفضل والثواب والإنعام على من يشاء من عباده.
والطّول: السعة والغنى والزيادة، يقال: لفلان على فلان طول، أى زيادة وفضل، ومنه الطّول في الجسم لأنه زيادة فيه. قال- تعالى-: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا.. أى:
غنى وسعة.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 149.(12/260)
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أى: لا إله بحق وصدق إلا هو- سبحانه-.
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أى: إليه المرجع والمآب يوم القيامة، ليحاسبكم على أعمالكم في الدنيا.
قال القرطبي: روى عن عمر بن الخطاب- رضى عنه- أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فلما سأل عنه قيل له: تتابع في هذا الشراب.
فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إلى قوله- تعالى-: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا. ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما وصل الكتاب إلى الرجل جعل يقرؤه ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته.
فلما بلغ عمر ذلك قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلته فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه «1» .
ثم هون- سبحانه- على نبيه صلّى الله عليه وسلم من شأن الكافرين، وأخبره بأنهم أتفه من أن يغتر بهم فقال: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ.
والمراد بالجدال هنا: الجدال بالباطل، وأما الجدال من أجل الوصول إلى الحق فمحمود.
وقوله: فَلا يَغْرُرْكَ جواب لشرط محذوف. والتقلب: التنقل من مكان إلى آخر من أجل الحصول على المنافع والمكاسب.
أى: ما يجادل في آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته، عن طريق التكذيب بها والطعن فيها.. إلا الذين كفروا بالحق لما جاءهم، وإذا تقرر ذلك، فلا يغررك- أيها الرسول الكريم- تقلبهم في البلاد، وتصرفهم فيها عن طريق التجارات الرابحة، وجمع الأموال الكثيرة، فإن ما بين أيديهم من أموال إنما هو لون من الاستدراج، وعما قريب ستزول هذه الأموال من بين أيديهم، وستكون عليهم حسرة..
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أى: قبل هؤلاء الكافرين المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق قَوْمُ نُوحٍ الذين أغرقناهم بسبب هذا التكذيب لنبيهم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 291.(12/261)
وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أى: وكذلك الأقوام الآخرون الذين جاءوا من بعد قوم نوح، قد تحزبوا على أنبيائهم، وأجمعوا على تكذيبهم، كما فعل قوم عاد مع نبيهم هود، وكما فعل قوم ثمود مع نبيهم صالح، وكما فعل أهل مدين مع نبيهم شعيب..
فالضمير في قوله- تعالى-: مِنْ بَعْدِهِمْ يعود إلى قوم نوح. وأفردهم- سبحانه- بالذكر لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. ولم يزدهم دعاؤه لهم إلا عتوا ونفورا.
وقوله- تعالى-: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ بيان لما فعله هؤلاء الأقوام الظالمون مع أنبيائهم الذين جاءوا لهدايتهم..
أى: أن هؤلاء الأقوام المجرمين، لم يكنفوا بالتكذيب لأنبيائهم، بل إن كل أمة منهم قد مكرت بنبيها، وأرادت به السوء، وحاولت أن تتمكن منه بالأسر أو بالقتل، وجادلته بالجدال الباطل، لتزيل به الحق الذي جاء به من عند ربه وتبطله.
والتعبير بقوله: لِيَأْخُذُوهُ يشعر بأن هؤلاء المجرمين كانوا حريصين على التمكن من إيذاء نبيهم ومن الاعتداء عليه، كما يحرص الشخص على أخذ عدوه وأسره ليفعل به ما يشاء.
وقوله- تعالى-: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ بيان لما آل إليه مكرهم وجدالهم بالباطل.
أى: هموا بما هموا، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وحاولوا أن يجعلوا رسولهم بمنزلة الأسير فيهم. فكانت نتيجة كل ذلك أن أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، بأن دمرناهم تدميرا فكيف كان عقابي لهم؟ لقد كان عقابا مدمرا، جعلهم أثرا بعد عين، وترك آثار مساكنهم تشهد بهلاكهم واستئصالهم.
ثم بين- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف فقال: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ.
أى: وكما حقت كلمة ربك- أيها الرسول الكريم- ووجبت بإهلاك الأمم الماضية التي كذبت أنبياءها، وجعلهم وقودا للنار، فكذلك تكون سنتنا مع المكذبين لك من قومك، إذا ما استمروا في تكذيبهم لك، ولم يعودوا إلى طريق الحق.
فالآيات الكريمة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم وتحذير لمشركي قريش من الاستمرار في غيهم.
ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر رحمته بالمؤمنين، وتكريمهم، فذكر أن حملة عرشه(12/262)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
من وظائفهم الاستغفار للمؤمنين، والدعاء لهم بالخير فقال- تعالى-:
[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
والمراد بالذين يحملون العرش: عدد من الملائكة المقربين إلى الله- تعالى- ولا يعلم عددهم أحد سوى الله- تعالى- لأنه لم يرد نص صحيح في تحديد عددهم.
والمراد بمن حوله: عدد آخر من الملائكة يطوفون بالعرش مهللين مسبحين مكبرين لله- تعالى- كما قال- تعالى-: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ....
وعرش الله- تعالى- كما قال الراغب مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، فعلينا أن نؤمن بان لله- تعالى- عرشا عظيما، أما كيفيته وهيئته فنفوض معرفتها إلى الخالق- عز وجل-.
وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم في إحدى وعشرين آية.
والاسم الموصول في قوله- تعالى-: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ مبتدأ. وخبره قوله:
يُسَبِّحُونَ ...
والجملة الكريمة مستأنفة ومسوقة لتسلية النبي صلّى الله عليه وسلم ببيان أن هؤلاء الملائكة الذين هم(12/263)
أقرب الملائكة إلى الله- تعالى- يضمون إلى تسبيحهم لذاته- سبحانه-، الاستغفار للمؤمنين، والدعاء لهم.
وقد ذكر كثير من المفسرين كلاما طويلا في صفة هؤلاء الملائكة وفي صفة العرش. رأينا أن نضرب عنه صفحا لضعفه وقلة فائدته.
أى: الملائكة الكرام المقربون إلينا، والحاملون لعرشنا، والحافون به، من صفاتهم أنهم يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أى: ينزهون الله- تعالى- عن كل نقص، ويلهجون بحمده وبالثناء عليه بما يليق به.
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ- تعالى- إيمانا تاما لا يشوبه ما يتنافى مع هذا الإيمان والإذعان لله الواحد القهار.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما فائدة قوله- تعالى-: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون؟.
قلت: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح كذلك، كما عقب أعمال الخير بقوله- تعالى-: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
فأبان بذلك فضل الإيمان «1» .
ويستغفرون للذين آمنوا، أى: أنهم بجانب تسبيحهم وحمدهم لربهم، وإيمانهم به، يتضرعون إليه- سبحانه- أن يغفر للذين آمنوا ذنوبهم.
وفي هذا الاستغفار منهم للمؤمنين، إشعار بمحبتهم لهم، وعنايتهم بشأنهم، لأنهم مثلهم في الإيمان بوحدانية- الله تعالى- وفي وجوب إخلاص العبادة والطاعة له.
ثم حكى- سبحانه- كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً.
والجملة الكريمة على تقدير قول محذوف، وهذا القول في محل نصب على الحال من فاعل يَسْتَغْفِرُونَ وقوله رَحْمَةً وَعِلْماً منصوبان على التمييز.
أى: أنهم يستغفرون للذين آمنوا، حالة كونهم قائلين: يا ربنا يا من وسعت رحمتك ووسع علمك كل شيء، تقبل دعاءنا.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 152.(12/264)
فَاغْفِرْ بمقتضى سعة رحمتك وعلمك لِلَّذِينَ تابُوا إليك توبة صادقة نصوحا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ الحق، وصراطك المستقيم.
وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أى: وصنهم يا ربنا واحفظهم من الوقوع في جهنم لأن عذابها كرب عظيم.
يا رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ أى: وأدخلهم جناتك دخولا دائما لا انقطاع معه.
يقال: عدن فلان بالمكان يعدن عدنا، إذا لزمه وأقام فيه دون أن يبرحه، ومنه سمى الشيء المخزون في باطن الأرض بالمعدن، لأنه مستقر بداخلها.
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ فضلا منك وكرما.
وأدخل معهم مَنْ صَلَحَ لدخولها بسبب إيمانهم وعملهم الطيب مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ يا مولانا الْعَزِيزُ أى: الغالب لكل شيء الْحَكِيمُ في كل تصرفاتك وأفعالك.
فالمراد بالصلاح في قوله- تعالى-: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ: من كان منهم مؤمنا بالله، وعمل عملا صالحا، ودعوا لهم بذلك. ليتم سرورهم وفرحهم إذ وجود الآباء والأزواج والذرية مع الإنسان في الجنة، يزيد سروره وانشراحه.
وَقِهِمُ يا ربنا السَّيِّئاتِ أى: احفظهم يا ربنا من ارتكاب الأعمال السيئات، ومن العقوبات التي تترتب على ذلك، بأن تتجاوز عن خطاياهم.
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أى: في يوم القيامة الذي تجازى فيه كل نفس مما كسبت فَقَدْ رَحِمْتَهُ أى: فقد رحمته برحمتك الواسعة من كل سوء.
وَذلِكَ الذي تقدم من رحمتهم ومن إدخالهم الجنة، ومن وقايتهم السوء.
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا يضارعه فوز، والظفر الكبير الذي لا يقاربه ظفر، والأمل الذي لا مطمع وراءه لطامع.
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة، قد أخبرتنا أن الملائكة المقربين يدعون للمؤمنين بما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.
وكعادة القرآن الكريم في قرن الترغيب بالترهيب أو العكس: جاء الحديث بعد ذلك عن الكافرين. مبينا انقطاعهم عن كل من يشفع لهم، أو يدعو لهم بخير- كما دعا الملائكة للمؤمنين- فقال- تعالى-:(12/265)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
والمقت أشد أنواع البغض والغضب. يقال: مقته مقتا، إذا غضب عليه غضبا شديدا، ومنه قوله- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا «1» .
والمنادى لهؤلاء الكافرين: هم الملائكة خزنة النار، أو المؤمنون. وهذا النداء إنما يكون يوم القيامة، يوم توفى كل نفس ما كسبت.
أى: إن الذين كفروا بعد أن أحاطت بهم النار، وبعد أن عادوا على أنفسهم بأشد ألوان الندامة والحسرة والمقت. لإيثارها الكفر على الإيمان.
بعد كل ذلك يُنادَوْنَ بأن يقال لهم: إن مقت الله- تعالى- لكم بسبب إصراركم على الكفر حتى هلكتم.. أشد وأعظم من مقتكم لأنفسكم مهما بلغ مقتكم لها وكراهيتكم لها.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله يُنادَوْنَ المنادى لهم الخزنة أو المؤمنون يقولون إعظاما لحسرتهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول، كأنه قيل: ينادون مقولا لهم: لمقت.. ومقت مصدر مضاف إلى الاسم الجليل: إضافة المصدر لفاعله، وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب.. «2» .
__________
(1) سورة النساء الآية 22.
(2) تفسير الآلوسى ج 24 ص 50.(12/266)
وقوله- سبحانه-: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ تعليل لمقت الله أى: لغضب الله- تعالى- عليكم، أشد من غضبكم على أنفسكم الأمارة بالسوء وذلك لأنكم جاءتكم دعوة الحق على ألسنة رسلكم، فأعرضتم عنها، وصممتم على الكفر والفسوق والعصيان، حتى أدرككم الموت، وها أنتم اليوم تجزون ما كنتم تعملونه في الدنيا.
ثم يحكى- سبحانه- ما يقوله الكافرون بعد أن أنزل بهم- سبحانه- عقابه العادل فيقول: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ....
وأرادوا بالموتة الأولى: خلقهم من مادة لا روح فيها وهم في بطون أمهاتهم.. وأرادوا بالثانية: قبض أرواحهم عند انقضاء آجالهم.
وأرادوا بالحياة الأولى: نفخ أرواحهم في أجسادهم وهي في الأرحام، وأرادوا بالثانية إعادتهم إلى الحياة يوم البعث، للحساب والجزاء.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. «1» .
فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أى: أنت يا ربنا الذي- بقدرتك وحدها- أمتنا إماتتين اثنتين، وأحييتنا إحياءتين اثنتين، وها نحن قد اعترفنا بذنوبنا التي وقعت منا في الدنيا، وندمنا على ما كان منا أشد الندم..
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أى: فهل بعد هذا الاعتراف، في الإمكان أن تخرجنا من النار، وأن تعيدنا إلى الحياة الدنيا، لنؤمن بك حق الإيمان. ونعمل غير الذي كنا نعمل.
فأنت ترى أن الآية تصور ذلهم وحسرتهم أكمل تصوير، وأنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم، ولكن هذا التمني والتلهف جاء بعد فوات الأوان.
قال ابن كثير ما ملخصه: هذه الآية كقوله- تعالى-: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ... وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية.
وقال السدى: أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة.
وقال ابن زيد: أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم، ثم خلقهم في الأرحام. ثم أماتهم يوم القيامة.
وهذا القولان ضعيفان لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات.
__________
(1) سورة البقرة الآية 28.(12/267)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله، كما قال- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ «1» .
ثم بين- سبحانه- أن تذللهم هذا لن يجديهم، وأن ما هم فيه من عذاب سببه إعراضهم عن دعوة الحق في الدنيا، فقال: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
أى: ذلكم الذي نزل بكم من عذاب سببه، أنكم كنتم في الدنيا إذا عبد الله- تعالى- وحده، وطلب منكم ذلك كفرتم به- عز وجل-، وإن يشرك به غيره من الأصنام أو غيرها آمنتم، ومادام هذا حالكم في الدنيا، فاخسئوا في النار ولا تؤملوا في الخروج منها، بحال من الأحوال، فالحكم لله وحده دون غيره، وهو سبحانه الذي حكم عليكم بما حكم..
وهو- سبحانه- الْعَلِيِّ أى: المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته أو صفاته الْكَبِيرِ أى: العظيم الذي هو أعظم وأكبر من أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد.
وجمع- سبحانه- لذاته بين هذين الوصفين للدلالة على كبريائه وعظمته.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يدل على فضله ورحمته بعباده، وعلى وحدانيته وكمال قدرته، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه، وعلى أن كل نفس ستجازى في هذا اليوم بما كسبت بدون ظلم أو محاباة، لأن القضاء فيه لله الواحد القهار. فقال- تعالى-:
[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 22]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 122.(12/268)
والمقصود بآياته- عز وجل- في قوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ... الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته، كخلقه للشمس والقمر والليل والنهار، والبحار والأنهار، والسماء والأرض، والمطر والرعد، والنجوم والرياح، والأشجار الكبيرة والصغيرة.. إلى غير ذلك من آياته التي لا تحصى في هذا الوجود..
أى: هو- سبحانه- الذي يريكم آياته الدالة على وحدانيته وقدرته، لتزدادوا- أيها المؤمنون- إيمانا على إيمانكم، وثباتا على ثباتكم، ويقينا على يقينكم، بأن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد القهار.(12/269)
وقد ساق- سبحانه- في كتابه عشرات الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، ومن ذلك قوله- تعالى-:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «1» .
وقوله- عز وجل-: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ... «2» .
وقوله- تعالى-: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ «3» .
والمراد بالرزق في قوله: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً.. الأمطار التي تنزل من السماء على الأرض، فتحييها بعد موتها، بأن تحولها من أرض جدباء يابسة، إلى أرض خضراء بشتى الزروع والثمار.
وأطلق- سبحانه- على المطر رزقا. لأنه سبب فيه، وأفرده بالذكر مع كونه من جملة الآيات التي يريها- تعالى- لعباده لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته، وجلائل نعمه، الموجبة لشكره- عز وجل-، ولوجوب إخلاص العبادة له.
وقوله- تعالى-: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ بيان لمن هو أهل للانتفاع بهذه الآيات.
أى: وما يتذكر وينتفع بهذه الآيات إلا من يرجع عن المعصية إلى الطاعة وعن الكفر إلى الإيمان، وعن العناد والجحود، إلى التفكر والتدبر بقلب سليم.
فقوله يُنِيبُ من الإنابة، ومعناها الرجوع عن الكفر والمعاصي: إلى الإيمان والطاعة.
والفاء في قوله- تعالى-: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. للإفصاح عن شرط مقدر. أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن كل شيء في هذا الوجود يدل على وحدانية الله- تعالى- فأخلصوا له العبادة والطاعة وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ منكم ذلك- أيها المؤمنون- فلا تلتفتوا إلى كراهيتهم، وامضوا في طريق الحق، ودعوهم يموتوا بغيظهم..
وقد أخذ العلماء من هذا الآية الكريمة، وجوب إخلاص العبادة لله- تعالى- ووجوب الإكثار من التضرع إليه بالدعاء.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190.
(2) سورة الروم الآية 23. [.....]
(3) سورة يونس الآية 6.(12/270)