وقوله- سبحانه- ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ بيان لما فعله العزيز وحاشيته مع يوسف- عليه السلام- بعد أن ثبتت براءته.
وبدا هنا من البداء- بالفتح- وهو- كما يقول الإمام الرازي- عبارة عن تغير الرأى عما كان عليه في السابق.
والضمير في «لهم» يعود إلى العزيز وأهل مشورته.
والمراد بالآيات: الحجج والبراهين الدالة على براءة يوسف ونزاهته، كانشقاق قميصه من دبر، وقول امرأة العزيز ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، وشهادة الشاهد بأن يوسف هو الصادق وهي الكاذبة ... والحين: الزمن غير المحدد بمدة معينة.
والمعنى: ثم ظهر للعزيز وحاشيته، من بعد ما رأوا وعاينوا البراهين المتعددة الدالة على صدق يوسف- عليه السلام- وطهارة عرضه ... بدا لهم بعد كل ذلك أن يغيروا رأيهم في شأنه، وأن يسجنوه في المكان المعد لذلك، إلى مدة غير معلومة من الزمان.
واللام في قوله «ليسجننه» جواب لقسم محذوف على تقدير القول أى: ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين، والله ليسجننه حتى حين.
ولا شك أن الأمر بسجن يوسف- عليه السلام- كان بتأثير من امرأة العزيز، تنفيذا لتهديدها بعد أن صمم يوسف- عليه السلام- على عصيانها فيما تدعوه إليه، فقد سبق أن حكى القرآن عنها قولها وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ «1» .
ولا شك- أيضا- أن هذا القرار بسجن يوسف يدل على أن امرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها صاحب المنصب الكبير، فهي تقوده حيث تريد كما يقود الرجل دابته.
ولقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف فقال ما ملخصه: قوله ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ ...
__________
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 18 ص 133.(7/358)
وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب، وكان مطواعا لها، وجملا ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات، وعمل برأيها في سجنه، لإلحاق الصغار به كما أوعدته، وذلك لما أيست من طاعته لها، وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من أحواله بعد أن دخل السجن فقال: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ....
والفتيان: تثنية فتى، وهو من جاوز الحلم ودخل في سن الشباب.
قالوا: وهذان الفتيان كان أحدهما: خبازا للملك وصاحب طعامه وكان الثاني: ساقيا للملك، وصاحب شرابه.
وقد أدخلهما الملك السجن غضبا عليهما، لأنهما اتهما بخيانته.
والجملة الكريمة عطف على كلام محذوف يفهم من السياق، والتقدير بعد أن بدا للعزيز وحاشيته سجن يوسف. نفذا ما بدا لهم فسجنوه، ودخل معه في السجن فتيان من خدم الملك «قال أحدهما» وهو ساقى الملك ليوسف- عليه السلام-:
«إنى أرانى أعصر خمرا» أى: إنى رأيت فيما يرى النائم. أنى أعصر عنبا ليصير خمرا.
سماه بما يؤول إليه.
«وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه» أى: وقال الثاني وهو خباز الملك، إنى رأيت في المنام أنى أحمل فوق رأسى سلالا بها خبز، وهذا الخبز تأكل الطير منه وهو فوق رأسى.
والضمير المجرور في قوله: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يعود إلى المرئي في المنام أى: أخبرنا بتفسير ما رأيناه في منامنا، إذ نراك ونعتقدك من القوم الذين يحسنون تأويل الرؤى، كما أننا نتوسم فيك الخير والصلاح، لإحسانك إلى غيرك، من السجناء الذين أنت واحد منهم.
وقبل أن يبدأ يوسف- عليه السلام- في تأويل رؤياهما، أخذ يمهد لذلك بأن يعرفهما
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 319. وقوله (وفتلها منه في الذروة والغارب) مثل يضرب لمن يتلطف في خداع غيره، حتى يتمكن من إخضاعه له، ومن انقياده لأمره والذروة- بالكسر والضم- أعلى الشيء والمراد به هنا أعلى سنام البعير، والغارب المكان الذي العنق والسنام منه، والمراد أن صاحب الجمل يخفى الخطام ويأخذ في التحايل على الجمل حتى يتمكن منه فيضع فيه الخطام ويقوده به.(7/359)
بنفسه، وبعقيدته، ويدعوهما إلى عبادة الله وحده ويقيم لهما الأدلة على ذلك ...
وهذا شأن المصلحين العقلاء المخلصين لعقيدتهم الغيورين على نشرها بين الناس، إنهم يسوقون لغيرهم من الكلام الحكيم ما يجعل هذا الغير يثق بهم، ويقبل عليهم، ويستجيب لهم..
وهذا ما كان من يوسف- عليه السلام- فقد بدأ في رده عليهما بقوله: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ...
أى: قال يوسف لرفيقيه في السجن اللذين سألاه أن يفسر لهما رؤياهما: «لا يأتيكما» أيها الرفيقان «طعام ترزقانه» في سجنكما، في حال من الأحوال، إلا وأخبرتكما بماهيته وكيفيته وسائر أحواله قبل أن يصل إليكما.
وإنما قال لهما ذلك ليبرهن على صدقه فيما يقول، فيستجيبا لدعوته لهما إلى وحدانية الله بعد ذلك.
وقوله «ذلكما مما علمني ربي» نفى لما قد يتبادر إلى ذهنهما من أن علمه مأخوذ عن الكهانة أو التنجيم أو غير ذلك مما لا يقره الدين.
أى: ذلك التفسير الصحيح للرؤيا، والأخبار عن المغيبات، كإخباركما عن أحوال طعامكما قبل أن يصل إليكما..
ذلك كله إنما هو العلم الذي علمني إياه ربي وخالقي ومالك أمرى، وليس عن طريق الكهانة أو التنجيم كما يفعل غيرى.
وقوله: «مما علمني ربي» فيه إشعار بأن ما أخبرهما به من مغيبات هو جزء من علوم كثيرة علمها إياه ربه- عز وجل- فضلا منه- سبحانه- وكرما.
ثم أضاف إلى ذلك قوله: «إنى تركت ملة قوم» أى دين قوم «لا يؤمنون بالله» أى لا يدينون بالعبودية لله- تعالى- وحده الذي خلقهم ورزقهم، وإنما يدينون بالعبودية لآلهة أخرى لا تنفع ولا تضر.
«وهم بالآخرة» وما فيها من ثواب وعقاب «هم كافرون» جاحدون لما يجب الإيمان به.
وفي هذه الجملة الكريمة تعريض بما كان عليه العزيز وقومه، من إشراك وكفر، ولم يواجه الفتيان بأنهما على دين قومهما، وإنما ساق كلامه على سبيل العموم، لكي يزيد في استمالتهما إليه، وإقبالهما عليه..(7/360)
وهذا شأن الدعاة العقلاء، يلتزمون في دعوتهم إلى الله الحكمة والموعظة الحسنة، بدون إحراج أو تنفير.
ولما كان تركه لملة هؤلاء القوم، يقتضى دخوله في ملة قوم آخرين، تراه يصرح بالملة التي اتبعها فيقول: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي الكرام المؤمنين بوحدانية الله وبالآخرة وما فيها من حساب وجزاء.
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ. وسماهم آباء جميعا، لأن الأجداد آباء، وقدم الجد الأعلى ثم الجد الأقرب ثم الأب، لكون ابراهيم هو أصل تلك الملة التي اتبعها، ثم تلقاها عنه إسحاق، ثم تلقاها عن إسحاق يعقوب- عليهم السلام-.
وفي هذه الجملة الكريمة، بيان منه- عليه السلام- لرفيقيه في السجن، بأنه من سلسلة كريمة، كلها أنبياء، فحصل له بذلك الشرف الذي ليس بعده شرف، وقوله ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ تنزه عن الشرك بأبلغ وجه.
أى: ما صح وما استقام لنا أن نشرك بالله- تعالى- أى شيء من الإشراك، فنحن أهل بيت النبوة الذين عصمهم الله- تعالى- عن ذلك.
و «من» في قوله «من شيء» لتأكيد النفي وتعميمه. أى: ما كان لنا أهل هذا البيت الكريم أن نشرك بالله شيئا من الإشراك، قليلا ذلك الشيء أو حقيرا.
وقوله ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ ... اعتراف منه- عليه السلام- برعاية الله- تعالى- له ولآبائه.
واسم الإشارة. يعود إلى الإيمان بالله- تعالى- المدلول عليه بنفي الشرك.
أى: ذلك الإخلاص لله- تعالى- في العبادة، كائن من فضله- سبحانه- علينا معاشر هذا البيت، وعلى غيرنا من الناس، الذين هداهم إلى الإيمان الحق.
وقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ إنصاف للقلة الشاكرة لله- تعالى-.
أى: ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله- تعالى- على نعمه الجزيلة وآلائه التي لا تحصى.
وبعد أن عرف يوسف صاحبيه في السجن بنفسه وبملته وبآبائه. شرع يقيم لهم الأدلة على صحة عقيدته، وعلى فساد عقيدتهما فقال- كما حكى القرآن عنه: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
أى: يا صاحبي ورفيقي في السجن أخبرانى بربكما، أعبادة عدد من الأرباب المتفرقة في(7/361)
ذواتها وصفاتها «خير» لكما «أم» عبادة الله- تعالى- «الواحد» في ذاته وصفاته «القهار» لكل من غالبه أو نازعه؟
وكرر نداءهما بالصحبة ليتحبب إليهما بهذه الصفة التي فيها إيناس للقلوب، وليسترعى انتباههما إلى ما يقوله لهما.
قال صاحب المنار ما ملخصه: «وقوله: أأرباب متفرقون خير ... » هذا استفهام تقرير بعد تخيير، ومقدمة لأظهر برهان على التوحيد، وكان المصريون المخاطبون به، يعبدون كغيرهم من الأمم أربابا متفرقين في ذواتهم وفي صفاتهم وفي الأعمال التي يسندونها إليهم بزعمهم، فهو يقول لصاحبيه أأرباب متفرقون، أى عديدون هذا شأنهم في التفرق والانقسام «خير» لكما ولغيركما «أم الله الواحد القهار..» «1» .
ولا شك أن الجواب الذي لا يختلف فيه عاقلان، أن عبادة الله- تعالى- الواحد القهار، هي العبادة الصحيحة التي توافق الفطرة السليمة والعقول القويمة.
ثم انتقل يوسف- عليه السلام- إلى تفنيد العقائد الباطلة والأوهام الكاذبة فقال: «ما تعبدون من دونه» أى من دون الله- تعالى- المستحق للعبادة.
إِلَّا أَسْماءً أى ألفاظا فارغة لا قيمة لها.
سَمَّيْتُمُوها آلهة بزعمكم «أنتم وآباؤكم» أما هي فليس لها من هذا الاسم المزعوم ظل من الحقيقة، لأنها مخلوقة وليست خالقة، ومرزوقة وليست رازقة، وزائلة وليست باقية، وما كان كذلك لا يستحق أن يكون إلها.
ومفعول سَمَّيْتُمُوها الثاني محذوف. والتقدير سميتموها آلهة.
وقوله «وآباؤكم» لقطع عذرهم، حتى لا يقولوا: إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فكأنه- تعالى- يقول لهم: إن آباءكم كانوا أشد منكم جهلا وضلالا، فلا يصح لكم أن تقتدوا بهم.
والمراد بالسلطان في قوله- تعالى- ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ الحجة والبرهان.
أى: ما أنزل الله- تعالى- بتسميتها أربابا- كما سميتموها بزعمكم- من برهان أو دليل يشعر بتسميتها بذلك، وإنما أنتم الذين خلعتم عليها هذه الأسماء.
وقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم..
__________
(1) تفسير المنار ج 17 ص 307.(7/362)
أى: ما الحكم في شأن العقائد والعبادات والمعاملات وفي صحتها أو عدم صحتها إلا لله- تعالى- وحده، لأنه الخالق لكل شيء، والعليم بكل شيء.
وقوله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ انتقال من الأدلة الدالة على وحدانيته- سبحانه- إلى الأمر بإخلاص العبادة له وحده.
أى: أمر- سبحانه- عباده أن لا يجعلوا عبادتهم إلا له وحده، لأنه هو خالقهم ورازقهم، وهو يحييهم ويميتهم.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
أى: ذلك الذي أمرناكم به من وجوب إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، هو الدين القيم.
أى: الحق المستقيم الثابت، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم، لاستيلاء الشهوات والمطامع على نفوسهم.
وبعد أن عرف يوسف صاحبيه في السجن بنفسه، وأقام لهما الأدلة على أن عبادة الله- تعالى- وحده هي الدين الحق ودعاهما إلى الدخول فيه..
بعد كل ذلك شرع في تفسير رؤياهما ليزيدهما ثقة في قوله، فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو ساقى الملك، فيخرج من السجن بريئا ويسقى «ربه» أى: سيده الملك «خمرا» .
وَأَمَّا الْآخَرُ وهو خباز الملك وصاحب طعامه «فيصلب» أى: فيقتل ثم يصلب «فتأكل الطير من رأسه» بعد موته.
ولم يعين يوسف- عليه السلام- من هو الذي يسقى ربه خمرا، ومن هو الذي يصلب، وإنما اكتفى بقوله «أما أحدكما ... وأما الآخر» تلطفا معهما، وتحرجا من مواجهة صاحب المصير السيئ بمصيره، وإن كان في تعبيره ما يشير الى مصير كل منهما بطريق غير مباشر.
ثم أكد لهما الأمر واثقا من صدق العلم الذي علمه الله إياه، فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ.
والاستفتاء: مصدر استفتى إذا طلب الفتوى من غيره في أمر خفى عليه فهمه أى: تم التفسير الصحيح لرؤييكما اللتين سألتمانى عن تأويلهما.(7/363)
ثم ختم يوسف- عليه السلام- حديثه مع صاحبيه في السجن، بأن أوصى الذي ينجو منهما بوصية حكاها القرآن في قوله: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا، اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
أى: «وقال» يوسف- عليه السلام- للفتى الذي اعتقد أنه سينجو منهما وهو ساقى الملك، أيها الساقي بعد أن تخرج من السجن وتعود إلى عملك عند سيدك الملك، اذكر حقيقة حالي عنده، وأنى سجين مظلوم.
ولكن الساقي بعد أن عاد إلى عمله عند الملك، لم ينفذ الوصية، لأن الشيطان أنساه ما قاله له يوسف، فكانت النتيجة أن لبث يوسف- عليه السلام- في السجن مظلوما بضع سنين.
والبضع- بالكسر- من ثلاث إلى تسع، وهو مأخوذ من البضع- بالفتح- بمعنى القطع والشق. يقال: بضعت الشيء أى: قطعته.
وقد اختلفوا في المدة التي قضاها يوسف في السجن على أقوال من أشهرها أنه لبث فيه سبع سنين.
وعلى هذا التفسير يكون الضمير في «فأنساه» يعود إلى ساقى الملك، ويكون المراد بربه أى: سيده ملك مصر.
وهناك من يرى أن الضمير في قوله «فأنساه» يعود إلى يوسف- عليه السلام- وأن المراد بالرب هنا: الخالق- عز وجل-، وعليه يكون المعنى.
وقال يوسف- عليه السلام- للفتى الذي اعتقد نجاته وهو ساقى الملك: اذكر مظلمتي عند سيدك الملك عند ما تعود إليه. واذكر له إحسانى لتفسير الرؤى ...
وقوله فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أى: فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر حاجته لله وحده، ولا يذكرها للساقى ليبلغها إلى الملك.
فكانت النتيجة أن لبث يوسف في السجن بضع سنين بسبب هذا الاعتماد على المخلوق.
والذي يبدو لنا أن التفسير الأول أقرب إلى الصواب، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة، ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ... يدل دلالة واضحة على أن الضمير في قوله «فأنساه» يعود إلى ساقى الملك، وأن المراد بربه أى سيده.
وقد علق الإمام الرازي على هذه الآية تعليقا يشعر بترجيحه للرأى الثاني فقال ما(7/364)
ملخصه: «واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذا وإن كان جائزا لعامة الخلق، إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية، وألا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب..
ثم قال: والذي جربته من أول عمرى إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله، صار ذلك سببا إلى البلاء وإلى المحنة ... وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه، فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمرى إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه السابعة والخمسين من عمرى.
ثم قال: واعلم أن الحق هو قول من قال إن الضمير في قوله: «فأنساه الشيطان ذكر ربه» راجع إلى يوسف.. والمعنى: أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه وخالقه..» «1» .
ونحن مع احترامنا لرأى الفخر الرازي، إلا أننا ما زلنا نرى أن عودة الضمير في قوله «فأنساه» إلى الساقي الذي ظن يوسف أنه هو الناجي من العقوبة، أولى لما سبق أن ذكرناه.
قال ابن كثير: وقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ...
أى: «قال يوسف اذكر قصتي عند ربك وهو الملك، فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه بذلك، وكان نسيانه من جملة مكايد الشيطان.. هذا هو الصواب أن الضمير في قوله:
«فأنساه» .. عائد على الناجي كما قال مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد ... » «2» .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد قصت علينا بأسلوبها المشوق الحكيم جانبا من حياة يوسف- عليه السلام- في السجن فماذا كان بعد ذلك؟
لقد كان بعد ذلك أن أراد الله- تعالى- فتح باب الفرج ليوسف- عليه السلام-، وكان من أسباب ذلك أن رأى الملك في منامه رؤيا أفزعته، ولم يستطع أحد تأويلها تأويلا صحيحا سوى يوسف- عليه السلام- استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك فيقول:
__________
(1) تفسير الرازي ج 18 ص 144.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 316 طبعة دار الشعب وراجع تفسير المنار ج 2، ص 313.(7/365)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
[سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
فقوله- سبحانه-: وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ شروع في حكاية الرؤيا التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت ...
قال ابن كثير: «هذه الرؤيا من ملك مصر، مما قدر الله- تعالى- أنها كانت سببا لخروج يوسف- عليه السلام- من السجن معززا مكرما، وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا، فهالته وتعجب من أمرها، وما يكون تفسيرها فجمع الكهنة وكبراء دولته وأمراءها، وقص عليهم ما رأى، وسألهم عن تأويلها، فلم يعرفوا ذلك ... » «1» .
وقوله «عجاف» جمع عجفاء والعجف- بفتح العين والجيم- ذهاب السمن، يقال: هذا رجل أعجف وامرأة عجفاء، إذا ظهر ضعفهما وهزالهما..
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 217.(7/366)
أى: وقال ملك مصر في ذلك الوقت لكبار رجال مملكته: إنى رأيت فيما يرى النائم «سبع بقرات» قد امتلأن شحما ولحما يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أى: يأكل هذه البقرات السبع السمان، سبع بقرات أخرى عجاف أى: مهازيل ضعاف.
ورأيت- أيضا- فيما يرى النائم «سبع سنبلات خضر» قد امتلأت حبا، ورأيت إلى جانبها سبع سنبلات «أخر يابسات» قد ذهبت نضارتها وخضرتها، ومع هذا فقد التوت اليابسات على الخضر حتى غلبتها.
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أى: الأشراف والعلماء من قومي «أفتونى في رؤياي» أى: فسروا لي رؤياي هذه وبينوا لي ما تدل عليه.
إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أى: إن كنتم تعرفون تفسيرها وتأويلها معرفة سليمة، وتعلمون تعبيرها علما مستمرا.
و «تعبرون» من العبر، وهو اجتياز الطريق أو النهر من جهة إلى أخرى وسمى المفسر للرؤيا عابرا، لأنه يتأمل فيها وينتقل من كل طرف فيها إلى الطرف الآخر، كما ينتقل عابر النهر أو الطريق من جهة إلى أخرى.
قال بعض العلماء: والتعريف في «الملك» للعهد، أى ملك مصر، وسماه القرآن هنا ملكا ولم يسمه فرعون، لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر المصريين، وإنما كان ملكا لمصر أيام أن حكمها «الهكسوس» وهم العمالقة الذين ملكوا مصر من 1900 قبل الميلاد إلى سنة 1525 ق. م.
فالتعبير عنه بالملك هنا، دون التعبير عنه بفرعون مع أنه عبر عن ملك مصر في زمن موسى بفرعون، يعتبر من دقائق إعجاز القرآن العلمي.. «1» .
وقال «إنى أرى» بصيغة المضارع مع أنه قد رأى بالفعل، استحضارا لصورة الرؤيا حتى لكأنها ماثلة أمامه.
وقال «وأخر يابسات» بدون إعادة لفظ سبع كما في البقرات، للاكتفاء بدلالة المقابل في البقرات عليه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير ج 12 ص 280 للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.(7/367)
قلت: الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله «وأخر يابسات» بمعنى: وسبعا أخر يابسات» «1» .
وفي نداء الملك لقومه قوله يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي ... تشريف لهم، وحض على استعمال عقولهم وعلومهم في تفسير هذه الرؤيا التي أزعجته.
واللام في قوله «للرؤيا» لتقوية الفعل «تعبرون» حيث تأخر عن معموله.
ويبدو أن القوم في ذلك الزمان، كان بعضهم يشتغل بتفسير الرؤى، وكان لهذا التفسير مكانته الهامة فيهم ...
فقد مرت بنا رؤيا يوسف، ورؤيا رفيقيه في السجن، ثم جاءت رؤيا الملك هنا، وهذا يشعر بأن انفراد يوسف- عليه السلام- بتأويل رؤيا الملك، في زمن كثر فيه البارعون في تأويل الرؤى، كان بمثابة معجزة أو ما يشبه المعجزة من الله- تعالى- ليوسف- عليه السلام- حتى تزداد مكانته عند الملك وحاشيته.
وقوله- سبحانه- قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ حكاية لما رد به الكهان والأشراف على ما طلبه الملك منهم.
والأضغاث: جمع ضغث- بكسر الضاد- وهو ما جمع في حزمة واحدة من مختلف النيات وأعواد الشجر، فصار خليطا غير متجانس.
والأحلام: جمع حلم وحلم- بإسكان اللام وضمها تبعا للحاء- وهو ما يراه النائم في منامه، وتطلق كثيرا على ما ليس بحسن، ففي الحديث الصحيح: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» «2» .
أى: قال الملأ للملك: ما رأيته أيها الملك في نومك ما هو إلا تخاليط أحلام ومنامات باطلة، فلا تهتم بها.
فهم قد شبهوا ما رآه بالأضغاث في اختلاطها، وعدم التجانس بين أطرافها.
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم: «وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين» .
أى: إننا لسنا من أهل العلم بتفسير تخاليط الأحلام، وإنما نحن من أهل العلم بتفسير المنامات المعقولة المفهومة.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 323.
(2) صحيح البخاري- كتاب التعبير ج 9 ص 17.(7/368)
وقولهم هذا إنما هو اعتذار عن جهلهم، بمعرفة تفسير رؤيا الملك، ويبدو أن الملك كان يتوقع منهم هذا الجهل، كما يشعر به قوله- تعالى- إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ فقد أتى بإن المفيدة للشك.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: ما هو إلا حلم واحد فلماذا قالوا أضغاث أحلام فجمعوا!؟.
قلت: هو كما تقول فلان يركب الخيل، ويلبس عمائم الخز، لمن لا يركب إلا فرسا واحدا وماله إلا عمامة فردة، تزيدا في الوصف، فهؤلاء أيضا تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان فجعلوه أضغاث أحلام ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا سواها» «1» .
ثم بين- سبحانه- ما حدث بعد أن عجز الملأ من قوم الملك عن تأويل رؤياه فقال:
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أى: وقال أحد الرجلين اللذين كانا مع يوسف في السجن ثم خرج منه بريئا وهو ساقى الملك.
وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ: وتذكر بعد حين طويل من الزمان كيف فسر له يوسف رؤياه تفسيرا صادقا أيام أن كان معه في السجن.
وأصل «ادكر» اذتكر بوزن افتعل، مأخوذ من الذكر- بتشديد الذال وضمها- قلبت تاء الافتعال دالا لثقلها ولتقارب مخرجيهما، ثم قلبت الذال دالا ليتأتى إدغامها في الدال، لأنها أخف من الذال.
والأمة: الجماعة التي تؤم وتقصد لأمر ما، والمراد بها هنا: المدة المتطاولة من الزمان وكان هذا الساقي قد نسى ما أوصاه به يوسف من قوله «اذكرني عند ربك» فلما قال الملك ما قاله بشأن رؤياه، تذكر هذا الساقي حال يوسف.
قالوا: وكان ذلك بعد سنتين من خروجه من السجن.
وقوله أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ أى: قال الساقي للملك وحاشيته: أنا أخبركم بتأويله: بتفسير رؤيا الملك التي خفى تفسيرها على الملأ من قومه. فأرسلون، أى: فابعثونى إلى من عنده العلم الصحيح الصادق بتفسيرها.
ولم يذكر لهم اسم المرسل إليه، وهو يوسف- عليه السلام- لأنه أراد أن يفاجئهم بخبره بعد حصول تأويله للرؤيا، فيكون ذلك أوقع في قلوبهم، وأسمى لشأن يوسف- عليه السلام-.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 324.(7/369)
وقال فَأَرْسِلُونِ ليشعرهم أن هذا التأويل ليس من عند نفسه، وإنما هو من عند من يرسلونه إليه وهو يوسف- عليه السلام.
وقوله يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا ... من بديع الإيجاز بالحذف في القرآن الكريم، لأن المحذوف لا يتعلق بذكره غرض.
والتقدير: قال لهم أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون إلى من عنده العلم بذلك، فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال له: يا يوسف يا أيها الصديق.
والصديق: هو الإنسان الذي صار الصدق دأبه وشيمته في كل أحواله، ووصفه بذلك لأنه جرب منه الصدق التام أيام أن كان معه في السجن.
وقوله «أفتنا» أى فسر لنا تلك الرؤيا التي رآها الملك، والتي عجز الناس عن تفسيرها، وهي أن الملك رأى في منامه «سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات» .
وقوله «لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون» تعليل لطلب الفتوى، وبيان لأهمّيّتها بالنسبة له وليوسف- عليه السلام.
أى: فسر لنا هذه الرؤيا «لعلى أرجع إلى الناس» وهم الملك وأهل الحل والعقد في مملكته، «لعلهم يعلمون» تأويلها، فينتفعون به، وترتفع منزلتك عندهم.
وهنا تجد يوسف- عليه السلام- لا يكتفى بتأويل الرؤيا تأويلا مجردا بل يؤولها تأويلا صادقا صحيحا، ومعه النصح والإرشاد إلى ما يجب عمله في مثل هذه الأحوال، فقال: - كما حكى القرآن عنه-: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً....
وتزرعون هاهنا: خبر في معنى الأمر، بدليل قوله بعد ذلك «فذروه» ...
وعبر عن الأمر بالمضارع مبالغة في التعبير عن استجابتهم لنصيحته، فكأنهم قد امتثلوا أمره، وهو يخبر عن هذا الامتثال.
ودَأَباً مصدر دأب على الشيء إذا استمر عليه ولازمه يقال: دأب فلان على فعل هذا الشيء يدأب دأبا ودأبا إذا داوم عليه، وهو حال من ضمير «تزرعون» أى قال يوسف للساقى: فارجع إلى قومك فقل لهم إن يوسف يأمركم أن تزرعوا أرضكم سبع سنين زراعة مستمرة على حسب عادتكم.
فَما حَصَدْتُمْ من زرعكم في كل سنة، فذروه في سنبله، أى: فاتركوا الحب في سنبله ولا تخرجوه منها حتى لا يتعرض للتلف بسبب السوس أو ما يشبهه: إلا قليلا مما تأكلون،(7/370)
أى: اتركوا الحب في سنبله فلا تخرجوه منها، إلا شيئا قليلا منه فأخرجوه من السنابل لحاجتكم إليه في مأكلكم.
وفي هذه الجملة إرشاد لهم إلى أن من الواجب عليهم أن يقتصدوا في مأكولاتهم إلى أقصى حد ممكن لأن المصلحة تقتضي ذلك.
قال القرطبي: هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال، فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة ولا خلاف، فإن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله- تعالى- وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله- عز وجل- ورحمة رحم بها عباده ... » «1» .
وقوله ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أى: من بعد تلك السنين السبع المذكورات التي تزرعونها على عادتكم المستمرة في الزراعة.
سَبْعٌ شِدادٌ أى: سبع سنين صعاب على الناس، لما فيهن من الجدب والقحط، يأكلن ما قدمتم لهن، أى: يأكل أهل تلك السنين الشداد، كل ما ادخروه في السنوات السبع المتقدمة من حبوب في سنابلها.
وأسند الأكل إلى السنين على سبيل المجاز العقلي، من إسناد الشيء إلى زمانه.
وقوله إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أى: أن تلك السنين المجدبة ستأكلون فيها ما ادخرتموه في السنوات السابقة، إلا شيئا قليلا منه يبقى محرزا، لتنتفعوا به في زراعتكم لأرضكم.
فقوله تُحْصِنُونَ من الإحصان بمعنى الإحراز والادخار، يقال أحصن فلان الشيء، إذا جعله في الحصن، وهو الموضع الحصين الذي لا يوصل إليه إلا بصعوبة.
وحاصل تفسير يوسف- عليه السلام- لتلك الرؤيا: أنه فسر البقرات السمان والسنبلات الخضر، بالسنين السبع المخصبة. وفسر البقرات العجاف والسنبلات اليابسات بالسنين السبع المجدبة التي تأتى في أعقاب السنين المخصبة وفسر ابتلاع البقرات العجاف للبقرات السمان، بأكلهم ما جمع في السنين المخصبة، في السنين المجدبة.
ولقد كان هذا التأويل لرؤيا الملك تأويلا صحيحا صادقا من يوسف- عليه السلام- بسببه أنقذ الله- تعالى- مصر من مجاعة سبع سنين.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 9 ص 203.(7/371)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
وقوله ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ تبشير لهم بأن الخير سيأتيهم، بعد تلك السنوات الشداد، فقد جرت سنة الله- تعالى- أن يعقب العسر باليسر.
ولفظ يُغاثُ من الغوث بمعنى إزالة الهم والكرب عن طريق الأمطار التي يسوقها الله- تعالى- لهم بعد تلك السنوات الشداد التي قل فيها المطر.
يقال: غاث الله- تعالى- البلاد غيثا، إذا ساق لها المطر بعد أن يئسوا من نزوله، ويعصرون من العصر وهو الضغط على ما من شأنه أن يعصر، لإخراج ما فيه من مائع سواء كان هذا المائع زيتا أم ماء أم غيرهما.
أى: ثم يأتى من بعد تلك السنين السبع الشداد، عام فيه تزول الهموم والكروب ونقص الأموال عن الناس، بسبب إرسال الله- تعالى- المطر عليهم، فتخضر الأرض وتنبت من كل زوج بهيج، وفيه يعصرون من ثمار مزروعاتهم ما من شأنه أن يعصر كالزيتون وما يشبهه.
وهذا كناية عن بدء حلول الرخاء بهم، بعد تلك السنوات الشداد، وما قاله يوسف- عليه السلام- عن هذا العام الذي يأتى في أعقاب السنوات السبع الشداد، لا مقابل له في رؤيا الملك، بل هو خارج عنها، وذلك لزيادة التبشير للملك والناس، ولإفهامهم أن هذا العلم إنما بوحي من الله- تعالى- الذي يجب أن يخلص له الجميع العبادة والطاعة.
وإلى هنا نرى أن يوسف- عليه السلام- قد فسر رؤيا الملك تفسيرا سليما حكيما، من نتائجه الخير للملك وقومه ...
فماذا فعل الملك مع يوسف- عليه السلام- بعد ذلك؟
لقد قص علينا القرآن الكريم ما طلبه الملك من حاشيته وما رد به يوسف- عليه السلام- على رسول الملك، وما قالته النسوة وامرأة العزيز في شأن يوسف وما طلبه- عليه السلام- من الملك، استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه الخاص فيقول:
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 57]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)(7/372)
فقوله- سبحانه- وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ... حكاية لما طلبه الملك في ذلك الوقت من معاونيه في شأن يوسف- عليه السلام-، وفي الكلام حذف يفهم من المقام، والتقدير:
وقال الملك بعد أن سمع من ساقيه ما قاله يوسف في تفسير الرؤيا أحضروا لي يوسف هذا لأراه وأسمع منه، وأستفيد من علمه.
وهذا يدل- كما يقول الإمام الرازي- على فضيلة العلم، فإنه- سبحانه- جعل ما علمه ليوسف سببا لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سببا للخلاص من المحن الأخروية؟ «1» .
وقوله- سبحانه- فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 18 ص 151.(7/373)
قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ بيان لما قاله يوسف- عليه السلام- لرسول الملك ...
أى: فلما جاء رسول الملك إلى يوسف ليخبره بأن الملك يريد لقاءه، قال له يوسف بأناة وإباء: ارجع إلى ربك، أى إلى سيدك الملك «فاسأله» قبل خروجي من السجن وذهابي إليه «ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن» أى: ما حالهن، وما حقيقة أمرهن معى، لأن الكشف عن حقيقة أمرهن معى يهمني أن يكون واضحا في الأذهان والعقول، حتى يعرف الجميع أننى برئ، وأننى نقى العرض طاهر الذيل.
والمراد بالسؤال في قوله «ارجع إلى ربك فاسأله» الحث والتحريض على معرفة حقيقة أمر النسوة اللائي قطعن أيديهن ...
ولم يكشف له يوسف عن حقيقة أمرهن معه لزيادة تهييجه على البحث والتقصي إذ من شأن الإنسان- خصوصا إذا كان- حاكما- أن يأنف من أن يسأل عن شيء مهم، ثم لا يهتم بالإجابة عنه.
وقد آثر يوسف- عليه السلام- أن يكون هذا السؤال وهو في السجن لتظهر الحقيقة خالصة ناصعة، دون تدخل منه في شأنها.
وجعل السؤال عن النسوة اللائي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز، وفاء لحق زوجها، واحترازا من مكرها، ولأنهن كن شواهد على إقرارها بأنها قد راودته عن نفسه، فقد قالت أمامهن بكل تبجح وتكشف فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» .
واكتفى بالسؤال عن تقطيع أيديهن، دون التعرض لكيدهن له، سترا لهن، وتنزها منه- عليه السلام- عن ذكرهن بما يسوؤهن.
ولذا فقد اكتفى بالإشارة الإجمالية إلى كيدهن، وفوض أمرهن إلى الله- تعالى- فقال:
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ.
أى إن ربي وحده هو العليم بمكرهن بي، وكيدهن لي، وهو- سبحانه- هو الذي يتولى حسابهن على ذلك.
ولا شك في أن امتناع يوسف- عليه السلام- عن الذهاب إلى الملك إلا بعد التحقيق في قضيته، يدل دلالة واضحة على صبره، وسمو نفسه، وعلو همته ...
ولقد أجاد صاحب الكشاف في تعليله لامتناع يوسف عن الخروج من السجن للقاء الملك إلا بعد أن تثبت براءته فقال:(7/374)
«إنما تأنى وتثبت يوسف في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة، ليظهر براءة ساحته عما قذف به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده. ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا: ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم، وجرم كبير، حق به أن يسجن ويعذب، ويستكف شره.
وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفى التهم، واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها» «1» .
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث في فضل يوسف- عليه السلام- فقال ما ملخصه:
وقد وردت السنة بمدحه على ذلك- أى على امتناعه من الخروج من السجن حتى يتحقق الملك ورعيته من براءة ساحته ونزاهة عرضه- ففي الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرنى كيف تحيى الموتى؟ قال: أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» .
وروى الإمام أحمد عن أبى هريرة في قوله- تعالى- فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغيت العذر» .
وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجونى.
ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له، حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم إلى الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر» «2» .
هذا، وقوله- سبحانه- قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ حكاية لما فعله الملك بعد أن بلغه الرسول بما طلبه يوسف منه.
وفي الكلام حذف يفهم من السياق، والتقدير: وبعد أن رجع رسول الملك إليه وأخبره بما قاله يوسف، استجاب الملك لما طلبه يوسف منه، فأخضر النسوة وقال لهن: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 325.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 317، وما ورد في هذه الأحاديث إنما هو من باب التواضع من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم أقوى الرسل عزما، وأرفعهم مقاما، وأشدهم صبرا. [.....](7/375)
والخطب: مصدر خطب يخطب، ويطلق- غالبا- على الأمر المهم الذي يجعل الناس يتحدثون فيه كثيرا، وجمعه خطوب.
والمعنى: بعد أن جمع الملك النسوة قال لهن: ما الأمر الهام الذي حملكن في الماضي على أن تراودن يوسف عن نفسه؟ وهل وجدتن فيه ميلا إلى الاستجابة لكنّ..؟
قال صاحب الظلال ما ملخصه: «والخطب الأمر الجلل ... فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه، فهو يواجههن مقررا الاتهام، ومشيرا إلى أمر لهن جلل..
ومن هذا نعلم شيئا بما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير، وما قالته النسوة ليوسف، وما لمحن به وأشرن إليه، من الإغراء الذي بلغ حد المراودة.
ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ، فالجاهلية هي الجاهلية دائما، وأنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التحلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدى ثياب الأرستقراطية» «1» .
وأمام هذه المواجهة التي واجههن بها الملك، لم يملكن الإنكار، بل قلن بلسان واحد:
حاشَ لِلَّهِ أى: معاذ الله.
ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قط، وإنما الذي علمناه منه هو الاستعصام عن كل سوء.
وهنا قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ويبدو أنها كانت حاضرة، معهن عند الملك.
الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أى: الآن ظهر الحق وانكشف انكشافا تاما بعد أن كان خافيا والفعل حصحص أصله حص، كما قيل، كبكب في كب، وهو مأخوذ من الحص بمعنى الاستئصال والإزالة، تقول: فلان حص شعره إذا استأصله وأزاله فظهر ما كان خافيا من تحته ...
ثم أضافت إلى ذلك قولها «أنا راودته عن نفسه» أى: أنا التي طلبت منه ما طلبت «وإنه لمن الصادقين» في قوله «هي راودتني عن نفسي» .
وهكذا يشاء الله- تعالى- أن تثبت براءة يوسف على رءوس الأشهاد، بتلك الطريقة التي يراها الملك، وتنطق بها امرأة العزيز، والنسوة اللائي قطعن أيديهن.
قال صاحب الكشاف: «ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة، واعترافهن على
__________
(1) في ظلال القرآن ج 12 ص 1955.(7/376)
أنفسهن بأنه لم يتعلق بشيء مما قذفنه به لأنهن خصومه، وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال» «1» - إذ الفضل ما شهدت به الأعداء-.
ثم واصلت امرأة العزيز حديثها فقالت: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ.
أى: ذلك الذي قلته واعترفت به على نفسي من أنى راودته عن نفسه، إنما قلته ليعلم يوسف أنى لم أخنه في غيبته، ولم أقل فيه شيئا يسوؤه بعد أن فارقنى، ولبث بعيدا عنى في السجن بضع سنين، وإنما أنا أقرر أمام الملك وحاشيته بأنه من الصادقين ...
وإنما قررت ذلك لأن الله- تعالى- لا يهدى كيد الخائنين، أى: لا ينفذ كيدهم ولا يسدده، بل يفضحه ويزهقه ولو بعد حين من الزمان.
لذا فأنا التزمت الأمانة في الحديث عنه، وابتعدت عن الخيانة، لأن الله- تعالى- لا يرضاها ولا يقبلها.
فأنت ترى أن هذه المرأة التي شهدت على نفسها شهادة لا تبالي بما يترتب عليها بشأنها، قد عللت شهادتها هذه بعلتين:
إحداهما: كراهتها أن تخونه في غيبته بعد أن فقد الدفاع عن نفسه وهو في السجن..
وثانيتهما: علمها بأن الله- تعالى- لا يهدى كيد الخائنين ولا يسدده، وإنما يبطله ويزهقه..
ثم أضافت إلى كل ذلك قولها: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أى: ومع أنى أعترف بأنه من الصادقين، وأعترف بأنى لم أخنه بالغيب، إلا أنى مع كل ذلك لا أبرئ نفسي ولا أنزهها عن الميل إلى الهوى، وعن محاولة وصفه بما هو برىء منه، فأنا التي قلت لزوجي في حالة دهشتى وانفعالى الشديد، ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ وما حملني على هذا القول إلا هواى وشهواتى، ونفسي إن النفس البشرية لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء إلا نفسا رحمها الله وعصمها من الزلل والانحراف، كنفس يوسف- عليه السلام- وجملة إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لما قبلها، أى: إن ربي كثير الغفران وكثير الرحمة، لمن يشاء أن يغفر له ويرحمه من عباده.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 326.(7/377)
والذي يتأمل هذا الكلام الذي حكاه القرآن عن امرأة العزيز، يراه زاخرا بالصراحة التي ليس بعدها صراحة، وبالمشاعر والانفعالات الدالة على احترامها ليوسف الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، رغم الإغراءات المصحوبة بالترغيب والترهيب، ويبدو لنا- والله أعلم- أن هذا الكلام ما قالته امرأة العزيز، إلا بعد أن استقرت عقيدة الإيمان التي آمن بها يوسف في قلبها، وبعد أن رأت فيه إنسانا يختلف في استعصامه بالله وفي سمو نفسه، عن غيره من الناس الذين رأتهم.
هذا، ويرى كثير من المفسرين أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله- تعالى- وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وأن قوله- تعالى- بعد ذلك ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ... إلى قوله- تعالى- إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ هو من كلام يوسف- عليه السلام-، فيكون المعنى:
وذلك ليعلم «أى العزيز» أنى لم أخنه، في أهله بِالْغَيْبِ أى في غيبته وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ من النساء والرجال، بل يبطل هذا الكيد ويفضحه.
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أى: ولا أنزهها عن السوء، وهذا من باب التواضع منه- عليه السلام- إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أى: إن هذا الجنس من الأنفس البشرية، شأنه الأمر بالسوء والميل إلى الشهوات.
إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء.
إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من خلقه.
والذي نراه أن الرأى الأول الذي سرنا عليه هو الجدير بالقبول، لأنه هو المناسب لسياق الآيات من غير تكلف، ولأنه لا يؤدى إلى تفكك الكلام وانقطاع بعضه عن بعض، بخلاف الرأى الثاني الذي يرى أصحابه أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله- تعالى- «وإنه لمن الصادقين» فإنه يؤدى إلى تفكك الكلام، وعدم ارتباط بعضه ببعض، فضلا عن أن وقائع التاريخ لا تؤيده، لأن يوسف- عليه السلام- كان في السجن عند ما أحضر الملك النسوة وقال لهن: «ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ... » . وعند ما قالت امرأة العزيز أمام الملك وأمامهن: «الآن حصحص الحق..» إلى قوله- تعالى- إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ومن المفسرين الذين أيدوا الرأى الأول الإمام ابن كثير فقد قال ما ملخصه: «ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب ... » تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، بأنى راودت هذا الشاب(7/378)
فامتنع، وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ... تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء.
إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أى: من عصمه الله- تعالى- ...
ثم قال: «وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف- عليه السلام- عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك» «1» .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن القسم الأول من حياة يوسف- عليه السلام- القسم الذي تعرض خلاله لألوان من المحن والآلام، بعضها من إخوته، وبعضها من امرأة العزيز، وبعضها من السجن ومرارته ...
ثم بدأت بعد ذلك في الحديث عن الجانب الثاني من حياته عليه السلام.
وهو جانب الرخاء والعز والتمكين في حياته، فقال- تعالى-: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي....
وفي الكلام إيجاز بالحذف، والتقدير: وبعد أن انكشفت للملك براءة يوسف- عليه السلام- انكشافا تاما، بسبب ما سمعه عنه من النسوة ومن امرأة العزيز، وبعد أن سمع تفسيره للرؤيا وأعجب به، كما أعجب بسمو نفسه وإبائه ...
بعد كل ذلك قال الملك لخاصته: ائتوني بيوسف هذا، ليكون خالصا لنفسي، وخاصا بي في تصريف أمورى، وكتمان أسرارى، وتسيير دفة الحكم في مملكتي.
والسين والتاء في قوله «أستخلصه» للمبالغة في الخلوص له، فهما للطلب كما في استجاب، والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة.
فكأن الملك قد شبه يوسف- عليه السلام- بالشيء النفيس النادر، الذي يجب أن يستأثر به الملك دون أن يشاركه فيه أحد سواه.
والفاء في قوله «فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين» معطوفة على محذوف يفهم من السياق.
والضمير المنصوب في «كلّمه» يعود على الملك- على الراجح-.
والمراد باليوم: الزمان الذي حدث فيه التخاطب بين الملك ويوسف.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 320.(7/379)
ومَكِينٌ صفة مشبهة من الفعل مكن- بضم الكاف-، بمعنى صاحب مكانة ومرتبة عظيمة، يقال: مكن فلان مكانة إذا ارتفعت منزلته، ويقال: مكنت فلانا من هذا الشيء إذا جعلت له عليه سلطانا وقدرة.
أَمِينٌ بزنة فعيل بمعنى مفعول، أى: مأمون على ما نكلفك به، ومحل ثقتنا.
والمعنى: وقال الملك لجنده ائتوني بيوسف هذا أستخلصه لنفسي فأتوه به إلى مجلسه.
فازداد حب الملك له وتقديره إياه وقال له: إنك منذ اليوم عندنا صاحب الكلمة النافذة، والمنزلة الرفيعة، التي تجعلنا نأتمنك على كل شيء في هذه المملكة، وتلك المقالة من الملك ليوسف، هي أولى بشائر عاقبة الصبر وعزة النفس، وطهارة القلب، والاستعصام بحبل الله المتين ...
وهنا طلب يوسف- عليه السلام- من الملك بعزة وإباء أن يجعله في الوظيفة التي يحسن القيام بأعبائها قالَ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ والخزائن جمع خزانة- بكسر الخاء وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، والمراد بالأرض: أرض مصر.
أى: قال يوسف- عليه السلام- للملك: اجعلنى- أيها الملك- المتصرف الأول في خزائن أرض مملكتك، المشتملة على ما يحتاج إليه الناس من أموال وأطعمة، لأنى شديد الحفظ لما فيها، عليم بوجوه تصريفها فيما يفيد وينفع ...
فأنت ترى أن يوسف- عليه السلام- لم يسأل الملك شيئا لنفسه من أعراض الدنيا، وإنما طلب منه أن يعينه في منصب يتمكن بواسطته من القيام برعاية مصالح الأمة، وتدبير شئونها ... لأنها مقبلة على سنوات عجاف، تحتاج إلى خبرة يوسف وأمانته وكفاءته، وعلمه ...
قال صاحب الكشاف: «وصف يوسف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى- وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقومه مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله- لا لحب الملك والدنيا» «1» .
وقال القرطبي ما ملخصه: «ودلت الآية- أيضا- على جواز أن يطلب الإنسان عملا يكون له أهلا.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 328.(7/380)
فإن قيل: فإن ذلك يعارضه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة من نهيه عن طلب الإمارة ...
فالجواب: أولا: أن يوسف- عليه السلام- إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره ...
الثاني: أنه لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض لأنى حسيب كريم، وإن كان كذلك، ولم يقل إنى جميل مليح ... وإنما قال إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ فسألها بالحفظ والعلم لا بالنسب والجمال.
الثالث: إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله- تعالى- فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ... «1» .
والخلاصة أن يوسف- عليه السلام- إنما قال ما قال للملك، وطلب ما طلب منه، لأنه علم أن هذا المنصب لا يصلح له أحد سواه في ذلك الوقت وفي تلك الظروف، فهو يريد من ورائه خدمة الأمة لأجر منفعة شخصية لنفسه ...
وما قاله إنما هو من باب التحدث بنعمة الله- تعالى- الذي أعطاه هذه الصفات الكريمة، والمناقب العالية، وليس من باب تزكية النفس المحظورة.
هذا، وقوله- سبحانه- وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ... بيان لسنة الله- تعالى- في خلقه، من كونه- سبحانه- لا يضيع أجر الصابرين المحسنين أى: ومثل هذا التمكين العظيم. مكنا ليوسف في أرض مصر، بعد أن مكث في سجنها بضع سنين، لا لذنب اقترفه، وإنما لاستعصامه بأمر الله.
وقوله يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ تفصيل للتمكين الذي منحه الله- تعالى- ليوسف في أرض مصر، والتبوأ اتخاذ المكان للنزول به. يقال: بوأ فلان فلانا منزلا. أى مكنه منه وأنزله به أى: ومثل هذا التمكين العظيم، مكنا ليوسف في أرض مصر، حيث هيأنا له أن ينتقل في أماكنها ومنازلها حيث يشاء له التنقل، دون أن يمنعه مانع من الحلول في أى مكان فيها.
فالجملة الكريمة كناية عن قدرته على التصرف والتنقل في جميع أرض مصر، كما يتصرف ويتنقل الرجل في منزله الخاص.
وقوله: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ... بيان لكمال قدرته ونفاذ إرادته- سبحانه-
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 9 ص 216.(7/381)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
أى: نصيب برحمتنا وفضلنا وعطائنا من نشاء عطاءه من عبادنا بمقتضى حكمتنا ومشيئتنا.
وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يتقنون أداء ما كلفهم الله بأدائه، بل نوفيهم أجورهم على إحسانهم في الدنيا قبل الآخرة إذا شئنا ذلك.
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ آمَنُوا بالله- تعالى- إيمانا حقا وَكانُوا يَتَّقُونَ خالقهم- عز وجل- في كل ما يأتون وما يذرون، بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه.
وهكذا كافأ الله- تعالى- يوسف على صبره وتقواه وإحسانه، بما يستحقه من خير وسعادة في الدنيا والآخرة.
ثم تطوى السورة بعد ذلك أحداثا نكل معرفتها إلى فهم القارئ وفطنته، فهي لم تحدثنا- مثلا- عن الطريقة التي اتبعها يوسف في إدارته لخزائن أرض مصر، اكتفاء بقوله إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ للدلالة على كفايته وأمانته.
كذلك لم تحدثنا عن أحوال الناس في السنوات السبع العجاف، وفي السنوات الخضر لأن هذا مقرر ومعروف في دنيا الناس.
كذلك لم تحدثنا عن صلة الملك وحاشيته بيوسف، بعد أن صار أمينا على خزائن الأرض، بل أفسحت المجال كله للحديث عن يوسف، إنزالا للناس منازلهم، إذ هو صاحب التفسير الصحيح لرؤيا الملك، وصاحب الأفكار الحكيمة التي أنقذت الأمة من فقر سبع سنوات شداد، وصاحب الدعوة إلى وحدانية الله- تعالى- وإخلاص العبادة له، بين قوم يشركون مع الله في العبادة آلهة أخرى.
لم تحدثنا السورة الكريمة عن كل ذلك، في أعقاب حديثها عن تمكين الله- تعالى- ليوسف في الأرض، وإنما انتقلت بنا بعد ذلك مباشرة إلى الحديث عن لقاء يوسف بإخوته، وعما دار بينه وبينهم من محاورات، وعن إكرامه لهم ...
قال تعالى:
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)(7/382)
قال الفخر الرازي- رحمه الله- اعلم أنه لما عم القحط في البلاد، ووصل أيضا إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب- عليه السلام- وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه: إن بمصر صالحا يمير الناس- أى يعطيهم الطعام وما هم في حاجة إليه في معاشهم- فاذهبوا إليه بدراهمكم، وخذوا منه الطعام، فخرجوا إليه وهم عشرة وبقي «بنيامين» مع أبيه، ودخلوا على يوسف- عليه السلام- وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف مع إخوته، وظهور صدق ما أخبره الله- تعالى- عنه في قوله ليوسف حال ما ألقوه في الجب لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ «1» .
وقد جاءوا إليه جميعا- ما عدا «بنيامين» وهو الشقيق الأصغر ليوسف ليحصلوا منه على أكبر كمية من الطعام على حسب عددهم، وليكون عندهم القدرة على صد العدوان إذا ما تعرض لهم قطاع الطرق الذين يكثرون في أوقات الجدب والجوع.
وعبر عن معرفة يوسف لهم بالجملة الفعلية، وعن جهلهم له بالجملة الاسمية للإشعار بأن معرفته لهم حصلت بمجرد رؤيته لهم، أما هم فعدم معرفتهم له كان أمرا ثابتا متمكنا منهم.
قال صاحب الكشاف: «لم يعرفوه لطول العهد، ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه، واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحا في البئر، حتى لو تخيلوا أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأن الملك مما يبدل الزي، ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف ... » «2» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 18 ص 165.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 329.(7/383)
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المجاعة التي حدثت في السبع السنين الشداد شملت مصر وما جاورها من البلاد- كما سبق أن أشرنا-.
كما يؤخذ منها أن مصر كانت محط أنظار المعسرين من مختلف البلاد بفضل حسن تدبير يوسف- عليه السلام- وأخذه الأمور بالعدالة والرحمة وسهره على مصالح الناس، ومراقبته لشئون بيع الطعام، وعدم الاعتماد على غيره حتى إن إخوته قد دخلوا عليه وحده، دون غيره من المسئولين في مصر.
وقوله- سبحانه- وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ... بيان لما فعله يوسف معهم بعد أن عرفهم دون أن يعرفوه.
وأصل الجهاز- بفتح الجيم وكسرها قليل-: ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع، يقال: جهزت المسافر، أى هيأت له جهازه الذي يحتاج إليه في سفره، ومنه جهاز العروس وهو ما تزف به إلى زوجها، وجهاز الميت وهو ما يحتاج إليه في دفنه ...
والمراد: أن يوسف بعد أن دخل عليه إخوته وعرفهم، أكرم وفادتهم. وعاملهم معاملة طيبة جعلتهم يأنسون إليه، وهيأ لهم ما هم في حاجة إليه من الطعام وغيره، ثم استدرجهم بعد ذلك في الكلام حتى عرف منهم على وجه التفصيل أحوالهم.
وذلك لأن قوله لهم ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ يستلزم أن حديثا متنوعا نشأ بينه وبينهم، عرف منه يوسف، أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا فلو كان هذا الطلب منه لهم بعد معرفته لهم مباشرة، لشعروا بأنه يعرفهم وهو لا يريد ذلك.
ومن هنا قال المفسرون: إن قوله ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ يقتضى كلاما دار بينه وبينهم نشأ عنه هذا الطلب، ومما قالوه في توضيح هذا الكلام: ما روى من أنهم بعد أن دخلوا عليه قال لهم: من أنتم وما شأنكم؟ فقالوا: نحن قوم من أهل الشام، جئنا نمتار، ولنا أب شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب، فقال لهم: كم عددكم قالوا عشرة، وقد كنا اثنى عشر، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك، وكان أحبنا إلى أبينا، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه، هو باق لديه يتسلى به، فقال لهم حينئذ ائتوني بأخ لكم من أبيكم» «1» .
ويروى أنه قال لهم ذلك بعد أن طلبوا منه شيئا زائدا عن عددهم، لأن لهم أخا لم يحضر معهم، فأعطاهم ما طلبوه، واشترط عليهم إحضار أخيهم هذا معهم، ليتأكد من صدقهم» «2» .
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 2 ص 37.
(2) راجع تفسير القرطبي ج 9 ص 231.(7/384)
والمعنى: وبعد أن أعطى يوسف إخوته ما هم في حاجة إليه، وعرف منهم أن لهم أخا من أبيهم قد تركوه في منازلهم ولم يحضر معهم، قال لهم: أنا أريدكم في الزيارة القادمة لي، أن تحضروه معكم لأراه ...
وقوله «من أبيكم» حال من قوله «أخ لكم» أى: أخ لكم حالة كونه من أبيكم، وليس شقيقا لكم، فإن هذا هو الذي أريده ولا أريد غيره.
وهذا من باب المبالغة في عدم الكشف لهم عن نفسه، حتى لكأنه لا معرفة له بهم ولا به إلا من ذكرهم إياه له.
وقوله: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ تحريض لهم على الإتيان به، وترغيب لهم في ذلك حتى ينشطوا في إحضاره معهم.
أى: ألا ترون أنى أكرمت وفادتكم، وأعطيتكم فوق ما تريدون من الطعام، وأنزلتكم ببلدى منزلا كريما ... وما دام أمرى معكم كذلك، فلا بد من أن تأتونى معكم بأخيكم من أبيكم في المرة القادمة، لكي أزيد في إكرامكم وعطائكم.
والمراد بإيفاء الكيل: إتمامه بدون تطفيف أو تنقيص.
وعبر بصيغة الاستقبال «ألا ترون ... » مع كونه قد قال هذا القول بعد تجهيزه لهم.
للدلالة على أن إيفاءه هذا عادة مستمرة له معهم كلما أتوه.
وجملة وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ حالية، والمنزل: المضيف لغيره. أى: والحال أنى خير المضيفين لمن نزل في ضيافتي، وقد شاهدتم ذلك بأنفسكم.
ثم أتبع هذا الترغيب بالترهيب فقال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ.
أى: لقد رأيتم منى كل خير في لقائكم معى هذا، وقد طلبت منكم أن تصحبوا معكم أخاكم من أبيكم في لقائكم القادم معى، فإن لم تأتونى به معكم عند عودتكم إلى، فإنى لن أبيعكم شيئا مما تريدونه من الأطعمة وغيرها، وفضلا عن ذلك فإنى أحذركم من أن تقربوا بلادي فضلا عن دخولها.
هذا التحذير منه- عليه السلام- لهم، يشعر بأن إخوته قد ذكروا له بأنهم سيعودون إليه مرة أخرى، لأن ما معهم من طعام لا يكفيهم إلا لوقت محدود من الزمان.
وقوله- سبحانه-: قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ حكاية لما رد به إخوة يوسف عليه.(7/385)
أى قال إخوة يوسف له بعد أن أكد لهم وجوب إحضار أخيهم لأبيهم معهم: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أى: سنطلب حضوره معنا من أبيه برفق ولين ومخادعة ومحايلة «وإنا لفاعلون» هذه المراودة باجتهاد لا كلل ولا ملل معه وفاء لحقك علينا.
وقولهم هذا يدل دلالة واضحة على أنهم كانوا يشعرون بأن إحضار أخيهم لأبيهم معهم- وهو «بنيامين» الشقيق الأصغر ليوسف-، ليس أمرا سهلا أو ميسورا، وإنما يحتاج إلى جهد كبير مع أبيهم حتى يقنعوه بإرساله معهم.
ثم بين- سبحانه- ما فعله يوسف مع إخوته وهم على وشك الرحيل فقال: وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
والفتيان: جمع فتى والمراد بهم هنا من يقومون بخدمته ومساعدته في عمله.
والبضاعة في الأصل: القطعة الوفيرة من الأموال التي تقتنى للتجارة، مأخوذة من البضع بمعنى القطع.
والمراد بها هنا: أثمان الطعام الذي أعطاه لهم يوسف- عليه السلام-.
والرحال: جمع رحل، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب.
والمعنى: وقال يوسف- عليه السلام- لفتيانه الذين يقومون بتلبية مطالبه: أعيدوا إلى رحال هؤلاء القوم- وهم إخوته- الأثمان التي دفعوها لنا في مقابل ما أخذوه منا من طعام، وافعلوا ذلك دون أن يشعروا بكم، لعل هؤلاء القوم عند ما يعودون إلى بلادهم، ويفتحون أمتعتهم، فيجدون فيها الأثمان التي دفعوها لنا في مقابل ما أخذوه من طعام وغيره.
لعلهم حينئذ يرجعون إلينا مرة أخرى، ليدفعوها لنا في مقابل ما أخذوه.
وكأن يوسف- عليه السلام- أراد بفعله هذا حملهم على الرجوع إليه ومعهم «بنيامين» لأن من شأن النفوس الكبيرة أن تقابل الإحسان بالإحسان وأن تأنف من أخذ المبيع دون أن تدفع لصاحبه ثمنه.
وقوله لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ تعليل لأمره فتيانه بجعل البضاعة في رحال إخوته. إذ أن معرفتهم بأن بضاعتهم قد ردت إليهم لا يتم إلا بعد انقلابهم- أى رجوعهم- إلى أهلهم، وبعد تفريغها عندهم.
وقوله «لعلهم يرجعون» جواب للأمر. أى: اجعلوها كذلك، لعلهم بعد اكتشافهم أنهم ما دفعوا لنا ثمن ما أخذوه، يرجعون إلينا ليدفعوا لنا حقنا.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عما دار بين يوسف وإخوته بعد أن دخلوا عليه(7/386)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
فعرفهم وهم له منكرون، وبعد أن طلب منهم بقوة أن يعودوا إليه ومعهم أخوهم لأبيهم ...
فماذا كان بعد ذلك؟
لقد حكت لنا السورة الكريمة ما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم من محاورات طلبوا خلالها منه أن يأذن لهم في اصطحاب «بنيامين» معهم في رحلتهم القادمة إلى مصر، كما حكت ما رد به أبوهم عليهم. قال- تعالى-:
[سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 68]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)(7/387)
وقوله- سبحانه-: فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ ... حكاية لما قاله إخوة يوسف لأبيهم فور التقائهم به.
والمراد بالكيل: الطعام المكيل الذي هم في حاجة إليه.
والمراد بمنعه: الحيلولة بينهم وبينه في المستقبل، لأن رجوعهم بالطعام قرينة على ذلك.
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف، يدرك من السياق والتقدير: ترك إخوة يوسف مصر، وعادوا إلى بلادهم، بعد أن وعدوه بتنفيذ ما طلبه منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم، ودخلوا على أبيهم قالوا له بدون تمهل.
يا أَبانا لقد حكم عزيز مصر بعدم بيع أى طعام لنا بعد هذه المرة إذا لم نأخذ معنا أخانا «بنيامين» ليراه عند عودتنا إليه فقد قال لنا مهددا عند مغادرتنا له: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ.
وأنت تعلم أننا لا بد من عودتنا إليه، لجلب احتياجاتنا من الطعام وغيره، فنرجوك أن توافقنا على اصطحاب «بنيامين» معنا «وإنا له لحافظون» حفظا تاما من أن يصيبه مكروه.
والآية الكريمة واضحة الدلالة على أن قولهم هذا لأبيهم، كان بمجرد رجوعهم إليه، وكان قبل أن يفتحوا متاعهم ليعرفوا ما بداخله ...
وكأنهم فعلوا ذلك ليشعروه بأن إرسال بنيامين معهم عند سفرهم إلى مصر، أمر على أكبر جانب من الأهمية، وأن عدم إرساله سيترتب عليه منع الطعام عنهم.
وقرأ حمزة والكسائي «فأرسل معنا أخانا يكتل» - بالياء- أى: فأرسله معنا ليأخذ نصيبه من الطعام المكال، لأن عزيز مصر لا يعطى طعاما لمن كان غائبا.
وعلى كلا القراءتين فالفعل مجزوم في جواب الطلب.
وقالوا له وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ بالجملة الاسمية، لتأكيد حفظهم له: وأن ذلك أمر ثابت عندهم ثبوتا لا مناص منه.
ولكن يبدو أن قولهم هذا قد حرك كوامن الأحزان والآلام في نفس يعقوب، فهم الذين سبق أن قالوا له في شأن يوسف- أيضا- أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.(7/388)
لذا نجده يرد عليهم في استنكار وألم بقوله: قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ....
أى: قال يعقوب لأولاده بعد أن طلبوا منه بإلحاح إرسال أخيهم معهم، وبعد أن تعهدوا بحفظه: أتريدون أن أأتمنكم على ابني «بنيامين» ، كما ائتمنتكم على شقيقه يوسف من قبل هذا الوقت، فكانت النتيجة التي تعرفونها جمعا، وهي فراق يوسف لي فراقا لا يعلم مداه إلا الله- تعالى-؟!! لا، إننى لا أثق بوعودكم بعد الذي حدث منكم معى في شأن يوسف. فالاستفهام في قوله «هل آمنكم ... » للإنكار والنفي.
وقوله فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ تفريع على استنكاره لطلبهم إرسال «بنيامين» معهم، وتصريح منه لهم بأن حفظ الله- تعالى- خير من حفظهم.
أى: إننى لا أثق بوعودكم لي بعد الذي حدث منكم بالنسبة ليوسف، وإنما أثق بحفظ الله ورعايته «فالله» - تعالى- «خير حافظا» لمن يشاء حفظه، فمن حفظه سلم، ومن لم يحفظه لم يسلم، كما لم يسلم أخوه يوسف من قبل حين ائتمنتكم عليه «وهو» - سبحانه- أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لخلقه، فأرجو أن يشملني برحمته، ولا يفجعنى في «بنيامين» ، كما فجعت في شقيقه يوسف من قبل.
ويبدو أن الأبناء قد اقتنعوا برد أبيهم عليهم، واشتموا من هذا الرد إمكان إرساله معهم، لذا لم يراجعوه مرة أخرى.
قال الآلوسى ما ملخصه: «وهذا- أى رد يعقوب عليهم- ميل منه- عليه السلام- إلى الإذن والإرسال لما رأى فيه من المصلحة، وفيه أيضا من التوكل على الله- تعالى- ما لا يخفى، ولذا روى أن الله- تعالى- قال: «وعزتي وجلالي لأردهما عليك إذ توكلت على ... » وقرأ أكثر السبعة فالله خير حفظا ... وقرأ حمزة والكسائي وحفص «حافِظاً ... » وعلى القراءتين فهو منصوب على أنه تمييز ... » «1» .
ثم اتجه الأبناء بعد هذه المحاورة مع أبيهم إلى أمتعتهم ليفتحوها ويخرجوا ما بها من زاد حضروا به من مصر، فكانت المفاجأة التي حكاها القرآن في قوله:
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ....
أى: وحين فتحوا أوعيتهم التي بداخلها الطعام الذي اشتروه من عزيز مصر. فوجئوا بوجود أثمان هذا الطعام قد رد إليهم معه، ولم يأخذها عزيز مصر، بل دسها داخل أوعيتهم
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 11.(7/389)
دون أن يشعروا، فدهشوا وقالوا لأبيهم متعجبين:
يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا أى: يا أبانا ماذا نطلب من الإحسان والكرم أكثر من هذا الذي فعله معنا عزيز مصر؟ لقد أعطانا الطعام الذي نريده، ثم رد إلينا ثمنه الذي دفعناه له دون أن يخبرنا بذلك.
فما في قوله ما نَبْغِي استفهامية، والاستفهام للتعجب من كرم عزيز مصر، وهي مفعول نبغى، ونبغى من البغاء- بضم الباء- وهو الطلب.
والمراد ببضاعتهم: الثمن الذي دفعوه للعزيز في مقابل ما أخذوه منه من زاد.
وجملة هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا مستأنفة لتوضيح ما دل عليه الاستفهام من التعجب، بسبب ما فعله معهم عزيز مصر من مروءة وسخاء.
فكأنهم قالوا لأبيهم: كيف لا نعجب وندهش، وهذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا ندري ومعها الأحمال التي اشتريناها من عزيز مصر لم ينقص منها شيء؟
وقوله وَنَمِيرُ أَهْلَنا معطوف على مقدر يفهم من الكلام، أى: «هذه بضاعتنا ردت إلينا» فننتفع بها في معاشنا، ونمير أهلنا، أى: نجلب لهم الميرة- بكسر الميم وسكون الياء- وهي الزاد الذي يؤتى به من مكان إلى آخر.
وَنَحْفَظُ أَخانا عند سفره معنا من أى مكروه.
وَنَزْدادُ بوجوده معنا عند الدخول على عزيز مصر.
كَيْلَ بَعِيرٍ أى: ويعطينا العزيز حمل بعير من الزاد، زيادة على هذه المرة نظرا لوجود أخينا معنا.
ولعل قولهم هذا كان سببه أن يوسف- عليه السلام- كان يعطى من الطعام على عدد الرءوس، حتى يستطيع أن يوفر القوت للجميع في تلك السنوات الشداد.
واسم الإشارة في قوله- سبحانه- ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ يعود إلى الزاد الذي أحضروه من مصر أى: ذلك الطعام الذي أعطانا إياه عزيز مصر طعام يسير، لا يكفينا إلا لمدة قليلة من الزمان، ويجب أن نعود إلى مصر لنأتى بطعام آخر.
وفي هذه الجمل المتعددة التي حكاها القرآن عنهم، تحريض واضح منهم لأبيهم على أن يسمح لهم باصطحاب «بنيامين» معهم في رحلتهم القادمة إلى مصر.(7/390)
ومن مظاهر هذا التحريض: مدحهم لعزيز مصر الذي رد لهم أثمان مشترياتهم، وحاجتهم الملحة إلى استجلاب طعام جديد، وتعهدهم بحفظ أخيهم وازدياد الأطعمة بسبب وجوده معهم.
ولكن يعقوب- عليه السلام- مع كل هذا التحريض والإلحاح، لم يستجب لهم إلا على كره منه، واشترط لهذه الاستجابة ما حكاه القرآن في قوله:
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ.
والموثق: العهد الموثق باليمين، وجمعه مواثيق.
أى: قال يعقوب- عليه السلام- لهم: والله لن أرسل معكم «بنيامين» إلى مصر، حتى تحلفوا لي بالله، بأن تقولوا: والله لنأتينك به عند عودتنا، ولن نتخلى عن ذلك، «إلا أن يحاط بنا» أى: إلا أن نهلك جميعا، أو أن نغلب عليه بما هو فوق طاقتنا.
يقولون: أحيط بفلان إذا هلك أو قارب الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بالشخص، واستعمل في الهلاك، لأن من أحاط به العدو يهلك غالبا.
وسمى الحلف بالله- تعالى- موثقا، لأنه مما تؤكد به العهود وتقوى وقد أذن الله- تعالى- بذلك عند وجود ما يقتضى الحلف به- سبحانه-.
وقوله: «لتأتننى به» جواب لقسم محذوف والاستثناء في قوله «إلا أن يحاط بكم» مفرغ من أعم الأحوال، والتقدير: لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله وتقولوا: والله لنأتينك به معنا عند عودتنا، في جميع الأحوال والظروف إلا في حال هلاككم أو في حال عجزكم التام عن مدافعة أمر حال بينكم وبين الإتيان به معكم.
وقوله فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أى: فلما أعطى الأبناء أباهم العهد الموثق باليمين بأن أقسموا له بأن يأتوا بأخيهم معهم عند عودتهم من مصر.
«قال» لهم على سبيل التأكيد والحض على وجوب الوفاء: الله- تعالى- على ما نقول أنا وأنتم وكيل، أى: مطلع ورقيب، وسيجازى الأوفياء خيرا، وسيجازى الناقضين لعهودهم بما يستحقون من عقاب.
قال ابن كثير: «وإنما فعل ذلك، لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها فبعثه معهم» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما وصى به يعقوب أبناءه عند سفرهم فقال وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ....(7/391)
أى: وقال يعقوب- الأب العطوف- لأبنائه وهو يودعهم: يا بنى إذا وصلتم إلى مصر، فلا تدخلوا كلكم من باب واحد، وأنتم أحد عشر رجلا بل ادخلوا من أبوابها المتفرقة، بحيث يدخل كل اثنين أو ثلاثة من باب.
قالوا: وكانت أبواب مصر في ذلك الوقت أربعة أبواب.
وقد ذكر المفسرون أسبابا متعددة لوصية يعقوب هذه لأبنائه، وأحسن هذه الأسباب ما ذكره الآلوسى في قوله: نهاهم عن الدخول من باب واحد، حذرا من إصابة العين أى من الحسد، فإنهم كانوا ذوى جمال وشارة حسنة ... فكانوا مظنة لأن يعانوا- أى لأن يحسدوا- إذا ما دخلوا كوكبة واحدة ...
ثم قال: والعين حق، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح أيضا بزيادة «ولو كان شيء يسبق القدر سبقته العين» ...
وقد ورد أيضا: «إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» «1» .
وقيل: إن السبب في وصية يعقوب لأبنائه بهذه الوصية، خوفه عليهم من أن يسترعى عددهم حراس مدينة مصر إذا ما دخلوا من باب واحد، فيترامى في أذهانهم أنهم جواسيس أو ما شابه ذلك، فربما سجنوهم، أو حالوا بينهم وبين الوصول إلى يوسف- عليه السلام- ...
وقوله وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ اعتراف منه- عليه السلام- بأن دخولهم من الأبواب المتفرقة، لن يحول بينهم وبين ما قدره- تعالى- وأراده لهم، وإنما هو أمرهم بذلك من باب الأخذ بالأسباب المشروعة.
أى: وإنى بقولي هذا لكم، لا أدفع عنكم شيئا قدره الله عليكم، ولو كان هذا الشيء قليلا.
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أى: ما الحكم في كل شيء إلا لله- تعالى- وحده لا ينازعه في ذلك منازع. ولا يدافعه مدافع.
«وعليه» وحده «توكلت» في كل أمورى.
«وعليه» وحده «فليتوكل المتوكلون» أى المريدون للتوكل الحق، والاعتماد الصدق الذي لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها.
__________
(1) تفسير الآلوسى- بتصرف وتلخيص- ج 13 ص 15.(7/392)
إذ أن كلا من التوكل والأخذ بالأسباب مطلوب من العبد، إلا أن العاقل عند ما يأخذ في الأسباب يجزم بأن الحكم لله وحده في كل الأمور، وأن الأسباب ما هي إلا أمور عادية، يوجد الله- تعالى- معها ما يريد إيجاده، ويمنع ما يريد منعه، فهو الفعال لما يريد.
ويعقوب- عليه السلام- عند ما أوصى أبناءه بهذه الوصية، أراد بها تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه، مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبا مع الله- تعالى- واضع الأسباب ومشرعها ...
ثم بين- سبحانه- أن الأبناء قد امتثلوا أمر أبيهم لهم فقال: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها.
والمراد بالحاجة هنا: نصيحته لأبنائه بأن يدخلوا من أبواب متفرقة، خوفا عليهم من الحسد. ومعنى «قضاها» أظهرها ولم يستطع كتمانها يقال: قضى فلان حاجة لنفسه إذا أظهر ما أضمره فيها.
أى: وحين دخل أبناء يعقوب من الأبواب المتفرقة التي أمرهم أبوهم بالدخول منها.
«ما كان» هذا الدخول «يغنى عنهم» أى يدفع عنهم من قدر «الله من شيء» قدره عليهم، ولكن الذي حمل يعقوب على أمرهم بذلك، حاجة أى رغبة خطرت في نفسه «قضاها» أى: أظهرها ووصاهم بها ولم يستطع إخفاءها لشدة حبه لهم مع اعتقاده بأن كل شيء بقضاء الله وقدره.
وقوله- سبحانه- وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ثناء من الله- تعالى- على يعقوب بالعلم وحسن التدبير.
أى: وإن يعقوب- عليه السلام- لذو علم عظيم، للشيء الذي علمناه إياه عن طريق وحينا، فهو لا ينسى منه شيئا إلا ما شاء الله.
وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أى: لا يعلمون ما يعلمه يعقوب- عليه السلام- من أن الأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله- تعالى- أو: ولكن أكثر الناس لا يعلمون ما أعطاه الله- تعالى- لأنبيائه وأصفيائه من العلم والمعرفة وحسن التأني للأمور.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد فصلت الحديث عما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم في شأن سفر أخيهم معهم.. فماذا كان بعد ذلك؟
لقد كان بعد ذلك أن سافر إخوة يوسف إلى مصر، ومعهم «بنيامين» الشقيق الأصغر ليوسف، والتقوا هناك بيوسف، وتكشف هذا اللقاء عن أحداث مثيرة، زاخرة بالانفعالات(7/393)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
والمفاجآت والمحاورات ... التي حكاها القرآن في قوله- تعالى-:
[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 82]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82)(7/394)
وقوله- سبحانه- وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ... شروع في بيان ما دار بين يوسف- عليه السلام- وبين شقيقه «بنيامين» بعد أن حضر مع إخوته.
وقوله آوى من الإيواء بمعنى الضم. يقال: آوى فلان فلانا إذا ضمه إلى نفسه، ويقال: تأوت الطير وتآوت، إذا تضامت وتجمعت.
وقوله فَلا تَبْتَئِسْ: افتعال من البؤس وهو الشدة والضر. يقال بئس- كسمع- فلان بؤسا وبئوسا، إذا اشتد حزنه وهمه.
والمعنى: وحين دخل إخوة يوسف عليه، ما كان منه إلا أن ضم إليه شقيقه وقال له مطمئنا ومواسيا: إنى أنا أخوك الشقيق. فلا تحزن بسبب ما فعله إخوتنا معنا من الحسد والأذى، فإن الله- تعالى- قد عوض صبرنا خيرا، وأعطانا الكثير من خيره وإحسانه.
قال الإمام ابن كثير: يخبر الله- تعالى- عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه «بنيامين» وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته وأفاض عليهم الصلة والإحسان، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له وقال: «لا تبتئس» أى: لا تأسف على ما صنعوا(7/395)
بي، وأمره بكتمان هذا عنهم، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرما معظما «1» .
ثم بين- سبحانه- ما فعله يوسف- عليه السلام- مع إخوته، لكي يبقى أخاه معه فلا يسافر معهم عند رحيلهم فقال: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ... والجهاز كما سبق أن بينا: ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع..
والسقاية: إناء كان الملك يشرب فيه، وعادة ما يكون من معدن نفيس ولقد كان يوسف- عليه السلام- يكتال به في ذلك الوقت نظرا لقلة الطعام وندرته.
وهذه السقاية هي التي أطلق عليها القرآن بعد ذلك لفظ الصواع أى:
وحين أعطى يوسف إخوته ما هم في حاجة إليه من زاد وطعام، أو عز إلى بعض فتيانه أن يدسوا الصواع في متاع أخيه «بنيامين» دون أن يشعر بهم أحد ...
وقوله ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ بيان لما قاله بعض أعوان يوسف لإخوته عند ما تهيئوا للسفر، وأوشكوا على الرحيل.
والمراد بالمؤذن هنا: المنادى بصوت مرتفع ليعلم الناس ما يريد إعلامهم به. والمراد بالعير هنا: أصحابها. والأصل فيها أنها اسم للإبل التي تحمل الطعام وقيل العير تطلق في الأصل على قافلة الحمير، ثم تجوز فيها فأطلقت على كل قافلة تحمل الزاد وألوان التجارة.
أى: ثم نادى مناد على إخوة يوسف- عليه السلام- وهم يتجهزون للسفر، أو وهم منطلقون إلى بلادهم بقوله: يا أصحاب هذه القافلة توقفوا حتى يفصل في شأنكم فأنتم متهمون بالسرقة.
قال الآلوسى ما ملخصه: «والذي يظهر أن ما فعله يوسف، من جعله السقاية في رحل أخيه. ومن اتهامه لإخوته بالسرقة.. إنما كان بوحي من الله- تعالى- لما علم- سبحانه- في ذلك من الصلاح، ولما أراد من امتحانهم بذلك. ويؤيده قوله- تعالى-: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ «2» .
ثم بين- سبحانه- ما قاله إخوة يوسف بعد أن سمعوا المؤذن يستوقفهم ويتهمهم بالسرقة فقال- تعالى- قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 485.
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 2.(7/396)
وتفقدون: من الفقد، وهو غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه.
أى: قال إخوة يوسف بدهشة وفزع لمن ناداهم وأخبرهم بأنهم سارقون، قالوا لهم: ماذا تفقدون- أيها الناس- من أشياء حتى اتهمتمونا بأننا سارقون؟!!! وهنا رد عليهم المؤذن ومن معه من حراس: قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ أى: صاعه الذي يشرب فيه، ويكتال به للممتارين.
وَلِمَنْ جاءَ بِهِ أى بهذا الصاع، أو دل على سارقه.
حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام زيادة على حقه كمكافأة له.
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أى: وأنا بهذا الحمل كفيل بأن أدفعه لمن جاءنا بصواع الملك.
ويبدو أن القائل لهذا القول هو المؤذن السابق، ولعله قد قال ذلك بتوجيه من يوسف- عليه السلام-.
وهنا نجد إخوة يوسف يردون عليهم ردا يدل على استنكارهم لهذه التهمة وعلى تأكدهم من براءتهم فيقولون: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ.
أى: قال إخوة يوسف للمنادى ومن معه الذين اتهموهم بالسرقة: تالله يا قوم، لقد علمتم من حالنا وسلوكنا وأخلاقنا، أننا ما جئنا إلى بلادكم، لكي نفسد فيها أو نرتكب ما لا يليق، وما كنا في يوم من الأيام ونحن في أرضكم لنرتكب هذه الجريمة، لأنها تضرنا ولا تنفعنا، حيث إننا في حاجة إلى التردد على بلادكم لجلب الطعام، والسرقة تحول بيننا وبين ذلك، لأنكم بسببها ستمنعوننا من دخول أرضكم، وهذه خسارة عظيمة بالنسبة لنا.
وهنا يرد عليهم المنادى وأعوانه بقولهم: قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ.
أى: قال المنادى وأعوانه لإخوة يوسف الذين نفوا عن أنفسهم تهمة السرقة نفيا تاما.
إذا فما جزاء وعقاب هذا السارق لصواع الملك في شريعتكم، إن وجدنا هذا الصواع في حوزتكم، وكنتم كاذبين في دعواكم أنكم ما كنتم سارقين.
فرد عليهم إخوة يوسف ببيان حكم هذا السارق في شريعتهم بقولهم: قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
والمراد بالجزاء: العقاب الذي يعاقب به السارق في شريعتهم، والضمير في قوله «جزاؤه» يعود إلى السارق.
أى: قال إخوة يوسف: جزاء هذا السارق الذي يوجد صواع الملك في رحله ومتاعه أن يسترق لمدة سنة، هذا هو جزاؤه في شريعتنا.(7/397)
قال الشوكانى ما ملخصه: وقوله «جزاؤه» مبتدأ، وقوله «من وجد في رحله» خبر المبتدأ.
والتقدير: جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله- أى استرقاقه لمدة سنة-، وتكون جملة «فهو جزاؤه» لتأكيد الجملة الأولى وتقريرها. قال الزجاج وقوله «فهو جزاؤه» زيادة في البيان. أى: جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير» «1» .
وقالوا «جزاؤه من وجد في رحله» ولم يقولوا جزاء السارق أو جزاء سرقته، للإشارة إلى كمال نزاهتهم، وبراءة ساحتهم من السرقة، حتى لكأن ألسنتهم لا تطاوعهم بأن ينطقوا بها في هذا المقام.
وقوله: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ مؤكد لما قبله، أى مثل هذا الجزاء العادل، وهو الاسترقاق لمدة سنة، نجازي الظالمين الذين يعتدون على أموال غيرهم.
وقوله- سبحانه- فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ معطوف على كلام محذوف يفهم من المقام.
والتقدير: وبعد هذه المحاورة التي دارت بين إخوة يوسف وبين الذين اتهموهم بالسرقة أخبر الإخوة بتفتيش أمتعتهم للبحث عن الصواع بداخلها.
«فبدأ» المؤذن بتفتيش أوعيتهم، قبل أن يفتش وعاء «بنيامين» فلم يجد شيئا بداخل أوعيتهم.
فلما وصل إلى وعاء «بنيامين» وقام بتفتيشه وجد السقاية بداخله، فاستخرجها منه على مشهد منهم جميعا.
ويبدو أن هذا الحوار من أوله كان بمشهد ومرأى من يوسف- عليه السلام- وكان أيضا بتدبير وتوجيه منه للمؤذن ومن معه، فهو الذي أمر المؤذن بأن ينادى «أيتها العير إنكم لسارقون» ، وهو الذي أشار عليه بأن يسألهم عن حكم السارق في شريعتهم، وهو الذي أمره بأن يبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل أن يفتش وعاء شقيقه «بنيامين» دفعا للتهمة، ونفيا للشبهة ...
روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء «بنيامين» لتفتيشه قال يوسف- عليه السلام-:
ما أظن هذا أخذ شيئا؟ فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا» «2» .
__________
(1) تفسير فتح القدير للإمام الشوكانى ج 3 ص 43. [.....]
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 28.(7/398)
ويطوى القرآن ما اعترى إخوة يوسف من دهشة وخزي، بعد أن وجدت السقاية في رحل «بنيامين» وبعد أن أقسموا بالله على براءتهم من تهمة السرقة ... يطوى القرآن كل ذلك، ليترك للعقول أن تتصوره ...
ثم يعقب على ما حدث ببيان الحكمة التي من أجلها ألهم الله- تعالى- يوسف أن يفعل ما فعل من دس السقاية في رحل أخيه، ومن سؤال إخوته عن جزاء السارق في شريعتهم فيقول كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ....
و «كدنا» من الكيد وأصله الاحتيال والمكر، وهو صرف غيرك عما يريده بحيلة، وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح، ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل.
والمراد به هنا: النوع المحمود، واللام في «ليوسف» للتعليل.
والمراد بدين الملك: شريعته التي يسير عليها في الحكم بين الناس.
والمعنى: مثل هذا التدبير الحكيم دبرنا من أجل يوسف ما يوصله إلى غرضه ومقصده، وهو احتجاز أخيه بنيامين معه، بأن ألهمناه بأن يضع السقاية في رحل أخيه، وبأن يسأل إخوته عن حكم السارق في شريعتهم.. وما كان يوسف ليستطيع أن يحتجز أخاه معه، لو نفذ شريعة ملك مصر، لأن شريعته لا تجيز استرقاق السارق سنة كما هو الحال في شريعة يعقوب، وإنما تعاقب السارق بضربه وتغريمه قيمة ما سرقه.
وما كان يوسف ليفعل كل ذلك التدبير الحكيم في حال من الأحوال، إلا في حال مشيئة الله ومعونته وإذنه بذلك، فهو- سبحانه- الذي ألهمه أن يدس السقاية في رحل أخيه، وهو- سبحانه- الذي ألهمه أن يسأل إخوته عن عقوبة السارق في شريعتهم حتى يطبقها على من يوجد صواع الملك في رحله منهم.
والجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله- تعالى- على يوسف حيث ألهمه ما يوصله إلى مقصوده بأحكم أسلوب.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: «كذلك كدنا ليوسف» أى: مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور ... دبرنا وصنفنا من أجل يوسف ما يحصل به غرضه ...
وقوله «ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك» أى في حكمه وقضائه والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد، كأنه قيل: لماذا فعل؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد، لأن جزاء السارق في دينه أن يضاعف(7/399)
عليه الغرم ... دون أن يسترق كما هو الحال في شريعة يعقوب.
وقوله «إلا أن يشاء الله» أى: لم يكن يوسف ليتمكن من أخذ أخيه في حال من الأحوال، إلا في حال مشيئته- تعالى- التي هي عبارة عن ذلك الكيد المذكور ... » «1» .
قالوا: وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعا ثابتا» «2» .
وقوله- سبحانه- نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ استئناف لبيان قدرة الله- تعالى- وسعة رحمته وعطائه.
أى: نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درجات عالية من العلوم والمعارف والعطايا والمواهب ... كما رفعنا درجات يوسف- عليه السلام-.
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من أولئك المرفوعين «عليم» يزيد عنهم في علمهم وفي مكانتهم عند الله- تعالى- فهو- سبحانه- العليم بأحوال عباده، وبمنازلهم عنده، وبأعلاهم درجة ومكانة.
وقال- سبحانه- «نرفع» بصيغة الاستقبال وللأشعار بأن ذلك سنة من سننه الإلهية التي لا تتخلف ولا تتبدل، وأن عطاءه- سبحانه- لا يناله إلا الذين تشملهم إرادته ومشيئته كما تقتضيه حكمته.
وجاءت كلمة «درجات» بالتنكير، للإشارة إلى عظمها وكثرتها.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله إخوة يوسف في أعقاب ثبوت تهمة السرقة على أخيه «بنيامين» فقال- تعالى- قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ....
أى: قال إخوة يوسف- عليه السلام- بعد هذا الموقف المحرج لهم. إن يسرق بنيامين هذا الصواع الخاص بالملك فقد سرق أخ له من قبل- وهو يوسف- ما يشبه ذلك.
وقولهم هذا يدل على أن صنيعهم بيوسف وأخيه ما زال متمكنا من نفوسهم.
وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة في مرادهم بقولهم هذا، ومن بين هذه الروايات ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: سرق يوسف- عليه السلام- صنما لجده وكان هذا الصنم من ذهب وفضة، فكسره وألقاه على الطريق، فعير إخوته بذلك» «3» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 29.
(2) تفسير فتح القدير ج 3 ص 43.
(3) تفسير الآلوسى ج 13 ص 32.(7/400)
وقوله فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ، قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ بيان لموقفه من مقالتهم، والضمير في «فأسرها» يعود إلى تلك المقالة التي قالوها.
أى: سمع يوسف- عليه السلام- ما قاله إخوته في حقه وفي حق شقيقه فساءه ذلك، ولكنه كظم غيظه، ولم يظهر لهم تأثره مما قالوه وإنما رد عليهم بقوله «بل أنتم» أيها الإخوة «شر مكانا» أى: موضعا ومنزلا ممن نسبتموه إلى السرقة وهو برىء، لأنكم أنتم الذين كذبتم على أبيكم وخدعتموه، وقلتم له بعد أن ألقيتم أخاكم في الجب، لقد أكله الذئب.
«والله» - تعالى- «أعلم» منى ومنكم «بما تصفون» به غيركم من الأوصاف التي يخالفها الحق، ولا يؤيدها الواقع.
ثم حكى- سبحانه- ما قالوا ليوسف على سبيل الرجاء والاستعطاف لكي يطلق لهم أخاهم حتى يعود معهم إلى أبيهم فقال: قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
أى: قال إخوة يوسف له على سبيل الاستعطاف: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ الذي أكرمنا وأحسن إلينا «إن» أخانا هذا الذي أخذته على سبيل الاسترقاق لمدة سنة، قد ترك من خلفه في بلادنا «أبا شيخا كبيرا» متقدما في السن، وهذا الأب يحب هذا الابن حبا جما فإذا كان ولا بد من أن تأخذ واحدا على سبيل الاسترقاق بسبب هذه السرقة «فخذ أحدنا مكانه» حتى لا نفجع أبانا فيه.
وإننا ما طلبنا منك هذا الطلب، إلا لأننا «نراك من المحسنين» إلينا، المكرمين لنا، فسر على طريق هذا الإحسان والإكرام، وأطلق سراح أخينا «بنيامين» ليسافر معنا.
ولكن هذا الرجاء والتلطف والاستعطاف منهم ليوسف، لم ينفعهم شيئا، فقد رد عليهم في حزم وحسم بقوله: قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ... و «معاذ» منصوب بفعل محذوف.
أى: قال يوسف لهم: نعوذ بالله- تعالى- معاذا، من أن نأخذ في جريمة السرقة إلا الشخص الذي وجدنا صواع الملك عنده وهو «بنيامين» .
وأنتم الذين أفتيتم بأن السارق في شريعتكم عقوبته استرقاقه لمدة سنة، فنحن نسير في هذا الحكم تبعا لشريعتكم.
إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ إذا أخذنا شخصا آخر سوى الذي وجدنا متاعنا عنده. والظلم تأباه(7/401)
شريعتنا كما تأباه شريعتكم، فاتركوا الجدال في هذا الأمر الذي لا ينفع معه الجدال، لأننا لا نريد أن نكون ظالمين.
وبهذا الرد الحاسم قطع يوسف حبال آمال إخوته في العفو عن بنيامين أو في أخذ أحدهم مكانه، فانسحبوا من أمامه تعلوهم الكآبة، وطفقوا يفكرون في مصيرهم وفي موقفهم من أبيهم عند العودة إليه ...
وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ....
وقوله «استيأسوا» يئسوا يأسا تاما فالسين والتاء للمبالغة.
و «خلصوا» من الخلوص بمعنى الانفراد.
و «نجيا» حال من فاعل خلصوا. وهو مصدر أطلق على المتناجين في السر على سبيل المبالغة.
والفاء في قوله فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ... معطوفة على محذوف يفهم من الكلام.
والتقدير: لقد بذل إخوة يوسف أقصى جهودهم معه ليطلق لهم سراح أخيهم بنيامين، فلما يئسوا يأسا تاما من الوصول إلى مطلوبهم، انفردوا عن الناس ليتشاوروا فيما يفعلونه، وفيما يقولونه لأبيهم عند ما يعودون إليه ولا يجد معهم «بنيامين» ..
هذه الجملة الكريمة وهي قوله- تعالى- فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا من أبلغ الجمل التي اشتمل عليها القرآن الكريم، ومن العلماء الذين أشاروا إلى ذلك الإمام الثعالبي في كتاب «الإيجاز والإعجاز» فقد قال: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار ويحيط ببلاغة الإيجاز، ويفطن لكفاية الإيجاز، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام.
ثم قال: فمن ذلك قوله- تعالى- في إخوة يوسف فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس، وتقليبهم الآراء ظهرا لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث. فتضمنت تلك الكلمات القصيرة، معاني القصة الطويلة» «1» .
__________
(1) تفسير القاسمى ج 9 ص 3578.(7/402)
وقوله: قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ ... إلخ بيان لما قاله لهم أحدهم خلال تناجيهم مع بعضهم في عزلة عن الناس.
ولم يذكر القرآن اسم كبيرهم، لأنه لا يتعلق بذكره غرض منهم، وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد به «روبيل» لأنه أسنهم، وذكر بعضهم أنه «يهوذا» لأنه كبيرهم في العقل ...
أى: وحين اختلى إخوة يوسف بعضهم مع بعض لينظروا في أمرهم بعد أن احتجز عزيز مصر أخاهم بنيامين، قال لهم كبيرهم:
«ألم تعلموا» وأنتم تريدون الرجوع إلى أبيكم وليس معكم «بنيامين» .
«أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله» عند ما أرسله معكم، بأن تحافظوا عليه، وأن لا تعودوا إليه بدونه إلا أن يحاط بكم.
وألم تعلموا كذلك أنكم في الماضي قد فرطتم وقصرتم في شأن يوسف، حيث عاهدتم أباكم على حفظه، ثم ألقيتم به في الجب.
والاستفهام في قوله: «ألم تعلموا ... » للتقرير. أى: لقد علمتم علما يقينا بعهد أبيكم عليكم بشأن بنيامين، وعلمتم علما يقينا بخيانتكم لعهد أبيكم في شأن يوسف، فبأى وجه تعودون إلى أبيكم وليس معكم أخوكم بنيامين؟
قال الشوكانى: قوله: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أى عهدا من الله- تعالى- بحفظ ابنه ورده إليه. ومعنى كونه من الله: أنه بإذنه.
وقوله وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ معطوف على ما قبله. والتقدير: ألم تعلموا أن أباكم ... وتعلموا تفريطكم في يوسف، فقوله «ومن قبل» متعلق بتعلموا.
أى: تعلموا تفريطكم في يوسف من قبل. على أن ما مصدرية «1» .
وقوله فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ... حكاية للقرار الذي اتخذه كبيرهم بالنسبة لنفسه.
أى: قال كبير إخوة يوسف لهم: لقد علمتم ما سبق أن قلته لكم، فانظروا في أمركم، أما أنا «فلن أبرح الأرض» أى: فلن أفارق أرض مصر «حتى يأذن لي أبى» بمفارقتها، لأنه قد أخذ علينا العهد الذي تعلمونه بشأن أخى بنيامين. «أو يحكم الله لي» بالخروج منها
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 46.(7/403)
وبمفارقتها على وجه لا يؤدى إلى نقض الميثاق مع أبى «وهو» - سبحانه- «خير الحاكمين» لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.
ثم واصل كبيرهم حديثه معهم فقال: «ارجعوا» يا إخوتى «إلى أبيكم» يعقوب «فقولوا» له برفق وتلطف. «يا أبانا إن ابنك» بنيامين «سرق» صواع الملك، ووجد الصواع في رحله وقولوا له أيضا: إننا «ما شهدنا إلا بما علمنا» أى: وما شهدنا على أخينا بهذه الشهادة إلا على حسب علمنا ويقيننا بأنه سرق.
«وما كنا للغيب حافظين» أى: وما كنا نعلم الغيب بأنه سيسرق صواع الملك، عند ما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا بأن نأتيك به معنا إلا أن يحاط بنا.
وقولوا كذلك على سبيل زيادة التأكيد، إن كنت في شك من قولنا هذا فاسأل «القرية التي كنا فيها» والمراد بالقرية أهلها.
أى: فأرسل من تريد إرساله إلى أهل القرية التي حصلت فيها حادثة السرقة فإنهم سيذكرون لك تفاصيلها.
قالوا: ومرادهم بالقرية مدينة مصر التي حدث فيها ما حدث، وعبروا عنها بالقرية لأنهم يقصدون مكانا معينا منها، وهو الذي حصل فيه التفتيش لرحالهم، والمراجعة بينهم وبين عزيز مصر ومعاونيه.
وقوله: وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها معطوف على ما قبله.
أى: اسأل أهل القرية التي كنا فيها، واسأل «العير» أى: قوافل التجارة التي كنا فيها عند ذهابنا وإيابنا فإن أصحاب هذه القوافل يعلمون ما حدث من ابنك «بنيامين» .
وقوله وَإِنَّا لَصادِقُونَ أى: وإنا لصادقون في كل ما أخبرناك به. فكن واثقا من صدقنا.
وقد ختم كبيرهم كلامه بهذه الجملة، زيادة في تأكيد صدقهم، لأن ماضيهم معه يبعث على الريبة والشك، فهم الذين قالوا له قبل ذلك في شأن يوسف: «أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون» ثم ألقوا به في الجب، «وجاءوا أباهم عشاء يبكون ... » .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد صورت بأسلوب حافل بالإثارة والمحاورة، والأخذ والرد، والترغيب والترهيب.. ما دار بين يوسف وإخوته عند ما قدموا إليه للمرة الثانية ومعهم شقيقه «بنيامين» .(7/404)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
فماذا كان بعد ذلك؟ لقد كان بعد ذلك أن عاد الإخوة إلى أبيهم وتركوا بمصر كبيرهم وأخاهم بنيامين، ويطوى القرآن الحكيم- على عادته في هذه السورة الكريمة- أثر ذلك على قلب أبيهم المفجوع، إلا أنه يسوق لنا رده عليهم، الذي يدل على كمال إيمانه، وسعة آماله في رحمة الله- تعالى- فيقول:
[سورة يوسف (12) : الآيات 83 الى 87]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
أى: «قال» يعقوب لبنيه، الذين حضروا إليه من رحلتهم، فأخبروه بما هيج أحزانه ...
قال لهم: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أى: ليس الأمر كما تدعون، ولكن أنفسكم هي التي زينت لكم أمرا أنتم أردتموه، فصبرى على ما قلتم صبر جميل، أى لا جزع معه، ولا شكوى إلا لله- تعالى-.
قال ابن كثير: «قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب «بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل» .
قال محمد بن إسحاق: لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى، اتهمهم، وظن أن ما فعلوه(7/405)
ببنيامين يشبه ما فعلوه بيوسف فقال: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا ... » .
وقال بعض الناس: لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول، سحب حكم الأول عليه، وصح قوله «بل سولت لكم أنفسكم أمرا ... » .
والخلاصة أن الذي حمل يعقوب- عليه السلام- على هذا القول لهم، المفيد لتشككه في صدق ما أثبتوه لأنفسهم من البراءة، هو ماضيهم معه، فإنهم قد سبق لهم أن فجعوه في يوسف بعد أن عاهدوه على المحافظة عليه.
ولكن يعقوب هنا أضاف إلى هذه الجملة جملة أخرى تدل على قوة أمله في رحمة الله، وفي رجائه الذي لا يخيب في أن يجمع شمله بأبنائه جميعا فقال- عليه السلام- عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
أى: عسى الله- تعالى- أن يجمعني بأولادى جميعا- يوسف وبنيامين وروبيل الذي تخلف عنهم في مصر- إنه- سبحانه- هو العليم بحالي، الحكيم في كل ما يفعله ويقضى به.
وهذا القول من يعقوب- عليه السلام- يدل دلالة واضحة على كمال إيمانه، وحسن صلته بالله- تعالى- وقوة رجائه في كرمه وعطفه ولطفه- سبحانه-.
وكأنه بهذا القول يرى بنور الله الذي غرسه في قلبه، ما يراه غيره بحواسه وجوارحه.
ثم يصور- سبحانه- ما اعترى يعقوب من أحزانه على يوسف، جددها فراق بنيامين له فقال- تعالى- وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ، وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ.
وقوله «يا أسفا» من الأسف وهو أشد الحزن والتحسر على ما فات من أحداث. يقال:
أسف فلان على كذا يأسف أسفا، إذا حزن حزنا شديدا.
وألفه بدل من ياء المتكلم للتخفيف والأصل يا أسفى.
وكظيم بمعنى مكظوم، وهو الممتلئ بالحزن ولكنه يخفيه من الناس ولا يبديه لهم.
ومنه قوله- تعالى- وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أى: المخفين له، مأخوذ من كظم فلان السقاء: إذا سده على ما بداخله.
والمعنى: وبعد أن استمع يعقوب إلى ما قاله له أبناؤه، ورد عليهم ... انتابته الأحزان والهموم، وتجددت في قلبه الشجون ... فتركهم واعتزل مجلسهم وقال:
«يا أسفا على يوسف» أى: يا حزنى الشديد على يوسف أقبل فهذا أوان إقبالك.(7/406)
وَابْيَضَّتْ عينا يعقوب من شدة الحزن على يوسف وأخيه حتى ضعف بصره، حيث انقلب سواد عينيه بياضا من كثرة البكاء.
فَهُوَ كَظِيمٌ أى: ممتلئ حزنا على فراق يوسف له، إلا أنه كاتم لهذا الحزن لا يبوح به لغيره من الناس.
قالوا: وإنما تأسف على يوسف دون أخويه- بنيامين وروبيل- مع أن الرزء الأحدث أشد على النفس ... لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا والخطوب ولأن حبه ليوسف كان حبا خاصا لا يؤثر فيه مرور الأعوام ... ولأن من شأن المصيبة الجديدة أن تذكر بالمصيبة السابقة عليها، وتهيج أحزانها، وقد عبر عن هذا المعنى متمم ابن نويرة في رثائه لأخيه مالك فقال:
لقد لامنى عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له: إن الشجى يبعث الشجى ... فدعني، فهذا كله قبر مالك
وقال صاحب الكشاف: «فإن قلت: كيف جاز لنبي الله يعقوب أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن.
ولقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب.
وعن الحسن أنه بكى على ولد له، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب» «1» .
ثم يحكى القرآن ما قاله أبناء يعقوب له، وقد رأوه على هذه الصورة من الهم والحزن فيقول: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ.
قال الشوكانى: قوله «تفتأ» أى: لا تفتأ، فحذف حرف النفي لأمن اللبس. قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل كذا: أى ما زلت أفعل كذا.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 2.(7/407)
وقال الفراء: إن «لا» مضمرة. أى لا تفتأ ... ومنه قول الشاعر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى
أى: «لا أبرح قاعدا ... » «1» .
و «حرضا» مصدر حرض. كتعب- والحرض: الإشراف على الهلاك من شدة الحزن أو المرض أو غيرهما.
والمعنى: قال أبناء يعقوب له بعد أن سمعوه وهو يتحسر على فراق يوسف له: تالله- يا أبانا- ما تزال تذكر يوسف بهذا الحنين الجارف، والحزن المضنى، «حتى تكون حرضا» . أى: مشرفا على الموت لطول مرضك.
«أو تكون من الهالكين» المفارقين لهذه الدنيا.
وهنا يرد عليهم الأب الذي يشعر بغير ما يشعرون به من ألم وأمل ... الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
و «البث» ما ينزل بالإنسان من مصائب يعظم حزن صاحبها بسببها. حتى أنه لا يستطيع إخفاء هذا الحزن، وأصله التفريق وإثارة الشيء ومنه قولهم: بثت الريح التراب إذا فرقته.
قالوا: والإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان حزنا، وإذا لم يقدر على كتمه كان بثا ...
والمعنى: قال يعقوب لأولاده الذين لاموه على شدة حزنه على يوسف: إنما أشكو، «بثي» أى: همي الذي انطوى عليه صدري «إلى الله» - تعالى- وحده، لا إلى غيره، فهو العليم بحالي، وهو القادر على تفريج كربى، فاتركوني وشأنى مع ربي وخالقي. فإنى «أعلم من الله» أى: من لطفه وإحسانه وثوابه على الصبر على المصيبة «ما لا تعلمون» أنتم، وإنى لأرجو أن يرحمني وأن يلطف بي، وأن يجمع شملي بمن فارقنى من أولادى، فإن حسن ظني به- سبحانه- عظيم.
قال صاحب الظلال: «وفي هذه الكلمات- التي حكاها القرآن عن يعقوب- عليه السلام-، يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول، كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر، ولألائها الباهر.
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 48.(7/408)
إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلا عن عودته إلى أبيه ... إن هذا كله لا يؤثر شيئا في شعور الرجل الصالح بربه، فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلمه هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة ...
وهذه قيمة الإيمان بالله ...
إن هذه الكلمات «أعلم من الله ما لا تعلمون» تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها. وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله، فيدرك ماذا تعنى هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب ... والقلب الذي ذاق هذا المذاق، لا تبلغ الشدائد منه- مهما- بلغت إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق ... » «1» .
ثم يمضى يعقوب- عليه السلام- في رده على أولاده فيأمرهم أن يواصلوا بحثهم عن يوسف وأخيه، وأن لا يقنطوا من رحمة الله فيقول: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
والتحسس: هو طلب الشيء بطريق الحواس بدقة وحكمة وصبر على البحث.
أى: قال يعقوب لأبنائه: يا بنى «اذهبوا» إلى أرض مصر وإلى أى مكان تتوقعون فيه وجود يوسف وأخيه «فتحسسوا» أمرهما. وتخبروا خبرهما، وتعرفوا نبأهما بدون كلل أو ملل.
وفي التعبير بقوله «فتحسسوا» إشارة إلى أمره لهم بالبحث الجاد الحكيم المتأنى «ولا تيأسوا من روح الله» أى: ولا تقنطوا من فرج الله وسعة رحمته، وأصل معنى الروح التنفس. يقال: أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعير لحلول الفرج.
وكلمة «روح» - بفتح الراء- أدل على هذا المعنى، لما فيها من ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما تتنسمه الأرواح من رحمة الله.
وقوله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ تعليل لحضهم على التحسس أى: لا تقصروا في البحث عن يوسف وأخيه، ولا تقنطوا من رحمة الله، فإنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون، لعدم علمهم بالله- تعالى- وبصفاته وبعظيم قدرته، وبواسع رحمته ...
أما المؤمنون فإنهم لا ييأسون من فرج الله أبدا، حتى ولو أحاطت بهم الكروب، واشتدت عليهم المصائب ...
__________
(1) في ظلال القرآن ج 13 ص 2026.(7/409)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
واستجاب الأبناء لنصيحة أبيهم، فأعدوا عدتهم للرحيل إلى مصر للمرة الثالثة، ثم ساروا في طريقهم حتى دخلوها، والتقوا بعزيز مصر الذي احتجز أخاهم بنيامين، وتحكى السورة الكريمة ما دار بينهم وبينه فتقول:
[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 98]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)(7/410)
وقوله- تعالى- فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ... حكاية لما قاله إخوة يوسف له، بعد أن امتثلوا أمر أبيهم، فخرجوا إلى مصر للمرة الثالثة، ليتحسسوا من يوسف وأخيه، وليشتروا من عزيزها ما هم في حاجة إليه من طعام.
والبضاعة: هي القطعة من المال، يقصد بها شراء شيء.
والمزجاة: هي القليلة الرديئة التي ينصرف عنها التجار إهمالا لها.
قالوا: وكانت بضاعتهم دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة- أى: بأقل قيمة- وقيل غير ذلك.
وأصل الإزجاء: السوق والدفع قليلا قليلا، ومنه قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.... أى: يرسله رويدا رويدا ...
وسميت البضاعة الرديئة القليلة مزجاة، لأنها ترد وتدفع ولا يقبلها التجار إلا بأبخس الأثمان.
والمعنى: وقال إخوة يوسف له بأدب واستعطاف، بعد أن دخلوا عليه للمرة الثالثة «يا أيها العزيز» أى: الملك صاحب الجاه والسلطان والسعة في الرزق، «مسنا وأهلنا الضر» أى:
أصابنا وأصاب أهلنا معنا الفقر والجدب والهزل من شدة الجوع.
وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أى: وجئنا معنا من بلادنا ببضاعة قليلة رديئة يردها وينصرف عنها كل من يراها من التجار، إهمالا لها، واحتقارا لشأنها.
وإنما قالوا له ذلك: استدرارا لعطفه، وتحريكا لمروءته وسخائه، قبل أن يخبروه بمطلبهم الذي حكاه القرآن في قوله:
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ... أى: هذا هو حالنا شرحناه لك، وهو يدعو إلى الشفقة والرحمة، ما دام أمرنا كذلك، فأتمم لنا كيلنا ولا تنقص منه شيئا، وتصدق علينا فوق حقنا بما أنت أهل له من كرم ورحمة إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ على غيرهم جزاء كريما حسنا(7/411)
ويبدو أن يوسف- عليه السلام- قد تأثر بما أصابهم من ضر وضيق حال، تأثرا جعله لا يستطيع أن يخفى حقيقته عنهم أكثر من ذلك، فبادرهم بقوله: قالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ.
أى: قال لهم يوسف- عليه السلام- على سبيل التعريض بهم، والتذكير بأخطائهم:
هل علمتم ما فعلتموه بيوسف وأخيه من أذى وعدوان عليهما، وقت أن كنتم تجهلون سوء عاقبة هذا الأذى والعدوان.
قالوا: وقوله هذا يدل على سمو أخلاقه حتى لكأنه يلتمس لهم العذر، لأن ما فعلوه معه ومع أخيه كان في وقت جهلهم وقصور عقولهم، وعدم علمهم بقبح ما أقدموا عليه ...
وقيل: نفى عنهم العلم وأثبت لهم الجهل، لأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم.
والأول أولى وأقرب إلى ما يدل عليه سياق الآيات بعد ذلك، من عفوه عنهم، وطلب المغفرة لهم.
وهنا يعود إلى الإخوة صوابهم، وتلوح لهم سمات أخيهم يوسف، فيقولون له في دهشة وتعجب قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟.
أى: أإنك لأنت أخونا يوسف الذي أكرمنا ... والذي فارقناه وهو صغير فأصبح الآن عزيز مصر، والمتصرف في شئونها؟ ..
فرد عليهم بقوله قالَ أَنَا يُوسُفُ الذي تتحدثون عنه. والذي فعلتم معه ما فعلتم ...
«وهذا أخى» بنيامين الذي ألهمنى الله الفعل الذي عن طريقه احتجزته عندي، ولم أرسله معكم ...
«قد منّ الله» - تعالى- «علينا» حيث جمعنا بعد فراق طويل، وبدل أحوالنا من عسر إلى يسر ومن ضيق إلى فرج ...
ثم علل ذلك بما حكاه القرآن عنه في قوله إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
أى: إن من شأن الإنسان الذي يتقى الله- تعالى- ويصون نفسه عن كل ما لا يرضاه، ويصبر على قضائه وقدره، فإنه- تعالى- يرحمه برحمته، ويكرمه بكرمه، لأنه- سبحانه- لا يضيع أجر من أحسن عملا، وتلك سنته- سبحانه- التي لا تتخلف ...
وهنا يتجسد في أذهان إخوة يوسف ما فعلوه معه في الماضي، فينتابهم الخزي والخجل،(7/412)
حيث قابل إساءتهم إليه بالإحسان عليهم، فقالوا له في استعطاف وتذلل: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا، وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أى: نقسم بالله- تعالى- لقد اختارك الله- تعالى- لرسالته، وفضلك علينا بالتقوى وبالصبر وبكل الصفات الكريمة.
أما نحن فقد كنا خاطئين فيما فعلناه معك، ومتعمدين لما ارتكبناه في حقك من جرائم، ولذلك أعزك الله- تعالى- وأذلنا، وأغناك وأفقرنا، ونرجو منك الصفح والعفو.
فرد عليهم يوسف- عليه السلام- بقوله: قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
والتثريب: التعيير والتوبيخ والتأنيب. وأصله كما يقول الآلوسى: من الثرب، وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش ... فاستعير للتأنيب الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال، كما أنه بالتأنيب واللوم تظهر العيوب، فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال.
أى: قال يوسف لإخوته على سبيل الصفح والعفو يا إخوتى: لا لوم ولا تأنيب ولا تعيير عليكم اليوم، فقد عفوت عما صدر منكم في حقي وفي حق أخى من أخطاء وآثام وأرجو الله- تعالى- أن يغفر لكم ما فرط منكم من ذنوب وهو- سبحانه- أرحم الراحمين بعباده.
وقوله «لا تثريب» اسم لا النافية للجنس، و «عليكم» متعلق بمحذوف خبر لا، و «اليوم» متعلق بذلك الخبر المحذوف.
أى: لا تقريع ولا تأنيب ثابت أو مستقر عليكم اليوم.
وليس التقييد باليوم لإفادة أن التقريع ثابت في غيره، بل المراد نفيه عنهم في كل ما مضى من الزمان، لأن الإنسان إذا لم يوبخ صاحبه في أول لقاء معه على أخطائه فلأن يترك ذلك بعد أول لقاء أولى.
ثم انتقل يوسف- عليه السلام- من الحديث عن الصفح عنهم إلى الحديث عن أبيه الذي ابيضت عيناه عليه من الحزن فقال:
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
أى. اذهبوا يا إخوتى بقميصي هذا «فألقوه على وجه أبى» الذي طال حزنه بسبب فراقي له «يأت بصيرا» أى يرتد إليه كامل بصره، بعد أن ضعف من شدة الحزن.
«وأتونى» معه إلى هنا ومعكم أهلكم جميعا من رجال ونساء وأطفال.
وقول يوسف هذا إنما هو بوحي من الله- تعالى- فهو- سبحانه- الذي ألهمه أن إلقاء(7/413)
قميصه على وجه أبيه يؤدى إلى ارتداد بصره إليه كاملا، وهذا من باب خرق العادة بالنسبة لهذين النبيين الكريمين.
واستجاب الإخوة لتوجيه يوسف، فأخذوا قميصه وعادوا إلى أوطانهم ويصور القرآن ما حدث فيقول: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ.
و «فصلت العير» أى خرجت من مكان إلى مكان آخر. يقال: فصل فلان من بلده كذا فصولا، إذا جاوز حدودها إلى حدود بلدة أخرى.
و «تفندون» من الفند وهو ضعف العقل بسبب المرض والتقدم في السن.
والمعنى: وحين غادرت الإبل التي تحمل إخوة يوسف حدود مصر، وأخذت طريقها إلى الأرض التي يسكنها يعقوب وبنوه، قال يعقوب- عليه السلام- لمن كان جالسا معه من أهله وأقاربه، استمعوا إلى «إنى لأجد ريح يوسف» .
أى: رائحته التي تدل عليه، وتشير إلى قرب لقائي به.
و «لولا» أن تنسبونى إلى الفند وضعف العقل لصدقتمونى فيما قلت، أو لولا أن تنسبونى إلى ذلك لقلت لكم إنى أشعر أن لقائي بيوسف قد اقترب وقته وحان زمانه.
فجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه.
وقد أشم الله- تعالى- يعقوب- عليه السلام- ما عبق من القميص من رائحة يوسف من مسيرة أيام، وهي معجزة ظاهرة له- عليه الصلاة والسلام-.
وقال الإمام مالك- رحمه الله- أوصل الله- تعالى- ريح قميص يوسف ليعقوب، كما أوصل عرش بلقيس إلى سليمان قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه.
ولكن المحيطين بيعقوب الذين قال لهم هذا القول، لم يشموا ما شمه، ولم يجدوا ما وجده، فردوا عليه بقولهم: قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ.
قالوا له على سبيل التسلية: إنك يا يعقوب ما زلت غارقا في خطئك القديم الذي لا تريد أن يفارقك. وهو حبك ليوسف وأملك في لقائه والإكثار من ذكره.
وتحقق ما وجده يعقوب من رائحة يوسف ... وحل أوان المفاجأة التي حكاها القرآن في قوله فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً، قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
أى: وحين اقترب أبناء يعقوب من دار أبيهم، تقدم البشير الذي يحمل قميص يوسف إلى(7/414)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
يعقوب، فألقى القميص على وجهه فعاد إلى يعقوب بصره كأن لم يكن به ضعف أو مرض من قبل ذلك.
وهذه معجزة أكرم الله- تعالى- بها نبيه يعقوب- عليه السلام- حيث رد إليه بصره بسبب إلقاء قميص يوسف على وجهه.
وهنا قال يعقوب لأبنائه ولمن أنكر عليه قوله إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أَلَمْ أَقُلْ قبل ذلك إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ أى: من رحمته وفضله وإحسانه ما لا تَعْلَمُونَ أنتم.
وهنا قال الأبناء لأبيهم في تذلل واستعطاف: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا.
أى: تضرع إلى الله- تعالى- أن يغفر لنا ما فرط منا من ذنوب في حقك وفي حق أخوينا يوسف وبنيامين.
إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ في حقك وفي حق أخوينا، ومن شأن الكريم أن يصفح ويعفو عمن اعترف له بالخطإ.
فكان رد أبيهم عليهم أن قال لهم سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي أى: سوف أتضرع إلى ربي لكي يغفر لكم ذنوبكم.
إِنَّهُ- سبحانه- هُوَ الْغَفُورُ أى الكثير المغفرة الرَّحِيمُ أى: الكثير الرحمة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده.
وهكذا صورت لنا السورة الكريمة ما دار بين يوسف وإخوته، وبين يعقوب وبنيه في هذا اللقاء المثير الحافل بالمفاجآت والبشارات.
ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد كانت هناك مفاجآت وبشارات أخرى تحققت معها رؤيا يوسف وهو صغير، كما تحقق معها تأويل يعقوب لها فقد هاجر يعقوب ببنيه وأهله إلى مصر للقاء ابنه يوسف، وهناك اجتمع شملهم واستمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك في نهاية القصة فيقول:
[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 101]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)(7/415)
وقوله- سبحانه- فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ... معطوف على كلام محذوف والتقدير:
استجاب إخوة يوسف لقوله لهم: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ فأتوا بأهلهم أجمعين، حيث رحلوا جميعا من بلادهم إلى مصر ومعهم أبوهم، فلما وصلوا إليها ودخلوا على يوسف، ضم إليه أبويه وعانقهما عناقا حارا.
وقال للجميع ادْخُلُوا بلاد مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من الجوع والخوف.
وقد ذكر المفسرون هنا كلاما يدل على أن يوسف- عليه السلام- وحاشيته ووجهاء مصر، عند ما بلغهم قدوم يعقوب بأسرته إلى مصر، خرجوا جميعا لاستقبالهم كما ذكروا أن المراد بأبويه: أبوه وخالته، لأن أمه ماتت وهو صغير.
إلا أن ابن كثير قال: «قال محمد بن إسحاق وابن جرير: كان أبوه وأمه يعيشان، وأنه لم يقم دليل على موت أمه، وظاهر القرآن يدل على حياتها» ...
ثم قال: «وهذا الذي ذكره ابن جرير، هو الذي يدل عليه السياق» «1» .
والمراد بدخول مصر: الاستقرار بها، والسكن في ربوعها.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 2 ص 491.(7/416)
قالوا: وكان عدد أفراد أسرة يعقوب الذين حضروا معه ليقيموا في مصر ما بين الثمانين والتسعين.
والمراد بالعرش في قوله وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ السرير الذي يجلس عليه.
أى: وأجلس يوسف أبويه معه على السرير الذي يجلس عليه، تكريما لهما، وإعلاء من شأنهما.
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً أى: وخر يعقوب وأسرته ساجدين من أجل يوسف، وكان ذلك جائزا في شريعتهم على أنه لون من التحية، وليس المقصود به السجود الشرعي لأنه لا يكون إلا لله- تعالى-.
«وقال» يوسف متحدثا بنعمة الله يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا....
أى: وقال يوسف لأبيه: هذا السجود الذي سجدتموه لي الآن، هو تفسير رؤياي التي رأيتها في صغرى. فقد جعل ربي هذه الرؤيا حقا، وأرانى تأويلها وتفسيرها بعد أن مضى عليها الزمن الطويل.
قالوا: وكان بين الرؤيا وبين ظهور تأويلها أربعون سنة.
والمراد بهذه الرؤيا ما أشار إليه القرآن في مطلع هذه السورة في قوله يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ.
ثم قال يوسف لأبيه أيضا: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ربي- عز وجل- إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ بعد أن مكثت بين جدرانه بضع سنين.
وعدى فعل الإحسان بالباء مع أن الأصل فيه أن يتعدى بإلى، لتضمنه معنى اللطف ولم يذكر نعمة إخراجه من الجب، حتى لا يجرح شعور إخوته الذين سبق أن قال لهم:
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ.
وقوله وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ معطوف على ما قبله تعدادا لنعم الله- تعالى- أى: وقد أحسن بي ربي حيث أخرجنى من السجن، وأحسن بي أيضا حيث يسر لكم أموركم، وجمعنى بكم في مصر، بعد أن كنتم مقيمين في البادية في أرض كنعان بفلسطين.
وقوله مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أى جمعنى بكم من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتى، حيث حملهم على أن يلقوا بي في الجب.(7/417)
وأصل نَزَغَ من النزغ بمعنى النخس والدفع. يقال: نزغ الراكب دابته إذا نخسها ودفعها لتسرع في سيرها.
وأسند النزغ إلى الشيطان، لأنه هو الموسوس به، والدافع إليه، ولأن في ذلك سترا على إخوته وتأدبا معهم.
وقوله إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تذييل قصد به الثناء على الله- تعالى- بما هو أهله.
أى: إن ربي وخالقي، لطيف التدبير لما يشاء تدبيره من أمور عباده، رفيق بهم في جميع شئونهم من حيث لا يعلمون.
إنه- سبحانه- هو العليم بأحوال خلقه علما تاما، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله.
ثم ختم يوسف- عليه السلام- ثناءه على الله- تعالى- بهذا الدعاء الذي حكاه القرآن عنه في قوله: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أى: يا رب قد أعطيتنى شيئا عظيما من الملك والسلطان بفضلك وكرمك.
وَعَلَّمْتَنِي- أيضا- شيئا كثيرا مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أى: من تفسيرها وتعبيرها تعبيرا صادقا بتوفيقك وإحسانك.
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: خالقهما على غير مثال سابق، وهو منصوب على النداء بحرف مقدر أى: يا فاطر السموات والأرض.
أَنْتَ وَلِيِّي وناصري ومعينى فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.
تَوَفَّنِي عند ما يدركني أجلى على الإسلام، وأبقنى مُسْلِماً مدة حياتي.
وَأَلْحِقْنِي في قبري ويوم الحساب بِالصَّالِحِينَ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وبهذا الدعاء الجامع الذي توجه به يوسف إلى ربه- تعالى- يختتم القرآن الكريم قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته ومع غيرهم ممن عاشرهم والتقى بهم وهو دعاء يدل على أن يوسف- عليه السلام- لم يشغله الجاه والسلطان ولم يشغله لقاؤه عن طاعة ربه، وعن تذكر الآخرة وما فيها من حساب..
وهذا هو شأن المصطفين الأخيار الذين نسأل الله- تعالى- أن يحشرنا معهم، ويلحقنا بهم، ويوفقنا للسير على نهجهم ...(7/418)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
ثم يختتم الله- تعالى- هذه السورة الكريمة بما يدل على أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- وبما يدخل التسلية على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وبما يفتح له باب الأمل في النصر على أعدائه ... فيقول:
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)(7/419)
واسم الإشارة في قوله- سبحانه- ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ.... يعود على ما ذكره الله- تعالى- في هذه السورة من قصص يتعلق بيوسف وإخوته وأبيه وغيرهم، أى: ذلك الذي قصصناه عليك- أيها الرسول الكريم- في هذه السورة، وما قصصناه عليك في غيرها مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أى: من الأخبار الغيبية التي لا يعلمها علما تاما شاملا إلا الله- تعالى- وحده.
ونحن نُوحِيهِ إِلَيْكَ ونعلمك به لما فيه من العبر والعظات.
وقوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ مسوق للتدليل على أن هذا القصص من أنباء الغيب الموحاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أى: ومما يشهد بأن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة من أنباء الغيب، أنك- أيها الرسول الكريم- ما كنت حاضرا مع إخوة يوسف، وقت أن أجمعوا أمرهم للمكر به، ثم استقر رأيهم على إلقائه في الجب، وما كنت حاضرا أيضا وقت أن مكرت امرأة العزيز بيوسف، وما كنت مشاهدا لتلك الأحداث المتنوعة التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة، ولكنا أخبرناك بكل ذلك لتقرأه على الناس، ولينتفعوا بما فيه من حكم وأحكام، وعبر وعظات.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في خلال قصة نوح- عليه السلام-: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ «1» .
وقوله- تعالى- في خلال قصة موسى- عليه السلام- وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ «2» .
__________
(1) سورة هود الآية 49.
(2) سورة القصص الآية 44.(7/420)
وقوله- تعالى- في خلال حديثه عن مريم ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ «1» .
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصرا لمن جاء القرآن بقصصهم، ولم يطلع على كتاب فيه خبرهم، فلم يبق لعلمه صلى الله عليه وسلم بذلك طريق إلا طريق الوحى.
ثم ساق- سبحانه- ما يبعث التسلية والتعزية في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ.
أى: لقد جئت- أيها الرسول- للناس بدين الفطرة، الذي ترتاح له النفوس وتتقبله القلوب بسرور وانشراح. ولكن أكثر الناس قد استحوذ عليهم الشيطان، فمسخ نفوسهم وقلوبهم، فصاروا مع حرصك على إيمانهم، ومع حرصك على دعوتهم إلى الحق على بصيرة، لا يؤمنون بك، ولا يستجيبون لدعوتك، لاستيلاء المطامع والشهوات والأحقاد على نفوسهم.
وفي التعبير بقوله- سبحانه- وَما أَكْثَرُ النَّاسِ ... إشعار بأن هناك قلة من الناس قد استجابت بدون تردد لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت في الدين الحق، عن طواعية واختيار.
وقوله وَلَوْ حَرَصْتَ جملة معترضة لبيان أنه مهما بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في كشف الحق، فإنهم سادرون في ضلالهم وكفرهم، إذ الحرص طلب الشيء باجتهاد.
قال الآلوسى ما ملخصه: «سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، فنزلت مشروحة شرحا وافيا، فأمل النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك سببا في إسلامهم، فلما لم يفعلوا حزن صلى الله عليه وسلم فعزاه الله- تعالى- بذلك» «2» .
وقوله وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ زيادة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إعلاء شأنه.
أى أنك- أيها الرسول الكريم- ما تسألهم على هذا القرآن الذي تتلوه عليهم لهدايتهم وسعادتهم من أجر ولو كان زهيدا ضئيلا. كما يفعل غيرك من الكهان والأحبار والرهبان ...
وإنما تفعل ما تفعل ابتغاء رضا الله- تعالى- ونشر دينه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 44.
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 65. [.....](7/421)
وقوله إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أى: ما هذا القرآن الذي تقرؤه عليهم إلا تذكير وعظة وهداية للعالمين كافة لا يختص به قوم دون قوم، ولا جنس دون جنس.
قالوا: وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها، لأن التذكير العام لكل الناس، يتنافى مع أخذ الأجرة من البعض دون البعض، وإنما تتأتى الأجرة، إذا كانت الدعوة خاصة وليست عامة.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين تطالعهم الدلائل والبراهين الدالة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، ولكنهم في عمى عنها فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ.
وكَأَيِّنْ كلمة مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة، ثم تنوسى معنى جزئيتها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير.
والمراد بالآية هنا: العبرة والعظمة الدالة على وحدانية الله وقدرته يمر بها هؤلاء المشركون فلا يلتفتون إليها، ولا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون بها، لأن بصائرهم قد انطمست بسبب استحواذ الأهواء والشهوات والعناد عليها.
قال ابن كثير ما ملخصه: يخبر- تعالى- في هذه الآية عن غفلة أكثر الناس عن التفكير في آيات الله ودلائل توحيده، بما خلقه- سبحانه- في السموات من كواكب زاهرات، وسيارات وأفلاك ... وفي الأرض من حدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وحيوانات ونبات ... فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المنفرد بالدوام والبقاء والصمدية ... » «1» .
ثم بين- سبحانه- أنهم بجانب غفلتهم وجهالتهم، لا يؤمنون إيمانا صحيحا فقال- تعالى- وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
أى: وما يؤمن أكثر هؤلاء الضالين بالله في إقرارهم بوجوده، وفي اعترافهم بأنه هو الخالق، إلا وهم مشركون به في عقيدتهم وفي عبادتهم وفي تصرفاتهم، فإنهم مع اعترافهم بأن خالقهم وخالق السموات والأرض هو الله لكنهم مع ذلك كانوا يتقربون إلى أصنامهم بالعبادة ويقولون ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى.
والآية تشمل كل شرك سواء أكان ظاهرا أم خفيا، كبيرا أم صغيرا. وقد ساق ابن كثير هنا جملة من الأحاديث في هذا المعنى، كلها تنهى عن الشرك أيا كان لونه، منها قوله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 341 طبعة دار الشعب.(7/422)
عند ما سئل أى الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» ومنها قوله: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: فيما يرويه عن ربه- عز وجل-: يقول الله- تعالى- «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى، تركته وشركه» «1» .
فالآية الكريمة تنهى عن كل شرك، وتدعو إلى إخلاص العبادة والطاعة لله رب العالمين.
ثم هددهم- سبحانه- بحلول قارعة تدمرهم تدميرا فقال- تعالى-: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
والغاشية كل ما يغطى الشيء ويستره، والمراد بها: ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب.
والاستفهام للتوبيخ والتقريع.
والمعنى: أفأمن هؤلاء الضالون، أن يأتيهم عذاب من الله- تعالى- يغشاهم ويغمرهم ويشمل كل أجزائهم. وأمنوا أن تأتيهم الساعة فجأة دون أن يسبقها ما يدل عليها، بحيث لا يشعرون بإتيانها إلا عند قيامها.
إن كانوا قد أمنوا كل ذلك، فهم في غمرة ساهون، وفي الكفر والطغيان غارقون، فإنه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه- صلى الله عليه وسلم: أن يسير في طريقه الذي رسمه له، وأن يدعو الناس إليه فقال: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي، أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... والبصيرة:
المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس هذه طريقي وسبيلي واحدة مستقيمة لا عوج فيها ولا شبهة، وهي أنى أدعو إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، ببصيرة مستنيرة، وحجة واضحة، وكذلك أتباعى يفعلون ذلك ... ولن نكفّ عن دعوتنا هذه مهما اعترضتنا العقبات.
واسم الإشارة هذِهِ مبتدأ. وسَبِيلِي خبر، وجملة أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ ... حالية، وقد جيء بها على سبيل التفسير للطريقة التي انتهجها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 431 طبعة دار الشعب.(7/423)
وقوله وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ تنزيه لله- تعالى- عن كل ما لا يليق به على أبلغ وجه.
أى: وأنزه الله- تعالى- تنزيها كاملا عن الشرك والشركاء، وما أنا من المشركين به في عبادته أو طاعته في أى وقت من الأوقات.
ثم بين- سبحانه- أن رسالته صلى الله عليه وسلم ليست بدعا من بين الرسالات السماوية، وإنما قد سبقه إلى ذلك رجال يشبهونه في الدعوة إلى الله، فقال- تعالى- وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى....
أى: وما أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم- لتبليغ أوامرنا ونواهينا إلى الناس، إلا رجالا مثلك، وهؤلاء الرجال اختصصناهم بوحينا ليبلغوه إلى من أرسلوا إليهم، واصطفيناهم من بين أهل القرى والمدائن، لكونهم أصفى عقولا. وأكثر حلما.
وإنما جعلنا الرسل من الرجال ولم نجعلهم من الملائكة أو من الجن أو من غيرهم، لأن الجنس إلى جنسه أميل، وأكثرهم تفهما وإدراكا لما يلقى عليه من أبناء جنسه.
ثم نعى- سبحانه- على هؤلاء المشركين غفلتهم وجهالتهم فقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ....
أى: أوصلت الجهالة والغفلة بهؤلاء المشركين، أنهم لم يتعظوا بما أصاب الجاحدين من قبلهم من عذاب دمرهم تدميرا، وهؤلاء الجاحدون الذين دمروا ما زالت آثار بعضهم باقية وظاهرة في الأرض. وقومك- يا محمد- يمرون عليهم في الصباح وفي المساء وهم في طريقهم إلى بلاد الشام، كقوم صالح وقوم لوط- عليهما السلام-.
فالجملة توبيخ شديد لأهل مكة على عدم اعتبارهم بسوء مصير من كان على شاكلتهم في الشرك والجحود.
وقوله وَلَدارُ الْآخِرَةِ وما فيها من نعيم دائم خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الله- تعالى- وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضيه.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أيها المشركون ما خاطبناكم به فيحملكم هذا التعقل والتدبر إلى الدخول في الإيمان، ونبذ الكفر والطغيان.
ثم حكى- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل فقال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا....(7/424)
وفي قوله قَدْ كُذِبُوا وردت قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد الذال والثانية بالتخفيف.
وعلى القراءتين فالغاية في قوله- تعالى- حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ غاية لكلام محذوف دل عليه السياق.
والمعنى على القراءة التي بالتشديد. لقد أرسلنا رسلنا لهداية الناس، فأعرض الكثيرون منهم عن دعوتهم، ووقفوا منهم موقف المنكر والمعاند والمحارب لهدايتهم، وضاق الرسل ذرعا بموقف هؤلاء الجاحدين، حتى إذا استيأس الرسل الكرام من إيمان هؤلاء الجاحدين، وظنوا- أى الرسل- أن أقوامهم الجاحدين قد كذبوهم في كل ما جاءوهم به لكثرة إعراضهم عنهم، وإيذائهم لهم ... أى: حتى إذا ما وصل الرسل إلى هذا الحد من ضيقهم بأقوامهم الجاحدين جاءهم نصرنا الذي لا يتخلف.
والمعنى على القراءة الثانية التي هي بالتخفيف: حتى إذا يئس الرسل من إيمان أقوامهم يأسا شديدا، وظن هؤلاء الأقوام أن الرسل قد كذبوا عليهم فيما جاءوهم به، وفيما هددوهم به من عذاب إذا ما استمروا على كفرهم..
حتى إذا ما وصل الأمر بالرسل وبالأقوام إلى هذا الحد، جاء نصرنا الذي لا يتخلف إلى هؤلاء الرسل، فضلا منا وكرما..
فالضمير في قوله كُذِبُوا بالتشديد يعود على الرسل، أما على قراءة التخفيف كُذِبُوا فيعود إلى الأقوام الجاحدين.
ومنهم من جعل الضمير- أيضا- على قراءة كُذِبُوا بالتخفيف يعود على الرسل، فيكون المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنوا- أى الرسل- أن نفوسهم قد كذبت عليهم في تحديد موعد انتصارهم على أعدائهم لأن البلاء قد طال. والنصر قد تأخر ... جاءهم- أى الرسل- نصرنا الذي لا يتخلف.
قال الشيخ القاسمى في بيان هذا المعنى: قال الحكيم الترمذي: ووجهه- أى هذا القول السابق- أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر، أن يتخلف النصر، لا عن تهمة بوعد الله، بل عن تهمة لنفوسهم أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان النصر إذا طال انتظاره واشتد البلاء عليهم، دخلهم الظن من هذه الجهة» «1» .
__________
(1) تفسير القاسمى ج 9 ص 3615.(7/425)
وهذا يدل على شدة محاسبة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- لنفوسهم، وحسن صلتهم بخالقهم- عز وجل-.
وقوله- سبحانه- فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ معطوف على ما قبله، ومتفرع عليه.
أى: جاءهم نصرنا الذي وعدناهم به، بأن أنزلنا العذاب على أعدائهم، فنجا من نشاء إنجاءه وهم المؤمنون بالرسل، ولا يرد بأسنا وعذابنا عن القوم المجرمين عند نزوله بهم.
ثم ختم- سبحانه- هذه السورة الكريمة بقوله لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ أى: لقد كان في قصص أولئك الأنبياء الكرام وما جرى لهم من أقوامهم، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة، والأفكار القويمة، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وأحكام، وآداب وهدايات.
وما كانَ هذا المقصوص في كتاب الله- تعالى- حَدِيثاً يُفْتَرى أى يختلق.
وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السابقة عليه، كالتوراة والإنجيل والزبور، فهو المهيمن على هذه الكتب، والمؤيد لما فيها من أخبار صحيحة، والمبين لما وقع فيها من تحريف وتغيير، والحاكم عليها بالنسخ أو بالتقرير.
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ أى: وكان في هذا الكتاب- أيضا- تفصيل وتوضيح كل شيء من الشرائع المجملة التي تحتاج إلى ذلك.
وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أى: وكان هداية تامة، ورحمة شاملة، لقوم يؤمنون به، ويعملون بما فيه من أمر ونهى، وينتفعون بما اشتمل عليه من وجوه العبر والعظات.
وبعد: فهذا تفسير لسورة يوسف- عليه السلام- تلك السورة الزاخرة بالحكم والأحكام، وبالآداب والأخلاق، وبالمحاورات والمجادلات، وبأحوال النفوس البشرية في حبها وبغضها، وعسرها ويسرها، وخيرها وشرها. وعطائها ومنعها وسرها وعلانيتها، ورضاها وغضبها، وحزنها وسرورها..
أسأل الله- تعالى- أن ينفعنا بهدى كتابه، وأن يجعله شفيعا لنا يوم نلقاه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوى(7/426)
تفسير سورة الرّعد(7/427)
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.
وبعد: فهذا تفسير تحليلي لسورة «الرعد» توخيت فيه أن أبرز ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من توجيهات سامية، وآداب عالية، وهدايات تامة، وأحكام حكيمة، وتراكيب بليغة ...
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده وشفيعا لنا يوم نلقاه، إنه- سبحانه- أكرم مسئول، وأعظم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف الدكتور محمد سيد طنطاوى(7/429)
تمهيد بين يدي سورة الرعد
نريد بهذا التمهيد- كما سبق أن ذكرنا في تفسير السورة السابقة- إعطاء القارئ الكريم صورة واضحة عن سورة الرعد، قبل أن نبدأ في تفسيرها آية فآية فنقول- وبالله التوفيق:
1- سورة الرعد هي السورة الثالثة عشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها اثنتا عشرة سورة، هي سور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف.
2- وسميت بهذا الاسم منذ العهد النبوي، ولم يعرف لها اسم سوى هذا الاسم، ولعل سبب تسميتها بذلك، ورود ذكر الرعد فيها، في قوله- تعالى- وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ... «1» .
3- وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية في المصحف الكوفي، وأربع وأربعون آية في المدني، وخمس وأربعون في البصري، وسبع وأربعون في الشامي «2» .
4- والذي يقرأ أقوال المفسرين في بيان زمان نزولها، يراها أقوالا ينقصها الضبط والتحقيق.
فهناك روايات صرحت بأنها مكية، وأخرى صرحت بأنها مدنية، وثالثة بأنها مكية إلا آيات منها فمدنية، ورابعة بأنها مدنية إلا آيات منها فمكية ...
قال الآلوسى: «جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس وعلى بن أبى طلحة أنها مكية» .
وروى ذلك عن سعيد بن جبير- أيضا-.
قال سعيد بن منصور في سننه، حدثنا أبو عوانة عن أبى بشر قال: سألت ابن جبير عن قوله- تعالى- وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ هل هو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف وهذه السورة مكية.
__________
(1) الآية رقم 13.
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 76 طبعة منير الدمشقي.(7/431)
وأخرج مجاهد عن ابن الزبير، وابن مردويه من طريق العوفى عن ابن عباس، ومن طريق ابن جريج وعثمان بن عطاء عنه أنها مدنية.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنها مدنية إلا قوله- تعالى- وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ... الآية فإنها مكية.
وروى أن من أولها إلى آخر قوله- تعالى- وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ....
نزل بالمدينة، أما باقيها فنزل في مكة ... «1» .
هذه بعض الروايات في زمان نزولها، وهي- كما ترى- التعارض فيها واضح.
والذي تطمئن إليه النفس، أن السورة الكريمة يبدو بوضوح فيها طابع القرآن المكي، سواء أكان ذلك في موضوعاتها، أم في أسلوبها، أم في غير ذلك من مقاصدها وتوجيهاتها.
وأن نزولها- على الراجح- كان في الفترة التي أعقبت موت أبى طالب، والسيدة خديجة- رضى الله عنها.
وهي الفترة التي لقى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقى من أذى المشركين وعنتهم، وطغيانهم ...
والذي جعلنا نرجح أن نزولها كان في هذه الفترة، ما اشتملت عليه السورة الكريمة، من أدلة متنوعة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، ومن تسلية له صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه- كما سنرى ذلك عند تفسيرنا لآياتها، كذلك مما جعلنا نرجح أن نزولها كان في هذه الفترة، قول السيوطي في كتابه الإتقان: «ونزلت بمكة سورة الأعراف، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد ... » «2» .
وقد رجحنا عند تفسيرنا لسورة يونس، وهود، ويوسف- عليهم السلام- أن هذه السور قد نزلت في تلك الفترة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ونرجح هنا أن نزول سورة الرعد كان في تلك الفترة- أيضا- لمناسبة موضوعاتها لأحداث هذه الفترة.
5- عرض إجمالى لسورة الرعد:
(ا) لقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على القرآن الكريم، وبالإشارة إلى إعجازه، ثم ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته وعظيم حكمته ...
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 75.
(2) الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 12 طبعة مصطفى الحلبي.(7/432)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ...
(ب) ثم حكت السورة بعد ذلك جانبا من أقوال المشركين في شأن البعث، وردت عليهم بما يكبتهم فقال- تعالى- وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ....
(ج) ثم بينت السورة الكريمة ما يدل على كمال علمه- تعالى- وعلى عظم سلطانه، وعلى حكمته في قضائه وقدره فقال- تعالى-: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ....
(د) ثم أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين سؤال تهكم وتوبيخ عمن خلق السموات والأرض فقال- تعالى-: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ. قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ، أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ، فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
(هـ) ضربت السورة الكريمة مثلين للحق والباطل. وعقدت مقارنة بين مصير أتباع الحق، ومصير أتباع الباطل فقال- تعالى-: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ...
(و) ثم حكت السورة الكريمة بعض المطالب المتعنتة التي طلبها المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم وردت عليهم بما يمحق باطلهم، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال- تعالى-:
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ....
(ز) ثم حكت السورة الكريمة لونا آخر من غلوهم في كفرهم، ومن مقترحاتهم الفاسدة، حيث طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم بالقرآن جبال مكة ليتفسحوا في أرضها، ويفجر لهم فيها الأنهار والعيون ليزرعوها، ويحيى لهم الموتى ليخبروهم بصدقه ...
فقال- تعالى-: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ(7/433)
الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً، أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً....
(ح) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان حسن عاقبة المتقين، وسوء عاقبة المكذبين، وبالثناء على القرآن الكريم، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه وبالشهادة له بالرسالة، وبتهديد المشركين بالعذاب الأليم، فقال- تعالى- مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها، تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ ...
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً، وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا، قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.
6- ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة، نراها قد اهتمت بالحديث عن موضوعات من أبرزها ما يأتى:
(ا) إقامة الأدلة المتنوعة على كمال قدرة الله- تعالى- وعظيم حكمته. تارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما فيه من سموات مرتفعة بغير عمد، وأرض صالحة للاستقرار عليها، وشمس وقمر وكواكب مسخرة لمنافع الناس، وجبال لتثبيت الأرض، وأنهار لسقى الزرع ...
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ، صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
وتارة عن طريق علمه المحيط بكل شيء، فهو العليم بما تنقصه الأرحام وما تزداده في الخلقة وفي المدة وفي غير ذلك، وهو العليم بأحوال عباده سواء أكانوا ظاهرين بالنهار أم مستخفين بالليل.
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ....
وتارة عن طريق الظواهر الكونية التي يرسلها- سبحانه- لعباده خوفا وطمعا، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ....
وتارة عن طريق العطاء والمنع لمن يشاء من عباده: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ....
وتارة عن طريق المصائب والقوارع التي ينزلها- سبحانه- بالكافرين وَلا يَزالُ الَّذِينَ(7/434)
كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
(ب) إثبات أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه، والرد على المشركين فيما طلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم من مطالب متعنتة، ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله- تعالى-:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ.
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ.
(ج) تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما لحقه من أذى، وذلك لأن السورة الكريمة- كما سبق أن أشرنا- مكية، وأنها- على الراجح- قد نزلت في فترة اشتد فيها إعراض المشركين عن دعوة الحق وتكذيبهم لها، وتطاولهم على صاحبها صلى الله عليه وسلم ومطالبتهم له بالخوارق التي لا يؤيدها عقل سليم.
فنزلت السورة الكريمة لتثبت الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ولتمزق أباطيل المشركين عن طريق حشود من الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه.
ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله- تعالى-: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ.
وقوله- تعالى- وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ.
وقوله- تعالى- وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً، يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ، وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً(7/435)
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ
هذه بعض الموضوعات التي نرى السورة الكريمة قد اهتمت بتفصيل الحديث عنها.
وهناك موضوعات أخرى يراها كل من تأمل آياتها بفكر سليم، وعقل قويم، وروح صافية ...
نسأل الله- تعالى- أن يرزقنا فهم كتابه، والعمل بما فيه من آداب وأحكام، وهدايات ...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(7/436)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
التفسير قال- تعالى-:
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
لقد افتتحت سورة الرعد ببعض الحروف المقطعة، وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء في هذه الحروف في سور: البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس، وهود، ويوسف.(7/437)
وقلنا ما ملخصه: إن أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض السور على سبيل الإيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن.
فكأن الله- تعالى- يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله: هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون من كلامكم، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها كلماتكم.
فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك، فإن لم تستطيعوا أن تأتوا بمثله فهاتوا عشر سور من مثله، فإن لم تستطيعوا فهاتوا سورة واحدة من مثله..
ومع كل هذا التساهل معهم في التحدي، فقد عجزوا وانقلبوا خاسرين، فثبت بذلك أن هذا القرآن من عند الله- تعالى-.
وتِلْكَ اسم إشارة، والمشار إليه الآيات. والمراد بها آيات القرآن الكريم، ويدخل فيها آيات السورة التي معنا.
والمراد بالكتاب: القرآن الكريم الذي أنزله- سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
وقوله وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ تنويه بشأن القرآن الكريم، ورد على المشركين الذين زعموا أنه أساطير الأولين.
أى: تلك الآيات التي نقرؤها عليك- يا محمد- في هذه السورة هي آيات الكتاب الكريم، وما أنزله الله- تعالى- عليك في هذا الكتاب، هو الحق الخالص الذي لا يلتبس به باطل، ولا يحوم حول صحته شك أو التباس.
وفي قوله- سبحانه- مِنْ رَبِّكَ مزيد من التلطف في الخطاب معه صلى الله عليه وسلم فكأنه- سبحانه- يقول له: إن ما نزل عليك من قرآن هو من عند ربك الذي تعهدك بالرعاية والتربية حتى بلغت درجة الكمال.
واسم الموصول الَّذِي مبتدأ، والجملة بعده صلة، والحق هو الخبر ...
وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ استدراك لبيان موقف أكثر الناس من هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أى: لقد أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن بالحق، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون به لانطماس بصائرهم، واستيلاء العناد على نفوسهم ...(7/438)
وفي هذا الاستدراك، مدح لتلك القلة المؤمنة من الناس، وهم أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق منذ أن وصل إليهم، فآمنوا به، واعتصموا بحبله، ودافعوا عنه بأموالهم وأنفسهم وعلى رأس هذه القلة التي آمنت بالحق منذ أن بلغها: أبو بكر الصديق وغيره من السابقين إلى الإسلام.
ثم أقام- سبحانه- الأدلة المتنوعة عن طريق المشاهدة- على كمال قدرته، وعلى وجوب إخلاص العبادة له فقال- تعالى- اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.
والعمد: جمع عماد، وهو ما تقام عليه القبة أو البيت.
وجملة تَرَوْنَها في محل نصب حال من السموات.
أى: الله- سبحانه- هو الذي رفع هذه السموات الهائلة في صنعها وفي ضخامتها، بغير مستند يسندها، وبغير أعمدة تعتمد عليها، وأنتم ترون ذلك بأعينكم بجلاء ووضوح.
والمراد بقوله رَفَعَ أى خلقها مرتفعة منذ البداية، وليس المراد أنه- سبحانه- رفعها بعد أن كانت منخفضة.
ولا شك أن خلق السموات على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقا قادرا حكيما، هو المستحق للعبادة والطاعة.
وقوله- سبحانه- ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ معطوف على ما قبله، وهو دليل آخر على قدرة الله- تعالى- عن طريق الغائب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك بعد أن أقام الأدلة على ذلك عن طريق الحاضر المشاهد.
الاستواء في اللغة يطلق على معان منها الاستقرار كما في قوله- تعالى- وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ أى: استقرت، وبمعنى الاستيلاء والقهر.
وعرش الله- تعالى- مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم- كما يقول الراغب-.
وقد ذكر لفظ العرش في إحدى وعشرين آية، كما ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات من القرآن الكريم.
والمعنى: ثم استوى على العرش استواء يليق بذاته- تعالى- بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل، لاستحالة اتصافه- سبحانه- بصفات المحدثين.
قال الإمام مالك- رحمه الله-: «الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» .(7/439)
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر نعمه على عباده فقال: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. والتسخير: التذليل والخضوع.
أى: أن من مظاهر فضله أنه- سبحانه- سخر ذلك وأخضع لقدرته الشمس والقمر، بأن جعلهما طائعين لما أراده منهما من السير في منازل معينة، ولأجل معين محدد لا يتجاوزانه ولا يتعديانه. بل يقفان عند نهاية المدة التي حددها- سبحانه- لوقوفهما وأفولهما.
قال- تعالى- لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، يُفَصِّلُ الْآياتِ، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وتدبير الأمر: تصريفه على أحسن الوجوه وأحكمها وأكملها.
والآيات: جمع آية. والمراد بها هنا: ما يشمل الآيات القرآنية، والبراهين الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته- سبحانه-.
أى: أنه- سبحانه- يقضى ويقدر ويتصرف في أمر خلقه على أكمل الوجوه وأنه- سبحانه- ينزل آياته القرآنية واضحة مفصلة، ويسوق الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته بطرق متعددة، وبوجوه متنوعة.
وقد فعل- سبحانه- ما فعل- من رفعه السماء بلا عمد، ومن تسخيره للشمس والقمر، ومن تدبيره لأمور خلقه، ومن تفصيله للآيات لعلكم عن طريق التأمل والتفكير فيما خلق، توقنون بلقائه، وتعتقدون أن من قدر على إيجاد هذه المخلوقات العظيمة، لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة بعد موتكم، لكي يحاسبكم على أعمالكم.
وقال- سبحانه- يُدَبِّرُ ويُفَصِّلُ بصيغة المضارع. وقال قبل ذلك رَفَعَ السَّماواتِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بصيغة الماضي. لأن التدبير للأمور، والتفصيل للآيات، يتجددان بتجدد تعلق قدرته- سبحانه- بالمقدورات.
وأما رفع السماوات، وتسخير الشمس والقمر، فهي أمور قد تمت واستقرت دفعة واحدة.
وبعد أن ذكر- سبحانه- بعض مظاهر قدرته في عالم السماوات، أتبعه بذكر بعض هذه المظاهر في عالم الأرض فقال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ والمد: البسسط والسعة. ومنه ظل مديد أى متسع.
__________
(1) سورة يس الآية 40.(7/440)
والرواسي: الجبال مأخوذ من الرسو، وهو ثبات الأجسام الثقيلة، يقال: رسا الشيء يرسو رسوا ورسوّا، إذا ثبت واستقر، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبته فيها.
ولفظ رواسى: صفة لموصوف محذوف. وهو من الصفات التي تغنى عن ذكر موصوفها.
والأنهار: جمع نهر، وهو مجرى الماء الفائض، ويطلق على الماء السائل على الأرض.
والمراد بالثمرات: ما يشملها هي وأشجارها، وإنما ذكرت الثمرات وحدها، لأنها هي موضع المنة والعبرة.
والمراد بالزوجين: الذكر والأنثى، وقيل المراد بهما الصنفان في اللون أو في الطعم أو في القدر وما أشبه ذلك.
والمعنى: وهو- سبحانه- الذي بسط الأرض طولا وعرضا إلى المدى الذي لا يدركه البصر، ليتيسر الاستقرار عليها.
ولا تنافى بين مدها وبسطها. وبين كونها كروية، لأن مدها وبسطها على حسب رؤية العين، وكرويتها حسب الحقيقة.
وجعل في هذه الأرض جبالا ثوابت راسخات، لتمسكها من الاضطراب، وجعل فيها- أيضا- أنهارا، لينتفع الناس والحيوان وغيرهما بمياه هذه الأنهار.
وجعل فيها كذلك من كل نوع من أنواع الثمرات ذكرا وأنثى.
قال صاحب الكشاف: «أى خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت.
وقيل: أراد بالزوجين: الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأوصاف المختلفة» «1» .
وقال صاحب الظلال: «وهذه الجملة تتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم إلا قريبا، وهي أن كل الأحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى، حتى النباتات التي كان مظنونا أنه ليس لها من جنسها ذكور، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة، أو متفرقة في العود ... » «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 349. طبعة دار المعرفة- ببيروت.
(2) تفسير في ظلال القرآن ج 4 ص 2046 طبعة دار الشروق.(7/441)
وقوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته- سبحانه- ورحمته بعباده.
ولفظ يُغْشِي من التغشية بمعنى التغطية والستر.
والمعنى: أن من مظاهر قدرته- سبحانه- أنه يجعل الليل غاشيا للنهار مغطيا له فيذهب بنوره وضيائه. فيصير الكون مظلما بعد أن كان مضيئا. ويجعل النهار غاشيا لليل، فيصير الكون مضيئا بعد أن كان مظلما، وفي ذلك من منافع الناس ما فيه، إذ بذلك يجمع الناس بين العمل والراحة، وبين السعى والسكون.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
أى: إن في ذلك الذي فعله الله- تعالى- من بسط الأرض طولا وعرضا ومن تثبيتها بالرواسى، ومن شقها بالأنهار ... لآيات باهرة، ودلائل ظاهرة على قدرة الله- تعالى- ورحمته بعباده، لقوم يحسنون التفكر، ويطيلون التأمل في ملكوت السموات والأرض.
ثم ساق- سبحانه- مظاهر أخرى لقدرته فقال- تعالى-: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ.
والقطع: جمع قطعة- بكسر القاف- وهي الجزء من الشيء، تشبيها لها، بما يقتطع من الشيء.
ومتجاورات. أى: متلاقيات ومتقاربات.
وليس هذا الوصف مقصودا لذاته، بل المقصود أنها مع تجاورها وتقاربها مختلفة في أوصافها مما يشهد بقدرة الله- تعالى- العظيمة.
ولذا قال ابن كثير ما ملخصه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أى: أراض يجاور بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا، وهذه تربتها حمراء، وتلك تربتها سوداء ... وهذه محجرة وتلك سهلة ... والكل متجاورات، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله إلا هو ولا رب سواه «1» .
وقال- سبحانه- وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بإعادة اسم الأرض الظاهر، ولم يقل وفيها قطع متجاورات كما قال: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ في الآية السابقة، وذلك ليكون كلاما مستقلا، وليتجدد الأسلوب فيزداد حلاوة وبلاغة. وقوله وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 353 طبعة دار الشعب.(7/442)
وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ... بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته- سبحانه- ورحمته بعباده.
والجنات: جمع جنة، والمراد بها البستان ذو الشجر المتكاثف، الملتف الأغصان الذي يظلل ما تحته ويستره.
والأعناب: جمع عنب وهو شجر الكرم.
والمراد بالزرع: أنواع الحبوب على اختلاف ألوانها وطعومها وصفاتها وقوله صِنْوانٌ صفة لنخيل، وهو جمع صنو.
والصنو: الفرع الذي يجمعه مع غيره أصل واحد، فإذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد، فكل واحدة منهن يطلق عليها اسم صنو.
ويطلق على الاثنتين صنوان- بكسر النون- ويطلق على الجمع صنوان- بضم النون-.
والصنو: بمعنى المثل ومنه قيل لعم الرجل: صنو أبيه، أى: مثله، فأطلق على كل غصن صنو لمماثلته للآخر في التفرع من أصل واحد «والأكل» اسم لما يؤكل من الثمار والحب.
والمعنى: أن من مظاهر قدرة الله- أيضا- ومن الأدلة على وحدانيته- سبحانه- أنه جعل في الأرض بقاعا كثيرة متجاورة ومع ذلك فهي مختلفة في أوصافها وفي طبيعتها ... وفيها أيضا بساتين كثيرة من أعناب ومن كل نوع من أنواع الحبوب.
وفيها كذلك نخيل يجمعها أصل واحد فهي صنوان، ونخيل أخرى لا يجمعها أصل واحد فهي غير صنوان.
والكل من الأعناب والزرع والنخيل وغيرها يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ لا اختلاف في ذاته سواء أكان السقي من ماء الأمطار أم من ماء الأنهار ومع وجود أسباب التشابه، فإننا لعظيم قدرتنا وإحساننا نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ آخر منها فِي الْأُكُلِ أى: في اختلاف الطعوم.
قال الإمام الرازي: «قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ كلها بالرفع عطفا على قوله وَجَنَّاتٌ وقرأ الباقون بالجر عطفا على الأعناب ... » «1» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 70 طبعة عبد الرحمن محمد.(7/443)
وخص- سبحانه- النخيل بوصفه بصنوان، لأن العبرة به أقوى، إذ المشاهدة له أكثر من غيره.
ووجه زيادة غَيْرُ صِنْوانٍ تجديد العبرة باختلاف الأحوال، واقتصر- سبحانه- في التفاضل على الأكل، لأنه أعظم المنافع.
وقوله- سبحانه- إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تذييل قصد به الحض على التعقل والتدبر.
أى: إن في ذلك الذي فصل الله- تعالى- أحواله من اختلاف أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وأوراقها ... مع أنها تسقى بماء واحد. وتنبت في أرض متجاورة، إن في ذلك كله لدلائل باهرة، على قدرة الله- تعالى- واختصاصه بالعبادة، لقوم يستعملون عقولهم في التفكير السليم، والتأمل النافع.
أما الذين يستعملون عقولهم فيما لا ينفع، فإنهم يمرون بالعبر والعظات وهم عنها معرضون.
وبذلك نرى أن الله- تعالى- قد ساق في هذه الآيات أدلة متعددة ومتنوعة من العالم العلوي والسفلى، وكلها تدل على عظيم قدرته، وجليل حكمته.
وهذه الأدلة منها:
1- خلقه السموات مرتفعة بغير عمد.
2- تسخيره الشمس والقمر لمنافع الناس.
3- خلقه الأرض بتلك الصورة الصالحة للاستقرار عليها.
4- خلقه الجبال فيها لتثبيتها.
5- خلقه الأنهار فيها لمنفعة الإنسان والحيوان والنبات.
6- خلقه زوجين اثنين من كل نوع من أنواع الثمار.
7- معاقبته بين الليل والنهار.
8- خلقه بقاعا في الأرض متجاورة مع اختلافها في الطبيعة والخواص.
9- خلقه أنواعا من الزروع المختلفة في ثمارها وأشكالها.
10- خلقه النخيل صنوانا وغير صنوان، وجميعها تسقى بماء واحد.
ومع كل ذلك فضل- سبحانه- بعضها على بعض في الأكل.(7/444)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
وهذه الأدلة يشاهدها الناس بأبصارهم، ويحسونها بحواسهم، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله في خلقه، ساق- سبحانه- بعض أقوال المشركين الفاسدة، ورد عليها بما يدحضها فقال- تعالى-:
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أى: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم الصادق الأمين. فأعجب منه تكذيبهم بالبعث- لأن من شاهد ما عدد- سبحانه- من الآيات الدالة على قدرته. أيقن بأن من قدر على إنشائها، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، والله- تعالى- لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب، لأنه- أى التعجب- تغير النفس بما تخفى أسبابه، وذلك في حقه- تعالى- محال، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون» «1» .
وجوز بعضهم أن يكون الخطاب لكل من يصلح له، أى: وإن تعجب أيها العاقل لشيء بعد أن شاهدت من مظاهر قدرة الله في هذا الكون ما شاهدت فازدد تعجبا ممن ينكر بعد كل هذا قدرته- سبحانه- على إحياء الموتى.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 9 ص 284 طبعة دار الكتب.(7/445)
قال الجمل: وقوله فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ فيه وجهان: أحدهما أنه خبر مقدم وقولهم مبتدأ مؤخر، ولا بد من حذف صفة لتتم الفائدة، أى: فعجب أى عجب قولهم. أو فعجب غريب قولهم. والثاني أنه مبتدأ، وسوغ الابتداء ما ذكرته من الوصف المقدر، ولا يضر حينئذ كون خبره معرفة «1» .
والتنكير في قوله فَعَجَبٌ للتهويل والتعظيم.
وجملة أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ في محل نصب مقول القول.
أى: وإن تعجب من شيء- أيها الرسول الكريم- فاعجب من قول أولئك المشركين:
أإذا صرنا ترابا وعظاما نخرة بعد موتنا أإنا بعد ذلك لنعاد إلى الحياة مرة أخرى من جديد.
والاستفهام للإنكار، لاستبعادهم الشديد إعادتهم إلى الحياة مرة أخرى لمحاسبتهم على أعمالهم، كما حكى القرآن عنهم قولهم في آية أخرى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ «2» .
وكرر همزة الاستفهام في أَإِذا، وأَ إِنَّا.. لتأكيد هذا الإنكار.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جزاءهم على هذا القول الباطل فقال- تعالى- أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ....
أى: أولئك المنكرون لقدرة الله- تعالى- على البعث، هم الذين كفروا بربهم وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ والأغلال: جمع غل. وهو قيد من حديد تشد به اليد إلى العنق، وهو أشد أنواع القيود.
أى: وأولئك هم الذين توضع الأغلال والقيود في أيديهم وأعناقهم يوم القيامة، عند ما يساقون إلى النار بذلة وقهر، بسبب إنكارهم لقدرة الله على إعادتهم إلى الحياة، وبسبب جحودهم لنعم خالقهم ورازقهم.
قال- تعالى-: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ «3» .
وقيل إن الجملة الكريمة تمثيل لحالهم في الدنيا، حيث شبه- سبحانه- امتناعهم عن
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 491 طبعة عيسى الحلبي. [.....]
(2) سورة ق الآية 3.
(3) سورة غافر الآيتان 71، 72.(7/446)
الإيمان، وعدم التفاتهم إلى الحق، بحال قوم في أعناقهم قيود لا يستطيعون معها التفاتا أو تحركا.
والأول أولى لأن حمل الكلام على الحقيقة واجب، ما دام لا يوجد مانع يمنع منه، وهنا لا مانع، بل صريح القرآن يشهد له.
وقوله: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أى: وأولئك الموصوفون بما ذكر، هم أصحاب النار التي لا ينفكون عنها. ولا يخرجون منها.
وكرر- سبحانه- اسم الإشارة، للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعده من عقوبات.
وجاء به للبعيد، للإشارة إلى بعد منزلتهم في الجحود والضلال.
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من طغيانهم واستهزائهم برسولهم صلى الله عليه وسلم فقال:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ....
والمراد بالسيئة: الحالة السيئة كالعقوبات والمصائب التي تسوء من تنزل به.
والمراد بالحسنة: الحالة الحسنة كالعافية والسلامة.
والمثلات: جمع مثلة- بفتح الميم وضم الثاء كسمرة، وهي العقوبة الشديدة الفاضحة التي تنزل بالإنسان فتجعله مثالا لغيره في الزجر والردع.
والاستعجال: طلب حصول الشيء قبل حلول وقته.
أى أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الحال في الطغيان، أنهم كانوا إذا هددهم الرسول.
صلى الله عليه وسلم بعقاب الله إذا ما استمروا في كفرهم، سخروا منه، وتهكموا به وقالوا له على سبيل الاستهزاء: ائتنا بما تعدنا به من عذاب إن كنت من الصادقين.
وشبيه بهذا قوله- تعالى-: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «1» .
وقوله- تعالى- وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» .
والجملة الكريمة تحكى لونا عجيبا من ألوان توغلهم في الجحود والضلال، حيث طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم تعجيل العقوبة التي توعدهم بها، بدل أن يطلبوا منه الدعاء لهم بالسلامة والأمان والخير والعافية.
__________
(1) سورة العنكبوت الآيتان 53، 54.
(2) سورة الأنفال الآية 32.(7/447)
وجملة وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ في موضع الحال، لزيادة التعجب من جهلهم وطغيانهم، لأن آثار الأقوام المهلكين بسبب كفرهم ما زالت ماثلة أمام أبصارهم، وهم يمرون عليها في أسفارهم، فكان من الواجب عليهم- لو كانوا يعقلون- أن يعتبروا بها.
وقوله- سبحانه- وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ بيان لرحمة الله- تعالى- بعباده، ولشدة عقابه للمصرين على الكفر منهم أى:
وإن ربك- أيها الرسول الكريم- لذو مغفرة عظيمة للناس مع ظلمهم لأنفسهم، حيث أطاعوها في ارتكاب الذنوب والمعاصي.
ومن مظاهر هذه المغفرة أنه- سبحانه- لم يعاجلهم بالعقوبة. بل صبر عليهم، وأمهلهم، لعلهم يتوبون إليه ويستغفرونه، ويقلعون عن ذنوبهم.
قال- تعالى-: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ... «1» .
وإن ربك- أيها الرسول الكريم- لشديد العقاب للمصرين على كفرهم وضلالهم ومعاصيهم.
وقدم- سبحانه- مغفرته على عقوبته، في مقابل تعجل هؤلاء الكافرين للعذاب، ليظهر الفارق الضخم بين الخير الذي يريده- سبحانه- لهم، وبين الشر الذي يريدونه لأنفسهم بسبب انطماس بصائرهم ...
قال ابن كثير ما ملخصه: قوله- سبحانه- وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ.
أى: إنه ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار.
ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب، ليعتدل الرجاء والخوف. كما قال- تعالى- فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
وقال- تعالى- نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.
وعن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش. ولولا
__________
(1) سورة فاطر الآية 45.(7/448)
وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» «1» .
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من رذائلهم، وهو عدم اعتدادهم بالقرآن الكريم، الذي هو أعظم الآيات والمعجزات فقال- تعالى-: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ....
ولَوْلا هنا حرف تحضيض بمعنى هلا.
ومرادهم بالآية: معجزة كونية كالتي جاء بها موسى من إلقائه العصى فإذا هي حية تسعى، أو كالتي جاء بها عيسى من إبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى بإذن الله، أو كما يقترحون هم من جعل جبل الصفا ذهبا ...
لأن القرآن- في زعمهم- ليس كافيا لكونه معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم.
أى: ويقول هؤلاء الكافرون الذين عموا وصموا عن الحق واستعجلوا العذاب. هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية أخرى غير القرآن الكريم تدل على صدقه.
ولقد حكى القرآن مطالبهم المتعنتة في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ... «2» .
وقد رد الله- تعالى- عليهم ببيان وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم فقال إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ....
أى: أن وظيفتك- أيها الرسول الكريم- هي إنذار هؤلاء الجاحدين بسوء المصير، إذا ما لجوا في طغيانهم، وأصروا على كفرهم وعنادهم وليس من وظيفتك الإتيان بالخوارق التي طلبوها منك.
وإنما قصر- سبحانه- هنا وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم على الإنذار، لأنه هو المناسب لأحوال المشركين الذين أنكروا كون القرآن معجزة.
وقوله وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أى: ولكل قوم نبي يهديهم إلى الحق والرشاد بالوسيلة التي يراها مناسبة لأحوالهم، وأنا- أيها الرسول الكريم- قد جئتهم بهذا القرآن الهادي للتي هي أقوم. والذي هو خير وسيلة لإرشاد الناس إلى ما يسعدهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.
قال الشيخ القاسمى: «أو المعنى: ولكل قوم هاد عظيم الشأن، قادر على هدايتهم. هو
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 255.
(2) سورة الإسراء الآيات 90 وما بعدها.(7/449)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
الله- تعالى- فما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم كما قال- تعالى-: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ....
أو المعنى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أى: قائد يهديهم إلى الرشد، وهو الكتاب المنزل عليهم، الداعي بعنوان الهداية إلى ما فيه صلاحهم.
يعنى: أن سر الإرسال وآيته الفريدة إنما هو الدعاء إلى الهدى، وتبصير سبله، والإنذار من الاسترسال في مساقط الردى. وقد أنزل عليك من الهدى أحسنه. فكفى بهدايته آية كبرى وخارقة عظمى. وأما الآيات المقترحة فأمرها إلى الله وحده ... » «1» .
ثم صور- سبحانه- سعة علمه تصويرا عميقا، تقشعر منه الجلود، وترتجف له المشاعر، وساق سنة من سننه التي لا تتغير ولا تتبدل، فقال- تعالى-:
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
فقوله- سبحانه- اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ كلام مستأنف مسوق لبيان كمال علمه وقدرته- سبحانه-.
__________
(1) تفسير القاسمى ج 9 ص 3648.(7/450)
وتَغِيضُ من الغيض بمعنى النقص. يقال: غاض الماء إذا نقص.
وما موصولة والعائد محذوف. أى: الله وحده هو الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها من علقة أو مضغة ومن ذكر أو أنثى ... وهو وحده- سبحانه- الذي يعلم ما يكون في داخل الأرحام من نقص في الخلقة أو زيادة فيها، ومن نقص في مدة الحمل أو زيادة فيها، ومن نقص في العدد أو زيادة فيه ...
قال ابن كثير: «قوله: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر. حدثنا معن، حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتى المطر إلا الله، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» .
وقال العوفى عن ابن عباس وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يعنى السقط وَما تَزْدادُ.
يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص. فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله- تعالى- وكل ذلك بعلمه- سبحانه- «1» .
وقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أى: وكل شيء عنده- سبحانه- بقدر وحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كما قال- تعالى- إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «2» . وكما قال- تعالى- وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «3» . فهو- سبحانه- يعلم كمية كل شيء وكيفيته وزمانه ومكانه وسائر أحواله.
وقوله عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ تأكيد لعموم علمه- سبحانه- ودقته.
والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو: ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل.
والشهادة: مصدر شهد يشهد، وهي هنا بمعنى الأشياء المشهودة.
والمتعال: المستعلى على كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله- سبحانه-.
أى: أنه- سبحانه- هو وحده الذي يعلم أحوال الأشياء الغائبة عن الحواس كما يعلم
__________
(1) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص 357 طبعة دار الشعب.
(2) سورة القمر الآية 49.
(3) سورة الحجر الآية 21.(7/451)
أحوال المشاهدة منها، وهو العظيم الشأن، المستعلى على كل شيء.
وقوله- سبحانه- سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ تأكيد آخر لشمول- علمه- سبحانه- لأحوال عباده.
وسواء: اسم مصدر بمعنى الاستواء، والمراد به هنا اسم الفاعل. أى: مستو.
قال الجمل: «وفيه وجهان: أحدهما أنه خبر مقدم، ومن أسر ومن جهر هو المبتدأ، وإنما لم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر، وهو هنا بمعنى مستو.
والثاني أنه مبتدأ، وجاز الابتداء به لوصفه بقوله مِنْكُمْ «1» .
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أى: ظاهر بالنهار. يقال: سرب في الأرض يسرب سربا وسروبا.
أى: ذهب في سربه- بسكون الراء وكسر السين وفتحها- أى طريقه.
والمعنى: أنه- تعالى- مستو في علمه من أسر منكم القول، ومن جهر به بأن أعلنه لغيره.
ومستو في علمه- أيضا- من هو مستتر في الظلمة الكائنة في الليل، ومن هو ذاهب في سربه وطريقه بالنهار بحيث يبصره غيره.
وذكر- سبحانه- الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء، وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهورا.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر رعايته لعباده فقال- تعالى- لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ....
والضمير في لَهُ يعود إلى مِنْ في قوله مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ باعتبار تأويله بالمذكور.
و «معقبات» صفة لموصوف محذوف أى: ملائكة معقبات.
قال الشوكانى: «والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه.
وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتى بعضهم بعقب بعض، وإنما قال «معقبات» مع كون الملائكة ذكورا لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة، ثم جمع معقبة على معقبات.
قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء قال الله- تعالى- وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ «2» .
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 494.
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 69.(7/452)
يقال: عقب الفرس في عدوه، أى: جرى بعد جريه. وعقبه تعقيبا. أى: جاء عقبه.
و «من» في قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بمعنى باء السببية.
والمعنى: لكل واحد من هؤلاء المذكورين ممن يسرون القول أو يجهرون به، ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار ويحيطون به من جميع جوانبه لحفظه ورعايته، ولكتابة أقواله وأعماله، وهذا التعقيب والحفظ، إنما هو بسبب أمر الله- تعالى- لهم بذلك.
قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم- سبحانه- وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟. فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون» .
وفي الحديث الآخر: «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم» . أى: فاستحيوا منهم وأكرموهم بالتستر وغيره.
وقال عكرمة عن ابن عباس «يحفظونه من أمر الله، قال ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه» «1» .
ثم ساق- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ.
أى: إن الله- تعالى- قد اقتضت سنته، أنه- سبحانه- لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وخير بضده، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة إلى معصية ومن جميل إلى قبيح، ومن صلاح إلى فساد.
وإذا أراد- سبحانه- بقوم سوءا من عذاب أو هلاك أو ما يشبههما بسبب إيثارهم الغي على الرشد، فلا راد لقضائه، ولا دافع لعذابه.
وما لهم من دونه- سبحانه- من وال أى من ناصر ينصرهم منه- سبحانه- ويرفع عنهم عقابه، ويلي أمورهم ويلتجئون إليه عند الشدائد.
فالجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر عدل الله في شئون عباده، وتحذير شديد لهم من الإصرار على الشرك والمعاصي وجحود النعمة، فإنه- سبحانه- لا يعصم الناس من عذابه عاصم. ولا يدفعه دافع.
قال الإمام ابن كثير: «قال ابن أبى حاتم: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بنى إسرائيل أن
__________
(1) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص 359. [.....](7/453)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
قل لقومك إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول الله لهم مما يحبون إلى ما يكرهون.
ثم قال: إن مصداق ذلك في كتاب الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.
وعن عمير بن عبد الملك قال: خطبنا على بن أبى طالب على منبر الكوفة فقال: كنت إذا سكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأنى، وإذا سألته عن الخبر أنبأنى، وإنه حدثني عن ربه- عز وجل- قال: «قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي» «1» .
ثم لفت- سبحانه- أنظار عباده إلى أنواع متعددة من الظواهر الكونية الدالة على قدرته ووحدانيته، وبين أن هذه الظواهر قد تكون نعما، وقد تكون نقما، وأنها وغيرها تسبح بحمد الله، وتخضع لسلطانه فقال- تعالى-:
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 15]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
__________
(1) تفسير ابن كثير المجلد 4 ص 362 طبعة دار الشعب.(7/454)
والبرق: ما يراه الرائي من نور لا مع يظهر من خلال السحاب، وخوفا وطمعا: حالان من الكاف في يريكم، أو هما في محل المفعول لأجله.
والمعنى: هو الله- تعالى- وحده الذي يريكم بقدرته البرق، فيترتب على ذلك أن بعضكم يخاف ما ينجم عنه من صواعق. أو سيل مدمر، وبعضكم يطمع في الخير من ورائه، فقد يعقبه المطر النافع، والغيث المدرار.
فمن مظاهر حكمة الله- تعالى- في خلقه، أنه جعل البرق علامة إنذار وتبشير معا، لأنه بالإنذار والتبشير تعود النفوس إلى الحق، وتفيء إلى الرشد.
وجملة «وينشئ السحاب الثقال» بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته- سبحانه- وإنشاء السحاب: تكوينه من العدم.
والسحاب: الغيم المنسحب في الهواء، وهو اسم جنس واحده سحابة، فلذلك وصف بالجمع وهو «الثقال» جمع ثقيلة.
أى: وهو- سبحانه- الذي ينشئ السحاب المثقل بالماء، فيرسله من مكان إلى مكان على حسب حكمته ومشيئته.
قال- تعالى- وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ. حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «1» .
وقوله- سبحانه- وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته.
والرعد: اسم للصوت الهائل الذي يسمع إثر تفجير شحنة كهربية في طبقات الجو.
وعطف- سبحانه- الرعد على البرق والسحاب، لأنه مقارن لهما في كثير من الأحوال.
والتسبيح: مشتق من السبح وهو المرور السريع في الماء أو في الهواء وسمى الذاكر لله- تعالى- مسبحا، لأنه مسرع في تنزيهه سبحانه عن كل نقص.
وتسبيح الرعد- وهو هذا الصوت الهائل- بحمد الله، يجب أن نؤمن به، ونفوض كيفيته إلى الله- تعالى- لأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو- سبحانه- وقد بين لنا- سبحانه- في كتابه أن كل شيء يسبح بحمده فقال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ
__________
(1) سورة الأعراف الآية 57.(7/455)
وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «1» .
وقد فصل القول في معنى هذه الجملة الكريمة الإمام الآلوسى فقال- رحمه الله- ما ملخصه:
وقوله: «ويسبح الرعد» قيل هو اسم للصوت المعلوم، والكلام على حذف مضاف أى:
ويسبح سامعو الرعد بحمده- سبحانه- رجاء للمطر.
ثم قال: والذي اختاره أكثر المحدثين كون الإسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب، فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وآخرون عن ابن عباس أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ فقال: «ملك من ملائكة الله- تعالى- موكّل بالسحاب، بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله- تعالى- قالوا. فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال صوته- قالوا:
صدقت» .
ثم قال: واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره، وقد نكر في سورة البقرة في قوله- تعالى- أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ.
وأجيب بأن له إطلاقين: ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت، والتنكير على هذا الإطلاق ... » «2» .
والذي نراه أن تسبيح الرعد بحمد الله يجب الإيمان به، سواء أكان الرعد اسما لذلك الصوت المخصوص أم اسما لملك من الملائكة، أما كيفية هذا التسبيح فمردها إلى الله.
قال الإمام الشوكانى: «ويسبح الرعد بحمده» أى يسبح الرعد نفسه بحمد الله. أى:
متلبسا بحمده، وليس هذا بمستبعد، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك.
وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك، ويكون ذكره على الإفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له. وعناية به» «3» .
وقال الإمام ابن كثير: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان ... عن سالم عن أبيه قال: كان
__________
(1) سورة الإسراء الآية 44.
(2) راجع تفسير الآلوسى ج 13 ص 106- طبعة منير الدمشقي.
(3) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 72.(7/456)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» .
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق ... عن أبى هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد قال: «سبحان من يسبح الرعد بحمده» «1» .
وقوله- سبحانه- وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ نوع رابع من الأدلة الدالة على وحدانية الله وقدرته. أى ويسبح الرعد بحمد الله، ويسبح الملائكة- أيضا- بحمد الله، خوفا منه- تعالى- وإجلالا لمقامه وذاته.
ومِنْ في قوله- تعالى- مِنْ خِيفَتِهِ للتعليل، أى: يسبحون لأجل الخوف منه. وقوله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ نوع خامس من الظواهر الكونية الدالة على كمال قدرته- سبحانه-.
والصواعق جمع صاعقة، وهي- كما يقول ابن جرير- كل أمر هائل رآه الرائي أو أصابه، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل ... » «2» .
والمراد بها هنا: النار النازلة من السماء.
أى ويرسل- سبحانه- الصواعق المهلكة فيصيب بها من يشاء إصابته من خلقه.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنها نزلت في رجل من طواغيت العرب، بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الإسلام، فقال لهم: أخبرونى عن رب محمد ما هو، أمن فضة أم من حديد؟.
فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة فأهلكت الكافر وهم جلوس.
فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم بعض الصحابة فقالوا لهم: احترق صاحبكم؟
فقالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ «3» .
وضمير الجماعة في قوله وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ يعود إلى أولئك
__________
(1) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص 363.
(2) تفسير ابن جرير ج 1 ص 290.
(3) تفسير القرطبي ج 9 ص 926.(7/457)
الكافرين الذين سبق أن ساق القرآن بعض أقوالهم الباطلة، والتي منها قولهم: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.
والمجادلة: المخاصمة والمراجعة بالقول.
والمراد بمجادلتهم في الله: تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به من وجوب إخلاص عبادتهم لله- تعالى- وإيمانهم بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب.
والمحال: الكيد والمكر، والتدبير والقوة، والعقاب ... يقال: محل فلان بفلان- بتثليث الحاء- محلا ومحالا، إذا كاده وعرضه للهلاك.
قال القرطبي: قال ابن الأعرابى: المحال المكر وهو من الله- تعالى- التدبير بالحق أو إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر.
وقال الأزهرى: المحال: أى القوة والشدة.
وقال أبو عبيد: المحال: العقوبة والمكروه» «1» .
أى: أن هؤلاء الكافرين يجادلونك- أيها الرسول في ذات الله وفي صفاته، وفي وحدانيته، وفي شأن البعث، وينكرون ما جئتهم به من بينات والحال أن الله- تعالى- شديد المماحلة والمكايدة والمعاقبة لأعدائه.
قال- تعالى-: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ «2» .
ثم بين- سبحانه- أن دعوته هي الدعوة الحق، وما عداها فهو باطل ضائع فقال:
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أى: له وحده- سبحانه- الدعوة الحق المطابقة للواقع، لأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو الحقيق بالعبادة والالتجاء.
فإضافة الدعوة إلى الحق من إضافة الموصوف إلى صفته، وفي هذه الإضافة إيذان بملابستها للحق، واختصاصها به، وأنها بمعزل عن الباطل.
ومعنى كونها له: أنه- سبحانه- شرعها وأمر بها.
قال الشوكانى: قوله: «له دعوة الحق» إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة. أى:
الدعوة الملابسة للحق، المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 9 ص 299.
(2) سورة النمل الآيتان 50، 51.(7/458)
وقيل: الحق هو الله- تعالى- والمعنى: أنه لله- تعالى- دعوة المدعو الحق وهو الذي يسمع فيجيب.
وقيل: المراد بدعوة الحق هاهنا كلمة التوحيد والإخلاص والمعنى: لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له العبادة.
وقيل: دعوة الحق، دعاؤه- سبحانه- عند الخوف، فإنه لا يدعى فيه سواه، كما قال- تعالى- وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ.
وقيل: الدعوة الحق، أى العبادة الحق فإن عبادة الله هي الحق والصدق» «1» .
ثم بين- سبحانه- حال- من يعبد غيره فقال: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ.
والمراد بالموصول «والذين» الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله.
والضمير في يدعون، للمشركين، ورابط الصلة ضمير نصب محذوف أى: يدعونهم.
والمعنى: لله- تعالى- العبادة الحق، والتضرع الحق النافع، أما الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون من غير الله. فإنها لا تجيبهم إلى شيء يطلبونه منها، إلا كإجابة الماء لشخص بسط كفيه إليه من بعيد، طالبا منه أن يبلغ فمه وما الماء ببالغ فم هذا الشخص الأحمق، لأن الماء لا يحس ولا يسمع نداء من يناديه.
والمقصود من الجملة الكريمة نفى استجابة الأصنام لما يطلبه المشركون منها نفيا قاطعا، حيث شبه- سبحانه- حال هذه الآلهة الباطلة عند ما يطلب المشركون منها ما هم في حاجة إليه، بحال إنسان عطشان ولكنه غبى أحمق لأنه يمد يده إلى الماء طالبا منه أن يصل إلى فمه دون أن يتحرك هو إليه. فلا يصل إليه شيء من الماء لأن الماء لا يسمع نداء من يناديه.
ففي هذه الجملة الكريمة تصوير بليغ لخيبة وجهالة من يتوجه بالعبادة والدعاء لغير الله- تعالى-.
وأجرى- سبحانه- على الأصنام ضمير العقلاء في قوله لا يَسْتَجِيبُونَ مجاراة للاستعمال الشائع عند المشركين، لأنهم يعاملون الأصنام معاملة العقلاء.
ونكر شيئا في قوله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ للتحقير. والمراد أنهم لا يستجيبون لهم أية استجابة حتى ولو كانت شيئا تافها.
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 73.(7/459)
والاستثناء في قوله إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ ... من أعم الأحوال.
أى: لا تستجيب الأصنام لمن طلب منها شيئا، إلا استجابة كاستجابة الماء لملهوف بسط كفيه إليه يطلب منه أن يدخل فمه، والماء لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه ولا يقدر أن يجيب طلبه ولو مكث على ذلك طوال حياته.
والضمير «هو» في قوله «وما هو ببالغه» للماء، والهاء في «ببالغه» للفم: أى: وما الماء ببالغ فم هذا الباسط لكفيه.
وقيل الضمير «هو» للباسط، والهاء للماء، أى: وما الباسط لكفيه ببالغ الماء فمه.
قال القرطبي: «وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه، قاله مجاهد.
الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه وفساد توهمه. قاله ابن عباس.
الثالث: انه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه، فلا يجد في كفه شيئا منه «1» .
وقد ضربت العرب مثلا لمن سعى فيما لا يدركه، بالقبض على الماء كما قال الشاعر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء، خانته فروج الأصابع «2»
وقوله- سبحانه- وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أى: وما عبادة الكافرين للأصنام، والتجائوهم إليها في طلب الحاجات، إلا في ضياع وخسران لأن هذه الآلهة الباطلة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها.
ثم بين- سبحانه- أن هذا الكون كله خاضع له- عز وجل- فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.
والمراد بالسجود له- سبحانه-: الانقياد والخضوع لعظمته.
وظلالهم: جمع ظل وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور.
والغدو: جمع غدوة وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 9 ص 301.
(2) تفسير الشوكانى ج 3 ص 73.(7/460)
والآصال: جمع أصيل وهو ما بين العصر وغروب الشمس.
والمعنى: ولله- تعالى- وحده يخضع وينقاد جميع من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن وغيرهم.
وقوله «طوعا وكرها» منصوبان على الحال من «من» ، أى: أن جميعهم يسجدون لله، وينقادون لعظمته، حال كونهم طائعين وراضين بهذا السجود والانقياد، وحال كونهم كارهين وغير راضين به، لأنهم لا يستطيعون الخروج على حكمه لا في الإيجاد ولا في الإعدام ولا في الصحة ولا في المرض، ولا في الغنى ولا في الفقر ... فهم خاضعون لأمره شاءوا أم أبوا.
ويستوي في هذا الخضوع المؤمن والكافر، إلا أن المؤمن خاضع عن طواعية بذاته وبظاهره وبباطنه لله- تعالى-.
أما الكافر فهو خاضع لله- تعالى- بذاته، ومتمرد وجاحد وفاسق عن أمر ربه بظاهره، والضمير في قوله- سبحانه- وَظِلالُهُمْ يعود على مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
أى: لله- تعالى- يخضع من في السموات والأرض طوعا وكرها ويخضع له- أيضا- بالغدو والآصال ظلال من له ظل منهم، لأن هذه الظلال لازمة لأصحابها والكل تحت قهره ومشيئته في الامتداد والتقلص والحركة والسكون.
قال- تعالى- أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ «1» .
وقال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «2» .
ثم وجه- سبحانه- عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم أسئلة تهكمية إلى هؤلاء المشركين المجادلين في ذات الله- تعالى- وفي صفاته، وساق لهم أمثلة للحق وللباطل، وبين لهم حسن عاقبة المستجيبين لدعوة الحق، وسوء عاقبة المعرضين عنها فقال- تعالى-:
__________
(1) سورة النحل الآية 48. [.....]
(2) سورة آل عمران الآية 83.(7/461)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
[سورة الرعد (13) : الآيات 16 الى 18]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)
قال الفخر الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ.
ولما كان هذا الجواب جوابا يقر به المسئول ويعترف به ولا ينكره، أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيها على أنهم لا ينكرونه ألبتة ... » «1» .
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين، من رب هذه الأجرام العظيمة العلوية والسفلية؟
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 31 طبعة عبد الرحمن محمد.(7/462)
فإذا ما أبوا الرد عليك عنادا وصلفا، فجابههم بالحقيقة التي لا يستطيعون إنكارها، وهي أن الله وحده هو رب هذه الأجرام، لأنه هو خالقها وموجدها على غير مثال سابق.
وقوله- سبحانه- قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أمر ثالث منه- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم لإفحامهم وتبكيتهم.
فالهمزة للاستفهام التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزة.
والمعنى: أعلمتم حق العلم أن الله- تعالى- هو الخالق للسموات والأرض، فتركتم عبادته- سبحانه- واتخذتم من دونه «أولياء» أى نصراء عاجزين، لا يملكون لأنفسهم- فضلا عن أن يملكوا لغيرهم- نفعا يجلبونه لها، ولا ضرا يدفعونه عنها.
وجملة «لا يملكون» صفة لأولياء، والمقصود بها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة، فإنهم إن أحسنوا التفكير في هؤلاء الأولياء، أيقنوا أنهم أحقر من أن يلتفت إليهم، فضلا عن أن يطلبوا منهم شيئا.
ثم أمره- سبحانه- للمرة الرابعة أن يبرهن لهم على بطلان معتقداتهم عن طريق ما هو مشاهد بالحواس فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ.
أى: قل لهم- أيضا- أيها الرسول الكريم: كما أنه لا يستوي في عرف كل عاقل الأعمى والبصير، والظلمات والنور، فكذلك لا يستوي الكفر والإيمان، فإن الكفر انطماس في البصيرة، وظلمات في القلب، أما الإيمان فهو نور في القلب وإشراق في النفس.
فالمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن، كما أن المراد بالظلمات الكفر وبالنور الإيمان.
وعبر القرآن الكريم في جانب الظلمات بصيغة الجمع، وفي جانب النور بصيغة الإفراد، لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور. وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته.
أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها، فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة السجون، وهناك ظلمة القبور، وهناك ظلمة العقول التي كان من نتائجها تعدد أنواع الكفر والضلال، كما هو الحال في شأن اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الذين انحرفوا عن طريق الحق.
ثم انتقل- سبحانه- إلى التهكم بهم عن طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم، وإهمالا لشأنهم فقال- تعالى-: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ....(7/463)
وأم هنا بمعنى بل، والاستفهام للإنكار.
أى: إنهم ما اتخذوا لله- تعالى- شركاء يخلقون مثل خلق الله- تعالى- حتى نقول إن ما خلقوه تشابه مع خلقه- تعالى- فنلتمس لهم شيئا من العذر، ولكنهم اتخذوا معه- سبحانه آلهة أخرى «لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ... » .
فالجملة الكريمة تنعى عليهم جهلهم. حيث عبدوا من دون الله مخلوقا مثلهم، وتنفى أى عذر يعتذرون به يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وقوله: «كخلقه» في معنى المفعول المطلق. أى: خلقوا خلقا شبيها بما خلقه الله- تعالى-. وجملة «فتشابه» معطوفة على جملة «خلقوا» .
ثم أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم للمرة الخامسة بأن يقذفهم بالحق الذي يدفع باطلهم فقال- تعالى- قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم-: الله- تعالى- هو الخالق لكل شيء في هذا الكون، وهو- سبحانه- الواحد الأحد الفرد الصمد، القهار لكل ما سواه، والغالب لكل من غالبه.
ثم ضرب- سبحانه- مثلين للحق هما الماء الصافي والجوهر النقي اللذان ينتفع بهما، ومثلين للباطل هما زبد الماء وزبد الجوهر اللذان لا نفع فيهما فقال- تعالى- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً.
والأودية: جمع واد وهو الموضع المتسع الممتد من الأرض الذي يسيل فيه الماء بكثرة.
والسيل: الماء الجاري في تلك الأودية.
والزبد: هو الغثاء الذي يعلو على وجه الماء عند اشتداد حركته واضطرابه أو ما يعلو القدر عند الغليان ويسمى بالرغوة والوضر والخبث لعدم فائدته، ورابيا: من الربو بمعنى العلو والارتفاع.
والمعنى: أنزل الله- تعالى- من السماء ماء كثيرا، ومطرا مدرارا، فسالت أودية بقدرها، أى: فسالت المياه في الأودية بسبب هذا الإنزال، بمقدارها الذي حدده الله- تعالى- واقتضته حكمته في نفع الناس.
أو بمقدارها قلة وكثرة، بحسب صغر الأودية وكبرها، واتساعها وضيقها «فاحتمل السيل زبدا رابيا» أى فحمل الماء السائل في الأودية بكثرة وقوة، غثاء عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا(7/464)
عليه، لا نفع فيه ولا فائدة منه.
وإلى هنا يكون قد انتهى المثل الأول، حيث شبه- سبحانه- الحق وأهله في الثبات والنفع بالماء الصافي الذي ينزل من السماء فتمتلئ به الأودية ويبقى محل انتفاع الناس به إلى الوقت المحدد في علم الله- تعالى-.
وشبه الباطل وشيعته في الاضمحلال وعدم النفع، بزبد السيل المنتفخ المرتفع فوق سطح الماء، فإنه مهما علا وارتفع فإنه سرعان ما يضمحل ويفنى وينسلخ عن المنفعة والفائدة.
ثم ابتدأ- سبحانه- في ضرب المثل الثاني فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ.
و «من» في قوله «ومما يوقدون» لابتداء الغاية، وما موصولة، ويوقدون من الإيقاد وهو جعل الحطب وما يشبهه في النار ليزيد اشتعالها.
والجملة في محل رفع خبر مقدم، وقوله «زبد» مبتدأ مؤخر.
والحلية: ما يتحلى به الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما.
والمتاع: ما يتمتع به في حياته من الأوانى والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وأشباههما.
والضمير في قوله «مثله» يعود إلى الزبد في قوله- تعالى- زَبَداً رابِياً.
وقد قرأ حمزة والكسائي وحفص «يوقدون» وقرأ الباقون توقدون بالتاء.
والضمير للناس، وأضمر مع عدم سبق ذكره لظهوره.
والمعنى: وشبيه بالمثل السابق في خروج الزبد والخبث وطرحه بعيدا عن الأشياء النافعة، ما توقدون عليه النار من المعادن والجواهر، لكي تستخرجوا منها ما ينفعكم من الحلي والأمتعة المتنوعة، فإنكم في مثل هذه الحالة، تبقون على النقي النافع منها، وتطرحون الزبد والخبث الذي يلفظه الكير، والذي هو مثل زبد السيل في عدم النفع.
فقد شبه- سبحانه- في هذا المثل الثاني الحق وأهله في البقاء والنفع بالمعادن النافعة الباقية، وشبه الباطل وحزبه في الفناء وعدم النفع بخبث الحديد الذي يطرحه كير الحداد، ويهمله الناس.
ثم بين- سبحانه- المقصود من ضرب هذه الأمثال فقال: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ.
أى: مثل ذلك البيان البديع، يضرب الله الأمثلة للحق وللباطل إذا اجتمعا بأن يبين بأنه(7/465)
لا ثبات للباطل- مهما علا وانتفخ- مع وجود الحق، كما أنه لا ثبات للزبد مع الماء الصافي، ولا مع المعادن النقية.
والكلام على حذف مضاف والتقدير: يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل.
وسر الحذف: الإنباء عن كمال التماثل بين الممثل والممثل به، حتى لكأن المثل المضروب هو عين الحق وعين الباطل.
ثم شرع- سبحانه- في تقسيم المثل فقال: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
أى: فأما الزبد الذي لفظه السيل والحديد فيذهب «جفاء» مرميا به، مطروحا بعيدا، لأنه لا نفع فيه.
يقال: جفأ الماء بالزبد، إذا قذفه ورمى به، وجفأت الريح الغيم، إذا مزقته وفرقته، والجفاء بمعنى الغثاء.
وأما ما ينفع الناس من الماء الصافي، والمعدن النقي الخالي من الخبث «فيمكث في الأرض» أى فيبقى فيها لينتفع الناس به.
وبدأ- سبحانه- بالزبد في البيان فقال فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ مع أنه متأخر في الكلام السابق لأن الزبد هو الظاهر المنظور أولا لأعين الناس، أما الجوهر فهو مستتر خلفه لأنه هو الباقي النافع.
أو لأنه جرت العادة في التقسيم أن يبدأ بالمتأخر كما في قوله- تعالى- يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «1» .
وقوله كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ تفخيم لشأن هذا التمثيل الذي اشتملت عليه الآية الكريمة.
أى: مثل ذلك البيان البديع الذي اشتملت عليه الآية الكريمة يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون، فيحملهم هذا التفكير على الإيمان الحق، وحسن التمييز بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، والحق والباطل.
قال الإمام الشوكانى: «هذان مثلان ضربهما الله- تعالى- في هذه الآية للحق وللباطل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 106.(7/466)
يقول: إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله- تعالى- سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله.
كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء، وكخبث هذه الأجسام، فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل الباطل.
وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعى فيمكث في الأرض، وكذلك الصافي من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه، وهو مثل الحق.
وقال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعا بها.
ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به» «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك عاقبة أهل الحق، وعاقبة أهل الباطل فقال- تعالى-:
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ....
أى: للمؤمنين الصادقين، الذين أطاعوا ربهم في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه، المثوبة الحسنى، وهي الجنة.
فالحسنى يصح أن تكون صفة لموصوف محذوف، ويصح أن تكون مبتدأ مؤخرا، وخبره «للذين استجابوا لربهم» .
«والذين لم يستجيبوا له» - سبحانه- ولم ينقادوا لأمره أو نهيه وهم الكفار «لو أن لهم ما في الأرض جميعا» من أصناف الأموال، ولهم أيضا «مثله معه لافتدوا به» أى لهان عليهم- مع نفاسته وكثرته- أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب يوم القيامة.
فالضمير في قوله «ومثله معه» يعود إلى ما في الأرض جميعا من أصناف الأموال وفي ذلك ما فيه من تهويل ما يلقونه من عذاب أليم جزاء كفرهم وجحودهم.
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم فقال: «أولئك لهم سوء الحساب» أى: أولئك الذين لم يستجيبوا لربهم لهم الحساب السيئ الذي لا رحمة معه، ولا تساهل فيه.
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 85.(7/467)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
«ومأواهم جهنم» ، أى: ومرجعهم الذي يرجعون إليه جهنم. «وبئس المهاد» أى:
وبئس المستقر الذي يستقرون فيه.
والمخصوص بالذم محذوف أى: مهادهم أو جهنم.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت أوضح الأدلة وأحكمها على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وبينت حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المكذبين ...
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أنه لا يستوي الأعمى والبصير، ومدح أولى الألباب بما هم أهله من مدح، وذم أضدادهم بما يستحقون من ذم، فقال- تعالى-:
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 26]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)(7/468)
قال الإمام الرازي: «قوله- تعالى- أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ... إشارة إلى المثل المتقدم ذكره- في قوله- تعالى- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... وهو أن العالم بالشيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا أخذ يمشى من غير قائد، فربما يقع في المهالك ... أما البصير فإنه يكون آمنا من الهلاك والإهلاك» «1» .
والمراد بالأعمى هنا: الكافر الذي انطمست بصيرته، فأصبح لا يفرق بين الحق والباطل.
والاستفهام للإنكار والاستبعاد.
المعنى: أفمن يعلم ان ما أنزل إليك- أيها الرسول الكريم- من وحى هو الحق الذي يهدى للتي هي أقوم، كمن هو أعمى القلب: مطموس البصيرة؟؟
فالآية الكريمة تنفى بأبلغ أسلوب، مساواة الذين علموا الحق فاتبعوه، بمن جهلوه وأعرضوا عنه، وصموا آذانهم عن سماعه.
وقوله إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ مدح لأصحاب العقول السليمة، الذين ذكروا بالحق فتذكروه، وآمنوا به، وتعليل لإعراض الكافرين عنه، ببيان أن سبب إعراضهم، أنهم ليسوا أهلا للتذكر، لأن التذكر إنما هو من شأن أولى الألباب.
والألباب: جمع لب وهو الخالص من كل شيء.
أى: إنما يتذكر وينتفع بالتذكير، أصحاب العقول السليمة وهم المؤمنون الصادقون.
ثم مدح- سبحانه- أصحاب هذه العقول السليمة، بجملة من الخصال الكريمة فقال:
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ.
وعهد الله: فرائضه وأوامره ونواهيه. والوفاء بها: يتأتى باتباع ما أمر به- سبحانه- وباجتناب ما نهى عنه.
وينقضون: من النقض، بمعنى الفسخ والحل لما كان مركبا أو موصولا.
والميثاق: العهد الموثق باليمين، للتقوية والتأكيد.
أى: إنما يتذكر أولوا الألباب، الذين من صفاتهم أنهم يوقنون بعهد الله- تعالى-، بأن يؤدوا كل ما كلفهم بأدائه، ويجتنبوا كل ما أمرهم باجتنابه ولا ينقضون شيئا من العهود
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 39.(7/469)
والمواثيق التي التزموا بها. وصدر- سبحانه- صفات أولى الألباب، بصفة الوفاء بعهد الله، وعدم النقض للمواثيق، لأن هذه الصفة تدل على كمال الإيمان، وصدق العزيمة، وصفاء النفس.
وأضاف- سبحانه- العهد إلى ذاته، للتشريف وللتحريض على الوفاء به.
وجملة «ولا ينقضون الميثاق» تعميم بعد تخصيص، لتشمل عهودهم مع الله- تعالى- ومع غيره من عباده.
ثم بين- سبحانه- صفات أخرى لهم فقال: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
أى: أن من صفات أولى الألباب- أيضا- أنهم يصلون كل ما أمر الله- تعالى- بوصله كصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإعانة المحتاج، والإحسان إلى الجار.
وقوله «ويخشون ربهم» خشية تحملهم على امتثال أمره واجتناب نهيه.
«ويخافون سوء الحساب» أى: ويخافون أهوال يوم القيامة، وما فيه من حساب دقيق، فيحملهم ذلك على أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
قال الآلوسى ما ملخصه: «وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام، والخشية والخوف قيل: بمعنى.
وفرق الراغب بينهما فقال: الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم.
وقال بعضهم: الخشية أشد الخوف، لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية، أى:
يابسة.
ثم قال الآلوسى: والحق أن مثل هذه الفروق أغلبى لا كلى ... » «1» .
ثم أضاف- سبحانه- إلى الصفات السابقة لأولى الألباب صفات أخرى حميدة فقال:
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أى: أن من صفاتهم أنهم صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصيته، وصبروا على المصائب وآلامها، صبرا غايته رضا ربهم وخالقهم، لا رضا أحد سواه.
أى: أن صبرهم في كل مجال يحمد فيه الصبر لم يكن من أجل الرياء أو المباهاة أو المجاملة أو غير ذلك، وإنما كان صبرهم من أجل رضا الله- تعالى- وطلب ثوابه.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 129.(7/470)
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: «والذين صبروا» فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف «ابتغاء وجه ربهم» لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل. ولا لئلا يعاب بالجزع، ولئلا يشمت به الأعداء، كقوله:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتزعزع
ولا لأنه لا طائل تحت الهلع، ولا مرد فيه للفائت.
وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسنا عند الله- تعالى- وإلا لم يستحق به ثوابا وكان فعلا كلا فعل، «1» .
«وأقاموا الصلاة» أى: أدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والأذكار، بخشوع وإخلاص. «وأنفقوا» بسخاء وطيب نفس «مما رزقناهم» أى: مما أعطيناهم من عطائنا الواسع العميم. «سرا وعلانية» أى: ينفقون مما رزقناهم سرا. حيث يحسن السر، كإعطاء من لم يتعود الأخذ من غيره، وينفقون «علانية» حيث تحسن العلانية، كأن ينفقوا بسخاء في مجال التنافس في الخير، ليقتدى بهم غيرهم «ويدرءون بالحسنة السيئة» ، والدرء:
الدفع والطرد. يقال: درأه درءا، إذا دفعه.
أى: أن من صفات أولى الألباب- أيضا- أنهم يدفعون بالعمل الصالح العمل السيئ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» أو أنهم يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه، أو بالعفو عنه، متى كان هذا الإحسان أو العفو لا يؤدى إلى مفسدة.
قال صاحب الظلال ما ملخصه: «وفي الآية إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة، عند ما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها، فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع، ويحتاج الشر إلى الدفع، فلا مكان لمقابلتهما بالحسنة، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلى.
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما في دين الله فلا.
إن المستعلى الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم، والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف، واستشارة الألباب، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب» «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 357- بتصرف قليل.
(2) في ظلال القرآن ج 13 ص 2058 للأستاذ سيد قطب.(7/471)
وجملة أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ بيان الجزاء الحسن، الذي أعده الله- تعالى- لهؤلاء الأخيار.
والعقبى: مصدر كالعاقبة، وهي الشيء الذي يقع عقب شيء آخر.
والمراد بالدار: الدنيا. وعقباها الجنة. وقيل المراد بالدار: الدار الآخرة. وعقباها الجنة للطائعين، والنار للعاصين.
أى: أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة، لهم العاقبة الحسنة وهي الجنة. والجملة الكريمة خبر عن «الذين يوفون بعهد الله....» وما عطف عليها.
وقوله- سبحانه- جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ تفصيل للمنزلة العالية التي أعدها- سبحانه- لهم.
أى: أولئك الذين قدموا ما قدموا في دنياهم من العمل الصالح، لهم جنات دائمة باقية، يدخلونها هم وَمَنْ صَلَحَ أى: ومن كان صالحا لدخولها مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ.
أى من أصولهم وفروعهم وأزواجهم على سبيل التكريم والزيادة في فرحهم ومسيرتهم.
وفي قوله- سبحانه- وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ.... دليل على أن هؤلاء الأقارب لا يستحقون دخول الجنة، إلا إذا كانت أعمالهم صالحة، أما إذا كانت غير ذلك فإن قرابتهم وحدها لا تنفعهم في هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «1» .
قال الإمام ابن كثير: وقوله وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أى: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين، لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانا من الله وإحسانا، كما قال- تعالى- وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ «2» .
وقوله- سبحانه- وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ... زيادة في تكريمهم، وحكاية لما تحييهم به الملائكة.
__________
(1) سورة الشعراء آية 89.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 373، طبعة دار الشعب- القاهرة.(7/472)
أى: والملائكة يدخلون على هؤلاء الأوفياء الصابرين ... من كل باب من أبواب منازلهم في الجنة، قائلين لهم: «سلام عليكم» أى: أمان دائم عليكم بِما صَبَرْتُمْ أى: بسبب صبركم على كل ما يرضى الله- تعالى-.
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ أى: فنعم العاقبة عاقبة دنياكم، والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة المقام عليه، أى: الجنة.
وفي قوله- سبحانه- يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ إشارة إلى كثرة قدوم الملائكة عليهم، وإلى كثرة أبواب بيوتهم، تكريما وتشريفا وتأنيسا لهم.
وجملة سَلامٌ عَلَيْكُمْ مقول لقول محذوف، وهو حال من فاعل يدخلون وهم الملائكة.
وهي بشارة لهم بدوام السلامة.
وفي قوله بِما صَبَرْتُمْ إشارة إلى أن صبرهم على مشاق التكاليف، وعلى الأذى، وعلى كل ما يحمد فيه الصبر، كان على رأس الأسباب التي أوصلتهم إلى تلك المنازل العالية.
هذا ومن الأحاديث التي ذكرها الإمام ابن كثير هنا، ما رواه الإمام أحمد- بسنده- عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم: قال: أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون، الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتى هؤلاء فنسلم عليهم؟
قال: إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، وتسد بهم الثغور. وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره، فلا يستطيع لها قضاء. قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ «1» .
وبعد أن ذكر- سبحانه- صفات هؤلاء الأوفياء، وما أعد لهم من ثواب جزيل، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة الناقضين لعهودهم، القاطعين لما أمر الله بوصله. المفسدين في الأرض فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ.
ونقض العهد: إبطاله وعدم الوفاء به.
وقوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ زيادة في تشنيع النقض. أى: ينقضون عهد الله تعالى ولا يوفون به. من بعد أن أكدوا التزامهم به وقبولهم له.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 373.(7/473)
وقوله: وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أى: ويقطعون كل ما أوجب الله- تعالى- وصله، ويدخل فيه وصل الرسول صلى الله عليه وسلم بالاتباع والموالاة، ووصل المؤمنين بالمعاونة، والمحبة، ووصل أولى الأرحام بالمودة والتعاطف، فالجملة الكريمة بيان لحال هؤلاء الأشقياء بأنهم كانوا على الضد من أولئك الأوفياء الأخيار الذين كانوا يصلون ما أمر الله به أن يوصل.
وقوله: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بيان لصفة ثالثة من صفاتهم القبيحة.
أى: أنهم كانوا يفسدون في الأرض عن طريق حربهم لدعوة الحق، واعتدائهم على المؤمنين، وغير ذلك من الأمور التي كانوا يقترفونها مع أن الله- تعالى- قد حرمها ونهى عنها.
وقوله- تعالى-: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ إخبار عن العذاب الشديد الذي يلقونه في آخرتهم. أى: أولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة لَهُمُ من الله- تعالى- «اللعنة» والطرد من رحمته.
وَلَهُمْ فوق ذلك، الدار السيئة وهي جهنم التي ليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن الغنى والفقر بيده، وأن العطاء والمنع بأمره فقال- تعالى-: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ.... وبسط الرزق كناية عن سعته ووفرته وكثرته. ومعنى: «يقدر» يضيق ويقلل.
قال الإمام الشوكانى: «لما ذكر- سبحانه- عاقبة المشركين بقوله أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ كان لقائل أن يقول: قد نرى كثيرا منهم قد وفر الله له في الرزق وبسط له فيه. فأجاب- سبحانه- عن ذلك: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فقد يبسط الرزق لمن كان كافرا، ويقتره على من كن مؤمنا ابتلاء وامتحانا، ولا يدل البسط على الكرامة، ولا القبض على الإهانة ... » «1» .
أى: الله- تعالى- وحده هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من خلقه، وهو وحده- أيضا- الذي يضيقه على من يشاء منهم لحكم هو يعلمها، ولا تعلق لذلك بالكفر أو الإيمان، فقد يوسع على الكافر استدراجا له، وقد يضيق على المؤمن امتحانا له، أو زيادة في أجره.
__________
(1) تفسير (فتح القدير) للإمام الشوكانى ج 3 ص 80.(7/474)
والضمير في قوله: وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا يعود إلى مشركي مكة، وإلى كل من كان على شاكلتهم في الكفر والطغيان. والمراد بالفرح هنا: الأشر والبطر وجحود النعم.
أى: وفرح هؤلاء الكافرون بربهم، الناقضون لعهودهم، بما أوتوا من بسطة في الرزق في دنياهم، فرح بطر وأشر ونسيان للآخرة لا فرح سرور بنعم الله، وشكر له- سبحانه- عليها، وتذكر للآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ...
وقوله- سبحانه- وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ بيان لقلة نعيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة.
والمتاع: ما يتمتع به الإنسان في دنياه من مال وغيره لمدة محددة ثم ينقضي.
أى: إن هؤلاء الفرحين بنعم الله عليهم في الدنيا، فرح بطر وأشر وجحود، لن يتمتعوا بها طويلا، لأن نعيم الدنيا ليس إلا شيئا قليلا بالنسبة لنعيم الآخرة.
وتنكير «متاع» للتقليل، كقوله- تعالى- في آية أخرى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ «1» .
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أى: كائنة في جنب نعيم الآخرة، فالجار والمجرور في موضع الحال، و «في» هذه معناها المقايسة وهي كثيرة في الكلام، كما يقال: ذنوب العبد في رحمة الله- تعالى- كقطرة في بحر، وهي الداخلة بين مفضول سابق، وفاضل لاحق ...
والمراد بقوله: إِلَّا مَتاعٌ أى: إلا شيئا يسيرا يتمتع به كزاد الراعي.
والمعنى: أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة، والحال أن ما فرحوا به في جنب ما أعرضوا عنه قليل النفع، سريع النفاد.
أخرج الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله: لو اتخذنا لك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل بشجرة ثم راح وتركها ... » «2» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت صفات المؤمنين وحسن عاقبتهم، وصفات الكافرين وسوء مصيرهم كما وضحت أن الأرزاق بيد الله- تعالى- يعطيها بسعة لمن يشاء من عباده، ويعطيها بقلة لغيرهم ...
__________
(1) سورة آل عمران الآية 197.
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 131. [.....](7/475)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض المطالب المتعنتة التي طلبها الكافرون من النبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليها بما يبطلها، ومدح المؤمنين لاطمئنان قلوبهم إلى سلامة دينهم من كل نقص، وأيأسهم من إيمان أعدائهم لاستيلاء العناد والجحود على قلوبهم، فقال- تعالى-:
[سورة الرعد (13) : الآيات 27 الى 31]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)
وقوله- سبحانه-: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ حكاية لما طلبه مشركو مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التعنت والطغيان. ومرادهم بالآية: آية كونية كإحياء الموتى، وإزاحة الجبال من أماكنها، و «لولا» هنا: حرف تحضيض بمعنى هلا.(7/476)
أى: ويقول الكافرون على سبيل العناد والجحود، هلا أنزل على هذا الرسول آية كونية تدل على صدقه، كأن يحيى لنا موتانا، أو أن يحول لنا جبل الصفا ذهبا ...
وكأنهم يرون أن القرآن الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم لا يكفى- في زعمهم- أن يكون آية ومعجزة شاهدة على صدقه.
وقد أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ.
أى: قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التعجيب من أحوالهم ومن شدة ضلالهم: إن الله- تعالى- يضل عن طريق الحق من يريد إضلاله، لاستحباب هذا الضال العمى على الهدى، ويهدى إلى صراطه المستقيم، من أناب إليه- سبحانه- ورجع إلى الحق الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم بقلب سليم. وعقل متفتح لمعرفة الصواب والرشاد.
فالجملة الكريمة تعجيب من أقوالهم الباطلة، ومن غفلتهم عن الآيات الباهرة التي أعطاها الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها القرآن الكريم الذي هو آية الآيات، وحض لهم على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد.
والإنابة: الرجوع إلى الشيء بعد تردد، فقد جرت عادة كثير من النفوس البشرية أن يعرض عليها الحق فتتردد في قبوله في أول الأمر، ثم تعود إلى قبوله واعتناقه بعد قيام الدلائل على صحته وسلامته من الفساد.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف طابق قولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ... ؟
قلت: هو كلام يجرى مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة والمتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية. فإذا جحدوها ولم يهتدوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعا للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم، إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ كان على خلاف صفتكم أَنابَ أقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير» «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 359.(7/477)
ثم رسم القرآن صورة مشرقة للقلوب المؤمنة، وللجزاء الحسن الذي أعده الله لها فقال- تعالى- الَّذِينَ آمَنُوا حق الإيمان، وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أى: تستقر قلوبهم وتسكن، بسبب تدبرهم لكلامه المعجز وهو القرآن الكريم وما فيه من هدايات.
وإطلاق الذكر على القرآن الكريم ورد في آيات منها قوله- تعالى- وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ «1» وقوله- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «2» .
وقوله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ أى: ألا بذكره وحده دون غيره من شهوات الحياة تسكن القلوب أنسا به، ومحبة له.
ويصح أن يراد بذكر الله هنا ما يشمل القرآن الكريم، ويشمل ذكر الخالق- عز وجل- باللسان، فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته- سبحانه- كما يصح أن يراد به خشيته- سبحانه- ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه.
إلا أن الأظهر هنا أن يراد به القرآن الكريم، لأنه الأنسب للرد على المشركين الذين لم يكتفوا به كمعجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه.
واختير الفعل المضارع في قوله- سبحانه- تَطْمَئِنُّ مرتين في آية واحدة، للإشارة إلى تجدد الاطمئنان واستمراره، وأنه لا يتخلله شك ولا تردد.
وافتتحت جملة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ بأداة الاستفتاح المفيدة للتنبيه، للاهتمام بمضمونها، وللإغراء بالإكثار من ذكره- عز وجل-، ولإثارة الكافرين إلى الاتسام بسمة المؤمنين لتطمئن قلوبهم.
ولا تنافى بين قوله- تعالى- هنا أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وبين قوله في سورة الأنفال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... أى: خافت.
لأن وجلهم إنما هو عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب.
أو وجلت من هيبته وخشيته- سبحانه- وهو لا ينافي اطمئنان الاعتماد والرجاء.
وقوله- تعالى- الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ بيان للثواب الجزيل الذي أعده- سبحانه- للمؤمنين الصادقين.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 50.
(2) سورة الحجر الآية 9.(7/478)
وطوبى: مصدر كبشرى وزلفى من الطيب، وأصله طيبي، فقلبت الياء واوا لوقوعها ساكنة إثر ضمة، كما قلبت في موقن وموسر وهو من اليقين واليسر.
وقيل: طوبى، اسم شجرة في الجنة.
قال ابن كثير ما ملخصه: قوله طُوبى لَهُمْ قال ابن عباس: أى فرح وقرة عين لهم.
وقال الضحاك: أى غبطة لهم. وقال إبراهيم النخعي: أى خير لهم.
وقال قتادة: طوبى: كلمة عربية. يقول الرجل لغيره: طوبى لك أى: أصبت خيرا.
وقال سعيد جبير عن ابن عباس «طوبى لهم» قال: هي أرض الجنة بالحبشية.
وقال سعيد بن مشجوج «طوبى» اسم الجنة بالهندية.
وروى ابن جرير عن شهر بن حوشب قال: «طوبى» : شجرة في الجنة، كل شجر الجنة منها ...
وهكذا روى عن ابن عباس وأبى هريرة وغير واحد من السلف، أن طوبى شجرة في الجنة، في كل دار في الجنة غصن منها» «1» .
والمآب: المرجع والمنقلب من الأوب وهو الرجوع. يقال: آب يئوب أوبا وإيابا ومآبا إذا رجع.
والمعنى: الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات لهم في آخرتهم، عيش طيب. وخير كامل، ومرجع حسن يرجعون به إلى ربهم وخالقهم.
ثم بين- سبحانه- أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليس بدعا، فقد سبقه رسل كثيرون إلى أقوامهم فقال- تعالى-: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.
فالكاف في قوله كَذلِكَ للتشبيه حيث شبه- سبحانه- إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الناس، بإرسال الرسل السابقين إلى أقوامهم.
واسم الإشارة يعود إلى الإرسال المأخوذ من فعل «أرسلناك» .
والمراد بالأمة هنا: أمة الدعوة التي أرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم فآمن من آمن من أفرادها، وكفر من كفر.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 376 طبعة دار الشعب.(7/479)
أى: كما أرسلنا رسلا سابقين إلى أقوامهم، أرسلناك يا محمد إلى قومك الذين قد سبقهم أقوام ورسل كثيرون لكي تقرأ على مسامعهم هذا القرآن العظيم الذي أوحيناه إليك من لدنا، ولتبين لهم ما اشتمل عليه من هدايات وتشريعات، كما بين الرسل الذين سبقوك لأقوامهم ما أمرهم الله- تعالى- ببيانه.
وفي قوله- تعالى-: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ تعريض بمشركي مكة، وأنهم إذا ما استمروا في طغيانهم، فسيصيبهم ما أصاب الأمم الخالية.
وقوله لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ المقصود منه تفخيم شأن القرآن الكريم، وأنه هو المعجزة الكبرى للرسول صلى الله عليه وسلم وأن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم قراءته عليهم قراءة تدبر واستجابة لما يدعوهم إليه.
وأن قول المشركين لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إنما هو قول يدل على عنادهم وغبائهم وجحودهم للحق بعد أن تبين.
وجملة وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ حالية.
أى: أرسلناك أيها الرسول الكريم إلى هؤلاء الضالين، لتتلو عليهم ما ينقذهم من الضلال، ولكنهم عموا وصموا عن سماعه، والحال أنهم يكفرون بالرحمن أى العظيم الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء.
وأوثر اختيار اسم الرحمن من بين أسمائه- تعالى- للإشارة إلى أن إرساله صلى الله عليه وسلم مبعثه الرحمة كما قال- تعالى-: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» .
وللرد عليهم في إنكارهم أن يكون الله- تعالى- رحمانا، فقد حكى القرآن عنهم ذلك في قوله وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ «2» .
وقد ثبت في الحديث الصحيح أنهم لم يرضوا بكتابة هذا الاسم الكريم في صلح الحديبية، فعند ما قال صلى الله عليه وسلم لعلىّ: اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال أحد زعمائهم. ما ندري ما الرحمن الرحيم ...
وقد أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يبطل كفرهم فقال: قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ.
أى: قل لهم أيها الرسول الكريم: الرحمن الذي تتجافون النطق باسمه الكريم هو وحده
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107.
(2) سورة الفرقان الآية 60.(7/480)
ربي وخالقي، لا إله مستحق للعبادة سواه، عليه لا على أحد سواه توكلت في جميع أمورى، وإليه لا إلى غيره مرجعي وتوبتي وإنابتى.
فهذه الجملة الكريمة اشتملت على أبلغ رد على أولئك المشركين الذين أنكروا أن يكون الإله- جل وعلا- رحمانا، وأنه- سبحانه- هو المستحق للعبادة.
ثم أشار- سبحانه- إلى عظمة هذا القرآن الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى....
والمراد بالقرآن هنا: معناه اللغوي، أى الكلام المقروء.
وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه.
والمعنى: ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية، سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أى: تحركت من أماكنها، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أى شققت وصارت قطعا، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم.
ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن، لكونه الغاية القصوى في الهداية والتذكير، والنهاية العظمى في الترغيب والترهيب.
وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم آية كونية سواه.
ويصح أن يكون المعنى: ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى، لما آمن هؤلاء المعاندون.
قال- تعالى-: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ... «1» .
وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة، بيان غلوهم في العناد والطغيان، وتماديهم في الكفر والضلال، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة.
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التي طلبوها منه صلى الله عليه وسلم ما ذكره الإمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت
__________
(1) سورة الأنعام الآية 111.(7/481)
لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية «1» .
وقوله- سبحانه- بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله، وأن قدرته- سبحانه- لا يعجزها شيء.
أى: إن الله- تعالى- لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التي اقترحوها، ولكن إرادته- سبحانه- لم تتعلق بما اقترحوه، لعلمه- سبحانه- بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات.
وقوله- سبحانه: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق، إلا أن يشاء الله لهم الهداية، والاستفهام للإنكار. وأصل اليأس: قطع الطمع في الشيء والقنوط من حصوله.
وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان:
أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقي وهو قطع الطمع في الشيء، وعليه يكون المعنى: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش، ويعلموا أن الله- تعالى- لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا، ولكنه لم يشأ ذلك، ليتميز الخبيث من الطيب.
وعلى هذا الاتجاه سار الإمام ابن كثير فقد قال- رحمه الله-: وقوله- تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أى: من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة «2» .
ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطي في تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، اطلب لهم- أى للمشركين- ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا.
أما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم، وعليه يكون المعنى: أفلم يعلم المؤمنون أنه- سبحانه- لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا.
وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه:
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 382.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 385.(7/482)
ومعنى قوله- سبحانه-: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أفلم يعلموا. وهي كما قال القاسم بن معن لغة هوازن. وقال الكلبي هي لغة حي من النخع، وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وئيل الرباحي:
أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى ... ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم
وقول رباح بن عدى:
ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقة.
وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فان الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ...
والفاء للعطف على مقدر. أى: أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله- تعالى- فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ... «1» .
ثم حذر- سبحانه- الكافرين من التمادي في كفرهم، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال- تعالى-: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
والقارعة: من القرع، وهو ضرب الشيء بشيء آخر بقوة وجمعها قوارع.
والمراد بها: الرزية والمصيبة والكارثة.
أى: ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال «قارعة» أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة في مكان قريب من دارهم، فيتطاير شرها إليهم، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم، إن الله- تعالى- لا يخلف الميعاد، أى: موعوده لرسله ولعباده المؤمنين.
وأبهم- سبحانه- ما يصيب الكافرين من قوارع، لتهويله وبيان شدته.
والتعبير بقوله وَلا يَزالُ يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها، لأن الفعل لا يَزالُ يدل على الإخبار باستمرار شيء واقع.
ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها في خلال سنى الجدب التي حلت بقريش والتي أشار
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 141.(7/483)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
إليها القرآن بقوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ... «1» .
وعبر- سبحانه- عما أصابهم من بلاء بالقارعة، للمبالغة في شدته وقوته. حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبهتهم ويزعجهم، ولذلك سميت القيامة بالقارعة، لأنها تقرع القلوب بأهوالها.
وقال- سبحانه-: أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم، وتقلق أمنهم، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
ولقد قضى الله- تعالى- أمره، بهزيمتهم في بدر وفي غيرها. وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة. وبدخول الناس في دين الله أفواجا.
ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلى بطلان الشرك، وفي بيان ما أعده للكافرين من عقاب، وما أعده للمتقين من ثواب فقال تعالى:
[سورة الرعد (13) : الآيات 32 الى 35]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)
__________
(1) سورة الدخان الآية 10، 11.(7/484)
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ... تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من حزن بسبب تعنت المشركين معه. ومطالبتهم له بالمطالب السخيفة التي لا صلة لها بدعوته، كطلبهم منه تسيير الجبال وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى.
والاستهزاء: المبالغة في السخرية والتهكم من المستهزأ به. والإملاء: الإمهال والترك لمدة من الزمان.
والتنكير في قوله بِرُسُلٍ للتكثير، فقد استهزأ قوم نوح به، وكانوا كلما مروا عليه وهو يصنع السفينة سخروا منه.
واستهزأ قوم شعيب به وقالوا له: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «1» .
واستهزأ قوم هود به وقالوا له: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ..... «2» واستهزأ فرعون بموسى فقال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ «3» .
والمعنى: ولقد استهزأ الطغاة والجاحدون برسل كثيرين من قبلك- أيها الرسول الكريم- فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أى: فأمهلتهم وتركتهم مدة من الزمان في أمن ودعة.
ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أخذ عزيز مقتدر فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فانظر كيف كان عقابي إياهم، لقد كان عقابا رادعا دمرهم تدميرا.
فالاستفهام للتعجيب مما حل بهم، والتهويل من شدته وفظاعته وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ «4» .
قال ابن كثير: وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإن الله ليملى للظالم حتى
__________
(1) سورة الشعراء الآية 187.
(2) سورة الأعراف الآية 66.
(3) سورة الزخرف الآية 52. [.....]
(4) سورة الحج الآية 48.(7/485)
إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ «1» .
ثم أقام- سبحانه- الأدلة الساطعة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له- تعالى- فقال: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ....
والمراد بالقيام هنا: الحفظ والهيمنة على جميع شئون الخلق والاستفهام للإنكار، والخبر محذوف والتقدير: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ أى: رقيب ومهيمن عَلى كُلِّ نَفْسٍ كائنة ما كانت، عالم بما تعمله من خير أو شر فمجازيها به كمن ليس كذلك؟
وحذف الخبر هنا وهو قولنا- كمن ليس كذلك- لدلالة السياق عليه، كما في قوله- تعالى-: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أى: كمن قسا قلبه.
وحسن حذف الخبر هنا لأنه مقابل للمبتدأ الذي هو من ولأن قوله- تعالى-:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ يدل عليه.
والمقصود من الآية الكريمة إنكار المماثلة بين الخالق العظيم، العليم بأحوال النفوس ...
وبين تلك الأصنام التي أشركوها مع الله- تعالى- في العبادة والتي هي لا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لنفسها- فضلا عن غيرها- نفعا ولا ضرا.
وجملة وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ حالية، والتقدير:
أفمن هذه صفاته، وهو الله- تعالى- كمن ليس كذلك، والحال أن هؤلاء الأغبياء قد جعلوا له شركاء في العبادة وغيرها.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة، زيادة توبيخهم، وتسفيه أفكارهم وعقولهم.
وقوله- سبحانه- قُلْ سَمُّوهُمْ تبكيت لهم إثر تبكيت.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- سموهم شركاء إن شئتم، فإن هذه التسمية لا وجود لها في الحقيقة والواقع، ولا تخرجهم عن كونهم لا يملكون لأنفسهم- فضلا عن غيرهم- نفعا ولا ضرا، لأن الله- تعالى- واحد لا شريك له.
وهذه التسمية إنما هي من عند أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطان، كما قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 383.
(2) سورة النجم الآية 23.(7/486)
فالأمر في قوله سَمُّوهُمْ مستعمل في الإباحة المصحوبة بالتهديد، للإشارة إلى عدم الاكتراث بهم وبآلهتهم التي سموها شركاء. وهذا كما يقول العاقل للأحمق الذي لا يحسن الكلام: قل ما شئت فإن كلامك لا وزن له، ولا خير فيه.
قال الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية: «واعلم أنه- تعالى- لما قرر هذه الحجة- وهي أن القائم على كل نفس ليس كمن لا يملك شيئا- زاد في الحجاج فقال: قُلْ سَمُّوهُمْ
وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال: سمه إن شئت.
يعنى: إنه أخس من أن يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل.
فكأنه- تعالى- قال: سموهم بالآلهة، والمعنى: سواء أسميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها» «1» ...
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ، أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ للإنكار والتوبيخ.
أى: قل أيها الرسول لهؤلاء الذين جعلوا لله شركاء وسموهم بهذا الاسم: قل لهم على سبيل الإنكار والتوبيخ: أتخبرون الله بشركاء لا وجود لهم في الأرض، لأنهم لو كان لهم وجود لعلمهم، لأنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أم أنكم سميتموهم شركاء بظاهر من القول أى: بظن من القول لا حقيقة له في الواقع ونفس الأمر.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله أَمْ تُنَبِّئُونَهُ أى: بل أتخبرون الله- تعالى- بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أى بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم- سبحانه- والمراد: نفيها بنفي لازمها على طريق الكناية، لأنه- سبحانه- إذا كان لا يعلمها- وهو الذي لا يعزب عن علمه شيء- فهي لا حقيقة لها أصلا.
وتخصيص الأرض بالذكر، لأن المشركين زعموا أنه- سبحانه- له شركاء فيها.
وقوله أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أى: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق في نفس الأمر، كتسمية الزنجي كافورا.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 56.(7/487)
وروى عن الضحاك وقتادة، أن الظاهر من القول: الباطل منه، كما في قول القائل:
أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عار يا ابن ربطة ظاهر
أى: باطل زائد ... «1» .
وقوله- سبحانه-: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ إضراب عن حجاجهم، وإهمال لشأنهم، و «زين» من التزيين وهو تصيير الشيء زينا أى: حسنا.
والمكر: صرف الغير عما يريده بحيلة. والمراد به هنا: كفرهم ومسالكهم الخبيثة ضد الإسلام والمسلمين.
والمعنى: دع عنك أيها الرسول الكريم- مجادلتهم، لأنه لا فائدة من ورائها، فإن هؤلاء الكافرين قد زين لهم الشيطان ورؤساؤهم في الفكر مكرهم وكيدهم للإسلام وأتباعه، وصدوهم عن السبيل الحق، وعن الصراط المستقيم، ومن يضلله الله- تعالى- بأن يخلق فيه الضلال لسوء استعداده، فما له من هاد يهديه ويرشده إلى ما فيه نجاته.
هذا، وقد اشتملت هذه الآية على ألوان من الحجج الساطعة التي تثبت وجوب إخلاص العبادة لله، وتبطل الشركة والشركاء أشار إليها بعض المفسرين فقال:
قال الطيبي: في هذه الآية الكريمة احتجاج بليغ مبنى على فنون من علم البيان:
أولها: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كمن ليس كذلك، احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما.
ثانيها: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ من وضع المظهر موضع المضمر، للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في أسمائه.
ثالثها: قُلْ سَمُّوهُمْ أى عينوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان، فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني ...
رابعها: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ احتجاج من باب نفى الشيء أعنى العلم بنفي لازمه وهو المعلوم وهو كناية.
خامسها: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ احتجاج من باب الاستدراج لبعثهم على التفكر.
أى: أتقولون بأفواهكم من غير روية، وأنتم ألباء، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 104.(7/488)
سادسها: التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها، كان الاحتجاج المذكور مناديا على نفسه بالإعجاز وأنه ليس كلام البشر» «1» .
ثم بين- سبحانه- سوء مصير هؤلاء الكافرين فقال: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
أى: لهم عذاب شديد في الحياة الدنيا، ينزله الله- تعالى- بهم تارة عن طريق القوارع والمصائب التي يرسلها عليهم، وتارة عن طريق الهزائم التي يوقعها بهم المؤمنون، هذا في الدنيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
من عذاب الدنيا لشدته ودوامه وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
- تعالى- ومن عذاب الآخرة مِنْ واقٍ
أى: من حائل يحول بينهم وبين عذابه- سبحانه-.
ثم أعقب ذلك ببيان حسن عاقبة المؤمنين فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها.....
والمراد بالمثل هنا: الصفة العجيبة. أى: صفة الجنة التي وعد الله إياها من اتقاه وصان نفسه عن كل ما لا يرضيه، أنها تجرى من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار، وأنها أكلها دائم، أى: ما يؤكل فيها لا انقطاع لأنواعه «وظلها» كذلك دائم.
قال بعضهم: وجملة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خبر عن «مثل» باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه، فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين، كما يقال: صفة زيد أسمر. وجملة «أكلها دائم» خبر ثان «2» .
واسم الإشارة في قوله: «تلك عقبى الذين اتقوا» يعود على الجنة التي أعدها الله- تعالى- للمتقين.
أى: تلك الجنة المنعوتة بما ذكر هي مآل المتقين الذين استقاموا على الطريق الحق، وهي منتهى أمرهم.
أما مآل الكافرين ومنتهى أمرهم فهي النار، وبئس القرار.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية، جملة من الأحاديث في صفة الجنة فقال: وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه: قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت- أى توقفت وأحجمت؟ فقال:
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 507.
(2) تفسير التحرير والتنوير ج 13 ص 155 الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.(7/489)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
«إنى رأيت الجنة- أو أريت الجنة- فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» .
وروى الطبراني عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى» . «1»
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت من التوجيهات ما فيه التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه، وما فيه أوضح الدلائل والبراهين وأبلغها عن وحدانية الله- تعالى- ووجوب إفراده بالعبادة، وما فيه البشارة للمؤمنين، والتهديد للكافرين.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، ببيان موقف أهل الكتاب من القرآن الكريم، وبأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن منهجه بصراحة وثبات، دون التفات إلى أهواء معارضيه، وبالرد على الشبهات التي أثارها أعداؤه حوله وحول دعوته، وبتهديد هؤلاء الأعداء وبسوء العاقبة إذا ما استمروا في طغيانهم فقال- تعالى-:
[سورة الرعد (13) : الآيات 36 الى 43]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 386.(7/490)
وقوله- سبحانه-: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ثناء منه- سبحانه- على الذين عرفوا الحق من أهل الكتاب فاتبعوه.
والمراد بالكتاب هنا: التوراة والإنجيل.
والمعنى: والذين أعطيناهم التوراة والإنجيل، فآمنوا بما فيهما من بشارات تتعلق بك- أيها الرسول الكريم-، ثم آمنوا بك عند إرسالك رحمة للعالمين.
هؤلاء الذين تلك صفاتهم، يفرحون بما أنزل إليك من قرآن، لأن ما فيه من هدايات وبراهين على صدقك، يزيدهم إيمانا على إيمانهم، ويقينا على يقينهم.
وقيل: المراد بالكتاب القرآن الكريم، وبالموصول أتباع النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين.
فيكون المعنى: والذين آتيناهم الكتاب- وهو القرآن- فآمنوا بك وصدقوك يفرحون بكل ما ينزل عليك منه، لأنه يزيدهم هداية على هدايتهم.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح، لأن الآية الكريمة سيقت بعد الحديث عن عاقبة الذين اتقوا وهم المؤمنون الصادقون، وعاقبة الكافرين. ولأن فرح المؤمنين بنزول القرآن أمر مسلم به فلا يحتاج إلى الحديث عنه.
ومن المفسرين الذين اقتصروا في تفسيرهم للآية على الرأى الأول الإمام ابن كثير فقد قال: يقول الله- تعالى-: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم قائمون بمقتضاه يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أى: من القرآن، لما في كتبهم من الشواهد على صدقه صلى الله عليه وسلم والبشارة(7/491)
به، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «1» .
وقوله: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ بيان لمن بقي على كفره من أهل الكتاب وغيرهم. والأحزاب: جمع حزب ويطلق على مجموعة من الناس اجتمعوا من أجل غاية معينة أى: ومن أحزاب الكفر والضلال من ينكر بعض ما أنزل إليك لأنه يخالف أهواءهم وأطماعهم وشهواتهم ... ولم يذكر القرآن هذا البعض الذي ينكرونه، إهمالا لشأنهم، ولأنه لا يتعلق بذكره غرض.
وقوله- سبحانه-: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ أمر منه- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما يأمره دون تردد أو وجل.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لكل من خالفك فيما تدعو إليه «إنما أمرت أن أعبد الله» وحده «ولا أشرك به» بوجه من الوجوه إليه وحده «أدعو» الناس لكي يخلصوا له العبادة والطاعة «وإليه مآب» أى وإليه وحده إيابى ومرجعي لا إلى أحد غيره.
فالآية تضمنت المدح لمن عرف الحق ففرح بوجوده. والذم لمن أنكره جحودا وعنادا، والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالسير في طريقه بدون خشية من أحد.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك بعض الفضائل التي امتاز بها القرآن الكريم فقال- تعالى-: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا....
والكاف للتشبيه، واسم الإشارة يعود إلى الإنزال المأخوذ من أَنْزَلْناهُ وضمير الغائب في أنزلناه يعود الى بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في قوله في الآية السابقة يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...
وقوله حُكْماً عَرَبِيًّا حالان من ضمير الغائب.
والمعنى: ومثل ذلك الإنزال البديع الجامع لألوان الهداية والإعجاز، أنزلنا عليك القرآن يا محمد حُكْماً أى: حاكما بين الناس عَرَبِيًّا أى: بلسان عربي مبين هو لسانك ولسان قومك.
ومنهم من يرى أن اسم الإشارة يعود إلى الكتب السماوية السابقة، فيكون المعنى:
وكما أنزلنا الكتب السماوية على بعض رسلنا بلغاتهم وبلغات أقوامهم أنزلنا عليك القرآن حاكما بين الناس بلغتك وبلغة قومك، وهي اللغة العربية ليسهل عليهم فهمه وحفظه.
وعلى كلا القولين فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة قد اشتملت على فضيلتين للقرآن
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 377.(7/492)
الكريم: فضيلة من جهة معانيه ومقاصده وهداياته وحكمه وأحكامه وتشريعاته، وهو المعبر عنها بكونه «حكما» .
وفضيلة من جهة ألفاظه ومفرداته وتراكيبه، وهي المعبر عنها بكونه «عربيا» .
أى: نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأغناها وأجملها.
ثم في كونه «عربيا» امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء، حيث إنه نزل بلغتهم، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوه بالفرح والتسليم لأوامره ونواهيه، فهو الكتاب الذي فيه شرفهم وعزهم، قال- تعالى-: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أى: فيه بقاء شرفكم أَفَلا تَعْقِلُونَ «1» .
وقال- تعالى-: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ «2» .
وفي ذلك تعريض بغباء مشركي العرب، حيث لم يشكروا الله- تعالى- على هذه النعمة، بل قابلوا من أنزل عليه هذا القرآن بالعناد والعصيان.
ثم ساق- سبحانه- تحذيرا للأمة كلها في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء كل كافر أو فاسق: فقال- تعالى-: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ.
واللام في قوله وَلَئِنِ موطئة للقسم لتأكيد ما تضمنته من عقاب شديد لمتبع أهواء الكافرين.
والأهواء: جمع هوى، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق، ومطالبهم المتعنتة، والمراد بما جاءه من العلم: ما بلغه وعلمه من الدين عن طريق الوحى الصادق.
والولي: الناصر والمعين والقريب والحليف. والواقي: المدافع عن غيره.
والمعنى: «ولئن اتبعت» - يا محمد- على سبيل الفرض والتقدير أهواء هؤلاء الكافرين فيما يطلبونه منك، «من بعد ما جاءك من العلم» اليقيني بأن الإسلام هو الدين الحق، «مالك من الله» أى من عقباه «من ولى» يلي أمرك وينصرك «ولا واق» يقيك من حسابه. وسيق هذا التحذير في صورة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم للتأكيد من مضمونه.
فكأنه- سبحانه يقول: لو اتبع أهواءهم- على سبيل الفرض- أكرم الناس عندي لعاقبته، وأحق بهذا العقاب من كان دونه في الفضل والمنزلة، وشبيه بهذه الآية قوله
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 10.
(2) سورة الزخرف الآية 44.(7/493)
- تعالى-: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» .
ثم بين- سبحانه- أن اعتراض المشركين على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ليس إلا من قبيل التعنت والجحود، لأن الرسل جميعا كانوا من البشر، فقال- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً....
أى: «ولقد أرسلنا رسلا» كثيرين «من قبلك» يا محمد «وجعلنا لهم» أى لهؤلاء الرسل «أزواجا» يسكنون إليهن «وذرية» أى: وأولادا تقرّ بهم أعينهم.
قال الشوكانى: «وفي هذا رد على من كان ينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجه بالنساء.
أى: هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه» «2» .
وقوله- سبحانه-: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ... رد على ما طلبوه منه صلى الله عليه وسلم من معجزات.
أى: وما صح وما استقام لرسول من الرسل أن يأتى لمن أرسل إليهم بمعجزة كائنة ما كانت إلا بإذن الله وإرادته المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات.
وقوله- سبحانه- لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ تهديد للمشركين الذين كانوا يتعجلون حصول المقترحات التي طلبوها منه صلى الله عليه وسلم.
أى: لكل وقت من الأوقات «كتاب» أى: حكم معين يكتب على الناس حسبما تقتضيه مشيئته- سبحانه-.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك مظهرا من مظاهر شمول قدرته، وسعة علمه، وعظيم حكمته فقال: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.
وقوله: يَمْحُوا من المحو وهو إذهاب أثر الشيء بعد وجوده.
وقوله: وَيُثْبِتُ من الإثبات وهو جعل الشيء ثابتا قارا في مكان ما.
وأم الكتاب: أصل الكتاب والمراد بأم الكتاب: اللوح المحفوظ، أو علمه- سبحانه- المحيط بكل شيء.
قال الفخر الرازي: «والعرب تسمى كل ما يجرى مجرى الأصل للشيء أمّا له ومنه أمّ
__________
(1) سورة الزمر الآية 65.
(2) تفسير الشوكانى ج 3 ص 88.(7/494)
الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب» «1» .
والمعنى: يمحو الله- تعالى- ما يشاء محوه، ويثبت ما يريد إثباته من الخير أو الشر ومن السعادة أو الشقاوة، ومن الصحة أو المرض، ومن الغنى أو الفقر، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه.
وعنده- سبحانه- الأصل الجامع لكل ما يتعلق بأحوال هذا الكون.
قال- تعالى-: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ... «2» .
وقال- تعالى-: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ «3» .
وللمفسرين في معنى هذه الآية كلام طويل، لخصه الإمام الشوكانى تلخيصا حسنا فقال:
قوله- سبحانه-: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أى يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه، وظاهر النظم القرآنى العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر ... ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وقتادة وغيرهم.
وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة. وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقيل «يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه، ويثبت ما لا يشاء فلا ينسخه ... والأول أولى كما تفيده «ما» في قوله «ما يشاء» من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله «لكل أجل كتاب» ومع قوله «وعنده أم الكتاب» أى أصله وهو اللوح المحفوظ.
فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته.
وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله «جفّ القلم» ، وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه- سبحانه-.
وقيل: إن أم الكتاب هو علم الله- تعالى-: بما خلق وبما هو خالق «4» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 66. [.....]
(2) سورة الحديد الآية 22.
(3) سورة الحج الآية 70.
(4) تفسير الشوكانى ج 3 ص 88.(7/495)
وقوله- سبحانه- وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ حض له صلى الله عليه وسلم على المضي في دعوته بدون تسويف أو تأجيل.
و «ما» في قوله «وإما نرينك» مزيدة لتأكيد معنى الشرط، والأصل: وإن نرك، والإراءة هنا بصرية، والكاف مفعول أول، وبعض الذي نعدهم: مفعول ثان، وجواب الشرط، محذوف.
والمعنى: وإما نرينك- يا محمد- بعض الذي توعدنا به أعداءك من العذاب الدنيوي، فذاك شفاء لصدرك وصدور أتباعك.
وقوله «أو نتوفينك» شرط آخر لعطفه على الشرط السابق، وجوابه- أيضا- محذوف والتقدير: أو نتوفينك قبل ذلك فلا تهتم، واترك الأمر لنا.
وقوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ تعليل لهذا الجواب المحذوف، أى: سواء أرأيت عذابهم أم لم تره، فإنما عليك فقط تبليغ ما أمرناك بتبليغه للناس.
وَعَلَيْنَا وحدنا الْحِسابُ أى: محاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم السيئة.
وقوله- سبحانه-: بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ للإشارة إلى أن ما يصيبهم من عذاب دنيوى هو بعض العذاب المعد لهم، أما البعض الآخر وهو عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى.
ولقد صدق الله- تعالى- وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم فأراه قبل أن يفارق هذه الدنيا، جانبا من العذاب الذي أنزله بأعدائه، فسلط على مشركي مكة الجدب والقحط الذي جعلهم يأكلون العظام والميتة والجلود.
كما سلط عليهم المؤمنين فهزموهم في غزوة بدر وفي غزوة الفتح وفي غيرهما. ثم وبخ- سبحانه- المشركين لعدم تفكرهم وتدبرهم واتعاظهم بآثار من قبلهم، فقال- تعالى-:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها....
والهمزة للاستفهام الإنكارى، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والخطاب لمشركي مكة ومن كان على شاكلتهم في الكفر والضلال.
والمراد بالأرض هنا: أرض الكفرة والظالمين.
والأطراف جمع طرف وهو جانب الشيء.
والمعنى: أعمى هؤلاء الكافرون عن التفكير والاعتبار، ولم يروا كيف أن قدرة الله القاهرة، قد أتت على الأمم القوية الغنية- حين كفرت بنعمه- سبحانه-، فصيرت قوتها ضعفا وغناها فقرا، وعزها ذلا، وأمنها خوفا ... وحصرتها في رقعة ضيقة من الأرض، بعد أن(7/496)
كانت تملك الأراضي الفسيحة، والأماكن المترامية الأطراف.
فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين، وإنذار للكافرين.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ «1» .
قال الآلوسى ما ملخصه: «وروى عن ابن عباس أن المراد بانتقاص الأرض: موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وعليه يكون المراد بالأرض جنسها وبالأطراف الأشراف والعلماء، وشاهده قول الفرزدق:
واسأل بنا وبكم، إذا وردت منى ... أطراف كل قبيلة، من يتبع؟
يريد أشراف كل قبيلة.
وتقرير الآية عليه: أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة، وموتا بعد حياة، وذلا بعد عز ... فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله- تعالى- الأمر عليهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ...
ثم قال: وهو كما ترى:
والأول- وهو أن يكون المراد بالأرض: أرض الكفر، وبالأطراف الجوانب- أوفق بالمقام، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة، وجملة «ننقصها» في موضع الحال من فاعل نأتى ... » «2» .
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ بيان لعلو شأن حكمه- تعالى- ونفاذ أمره.
والمعقب: هو الذي يتعقب فعل غيره أو قوله فيبطله أو يصححه.
أى: والله- تعالى- يحكم ما يشاء أن يحكم به في خلقه، لا راد لحكمه، ولا دافع لقضائه، ولا يتعقب أحد ما حكم به بتغيير أو تبديل، وقد حكم- سبحانه- بعزة الإسلام، وعلو شأنه وشأن أتباعه على سائر الأمم والأديان ...
وقوله وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ أى: وهو- سبحانه- سريع المحاسبة والمجازاة، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من الإحصاء والعد، إذ هو- سبحانه- محيط بكل شيء، فلا تستبطئ. عقابهم- أيها الرسول الكريم- فإن ما وعدناك به واقع لا محالة.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 44.
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 155.(7/497)
ثم زاد- سبحانه- في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وفي تثبيت فؤاده فقال: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً....
والمكر: صرف الغير عما يريده بحيلة، أو إيصال المكروه للممكور به خفية، والمراد بمكر الذين من قبلهم: إضمارهم السوء لرسلهم.
والمراد بمكر الله- تعالى- هنا: علمه- سبحانه- بما بيتوه، وإحباطه لمكرهم، وإنجاؤه لرسله- عليهم الصلاة والسلام-.
أى: وقد مكر الكفار الذين سبقوا قومك- يا محمد- برسلهم وحاولوا إيقاع المكروه بهم، ولكن ربك- سبحانه- نصر رسله لأنه- عز وجل- له المكر جميعا، ولا اعتداد بمكر غيره لأنه معلوم له.
وقال الجمل ما ملخصه: «وقوله فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً تعليل لمحذوف تقديره فلا عبرة بمكرهم، ولا تأثير له، فحذف هذا اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله بقوله فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أى: لا تأثير لمكرهم أصلا لأنه معلوم لله- تعالى- وتحت قدرته ...
وأثبت لهم المكر باعتبار الكسب، ونفاه عنهم باعتبار الخلق. «1»
وجملة «يعلم ما تكسب كل نفس» بمنزلة التعليل لجملة «فلله المكر جميعا» .
أى: هو- سبحانه- له المكر جميعا، لأنه لا تخفى عليه خافية من أحوال كل نفس، وسيجازيها بما تستحقه من خير أو شر.
وقوله: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ تهديد للكافرين بالحق الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أى: وسيعلم الكافرون عند ما ينزل بهم العذاب، لمن تكون العاقبة الحميدة أهي لهم- كما يزعمون- أم للمؤمنين؟ لا شك أنها للمؤمنين.
فالجملة الكريمة تحذير للكافرين من التمادي في كفرهم، وتبشير للمؤمنين بأن العاقبة لهم.
وفي قراءة سبعية «وسيعلم الكافر» . فيكون المراد به جنس الكافر.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صادق في رسالته فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا.
أى: لست مرسلا من عند الله- تعالى-، وقد حكى- سبحانه- قولهم الباطل هذا
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 512.(7/498)
بصيغة الفعل المضارع، للإشارة إلى تكرار هذا القول منهم، ولاستحضار أحوالهم العجيبة الدالة على إصرارهم على العناد والجحود.
وقوله قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أمر من الله- تعالى- لرسوله بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم.
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل كَفى في المعنى، مزيدة للتأكيد، وقوله وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ معطوف على اسم الجلالة، والمراد بالموصول وبالكتاب الجنس.
والمعنى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- تكفى شهادة الله بيني وبينكم، فهو يعلم صدق دعوتي، ويعلم كذبكم، ويعلم ذلك- أيضا- كل من كان على علم بالكتب السماوية السابقة فإنها قد بشرت برسالتي، وجاءت أوصافى فيها ...
وممن شهد لي بالنبوة ورقة بن نوفل، فأنتم تعلمون أنه قال لي عند ما أخبرته بما حدث لي في غار حراء: «هذا هو الناموس- أى الوحى- الذي أنزله الله على موسى» ...
وقيل المراد بمن عنده علم الكتاب: المسلمون. وبالكتاب: القرآن، والأول أرجح لشموله لكل من كان عنده علم بالكتب السماوية السابقة، إذ هذا الشمول أكثر دلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه.
وبعد: فهذه هي سورة الرعد. وهذا تفسير وسيط لآياتها ...
نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور محمد سيد طنطاوى المدينة المنورة: 23 من المحرم سنة 1402 هـ الموافق 19 من نوفمبر سنة 1981 م(7/499)
تفسير سورة إبراهيم(7/501)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.
وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة ابراهيم- عليه السلام-، توخيت فيه أن يكون تفسيرا تحليليا، خاليا من الآراء السقيمة، والأقوال الضعيفة. والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه، نافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم المؤلف د. محمد سيد طنطاوى(7/503)
تعريف بسورة إبراهيم- عليه السلام-
1- سورة إبراهيم- عليه السلام- هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول، فقد كان بعد سورة نوح- عليه السلام-.
وقد ذكر السيوطي قبلها سبعين سورة من السور المكية «1» .
2- وعدد آياتها ثنتان وخمسون آية في المصحف الكوفي، وإحدى وخمسون في البصري، وأربع وخمسون في المدني، وخمس وخمسون في الشامي.
3- وسميت بهذا الاسم، لاشتمالها على الدعوات الطيبات التي تضرع بها إبراهيم- عليه السلام- إلى ربه، ولا يعرف لها اسم آخر سوى هذا الاسم.
4- وجمهور العلماء على أنها مكية، وليس فيها آية أو آيات غير مكية.
وقال الآلوسى: «أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة.
والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك، وهو الذي عليه الجمهور.
وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ فإنهما نزلتا في قتلى بدر من المشركين.. «2» .
وسنرى عند تفسيرنا لهاتين الآيتين، أنه لم يقم دليل يعتمد عليه على أنهما مدنيتان. وأن السورة كلها مكية كما قال جمهور العلماء.
5- هذا، وبمطالعتنا لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل نراها في مطلعها تحدثنا عن وظيفة القرآن الكريم، وعن جانب من مظاهر قدرة الله- تعالى-، وعن سوء عاقبة الكافرين، وعن الحكمة في إرسال كل رسول بلسان قومه قال- تعالى-: الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ ...
__________
(1) راجع الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 27، تحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم.
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 161 طبعة منير الدمشقي.(7/505)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ثم نراها بعد ذلك تحدثنا عن طرف من رسالة موسى- عليه السلام- مع قومه، وعن أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم، وعن نماذج من المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم.
قال- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ....
ثم تضرب السورة الكريمة بعد ذلك مثلا لأعمال الكافرين، وتصور أحوالهم عند ما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وتحكى ما يقوله الشيطان لهم في ذلك اليوم ... فتقول:
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ...
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ...
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.
ثم تسوق السورة مثلا آخر لكلمتى الإيمان والكفر فتقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ...
ثم يحكى ألوانا متعددة من الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلمه وقدرته ونعمه على عباده فتقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ....
ثم تسوق بعد ذلك تلك الدعوات الصالحات الجامعات لأنواع الخير، التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فتقول:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ....
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ.
ثم يختم- سبحانه- هذه السورة الكريمة بآيات فيها ما فيها من أنواع العذاب الذي أعده للظالمين، وفيها ما فيها من ألوان التحذير من السير في طريق الكافرين والجاحدين فيقول:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ.(7/506)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ....
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
6- ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة، نراها قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلى:
(أ) تذكير الناس بنعم خالقهم عليهم، وتحريضهم على شكر هذه النعم وتحذيرهم من جحودها وكفرها ...
ومن الآيات التي وردت في هذه السورة في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
وقوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ.
وقوله- تعالى-: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.
(ب) تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من مشركي قريش، تارة عن طريق ما لقيه الأنبياء السابقون من أقوامهم، وتارة عن طريق بيان أن العاقبة للمتقين.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ....
وقوله- تعالى-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ....
(ج) اشتمال السورة الكريمة على أساليب متعددة للترغيب في الإيمان، وللتحذير من الكفر، تارة عن طريق ضرب الأمثال، وتارة عن طريق بيان حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المكذبين، وتارة عن طريق حكاية ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة، وما يقوله الضعفاء للذين استكبروا وما يقوله الظالمون يوم يرون العذاب ...
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
وقوله- تعالى-: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ.(7/507)
وقوله- تعالى-: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ....
هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة بإبرازها وبتركيز الحديث عنها، وهناك موضوعات أخرى عنيت السورة بتفصيل الحديث عنها، ويراها المتدبر لآياتها ...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(7/508)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
التفسير قال الله تعالى:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
سورة إبراهيم- عليه السلام- من السور القرآنية التي افتتحت بحرف من الحروف المقطعة وهو قوله- تعالى-: الر.
وقد سبق أن ذكرنا آراء العلماء في هذه الحروف عند تفسيرنا لسور: آل عمران، والأعراف، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد.
وقلنا ما خلاصته: لعل أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض سور القرآن، على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.(7/509)
فكأن الله- تعالى- يقول لأولئك المعاندين والمعارضين في أن القرآن من عند الله. هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك، فإن لم تستطيعوا فهاتوا عشر سور من مثله، فإن عجزتم فهاتوا سورة واحدة من مثله.
قال- تعالى-: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» .
وقوله كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ تنويه بشأن القرآن الكريم، وبيان للغرض السامي الذي أنزله الله- تعالى- من أجله.
والظلمات: جمع ظلمة، والمراد بها: الكفر والضلال، والمراد بالنور: الإيمان والهداية.
والباء في بِإِذْنِ رَبِّهِمْ للسببية، والجار والمجرور متعلق بقوله لِتُخْرِجَ.
والصراط: الجادة والطريق، من سرط الشيء إذا ابتلعه، وسمى الطريق بذلك، لأنه يبتلع المارين فيه، وأبدلت سينه صادا على لغة قريش.
والمعنى: هذا كتاب جليل الشأن، عظيم القدر، أنزلناه إليك يا محمد، لكي تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهالة والضلال، إلى نور الإيمان والعلم والهداية، وهذا الإخراج إنما هو بإذن ربهم ومشيئته وإرادته وأمره.
وقوله إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من قوله إِلَى النُّورِ.
أى لتخرج الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى طريق الله الْعَزِيزِ أى: الذي يغلب ولا يغلب الْحَمِيدِ أى: المحمود بكل لسان.
وأسند- سبحانه- الإخراج إلى النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره المبلغ لهذا الكتاب المشتمل على الهداية التي تنقل الناس من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهالة إلى الهداية وشبه الكفر بالظلمات- كما يقول الإمام الرازي-، لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية، وشبه الإيمان بالنور، لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته» «2» .
وفي جمع «الظلمات» وإفراد «النور» إشارة إلى أن للكفر طرقا كثيرة، وأما الإيمان
__________
(1) سورة البقرة الآية 23.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 72.(7/510)
فطريق واحد.
وقوله- سبحانه-: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ احتراس لبيان أن نقل الناس من حال إلى حال إنما هو بإرادة- الله- تعالى- ومشيئته، وأن الرسول ما هو إلا مبلغ فقط، أما الهداية فمن الله وحده.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر قدرته فقال: اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ....
أى: الله- تعالى- وحده هو الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وملكا وخلقا لا يشاركه في ذلك مشارك، ولا ينازعه منازع.
ولفظ الجلالة قرأه الجمهور بالجر على أنه بدل أو عطف بيان من العزيز الحميد.
وقرأه نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
وجملة «وويل للكافرين من عذاب شديد» تهديد ووعيد لمن كفر بالحق وأعرض عنه.
ولفظ «ويل» مصدر لا يعرف له فعل من لفظه مثل «ويح» وجاء مرفوعا للدلالة على الثبات والدوام، ومعناه الهلاك أو الفضيحة أو الحسرة، أى: الله- تعالى- هو الذي له ما في السموات وما في الأرض، وويل للكافرين بما أنزلناه إليك- أيها الرسول الكريم- من عذاب شديد سينزل بهم، فيجعلهم يستغيثون دون أن يجدوا من يغيثهم.
ثم وصف- سبحانه- هؤلاء الكافرين بجملة من الصفات الذميمة، التي أردتهم وأهلكتهم فقال- تعالى-: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً....
ويستحبون: بمعنى يحبون، فالسين والتاء للتأكيد، أى: يختارون ويؤثرون ولذا عداه بعلى. أى: يختارون شهوات الحياة الدنيا. ويؤثرون لذائذها ومتعها على الدار الآخرة وما فيها من نعيم وخيرات ...
«ويصدون» من الصد، وهو صرف الغير عن الشيء ومنعه منه يقال: صد فلان فلانا عن فعل الشيء، إذا منعه من فعله.
وسبيل الله: طريقه الموصلة إليه وهو ملة الإسلام.
ويبغون من البغاء- بضم الباء- بمعنى الطلب. يقال: بغيت لفلان كذا، إذا طلبته له، وبغيت الشيء أبغيه بغاء وبغى وبغية إذا طلبته.(7/511)
والعوج- بكسر العين وفتحها- مصدر عوج- كتعب. إلا أن بعضهم يرى أن مكسور العين يكون فيما ليس بمرئى كالآراء والأقوال والعقائد، وأن مفتوحها يكون في المرئيات كالأجساد والمحسوسات.
أى: أن هؤلاء الكافرين يؤثرون شهوات الدنيا على الآخرة ونعيمها، ولا يكتفون بذلك بل يضعون العراقيل في طريق دعوة الحق حتى يبتعد الناس عنها، ويطلبون لها العوج والميل تبعا لزيغ نفوسهم، مع أنها أقوم طريق، وأعدل سبيل. والضمير المنصوب في قوله «يبغونها» يعود إلى سبيل الله. أى يبغون لها العوج، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير، كما في قوله وَإِذا كالُوهُمْ ... أى: كالوا لهم.
وقوله عِوَجاً مفعول به ليبغون.
وبعضهم جعل الضمير المنصوب في «يبغونها» ، وهو الهاء هو المفعول، وجعل «عوجا» حال من سبيل الله أى: ويريدونها أن تكون في حال اعوجاج واضطراب. وقوله: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بيان الحكم العادل الذي أصدره- سبحانه- عليهم.
أى: أولئك الموصوفون بما ذكر في ضلال بعيد عن الحق.
والإشارة بأولئك الدالة على البعد، للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به بسبب تلبسهم بأقبح الخصال، وأبشع الرذائل.
وعبر بفي الظرفية للدلالة على تمكن الضلال منهم، وأنه محيط بهم كما يحيط الظرف بالمظروف.
قال الآلوسى: وفي الآية من المبالغة في ضلالهم ما لا يخفى، حيث أسند فيها الى المصدر ما هو لصاحبه مجازا كجد جده ...
ويجوز أن يقال: إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب اتصافه بما وصف به، بناء على أن البعد في الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده، وسبب بعده ضلاله، لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه، فيكون كقولك: قتل فلانا عصيانه، والإسناد مجازى وفيه المبالغة المذكورة أيضا. «1» .
ثم بين- سبحانه- منة أخرى من مننه على عباده فقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ....
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «اعلم أنه- تعالى- لما ذكر في أول السورة
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 165.(7/512)
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ... كان هذا إنعاما على الرسول، من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم، وإنعاما على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر ...
ثم ذكر في هذه الآية ما يجرى مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين:
أما بالنسبة إلى الرسول، فلأن بعثته كانت إلى الناس عامة ...
وأما بالنسبة لعامة الخلق، فلأنه- سبحانه- ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسانهم ... » «1»
والباء في قوله «بلسان» للملابسة، والمراد باللسان: اللغة التي يتخاطب بها الرسول مع قومه ...
والمعنى: وما أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم- رسولا من الرسل إلى قوم من الأقوام، إلا وكانت لغته كلغتهم، لكي يتيسر لهم أن يفهموا عند ما يريد أن يبلغهم إياه من الأوامر والنواهي ...
قال ابن كثير: «هذا من لطفه- تعالى- بخلقه: أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغتهم ليفهموا عنهم ما يريدون، وما أرسلوا به إليهم كما قال الإمام أحمد.
حدثنا وكيع، عن عمر بن أبى ذر قال: قال مجاهد: عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يبعث الله- عز وجل- نبيا إلا بلغة قومه» «2» .
وقال صاحب الكشاف: «فإن قلت: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث الى الناس جميعا، وهم على ألسنة مختلفة. فإن لم تكن للعرب حجة، فلغيرهم الحجة. وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة- أيضا- قلت:
لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد. فكان أول الألسنة لسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أقرب إليه.
فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 79.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 197.(7/513)
التنازع والاختلاف ... » «1» وقال الشوكانى: ما ملخصه: «وقد قيل في هذه الآية إشكال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس جميعا، ولغاتهم متباينة ...
وأجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم وإن كان مرسلا إلى الثقلين، لكن لما كان قومه العرب، وكانوا أخص به وأقرب إليه، كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم، وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم.
ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم، وبينه الرسول لكل قوم بلسانهم، لكان ذلك مظنة للاختلاف، وفتحا لباب التنازع، لأن كل أمة قد تدعى من المعاني في لسانها مالا يعرفه غيرها.
وربما كان ذلك- أيضا- مفضيا إلى التحريف والتصحيف، بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون» «2» .
وجملة «فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء» مستأنفة.
أى: فيضل الله من يشاء إضلاله، أى يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه.
ويهدى من يشاء هدايته، لا راد لمشيئته، ولا معقب لحكمه.
«وهو» سبحانه «العزيز» الذي لا يغلبه غالب «الحكيم» في كل أفعاله وتصرفاته.
قال صاحب تفسير التحرير والتنوير: وتفريع قوله «فيضل الله من يشاء ... إلخ» على مجموع جملة «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» ، ولذلك جاء فعل «يضل» مرفوعا غير منصوب، إذ ليس عطفا على فعل «ليبين» لأن الإضلال لا يكون معلولا للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل بالتبيين.
والمعنى: أن الإرسال بلسان قومه لعلة التبيين. وقد يحصل أثر التبيين بمعرفة الاهتداء، وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبين لهم» «3» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت وظيفة القرآن الكريم، ووظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم كما توعدت الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في كفرهم وغيهم، كما وضحت بعض مظاهر قدرة الله- تعالى- ولطفه بعباده، وفضله عليهم.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك، أن رسالة موسى- عليه السلام- كانت أيضا لإخراج
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 366. [.....]
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 14.
(3) تفسير التحرير والتنوير ج 13 ص 188 للشيخ الفاضل بن عاشور.(7/514)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
قومه من الظلمات إلى النور، ولتذكيرهم بنعم خالقهم عليهم، وبغناه عنهم، فقال تعالى:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما بين أنه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة، أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم، وكيفية معاملة أقوامهم معهم.
تصبيرا له صلى الله عليه وسلم على أذى قومه، وبدأ- سبحانه- بقصة موسى فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ... «1» .
وموسى- عليه السلام- هو ابن عمران، بن يصهر، بن ماهيث ... وينتهى نسبه إلى لاوى بن يعقوب عليه السلام.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 83.(7/515)
وكانت ولادة موسى- عليه السلام- في حوالى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
والمراد بالآيات في قوله: بِآياتِنا الآيات التسع التي أيده الله تعالى بها قال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ... «1» .
وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والجدب- أى في بواديهم، والنقص من الثمرات- أى في مزارعهم.
قال- تعالى-: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ «2» .
وقال- تعالى-: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ «3» .
وقال- تعالى-: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ «4» .
ومنهم من يرى أنه يصح أن يراد بالآيات هنا آيات التوراة التي أعطاها الله- تعالى- لموسى- عليه السلام-.
قال الآلوسى ما ملخصه: «قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أى: ملتبسا بها.
وهي كما أخرج ابن جرير وغيره، عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير، الآيات التسع التي أجراها الله على يده- عليه السلام- وقيل: يجوز أن يراد بها آيات التوراة» «5» .
ويبدو لنا أنه لا مانع من حمل الآيات هنا على ما يشمل الآيات التسع، وآيات التوراة، فالكل كان لتأييد موسى- عليه السلام- في دعوته.
و «أن» في قوله أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ تفسيرية بمعنى أى: لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه.
والمراد بقومه: من أرسل لهدايتهم وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وهم: بنو إسرائيل وفرعون وأتباعه.
وقيل: المراد بقومه: بنو إسرائيل خاصة، ولا نرى وجها لهذا التخصيص، لأن رسالة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 101.
(2) سورة الأعراف الآيتان 107، 108.
(3) سورة الأعراف الآية 130.
(4) سورة الأعراف الآية 133.
(5) تفسير الآلوسى ج 12 ص 168.(7/516)
موسى- عليه السلام- كانت لهم ولفرعون وقومه.
والمعنى: وكما أرسلناك يا محمد لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، أرسلنا من قبلك أخاك موسى إلى قومه لكي يخرجهم- أيضا- من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. فالغاية التي من أجلها أرسلت- أيها الرسول الكريم- هي الغاية التي من أجلها أرسل كل نبي قبلك، وهي دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وخص- سبحانه- موسى بالذكر من بين سائر الرسل. لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة الاسلامية.
وأكد- سبحانه- الإخبار عن إرسال موسى بلام القسم وحرف التحقيق قد، لتنزيل المنكرين لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى- عليه السلام- وقوله- تعالى-: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ معطوف على قوله أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ.
والتذكير: إزالة نسيان الشيء، وعدى بالباء لتضمينه معنى الإنذار والوعظ: أى ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.
ومن المفسرين من يرى أن المراد بأيام الله: نعمه وآلاؤه.
قال ابن كثير: قوله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أى: بأياديه ونعمه عليهم، في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم بالغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى» «1» .
ومنهم من يرى أن المراد بها، نقمه وبأساؤه.
قال صاحب الكشاف: قوله: «وذكرهم بأيام الله» أى: وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم، كما وقع على قوم نوح وعاد وثمود، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذي قار، ويوم الفجار، وهو الظاهر» «2» .
ومنهم من يرى أن المراد بها ما يشمل أيام النعمة، وأيام النقمة.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «أما قوله «وذكرهم بأيام الله» فاعلم أنه- تعالى- أمر موسى في هذا المقام بشيئين، أحدهما: أن يخرجهم من الظلمات إلى النور. والثاني: أن يذكرهم بأيام الله.
ويعبر عن الأيام بالوقائع العظيمة التي وقعت فيها ... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 168.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 367.(7/517)
فالمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فالترغيب والوعد، أن يذكرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل ... والترهيب والوعيد. أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه، ممن كذب الرسل من الأمم السالفة ...
ثم قال: واعلم أن أيام الله في حق موسى- عليه السلام- منها ما كان أيام المحنة والبلاء، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون، ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى عليهم ... » «1» .
وقال الآلوسى: «قوله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أى: بنعمائه وبلائه، كما روى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- واختاره الطبري، لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتى من الكلام» «2» .
وما ذهب إليه الإمامان الرازي والآلوسي، هو الذي تسكن إليه النفس، لأن الأيام كلها وإن كانت لله، إلا أن المراد بها هنا أيام معينة، وهي التي برزت فيها السراء أو الضراء بروزا ظاهرا، كانت له آثاره على الناس الذين عاشوا في تلك الأيام.
وبنو إسرائيل- على سبيل المثال- مرت عليهم في تاريخهم الطويل، أيام غمروا فيها بالنعم، وأيام أصيبوا فيها بالنقم.
فالمعنى: ذكر يا موسى قومك بنعم الله لمن آمن وشكر، وبنقمه على من جحد وكفر، لعل هذا التذكير يجعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتبعونك فيما تدعوهم إليه.
واسم الإشارة في قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يعود على التذكير بأيام الله.
والصبار: الكثير الصبر على البلاء، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه الشرع فعلا أو تركا. يقال: صبره عن كذا يصبره إذا حبسه.
والشكور: الكثير الشكر لله- تعالى- على نعمه، والشكر: عرفان الإحسان ونشره والتحدث به، وأصله من شكرت الناقة- كفرح- إذا امتلأ ضرعها باللبن، ومنه أشكر الضرع إذا امتلأ باللبن.
أى: إن في ذلك التذكير بنعم الله ونقمه، لآيات واضحات، ودلائل بينات على وحدانية
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 84.
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 168.(7/518)
الله- تعالى- وقدرته وعلمه، وحكمته، لكل إنسان كثير الصبر على البلاء، وكثير الشكر على النعماء.
وتخصيص الآيات بالصبار والشكور لأنهما هما المنتفعان بها وبما تدل عليه من دلائل على وحدانية الله وقدرته، لا لأنها خافية على غيرهما، فإن الدلائل على ذلك واضحة لجميع الناس.
وجمع- سبحانه- بينهما، للإشارة إلى أن المؤمن الصادق لا يخلو حاله عن هذين الأمرين ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له» «1» .
وقدم- سبحانه- صفة الصبر على صفة الشكر، لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضى للشكر، أو لأن الصبر من قبيل الترك، والتخلية مقدمة على التحلية.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن موسى- عليه السلام- قد امتثل أمر ربه فقال:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ...
و «إذ» ظرف لما مضى من الزمان، وهو متعلق بمحذوف تقديره اذكر.
والمراد بقوله: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: تنبهوا بعقولكم وقلوبكم لتلك المنن التي امتن الله بها عليكم، وقوموا بحقوقها، وأكثروا من الحديث عنها بألسنتكم. فإن التحدث بنعم الله فيه إغراء بشكرها.
«آل فرعون» حاشيته وخاصته من قومه. وفرعون: لقب لملك مصر في ذلك الوقت، كما يقال لملك الروم قيصر ...
ويسومونكم من السوم وهو مطلق الذهاب أو الذهاب في ابتغاء الشيء، يقال: سامت الإبل فهي سائمة. أى: ذهبت في المرعى، وسام السلعة: إذا طلبها وابتغاها.
وسامه خسفا، إذا أذله واحتقره وكلفه فوق طاقته.
وسُوءَ الْعَذابِ أشده. والسوء- بالضم- كل ما يدخل الحزن والغم على نفس الإنسان. وهو في الأصل مصدر، ويؤنث بالألف فيقال السوأى.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 298.(7/519)
وقوله وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ من الاستحياء بمعنى الاستبقاء، يقال: استحيا فلان فلانا أى: استبقاه وأصله طلب له الحياة والبقاء.
والمعنى: واذكر- أيها الرسول الكريم- أو أيها المخاطب وقت أن قال موسى- عليه السلام- لقومه على سبيل الإرشاد والتوجيه إلى الخير: يا قوم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أى: داوموا على شكر الله، فقد أسبغ عليكم نعما كثيرة من أبرزها أنه- سبحانه- أنجاكم من آل فرعون الذين كانوا يصبون عليكم أشد العذاب وأفظعه، وكانوا يذبحون أبناءكم الصغار، ويستبقون نساءكم ...
وجعل- سبحانه- النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه، مع أنه الآمر بتعذيب بنى إسرائيل للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا في إذاقتهم سوء العذاب.
وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل، لأن هذا الإبقاء عليهن كان المقصود منه الاعتداء عليهن، واستعمالهن في الخدمة بالاسترقاق، فبقاؤهن بعد فقد الذكور بقاء ذليل، وعذاب أليم، تأباه النفوس الكريمة.
قال الآلوسى: قوله: وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أى: ويبقونهن في الحياة مع الذل. ولذلك عد من جملة البلاء، أو لأن إبقاءهن دون البنين رزية في ذاته كما قيل:
ومن أعظم الرزء فيما أرى ... بقاء البنات وموت البنينا «1»
وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء هنا: الأطفال الصغار، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك، ولأن قتل جميع الرجال لا يفيدهم حيث إن فرعون وآله، كانوا يستعملونهم في الأعمال الشاقة والحقيرة، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال، لما قامت أم موسى بإلقائه في البحر وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح.
وقال- سبحانه- هنا يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ لأن المقصود هنا تعداد المحن التي حلت ببني إسرائيل، فكان المراد بجملة يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ نوعا منه، وكان المراد بجملة وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ نوعا آخر منه، لذا وجب العطف، لأن الجملة الثانية ليست مفسرة للأولى، وإنما هي تمثل نوعا آخر من العذاب الذي حل ببني إسرائيل.
بخلاف قوله- تعالى- في سورة البقرة يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 170. [.....](7/520)
بدون واو العطف. لأن الجملة الثانية بيان وتفسير للجملة الأولى. فيكون المراد من سوء العذاب في سورة البقرة تذبيح الأبناء واستحياء النساء.
واسم الإشارة في قوله: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ يعود إلى المذكور من النعم والنقم، والبلاء: الامتحان والاختبار، ويكون في الخير والشر. قال- تعالى- وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً.
أى: وفي ذلكم العذاب وفي النجاة منه امتحان عظيم لكم من ربكم بالسراء لتشكروا وبالضراء لتصبروا، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى الشقاء والهوان.
ثم حكى- سبحانه- أن موسى- عليه السلام- قد أرشد قومه إلى سنة من سنن الله التي لا تتخلف فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ...
وقوله: «تأذن» بمعنى آذن أى أعلم، يقال: آذن الأمر وبالأمر أى: أعلمه، إلا أن صيغة التفعل تفيد المبالغة في الإعلام، فيكون معنى «تأذن» : أعلم إعلاما واضحا بليغا لا التباس معه ولا شبهة.
واللام في قوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ موطئة للقسم. وحقيقة الشكر: الاعتراف بنعم الله- تعالى- واستعمالها في مواضعها التي أرشدت الشريعة إليها.
وقوله: «لأزيدنكم» ساد مسد جوابي القسم والشرط.
والمراد بالكفر في قوله: «ولئن كفرتم» كفر النعمة وجحودها، وعدم نسبتها إلى واهبها الحقيقي وهو الله- تعالى- كما قال قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي وعدم استعمالها فيما خلقت له، إلى غير ذلك من وجوه الانحراف بها عن الحق.
وجملة: إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ دليل على الجواب المحذوف لقوله وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إذ التقدير: ولئن كفرتم لأعذبنكم، إن عذابي لشديد.
قال الجمل: «وإنما حذف هنا وصرح به في جانب الوعد، لأن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد» «1» .
والمعنى: واذكر أيها المخاطب وقت أن قال موسى لقومه: يا قوم إن ربكم قد أعلمكم إعلاما واضحا بليغا مؤكدا بأنكم إن شكرتموه على نعمه، زادكم من عطائه وخيره ومننه، وإن
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 515.(7/521)
جحدتم نعمه وغمطتموها واستعملتموها في غير ما يرضيه، محقها من بين أيديكم، فإنه- سبحانه- عذابه شديد، وعقابه أليم.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث الموجبة للشكر، والمحذرة من الجحود فقال:
وقد جاء في الحديث الشريف: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» .
وروى الإمام أحمد عن أنس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها- أو وحش بها أى: رماها- قال: وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقال السائل: سبحان الله!! تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للجارية: اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها «1» .
ثم بين- سبحانه- أن موسى قد أخبر قومه أن ضرر كفرهم إنما يعود عليهم، لأن الله- تعالى- غنى عن العالمين فقال- تعالى-: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ.
أى: وقال موسى- عليه السلام- لقومه: إن تجحدوا نعم الله أنتم ومن في الأرض جميعا من الخلائق، فلن تضروا الله شيئا، وإنما ضرر ذلك يعود على الجاحد لنعمه، والمنحرف عن طريقه، فإن الله- تعالى- لغنى عن شكركم وشكرهم، مستحق للحمد من جميع المخلوقين طوعا وكرها.
ويبدو من سياق الآية الكريمة أن موسى- عليه السلام- إنما قال لقومه ذلك، بعد أن شاهد منهم علامات الإصرار على الكفر والفساد، وترجح لديه أنهم قوم لا ينفعهم الترغيب ولا التعريض بالترهيب، ولمس منهم أنهم يمنون عليه أو على الله- تعالى- بطاعاتهم فأراد بهذا القول أن يزجرهم عن الإدلال بإيمانهم، والمن بطاعتهم.
فالغرض الذي سيقت له الآية إنما هو بيان أن منفعة الطاعة والشكر والإيمان إنما تعود على الطائعين الشاكرين المؤمنين، وأن مضرة الجحود والكفران إنما تعود على الجاحدين الكافرين.
أما الله- تعالى- فلن تنفعه طاعة المطيع، ولن تضره معصية العاصي.
ففي الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبى ذر الغفاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه- عز وجل- أنه قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 299.(7/522)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» «1» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد زخرت بالتوجيهات القرآنية الحكيمة، التي ساقها الله- تعالى- على لسان موسى- عليه السلام- وهو يعظ قومه، ويذكرهم بأيام الله، وبسننه في خلقه، وبغناه عنهم ...
ثم حكى- سبحانه- جانبا من أحوال بعض الرسل مع أقوامهم، ومن المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم فقال- تعالى-:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
__________
(1) صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم.(7/523)
وقوله- سبحانه-: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ....
يرى بعض المفسرين أنه من تتمة كلام موسى- عليه السلام- فيكون المعنى:
أن موسى- عليه السلام- بعد أن ذكر قومه بأيام الله- تعالى-، وبنعمه عليهم، وبسننه- سبحانه- في خلقه ...
بعد كل ذلك شرع في تذكيرهم وتخويفهم عن طريق ما حل بالمكذبين من قبلهم، فقال لهم- كما حكى القرآن عنه-: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ....
ومنهم من يرى أن الآية الكريمة كلام مستأنف، والخطاب فيه لأمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى: أن الله- تعالى- بعد أن بين للناس أنه قد أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وبين- سبحانه- أن له ما في السموات وما في الأرض، وهدد الكافرين بالعذاب الشديد، وحكى ما قاله موسى لقومه ...
بعد كل ذلك وجه- سبحانه- الخطاب إلى مشركي مكة وإلى كل من كان على شاكلتهم فقال: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ....
قال الفخر الرازي ما ملخصه: «يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه، والمقصود منه أنه- عليه السلام- كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم.
ويجوز أن يكون مخاطبة من الله- تعالى- على لسان موسى لقومه، يذكرهم أمر القرون الأولى. والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا المقصود حاصل على(7/524)
التقديرين، إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم «1» .
ومع أننا نؤيد الإمام الرازي في أن المقصود إنما حصول العبرة بأحوال المتقدمين إلا أننا نميل مع الأكثرين إلى الرأى الثاني، لأن قوم الرسول صلى الله عليه وسلم هم المقصودون قصدا أوليا بالخطاب القرآنى، ولأن الإمام ابن كثير- رحمه الله- يرى أنه لم يرد ذكر في التوراة لقوم عاد وثمود، فقد قال:
قال ابن جرير: «هذا من تمام قول موسى لقومه ... وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله- تعالى- لهذه الأمة، فإنه قد قيل إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصه عليهم، فلا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة «2» .
والاستفهام في قوله أَلَمْ يَأْتِكُمْ ... للتقرير لأنهم قد بلغتهم أخبارهم، فقوم نوح بلغتهم أخبارهم بسبب خبر الطوفان الذي كان مشهورا بينهم، وقوم عاد وثمود بلغتهم أخبارهم لأنهم من العرب، ومساكنهم في بلادهم، وهم يمرون على ديار قوم صالح في أسفارهم إلى بلاد الشام للتجارة. والمراد بالذين من بعدهم: أولئك الأقوام الذين جاءوا من بعد قوم نوح وعاد وثمود، كقوم إبراهيم وقم لوط وغيرهم.
وقوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أى: لا يعلم عدد الأقوام الذين جاءوا بعد قوم نوح وعاد وثمود ولا يعلم ذواتهم وأحوالهم إلا الله تعالى.
وقوله وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مبتدأ، وقوله لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ خبره، والجملة اعتراض بين المفسر- بفتح السين- وهو نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وتفسيره وهو جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ.
والمعنى: لقد علمتم يا أهل مكة ما حل بقوم نوح وعاد وثمود، كما علمتم ما حل بالمكذبين من بعدهم كقوم لوط وقوم شعيب، وكغيرهم ممن لا يعلم أحوالهم وعددهم إلا الله- تعالى- وما دام الأمر كذلك فاعتبروا واتعظوا واتبعوا هذا الرسول الكريم الذي جاء لسعادتكم، لكي تنجوا من العذاب الأليم الذي حل بالظالمين من قبلكم.
وجملة جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ مستأنفة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ما قصة هؤلاء الأقوام وما خبرهم؟
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 88 طبعة دار الكتب العلمية- طهران.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 400.(7/525)
فكان الجواب: جاء كل رسول إلى قومه بالحجج الواضحات، وبالمعجزات الظاهرات، الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
وقوله فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ....
بيان لموقف الأقوام المكذبين من رسلهم الذين أرسلهم الله لهدايتهم.
والضمائر في «ردوا» و «أيديهم» و «أفواههم» تعود على الأقوام الذين جاءتهم رسلهم بالبينات. وهذه الجملة الكريمة ذكر المفسرون في معناها وجوها متعددة أوصلها بعضهم إلى عشرة أقوال:
منها: أن الكفار وضعوا أناملهم في أفواههم فعضوها غيظا وبغضا مما جاء به الرسل، وقالوا لهم بغضب وضجر: إنا كفرنا بما أرسلتم به وبما جئتمونا به من معجزات، فاغربوا عن وجوهنا، واتركونا وشأننا.
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا الوجه الإمام ابن جرير، فقد قال: «وقوله: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ... اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك، فعضوا على أصابعهم تغيظا عليهم في دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه ... روى ذلك عن ابن مسعود وغيره.
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال الأخرى: وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية، القول الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود أنهم ردوا أيديهم في أفواههم، فعضوا عليها غيظا على الرسل، كما وصف الله عز وجل به إخوانهم من المنافقين فقال:
وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فهذا هو الكلام المعروف، والمعنى المفهوم من رد الأيدى إلى الأفواه «1» .
ومنها: أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواههم إشارة منهم إلى أنفسهم وإلى ما يصدر عنها، وقالوا للرسل على سبيل التحدي والتكذيب. «إنا كفرنا بما أرسلتم به» أى: لا جواب لكم عندنا سوى ما قلناه لكم بألسنتنا هذه.
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا القول الإمام الآلوسى، فقد صدر الأقوال التي ذكرها به، فقال ما ملخصه: قوله فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أى: أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به، وقالوا لهم إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أى: على زعمكم، وهي البينات التي
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 13 ص 127.(7/526)
أظهروها حجة على صحة رسالتهم، ومرادهم بالكفر بها: الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم ...
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال: والذي يطابق المقام، وتشهد له البلاغة: هو الوجه الأول، ونص غير واحد على أنه الوجه القوى، لأنهم حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار، حيث جمعوا في الإنكارين: الفعل والقول، ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يتمهلوا، بل عقدوا دعوتهم بالتكذيب ... » «1» .
ومنها: أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم، وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا.
وقد رجح هذا الوجه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فقال: «وهذا التركيب لا أعهد مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن: ومعنى فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ.
يحتمل عدة وجوه أنهاها في الكشاف إلى سبعة، وفي بعضها بعد، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل، كراهية أن تظهر دواخل أفواههم، وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل «2» .
ومنها: أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم، لم يردوا عليهم، بل تركوهم إهمالا لشأنهم.
وقد رجح الشوكانى هذا الاتجاه فقال ما ملخصه: «وقال أبو عبيدة- ونعم ما قال- هو ضرب مثل. أى: لم يؤمنوا ولم يجيبوا. والعرب تقول الرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت:
قد رد يده في فيه. وهكذا قال الأخفش، واعترض على ذلك القتيبي فقال: لم يسمع أحد من العرب يقول: رد يده في فيه، إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى عضوا على الأيدى حنقا وغيظا ...
فإن صح ما ذكره أبو عبيدة والأخفش فتفسير الآية به أقرب ... «3» .
وهذه الأقوال جميعها وإن كانت تتفق في أن الآية الكريمة، قد أخبرت بأبلغ عبارة عما قابل به الأقوام المكذبون رسلهم من سوء أدب ...
إلا أننا نميل إلى ما ذهب إليه الإمام ابن جرير، لأنه أظهر الأقوال في معناها، وقد استشهد له بعضهم بأشعار العرب، ومنها قول الشاعر:
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 173.
(2) تفسير التحرير والتنوير ج 13 ص 196.
(3) راجع تفسير الشوكانى ج 3 ص 97 ففيه ما يقرب من عشرة أقوال في معنى الآية.(7/527)
ترون في فيه غش الحسو ... د حتى يعض على الأكفا
يعنى أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه «1» .
وقوله- سبحانه- وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ معطوف على قوله إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ.
ومريب: اسم فاعل من أراب. تقول: أربت فلانا فأنا أريبه، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، فمعنى مريب: موقع في الريبة أى: في القلق والاضطراب.
أى: قال المكذبون لرسلهم إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والبينات.
وإنا لفي شك كبير موقع في الريبة مما تدعوننا إليه من الإيمان بوحدانية الله، وبإخلاص العبادة له ...
قال الجمل ما ملخصه: «فإن قيل: إنهم أكدوا كفرهم بما أرسل به الرسل.
ثم ذكروا بعد ذلك أنهم شاكون مرتابون في صحة قولهم فكيف ذلك؟
فالجواب: كأنهم قالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به أيها الرسل فإن لم نكن كذلك، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم.
أو يقال: المراد بقولهم «إنا كفرنا بما أرسلتم به» أى بالمعجزات والبينات، وبقولهم:
وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ وهو الإيمان والتوحيد.
أو يقال: إنهم كانوا فرقتين إحداهما جزمت بالكفر، والأخرى شكت ... «2» .
ثم بين- سبحانه- ما رد به الرسل على المكذبين من أقوامهم فقال: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى....
والاستفهام في قوله أَفِي اللَّهِ شَكٌّ للتوبيخ والإنكار، ومحل الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله- تعالى- وفي وحدانيته.
وقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الفطر بمعنى الخلق والإبداع من غير سبق مثال وأصله: الشق وفصل شيء عن شيء، ومنه فطر ناب البعير أى: طلع وظهر، واستعمل في
__________
(1) تفسير القرطبي ج 9 ص 346.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 516.(7/528)
الإيجاد والإبداع والخلق لاقتضائه التركيب الذي سبيله الشق والتأليف، أو لما فيه من الإخراج من العدم إلى الوجود.
والمعنى: قال الرسل لأقوامهم على سبيل الإنكار والتعجب من أقوالهم الباطلة: أفي وجود الله- تعالى- وفي وجوب إخلاص العبادة له شك، مع أنه- سبحانه- هو فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى خالقهما ومبدعهما ومبدع ما فيهما على أحكم نظام، وعلى غير مثال سابق ... وهو- سبحانه- فضلا منه وكرما «يدعوكم» إلى الإيمان بما جئناكم به من لدنه «ليغفر لكم» بسبب هذا الإيمان «من ذنوبكم ويؤخركم» في هذه الدنيا «إلى أجل مسمى» أى: إلى وقت معلوم عنده تنتهي بانتهائه أعماركم، دون أن يعاجلكم خلال حياتكم بعذاب الاستئصال «رحمة بكم» وأملا في هدايتكم.
فأنت ترى أن الرسل الكرام قد أنكروا على أقوامهم أن يصل بهم انطماس البصيرة إلى الدرجة التي تجعلهم ينكرون وجود الله مع أن الفطر شاهدة بوجوده، وينكرون وحدانيته مع أنه وحده الخالق لكل شيء، ويشركون معه في العبادة آلهة أخرى، مع أن هذه الآلهة لا تضر ولا تنفع.
وجملة فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جيء بها كدليل على نفى الشك في وجوده- سبحانه- وفي وجوب إخلاص العبادة له، لأن وجودهما على هذا النسق البديع يدل دلالة قاطعة على أن لهما خالقا قادرا حكيما، لاستحالة صدور تلك المخلوقات من غير فاعل مختار.
وجملة «يدعوكم ... » حال من اسم الجلالة، واللام في قوله «ليغفر لكم من ذنوبكم» متعلقة بالدعاء.
أى: يدعوكم إلى الإيمان بنا لكي يغفر لكم.
قال الشوكانى ما ملخصه: «ومن» في قوله «من ذنوبكم» قال أبو عبيدة: إنها زائدة، ووجه ذلك قوله- تعالى- في موضع آخر: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وقال سيبويه:
هي للتبعيض، ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع، وقيل التبعيض على حقيقته ولا يلزم من غفران الذنوب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غفران جميعها لغيرهم ...
وقيل هي للبدل، أى: لتكون المغفرة بدلا من الذنوب ... «1» .
وقال الجمل: «ويحتمل أن يضمن «ويغفر» معنى يخلص أى: يخلصكم من ذنوبكم،
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 98.(7/529)
ويكون مقتضاه غفران جميع الذنوب، وهو أولى من دعوى زيادتها» «1» .
وقوله- سبحانه- قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حكاية لرد آخر من الردود السيئة التي قابل بها المكذبون رسلهم.
أى: قال الظالمون لرسلهم الذين جاءوا لهدايتهم، ما أنتم إلا بشر مثلنا في الهيئة والصورة والمأكل والمشرب، تريدون بما جئتمونا به أن تصرفونا وتمنعونا عن عبادة الآلهة التي ورثنا عبادتها عن آبائنا ... فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أى بحجة ظاهرة تدل على صدقكم وتتسلط هذه الحجة بقوتها على نفوسنا وتجذبها إلى اليقين، من السلاطة وهي التمكن من القهر.
وكأن هؤلاء الظالمين بقولهم هذا، يرون أن الرسل لا يصح أن يكونوا من البشر، وإنما يكونون من الملائكة.
وكأن ما أتاهم به الرسل من حجج باهرة تدل على صدقهم، ليس كافيا في زعم هؤلاء المكذبين للإيمان بهم، بل عليهم أن يأتوهم بحجج محسوسة أخرى، وهكذا الجحود العقلي، والانطماس النفسي يحمل أصحابه على قلب الحقائق، وإيثار طريق الضلالة على طريق الهداية.
وهنا يحكى القرآن أن الرسل- عليهم السلام- قد قابلوا هذا السفه من أقوالهم بالمنطق الحكيم، وبالأسلوب المهذب فيقول: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ...
أى: قال الرسل لمكذبيهم على سبيل الإرشاد والتنبيه: نحن نوافقكم كل الموافقة على أننا بشر مثلكم كما قلتم، ولكن هذه المماثلة بيننا وبينكم في البشرية، لا تمنع من أن يتفضل الله على من يشاء التفضل عليه من عباده، بأن يمنحه النبوة أو غيرها من نعمه التي لا تحصى.
فأنت ترى أن الرسل- عليهم السلام- قد سلموا للمكذبين دعواهم المماثلة في البشرية، في أول الأمر، ثم بعد ذلك بينوا لهم جهلهم وسوء تفكيرهم، بأن أفهموهم بطريق الاستدراك، أن المشاركة في الجنس لا تمنع التفاضل، فالبشر كلهم عباد الله، ولكنه- سبحانه- يمن على بعضهم بنعم لم يعطها لسواهم..
فالمقصود بالاستدراك دفع ما توهمه المكذبون، من كون المماثلة في البشرية تمنع اختصاص بعض البشر بالنبوة.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 517.(7/530)
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مجاراة لأول مقالتهم إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كما تقولون، وهذا كالقول بالموجب، لأن فيه إطماعا في الموافقة، ثم كروا على قولهم بالإبطال فقالوا: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
أى: إنما اختصنا الله- تعالى- بالرسالة بفضل منه وامتنان، والبشرية غير مانعة لمشيئته- جل وعلا-. وفيه دليل على أن الرسالة عطائية، وأن ترجيح بعض الجائز على بعض بمشيئته- تعالى- ولا يخفى ما في العدول عن «ولكن الله منّ علينا» ، إلى ما في النظم الجليل منهم- عليهم السلام- «1» .
وقوله- سبحانه-: وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ حكاية لرد الرسل على قول المكذبين لهم فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
أى: وقال الرسل للمكذبين من أقوامهم- أيضا-: وما صح وما استقام لنا نحن الرسل أن نأتيكم- أيها الضالون- بحجة من الحجج، أو بخارق من الخوارق التي تقترحونها علينا، إلا بإذن الله وإرادته وأمره لنا بالإتيان بما اقترحتم، فنحن عباده ولا نتصرف إلا بإذنه.
ثم أكد الرسل تمسكهم بالمضي في دعوتهم فقالوا- كما حكى القرآن عنهم- وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
والتوكل على الله معناه: الاعتماد عليه، وتفويض الأمور إليه، مع مباشرة الأسباب التي أمر- سبحانه- بمباشرتها.
أى: وعلى الله وحده دون أحد سواه، فليتوكل المؤمنون، الصادقون، دون أن يعبئوا بعنادكم ولجاجكم، ونحن الرسل على رأس هؤلاء المؤمنين الصادقين.
فالجملة الكريمة أمر من الرسل لمن آمن من قومهم بالتوكل على الله وحده، وقد قصدوا بهذا الأمر أنفسهم قصدا أوليا، بدليل قولهم بعد ذلك- كما حكى القرآن عنهم- وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا.
أى: وما عذرنا إن تركنا التوكل على الله- تعالى- والحال أنه- عز وجل- قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، فقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها، وهي طريق إخلاص العبادة له والاعتماد عليه وحده في كل شئوننا.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 177. [.....](7/531)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
فالجملة الكريمة تدل على اطمئنانهم إلى سلامة مواقفهم في تفويض أمورهم إلى الله، وإلى رعاية الله- تعالى- حيث هداهم إلى طريق النجاة والسعادة.
ثم أضافوا إلى ذلك تيئيس أعدائهم من التأثر بأذاهم، فقالوا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا.
أى: والله لنصبرن صبرا جميلا في حاضرنا ومستقبلنا- كما صبرنا في ماضينا- على إيذائكم لنا. والذي من مظاهره: عصيانكم لأقوالنا، ونفوركم من نصحنا، واستهزاؤكم بنا، ومحاربتكم لنا..
ثم ختموا أقوالهم بتأكيد تصميمهم على الثبات في وجه الباطل فقالوا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.
أى: وعلى الله وحده دون أحد سواه، فليثبت المتوكلون على توكلهم. وليفوضوا أمورهم إلى خالقهم، فهو القاهر فوق عباده، وهو الذي لا يعجزه شيء.
وتقديم الجار والمجرور في الجملة الكريمة وفيما يشبهها مؤذن بالحصر، وأن هؤلاء الرسل الكرام لا يرجون نصرا من غير الله- تعالى-.
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة، قد حكت لنا بأسلوب مؤثر حكيم، جانبا من المحاورات التي دارت بين الرسل وبين مكذبيهم، وبينت لنا كيف دافع الرسل عن عقيدتهم، وكيف ردوا على الأقوال السيئة، والأفعال القبيحة، التي واجههم بها المكذبون، وكيف أعلنوا في قوة وعزم وإصرار ثباتهم في وجوه أعدائهم، ومقابلتهم الأذى بالصبر الذي لا جزع معه، مهما صنع الأعداء في طريقهم من عقبات، ومهما أثاروا من أباطيل وشبهات ...
ثم حكت السورة بعد ذلك جانبا آخر من تلك المحاورات التي دارت بين الرسل وبين أعدائهم، وجانبا مما وعد الله به رسله- عليهم السلام- وجانبا من العذاب الذي أعده للظالمين فقال- تعالى-:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 17]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)(7/532)
فقوله- سبحانه-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ... حكاية لما هدد به رءوس الكفر رسلهم، بعد أن أفحمهم الرسل بالحجة البالغة، وبالمنطق الحكيم.
واللام في «لنخرجنكم» هي الموطئة للقسم. و «أو» للتخيير بين الأمرين.
أى: وقال الذين عتوا في الكفر- على سبيل التهديد- لرسلهم، الذين جاءوا لهدايتهم، والله لنخرجنكم- أيها الرسل- من أرضنا، أو لتعودن في ديننا وملتنا.
قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما حكى عن الأنبياء- عليهم السلام- أنهم قد اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه، والاعتماد على حفظه وحياطته، حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا للأنبياء والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا» .
والمعنى: ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا.
والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين. وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة «1» .
والتعبير بقوله- سبحانه- أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يفيد بظاهره أن الرسل كانوا على ملة الكافرين ثم تركوها، فإن العود معناه: الرجوع إلى الشيء بعد مفارقته. وهذا محال، فإن الأنبياء معصومون- حتى قبل النبوة- عن ارتكاب الكبائر، فضلا عن الشرك.
وقد أجيب عن ذلك بإجابات منها:
أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل، إلا أن المقصود به أتباعهم المؤمنون، الذين
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 99.(7/533)
كانوا قبل الإيمان بالرسل على دين أقوامهم، فكأنهم يقولون لهؤلاء الأتباع: لقد كنتم على ملتنا ثم تركتموها، فإما أن تعودوا إليها وإما أن تخرجوا من ديارنا، إلا أن رءوس الكفر وجهوا الخطاب إلى الرسل من باب التغليب.
ومنها: أن العود هنا بمعنى الصيرورة، إذ كثيرا ما يرد «عاد» بمعنى صار، فيعمل عمل كان، ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة، بل يستدعى الانتقال من حال سابقة إلى حال جديدة مستأنفة، فيكون المعنى: لنخرجنكم من أرضنا أو لتصيرن كفارا مثلنا.
ومنها: أن هذا القول من الكفار جار على توهمهم وظنهم، أن الرسل كانت قبل دعوى النبوة على ملتهم، لسكوتهم قبل البعثة عن الإنكار عليهم، فلهذا التوهم قالوا ما قالوا، وهم كاذبون فيما قالوه.
وشبيه بهذه الآية قول قوم شعيب- عليه السلام- له لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ... «1» .
وقول قوم لوط له أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ «2» .
وقوله- سبحانه-: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ... بشارة عظيمة من الله- تعالى- لرسله، ووعد لهم بالنصر على أعدائهم..
أى: فأوحى الله- تعالى- إلى الرسل- بعد أن قال لهم الكافرون- ما قالوا-:
أبشروا أيها الرسل لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ الذين هددوكم بالإخراج من الديار، أو بالعودة إلى ملتهم، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ- أيها الرسل- الْأَرْضَ أى أرضهم مِنْ بَعْدِهِمْ أى من بعد إهلاكهم واستئصال شأفتهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: «وأوحى هنا يحتمل أن يكون بمعنى فعل الإيحاء فلا مفعول له» .
وقوله لَنُهْلِكَنَّ على إضمار القول، أى: قائلا لنهلكن، ويحتمل أن يكون جاريا مجرى القول لكونه ضربا منه، وقوله لَنُهْلِكَنَّ مفعوله ...
وخص- سبحانه- الظالمين من الذين كفروا، لأنه من الجائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا تلك المقالة أناس معينون، فالتوعد لإهلاك من خلص للظلم» «3» .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 88.
(2) سورة النمل الآية 56.
(3) تفسير الآلوسى ج 13 ص 179.(7/534)
وأكد- سبحانه- إهلاك الظالمين وإسكان الرسل أرضهم، بلام القسم ونون التوكيد ...
زيادة في إدخال السرور على نفوس الرسل، وفي تثبيت قلوبهم على الحق، وردا على أولئك الظالمين الذين أقسموا بأن يخرجوا الرسل من ديارهم، أو يعودوا إلى ملتهم.
قال صاحب الكشاف: «والمراد بالأرض في قوله وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أرض الظالمين وديارهم، ونحوه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ...
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من آذى جاره ورثه الله داره» .
ثم قال: ولقد عاينت هذا في مدة قريبة، كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يترددون فيها، ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثتهم به، وسجدنا شكرا لله» «1» .
واسم الإشارة في قوله- سبحانه- ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ يعود إلى ما قضى الله به من إهلاك الظالمين، وتمكين الرسل وأتباعهم من أرضهم.
أى: ذلك الذي قضيت به كائن لمن خاف قيامي عليه، ومراقبتى له، ومكان وقوفه بين يدي للحساب، وخاف وعيدي بالعذاب لمن عصاني.
قال الجمل: «ومقامي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مقحم- وهو بعيد إذ الأسماء لا تقحم، أى ذلك لمن خافني- الثاني: أنه مصدر مضاف للفاعل.
قال الفراء: مقامي مصدر مضاف لفاعله: أى قيامي عليه بالحفظ. الثالث: أنه اسم مكان، قال الزجاج: مكان وقوفه بين يدي للحساب» «2» .
وقوله- سبحانه- وَاسْتَفْتَحُوا من الاستفتاح بمعنى الاستنصار، أى: طلب النصر من الله- تعالى- على الأعداء. والسين والتاء للطلب.
ومنه قوله- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ.. وقوله- تعالى- وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا....
أو يكون وَاسْتَفْتَحُوا من الفتاحة بمعنى الحكم والقضاء، أى: واستحكموا الله
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 371.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 518.(7/535)
- تعالى- وطلبوا منه القضاء والحكم، ومنه قوله- تعالى- رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ.
والجملة الكريمة معطوفة على فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، والضمير يعود إلى الرسل.
والمعنى: والتمس الرسل من خالقهم- عز وجل- أن ينصرهم على أعدائه وأعدائهم، وأن يحكم بحكمه العادل بينهم وبين هؤلاء المكذبين.
قالوا: ومما يؤيد ذلك قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وَاسْتَفْتَحُوا- بكسر التاء- أمرا للرسل.
ومنهم من يرى أن الضمير يعود للفريقين: الرسل ومكذبيهم. أى: أن كل فريق دعا الله أن ينصره على الفريق الآخر.
وقوله وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ بيان لنتيجة الاستفتاح. والجبار: الإنسان المتكبر المغرور المتعالي على غيره، المدعى لمنزلة أو لشيء ليس من حقه.
والعنيد: مأخوذ من العند- بفتح النون- بمعنى الميل. يقال: عند فلان عن الطريق- كنصر وضرب وكرم- عنودا، إذا مال عنها. وعند فلان عن الحق، إذا خالفه.
والجملة الكريمة معطوفة على محذوف، والتقدير: واستفتحوا فنصر الله- تعالى- رسله على أعدائهم، وخاب وخسر، كل متكبر متجبر معاند للحق.
قال ابن كثير: قوله: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أى: متجبر في نفسه معاند للحق، كما قال- تعالى- أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ
«1» .
وفي الحديث: «يؤتى بجهنم يوم القيامة، فتنادى الخلائق فتقول: إنى وكلت بكل جبار عنيد ... » «2» .
وقال- سبحانه- وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ولم يقل وخاب الذين كفروا كما هو مقتضى الظاهر من السياق، للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة معاندين للحق، وأن كل من كان كذلك فلا بد من أن تكون عاقبته الخيبة والخسران.
وقوله مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ صفة لجبار عنيد.
__________
(1) سورة ق الآيات من 24- 26.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 403.(7/536)
والمراد بقوله: مِنْ وَرائِهِ أى: من أمامه، أو من بعد هلاكه.
أى: من أمام خيبة هذا الجبار العنيد جهنم، تنتظر ليحل بها، بسبب كفره وظلمه.
قال صاحب أضواء البيان: قوله مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ... الوراء هنا بمعنى الأمام كما هو ظاهر، ومنه قوله- تعالى- وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أى: وكان أمامهم ملك.. ومنه قول الشاعر:
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
أى: والفلاة أماميا.
وقال بعضهم: قوله مِنْ وَرائِهِ أى من بعد هلاكه، ومنه قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
أى: وليس بعد الله للمرء مذهب، والأول هو الظاهر وهو الحق «1» .
وعلى أية حال فإن الجملة الكريمة تدل على أن جهنم تنتظر هذا الجبار العنيد، وتترصد له، وتتبعه حيث كان، بحيث لا يستطيع الفرار منها، أو الهرب عنها.
وجملة «ويسقى من ماء صديد» معطوفة على مقدر، أى: من ورائه جهنم يلقى فيها مذءوما مدحورا، ويسقى من ماء مخصوص ليس كالمياه المعهودة، هو الصديد، أى ما يسيل من أجساد أهل النار من دم مختلط بقيح، واشتقاقه من الصد، لأنه يصد الناظرين عن رؤيته. وهو بدل أو عطف بيان من ماء.
وقوله يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ... بيان لحالة هذا الجبار العنيد عند تعاطيه الصديد.
والتجرع: تكلف الجرع وهو بلع الماء، وفعله- كسمع ومنع-.
ويسيغه: من السوغ وهو انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول. يقال: ساغ الشراب سوغا وسواغا، إذا كان سهل المدخل.
أى: يتكلف بلع هذا الصديد مرة بعد أخرى لمرارته وقبحه، ولا يقارب أن يسيغه فضلا عن الإساغة. بل يغص به فيشربه بعد عناء ومشقة جرعة عقب جرعة» .
وقوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ معطوف على قوله يَتَجَرَّعُهُ لبيان حالة أخرى من أحوال شقائه وعذابه.
__________
(1) تفسير أضواء البيان ج 3 ص 106 للشيخ محمد أمين الشنقيطى.(7/537)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
أى: وتأتيه الأسباب المؤدية للموت والهلاك من كل جهة من الجهات، ومن كل موضع من مواضع بدنه، وما هو بميت فيستريح من هذا الشقاء والعذاب، ومن وراء كل ذلك عذاب غليظ أى: شاق شديد لا يقل في ألمه عما هو فيه من نكال.
وشبيه بهذه الجملة قوله- تعالى- وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ «1» .
وقوله- تعالى- وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى «2» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد صورت لنا سوء عاقبة المكذبين للحق تصويرا مؤثرا، تهتز له النفس، وتوجل منه القلوب.
ثم ضرب- سبحانه- مثلا لأعمال الكافرين في حبوطها وذهابها يوم القيامة، وساق الأدلة الدالة على قدرته القاهرة، وصور أحوال الكافرين يوم يقوم الناس لرب العالمين، وحكى ما يقوله الضعفاء للمستكبرين وما يقوله الشيطان لأتباعه في هذا اليوم العصيب، وما أعده الله للمؤمنين الصادقين في هذا اليوم فقال- تعالى-:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 23]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)
__________
(1) سورة فاطر الآية 36.
(2) سورة الأعلى الآيات 11- 13.(7/538)
قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة، بين في هذه الآية وهي قوله- تعالى- مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ.... أن أعمالهم بأسرها ضائعة باطلة، لا ينتفعون بشيء منها. وعند هذا يظهر كمال خسرانهم، لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعا باطلا» «1» .
والمثل: النظير والشبيه. ثم أطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه بمورده، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة، ثم استعير للصفة، أو الحال، أو القصة إذا كان لها شأن عجيب، وفيها غرابة.
والمراد بأعمال الذين كفروا في الآية الكريمة: ما كانوا يقومون به في الدنيا من أعمال حسنة
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 104.(7/539)
كإطعام الطعام، ومساعدة المحتاجين، وإكرام الضيف، إلى غير ذلك من الأعمال الطيبة.
والرماد: ما يتبقى من الشيء بعد احتراق أصله، كالمتبقى من الخشب أو الحطب بعد احتراقهما.
والعاصف: من العصف وهو اشتداد الريح، وقوة هبوبها.
قال الجمل: وقوله: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... فيه أوجه للإعراب: أحدها وهو مذهب سيبويه: أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ ... مستأنفة جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مثلهم..؟ فقيل: كيت وكيت.
والثاني: أن يكون «مثل» مبتدأ و «أعمالهم» مبتدأ ثان، و «كرماد» خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول ... » «1» .
والمعنى: حال أعمال الذين كفروا في حبوطها وذهابها وعدم انتفاعهم بشيء منها في الآخرة، كحال الرماد المكدس الذي أتت عليه الرياح العاصفة، فمحقته وبددته، ومزقته تمزيقا لا يرجى معه اجتماع.
فالآية الكريمة تشبيه بليغ لما يعمله الكافرون في الدنيا من أعمال البر والخير.
ووجه الشبه: الضياع والتفرق وعدم الانتفاع في كل، فكما أن الريح العاصف تجعل الرماد هباء منثورا، فكذلك أعمال الكافرين في الآخرة تصير هباء منثورا، لأنها أعمال بنيت على غير أساس من الإيمان وإخلاص العبادة لله- تعالى-.
ووصف- سبحانه- اليوم بأنه عاصف- مع أن العصف شدة الريح- للمبالغة في وصف زمانها- وهو اليوم- بذلك، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، مع أن الحر والبرد فيهما وليس منهما.
وقوله- سبحانه- لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ بيان للمقصود من التشبيه، وهو أن هؤلاء الكافرين، لا يقدرون يوم القيامة، على الانتفاع بشيء مما فعلوه في الدنيا من أفعال البر والخير، لأن كفرهم أحبطها فذهب سدى دون أن يستفيدوا منها ثوابا، أو تخفف عنهم عذابا.
قال الآلوسى: «وفي الصحيح عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت: يا رسول
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 520.(7/540)
الله. إن ابن جدعان في الجاهلية كان يصل الرحم، ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال:
«لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» «1» .
وقال الإمام ابن كثير ما ملخصه: «هذا مثل ضربه الله- تعالى- لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره، وكذبوا رسله، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح، فانهارت وعدموها وهم أحوج ما كانوا إليها ...
كما قال- تعالى- وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «2» .
وكما قال- تعالى-ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
«3» .
واسم الإشارة في قوله ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يعود إلى ما دل عليه التمثيل من بطلان أعمالهم، وذهاب أثرها.
أى: ذلك الحبوط لأعمالهم، وعدم انتفاعهم بشيء منها، هو الضلال البعيد.
أى: البالغ أقصى نهايته، والذي ينتهى بصاحبه إلى الهلاك والعذاب المهين.
ووصف- سبحانه- الضلال بالبعد، لأنه يؤدى إلى خسران لا يمكن تداركه، ولا يرجى الخلاص منه.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك، بعض مظاهر قدرته التي لا يعجزها شيء فقال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ «4» .
والخطاب في قوله أَلَمْ تَرَ ... لكل من يصلح له بدون تعيين. والاستفهام للتقرير.
والرؤية مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتفكير والتأمل في ملكوت السموات والأرض.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ ... هذا التعبير قد يذكر لمن تقدم علمه فيكون للتعجب، وقد يذكر لمن لا يكون كذلك، فيكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهر في ذلك حتى أجرى مجرى المثل في هذا الباب، بأن شبه من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 183. [.....]
(2) سورة الفرقان الآية 23.
(3) سورة آل عمران الآية 117.
(4) تفسير ابن كثير ج 4 ص 116.(7/541)
لا ينبغي أن يخفى عليه، وأنه ينبغي أن يتعجب منه، ثم أجرى الكلام معه، كما يجرى مع من رأى، قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب ... » «1» .
والمعنى ألم تعلم- أيها العاقل- أن الله- تعالى- خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. أى: خلقهما بالحكمة البالغة المنزهة عن العبث، وبالوجه الصحيح الذي تقتضيه إرادته، وهو- سبحانه- إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أى- يهلككم أيها الناس وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ سواكم، لأن القادر على خلق السموات والأرض وما فيهما من أجرام عظيمة، يكون على خلق غيرهما أقدر، كما قال- تعالى- لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ... «2» .
وقوله- سبحانه- وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ معطوف على ما قبله، ومؤكد لمضمونه. أى: إن يشأ- سبحانه- يهلككم- أيها الناس- ويأت بمخلوقين آخرين غيركم، وما ذلك الإذهاب بكم، والإتيان بغيركم بمتعذر على الله، أو بمتعاص عليه، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء، ولا يحول دون نفاذ قدرته حائل.
وشبيه بهذا قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ «3» .
وقوله- تعالى-: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «4» .
وقوله- تعالى-: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً «5» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك جانبا من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين الضعفاء والمستكبرين، بين الأتباع والمتبوعين ... فقال- تعالى-: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً، فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ....
وقوله وَبَرَزُوا من البروز بمعنى الظهور، مأخوذ من البراز وهو الفضاء الواسع، الذي يظهر فيه الناس بدون استتار. أى: وخرج الكافرون جميعا من قبورهم يوم القيامة،
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 160.
(2) سورة غافر الآية 57.
(3) سورة فاطر الآيات من 15- 17.
(4) سورة محمد الآية 38.
(5) سورة النساء الآية 133.(7/542)
وظهروا ظهورا لا خفاء معه، لكي يحاسبهم- سبحانه- على أعمالهم في الدنيا.
وقال- سبحانه- وَبَرَزُوا بلفظ الفعل الماضي مع أن الحديث عن يوم القيامة، للتنبيه على تحقق وقوع هذا الخروج، وأنه كائن لا محالة.
وعبر- سبحانه- بهذا التعبير، مع أنهم لا يخفون عليه سواء أبرزوا أم لم يبرزوا، لأنهم كانوا في الدنيا يستترون عن العيون عند اجتراحهم السيئات ويظنون أن ذلك يخفى على الله- عز وجل-.
ثم بين- سبحانه- ما يقوله الضعفاء للمستكبرين في هذا الموقف العصيب فقال:
فَقالَ الضُّعَفاءُ وهم العوام والأتباع الذين فقدوا نعمة التفكير، ونعمة حرية الإرادة، فهانوا وذلوا..
قال هؤلاء الضعفاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم السادة المتبوعون الذين كانوا يقودون أتباعهم إلى طريق الغي والضلال.
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ- أيها السادة- تَبَعاً جمع تابع كخادم وخدم.
أى: إنا كنا في الدنيا تابعين لكم، ومنقادين لأمركم، في تكذيب الرسل، وفي كل ما تريدونه منا.
والاستفهام في قوله- سبحانه- فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ للتقريع والتفجع.
ومغنون من الإغناء بمعنى الدفاع والنصرة.
قال الشوكانى: «يقال: أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع» «1» .
أى: فهل أنتم- أيها المستكبرون- دافعون عنا شيئا من عذاب الله النازل بنا، حتى ولو كان هذا الشيء المدفوع قليلا؟ إن كان في إمكانكم ذلك فأظهروه لنا، فقد كنتم في الدنيا سادتنا وكبراءنا، وكنتم تزعمون أنكم أصحاب الحظوة يوم القيامة.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: أى فرق بين «من» في «من عذاب الله» وبينه في «من شيء» ؟
قلت: الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء
__________
(1) تفسير الشوكانى ج 3 ص 3.(7/543)
الذي هو عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معا بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء، هو بعض عذاب الله؟ أى: بعض بعض عذاب الله» «1» .
ثم حكى- سبحانه- رد المستكبرين على المستضعفين فقال: قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ ...
أى: قال المستكبرون- بضيق وتحسر- في ردهم على المستضعفين: لو هدانا الله- تعالى- إلى الإيمان الموصل إلى النجاة من هذا العذاب الأليم «لهديناكم» إليه، ولكن ضللنا عنه وأضللناكم معنا، واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، ولو كنا نستطيع النفع لنفعنا أنفسنا.
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ.
والجزع: حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده لشدة اضطرابه وذهوله.
يقال: جزع فلان يجزع جزعا وجزوعا، إذا ضعف عن حمل ما نزل به ولم يجد صبرا.
والمحيص: المهرب والمنجى من العذاب. يقال: حاص فلان عن الشيء يحيص حيصا ومحيصا، إذا عدل عنه على جهة الهرب والفرار.
أى: مستو عندنا الجزع مما نحن فيه من عذاب، والصبر على ذلك، وليس لنا من مهرب أو منجى من هذا المصير الأليم.
فالآية الكريمة تحكى أقوال الضعفاء يوم القيامة، وهي أقوال يبدو فيها طابع الذلة والمهانة كما هو شأنهم في الدنيا، كما تحكى رد المستكبرين عليهم، وهو رد يبدو فيه التبرم والتفجع والتأنيب من طرف خفى لهؤلاء الضعفاء، والتسليم بالواقع الأليم الذي لا محيص لهم عنه.
قال الإمام ابن كثير: «قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالوا، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله- تعالى-، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله، فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: تعالوا، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر، تعالوا حتى نصبر، فصبروا صبرا لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك. فعند ذلك قالوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ «2» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة، فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 373.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 408.(7/544)
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ، إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ... والمراد بالشيطان هنا: إبليس- لعنه الله-.
قال الفخر الرازي: «وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان مفرد فيتناول الواحد، وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم، فحمل اللفظ عليه أولى. ولا سيما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم، يقول الكافر: قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا، ما هو إلا إبليس، فهو الذي أضلنا، فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول..» «1» .
والمراد بقوله- سبحانه- لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أى: حين تم الحساب، وعرف أهل الجنة ثوابهم، وعرف أهل النار مصيرهم، كل فريق في المكان الذي أعده الله تعالى له.
والمقصود من حكاية ما يقوله الشيطان للكافرين في هذا اليوم. تحذير المؤمنين من وسوسته وإغوائه، حتى ينجوا من العذاب الذي يحل بأتباعه يوم القيامة.
والمراد بالحق في قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ: الصدق والوفاء بما وعدكم به على ألسنة رسله.
والمراد بالإخلاف في قوله وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الكذب والغدر وعدم الوفاء بما مناهم به، من أمانى باطلة.
قال- تعالى-: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «2» . وإضافة الوعد إلى الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أى إن الله- تعالى- وعدكم الوعد الحق الذي لا نقض له، وهو أن الجزاء حق، والبعث حق، والجنة حق، والنار حق، ووعدتكم وعدا باطلا بأنه لا بعث ولا حساب.. فأخلفتكم ما وعدتكم به، وظهر كذبى فيما قلته لكم. ثم أضاف إلى ذلك قوله- كما حكى القرآن عنه-: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ...
والسلطان: اسم مصدر بمعنى التسلط والقهر والغلبة.
أى: وما كان لي فيما وعدتكم به من تسلط عليكم، أو إجبار لكم، لكني دعوتكم إلى ما دعوتكم إليه من باطل وغواية، فانقدتم لدعوتى واستجبتم لوسوستى عن طواعية واختيار.
فالاستثناء في قوله «إلا أن دعوتكم» استثناء منقطع، لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله، وبعضهم يرى أن الاستثناء متصل.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 110
(2) سورة النساء الآية 120.(7/545)
قال الجمل: «وفي هذا الاستثناء وجهان: أظهرهما: أنه استثناء منقطع، لأن دعاءه ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة، والثاني: أنه متصل لأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه. فهو نوع من التسلط» «1» .
وقوله فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ زيادة في تأنيبهم وفي حسراتهم على انقيادهم له.
أى: فلا تلوموني بسبب وعودي إياكم. ولوموا أنفسكم، لأنكم تقبلتم هذه الوعود الكاذبة بدون تفكر أو تأمل، وأعرضتم عن الحق الواضح الذي جاءكم من عند ربكم، ومالك أمركم.
ثم ينفض يده منهم، ويخلى بينهم وبين مصيرهم السيئ فيقول: ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. أى: ما أنا بمغيثكم ومنقذكم مما أنتم فيه من عذاب، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه من عذاب- أيضا- فقد انقطعت بيننا الأواصر والصلات..
قال القرطبي ما ملخصه: «والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث لغيره ... قال أمية بن أبى الصلت:
ولا تجزعا إنى لكم غير مصرخ ... وليس لكم عندي غناء ولا نصر
ويقال: صرخ فلان أى استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة..
ومنه: استصرخني فلان فأصرخته، أى استغاث بي فأغثته.. «2» .
وجملة «إنى كفرت بما أشركتمون من قبل..» مستأنفة، لإظهار المزيد من التنصل والتبري من كل علاقة بينه وبينهم.
و «ما» في قوله «بما أشركتمون» الظاهر أنها مصدرية..
قال الآلوسى ما ملخصه: «وأراد بقوله إِنِّي كَفَرْتُ أى: إنى كفرت اليوم «بما أشركتمون من قبل» .
أى: من قبل هذا اليوم، يعنى في الدنيا و «ما» مصدرية و «من قبل» متعلق بأشركتمون.
والمعنى: إنى كفرت بإشراككم إياى لله- تعالى- في الطاعة، لأنهم كانوا يطيعون
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 522. [.....]
(2) تفسير القرطبي ج 9 ص 357.(7/546)
الشيطان فيما يزينه لهم من عبادة غير الله- تعالى-، ومن أفعال الشر..
ومراد اللعين: أنه إن كان إشراككم لي مع الله- تعالى-، هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم ... فإنى متبرئ من هذا الشرك، فلم يبق بيني وبينكم علاقة ... فالكلام محمول على إنشاء التبري منهم يوم القيامة..
ثم قال: وجوز غير واحد أن تكون «ما» موصولة بمعنى من، والعائد محذوف، و «من قبل» متعلق بكفرت. أى: إنى كفرت من قبل- حين أبيت السجود لآدم- بالذي أشركتمونيه. أى: جعلتموني شريكا له في الطاعة وهو الله- عز وجل- ...
والكلام على هذا إقرار من اللعين بقدم كفره، وبسبق خطيئته فلا يمكنه أن يقدم لهم عونا أو نصرا ... «1» .
وجملة «إن الظالمين لهم عذاب أليم» في موقع التعليل لما تقدم، والظاهر أنها ابتداء كلام من جهته- تعالى-: لبيان سوء عاقبة الظالمين.
ويجوز أن تكون من تتمة كلام إبليس- الذي حكاه القرآن عنه-، ويكون الغرض منها قطع أطماعهم في الإغاثة أو النصر، وتنبيه المؤمنين في كل زمان ومكان إلى عداوة الشيطان لهم وتحذيرهم من اتباع خطواته.
قال الشيخ الشوكانى- رحمه الله- ما ملخصه: «لقد قام الشيطان للكافرين في هذا اليوم مقاما يقصم ظهورهم، ويقطع قلوبهم، فأوضح لهم أولا: أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله- تعالى- وأنه أخلفهم ما وعدهم به ...
ثم أوضح لهم ثانيا: بأنهم قبلوا قوله بما لا يتفق مع العقل، لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قول غيره.
ثم أوضح لهم ثالثا: بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان، الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء.
ثم نعى عليهم رابعا: ما وقعوا فيه، ودفع لومهم له، وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم، لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل.
ثم أوضح لهم خامسا: بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة ... بل هو مثلهم في الوقوع في البلية..
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 189.(7/547)
ثم صرح لهم سادسا: بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له، وهو إشراكه مع الله- تعالى- فتضاعفت عليهم الحسرات، وتوالت عليهم المصائب.
وإذا كانت جملة «إن الظالمين لهم عذاب أليم» من تتمة كلامه- كما ذهب إليه البعض- فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به، فيكون قد أثبت لهم الظلم، وذكر لهم جزاءه» «1» .
وبعد هذا الحديث عن سوء عاقبة الكافرين.. بين- سبحانه- ما أعده للمؤمنين من ثواب جزيل، وأجر عظيم فقال- تعالى-:
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.
أى: وأدخل الله- تعالى- في هذا اليوم، وهو يوم القيامة، الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، وعملوا الأعمال الصالحة، أدخلهم- سبحانه- جنات تجرى من تحت ثمارها وأشجارها الأنهار، حالة كونهم خالدين فيها خلودا أبديا لا موت معه ولا تعب.
وجاء التعبير بصيغة الماضي لتحقيق الوقوع، وتعجيل البشارة، وقوله، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أى: بإرادته- سبحانه- وتوفيقه وهدايته لهم.
وقوله تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أى: تحيتهم في الجنة سلام لهم من خالقهم- عز وجل- ومن الملائكة، ومن بعضهم لبعض.
كما قال- تعالى-: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «2» .
وكما قال- تعالى-: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. «3» .
وكما قال- سبحانه-: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً «4» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت بأبلغ أسلوب بوار أعمال الذين كفروا، وسوء أحوالهم يوم القيامة، كما بينت حسن عاقبة المؤمنين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
__________
(1) تفسير الشوكانى ج 3 ص 104.
(2) سورة الأحزاب الآية 44.
(3) سورة الرعد الآية 23، 24.
(4) سورة الفرقان الآية 75.(7/548)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
وبعد أن بين- سبحانه- حال السعداء والأشقياء يوم القيامة، أتبع ذلك بضرب مثل لهما زيادة في التوضيح والتقرير فقال- تعالى-:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
والخطاب في قوله أَلَمْ تَرَ ... للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب، والاستفهام للتقرير، والرؤية مستعملة في العلم الناشئ عن التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ ... هذا التعبير قد يذكر لمن تقدم علمه فيكون للتعجب، وقد يذكر لمن ليس كذلك، فيكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهر في ذلك حتى أجرى مجرى المثل في ذلك، بأن شبه من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى، قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب» «1» .
والمثل: يطلق على القول السائر المعروف للماثلة مضربه لمورده.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 160.(7/549)
وقوله مَثَلًا انتصب على أنه مفعول به لضرب، وقوله كَلِمَةً بدل منه أو عطف بيان.
والمراد بالكلمة الطيبة: كلمة الإسلام، وما يترتب عليها من عمل صالح، وقول طيب.
قال الآلوسى ما ملخصه: «والمراد بالشجرة الطيبة- المشبه بها- النخلة عند الأكثرين وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد..
وأخرج عبد الرزاق والترمذي وغيرهما عن شعيب بن الحجاب قال: كنا عند أنس، فأتينا بطبق عليه رطب، فقال أنس لأبى العالية: كل يا أبا العالية، فإن هذا من الشجرة التي ذكرها الله- تعالى- في كتابه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ....
وأخرج الترمذي- أيضا- والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر- أى بطبق من تمر لم ينضج بعد فقال: «مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ... قال: هي النخلة» .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند.
وأخرج ابن حرير وابن ابى حاتم أنها شجرة في الجنة، وقيل كل شجرة مثمرة كالنخلة، وكشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك ثم قال:
وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغي العدول عنه» «1» .
وكأن الإمام الآلوسى بهذا القول يريد أن يرجح أن المراد بالشجرة الطيبة النخلة، لتصريح الآثار بذلك.
وقد رجح ابن جرير- أيضا- أن المراد بها النخلة فقال ما ملخصه: «واختلفوا في المراد بالشجرة الطيبة، فقال بعضهم: هي النخلة ... وقال آخرون: هي شجرة في الجنة ...
وأولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال هي النخلة، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك..» «2» .
والمعنى: ألم تر- أيها المخاطب- كيف اختار الله- تعالى- مثلا، ووضعه في موضعه اللائق به، والمناسب له، وهذا المثل لكلمتى الإيمان والكفر، حيث شبه- سبحانه-
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 191.
(2) تفسير ابن جرير ج 13 ص 137.(7/550)
الكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام، بالشجرة الطيبة، أى النافعة في جميع أحوالها، وهي النخلة.
ثم وصف- سبحانه- هذه الشجرة بصفات حسنة فقال: أَصْلُها ثابِتٌ.
أى: ضارب بعروقه في باطن الأرض فصارت بذلك راسخة الأركان ثابتة البنيان.
وَفَرْعُها أى: أعلاها وما امتد منها من أغصان، مشتق من الافتراع بمعنى الاعتلاء فِي السَّماءِ أى: في جهة السماء من حيث العلو والارتفاع، وهذا مما يزيد الشجرة جمالا وحسن منظر.
والمراد بالأكل في قوله- تعالى- تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها.. المأكول، وهو الثمر الناتج عنها.
والمراد بالحين: الوقت الذي حدده الله- تعالى- للانتفاع بثمارها من غير تعيين بزمن معين من صباح أو مساء..
قال الشوكانى ما ملخصه: «قوله تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ كل وقت بِإِذْنِ رَبِّها بإرادته ومشيئته» .
وقيل: المراد بكونها تؤتى أكلها كل حين: أى كل ساعة من الساعات من ليل أو نهار في جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف. وقيل المراد في أوقات مختلفة من غير تعيين.
وقيل: كل غدوة وعشية، وقيل: كل شهر..
وهذه الأقوال متقاربة. لأن الحين عند جمهور أهل اللغة بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره «1» .
وبهذا نرى أن الله- تعالى- قد وصف هذه الشجرة بأربع صفات، أولها: أنها طيبة، وثانيها: أن أصلها ثابت، وثالثها: أن فرعها في السماء، ورابعها: أنها تؤتى ثمارها كل حين بإذن ربها.
وهذه الأوصاف تدل على فخامة شأنها، وجمال منظرها، وطيب ثمرها، ودوام نفعها كما تدل على أن المشبه وهو الكلمة الطيبة، مطابق في هذه الأوصاف للمشبه به وهو الشجرة الطيبة.
وقوله- سبحانه- وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ بيان للحكمة التي
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 106.(7/551)
من أجلها سيقت الأمثال، وهي التذكر والتفكير والاعتبار. أى: ويضرب الله- تعالى- الأمثال للناس رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويتذكروا ما أمرهم- سبحانه- بتذكره إذ ضرب الأمثال تقريب للبعيد، وتقرير للقريب، وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة.
وبعد أن بين- سبحانه- مثال كلمة الإيمان، أتبعه بمثال كلمة الكفر فقال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي كلمة الكفر.
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ أى قبيحة لا نفع فيها، ولا خير يرجى منها.
اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أى: اقتلعت جثتها وهيئتها من فوق الأرض، لقرب عروقها وجذورها من سطحها.
يقال: اجتثثت الشيء اجتثاثا، إذا اقتلعته واستأصلته، وهو افتعال من لفظ الجثة وهي ذات الشيء.
وقوله: ما لَها مِنْ قَرارٍ تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن اجتثاث الشيء بسهولة، سببه عدم وجود أصل له.
أى: ليس لها استقرار وثبات على الأرض، وكذلك الكفر لا أصل له ولا فرع، ولا يصعد للكافر عمل، ولا يتقبل منه شيء.
والمراد بهذه الشجرة الخبيثة: شجرة الحنظل فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة هي الحنظلة ... » «1» .
وقيل: شجرة الثوم، وقيل: شجرة الشوك ... وقيل كل شجر لا يطيب له ثمر، وفي رواية عن ابن عباس أنها شجرة لم تخلق على الأرض ...
وقال: ابن عطية: الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف التي وصفها الله بها.
وقوله سبحانه-: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ بيان لفضل الله- تعالى- على هؤلاء المؤمنين، ولحسن عاقبتهم..
والمراد بالحياة الدنيا: مدة حياتهم في هذه الدنيا.
والمراد بالآخرة: ما يشمل سؤالهم في القبر وسؤالهم في مواقف القيامة.
والمعنى: يثبت الله- تعالى- الذين آمنوا بالقول الثابت أى: الصادق الذي لا شك فيه،
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 413.(7/552)
في الحياة الدنيا، بأن يجعلهم متمسكين بالحق، ثابتين عليه دون أن يصرفهم عن ذلك ترغيب أو ترهيب.
ويثبتهم أيضا بعد مماتهم، بأن يوفقهم إلى الجواب السديد عند سؤالهم في القبر وعند سؤالهم في مواقف يوم القيامة.
قال الآلوسى ما ملخصه: «قوله- تعالى- يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أى: الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم، وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة..
«في الحياة الدنيا» أى يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم، فلا يزالون عند الفتنة ... «وفي الآخرة» أى بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة، وفي مواقف القيامة، فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك، ولا تدهشهم الأهوال..» «1» .
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث التي وردت في سؤال القبر، منها قوله: قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أخبرنى علقمة بن مرثد قال: سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» «2» .
وقوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ بيان لسوء عاقبة أصحاب المثل الثاني وهم الكافرون.
أى: ويخلق فيهم الضلال عن الحق بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان.
وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ فعله، عن تثبيت من يريد تثبيته، وإضلال من يريد إضلاله، حسبما تقتضيه إرادته وحكمته، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك مصير الجاحدين الذين قابلوا نعم الله بالكنود والجحود، وأمر المؤمنين بأداء ما كلفهم به- سبحانه- من عبادات وقربات، وساق لهم ألوانا من الآلاء التي تفضل بها على عباده، فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 194.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 4 من ص 413 إلى ص 426 طبعة دار الشعب.(7/553)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
وقوله- سبحانه- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً.. الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب.
والاستفهام للتعجيب من أحوالهم الذميمة.
وبدلوا من التبديل بمعنى التغيير والتحويل، والمراد به: وضع الشيء في غير وضعه ومقابلة نعم الله بالجحود وعدم الشكر.
ونعمة الله التي بدلوها، تشمل كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله- تعالى- لإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما تشمل إكرام الله لهم- أى أهل مكة- بأن جعلهم في(7/554)
حرم آمن، وجعلهم سدنة بيته.. ولكنهم لم يشكروا الله على هذه النعم، بل أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: «قوله: بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا.
وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمه، وجعلهم قوام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، وكذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر، قد ذهبت النعمة عنهم، وبقي الكفر طوقا في أعناقهم..» «1» .
وقال الإمام ابن كثير ما ملخصه: «قال البخاري قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً.. حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، سمع ابن عباس قال: هم كفار أهل مكة.
ثم قال ابن كثير: وهذا هو الصحيح، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار، فإن الله- تعالى- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ونعمة للناس فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار ... » «2» .
وما ذهب إليه صاحب الكشاف وابن كثير- رحمهما الله- هو الذي تطمئن إليه النفس، لأن مشركي مكة ومن سار على شاكلتهم تنطبق عليهم هذه الآية الكريمة.
وقد أورد بعض المفسرين هنا روايات في أن المراد بهؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفرا، بنو أمية وبنو مخزوم.. ولكن هذه الروايات بعيدة عن الصواب، ولا سند لها من النقل الصحيح» «3» .
وقوله وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ معطوف على «بدلوا» لبيان رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة والمراد بقومهم: أتباعهم وشركاؤهم في الكفر والعناد حتى ماتوا على ذلك.
والبوار: الهلاك والخسران، ويطلق أيضا على الكساد. يقال: بار المتاع بوارا، إذا كسد، إذ الكاسد في حكم الهالك.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 376. [.....]
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 126.
(3) راجع تفسير ابن جرير ج 14 ص 146.(7/555)
والمعنى: ألم تر- أيها العاقل- إلى حال هؤلاء المشركين، الذين قابلوا نعم الله عليهم بالكفر والجحود، وكانوا سببا في إنزال قومهم دار الهلاك والخسران.
وقوله- سبحانه- جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ بيان لدار بوارهم وهلاكهم أى:
جهنم يصلون حرها وسعيرها، وبئس القرار قرارهم فيها.
فقوله «جهنم» عطف بيان لدار البوار، وقوله «يصلونها» في محل نصب حال من «جهنم» يقال: صلى فلان النار- من باب تعب- إذا ذاق حرها، وتقول: صليت اللحم أصليه- من باب رمى- إذا شويته.
والمخصوص بالذم محذوف. أى: بئس القرار هي أى: جهنم.
وفيه إشارة إلى أن حلولهم فيها كائن على وجه الدوام والاستمرار.
ثم بين- سبحانه- لونا ثالثا من ألوان أعمالهم القبيحة، وعقائدهم الباطلة فقال وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ...
والأنداد: جمع ند وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه.
وأصله من ند البعير يند- بكسر النون- ندا- بالفتح- إذا نفر وذهب على وجهه شاردا.
وقوله «ليضلوا» قرأ الجمهور- بضم الياء- من أضل غيره إذا جعله ضالا.
أى: أن هؤلاء الخاسرين لم يكتفوا بمقابلة نعمة الله بالجحود، وإحلال قومهم دار البوار، بل أضافوا إلى ذلك أنهم جعلوا لله- تعالى- أمثالا ونظراء، ليصرفوا غيرهم عن الطريق الحق، والصراط المستقيم، الذي هو إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلوا» - بفتح الياء- أى: ليستمروا في ضلالهم، فإنهم حين جعلهم الأنداد لله- تعالى- كانوا ضالين، وجهلوا ذلك فاستمروا في ضلالهم توهما منهم أنهم على صواب.
قال صاحب الكشاف: قرئ «ليضلوا» بفتح الياء وضمها. فإن قلت: الضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد فما معنى اللام؟
قلت: لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد، كما كان الإكرام في قولك، جئتك لتكرمنى نتيجة المجيء، دخلته اللام، وإن لم يكن غرضا، على طريق التشبيه والتقريب» «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 378.(7/556)
وقوله- سبحانه- قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أمر منه- عز وجل- لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يهددهم بهذا المصير الأليم.
والتمتع بالشيء: الانتفاع به مع التلذذ والميل إليه.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الخاسرين، تمتعوا بما شئتم التمتع به من شهوات ولذائذ، فإن مصيركم إلى النار لا محالة.
قال صاحب فتح القدير ما ملخصه: قوله «قل تمتعوا» بما أنتم فيه من الشهوات، وبما زينته لكم أنفسكم من كفران للنعم «فإن مصيركم إلى النار» أى: مرجعكم إليها ليس إلا.
ولما كان هذا حالهم، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه لا يقلعون عنه. جعل- سبحانه- الأمر بمباشرته مكان النهى عن قربانه، إيضاحا لما تكون عليه عاقبتهم، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار.
فجملة «فإن مصيركم إلى النار» تعليل للأمر بالتمتع، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره.
ويجوز أن تكون هذه الجملة جوابا لمحذوف دل عليه السياق كأنه قيل: قل تمتعوا فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار.
والأول أولى والنظم القرآنى عليه أدل، وذلك كما يقال لمن يسعى في مخالفة السلطان: اصنع ما شئت من المخالفة فإن مصيرك إلى السيف» «1» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ «2» .
وقوله- تعالى-: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ «3» .
وقوله- تعالى- لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ «4» .
وبعد هذا الأمر من الله- تعالى- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- بتهديد الكافرين، وجه- سبحانه- أمرا آخر له صلى الله عليه وسلم طلب منه فيه، مواصلة دعوة المؤمنين إلى الاستمرار في التزود من العمل الصالح فقال- تعالى-: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ.
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 109.
(2) سورة الزمر الآية 8.
(3) سورة لقمان الآية 24.
(4) سورة آل عمران الآيتان 196، 197.(7/557)
قال الجمل: «قوله «قل لعبادي ... إلخ» مفعول قل محذوف يدل عليه جوابه، أى:
قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا- وقوله: يقيموا وينفقوا مجزومان في جواب الأمر، أى: إن قلت لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا ... يقيموا وينفقوا.
ويجوز أن يكون قوله «يقيموا وينفقوا» مجزومين بلام الأمر المقدرة.
أى: ليقيموا الصلاة ولينفقوا ... » «1» .
والمراد بإقامة الصلاة: المواظبة على أدائها في أوقاتها المحددة لها، مع استيفائها لأركانها وسننها وآدابها وخشوعها، ومع إخلاص النية عند أدائها لله- تعالى-.
والمراد بالإنفاق: ما يشمل جميع وجوه الإنفاق الواجبة والمستحبة.
والمراد بقوله «سرا وعلانية» ما يتناول عموم الأحوال في الحرص على بذل المال في وجوهه المشروعة.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لعبادي المخلصين، الذين آمنوا إيمانا حقا، قل لهم: ليستزيدوا من المواظبة على أداء الصلاة، وعلى الإنفاق مما رزقناهم في جميع الأحوال، بأن يجعلوا نفقتهم في السر إذا كانت آداب الدين وتعاليمه تقتضي ذلك، وأن يجعلوها في العلن إذا كانت المنفعة في ذلك.
والإضافة في قوله «لعبادي» للتشريف والتكريم لهؤلاء العباد المخلصين.
ولم تعطف هذه الآية الكريمة على ما قبلها وهو قوله قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ للإيذان بتباين حال الفريقين، واختلاف شأنهما.
ومفعول «ينفقوا» محذوف والتقدير ينفقوا شيئا مما رزقناهم.
وعبر- سبحانه- بمن المفيدة للتبعيض في قوله مِمَّا رَزَقْناهُمْ للاشعار بأنهم قوم عقلاء يبتعدون في إنفاقهم عن الإسراف والتبذير، عملا بقوله- تعالى-: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «2» .
وهذا التعبير- أيضا- يشعر بأن هذا المال الذي بين أيدى عباده- سبحانه- ما هو إلا رزق رزقهم الله إياه، ونعمة أنعم بها عليهم، فعليهم أن يقابلوا هذه النعمة بالشكر، بأن ينفقوا جزءا منها في وجوه الخير.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 525.
(2) سورة الفرقان الآية 67.(7/558)
وقوله سِرًّا وَعَلانِيَةً منصوبان على الحال أى: مسرين ومعلنين، أو على المصدر أى:
إنفاق سر وإنفاق علانية.
وقدم- سبحانه- إنفاق السر على العلانية للتنبيه على أنه أولى الأمرين في معظم الأحوال لبعده عن خواطر الرياء، ولأنه أستر للمتصدق عليه.
وقوله- سبحانه- مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ مؤكد لمضمون ما قبله من الأمر بإقامة الصلاة وبالإنفاق في وجوه الخير بدون تردد أو إبطاء.
ولفظ «خلال» مصدر خاللت بمعنى صاحبت وصادقت، أو جمع خليل بمعنى صديق، أو جمع خلة بمعنى الصداقة كقلة وقلال.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- بأن من الواجب عليهم أن يكثروا ويداوموا على إقامة الصلاة وعلى الإنفاق مما رزقهم- سبحانه-، من قبل أن يفاجئهم يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا تقبل فيه المعاوضات، ولا تنفع فيه شفاعة الصديق لصديقه، وإنما الذي يقبل وينفع في هذا اليوم هو العمل الصالح الذي قدمه المسلم في دنياه.
فالجملة الكريمة تفيد حضا آخر على إقام الصلاة وعلى الإنفاق عن طريق التذكير للناس بهذا اليوم الذي تنتهي فيه الأعمال، ولا يمكن فيه استدراك ما فاتهم، ولا تعويض ما فقدوه من طاعات.
كما تفيد أن المواظبة على أداء هاتين الشعيرتين، من أعظم القربات التي يتقرب بها المسلم إلى خالقه- سبحانه- والتي تكون سببا في رفع الدرجات يوم القيامة.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» .
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ألوانا من نعمه التي تستوجب شكره وطاعته وإخلاص العبادة له والتي تدل على كمال قدرته وعلمه ووحدانيته فقال- تعالى- اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ....
أى: الله- تعالى- وحده هو الذي أوجد السموات والأرض وما فيهما من أجرام علوية وسفلية بدون مثال سابق.
وافتتحت الآية الكريمة بلفظ الجلالة، لما في ذلك من تربية المهابة، ومن لفت أنظار
__________
(1) سورة البقرة آية 254.(7/559)
المشركين إلى ما هم فيه من ضلال حتى يقلعوا عنه.
وجاء الخبر بصيغة الموصول، لأن الصلة معلومة الثبوت له- سبحانه- والمشركون لا ينازعون في ذلك، كما قال- تعالى- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..
وقوله وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.. بيان للون آخر من ألوان نعمه على خلقه.
والمراد بالسماء هنا: السحاب، أو جهة العلو.
أى: وأنزل- سبحانه- من المزن أو السحاب «ماء» كثيرا هو المطر، «فأخرج به» أى بذلك الماء «من الثمرات» المتعددة الأنواع والأصناف «رزقا لكم» تنتفعون به، وتتمتعون بجمال منظره وطيب مطعمه.
ثم حكى- سبحانه- ألوانا أخرى من نعمه فقال: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.
وقوله «سخر» من التسخير بمعنى التذليل والتطويع والقدرة على التصرف في الشيء والانتفاع به.
والفلك: ما عظم من السفن. ويستعمل لفظه في الواحد والجمع، والظاهر أن المراد به هنا الجمع لقوله- سبحانه- «لتجرى» بتاء التأنيث.
أى: «وسخر لكم» - سبحانه- السفن الضخمة العظيمة، بأن ألهمكم صنعها، وأقدركم على استعمالها «لتجرى في البحر» إلى حيث تريدون «بأمره» وإذنه ومشيئته، لا بإذنكم ومشيئتكم، إذ لو شاء- سبحانه- لقلبها بكم.
«وسخر لكم الأنهار» بأن جعلها معدة لانتفاعكم، إذ منها تشربون، ومنها تسقون دوابكم وزروعكم، وعليها تسيرون بسفنكم إلى حيث تريدون.
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أى: دائمين في إصلاح ما يصلحان من الأبدان والنبات وغيرهما أو دائمين في مدارهما المقدر لهما بدون اضطراب أو اختلال. ولا يفتران عن ذلك ما دامت الدنيا.
وأصل الدأب: الدوام والعادة المستمرة على حالة واحدة. يقال: دأب فلان على كذا يدأب دأبا، إذا داوم عليه وجد فيه.(7/560)
و «وسخر لكم الليل والنهار» بأن جعلهما متعاقبين، يأتى أحدهما في أعقاب الآخر، فتنتفعون بكل منهما بما يصلح أحوالكم.
فالليل تنتفعون به في راحتكم ومنامكم ... والنهار تنتفعون به في معاشكم وطلب رزقكم قال- تعالى- وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.
تم ختم- سبحانه- هذه النعم بقوله وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ....
أى: وأعطاكم- فضلا عما تقدم من النعم- بعضا من جميع ما سألتموه إياه من نعم، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته التي لا تعلمونها كما قال- تعالى- وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ «1» .
قال الجمل ما ملخصه «قوله وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أى: كل نوع أو كل صنف سألتموه أى: شأنكم أن تسألوه لاحتياجكم إليه، وإن لم تسألوه بالفعل.
وفي «من» قولان: أحدهما أنها زائدة في المفعول الثاني، أى: آتاكم كل ما سألتموه.
والثاني أن تكون تبعيضية أى: وآتاكم بعض جميع ما سألتموه وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره: وآتاكم شيئا من كل ما سألتموه، وهو رأى سيبويه..» «2» .
وجملة «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» مؤكدة لمضمون ما قبلها.
أى: وإن تحاولوا عد نعم الله عليكم، وتحاولوا تحديد هذا العدد، لن تستطيعوا ذلك لكثرة هذه النعم، وخفاء بعضه عليكم.
والإحصاء: ضبط العدد وتحديده، مأخوذ من الحصا وهو صغار الحجارة لأن العرب كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للخطأ.
قال ابن كثير: «يخبر- سبحانه- عن عجز العباد من تعداد نعمه فضلا عن القيام بشكرها، كما قال طلق بن حبيب- رحمه الله-: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين.
وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لك الحمد غير مكفى- أى لم يكفه غيره بل هو- سبحانه- يكفى غيره- ولا مودع- أى متروك حمده-،
__________
(1) سورة الشورى آية 27.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 526.(7/561)
ولا مستغنى عنه ربنا- أى هو الذي يحتاج إليه الخلق ... » «1» .
والمراد بالإنسان في قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ نوع معين منه وهو الكافر كما في قوله- تعالى- وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا.
أى: إن الإنسان الكافر لشديد الظلم لنفسه بعبادته لغير الله- تعالى-، ولشديد الجحود والكفران لنعمه- عز وجل.
ويرى بعضهم أن المراد بالإنسان هنا الجنس.
قال الشوكانى: قوله- سبحانه-: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ أى لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه، وظاهره شمول كل إنسان. وقال الزجاج: إن الإنسان هنا اسم جنس يقصد به الكافر خاصة، كما في قوله- تعالى- وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «كفار» أى: شديد كفران نعم الله عليه، جاحد لها، غير شاكر لله عليها كما ينبغي ويجب عليه» «2» .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ابتدأت ببيان سوء عاقبة الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وثنت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحض المؤمنين الصادقين على الاستزادة من إقامة الصلاة ومن الإنفاق في سبيل الله.
ثم ساقت عشر نعم تدل دلالة واضحة على وحدانية الله- تعالى- وعلمه وقدرته، وهذه النعم هي خلق السموات والأرض، وإنزال المطر من السماء، وإخراج الثمرات به، وتسخير الفلك في البحار، وتسخير الأنهار، وتسخير الشمس والقمر دائبين، وتسخير الليل والنهار.
ثم ختمت ببيان أنه- سبحانه- قد أعطى الناس- فضلا عن كل ذلك- جميع ما يحتاجون إليه في مصالحهم على حسب حكمته ومشيئته ولكن الناس- إلا من عصم الله- لا يقابلون نعمه- سبحانه- بما تستحقه من شكر، لشدة ظلمهم وكثرة جحودهم.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك بعض الدعوات التي تضرع بها إبراهيم- عليه السلام- إلى ربه، وهي دعوات تدل على شكره لخالقه، وحسن صلته به، ورجائه في فضله.. فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 430.
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 110. [.....](7/562)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
هذه بعض الدعوات التي ابتهل بها إبراهيم- عليه السلام- إلى ربه، وقد تقبلها الله- تعالى- منه قبولا حسنا.
وفي هذه الدعوات تنبيه لمشركي مكة الذين بدلوا نعمة الله كفرا، والذين جحدوا نعم الله عليهم، بأن من الواجب عليهم أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يستجيبوا لدعوة الحق، وأن يقتدوا بإبراهيم- عليه السلام- في إيمانه وشكره لخالقه- سبحانه-.(7/563)
و «إذ» ظرف لما مضى من الزمان، وهو منصوب على المفعولية لفعل محذوف.
و «رب» منادى بحرف نداء محذوف أى: يا رب.
والمراد بالبلد: مكة المكرمة شرفها الله- تعالى-.
والمعنى: واذكر- أيها العاقل- وقت أن قال إبراهيم مناديا ربه: يا رب اجعل هذا البلد ذا أمن وسلام واستقرار.
وقدم إبراهيم- عليه السلام- في دعائه نعمة الأمن على غيرها- لأنها أعظم أنواع النعم، ولأنها إذا فقدها الإنسان، اضطرب فكره، وصعب عليه أن يتفرغ لأمور الدين أو الدنيا بنفس مطمئنة، وبقلب خال من المتغصات والمزعجات.
قال الإمام الرازي: «سئل بعض العلماء: الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ولا يمنعها هذا الكسر من الإقبال على الرعي والأكل والشرب.
ولو أنها ربطت- وهي سليمة- في موضع، وربط بالقرب منها ذئب، فإنها تمسك عن الأكل والشرب، وقد تستمر على ذلك إلى أن تموت.
وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف، أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد، «1» .
وقال الإمام ابن كثير ما ملخصه: «يذكر الله- تعالى- في هذا المقام- محتجا على مشركي مكة الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم- بأن مكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله- تعالى- وحده، وأن إبراهيم قد تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن وقد استجاب الله له فقال- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.. وقال- تعالى- إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ... «2» .
وقال صاحب الكشاف: «فإن قلت: أى فرق بين قوله- تعالى- في سورة البقرة رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ... «3» .
وبين قوله هنا رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ... ؟.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 135.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 431.
(3) الآية 126.(7/564)
قلت: قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وسأل في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنا..» «1» .
وقوله- سبحانه- وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ حكاية لدعوة أخرى من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم- عليه السلام- إلى خالقه- سبحانه-.
وقوله «واجنبنى» بمعنى وأبعدنى مأخوذ من قولك جنبت فلانا عن كذا، إذا أبعدته عنه، وجعلته في جانب آخر، وفعله جنب من باب نصر.
والمراد ببنيه: أولاده من صلبه، أوهم من تناسل معهم.
والأصنام جمع صنم، وهو التمثال الذي كان مشركو العرب يصنعونه من الحجر ونحوه لكي يعبدوه من دون الله.
والمعنى: أسألك يا ربي أن تجعل مكة بلدا آمنا، كما أسألك أن تعصمني وتعصم ذريتي من بعدي من عبادة الأصنام، وأن تجعل عبادتنا خالصة لوجهك الكريم.
وقد بين- سبحانه- في آيات أخرى، أنه قد أجابه في بعض ذريته دون بعض.
ومن ذلك قوله- تعالى- سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ «2» .
وقوله: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ... تعليل لسؤال إبراهيم ربه أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام.
أى: يا رب لقد تضرعت إليك بأن تعصمني وبنىّ عن عبادة الأصنام، لأنها كانت سببا في إضلال كثير من الناس عن اتباع الحق، وعن الهداية إلى الصراط المستقيم.
وأسند الإضلال إليها مع أنها جمادات لا تعقل، لأنها كانت سببا في إضلال كثير من الناس، فكأنها أضلتهم، فنسبة الإضلال إليها مجازية من باب نسبة الشيء إلى سببه، كما يقال: فلان فتنته الدنيا وأضلته، وهو إنما فتن وضل بسببها.
وقوله- سبحانه- فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بيان لموقفه- عليه السلام- من المهتدين والضالين.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 379.
(2) سورة الصافات الآيات 109- 113.(7/565)
أى: فمن تبعني من الناس في ديني وعقيدتي، فإنه يصير بهذا الاتباع من أهل ديني وهو دين الإسلام، ومن عصاني ولم يقبل الدخول في الدين الحق، فإنى أفوض أمره إليك، فأنت- سبحانك- لا تسأل عما تفعل وغيرك يسأل.
فالجملة الكريمة تدل على الأدب السامي، والخلق العالي، الذي كان يتحلى به إبراهيم- عليه السلام- في مخاطبته لربه- عز وجل- حيث فوض الأمور إليه دون أن يقطع فيها برأى، كما تدل على رقة قلبه وشفقته على العصاة من الوقوع في العذاب الأليم.
وشبيه بهذه الآية ما حكاه- سبحانه- عن عيسى- عليه السلام- في قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» .
هذا، ولا نرى وجها لما ذهب إليه بعض المفسرين، من أن قول إبراهيم- عليه السلام- «ومن عصاني فإنك غفور رحيم» كان قبل أن يعلم بأن الله لا يغفر الشرك، أو أن المراد بالمعصية هنا مادون الشرك، أو أن المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك..» «2» .
نقول: لا نرى وجها لكل ذلك، لأن الجملة الكريمة ليس المقصود بها الدعاء بالمغفرة لمن عصى، وإنما المقصود بها تفويض أمر العصاة إلى الله- تعالى- إن شاء غفر لهم ورحمهم، وإن شاء عذبهم.
ثم حكى- سبحانه- دعاء آخر من تلك الأدعية التي تضرع بها إبراهيم إليه- تعالى- فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ...
و «من» في قوله «من ذريتي» للتبعيض.
والوادي: هو المكان المنخفض بين مرتفعات، والمقصود به وادي مكة المكرمة.
والمعنى: يا ربنا إنى أسكنت بعض ذريتي وهو ابني إسماعيل ومن يولد له، بواد غير ذي زرع قريبا من بيتك المحرم، أى: الذي حرمت التعرض له بسوء توقيرا وتعظيما، والذي جعلته مثابة للناس وأمنا، وفضلته على غيره من الأماكن.
وقوله رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ بيان للباعث الذي دفعه لإسكان بعض ذريته في هذا المكان الطيب.
__________
(1) سورة المائدة آية 118.
(2) تفسير الآلوسى ج 13 ص 211.(7/566)
أى: يا ربنا إنى أسكنتهم، هذا المكان ليتفرغوا لإقامة الصلاة في جوار بيتك، وليعمروه بذكرك وطاعتك.
فاللام في قوله «ليقيموا» للتعليل وهي متعلقة بأسكنت.
وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات، لمزيد فضلها، ولكمال العناية بشأنها.
قال القرطبي: «تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها، لأن معنى «ربنا ليقيموا الصلاة» أى: أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه.
وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟
فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدى هذا بمائة صلاة» .
وقد روى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ابن الزبير» «1» .
وقوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ دعاء جامع لمطالب الدين والدنيا، لأن الناس يذهبون إلى البيت الحرام للتقرب إلى الله- تعالى-، وليتبادلوا المنافع عن طريق التجارة وغيرها مع السكان المجاورين لهذا البيت المعمور.
والأفئدة: جمع فؤاد، والمراد بها القلوب والنفوس.
والمراد بالناس في قوله «من الناس» المؤمنون منهم، لأنهم هم الذين يذهبون إلى البيت الحرام، ليشهدوا منافع لهم، وليتقربوا إليه- سبحانه- بحج بيته.
وتهوى إليهم: أى تسرع إليهم، يقال: هوى- بفتح الواو- يهوى- بكسرها- إذا أسرع في السير، ومنه قولهم: هوت الناقة تهوى هويا، إذا عدت عدوا شديدا.
والأصل فيه أن يتعدى باللام، وعدى هنا بإلى لتضمنه معنى تميل وتسرع.
أى: يا ربنا إنى تركت بعض ذريتي في جوار بيتك، فأسألك يا إلهى أن تجعل نفوس الناس وقلوبهم تحن إلى هذا المكان، وتطير فرحا إليه، وارزق من تركتهم وديعة في جوار بيتك من
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 9 ص 271.(7/567)
الثمرات المختلفة ما يغنيهم لعلهم بهذا العطاء الجزيل يزدادون شكرا لك، ومسارعة في طاعتك وعبادتك.
وقال- سبحانه- فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ولم يقل فاجعل الناس تهوى إليهم، للإشارة إلى أن سعى الناس إليهم يكون عن شوق ومحبة حتى لكأن المسرع إلى هذا الجوار الطيب هو القلب والروح وليس الجسد وحده.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: «وقد أجاب الله- تعالى- دعوة إبراهيم- عليه السلام- فجعل البيت الحرام حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثمارا، وفي أى بلد من الشرق والغرب، ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع- وهي اجتماع البواكير من الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته عجيب، متعنا الله بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم» «1» .
هذا، وقد ساق الإمام الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية قصة إسكان إبراهيم لبعض ذريته في هذا المكان فقال ما ملخصه: «وهذا الإسكان إنما كان بعد أن حدث ما حدث بين إبراهيم وبين زوجه سارة، وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها- لإبراهيم عليه السلام- فتزوجها فولدت له إسماعيل. فدبت الغيرة في قلب سارة ولم تصبر على بقائها معها فأخرج إبراهيم- عليه السلام- هاجر وابنها إلى أرض مكة، فوضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر، فقالت له: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس.
قالت له ذلك مرارا وهو لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت:
إذا لا يضيعنا، ثم رجعت.
وانطلق إبراهيم- عليه السلام- حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت- وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية- ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ.. الآية.
ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 381.(7/568)
وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط- أى يتلوى ويتمرغ- من شدة العطش، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا. فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعى الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، ولذلك سعى الناس بينهما سبعا.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه! تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا صوتا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور، فشربت وأرضعت ولدها، وقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله- تعالى- يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله- تعالى- لن يضيع أهله.
ثم إنه مرت بهما رفقة من جرهم، فرأوا طائرا عائفا- أى يتردد على الماء ولا يمضى- فقالوا: لا طير إلا على الماء، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء، فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده، فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا، ففعلت، فلما أدرك إسماعيل- عليه السلام- زوجوه امرأة منهم» «1» .
ثم حكى- سبحانه- دعاء آخر من تلك الدعوات الخاشعة التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ.
أى: يا ربنا إنك وحدك العليم بما تخفيه نفوسنا من أسرار وما تعلنه وتظهره من أقوال، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليك سواء، فأنت يا إلهى لا يخفى عليك شيء من الأشياء، سواء أكان هذا الشيء في الأرض أم في السماء أم في غيرهما.
وإنما ذكر السماء والأرض لأنهما المشاهدتان للناس، وإلا فعلمه- سبحانه- محيط بكل ما في هذا الكون.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله إبراهيم- عليه السلام- في مقام شكره لله على نعمه فقال- تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 13 ص 212 وراجع صحيح البخاري تجد فيه حديثا طويلا في هذا الموضوع.(7/569)
والحمد هو الثناء باللسان على من صدرت منه النعمة، وأل فيه للاستغراق أى: جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء والحمد فهو صادر عنه- سبحانه- إذ هو الخالق لكل شيء.
وعلى في قوله «على الكبر» للاستعلاء المجازى وهي بمعنى مع. أى: وهب لي مع الكبر الذي لا تحصل معه في الغالب ولادة.
وإسماعيل هو الابن الأكبر لإبراهيم، وقد رزقه الله به من زوجه هاجر كما سبق أن أشرنا-، أما إسحاق فكان أصغر من إسماعيل، وقد رزقه الله به من زوجه ساره.
قال الفخر الرازي: «اعلم أن القرآن يدل على أنه- تعالى- إنما أعطى إبراهيم- عليه السلام- هذين الولدين على الكبر والشيخوخة، فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن. وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة.
وإنما ذكر قوله «على الكبر لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم، من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة، والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم، ولأن الولادة في هذه السن المتقدمة كانت آية لإبراهيم» «1» .
وجملة «إن ربي لسميع الدعاء» تعليل لجملة «وهب لي على الكبر» أى: وهب لي على الكبر هذين الولدين، لأنه- سبحانه- سمع دعائي وتقبله، وأجاب طلبى دون أن يخيبني.
فالسميع هنا مستعمل على سبيل المجاز في إجابة المطلوب، ومنه قول القائل: سمع الملك كلام فلان، إذا اعتد به وقبله وعمل بمقتضاه. وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول. أى: إن ربي يسمع دعائي ويجيبه.
ثم ختم إبراهيم- عليه السلام- تلك الدعوات الطيبات التي تضرع بها إلى ربه، بما حكاه الله عنه في قوله: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ.
أى: يا رب اجعلنى من عبادك الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها بإخلاص وخشوع، واجعل من ذريتي من يقتدى بي في ذلك، كما أسألك يا رب أن تتقبل دعائي ولا تخيبني في مطلوب أسألك إياه.
كما أسألك- يا إلهى- أن تغفر لي ذنوبي، وأن تغفر لوالدي وللمؤمنين، يوم يقوم الناس
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 138.(7/570)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
للحساب، فتجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
وإنما طلب إبراهيم لوالديه المغفرة، قبل أن يتبين له أن والده عدو لله. فلما تبين له ذلك تبرأ منه. قال- تعالى- وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «1» .
أما أمه فقال بعضهم: إنها كانت مؤمنة، وقال آخرون: لعلها توفيت قبل نبوته.
وبعد أن حكى- سبحانه- تلك الدعوات الطيبات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه، والتي تضمنت أمهات الفضائل، كسلامة القلب، وطهارة النفس، ورقة العاطفة، وحسن المراقبة، وحب الخير لغيره.
بعد كل ذلك حكى- سبحانه- أحوال الظالمين يوم القيامة، وأقوالهم في ذلك اليوم الشديد، ورده- تعالى- عليهم، والأسباب التي أدت إلى خسرانهم ... فقال- تعالى-:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
__________
(1) سورة التوبة الآية 114.(7/571)
قال الإمام القرطبي: «قوله- تعالى- وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ... هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عجبه من أفعال المشركين، ومخالفتهم دين إبراهيم، أى: اصبر كما صبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالم. وتعزية للمظلوم» «1» .
والخطاب في «ولا تحسين» ، يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لقصد زيادة تثبيته على الحق، ودوامه على ذلك، ويجوز أن يكون لكل من يصلح للخطاب.
والغفلة: سهو يعترى الإنسان بسبب قلة تيقظه وانتباهه، ولا شك أن ذلك محال في حق الله- تعالى-، لذا وجب حمل المعنى على أن المراد بالغفلة هنا: ترك عقاب المجرمين.
والمراد بالظالمين: كل من انحرفوا عن طريق الحق، واتبعوا طريق الباطل، ويدخل فيهم دخولا أوليا مشركو مكة، الذين أبوا الدخول في الإسلام الذي جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 9 ص 276.(7/572)
وقوله إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ استئناف وقع تعليلا للنهى السابق.
وقوله «تشخص» من الشخوص بمعنى رفع البصر بدون تحرك يقال شخص بصر فلان- من باب خضع- فهو شاخص، إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف من شدة الخوف والفزع.
والمعنى: ولا تحسبن- أيها الرسول الكريم- أن الله تعالى- تارك عقاب هؤلاء الظالمين، الذين كذبوك في دعوتك، كلا لن يترك الله- تعالى- عقابهم، وإنما يؤخره ليوم هائل شديد، هو يوم القيامة الذي ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، فلا تطرف أجفانهم من هول ما يرونه.
ثم بين- سبحانه- بعض أحوال هؤلاء الظالمين في هذا اليوم العظيم فقال- تعالى-:
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ، لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ.
والإهطاع السير السريع. يقال: أهطع فلان في مشيه فهو يهطع إهطاعا إذا أسرع في سيره بذلة واضطراب.
و «مقنعي رؤوسهم» أى رافعيها، يقال: أهطع فلان رأسه، إذا نصبه ورفعه دون أن يلتفت يمينا أو شمالا. وقيل، إقناع الرءوس طأطأتها وانتكاسها.
الأفئدة: جمع فؤاد، والمراد بها القلوب.
والمعنى: أن هؤلاء الظالمين يخرجون من قبورهم في هذا اليوم مسرعين إلى الداعي بذلة واستكانة، كإسراع الأسير الخائف، رافعي رءوسهم إلى السماء مع إدامة النظر بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء.
«لا يرتد إليهم طرفهم» أى: لا تتحرك أجفان عيونهم، بل تبقى مفتوحة بدون حراك لهول ما يشاهدونه في هذا اليوم العصيب.
«وأفئدتهم هواء» أى: وقلوبهم فارغة خالية عن الفهم، بحيث لا تعى شيئا من شدة الفزع والدهشة، ومنه قولهم في شأن الأحمق والجبان قلبهما هواء، أى لا رأى فيه ولا قوة.
وأفرد هواء وإن كان خبرا عن جمع لأنه في معنى فارغة أو خالية.
قال- تعالى- وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ... أى خاليا من كل شيء إلا من التفكير في شأن مصير ابنها موسى- عليه السلام-.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هؤلاء الظالمين في هاتين الآيتين بجملة من الصفات الدالة على فزعهم وحيرتهم.
وصفهم أولا بشخوص الأبصار، ووصفهم ثانيا بالإسراع إلى الداعي في ذلة وانكسار،(7/573)
ووصفهم ثالثا برفع رءوسهم في حيرة واضطراب، ووصفهم رابعا: بانفتاح عيونهم دون أن تطرف من شدة الوجل، ووصفهم خامسا بخلو قلوبهم من إدراك أى شيء بسبب ما اعتراهم من دهشة ورعب.
وقوله- سبحانه-: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ من باب التشبيه البليغ الذي حذفت فيه الأداة، والتقدير: وقلوبهم كالهواء في الخلو من الإدراك من شدة الهول.
ثم أمر الله تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحذر الناس من أهوال هذا اليوم، وأن يقدموا العمل الصالح الذي ينفعهم فقال- تعالى- وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ....
والإنذار: التخويف من ارتكاب شيء تسوء عاقبته.
والمراد بالناس: جميعهم، وقيل المراد بهم الكفار. ويبدو أن الأول أرجح لأن الإنذار يكون للمؤمن كما يكون للكافر، إلا أن المؤمن يستجيب للنصح فينجو من العقاب، والكافر لا يستجيب فيحل عليه العذاب.
والمعنى: وخوف- أيها الرسول الكريم- الناس من أهوال يوم القيامة، ومرهم بأن يستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح، من قبل أن يحل عذابه بالظالمين منهم فيقولون: يا ربنا أعدنا إلى الحياة مرة أخرى، وأخر أعمارنا وحسابنا إلى وقت قريب، حتى نستطيع فيه أن نستجيب لدعوتك التي تأمرنا بإخلاص العبادة لك، وأن نتبع رسلك في كل ما أمرونا به ونتدارك ما فرطنا فيه من أعمال الدنيا.
قال الجمل: «وقوله: «يوم يأتيهم العذاب ... » مفعول ثان لأنذر على حذف المضاف، أى: أنذرهم أهواله وعظائمه، فهو مفعول به لا مفعول فيه، إذ لا إنذار في ذلك اليوم، وإنما الإنذار يقع في الدنيا..» «1» .
وإنما اقتصر- سبحانه- على ذكر إتيان العذاب في هذا اليوم. مع كون الثواب يحصل فيه- أيضا- لأن المقام مقام تهديد وزجر، فكان من المناسب ذكر أهواله وشدائده.
وجمع لفظ الرسل فقال: «نجب دعوتك ونتبع الرسل» للإشارة إلى أن الرسل جميعا قد جاءوا برسالة واحدة في جوهرها وأصولها، وهي إخلاص العبادة لله- تعالى-، والدعوة إلى مكارم الأخلاق.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 532. [.....](7/574)
وفي معنى هذه الآية الكريمة جاءت آيات كثيرة ومنها قوله- تعالى- حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ، كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «1» .
وقوله- تعالى-: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» «2» .
وجملة «أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال» مقول لقول محذوف.
والزوال: الانتقال من مكان إلى آخر، أو من حال إلى حال، والمراد به هنا: انتقالهم من قبورهم إلى الحساب يوم القيامة.
والمعنى: أن هؤلاء الظالمين عند ما يقولون يا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل.
يقال لهم من قبل الله والملائكة على سبيل التوبيخ والتبكيت: أو لم تكونوا- أيها الظالمون- تقسمون بالأيمان المغلظة في الدنيا، بأنكم بعد موتكم ستبقون في قبوركم إلى أن تبلى أجسادكم، وأنه ليس بعد ذلك من بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب.
قال- تعالى- وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «3» .
فالجملة الكريمة تحكى رفض مطالبهم بأبلغ أسلوب، حتى يزدادوا حزنا على حزنهم، وحسرة على حسرتهم.
وجملة «مالكم من زوال» جواب القسم.
وقوله- سبحانه-: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... معطوف على «أقسمتم..» .
والمراد بالسكنى: الحلول في أماكن الظالمين لوقت يكفى للاتعاظ والاعتبار وكفار قريش كانوا يمرون بديار قوم ثمود في رحلتهم إلى الشام، وكانوا يحطون رحالهم هناك، كما كانوا يمرون على ديار قوم عاد في رحلتهم إلى اليمن.
والمعنى: لقد أقسمتم- أيها الضالون- بأنكم ما لكم من انتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة، وحللتم في مساكن القوم الظالمين.
__________
(1) سورة المؤمنون الآيتان 99- 100.
(2) سورة السجدة آية 12.
(3) سورة النحل آية 38.(7/575)
«وتبين لكم» عن طريق المشاهدة وتواتر الأخبار.
«كيف فعلنا بهم» من الإهلاك والتدمير بسبب كفرهم وفسوقهم.
«وضربنا لكم الأمثال» بما فعلوه وبما فعلناه بهم، عن طريق كتابنا، وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان من الواجب عليكم بعد كل ذلك أن تعتبروا وتتعظوا وتثوبوا إلى رشدكم، وتدخلوا في الإسلام، ولكنكم كنتم قوما فاسقين، سائرين على نهج هؤلاء المهلكين في الكفر والفجور، فاليوم ذوقوا العذاب بسبب جحودكم للحق في الدنيا.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «أى: قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم.
قال- تعالى- حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك لونا آخر من ألوان عراقتهم في الكفر والجحود فقال:
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ.
والمكر: تبييت فعل السوء بالغير وإضماره، مع إظهار ما يخالف ذلك. وانتصب «مكرهم» الأول على أنه مفعول مطلق لمكروا، لبيان النوع، والإضافة فيه من إضافة المصدر لفاعله.
أى: أن هؤلاء الظالمين جاءتهم العبر فلم يعتبروا، بل أضافوا إلى ذلك أنهم مكروا بالرسول صلى الله عليه وسلم مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق، وإحقاق الباطل، والذي كان من مظاهره محاولتهم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أى: وفي علم الله- تعالى- الذي لا يغيب عنه شيء مكرهم، وسيجازيهم عليه بما يستحقونه من عذاب مهين.
وقوله- تعالى- وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ قرأ الجمهور «لتزول» - بكسر اللام على أنها لام الجحود والفعل منصوب بعدها. بأن مضمرة وجوبا، و «إن» في قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ نافية بمعنى ما.
والمعنى: ولقد مكر هؤلاء الكافرون مكرهم الشديد الذي اشتهروا به، وفي علم الله- تعالى- مكرهم، وما كان مكرهم- مهما عظم واشتد- لتنتقل منه الجبال من أماكنها، لأنه
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 434.(7/576)
لم يتجاوز مكر أمثالهم ممن دمرناهم تدميرا.
وعلى هذه القراءة يكون المقصود بهذه الجملة الكريمة، الاستخفاف بهم وبمكرهم، وبيان أن ما يضمرونه من سوء ليس خافيا على الله- تعالى- ولن يزلزل المؤمنين في عقيدتهم، لأن إيمانهم كالجبال الرواسي في ثباته ورسوخه.
وقرأ «الكسائي» «لتزول» - بفتح اللام على أنها لام الابتداء، ورفع الفعل بعدها- و «إن» مخففة من الثقيلة.
فيكون المعنى: وقد مكروا مكرهم، وعند الله مكرهم، وإن مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها، لو كان لها أن تزول أو تنقلع.
وعلى هذه القراءة يكون المراد بهذه الجملة الكريمة التعظيم والتهويل من شأن مكرهم، وأنه أمر شنيع أو شديد في بابه، كما في قوله- تعالى-: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ. وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا.. «1» .
وقوله- سبحانه-: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ.. تفريع على ما تقدم من قوله- تعالى- وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ.. وتأكيد لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ولتثبيت يقينه.
وقوله «مخلف» اسم فاعل من الإخلاف، بمعنى عدم الوفاء بالوعد وهو مفعول ثان لتحسب والمراد بالوعد هنا: ما وعد الله- تعالى- به أنبياءه ورسله من نصره إياهم، ومن جعل العاقبة لهم.
قال- تعالى- إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «2» .
وقال- تعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «3» .
والمعنى: لقد وعدناك- أيها الرسول الكريم- بعذاب الظالمين، وأخبرناك بجانب من العذاب الذي يحل بهم يوم القيامة، وما دام الأمر كذلك فاثبت على الحق أنت وأتباعك، وثق بأن الله- تعالى- لن يخلف ما وعدك به من نصر على أعدائك.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني
__________
(1) سورة مريم الآيات 88- 90.
(2) سورة غافر الآية 51.
(3) سورة المجادلة الآية 21.(7/577)
لمخلف- وهو: وعده- على المفعول الأول- وهو رسله-؟
قلت: قدم الوعد ليعلم أنه- سبحانه- لا يخلف الوعد أصلا، كقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
ثم قال «رسله» ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلفه مع رسله الذين هم خيرته وصفوته من خلقه..» «1» .
ويرى صاحب الانتصاف أن تقدم المفعول الثاني هنا، إنما هو للإيذان بالعناية به، لأن الآية في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله- تعالى- به على ألسنة رسله، فكان المهم في هذه الحال تقديم ذكر الوعيد على غيره «2» .
وقوله- سبحانه- إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ تعليل للنهى عن الحسبان المذكور.
والعزيز: الغالب على كل شيء.
أى: إن الله- تعالى- غالب على كل شيء، وذو انتقام شديد من أعدائه لأنهم تحت قدرته، ومادام الأمر كذلك فإخلاف الوعد منتف في حقه- تعالى-.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض العلامات التي تدل على قرب قيام الساعة فقال- تعالى-: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
والظرف «يوم» متعلق بمحذوف تقديره اذكر.
وقوله «تبدل» من التبديل بمعنى التغيير، وهذا التغيير والتبديل لهما قد يكون في ذواتهما كما في قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ.. «3» .
وقد يكون في صفاتهما كقولك «بدلت الحلقة خاتما» وقد يكون فيهما معا وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال: «وقال الإمام أحمد، حدثنا محمد بن عدى، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ ... قالت: قلت:
أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على الصراط.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «لقد سألتنى عن شيء ما سألنى عنه أحد من أمتى،
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 384.
(2) حاشية الانتصاف على الكشاف ج 2 ص 384.
(3) سورة النساء الآية 56.(7/578)
ذاك أن الناس- يومئذ يكونون- على جسر جهنم» «1» .
والمعنى: اذكر- أيها العاقل- لتتعظ وتعتبر يوم يتغير هذا العالم المعهود بعالم آخر جديد، يأتى به الله- تعالى- على حسب إرادته ومشيئته ويوم يخرج الخلائق جميعا من قبورهم ليستوفوا جزاءهم، وليجازوا على أعمالهم. من الله- تعالى- الواحد الأحد، الذي قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب، وخضعت له الألباب.
وختمت الآية الكريمة بهذين الوصفين لله- تعالى- للرد على المشركين الذين جعلوا مع الله آلهة أخرى يشركونها معه في العبادة، ويتوهمون أن هذه الآلهة سوف تدافع عنهم يوم القيامة.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما يحل بالمجرمين يوم القيامة من عذاب عنيف مهين يناسب إجرامهم وكفرهم فقال: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ.
وقوله «مقرنين» جمع مقرن، وهو من جمع مع غيره في قرن ووثاق واحد يربطان به.
والأصفاد: جمع صفد- بفتح الفاء- وهو القيد الذي يوضع في الرجل، أو الغل- بضم الغين- الذي تضم به اليد والرجل إلى العنق.
والسرابيل: جمع سربال وهو القميص.
والقطران: مادة حارة نتنة شديدة الاشتعال تصلى بها جلود الإبل الجربى، ليزول الجرب منها. أى: وترى- أيها العاقل- المجرمين في هذا اليوم العسير عليهم «مقرنين في الأصفاد» أى: قد قرن بعضهم مع بعض، وضم كل قرين إلى من يشبهه في الكفر وفي الفسوق وفي العصيان، وقد قيدوا جميعا بالأصفاد والقيود والأغلال.
قال- تعالى- احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ.. «2» .
أى: وأمثالهم من العصاة، فعابد الصنم يكون مع عابد الصنم، وشارب الخمر مع شارب الخمر. ويصح أن يكون اقترانهم مع الشياطين كما قال- تعالى- فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا «3» .
هذا عن مشهد المجرمين وهم مقرنون في الأصفاد، وهو مشهد مهين مذل ولكنه ليس كافيا
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 437.
(2) سورة الصافات الآية 22.
(3) سورة مريم الآية 68.(7/579)
في عقابهم، بل يضاف إليه أن ملابسهم من قطران، ليجتمع لهم لذعته، وقبح لونه، ونتن ريحه، وسرعة اشتعاله، وفوق كل ذلك فإن وجوههم تعلوها وتحيط بها النار التي تستعر بأجسادهم المسربلة بالقطران.
وخص- سبحانه الوجوه بغشيان النار لها، لكونها أعز موضع في البدن وأشرفه.
وقوله- سبحانه- لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ... متعلق بمحذوف، والتقدير:
فعل ما فعل- سبحانه- من إثابة المؤمنين، ومعاقبة المجرمين، ليجازى كل نفس بما تستحقه من خير أو شر، دون أن يظلم ربك أحدا.
وقوله إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أى: إنه- سبحانه- سريع المحاسبة لعباده، لأنه لا يشغله شأن عن شأن، بل جميع الخلق بالنسبة لقدرته كالنفس الواحدة.
قال- تعالى- ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.. «1» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله- تعالى- هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
واسم الإشارة «هذا» يعود إلى ما أنزله الله- تعالى- من قرآن في هذه السورة وفي غيرها. و «بلاغ» مصدر بمعنى التبليغ.
والإنذار: التخويف من سوء عاقبة ارتكاب الشرور والآثام.
والألباب: جمع لب وهو الخالص من كل شيء، والمراد بها العقول.
أى: هذا القرآن الكريم الذي أنزلناه عليك يا محمد، فيه التبليغ الكافي لهداية الناس، وفيه ما يخوفهم من سوء عاقبة الكفر والفسوق والعصيان، وفيه ما يجعلهم يعلمون عن طريق توجيهاته وهداياته ودلائله، أن الله- تعالى- واحد لا شريك له، وفيه ما يجعل أصحاب العقول السليمة يتعظون ويعتبرون، فيترتب على ذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وخص- سبحانه- بالتذكر أولى الألباب، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداية القرآن الكريم، أما غيرهم فهم كالأنعام بل هم أضل.
وقد رتب- سبحانه- في هذه الآية الكريمة، وسائل الدعوة إلى الحق ترتيبا عقليا حكيما، فبدأ بالصفة العامة وهي التبليغ، ثم ثنى بما يعقب ذلك من إنذار وتخويف، ثم ثلث بما ينشأ عنهما من العلم بوحدانية الله- تعالى-، ثم ختم بالثناء على أصحاب العقول السليمة
__________
(1) سورة لقمان الآية 28. [.....](7/580)
الذين ينتفعون بما يسمعون وبما يبصرون.
قال الإمام الرازي: «هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإنسان، ولا منقبة له، إلا بسبب عقله، لأنه- تعالى- بين أنه إنما أنزل هذه الكتب، وإنما بعث الرسل، لتذكير أولى الألباب ... » «1» .
وبعد: فهذه سورة إبراهيم- عليه السلام- وهذا تفسير لها.
أسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا، وشفيعا لنا يوم نلقاه- تعالى-.
كما أسأله- عز وجل- أن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم، ونافعة لعباده والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، د. محمد سيد طنطاوى
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 150.(7/581)
فهرس إجمالى لتفسير سورة يونس- عليه السلام-
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة المقدمة والتمهيد 5- 7 1 الر تلك آيات الكتاب الحكيم 12 2 أكان للناس عجبا 15 3 إن ربكم الله الذي خلق 20 4 إليه مرجعكم جميعا 23 5 هو الذي جعل الشمس ضياء 25 6 إن في اختلاف الليل والنهار 27 7 إن الذين لا يرجون لقاءنا 28 8 أولئك مأواهم النار 29 9 إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات 29 10 دعواهم فيها سبحانك 30 11 ولو يعجل الله للناس الشر 32 12 وإذا مس الإنسان 35 13 ولقد أهلكنا القرون 37 14 ثم جعلناكم خلائف 38 15 وإذا تتلى عليهم 39 16 قل لو شاء الله 40 17 فمن أظلم ممن افترى 42 18 ويعبدون من دون الله 42 19 وما كان الناس إلا أمة 44 20 ويقولون لولا أنزل 46 21 وإذا أذقنا الناس 47 22 هو الذي يسيركم في البر والبحر 49(7/583)
23 فلما أنجاهم إذا هم يبغون 51 24 إنما مثل الحياة الدنيا كماء 54 25 والله يدعو إلى دار السلام 57 26 للذين أحسنوا الحسنى 57 27 والذين كسبوا السيئات 59 28 ويوم نحشرهم جميعا 60 29 فكفى بالله شهيدا 62 30 هنالك تبلو كل نفس 62 31 قل من يرزقكم من السماء 62 32 فذلكم الله ربكم الحق 64 33 كذلك حقت كلمة ربك 65 34 قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق 65 35 قل هل من شركائكم من يهدى 67 36 وما يتبع أكثرهم إلا ظنا 68 37 وما كان هذا القرآن 70 38 أم يقولون افتراه 72 39 بل كذبوا بما لم يحيطوا 73 40 ومنهم من يؤمن به 74 41 وإن كذبوك فقل لي 75 42 ومنهم من يستمعون إليك 75 43 ومنهم من ينظر إليك 75 44 إن الله لا يظلم الناس 76 45 ويوم يحشرهم 76 46 وإما نرينك بعض 79 47 ولكل أمة رسول 80 48 ويقولون متى هذا الوعد 80 49 قل لا أملك لنفسي 81(7/584)
50 قل أرأيتم إن أتاكم 81 51 أثم إذا ما وقع آمنتم به 83 52 ثم قيل للذين ظلموا 83 53 ويستنبئونك أحق هو 84 54 ولو أن لكل نفس ظلمت 85 55 ألا إن لله ما في السموات والأرض 86 56 هو يحيى ويميت 87 57 يا أيها الناس قد جاءتكم 88 58 قل بفضل الله وبرحمته 89 59 قل أرأيتم ما أنزل الله 90 60 وما ظن الذين يفترون 91 61 وما تكون في شأن وما تتلو 92 62 ألا إن أولياء الله 94 63 الذين آمنوا وكانوا 95 64 لهم البشرى في الحياة 96 65 ولا يحزنك قولهم 97 66 ألا إن لله من في السموات 98 67 هو الذي جعل لكم 100 68 قالوا اتخذ الله ولدا 100 69 قل إن الذين يفترون 101 70 متاع في الدنيا ثم إلينا 101 71 واتل عليهم نبأ نوح 102 72 فإن توليتم فما سألتكم 106 73 فكذبوه فنجيناه ومن معه 107 74 ثم بعثنا من بعده رسلا 108 75 ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون 110 76 فلما جاءهم الحق من عندنا 111(7/585)
77 قال موسى أتقولون 112 78 قالوا أجئتنا لتلفتنا 113 79 وقال فرعون ائتوني 115 80 فلما جاء السحرة 115 81 فلما ألقوا قال موسى 115 82 ويحق الله الحق بكلماته 116 83 فما آمن لموسى إلا ذرية 116 84 وقال موسى يا قوم 119 85 فقالوا على الله توكلنا 120 86 ونجنا برحمتك من القوم 120 87 وأوحينا إلى موسى وأخيه 120 88 وقال موسى ربنا 122 89 قال قد أجيبت دعوتكما 125 90 وجاوزنا ببني إسرائيل 126 91 آلآن وقد عصيت قبل 127 92 فاليوم ننجيك ببدنك 128 93 ولقد بوأنا بنى إسرائيل 129 94 فإن كنت في شك 130 95 ولا تكونن من الذين كذبوا 132 96 إن الذين حقت عليهم 132 97 ولو جاءتهم كل آية 132 98 فلولا كانت قرية آمنت 133 99 ولو شاء ربك لآمن 136 100 وما كان لنفس أن تؤمن 136 101 قل انظروا ماذا في السموات 137 102 فهل ينتظرون إلا مثل 137 103 ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا 138(7/586)
104 قل يا أيها الناس إن كنتم 139 105 وأن أقم وجهك للدين 140 106 ولا تدع من دون الله 141 107 وإن يمسسك الله بضر 141 108 قل يا أيها الناس قد جاءكم 142 109 واتبع ما يوحى إليك واصبر 142(7/587)
فهرس إجمالى لتفسير سورة هود- عليه السلام-
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة تعريف بسورة هود 147 1 الر. كتاب أحكمت آياته 156 2 ألا تعبدوا إلا الله 158 3 وأن استغفروا ربكم 158 4 إلى الله مرجعكم 160 5 ألا إنهم يثنون صدورهم 160 6 وما من دابة في الأرض 162 7 وهو الذي خلق السموات والأرض 164 8 ولئن أخرنا عنهم العذاب 167 9 ولئن أذقنا الإنسان 169 10 ولئن أذقناه نعماء 170 11 إلا الذين صبروا 171 12 فلعلك تارك بعض 171 13 أم يقولون افتراه 173 14 فإن لم يستجيبوا لكم 174 15 من كان يريد الحياة الدنيا 176 16 أولئك الذين ليس لهم 176 17 أفمن كان على بينة من ربه 178 18 ومن أظلم ممن افترى 182 19 الذين يصدون عن سبيل الله 184 20 أولئك لم يكونوا معجزين 185 21 أولئك الذين خسروا أنفسهم 186 22 لا جرم أنهم في الآخرة 186(7/588)
23 إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات 186 24 مثل الفريقين كالأعمى 187 25 ولقد أرسلنا نوحا 189 26 ألا تعبدوا إلا الله 190 27 فقال الملأ الذين كفروا 190 28 قال يا قوم أرأيتم 192 29 ويا قوم لا أسألكم 194 30 ويا قوم من ينصرني من الله 195 31 ولا أقول لكم عندي خزائن الله 196 32 قالوا يا نوح قد جادلتنا 197 33 قال إنما يأتيكم به الله 198 34 ولا ينفعكم نصحى إن أردت 198 35 أم يقولون افتراه 199 36 وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن 200 37 واصنع الفلك بأعيننا 201 38 ويصنع الفلك 202 39 فسوف تعلمون من يأتيه 203 40 حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور 203 41 وقال اركبوا فيها 207 42 وهي تجرى بهم في موج كالجبال 208 43 قال سآوى إلى جبل 208 44 وقيل يا أرض ابلعي ماءك 209 45 ونادى نوح ربه 212 46 قال يا نوح إنه ليس 213 47 قال رب إنى أعوذ بك 215 48 قيل يا نوح اهبط 215 49 تلك من أنباء الغيب 216(7/589)
50 وإلى عاد أخاهم هودا 220 51 ويا قوم لا أسألكم 222 52 ويا قوم استغفروا ربكم 223 53 قالوا يا هود ما جئتنا ببينة 224 54 إن نقول إلا اعتراك 224 55 من دونه فكيدوني جميعا 225 56 إنى توكلت على الله 226 57 فإن تولوا فقد أبلغتكم 227 58 ولما جاء أمرنا نجينا هودا 228 59 وتلك عاد جحدوا 228 60 وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة 229 61 وإلى ثمود أخاهم صالحا 230 62 قالوا يا صالح قد كنت 233 63 قال يا قوم أرأيتم إن كنت 233 64 ويا قوم هذه ناقة الله 234 65 فعقروها فقال تمتعوا 235 66 فلما جاء أمرنا نجينا صالحا 236 67 وأخذ الذين ظلموا 236 68 كأن لم يغنوا فيها 236 69 ولقد جاءت رسلنا 237 70 فلما رأى أيديهم 240 71 وامرأته قائمة فضحكت 240 72 قالت يا ويلتى أألد 241 73 قالوا أتعجبين من أمر الله 241 74 فلما ذهب عن إبراهيم 242 75 إن إبراهيم لحليم 243 76 يا إبراهيم أعرض عن هذا 244(7/590)
77 ولما جاءت رسلنا لوطا 245 78 وجاءه قومه يهرعون إليه 247 79 قالوا لقد علمت مالنا 249 80 قال لو أن لي بكم قوة 250 81 قالوا يا لوط إنا رسل ربك 250 82 فلما جاء أمرنا 252 83 مسومة عند ربك 252 84 وإلى مدين أخاهم شعيبا 254 85 ويا قوم أوفوا المكيال 258 86 بقية الله خير لكم إن كنتم 258 87 قالوا يا شعيب أصلاتك 259 88 قال يا قوم أرأيتم 259 89 ويا قوم لا يجر منكم 261 90 واستغفروا ربكم 262 91 قالوا يا شعيب ما نفقه 263 92 قال يا قوم أرهطي 264 93 ويا قوم اعملوا على مكانتكم 264 94 ولما جاء أمرنا نجينا 265 95 كأن لم يغنوا فيها 265 96 ولقد أرسلنا موسى 267 97 إلى فرعون وملئه 267 98 يقدم قومه يوم القيامة 268 99 وأتبعوا في هذه لعنة 268 100 ذلك من أنباء القرى 270 101 وما ظلمناهم ولكن ظلموا 271 102 وكذلك أخذ ربك 272 103 إن في ذلك لآية 273(7/591)
104 وما نؤخره إلا لأجل 274 105 يوم يأت لا تكلم نفس 274 106 فأما الذين شقوا 275 107 خالدين فيها ما دامت 276 108 وأما الذين سعدوا 279 109 فلا تك في مرية 280 110 ولقد آتينا موسى 282 111 وإن كلا لما ليوفينهم 283 112 فاستقم كما أمرت 284 113 ولا تركنوا إلى الذين 285 114 وأقم الصلاة 286 115 واصبر فإن الله 289 116 فلولا كان من القرون 289 117 وما كان ربك 292 118 ولو شاء ربك 293 119 إلا من رحم ربك 293 120 وكلا نقص عليك 295 121 وقل للذين لا يؤمنون 295 122 وانتظروا إنا منتظرون 295 123 ولله غيب السموات والأرض 296(7/592)
فهرس إجمالى لتفسير «سورة يوسف»
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة تعريف بسورة يوسف 299 1 الر تلك آيات الكتاب 313 2 إنا أنزلناه قرآنا عربيا 315 3 نحن نقص عليك 316 4 إذ قال يوسف لأبيه 317 5 قال يا بنى لا تقصص 318 6 وكذلك يجتبيك ربك 319 7 لقد كان في يوسف 321 8 إذ قالوا ليوسف وأخوه 322 9 اقتلوا يوسف أو اطرحوه 323 10 قال قائل منهم 325 11 قالوا يا أبانا 326 12 أرسله معنا غدا 326 13 قال إنى ليحزنني 327 14 قالوا لئن أكله الذئب 327 15 فلما ذهبوا به 327 16 وجاءوا أباهم عشاء 329 17 قالوا يا أبانا إنا ذهبنا 329 18 وجاءوا على قميصه 330 19 وجاءت سيارة 332 20 وشروه بثمن بخس 334 21 وقال الذي اشتراه 335 22 ولما بلغ أشده 336(7/593)
23 وراودته التي هو في بيتها 337 24 ولقد همت به 341 25 واستبقا الباب 344 26 قال هي راودتني 345 27 وإن كان قميصه 346 28 فلما رأى قميصه 347 29 يوسف أعرض عن هذا 347 30 وقال نسوة في المدينة 350 31 فلما سمعت بمكرهن 352 32 قالت فذلكن 354 33 قال رب السجن أحب إلىّ 355 34 فاستجاب له ربه 356 35 ثم بدا لهم 357 36 ودخل معه السجن فتيان 359 37 قال لا يأتيكما طعام 360 38 واتبعت ملة آبائي 361 39 يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون 361 40 ما تعبدون من دونه 362 41 يا صاحبي السجن أما أحدكما 363 42 وقال للذي ظن أنه ناج 364 43 وقال الملك إنى أرى 365 44 قالوا أضغاث أحلام 368 45 وقال الذي نجا 369 46 يوسف أيها الصديق 370 47 قال تزرعون سبع سنين 370 48 ثم يأتى من بعد ذلك سبع 371 49 ثم يأتى من بعد ذلك عام 372(7/594)
50 وقال الملك ائتوني به 372 51 قال ما خطبكن 375 52 ذلك ليعلم أنى لم أخنه 377 53 وما أبرئ نفسي 377 54 وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي 379 55 قال اجعلنى على خزائن الأرض 380 56 وكذلك مكنا ليوسف 381 57 ولأجر الآخرة خير 382 58 وجاء إخوة يوسف 382 59 ولما جهزهم بجهازهم 384 60 فإن لم تأتونى به 385 61 قالوا سنراود عنه أباه 385 62 وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم 386 63 فلما رجعوا إلى أبيهم 387 64 قال هل آمنكم عليه 389 65 ولما فتحوا متاعهم 389 66 قال لن أرسله معكم 391 67 وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد 391 68 ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم 393 69 ولما دخلوا على يوسف 394 70 فلما جهزهم بجهازهم 396 71 قالوا وأقبلوا عليهم 396 72 قالوا نفقد صواع الملك 397 73 قالوا تالله لقد علمتم 397 74 قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين 397 75 قالوا جزاؤه 397 76 فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه 398(7/595)
77 قالوا إن يسرق 400 78 قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا 401 79 قال معاذ الله 401 80 فلما استيأسوا منه 402 81 ارجعوا إلى أبيكم فقولوا 404 82 واسأل القرية 404 83 قال بل سوّلت لكم أنفسكم 405 84 وتولى عنهم وقال يا أسفى 406 85 قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف 407 86 قال إنما أشكو بثي وحزنى إلى الله 408 87 يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف 409 88 فلما دخلوا عليه 410 89 قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف 412 90 قالوا أإنك لأنت يوسف 412 91 قالوا تالله لقد آثرك الله علينا 413 92 قال لا تثريب عليكم اليوم 413 93 اذهبوا بقميصي هذا 413 94 ولما فصلت العير 414 95 قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم 414 96 فلما أن جاء البشير 414 97 قالوا يا أبانا استغفر لنا 415 98 قال سوف أستغفر لكم ربي 415 99 فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه 415 100 ورفع أبويه على العرش 417 101 رب قد آتيتني من الملك 418 102 ذلك من أنباء الغيب 419 103 وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين 421(7/596)
104 وما تسألهم عليه من أجر 421 105 وكأين من آية 422 106 وما يؤمن أكثرهم 422 107 أفأمنوا أن تأتيهم غاشية 423 108 قل هذه سبيلي 423 109 وما أرسلنا من قبلك 424 110 حتى إذا استيئس الرسل 425 111 لقد كان في قصصهم عبرة 426(7/597)
فهرس إجمالى لتفسير سورة الرعد
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة المقدمة والتمهيد 431 1 المر تلك آيات الكتاب 437 2 الله الذي رفع السموات 439 3 وهو الذي مد الأرض وجعل 440 4 وفي الأرض قطع متجاورات 442 5 وإن تعجب فعجب قولهم 445 6 ويستعجلونك بالسيئة 447 7 ويقول الذين كفروا لولا 449 8 الله يعلم ما تحمل كل أنثى 450 9 عالم الغيب والشهادة 451 10 سواء منكم من أسر القول 452 11 له معقبات من بين يديه 452 12 هو الذي يريكم البرق 454 13 ويسبح الرعد بحمده 455 14 له دعوة الحق 458 15 ولله يسجد من في السموات 460 16 قل من رب السموات والأرض 462 17 أنزل من السماء ماء فسالت 464 18 للذين استجابوا لربهم الحسنى 467 19 أفمن يعلم أن ما أنزل 468 20 الذين يوفون بعهد الله 469 21 والذين يصلون ما أمر الله 470 22 والذين صبروا ابتغاء 470(7/598)
23 جنات عدن يدخلونها 472 24 سلام عليكم بما صبرتم 473 25 والذين ينقضون عهد الله 473 26 الله يبسط الرزق لمن يشاء 474 27 ويقول الذين كفروا 476 28 الذين آمنوا وتطمئن 478 29 الذين آمنوا وعملوا 478 30 كذلك أرسلناك في أمة 479 31 ولو أن قرآنا سيرت 481 32 ولقد استهزئ برسل 484 33 أفمن هو قائم 484 34 لهم عذاب في الحياة الدنيا 489 35 مثل الجنة التي وعد 489 36 والذين آتيناهم الكتاب 490 37 وكذلك أنزلناه حكما 492 38 ولقد أرسلنا رسلا من قبلك 494 39 يمحو الله ما يشاء ويثبت 495 40 وإما نرينك بعض الذي 496 41 أو لم يروا أنا نأتى الأرض 496 42 وقد مكر الذين من قبلهم 498 43 ويقول الذين كفروا لست 498(7/599)
فهرس إجمالى لتفسير سورة إبراهيم
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة المقدمة والتعريف بالسورة 505 1 الر. كتاب أنزلناه 509 2 الله الذي له ما في السموات 511 3 الذين يستحبون الحياة الدنيا 511 4 وما أرسلنا من رسول 512 5 ولقد أرسلنا موسى 515 6 وإذ قال موسى لقومه 519 7 وإذ تأذن ربكم 521 8 وقال موسى إن تكفروا 522 9 ألم يأتكم نبأ الذين 523 10 قالت رسلهم أفي الله شك 528 11 قالت لهم رسلهم إن نحن 530 12 وما لنا أن لا نتوكل على الله 531 13 وقال الذين كفروا لرسلهم 532 14 ولنسكننكم الأرض من بعدهم 534 15 واستفتحوا وخاب 535 16 من ورائه جهنم ويسقى 537 17 يتجرعه ولا يكاد يسيغه 537 18 مثل الذين كفروا بربهم 538 19 ألم تر أن الله خلق السموات 541 20 وما ذلك على الله بعزيز 542 21 وبرزوا لله جميعا 542 22 وقال الشيطان لما قضى الأمر 545(7/600)
23 وأدخل الذين آمنوا 548 24 ألم تر كيف ضرب الله 549 25 تؤتى أكلها كل حين 551 26 ومثل كلمة خبيثة 552 27 يثبت الله الذين آمنوا 552 28 ألم تر إلى الذين بدلوا 554 29 جهنم يصلونها 556 30 وجعلوا لله أندادا 556 31 قل لعبادي الذين آمنوا 557 32 الله الذي خلق السموات 559 33 وسخر لكم الشمس والقمر 560 34 وآتاكم من كل ما سألتموه 561 35 وإذ قال إبراهيم رب اجعل 563 36 رب إنهن أضللن كثيرا 565 37 ربنا إنى أسكنت من 566 38 ربنا إنك تعلم ما نخفى 569 39 الحمد لله الذي وهب لي 569 40 رب اجعلنى مقيم الصلاة 570 41 ربنا اغفر لي ولوالدي 570 42 ولا تحسبن الله غافلا 571 43 مهطعين مقنعي رءوسهم 573 44 وأنذر الناس يوم 574 45 وسكنتم في مساكن 575 46 وقد مكروا مكرهم 576 47 فلا تحسبن الله مخلف 577 48 يوم تبدل الأرض 578 49 وترى المجرمين يومئذ 579(7/601)
50 سرابيلهم من قطران 579 51 ليجزي الله كل نفس 580 52 هذا بلاغ للناس 580(7/602)
[المجلد الثامن]
سورة الحجر
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تعريف بسورة الحجر
1- سورة الحجر، هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فقد ذكر الزركشي والسيوطي أنها نزلت بعد سورة يوسف «1» ..
وعدد آياتها تسع وتسعون آية.
2- وسميت بسورة الحجر، لورود هذا اللفظ فيها دون أن يرد في غيرها وأصحاب الحجر هم قوم صالح- عليه السلام-، إذ كانوا ينزلون الحجر- بكسر الحاء وسكون الجيم- وهو المكان المحجور، أى الممنوع أن يسكنه أحد غيرهم لاختصاصهم به.
ويجوز أن يكون لفظ الحجر، مأخوذ من الحجارة، لأن قوم صالح- عليه السلام- كانوا ينحتون بيوتهم من أحجار الجبال وصخورها، ويبنون بناء محكما جميلا.
قال- تعالى- حكاية عما قاله نبيهم صالح لهم- وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ «2» ومساكنهم ما زالت آثارها باقية، وتعرف الآن بمدائن صالح، وهي في طريق القادم من المدينة المنورة إلى بلاد الشام أو العكس، وتقع ما بين خيبر وتبوك ...
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ...
3- وسورة الحجر كلها مكية.
قال الشوكانى: وهي مكية بالاتفاق. وأخرج النحاس في ناسخه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحجر بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله» «3» .
وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه السورة أنها مكية، دون أن يذكر في ذلك خلافا.
__________
(1) راجع البرهان للإمام الزركشي ج 1 ص 193 والإتقان للإمام السيوطي ج 1 ص 27.
(2) سورة الشعراء الآية 149
(3) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 120(8/6)
وقال الآلوسى: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير- رضى الله عنهم- أنها نزلت بمكة. وروى ذلك عن قتادة ومجاهد.
وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وقوله- تعالى- كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ «1» .
والحق أن السورة كلها مكية، وسنبين- عند تفسيرنا للآيات التي قيل بأنها مدنية- أن هذا القول ليس له دليل يعتمد عليه.
4- (ا) وعند ما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل. نراها في مطلعها تشير إلى سمو مكانة القرآن الكريم، وإلى سوء عاقبة الكافرين الذين عموا وصموا عن دعوة الحق..
قال- تعالى- الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ.
(ب) ثم تخبرنا بعد ذلك بأن الله- تعالى- قد تكفل بحفظ كتابه، وصيانته من أى تحريف أو تبديل، وبأن المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم إنما يكذبونه عن عناد وجحود، لا عن نقص في الأدلة الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم.
قال- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
(ج) ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته، وعلى سابغ نعمه على عباده ...
قال- تعالى- وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ.
(د) ثم حكت السورة قصة خلق آدم- عليه السلام-، وتكليف الملائكة بالسجود له، وامتثالهم جميعا لأمر الله- سبحانه-، وامتناع إبليس وحده عن الطاعة، وصدور حكمه- سبحانه- بطرده من الجنة ...
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 2.(8/7)
قال- تعالى- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ. وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ..
(هـ) ثم قصت علينا السورة الكريمة بأسلوب فيه الترغيب والترهيب، وفيه العظة والعبرة، جانبا من قصة إبراهيم، ثم من قصة لوط، ثم من قصة شعيب، ثم من قصة صالح- عليهم الصلاة والسلام- ...
قال تعالى-: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ.
(و) ثم ختمت سورة الحجر بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه، وأمرته بالصفح والعفو حتى يأتى الله بأمره، وبشرته بأنه- سبحانه- سيكفيه شر أعدائه، وبأنه سينصره عليهم ...
قال- تعالى-: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة، نراها قد اهتمت اهتماما واضحا بتثبيت المؤمنين وتهديد الكافرين، تارة عن طريق الترغيب والترهيب، وتارة عن طريق قصص السابقين، وتارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما اشتمل عليه من مخلوقات تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته وسابغ رحمته....
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف د. محمد سيد طنطاوى(8/8)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
التفسير قال الله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)(8/9)
سورة الحجر من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي الر.
وقد بينا- بشيء من التفصيل- عند تفسيرنا لسورة: البقرة، وآل عمران، والأعراف ...
آراء العلماء في هذه الحروف التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم.
وقلنا ما خلاصته: من العلماء من يرى أن المعنى المقصود منها غير معروف لأنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه..
ومنهم من يرى أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه، بل هي أسماء للسور التي افتتحت بها ... أو هي حروف مقطعة بعضها من أسماء الله، وبعضها من صفاته ...
ثم قلنا: ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل.
وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيسمعوا حكما وهدايات قد تكون سببا في استجابتهم للحق، كما استجاب صالحو الجن الذين حكى الله- تعالى- عنهم أنهم عند ما استمعوا إلى القرآن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً....
واسم الإشارة تِلْكَ يعود إلى الآيات التي تضمنتها هذه السورة، أو إلى جميع الآيات القرآنية التي نزلت قبل ذلك.
والمراد بالكتاب: القرآن الكريم، ولا يقدح في هذا، ذكر لفظ القرآن بعده، لأنه- سبحانه- جمع له بين الاسمين تفخيما لشأنه، وتعظيما لقدره.
ومُبِينٍ اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان، مبالغة في الوضوح والظهور.(8/10)
قال صاحب الصحاح: يقال: «بان الشيء يبين بيانا، أى اتضح، فهو بين وكذا أبان الشيء فهو مبين ... » .
والمعنى: تلك- أيها الناس- آيات بينات من الكتاب الكامل في جنسه، ومن القرآن العظيم الشأن، الواضح في حكمه وأحكامه، المبين في هدايته وإعجازه فأقبلوا عليها بالحفظ لها، وبالعمل بتوجيهاتها، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.
قال الآلوسى: وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه، حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها، وبالثاني إلى كونه ممتازا عن غيره، نسيجا وحده، بديعا في بابه، خارجا عن دائرة البيان، قرآنا غير ذي عوج..» «1» .
ثم بين- سبحانه- أن الكافرين سيندمون بسبب كفرهم في وقت لا ينفع فيه الندم، فقال- تعالى-: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
قال الشوكانى ما ملخصه: قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء من رُبَما، وقرأ الباقون بتشديدها.. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير.
قال الكوفيون: أى يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين.
وقيل: هي هنا للتقليل، لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب....» «2» .
وقد حاول بعض المفسرين الجمع بين القولين فقال: من قال بأن رُبَما هنا للتكثير نظر إلى كثرة تمنيهم أن لو كانوا مؤمنين، ومن قال بأنها للتقليل نظر إلى قلة زمان إفاقتهم من العذاب بالنسبة إلى زمان دهشتهم منه، وهذا لا ينافي أن التمني يقع كثيرا منهم في زمن إفاقتهم القليل، فلا تخالف بين القولين «3» .
والمعنى: ود الذين كفروا عند ما تنكشف لهم الحقائق. فيعرفون أنهم على الباطل، وأن المؤمنين على الحق، أن لو كانوا مسلمين، حتى ينجوا من الخزي والعقاب.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 3.
(2) تفسير فتح القدير ج 3 ص 121.
(3) حاشية الجمل على الجلالين بتصرف قليل ج 2 ص 537.(8/11)
ودخلت رب هنا على الفعل المضارع يَوَدُّ مع اختصاصها بالدخول على الفعل الماضي، للإشارة إلى أن أخبار الله- تعالى- بمنزلة الواقع المحقق سواء أكانت للمستقبل أم لغيره.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت: لأن المترقب في أخبار الله- تعالى- بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل: «ربما ود الذين كفروا ... » «1» .
ولَوْ في قوله لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ يصح أن تكون امتناعية، وجوابها محذوف، والتقدير: لو كانوا مسلمين لسروا بذلك.
ويصح أن تكون مصدرية، والتقدير: ود الذين كفروا كونهم مسلمين.
وعلى كلا المعنيين فهي مستعملة في التمني الذي هو طلب حصول الأمر الممتنع الحصول.
وقال- سبحانه- لَوْ كانُوا ... بفعل الكون الماضي، للإشعار بأنهم يودون الدخول في الإسلام، بعد مضى وقت التمكن من الدخول فيه.
وعبر- سبحانه- عن متمناهم بالغيبة كانُوا، نظرا لأن الكلام مسوق بصدد الإخبار عنهم، وليس بصدد الصدور منهم، ولو كان كذلك لقيل: لو كنا مسلمين.
هذا، وللمفسرين أقوال في الوقت الذي ود فيه الكافرون أن لو كانوا مسلمين، فمنهم من يرى أن ودادتهم هذه تكون في الدنيا، ومنهم من يرى أنها تكون عند الموت، ومنهم من يرى أنها تكون عند الحساب، وعند عفو الله عن عصاة المؤمنين.
والحق أن هذه الودادة تكون في كل موطن يعرف فيه الكافرون بطلان كفرهم، وفي كل وقت ينكشف لهم فيه أن الإسلام هو الدين الحق.
فهم تمنوا أن لو كانوا مسلمين في الدنيا، عند ما رأوا نصر الله لعباده المؤمنين، في غزوة بدر وفي غزوة الفتح وفي غيرهما، فعن ابن مسعود- رضى الله عنه-: «ود كفار قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر الله للمسلمين» «2» .
وهم تمنوا ذلك عند الموت كما حكى عنهم- سبحانه- ذلك في آيات كثيرة منها قوله
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 386.
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 5.(8/12)
- تعالى-: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ... «1» .
وهم يتمنون ذلك عند ما يعرضون على النار يوم القيامة. قال- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» .
وهم يتمنون ذلك عند ما يرون عصاة المؤمنين، وقد أخرجهم الله- تعالى برحمته من النار.
وقد ذكر الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث الدالة على ذلك منها: ما أخرجه الطبراني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ناسا من أهل «لا إله إلا الله» يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قولكم «لا إله إلا الله» وأنتم معنا في النار؟ قال فيغضب الله لهم، فيخرجهم، فيلقيهم في نهر الحياة فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه، فيدخلون الجنة. ويسمون فيها الجهنميين.
فقال رجل: يا أنس، أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نعم، أنا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا «3» .
قال بعض العلماء: وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد، لأن من يقول: إن الكافر إذا احتضر تمنى أن لو كان مسلما، ومن يقول: إنه إذا عاين النار تمنى أن لو كان مسلما.. كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقية ندموا على الكفر وتمنوا أنهم لو كانوا مسلمين «4» .
وفي هذه الآية ما فيها من تثبيت المؤمنين، ومن تبشيرهم بأنهم على الحق، ومن حض للكافرين على الدخول في الإسلام قبل فوات الأوان، ومن تحذير لهم من سوء عاقبة الكفر والطغيان.
ثم أمر- سبحانه- الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يذرهم في طغيانهم يعمهون، بعد أن ثبت أنهم قوم لا ينفع فيهم إنذار فقال- تعالى-: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
__________
(1) سورة المؤمنون الآيتان 99، 100.
(2) سورة الأنعام الآية 27.
(3) راجع تفسير ابن كثير. المجلد الرابع ص 443 طبعة دار الشعب
(4) تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج 3 ص 117 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى. [.....](8/13)
وذر فعل أمر بمعنى اترك، ومضارعه يذر، ولا يستعمل له ماض إلا في النادر، ومن هذا النادر ما جاء في الحديث الشريف: «ذروا الحبشة ما وذرتكم» .
و «يتمتعوا» من المتاع بمعنى الانتفاع بالشيء بتلذذ وعدم نظر إلى العواقب.
«ويلههم» : من الانشغال عن الشيء ونسيانه، يقال: فلان ألهاه كذا عن أداء واجبه، أى: شغله.
والأمل: الرغبة في الحصول على الشيء، وأكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله.
والمعنى: اترك- أيها الرسول الكريم- هؤلاء الكافرين، وخلهم وشأنهم، ليأكلوا كما تأكل الأنعام، وليتمتعوا بدنياهم كما يشاءون، وليشغلهم أملهم الكاذب عن اتباعك، فسوف يعلمون سوء عاقبة صنيعهم في العاجل أو الآجل.
قال صاحب الكشاف: وقوله ذَرْهُمْ يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم، ودعهم من النهى عما هم عليه، والصد عنه بالتذكرة والنصيحة، واتركهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم، وتنفيذ شهواتهم ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال.
وألا يلقوا في العاقبة إلا خيرا فسوف يعلمون سوء صنيعهم «1» .
وإنما أمره- سبحانه- بذلك، لعدم الرجاء في صلاحهم، بعد أن مكث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم زمنا طويلا، يدعوهم إلى الحق، بأساليب حكيمة.
وفي تقديم الأكل على غيره، إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب. قال- تعالى-: ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ «2» كما أن فيه تعييرا لهم بما تعارفوا عليه من أن الاقتصار في الحياة على إشباع اللذات الجسدية، دون التفات إلى غيرها من مكارم الأخلاق، يدل على سقوط الهمة، وبلادة الطبع. قال الحطيئة يهجو الزبرقان بن عمرو:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
أى: واقعد عن طلب المكارم والمعالي فإنك أنت المطعوم المكسو من جهة غيرك.
والفعل «يأكلوا» وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر «ذرهم» ، وبعضهم يجعله مجزوم بلام الأمر المحذوفة، الدالة على التوعد والتهديد، ولا يستحسن جعله مجزوما في جواب
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 387.
(2) سورة محمد الآية 12.(8/14)
الأمر، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء أترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم.
والفاء في قوله- سبحانه- فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ للتفريع الدال على الزجر والإنذار.
والاستجابة للحق قبل فوات الأوان.
أى: ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية، لا تفكر فيها ولا تدبر، ومن آمال خادعة براقة شغلتهم عن حقائق الأمور، فسوف يعلمون سوء عاقبة ذلك وسوف يرون ما يحزنهم ويشقيهم ويبكيهم طويلا بعد أن ضحكوا قليلا ...
وفي ذلك إشارة إلى أن لإمهالهم أجلا معينا ينقضي عنده، ثم يأتيهم العذاب الأليم.
قال الآلوسى- رحمه الله-: وفي هذه الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم، وعدم الاستعداد للآخرة، والتأهب لها، ليس من أخلاق من يطلب النجاة.
وجاء عن الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
وأخرج أحمد في الزهد، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- لا أعلمه إلا رفعه- قال: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل وطول الأمل» .
وفي بعض الآثار عن على- كرم الله وجهه-: إنما أخشى عليكم اثنين: طول الأمل، واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسى الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق» «1» .
هذا، وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ «2» .
وقوله- تعالى-: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ «3» .
وقوله- تعالى-: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ «4» .
ثم قرر- سبحانه- أن هلاك الأمم الظالمة، موقوت بوقت محدد في علمه، وأن سنته في ذلك ماضية لا تتخلف، فقال- تعالى- وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 9.
(2) سورة الزخرف الآية 83.
(3) سورة الطور الآية 45.
(4) سورة ابراهيم الآية 30.(8/15)
و «من» في قوله مِنْ قَرْيَةٍ ومِنْ أُمَّةٍ للتأكيد. والمراد بالقرية أهلها.
والمراد بالكتاب المعلوم: الوقت المحدد في علم الله- تعالى- لهلاكها، شبه بالكتاب لكونه لا يقبل الزيادة أو النقص. والأجل: مدة الشيء.
أى: وما أهلكنا من قرية من القرى الظالم أهلها، إلا ولهلاكها وقت محدد في علمنا المحيط بكل شيء، ومحال أن تسبق أمة من الأمم أجلها المقدر لها أو تتأخر عنه.
قال ابن جرير- رحمه الله- عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه: يقول- تعالى- ذكره- وَما أَهْلَكْنا يا محمد مِنْ أهل قَرْيَةٍ من القرى التي أهلكنا أهلها فيما مضى: إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أى: أجل مؤقت ومدة معروفة، لا نهلكهم حتى يبلغوها، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك.. دون أن يتقدم هلاكهم عن ذلك أو يتأخر» «1» .
وجملة إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ في محل نصب على الحال من قرية، وصح ذلك لأن كلمة قرية وإن كانت نكرة، إلا أن وقوعها في سياق النفي سوغ مجيء الحال منها.
أى: ما أهلكناها في حال من الأحوال، إلا في حال بلوغها نهاية المدة المقدرة لبقائها دون تقديم أو تأخير.
قال- تعالى- وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «2» وجملة «ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون» بيان لجملة «إلا ولها كتاب معلوم» لتأكيد التحديد، في بدئه وفي نهايته.
وحذف متعلق «يستأخرون» للعلم به، أى: وما يستأخرون عنه.
والآيتان الكريمتان تدلان بوضوح، على أن إمهال الظالمين ليس معناه ترك عقابهم، وإنما هو رحمة من الله بهم لعلهم أن يثوبوا إلى رشدهم، ويسلكوا الطريق القويم ...
فإذا ما لجوا في طغيانهم، حل بهم عقاب الله- تعالى- في الوقت المحدد في علمه- سبحانه-.
قال صاحب الظلال: ولقد يقال: إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية، وهذا وهم.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 14 ص 5.
(2) سورة الأعراف الآية 34.(8/16)
فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم، ولو كان هو خير العمارة للأرض، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها.
فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها، فلا تبقى فيها من الخير بقية ثم تنتهي حتما إلى المصير المعلوم. إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل معلوم «1» .
ثم حكى- سبحانه- سوء أدب هؤلاء الكافرين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى- وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ والقائلون هم بعض مشركي قريش. قال مقاتل: نزلت الآيتان في عبد الله بن أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة.
والمراد بالذكر: القرآن الكريم. قال- تعالى- وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ «2» .
و «مجنون» : اسم مفعول من الجنون، وهو فساد العقل.
و «لوما» : حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمني، ومن ما الزائدة فأفاد المجموع الحث على الفعل.
والمعنى: وقال الكافرون لرسولهم صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء والتهكم: «يا أيها» المدعى بأن الوحى ينزل عليك بهذا القرآن الذي تتلوه علينا، «إنك لمجنون» بسبب هذه الدعوى التي تدعيها. وبسبب طلبك منا اتباعك وتركنا ما وجدنا عليه آباءنا ...
هلا إن كنت صادقا في دعواك، أن تحضر معك الملائكة، ليخبرونا بأنك على حق فيما تدعيه، وبأنك من الصادقين في تبليغك عن الله- تعالى- ما أمرك بتبليغه؟
وأكدوا الحكم على الجنون بإن واللام، لقصدهم تحقيق ذلك في نفوس السامعين ممن هم على شاكلتهم في الكفر والضلال، حتى ينصرفوا عن الاستماع إليه صلى الله عليه وسلم.
قال الآلوسى: يعنون يا من يدعى مثل هذا الأمر العظيم، الخارق للعادة إنك بسبب تلك
__________
(1) تفسير في ظلال القران ج 14 ص 2166 للأستاذ سيد قطب.
(2) سورة الأنبياء الآية 50.(8/17)
الدعوى تحقق جنونك على أتم وجه. وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده، أنت مجنون «1» .
فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا ألوانا من سوء أدبهم، منها: مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الدال على التهكم والاستخفاف، حيث قالوا: «يا أيها الذي نزل عليه الذكر» ، مع أنهم لا يقرون بنزول شيء عليه.
ووصفهم له بالجنون، وهو صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم فكرا..
وشكهم في صدقه، حيث طلبوا منه- على سبيل التعنت- أن يحضر معه الملائكة ليعاضدوه في دعواه كما قال تعالى في آيات أخرى منها قوله- تعالى- وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ... «2» .
وقوله- تعالى-: ... لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً «3» .
وقد رد الله- تعالى- عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ.
وقرأ الجمهور ما تنزل- بفتح التاء والزاى على أن أصله تتنزل- ورفع الملائكة على الفاعلية.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ما تنزل- بضم التاء وفتح الزاى على البناء للمجهول- ورفع الملائكة على أنه نائب فاعل.
وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم ما نُنَزِّلُ- بنون في أوله وكسر الزاى- ونصب الملائكة على المفعولية والباء في قوله إِلَّا بِالْحَقِّ للملابسة.
أى: ما ننزل الملائكة إلا تنزيلا ملتبسا بالحق، أى: بالوجه الذي تقتضيه حكمتنا وجرت به سنتنا، كأن ننزلهم لإهلاك الظالمين، أو لتبليغ وحينا إلى رسلنا، أو لغير ذلك من التكاليف التي نريدها ونقدرها، والتي ليس منها ما اقترحه المشركون على رسولنا صلى الله عليه وسلم من قولهم لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ولذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا عدم إجابة مقترحاتهم.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 11.
(2) سورة الفرقان الآية 21.
(3) سورة الفرقان الآية 7.(8/18)
وقوله وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ بيان لما سيحل بهم فيما لو أجاب الله- تعالى- مقترحاتهم.
و «إذا» حرف جواب وجزاء.
و «منظرين» من الإنظار بمعنى التأخير والتأجيل.
وهذه الجملة جواب لجملة شرطية محذوفة، تفهم من سياق الكلام، والتقدير: ولو أنزل- سبحانه- الملائكة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي هؤلاء المشركون على شركهم مع ذلك، لعوجلوا بالعقوبة المدمرة لهم، وما كانوا إذا ممهلين أو مؤخرين، بل يأخذهم العذاب بغتة.
قال الإمام الشوكانى: قوله وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ في الكلام حذف. والتقدير:
ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة، وما كانوا إذا منظرين. فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة» «1» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ «2» .
ثم بين- سبحانه- أنه قد تكفل بحفظ هذا القرآن الذي سبق للكافرين أن استهزءوا به، وبمن نزل عليه فقال- تعالى-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
أى: إنا نحن بقدرتنا وعظم شأننا نزلنا هذا القرآن الذي أنكرتموه على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وَإِنَّا لهذا القرآن لَحافِظُونَ من كل ما يقدح فيه، كالتحريف والتبديل، والزيادة والنقصان والتناقض والاختلاف، ولحافظون له بالإعجاز، فلا يقدر أحد على معارضته أو على الإتيان بسورة من مثله، ولحافظون له بقيام طائفة من أبناء هذه الأمة الإسلامية باستظهاره وحفظه والذب عنه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قال صاحب الكشاف: قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، ولذلك قال: إنا نحن، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومن بين يديه ومن خلفه رصد حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين، وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان ... » «3» .
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 3 ص 122 للشوكانى. [.....]
(2) سورة الأنعام الآية 8.
(3) تفسير الكشاف ج 2 ص 388.(8/19)
وقال الآلوسى: ما ملخصه: «ولا يخفى ما في سبك الجملتين- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة، وعلى فخامة شأن التنزيل، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد. ونَحْنُ ليس ضمير فصل لأنه لم يقع بين اسمين، وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن. والضمير في لَهُ للقرآن كما هو الظاهر، وقيل هو للنبي صلى الله عليه وسلم ... » «1» .
هذا ونحن ننظر في هذه الآية الكريمة، من وراء القرون الطويلة منذ نزولها فنرى أن الله- تعالى- قد حقق وعده في حفظ كتابه، ومن مظاهر ذلك:
1- أن ما أصاب المسلمين من ضعف ومن فتن، ومن هزائم، وعجزوا معها عن حفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.. هذا الذي أصابهم في مختلف الأزمنة والأمكنة، لم يكن له أى أثر على قداسة القرآن الكريم، وعلى صيانته من أى تحريف.
ومن أسباب هذه الصيانة أن الله- تعالى- قيض له في كل زمان ومكان، من أبناء هذه الأمة، من حفظه عن ظهر قلب، فاستقر بين الأمة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وصار حفاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر وفي كل عصر.
قال الفخر الرازي: فإن قيل: فلماذا اشتغل الصحابة بجمع القرآن في المصحف، وقد وعد الله بحفظه، وما حفظه الله فلا خوف عليه؟
فالجواب: أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله- تعالى- إياه، فإنه- سبحانه- لما أن حفظه قيضهم لذلك....» «2» .
2- أن أعداء هذا الدين- سواء أكانوا من الفرق الضالة المنتسبة للإسلام أم من غيرهم- امتدت أيديهم الأثيمة إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلوا فيها ما ليس منها ...
وبذل العلماء العدول الضابطون ما بذلوا من جهود لتننقية السنة النبوية مما فعله هؤلاء الأعداء..
ولكن هؤلاء الأعداء، لم يقدروا على شيء واحد، وهو إحداث شيء في هذا القرآن، مع أنهم وأشباههم في الضلال، قد أحدثوا ما أحدثوا في الكتب السماوية السابقة..
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 15.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 160.(8/20)
قال بعض العلماء. سئل القاضي إسماعيل «1» البصري عن السر في تطرّق التغيير للكتب السالفة، وسلامة القرآن من ذلك فأجاب بقوله: إن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال:
«بما استحفظوا من كتاب الله» وتولى- سبحانه- حفظ القرآن بذاته فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «2» .
وقد ذكر الإمام القرطبي ما يشبه ذلك نقلا عن سفيان بن عيينة في قصة طويلة «3» .
والخلاصة، أن سلامة القرآن من أى تحريف- رغم حرص الأعداء على تحريفه ورغم ما أصاب المسلمين من أحداث جسام، ورغم تطاول القرون والدهور- دليل ساطع على أن هناك قوة خارقة- خارجة عن قوة البشر- قد تولت حفظ هذا القرآن، وهذه القوة هي قوة الله- عز وجل- ولا يمارى في ذلك إلا الجاحد الجهول ...
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك من الآيات ما فيه تعزية وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه، فأخبره بأن ما أصابه منهم يشبه ما فعله المكذبون السابقون مع رسلهم، فقال- تعالى- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ.
قال الجمل: «لما أساءوا في الأدب، وخاطبوه صلى الله عليه وسلم خطاب السفاهة، حيث قالوا له:
«إنك لمجنون» ، سلّاه الله فقال له: إن عادة الجهال مع جميع الأنبياء كانت هكذا، وكانوا يصبرون على أذى الجهال. ويستمرون على الدعوة والإنذار، فاقتد أنت بهم في ذلك ... » «4» .
والشيع جمع شيعة وهي الطائفة من الناس المتفقة على طريقة ومذهب واحد، من شاعه إذا تبعه، وأصله- كما يقول القرطبي- مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار.
والمعنى: ولقد أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم- رسلا كثيرين، في طوائف الأمم الأولين، فدعا الرسل أقوامهم إلى ما دعوت إليه أنت قومك من وجوب إخلاص العبادة لله- تعالى-، فما كان من أولئك المدعوين السابقين إلا أن قابلت كل فرقة منهم رسولها بالسخرية والاستهزاء، كما قابلك سفهاء قومك.
__________
(1) هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد الأزدى البصري ولد سنه 200 هـ وتوفى سنة 282. كان من الأئمة الأعلام في التفسير والحديث والفقه.
(2) تفسير التحرير والتنوير ج 14 ص 21 لسماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(3) راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 5.
(4) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 529.(8/21)
وذلك لأن المكذبين في كل زمان ومكان يتشابهون في الطباع الذميمة، وفي الأخلاق القبيحة: كمال قال- تعالى- كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ «1» .
والجار والمجرور مِنْ قَبْلِكَ متعلق بأرسلنا، أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف.
أى: ولقد أرسلنا رسلا كائنة من قبلك.
وإضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند بعض النحاة، أو من حذف الموصوف عند البعض الآخر، أى شيع الأمم الأولين.
وعبر بقوله- سبحانه- إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ للإشعار بأن الاستهزاء بالرسل كان طبيعة فيهم- كما يومئ إليه لفظ كان، وأنه متكرر منهم- كما يفيده التعبير بالفعل المضارع- والكاف في قوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ.. للتشبيه، واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى السلك المأخوذ من نسلكه.
والسلك مصدر سلك- من باب نصر- وهو إدخال الشيء في الشيء، كإدخال الخيط في المخيط.
والضمير المنصوب في «نسلكه» يعود إلى القرآن الكريم الذي سبق الحديث عنه.
والمراد بالمجرمين في قوله فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ مشركو قريش ومن لف لفهم.
والمعنى: كما سلكنا كتب الرسل السابقين في قلوب أولئك المستهزئين نسلك القرآن في قلوب هؤلاء المجرمين من قومك يا محمد، بأن نجعلهم يسمعونه ويفهمونه ويدركون خصائصه دون أن يستقر في قلوبهم استقرار تصديق وإذعان لاستيلاء الجحود والعناد والحسد عليهم.
وقوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بيان للسلك المشبه به، أو حال من المجرمين.
أى: أدخلنا القرآن في قلوبهم ففهموه، ولكنهم لا يؤمنون به عنادا وجحودا.
وعلى هذا التفسير يكون الضمير في نَسْلُكُهُ وفي بِهِ يعودان إلى القرآن الكريم، الذي سبق الحديث عنه في قوله- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
ومن المفسرين الذين ذكروا هذا الوجه ولم يذكروا سواه صاحب الكشاف، فقد قال:
«والضمير في قوله نَسْلُكُهُ، للذكر: أى: مثل ذلك السلك ونحوه نسلك الذكر
__________
(1) سورة الذاريات الآيتان 52، 53.(8/22)
فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ على معنى أن يلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزئا به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها: فقلت: كذلك أنزلها باللئام: تعنى مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية.
ومحل قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ النصب على الحال، أى: غير مؤمن به. أو هو بيان لقوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ.. «1» .
وقد زكى هذا الوجه صاحب الانتصاف فقال: والمراد- والله أعلم- إقامة الحجة على المكذبين، بأن الله- تعالى- سلك القرآن في قلوبهم، وأدخله في سويدائها، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين، فكذب به هؤلاء، وصدق به هؤلاء، كل على علم وفهم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ... ، ولئلا يكون للكفار حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن ... » «2» .
ويرى بعض المفسرين- كالإمام ابن جرير- أن الضمير في نسلكه يعود إلى الكفر الذي سلكه الله في قلوب المكذبين السابقين، أما الضمير في بِهِ فيعود إلى القرآن الكريم، فقد قال: قوله- تعالى- كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ...
يعنى: كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بسبب الكفر بالله.
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ يقول: لا يصدقون بالذكر الذي أنزل إليك. «3» .
ومع أن هذا التفسير الذي ارتضاه شيخ المفسرين ابن جرير له وجاهته، إلا أننا نميل إلى التفسير الأول الذي ارتضاه صاحب الكشاف، لأنه هو المتبادر من معنى الآية، ومن المفسرين الذين رجحوا ذلك الفخر الرازي، فقد قال- رحمه الله- خلال كلام طويل ما ملخصه:
«التأويل الصحيح أن الضمير في قوله- تعالى- كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عائد إلى الذكر، الذي هو القرآن، فإنه- تعالى- قال قبل هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وقال بعده كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أى: هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين.
والمراد من هذا السلك، هو أنه- تعالى- يسمعهم هذا القرآن، ويخلق في قلوبهم حفظه والعلم بمعانيه. إلا أنهم مع هذه الأحوال لا يؤمنون به عنادا وجهلا..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 388.
(2) حاشية الكشاف ج 2 ص 388.
(3) تفسير ابن جرير ج 14 ص 9.(8/23)
ويدل على صحة هذا التأويل، أن الضمير في قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عائد على القرآن بالإجماع، فوجب أن يكون الضمير في نَسْلُكُهُ عائدا إليه- أيضا- لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد ... » «1» .
وقوله- سبحانه- وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ تهديد لهؤلاء المكذبين من كفار مكة ومن سار على شاكلتهم، وتكملة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أى: وقد مضت سنة الله التي لا تتخلف وطريقته المألوفة بأن ينزل عذابه بالمجرمين، كما أنزله بالأمم الماضية، بسبب تكذيبها لرسلها، واستهزائها بهم فلا تحزن- أيها الرسول الكريم- لما أصابك من سفهاء قومك فسننصرك عليهم.
وأضاف- سبحانه- السنة إلى الأولين، باعتبار تعلقها بهم، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا، والإضافة لأدنى ملابسة.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة برسم صورة عجيبة لعناد هؤلاء المكذبين ولجحودهم للحق بعد ما تبين فقال: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
وقوله- سبحانه- وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ.. معطوف على قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ.. لإبطال معاذيرهم، ولبيان أن سبب عدم إيمانهم هو الجحود والعناد، وليس نقصان الدليل والبرهان على صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي. وقوله- تعالى- فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال: ظل فلان نهاره يفعل كذا، إذا فعله بالنهار، ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل بالنهار، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل. والمصدر الظلول «2» .
ويعرجون: من العروج، وهو الذهاب في صعود، وفعله من باب دخل، يقال عرج فلان إلى الجبل يعرج إذا صعد، ومنه المعراج والمعارج أى المصاعد.
وقوله سُكِّرَتْ من السّكر- بفتح السين المشددة وسكون الكاف- بمعنى السد والحبس والمنع، يقال سكرت الباب أسكره سكرا، إذا سددته، والتشديد في سُكِّرَتْ للمبالغة، وهو قراءة الجمهور. وقرأ ابن كثير سُكِّرَتْ، بكسر الكاف بدون تشديد.
__________
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 63 طبعة عبد الرحمن محمد.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 166. [.....](8/24)
وقوله مَسْحُورُونَ اسم مفعول من السحر، بمعنى الخداع والتخييل والصرف عن الشيء إلى غيره.
والمعنى: أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الغلو في الكفر والعناد، أننا لو فتحنا لهم بابا من أبواب السماء، ومكناهم من الصعود إليه، فظلوا في ذلك الباب يصعدون، ويطلعون على ملكوت السموات وما فيها من الملائكة والعجائب لقالوا بعد هذا التمكين والاطلاع- لفرط عنادهم وجحودهم- إنما أبصارنا منعت من الإبصار، وما نراه ما هو إلا لون من الخداع والتخييل والصرف عن إدراك الحقائق بسبب سحر محمد صلى الله عليه وسلم لنا وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور المفسرين، يكون الضمير في قوله فَظَلُّوا يعود إلى هؤلاء المشركين المعاندين.
وقيل الضمير للملائكة، فيكون المعنى: فظل الملائكة في هذا الباب يعرجون، والكفار يشاهدونهم وينظرون إليهم، فقالوا- أى الكفار- بعد كل ذلك، «إنما سكرت أبصارنا..» .
وعلى كلا الرأيين فالآية الكريمة تصور أكمل تصوير، مكابرة الكافرين وعنادهم المزرى.
وعبر- سبحانه- بقوله فَظَلُّوا.. ليدل على أن عروجهم كان في وضح النهار، بحيث لا يخفى عليهم شيء مما يشاهدونه.
وجمعوا في قولهم بين أداة الحصر إِنَّما وبين أداة الإضراب بَلْ للدلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل، وما يرونه ما هو إلا من تخيلات المسحور.
وقالوا «بل نحن قوم مسحورون» ولم يقولوا بل نحن مسحورون، للإشعار بأن السحر قد تمكن منهم جميعا، ولم يخص بعضا منهم دون بعض.
قال الشوكانى: وفي هذا البيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء كائنا ما كان، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقى لعارض الانسداد أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح. ومن بلغ في التعنت إلى هذا الحد، فلا تنفع فيه موعظة ولا يهتدى بآية» «1» .
وبذلك نجد السورة الكريمة قد حدثتنا في خمس عشرة آية من مطلعها إلى هنا، عن سمو
__________
(1) تفسير فتح القدير ج 3 ص 123.(8/25)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
منزلة القرآن الكريم، وعن حسرات الكافرين يوم تتجلى لهم الحقائق، وعن استهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وعن رد القرآن عليهم وعن تسلية الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ...
ثم انتقلت السورة بعد ذلك، فساقت ألوانا من النعم الدالة على وحدانية الله- تعالى- وعظيم قدرته، وبديع صنعه، وشمول علمه، فقال- تعالى-:
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
قال الإمام القرطبي ما ملخصه: لما ذكر- سبحانه- كفر الكافرين، وعجز أصنامهم، ذكر كمال قدرته ليستدل بها على وحدانيته.
والبروج: القصور والمنازل. قال ابن عباس. أى جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر، أى: منازلهما. وأسماء هذه البروج: الحمل والثور والجوزاء والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت.(8/26)
والعرب تعد المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب ...
وقال الحسن وقتادة: البروج: النجوم، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها ...
وقيل البروج: الكواكب العظام ... «1» .
قال بعض العلماء ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد، لأن أصل البروج في اللغة الظهور، ومنه تبرج المرأة، بإظهار زينتها، فالكواكب ظاهرة، والقصور ظاهرة، ومنازل الشمس والقمر كالقصور بجامع أن الكل محل ينزل فيه.. «2» .
وجَعَلْنا أى خلقنا وأبدعنا، فيكون قوله فِي السَّماءِ متعلقا به، وجوز أن يكون بمعنى التصيير، فيكون قوله. في السماء. متعلقا بمحذوف على أنه مفعول ثان له وبُرُوجاً هو المفعول الأول.
أى: ولقد خلقنا وأبدعنا منازل وطرقا في السماء، تسير فيها الكواكب بقدراتنا، وإرادتنا، وحكمتنا، دون خلل أو اضطراب.
وفي ذلك الخلق ما فيه من منافع لكم، حيث تستعملون هذه البروج في ضبط المواقيت وفي تحديد الجهات، وفي غير ذلك من المنافع، كما قال- تعالى- هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «3» .
وافتتح- سبحانه- الآية الكريمة بلام القسم وقد، تنزيلا للمخاطبين الذاهلين عن الالتفات إلى مظاهر قدرة الله- تعالى- منزلة المنكرين، فأكد لهم الكلام بمؤكدين لينتبهوا ويعتبروا.
والضمير في قوله وَزَيَّنَّاها ... يعود إلى السماء. أى: وزينا السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء، لتكون جميلة في عيون الناظرين إليها، وآية للمتفكرين في دلائل قدرة الله- تعالى- وبديع صنعه.
وهذه الجملة الكريمة، تلفت الأنظار إلى أن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون، كما
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 9.
(2) تفسير أضواء البيان ج 3 ص 121 الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.
(3) سورة يونس الآية 5.(8/27)
تشعر المؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يجعلوا حياتهم مبنية على الجمال في الظاهر وفي الباطن، تأسيا بسنة الله- تعالى- في خلق هذا الكون.
ثم وضح- سبحانه- بأن هذا التزيين للسماء، مقرون بالحفظ والصيانة والطهارة من كل رجس فقال- تعالى- وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ.
والمراد بالشيطان هنا: المتمرد من الجن، مشتق من شطن بمعنى بعد، إذ الشيطان بعيد بطبعه عن كل خير.
والرجيم، أى المرجوم المحقر، مأخوذ من الرجم، لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحدا رجموه بالقطع من الحجارة، وقد كان العرب يرجمون قبر أبى رغال الثقفي، الذي أرشد جيش الحبشة إلى مكة لهدم الكعبة. قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبى رغال
والمعنى: ولقد جعلنا في السماء منازل وطرقا للكواكب، وزيناها- أى السماء- للناظرين إليها، وحفظناها من كل شيطان محقر مطرود من رحمتنا بأن منعناه من الاستقرار فيها، ومن أن ينفث فيها شروره ومفاسده، لأنها موطن الأخيار الأطهار.
قال- تعالى-: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «1» .
وقال- تعالى-: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ.... «2» .
وقوله- سبحانه-: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ في محل نصب على الاستثناء واستراق السمع: اختلاسه وسرقته، والمراد به: الاستماع إلى المتحدث خفية، حتى لكأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه، فالسمع هنا بمعنى المسموع من الكلام.
والشهاب: هو الشعلة الساطعة من النار، المنفصلة من الكواكب التي ترى في السماء ليلا، كأنها كوكب ينقض بأقصى سرعة. وجمعه شهب.. أصله من الشهبة، وهي بياض مختلط بسواد.
ومُبِينٌ أى ظاهر واضح للمبصرين.
__________
(1) سورة الصافات الآيتان 6، 7.
(2) سورة الملك الآية 5.(8/28)
والاستثناء منقطع، فيكون المعنى: وحفظنا السماء من كل شيطان رجيم لكن من اختلس السمع من الشياطين، بأن حاول الاقتراب منها، فإنه يتبعه شهاب واضح للناظرين فيحرقه، أو يحول بينه وبين استراق السمع.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ أى.
لكن من استرق السمع، أى الخطفة اليسيرة، فهو استثناء منقطع.
وقيل: هو متصل، أى: إلا ممن استرق السمع. أى: حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحى وغيره، إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها منه أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحى، فأما الوحى فلا تسمع منه شيئا لقوله- تعالى- إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ.
وإذا استمع الشياطين إلى شيء ليس بوحي، فإنهم يقذفونه إلى الكهنة في أسرع من طرفة عين، ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تخبلهم.. «1» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «2» .
قال بعض العلماء ما ملخصه: والمقصود منع الشياطين من الاطلاع على ما أراد الله عدم اطلاعهم عليه.. وربما استدرج الله- تعالى- الشياطين وأولياءهم، فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان فلما أراد- سبحانه- عصمة الوحى منعهم من ذلك بتاتا..
وفي سورة الجن دلالة على أن المنع الشديد من استراق السمع كان بعد البعثة النبوية، وبعد نزول القرآن، إحكاما لحفظ الوحى من أن يلتبس على الناس بالكهانة..
قال- تعالى-: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «3» .
وعلى ذلك يكون ما جاء في بعض الأحاديث من استراق الجن السمع- وصفا للكهانة السابقة، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم «ليسوا بشيء ... » وصفا لآخر أمرهم..
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 11.
(2) سورة الصافات الآيات 6- 10.
(3) سورة الجن الآيتان 8، 9(8/29)
ففي صحيح البخاري عن عائشة: أن ناسا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهانة، فقال: «ليسوا بشيء» . - أى لا وجود لما يزعمونه- فقيل- يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء فيكون حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيقرّها في أذن وليه قرّ الدجاجة- أى فيلقيها بصوت خافت كالدجاجة عند ما تخفى صوتها- فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة» «1» .
وبعد أن بين- سبحانه- بعض الدلائل السماوية الدالة على قدرته ووحدانيته، أتبع ذلك ببيان بعض الدلائل الأرضية فقال- تعالى-: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وقوله: رَواسِيَ من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة. يقال رسا الشيء يرسو أى ثبت.
أى: ومن الأدلة- أيضا- على وحدانيتنا وقدرتنا، أننا مددنا الأرض وفرشناها وبسطناها، لتتيسر لكم الحياة عليها قال- تعالى- وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ «2» .
وأننا- أيضا وضعنا فيها جبالا ثوابت راسخات تمسكها عن الاضطراب وعن أن تميد بكم. قال- تعالى-: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ... «3» .
وأننا- أيضا- أنبتنا في الأرض من كل شيء مَوْزُونٍ أى: مقدر بمقدار معين وموزون بميزان الحكمة، بحيث تتوفر فيه كل معاني الجمال والتناسق.
قال- تعالى-: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «4» .
وأننا- كذلك- جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ... والمعايش: جمع معيشة، وهي في الأصل مصدر عاش يعيش عيشا وعيشة ومعاشا، ومعيشة، إذا صار ذا حياة. ثم استعمل هذا اللفظ فيما يعاش به، أو فيما يتوصل به إلى العيش.
أى: وجعلنا لكم في الأرض ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها، مما تقتضيه ضرورات الحياة التي تحيونها.
__________
(1) راجع تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج 14 ص 24.
(2) سورة الذاريات الآية 48.
(3) سورة لقمان الآية 10.
(4) سورة القمر الآية 49.(8/30)
وجملة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ معطوفة على «معايش» .
والمراد بمن لستم له برازقين: ما يشمل الأطفال والعجزة والأنعام وغير ذلك من مخلوقات الله التي تحتاج إلى العون والمساعدة.
أى: وجعلنا لكم في الأرض ما تعيشون به أو ما تتوصلون به إلى ذلك من المكاسب والتجارات، وجعلنا لكم فيها- أيضا- من لستم له برازقين من العيال والخدم والدواب ...
وإنما الرازق لهم هو الله- تعالى- رب العالمين، إذ ما من دابة في الأرض إلا على الله وحده رزقها. وما يزعمه الجاهلون من أنهم هم الرازقون لغيرهم، هو لون من الغرور والافتراء، لأن الرازق للجميع هو الله رب العالمين.
وعبر بمن في قوله وَمَنْ لَسْتُمْ تغليبا للعقلاء على غيرهم.
قال الإمام ابن كثير: والمقصود- من هذه الجملة- أنه- تعالى- يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب، وصنوف المعاشات وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها. والأنعام التي يأكلونها، والعبيد والإماء التي يستخدمونها، ورزقهم على خالقهم لا عليهم، فلهم هم المنفعة، والرزق على الله- تعالى-» «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن كل شيء في هذا الكون، خاضع لإرادته وقدرته، وتصرفه.. فقال- تعالى- وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
و «إن» نافية بمعنى ما، و «من» مزيدة للتأكيد. و «خزائنه» جمع خزانة، وهي في الأصل تطلق على المكان الذي توضع فيه نفائس الأموال للمحافظة عليها.
والمعنى: وما من شيء من الأشياء الموجودة في هذا الكون، والتي يتطلع الناس إلى الانتفاع بها. إلا ونحن قادرون على إيجادها وإيجاد أضعافها بلا تكلف أو إبطاء، كما قال- تعالى-: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» .
فقد شبه- سبحانه- اقتداره على إيجاد كل شيء، بالخزائن المودعة فيها الأشياء، والمعدة لإخراج ما يشاء إخراجه منها بدون كلفة أو إبطاء.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 447. [.....]
(2) سورة يس الآية 82.(8/31)
والمراد بالإنزال في قوله وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. الإيجاد والإخراج إلى هذه الدنيا، مع تمكين الناس من الحصول عليه.
أى: وما نخرج هذا الشيء إلى حيز الوجود بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به إلا ملتبسا بمقدار معين، وفي وقت محدد، تقتضيه حكمتنا، وتستدعيه مشيئتنا، ويتناسب مع حاجات العباد وأحوالهم، كما قال- تعالى- وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ «1» .
ثم انتقل- سبحانه- من الاستدلال على وحدانيته وقدرته بظواهر السماء وبظواهر الأرض، إلى الاستدلال على ذلك بظواهر الرياح والأمطار فقال- تعالى-: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ والآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق ذكره من النعم.
والمراد بإرسال الرياح هنا: نقلها من مكان إلى آخر بقدرة الله- تعالى- وحكمته.
وقوله لَواقِحَ يصح أن يكون جمع لاقح. وأصل اللاقح: الناقة التي قبلت اللقاح فحملت الجنين في بطنها..
ووصف- سبحانه- الرياح بكونها لواقح. لأنها حوامل تحمل ما يكون سببا في نزول الأمطار كما تحمل النوق الأجنة في بطونها.
أى: وأرسلنا بقدرتنا ورحمتنا الرياح حاملة للسحاب وللأمطار ولغيرهما، مما يعود على الناس بالنفع والخير والبركة.
ويصح أن يكون لفظ «لواقح» جمع ملقح- اسم فاعل- وهو الذي يلقح غيره، فتكون الرياح ملقحة لغيرها كما يلقح الذكر الأنثى.
قال الإمام ابن كثير: قوله وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ أى: تلقح السحب فتدر ماء، وتلقح الأشجار فتتفتح عن أوراقها وأكمامها «2» .
وقال بعض العلماء: ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين، فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو، ثم ينزل مطرا على
__________
(1) سورة الشورى الآية 27.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 448.(8/32)
الأرض، وأنها تلقح الشجر ذا الثمرة، بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر، فتصلح ثمرته أو تثبت..
وهذا هو الإبار. وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة. وبعضه يكتفى منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر.
ومن بلاغة الآية الكريمة، إيراد هذا الوصف- لواقح- لإفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح- وهما الحمل للسحاب والمطر وغيرهما، أو التلقيح لغيرها-.» «1» .
وقوله فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ.. تفريع على ما تقدم.
أى: وأرسلنا الرياح بقدرتنا من مكان إلى آخر، حالة كونها حاملة للسحاب وغيره، فأنزلنا- بسبب هذا الحمل- من جهة السماء، ماء كثيرا هو المطر، لتنتفعوا به في شرابكم، وفي معاشكم، وفي غير ذلك من ضرورات حياتكم.
قال- تعالى-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ... «2» .
وقوله وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ تتميم لنعمة إنزال الماء.
أى: أنزلنا المطر من السماء، وليست خزائنه عندكم. وإنما نحن الخازنون له، ونحن الذين ننزله متى شئنا، ونحن الذين نمنعه متى شئنا، كما قال- تعالى- قبل ذلك: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
ويصح أن يكون المعنى: أنزلنا المطر من السماء فجعلناه لسقياكم، وأنتم لستم بقادرين على خزنه وحفظه في الآبار والعيون وغيرها، وإنما نحن القادرون على ذلك. قال- تعالى- وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ «3» .
ثم بين- سبحانه- أن الإحياء والإماتة بيده وحده، فقال- تعالى-: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ.
أى: وإنا وحدنا القادرون على إيجاد الحياة في المخلوقات، والقادرون على سلبها عنها، ونحن الوارثون لهذا الكون بعد فنائه، الباقون بعد زواله.
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير ج 14 ص 38 لسماحة الشيخ الامام محمد الطاهر بن عاشور.
(2) سورة النحل الآيتان 10، 11.
(3) سورة المؤمنون الآية 18.(8/33)
قال- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ «1» .
وقال- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «2» .
وشبه- سبحانه- بقاءه بعد زوال كل شيء سواه بالوارث، لأن الوارث هو الذي يرث غيره بعد موته.
وأكد- سبحانه- الآية الكريمة بإن واللام وضمير الفصل نَحْنُ تحقيقا للخبر الذي اشتملت عليه، وردا على المشركين الذين زعموا أنه لا حياة ولا ثواب ولا عقاب بعد الموت.
ثم أكد- سبحانه- شمول علمه لكل شيء بعد أن أكد شمول قدرته فقال- تعالى-:
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ.
والمراد بالمستقدمين من تقدم على غيره ولادة وموتا، كما أن المراد بالمستأخرين من تأخر عن غيره في ذلك، ولم يمت بعد، أو لم يوجد بعد في عالم الأحياء.
والسين والتاء في اللفظين للتأكيد.
وقيل: المراد بهما الأحياء والأموات، وقيل المراد بالمستقدمين: من تقدم في الوجود على الأمة الإسلامية، وبالمستأخرين: الأمة الإسلامية.
وقيل: المراد بهما: من قتل في الجهاد ومن لم يقتل، وقيل المراد بهما من تقدم في صفوف الصلاة ومن تأخر ...
قال الإمام ابن جرير بعد أن ساق جملة من الأقوال في ذلك: وأولى الأقوال عندي بالصحة، قول من قال: ولقد علمنا الأموات منكم يا بنى آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين تأخر موتهم ممن هو حي ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد ... » «3» .
ثم بين- سبحانه- أن مرجع الخلق جميعا إليه فقال: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
أى: وإن ربك- وحده- أيها المخاطب- هو الذي يتولى حشر الأولين والآخرين، وجمعهم يوم القيامة للحساب والثواب والعقاب، إنه- سبحانه- حَكِيمٌ في كل
__________
(1) سورة ق الآية 43.
(2) سورة مريم الآية 40.
(3) تفسير ابن جرير ج 14 ص 26.(8/34)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
تصرفاته وأفعاله عَلِيمٌ بأحوال خلقه ما ظهر منها وما بطن.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة، قد اشتملت على ألوان من الأدلة الدالة على وحدانية الله- تعالى- وعظيم قدرته، وبديع صنعه، وشمول علمه، مما يوجب الإيمان به- سبحانه- وإخلاص العبادة له، ومقابلة نعمه بالشكران لا بالكفران، وبالطاعة لا بالمعصية ...
وبعد أن ساق- سبحانه- ألوانا من الأدلة على وحدانيته وقدرته، عن طريق خلقه للسماء وما فيها من بروج وشهب.. وللأرض وما عليها من جبال ونبات.. وللرياح وما تحمله من سحب وأمطار ...
أتبع ذلك بأدلة أخرى على كمال ذاته وصفاته عن طريق خلقه للإنسان وللجن وللملائكة..
فقال- تعالى-:
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)(8/35)
والمراد بالإنسان في قوله- سبحانه- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ آدم- عليه السلام- لأنه أصل النوع الإنسانى، وأول فرد من أفراده.
والصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل، أى: يحدث صوتا إذا حرك أو نقر عليه، كما يحدث الفخار قال- تعالى- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ «1» .
وقيل: الصلصال: الطين المنتن، مأخوذ من قولهم: صلّ اللحم وأصلّ، إذا أنتن..
قال الإمام ابن جرير: والذي هو أولى بتأويل الآية، أن يكون الصلصال في هذا الموضع، الطين اليابس الذي لم تصبه النار، فإذا نقرته صل فسمعت له صلصلة- وذلك أن الله- تعالى- وصفه في موضع آخر فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ فشبهه- تعالى ذكره- بأنه كالفخار في يبسه، ولو كان معناه في ذلك المنتن لم يشبهه بالفخار، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبه به في النتن غيره» «2» .
والحمأ: الطين إذا اشتد سواده وتغيرت رائحته.
والمسنون: المصور من سن الشيء إذا صوره.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله مِنْ حَمَإٍ أى: من طين تغير واسود من مجاورة الماء، ويقال للواحدة حمأة- بسكون الميم- ...
__________
(1) سورة الرحمن الآية 14.
(2) تفسير ابن جرير ج 14 ص 28.(8/36)
وقوله مَسْنُونٍ أى: مصوّر من سنّة الوجه وهي صورته. وأنشد لذلك ابن عباس قول عمه حمزة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أغرّ كأن البدر سنّة وجهه ... جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا
وقيل مسنون: أى مصبوب، من سنّ الماء بمعنى صبه. ويقال شنّ- بالشين أيضا- أى: مفرغ على هيئة الإنسان ... وقيل: المسنون: المنتن ... » «1» .
والذي يتدبر القرآن الكريم يرى أن الله- تعالى- قد وضح في آيات متعددة أطوار خلق آدم- عليه السلام-، فقد بين في بعض الآيات أنه خلقه من تراب، كما في قوله- تعالى- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ... «2» .
وبين في آيات أخرى أنه- سبحانه- خلقه من طين، كما في قوله- تعالى- الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ «3» .
وبين هنا أنه- سبحانه- خلقه مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
قال الجمل: وهذا الطور آخر أطوار آدم الطينية، وأول ابتدائه أنه كان ترابا متفرق الأجزاء، ثم بلّ- أى التراب- فصار طينا، ثم ترك حتى أنتن وأسود فصار حمأ مسنونا.
أى: متغيرا، ثم يبس فصار صلصالا، وعلى هذه الأحوال والأطوار تتخرج الآيات الواردة في أطواره الطينية، كآية خلقه من تراب، وآية بَشَراً مِنْ طِينٍ «4» وهذه الآية التي نحن فيها» «5» .
والمقصود من هذه الآيات الكريمة، التنبيه على عجيب صنع الله- تعالى- وعظيم قدرته، حيث أخرج- سبحانه- من هذه المواد بشرا سويا، في أحسن تقويم.
وأكد- سبحانه- الجملة الكريمة بلام القسم وقد، لزيادة التحقيق، وللإرشاد إلى أهمية هذا الخلق، وأنه بهذه الصفة.
ومِنْ في قوله مِنْ صَلْصالٍ لابتداء الغاية أو للتبعيض، وفي قوله مِنْ حَمَإٍ ابتدائية.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 31.
(2) سورة آل عمران الآية 59.
(3) سورة السجدة الآية 7. [.....]
(4) سورة ص الآية 71.
(5) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 543.(8/37)
والجار والمجرور صفة لصلصال أى: من صلصال كائن من حمأ، ومسنون صفة لحمإ.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك المادة التي خلق منها الجان فقال- سبحانه-: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ.
والمراد بالجان هنا: أبو الجن عند جمهور المفسرين. وقيل هو إبليس. وقيل هو اسم لجنس الجن. وسمى جانا لتواريه عن الأعين، واستتاره عن بنى آدم.
أى: والجان خلقناه مِنْ قَبْلُ أى: من قبل خلق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ أى: من الريح الحارة التي تقتل. وسميت سموما، لأنها لشدة حرارتها، وقوة تأثيرها تنفذ في مسام البدن.
قال ابن كثير: وقد ورد في الحديث الصحيح: «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق بنو آدم مما وصف لكم» «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما أمر به ملائكته عند ما توجهت إرادته- سبحانه- لخلق آدم، فقال- تعالى-: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ.
أى: واذكر- أيها العاقل- وقت أن قال ربك- سبحانه- للملائكة- الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون- إِنِّي خالِقٌ بقدرتي بَشَراً أى:
إنسانا، وعبر عنه بذلك اعتبارا بظهور بشرته وهي ظاهر الجلد مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ أى: سويت خلق هذا البشر، وكملت أجزاءه، وجعلته في أحسن تقويم ...
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أى: وضعت فيه ما به حياته وحركته وهو الروح، الذي لا يعلم حقيقته أحد سواي.
قال القرطبي: قوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي النفخ إجراء الريح في الشيء.
والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 451.(8/38)
إضافة خلق إلى خالق، فالروح خلق من خلقه أضافه- سبحانه- إلى نفسه تشريفا وتكريما، كقوله، أرضى وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله ... «1» .
وقوله فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمر منه- سبحانه- للملائكة بالسجود لآدم.
أى: فإذا سويت خلقه، وأفضت عليه ما به حياته، فاسقطوا وخروا له ساجدين، سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، فإن سجود العبادة لي وحدي.
وقال- سبحانه- فَقَعُوا.. بفاء التعقيب، للإشعار بأن سجودهم له واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير إبطاء أو تأخير.
وهذا نوع من تكريم الله- تعالى- لعبده آدم- عليه السلام-، وله- سبحانه- أن يكرم بعض عباده بما يشاء، وكيف شاء.. لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «2» .
ثم بين- سبحانه- ما كان من الملائكة بعد ذلك فقال: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أى: امتثل الملائكة لأمر الله بعد أن خلق- سبحانه- آدم وسواه ونفخ فيه من روحه، فسجدوا له كلهم أجمعون دون أن يتخلف منهم أحد.
وجمع- سبحانه- بين لفظي التوكيد كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ للمبالغة في ذلك، ولإزالة أى التباس بأن أحدا شذ عن طاعة الله- تعالى-.
وقوله إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ بيان لموقف إبليس من أمر الله- تعالى-. وإبليس: اسم مشتق من الإبلاس، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس، وفعله أبلس، والراجح أنه اسم أعجمى، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. وهو كائن حي، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس، لأنه ليس من المعقول أن يكون الأمر كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه.
قال- تعالى- إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ... «3» .
وقوله أَبى من الإباء وهو الامتناع عن فعل الشيء مع القدرة على فعله، بسبب الغرور والتكبر والتعاظم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 25.
(2) سورة الأنبياء الآية 23.
(3) سورة الأعراف الآية 27.(8/39)
أى: فسجد الملائكة كلهم أجمعون، امتثالا وطاعة لله- تعالى-، إلا إبليس فإنه امتنع عن أن يكون مع الساجدين. تكبرا وغرورا وعصيانا لأمر الله- تعالى-.
وللعلماء في كون إبليس من الملائكة، أم لا، قولان:
أحدهما: أنه كان منهم، لأنه- سبحانه- أمرهم بالسجود لآدم، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لما كان عاصيا، ولما استحق الطرد واللعنة، ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه، حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه. وعلى هذا الرأى الذي اختاره ابن عباس وابن مسعود وغيرهما يكون الاستثناء متصلا.
والثاني: أنه لم يكن من الملائكة، لقوله- تعالى-: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.. «1» فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم..
وعلى هذا الرأى الذي اختاره الحسن وقتادة وغيرهما يكون الاستثناء منقطعا.
قال الشيخ القاسمى: «وقد حاول الإمام ابن القيم- رحمه الله- أن يجمع بين الرأيين فقال: والصواب التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد. فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله فإن أصله من نار وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة والمثبت كونه منهم لم يتواردا على محل واحد» «2» .
والذي نميل إليه في هذه المسألة أن إبليس لم يكن من الملائكة، بدليل الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور. وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق بنو آدم مما وصف لكم» «3» والآية الكريمة- وهي قوله- تعالى- إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ صريحة في أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة.
ومع هذا فإن الأمر بالسجود يشمله، بدليل قوله- تعالى- قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
__________
(1) سورة الكهف الآية 50.
(2) تفسير القاسمى ج 2 ص 104.
(3) صحيح مسلم «كتاب الزهد» باب في أحاديث متفرقة ج 8 ص 227.(8/40)
أَمَرْتُكَ ... «1» .
فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الله- تعالى- قد أمر إبليس بالسجود لآدم ...
ووجود إبليس مع الملائكة لا يستلزم أن يكون منهم، ومثل ذلك كمثل أن تقول: حضر بنو فلان إلا محمدا، ومحمد ليس من بنى فلان هؤلاء، وإنما هو معهم بالمجاورة أو المصاحبة أو غير ذلك.
هذا ما نختاره ونميل إليه، استنادا إلى ظاهر الآيات وظاهر الأحاديث، والله- تعالى- أعلم.
وقوله- سبحانه-: قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ بيان لما وبخ الله- تعالى- به إبليس، ولرد إبليس- لعنه الله- على خالقه- عز وجل-.
أى: قال الله- تعالى- لإبليس على سبيل التوبيخ والزجر: أى سبب حملك على مخالفة أمرى، وجعلك تمتنع عن السجود لمن أمرتك بالسجود له؟
فكان رد إبليس: ما كان ليليق بشأنى ومنزلتي أن أسجد مع الساجدين لبشر خلقته- أيها الخالق العظيم- من صلصال من حمأ مسنون.
ومقصود إبليس بهذا الرد إثبات أنه خير من آدم، كما حكى عنه- سبحانه- ذلك في قوله- تعالى- قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «2» .
وهذا الرد منه يدل على عصيانه لأمر ربه، وعدم الرضا بحكمه، وسوء أدبه مع خالقه- سبحانه-.
قال الآلوسى: وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة، وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل، وباعتبار الصورة، وباعتبار الغاية، بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلي عن الملكات الردية، والتحلي بالمعارف الربانية.
فشمال والكأس فيها يمين ... ويمين لا كأس فيها شمال «3»
وقوله- سبحانه-: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ بيان للحكم العادل الذي أصدره الله- تعالى- على إبليس.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 12.
(2) سورة ص الآية 76.
(3) تفسير الآلوسى ج 14 ص 43.(8/41)
والضمير في قوله: «منها» يعود إلى السماء لأنها مسكن الطائعين الأخيار، أو إلى الجنة لأنها لا يسكنها إلا من أطاع الله- تعالى-، أو إلى المنزلة التي كان فيها قبل طرده من رحمة الله.. أى: قال الله- تعالى- لإبليس على سبيل الزجر والتحقير: فاخرج من جنتي ومن سمائي فإنك رَجِيمٌ مطرود من كل خير وكرامة، وإن عليك اللعنة والإبعاد من رحمتي إلى يوم الدين، وهو يوم الحساب والجزاء.
وليس المراد أن تنقطع عنه اللعنة يوم الدين، بل المراد أن هذه اللعنة مستمرة عليه إلى يوم الدين، فإذا ما جاء هذا اليوم استمرت هذه اللعنة، وأضيف إليها العذاب الدائم المستمر الباقي، بسبب عصيانه لأمر ربه، فذكر يوم الدين، إنما هو للمبالغة في طول مدة هذه اللعنة ودوامها ما دامت الحياة الدنيا.
وعبر- سبحانه- بعلى في قوله وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ للإشعار بتمكنها منه، واستعلائها عليه، حتى لكأن اللعنة فوقه يحملها دون أن تفارقه في لحظة من اللحظات.
ثم حكى- سبحانه- ما طلبه إبليس من ربه، ومارد الله به عليه، فقال- تعالى-:
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ.
والفاء في قوله فَأَنْظِرْنِي للتفريع وهي متعلقة بمحذوف يدل عليه سياق الكلام.
والإنظار: التأخير والإمهال ومنه قوله- تعالى- وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ..
أى: قال إبليس لربه. عز وجل: ما دمت قد أخرجتنى من جنتك ومن سمائك، وجعلتني مرجوما ملعونا إلى يوم الدين، فأخر موتى إلى يوم يبعث آدم وذريته للحساب وخاطب الله- تعالى- بصفة الربوبية تخضعا وتذللا لكي يجاب طلبه.
وقد أجاب الله- تعالى- له طلبه فقال: فَإِنَّكَ يا إبليس من جملة الْمُنْظَرِينَ أى الذين أخرت موتهم إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو يوم القيامة الذي استأثرت بعلم وقته، والذي وصفت أحواله للناس. كي يستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح.
ويصح أن يكون المراد بالوقت المعلوم: وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق ويموت هو معهم.
قال ابن كثير: أجابه الله- تعالى- إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف. ولا تمانع ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.(8/42)
وقال بعض العلماء: وهذا الإنظار رمز إلهى على أن ناموس الشر لا ينقضي من عالم الحياة الدنيا، وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر، وبين الأخيار والأشرار.
قال- تعالى-: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ... «1» .
ولذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح، وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذود عنها» «2» .
ثم بين- سبحانه- الأسياب التي حملت إبليس على طلب تأخير موته إلى يوم القيامة، والتي من أهمها الانتقام من آدم وذريته فقال- تعالى-: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
والباء في قوله بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ.. للسببية أو للقسم.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: الباء هاهنا بمعنى السبب، أى: بسبب كوني غاويا لأزينن لهم كقول القائل: أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار، وبطاعته ليدخلن الجنة.
أو للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن لهم. والمعنى أقسم بإغوائك لي لأزينن لهم.
ونظيره قوله- تعالى- قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «3» .
وقوله أَغْوَيْتَنِي من الإغواء، وهو خلق الغي في القلوب. وأصل الغي الفساد، ومنه غوى الفصيل- كرضى- إذا بشم من اللبن ففسدت معدته. أو منع من الرضاع فهزل وكاد يهلك، ثم استعمل في الضلال. يقال: غوى فلان يغوى غيا وغواية فهو غاو إذا ضل عن الطريق المستقيم. وأغواه غيره وغواه: أضله.
وقوله لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ من التزيين بمعنى التحسين والتجميل، وهو تصيير الشيء زينا، أى: حسنا حتى ترغب النفوس فيه وتقبل عليه.
والضمير في لَهُمْ يعود على ذرية آدم، وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر لهم ذكر، وقد جاء ذلك صريحا في قوله- تعالى- في آية أخرى: قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا «4» .
وحذف مفعول لَأُزَيِّنَنَّ لدلالة المقام عليه.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 18.
(2) تفسير التحرير والتنوير ج 14 ص 49. [.....]
(3) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 185.
(4) سورة الأسراء الآية 63.(8/43)
أى: لأزينن لهم المعاصي والسيئات، بأن أحسن لهم القبيح. وأزين لهم المنكر. وأحبب الشهوات إلى نفوسهم حتى يتبعوها، وأبذل نهاية جهدي في صرفهم عن طاعتك ... وقال- سبحانه- فِي الْأَرْضِ لتحديد مكان إغوائه، إذ هي المكان الذي صار مستقرا له ولآدم وذريته، كما قال- تعالى- في آية أخرى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها- أى الجنة- فأخرجهما- أى آدم وحواء- مما كانا فيه، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «1» .
وقوله وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ مؤكدا لما قبله.
أى: والله لأغوينهم جميعا مادمت قادرا على ذلك، ولأعملن على إضلالهم بدون فتور أو يأس، كما قال- تعالى- في آية أخرى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «2» .
قال القرطبي: وروى ابن لهيعة عبد الله عن دراج أبى السمح، عن أبى الهيثم، عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى» .
وقوله- سبحانه- إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ اعتراف من إبليس بأن من عباد الله- تعالى- قوما لا يستطيع أن يغويهم، ولا يقدر على إضلالهم.
وكلمة «المخلصين» قرأها نافع وحمزة وعاصم والكسائي- بفتح اللام-، فيكون المعنى: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك الذين استخلصتهم لطاعتك، وصنتهم عن اقتراف ما نهيتهم عنه.
وقرأها ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو- بكسر اللام-، فيكون المعنى: لأضلنهم جميعا، إلا عبادك الذين أخلصوا لك العمل، وابتعدوا عن الرياء في أقوالهم وأفعالهم.
وهذا الاستثناء الذي اعترف به إبليس بعد أن أدرك أنه لا محيص له عنه- هو سنة الله- تعالى- في خلقه، فقد جرت سنته التي لا تغيير ولا تبديل لها، بأن يستخلص لذاته من يخلص له قلبه، وأن يرعى من يرعى حدوده، ويحفظ من يحفظ تكاليفه، ولذا كان جوابه
__________
(1) سورة البقرة الآية 36.
(2) سورة الأعراف الآية 17.(8/44)
- سبحانه- على إبليس، هو قوله- تعالى- قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ.
واسم الإشارة هذا يعود إلى الاستثناء السابق وهو قوله إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
وقد اختار هذا الرأى الإمام الآلوسى فقال: قال الله- تعالى- هذا صِراطٌ عَلَيَّ أى: حق لا بد أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره.
والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه وكلمة على تستعمل في الوجوب. والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الأصلح عليه- تعالى-.
وقال أهل السنة، إن ذلك وإن كان تفضلا منه- سبحانه- إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه، بمقتضى وعده- عز وجل-، فجيء بعلىّ لذلك» .
ثم قال: وقرأ الضحاك ومجاهد ويعقوب.. هذا صِراطٌ عَلَيَّ- بكسر اللام وضم الياء المشددة وتنوينها- أى: عال لارتفاع شأنه» «1» .
وقد اختار صاحب الكشاف عودة اسم الإشارة إلى ما بعده فقال: قال الله- تعالى- هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أى هذا طريق حق على أن أراعيه، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته «2» .
ويرى ابن جرير أن على هنا بمعنى إلى، فقد قال- رحمه الله- قوله- تعالى- هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ بمعنى هذا طريق إلى مستقيم.
فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلى، فأجازى كلا بأعمالهم، كما قال- تعالى- إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وذلك نظير قول القائل لمن يتوعده ويتهدده: طريقك على وأنا على طريقك، فكذلك قوله هذا صِراطٌ معناه: هذا طريق علىّ وهذا طريق إلى ... «3» .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة مسوقة لبيان المنهاج القويم الذي كتبه الله- تعالى- على نفسه فضلا منه وكرما، والميزان العادل الذي وضعه- سبحانه- لتمييز الخبيث من الطيب.
فكأنه- سبحانه- يقول في الرد على إبليس الذي اعترف بعجزه عن إغواء المخلصين من
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 46.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 391.
(3) تفسير ابن جرير ج 14 ص 33.(8/45)
عباد الله: يا إبليس، إن عدم قدرتك على إغواء عبادي المخلصين منهج قويم من مناهجى التي اقتضتها حكمتى وعدالتى ورحمتي، وسنة من سنني التي آليت على نفسي أن ألتزم بها مع خلقي. إن عبادي المخلصين لا قوة ولا قدرة لك على إغوائهم، لأنهم حتى إذا مسهم طائف منك. أسرعوا بالتوبة الصادقة إلى، فقبلتها منهم. وغفرت لهم زلتهم ... ولكنك تستطيع إغواء أتباعك الذين استحوذت عليهم فانقادوا لك ...
وفي هاتين الآيتين ما فيهما من التنويه بشأن عباد الله المخلصين، ومن المديح لهم بقوة الإيمان، وعلو المنزلة، وصدق العزيمة وضبط النفس ...
قال- تعالى-: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا «1» .
قال الآلوسى وقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ... أى تصرف وتسلط، والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين، فالإضافة للعهد والاستثناء على هذا في قوله إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ منقطع.
واختار هذا غير واحد ... وجوز أن يكون بالعباد العموم والاستثناء متصل، والكلام كالتقرير لقوله إلا عبادك منهم المخلصين، ولذا لم يعطف على ما قبله، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين، بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء ... » «2» .
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة المتبعين لإبليس فقال: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ.
والضمير في قوله لَمَوْعِدُهُمْ يعود إلى الغاوين، أو إلى مَنِ اتَّبَعَكَ والموعد:
مكان الوعد.
والمراد به هنا المكان الذي سينتهون إليه حتما بعد أن كانوا غافلين عنها في الدنيا، وهو جهنم أى وإن جهنم لمكان محتوم لهؤلاء الذين أغواهم إبليس دون أن يفلت أحد من سعيرها.
وجملة «لها سبعة أبواب» مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها.
وجملة «لكل باب منهم جزء مقسوم» صفة لأبواب، وضمير «منهم» يعود إلى الغاوين أتباع إبليس.
والمقسوم: من القسم وهو إفراز النصيب عن غيره تقول: قسمت كذا قسما وقسمة إذا ميزت كل قسم عن سواه.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 65.
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 47.(8/46)
والمعنى: إن لجهنم سبعة أبواب، لكل باب منها، فريق معين من الغاوين يدخلون منه، على حسب تفاوتهم في الغواية وفي متابعة إبليس ويرى كثير من المفسرين أن المراد بالأبواب هنا الأطباق والدركات.
أى لجهنم سبعة أطباق أو دركات بعضها فوق بعض، ينزلها الغاوون، بحسب أصنافهم وتفاوت مراتبهم في الغي والضلال.
قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى- لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ أى: قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس، يدخلونه لا محيد لهم عنه- أجارنا الله منها- وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر فعله.... ثم قال: وعن عمرة بن جندب- رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ قال: «إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه، وإن منهم من تأخذه النار إلى حجزته «1» ، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه ... » «2» .
وبعد: فهذه قصة خلق الإنسان، وقصة خلق الجان- كما بينتها هذه السورة الكريمة- ومن الدروس والعظات التي نأخذها منها:
1- دلالتها على كمال قدرة الله- تعالى-، وبديع خلقه، وبليغ حكمته، حيث خلق- سبحانه- الإنسان من مادة تختلف عن المادة التي خلق منها الجان، وحيث كرم الإنسان بخاصية أخرى أشار إليها القرآن في قوله- تعالى- فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ...
وهذه الخاصية هي التي تجعل من هذا الإنسان، إنسانا ينفرد بخصائصه عن كل الأحياء الأخرى التي تشاركه في هذه الحياة..
2- أن خلق الجان سابق على خلق الإنسان، بدليل قوله- تعالى- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ.
3- أن الملائكة عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم بمجرد أن أمرهم الله- تعالى- بالسجود لآدم، سجدوا جميعا دون أن يشذ منهم أحد.
__________
(1) الحجزة بضم الحاء وسكون الجيم معقد الإزار.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 455.(8/47)
4- أن الإصرار على معصية الله- تعالى- يؤدى إلى الطرد من رحمته- سبحانه- ومن الخروج من رضوانه ومغفرته.
5- أن التكبر والغرور والحسد، من أبرز الصفات الذميمة التي حملت إبليس على الامتناع عن السجود لآدم، وعلى مخالفة أمر ربه- عز وجل-.
6- أن إجابته- سبحانه- لطلب إبليس في تأخير موته، لم يكن لكرامة له عنده- عز وجل-، وإنما كان استدراجا له وإمهالا، وابتلاء لبنى آدم ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.
7- أن العداوة بين إبليس وقبيله، وبين آدم وذريته، باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن إبليس وجنوده لم ولن يتركوا بابا من أبواب الشر إلا وزينوه وجملوه لبنى آدم، وحرضوهم على الدخول فيه، ليكتسبوا السيئات التي نهاهم الله- تعالى- عنها.
قال- تعالى- إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ «1» .
8- أن عدالة الله- تعالى- ورحمته قد اقتضت أن يحمى عباده المخلصين من تسلط الشيطان عليهم، لأنهم منه في حمى، ولأن مداخله إلى نفوسهم مغلقة، إذ أنهم خافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى..
أما الذين يستطيع الشيطان التسلط عليهم، والتأثير فيهم، فهم أولئك الذين انقادوا لوساوسه، واستجابوا لنزعاته، وصاروا مطية له يسخرها كما يشاء ...
وهؤلاء هم الذين تنتظرهم جهنم بأبوابها السبعة..
قال- تعالى-: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ.
هذه هي عاقبة الغاوين أتباع إبليس، أما عاقبة المخلصين الذين أخلصوا نفوسهم لله- تعالى- وأطاعوه في السر والعلن، فقد بينها- سبحانه- بعد ذلك في قوله:
__________
(1) سورة فاطر الآية 6.(8/48)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
وقوله- سبحانه- إِنَّ الْمُتَّقِينَ ... كلام مستأنف لإظهار حسن عاقبة المتقين، بعد بيان سوء عاقبة الغاوين.
والمتقون: جمع متق اسم فاعل من اتقى. وأصله اوتقى- بزنة افتعل- من وقى الشيء وقاية، أى: صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه.
والجنات: جمع جنة، وهي كل بستان ذي شجر متكاثف، ملتف الأغصان، يظلل ما تحته ويستره. من الجن وهو ستر الشيء عن الحاسة..
والمراد بها هنا الدار التي أعدها الله- تعالى- لتكريم عباده المؤمنين في الآخرة.
والعيون جمع عين. والمقصود بها هنا المياه المنتشرة في الجنات.
والمعنى: «إن المتقين» الذين صانوا أنفسهم عن الشرك. وقالوا ربنا الله ثم استقاموا «في جنات» عالية، فيها ما تشتهيه الأنفس، وفيها منابع للماء تلذ لها الأعين.
وجملة «ادخلوها بسلام آمنين» معمولة لقول محذوف. والباء في قوله «بسلام» للمصاحبة.
أى: وتقول لهم الملائكة- على سبيل التكريم- والتحية- لهؤلاء المتقين عند دخولهم الجنات واستقرارهم فيها: ادخلوها- أيها المتقون- تصاحبكم السلامة من الآفات، والنجاة من المخافات.
ثم بين- سبحانه- ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسي، ونقاء قلبي فقال: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.
والنزع: القلع يقال: نزع فلان هذا الشيء من مكانه إذا قلعه منه، وفعله من باب ضرب والغل: الحقد والضغينة، وأصله من الغلالة، وهي ما يلبس بين الثوبين: الشعار والدثار.(8/49)
أو من الغلل وهو الماء المتخلل بين الأشجار. ويقال: غلّ صدر فلان يغل- بالكسر- غلا إذا كان ذا غش، أو ضغن، أو حقد.
والسرر: جمع سرير وهو المكان المهيأ لراحة الجالس عليه وإدخال السرور على قلبه.
أى: وقلعنا ما في صدور هؤلاء المتقين من ضغائن وعداوات كانت موجودة فيها في الدنيا، وجعلناهم يدخلون الجنة إخوانا متحابين متصافين، ويجلسون متقابلين، على سرر مهيأة لراحتهم ورفاهيتهم وإدخال السرور على نفوسهم.
وقوله: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ حال عن فاعل ادْخُلُوها.
وعبر بقوله مُتَقابِلِينَ لأن مقابلة الوجه للوجه أدخل في الإيناس، وأجمع للقلوب.
والآية الكريمة تشعر بأنهم في الجنة ينشئهم الله- تعالى- نشأة أخرى جديدة وتكون قلوبهم فيها خالية من كل ما كان يخالطهم في الدنيا من ضغائن وعداوات وأحقاد وأطماع وغير ذلك من الصفات الذميمة، ويصلون بسبب هذه النشأة الجديدة إلى منتهى الرقى البشرى ...
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث والآثار منها ما رواه القاسم عن أبى أمامة قال: يدخل أهل الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل، ثم قرأ:
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ...
ومنها: ما رواه أبو مالك الأشجعى عن أبى حبيبة- مولى لطلحة- قال: دخل عمران ابن طلحة على الإمام على بن أبى طالب بعد ما فرغ من أصحاب الجمل، فرحب على- رضى الله عنه- به، وقال: إنى لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال الله فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ... «1» .
ثم ختم- سبحانه- بيان جزائهم بقوله: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ.
والنصب: التعب والإعياء. يقال: نصب الرجل نصبا- من باب طرب- إذا نزل به التعب والهم. ويقال فلان في عيش ناصب، أى فيه كد وجهد.
قال ابن كثير قوله- تعالى-: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ يعنى مشقة وأذى كما جاء في
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 459 وابن جرير ج 14 ص 36.(8/50)
الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله أمرنى أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» .
وقوله وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ- بل هم باقون في الجنات بقاء سرمديا دائما لا ينقطع- كما جاء في الحديث: «يقال- لأهل الجنة- يا أهل الجنة: إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا» «1» .
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على بشارات للمؤمنين الصادقين، هذه البشارات مقرونة بالتعظيم، خالية من الشوائب والاضرار، باقية لا انقطاع لها.
أما البشارات فتراها في قوله- تعالى- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وأما اقترانها بالتعظيم والتكريم، فتراه في قوله- تعالى-: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ.
وأما خلوها من الشوائب والاضرار، فتراه في قوله- تعالى-: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً....
وأما بقاؤها واستمرارها، فتراه في قوله- تعالى-: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ.
هذا، وشبيه بهذه الآيات قوله- تعالى-: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ... «2» .
وقوله- تعالى- وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا، وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ ... «3» .
وقوله- تعالى-: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ «4» .
وقوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا «5» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 458. [.....]
(2) سورة الذاريات الآيتان 15، 16.
(3) سورة الأعراف الآية 43.
(4) سورة فاطر الآيتان 34 35.
(5) سورة الكهف الآيتان 107، 108.(8/51)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
ثم بين- سبحانه- نماذج لمن شملتهم رحمته لإيمانهم وعملهم الصالح، ولمن شملتهم نقمته لكفرهم وعملهم الطالح، ومن هذه النماذج تبشيره لإبراهيم- وهو شيخ كبير- بغلام عليم، وإنجاؤه لوطا ومن آمن معه من العذاب المهين، وإهلاكه المجرمين من قومه.. قال- تعالى-:
[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 60]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
والخطاب في قوله- تعالى-: نَبِّئْ عِبادِي.. للرسول صلى الله عليه وسلم والنبأ: الخبر العظيم. والمراد «بعبادي» : المؤمنون منهم، والإضافة للتشريف.
أى: أخبر- أيها الرسول الكريم- عبادي المؤمنين أنى أنا الله- تعالى- الكثير المغفرة لذنوبهم، الواسع الرحمة لمسيئهم، وأخبرهم- أيضا- أن عذابي هو العذاب الشديد(8/52)
الإيلام، فعليهم أن يقدموا القول الطيب، والعمل الصالح، لكي يظفروا بمغفرتى ورحمتي، وينجو من عذابي ونقمتي.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد جمع في هاتين الآيتين بين المغفرة والعذاب، وبين الرحمة والانتقام، وبين الوعد والوعيد، لبيان سنته- سبحانه- في خلقه، ولكي يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء، فلا يقنط من رحمة الله، ولا يقصر في أداء ما كلفه- سبحانه- به.
وقدم- سبحانه- نبأ الغفران والرحمة، على نبأ العذاب والانتقام، جريا على الأصل الذي ارتضته مشيئته، وهو أن رحمته سبقت غضبه، ومغفرته سبقت انتقامه.
والضمير «أنا» و «هو» في الآيتين الكريمتين، للفصل: لإفادة تأكيد الخبر.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: وفي الآيتين لطائف:
إحداها: أنه أضاف- سبحانه- العباد إلى نفسه بقوله عِبادِي وهذا تشريف عظيم لهم ...
وثانيها. أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة: أولها: قوله أَنِّي وثانيها قوله أَنَا، وثالثها. إدخال حرف الألف واللام على قوله الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ولما ذكر العذاب لم يقل: إنى أنا المعذب، بل قال وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.
وثالثها: أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى، فكأنه أشهده على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.
ورابعها: أنه لما قال نَبِّئْ عِبادِي كان معناه نبىء كل من كان معترفا بعبوديتى، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع. فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله- تعالى-» «1» .
وقال الآلوسى: وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إن الله- تعالى- خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله- تعالى- من العذاب، لم يأمن من النار» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 49 ص 55.(8/53)
وأخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله- تعالى- لما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» «1» .
وقوله- سبحانه- وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ... معطوف على قوله قبل ذلك نَبِّئْ عِبادِي....
قال الجمل: وأصل الضيف: الميل، يقال أضفت إلى كذا إذا ملت إليه. والضيف من مال إليك نزولا بك، وصارت الضيافة متعارفة في القرى وأصل الضيف مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في غالب كلامهم. وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف ... «2» .
والمراد بضيف إبراهيم هنا: الملائكة الذين نزلوا عنده ضيوفا في صورة بشرية، وبشروه بغلام عليم، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط لإهلاكهم ...
ثم فصل- سبحانه- ما دار بين إبراهيم وضيوفه فقال: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ...
والظرف «إذ» منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر.
أى: ونبئهم- أيضا- أيها الرسول الكريم- عن ضيف إبراهيم، وقت أن دخلوا عليه، فقالوا له على سبيل الدعاء أو التحية سَلاماً أى: سلمت سلاما. أو سلمنا سلاما.
فلفظ «سلاما» منصوب بفعل محذوف.
وقوله- سبحانه- قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ بيان لما رد به إبراهيم- عليه السلام- على الملائكة.
و «وجلون» جمع وجل، والوجل: اضطراب يعترى النفس لتوقع حدوث مكروه.
يقال: وجل الرجل وجلا فهو وجل إذا خاف.
أى: قال لهم إبراهيم بعد أن دخلوا عليه وبادروه بالتحية إنا منكم خائفون.
وقال «إنا منكم ... » بصيغة الجمع، لأنه قصد أن الخوف منهم قد اعتراه هو، واعترى أهله معه.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 55.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 548.(8/54)
وكان من أسباب خوفه منهم، أنهم دخلوا عليه بدون إذن، وفي غير وقت الزيارة وبدون معرفة سابقة لهم، وأنهم لم يأكلوا من الطعام الذي قدمه إليهم..
هذا، وقد ذكر- سبحانه- في سورة الذاريات أنه رد عليهم السلام فقال- تعالى- هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ «1» .
كما بين- سبحانه- في سورة هود أن من أسباب خوفه منهم، عدم أكلهم من طعامه. قال- تعالى-: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ... «2» . أى خاف إبراهيم لما رأى أيدى الضيف لا تصل إلى طعامه.
ثم حكى- سبحانه- ما قالته الملائكة لإدخال الطمأنينة على قلب إبراهيم فقال- تعالى-: قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ.
أى: قالت الملائكة لإبراهيم على سبيل البشارة وإدخال السرور على قلبه: لا تخف منا يا إبراهيم، إنا جئنا إليك لنبشرك بغلام ذي علم كثير بشريعة الله- تعالى- وبأوامره ونواهيه، وهو إسحاق- عليه السلام-.
وجملة «إنا نبشرك..» مستأنفة لتعليل النهى عن الوجل.
وقد حكى- سبحانه- هنا أن البشارة كانت له، وفي سورة هود أن البشارة كانت لامرأته، ومعنى ذلك أنها كانت لهما معا، إما في وقت واحد، وإما في وقتين متقاربين بأن بشروه هو أولا، ثم جاءت امرأته بعد ذلك فبشروها أيضا، ويشهد لذلك قوله- تعالى- وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ... «3» .
ثم حكى- سبحانه- ما قاله إبراهيم للملائكة بعد أن بشروه بهذا الغلام العليم، فقال- تعالى- قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ.
والاستفهام للتعجب. كأنه عجب من أن يرزقه الله- تعالى- بغلام عليم بعد أن مسه الكبر، وبلغ سن الشيخوخة.
و «على» بمعنى مع، والمس: اتصال شيء بآخر على وجه الإحساس والإصابة.
__________
(1) الآيتان، 24، 25.
(2) الآية 70.
(3) سورة هود الآية 71.(8/55)
أى: قال إبراهيم للملائكة، بعد أن بشروه بالولد، أبشرتمونى بذلك مع أن الكبر قد أصابنى، والشيخوخة قد اعترتني فبأى شيء عجيب قد بشرتموني.
وتعجب إبراهيم إنما هو من كمال قدرة الله- تعالى- ونفاذ أمره، حيث وهبه هذا الغلام في تلك السن المتقدمة بالنسبة له ولامرأته، والتي جرت العادة أن لا يكون معها إنجاب الأولاد.
وقد حكى القرآن هذا التعجب على لسان امرأة إبراهيم في قوله- تعالى- قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ.. «1» .
قال الإمام الرازي ما ملخصه: والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة ...
وهناك جواب آخر، وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه، فإذا بشر بعد ذلك بحصوله ازداد فرحه وسروره، ويصير ذلك الفرح القوى كالمدهش له وربما يجعله هذا الفرح يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى، طلبا للالتذاذ بسماعها ... » «2» .
وقوله- سبحانه- قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ.
أى: قال الملائكة لإبراهيم لزيادة اطمئنانه، ولتأكيد بشارته بالغلام العليم:
يا إبراهيم إنا بشرناك بالأمر المحقق الوقوع، وباليقين الذي لا خلف معه، وهو أن الله- تعالى- سيهبك الولد مع تقدم سنك وسن زوجك، فلا تكن من الآيسين من رحمة الله- تعالى- فإن قدرته- عز وجل- لا يعجزها شيء.
وهنا دفع إبراهيم- عليه السلام- عن نفسه رذيلة اليأس من رحمة الله. فقال على سبيل الإنكار والنفي وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أى: أنا ليس بي قنوط أو يأس من رحمة الله، لأنه لا ييأس من رحمة الله- تعالى- إلا القوم الضالون عن طريق الحق والصواب، الذين لا يعرفون سعة رحمته- تعالى- ونفاذ قدرته، ولكن هذه البشارة العظيمة- مع تقدم سنى وسن زوجي- هي التي جعلتني- من شدة الفرح والسرور- أعجب من كمال قدرة الله- تعالى-، ومن جزيل عطائه، ومن سابغ مننه، حيث رزقني الولد في هذه السن التي جرت العادة بأن لا يكون معها إنجاب أو ولادة.
__________
(1) سورة هود الآية 72.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 197.(8/56)
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما قاله إبراهيم للملائكة، بعد أن اطمأن إليهم، فقال:
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ.
والخطب: مصدر خطب يخطب، ومنه قولهم: هذا خطب يسير، وخطب جلل، وجمعه خطوب، وخصه بعضهم بما له خطر من الأمور. وأصله الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب ويخطب له.
أى: قال إبراهيم- عليه السلام- للملائكة على سبيل الاستيضاح بالتفصيل عن سبب مجيئهم: فما شأنكم الخطير الذي من أجله جئتم إلينا سوى هذه البشارة. وكأنه قد فهم أن مجيئهم إليه ليس لمجرد البشارة، بل من وراء البشارة أمر آخر جاءوا من أجله.
وهنا بادره الملائكة بقولهم- كما حكى القرآن عنهم- قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. أى: قالوا له إنا أرسلنا- بأمر الله- تعالى- إلى قوم شأنهم الإجرام، ودأبهم الفجور، والمراد بهم قوم لوط- عليه السلام- وكانوا يسكنون مدينة «سدوم» بمنطقة وادي الأردن وقوله إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ استثناء من القوم المجرمين الذين أرسل الملائكة لإهلاكهم.
والمراد بآل لوط: أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه. ولم يشاركوا قومهم في كفرهم وشذوذهم.
أى: إنا أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم، إلا من آمن منهم فإنا لمنجوهم أجمعين.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: فإن قلت: قوله- تعالى- إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء متصل أم منقطع؟
قلت: لا يخلو من أن يكون استثناء من قوم فيكون منقطعا، لأن القوم موصوفون بالإجرام فاختلف لذلك الجنسان، وأن يكون استثناء من الضمير في مُجْرِمِينَ فيكون متصلا، كأنه قيل: قد أرسلنا إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم، كما قال:
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
فإن قلت: فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت: نعم، وذلك أن آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلا ... كأنه قيل: إنا أهلكنا قوما مجرمين، ولكن آل لوط أنجيناهم.(8/57)
وأما في المتصل، فهم داخلون في حكم الإرسال، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء، وينجوا هؤلاء، فلا يكون الإرسال مخلصا بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأول» «1» ...
وقوله- سبحانه- إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ استثناء من الضمير في لَمُنَجُّوهُمْ، إخراجا لها من التنجية. أى: إلا امرأة لوط- عليه السلام- فليست ممن سننجيه، بل هي ممن سنهلكه مع القوم المجرمين.
ومعنى (قدرنا) : قضينا وحكمنا.
والغابر: الباقي. يقال غبر الشيء غبورا إذا بقي وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع. وقد يستعمل في الماضي فيكون هذا اللفظ من الأضداد.
ونسب الملائكة التقدير إليهم فقالوا إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا ... مع أنه فعل الله- تعالى- لما لهم من الزلفى عنده- سبحانه-، ولأنهم ما أرسلوا لإهلاك المجرمين وإنجاء المؤمنين إلا بأمره.
قال الآلوسى ما ملخصه: والظاهر أن قوله- تعالى- إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا ... من كلام الملائكة، وأسندوا التقدير إلى أنفسهم- وهو فعل الله- سبحانه- لما لهم من القرب والاختصاص، وهذا كما يقول أحد حاشية السلطان: أمرنا بكذا.. والآمر في الحقيقة هو السلطان. وقيل- ولا يخفى بعده-: هو من كلام الله- تعالى- فلا يحتاج إلى تأويل، وكذا لا يحتاج إلى تأويل إذا أريد بالتقدير العلم.
قال بعض العلماء: وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء، لأنه- تعالى- استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ «2» .
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوب بليغ حكيم، ما دار بين إبراهيم وبين
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 393.
(2) تفسير (أضواء البيان) ج 3 ص 155 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى. [.....](8/58)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
الملائكة الذين جاءوا لتبشيره بغلام عليم، وإخباره بإهلاك القوم المجرمين، وهم قوم لوط- عليه السلام-..
ثم حكت السورة بعد ذلك ما دار بينهم وبين لوط- عليه السلام- بعد أن جاءوا إليه، وما دار بين لوط- عليه السلام- وبين قومه المجرمين من مجادلات ومحاورات، وما حل بهؤلاء المجرمين من عذاب جعل أعلى مدينتهم أسفلها.. فقال- تعالى-:
[سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 74]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
قال الآلوسى: وقوله- تعالى-: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ شروع في بيان إهلاك المجرمين، وتنجية آل لوط. ووضع الظاهر موضع الضمير، للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق(8/59)
ما أرسلوا به من ذلك «1» .
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يفهم من السياق، والتقدير: وخرج الملائكة من عند إبراهيم- بعد أن بشروه بغلامه، وبعد أن أخبروه بوجهتهم- فاتجهوا إلى المدينة التي يسكنها لوط- عليه السلام- وقومه. فلما دخلوا عليه قال لهم: «إنكم قوم منكرون» .
أى: إنكم قوم غير معروفين لي، لأنى لم يسبق لي أن رأيتكم، ولا أدرى من أى الأقوام أنتم، ولا أعرف الغرض الذي من أجله أتيتم، وإن نفسي ليساورها الخوف والقلق من وجودكم عندي ...
ويبدو أن لوطا- عليه السلام- قد قال لهم هذا الكلام بضيق نفس، لأنه يعرف شذوذ المجرمين من قومه، ويخشى أن يعلموا بوجود هؤلاء الضيوف أصحاب الوجوه الجميلة عنده، فيعتدوا عليهم دون أن يملك الدفاع عنهم ...
وقد صرح القرآن الكريم بهذا الضيق النفسي، الذي اعترى لوطا بسبب وجود هؤلاء الضيوف عنده، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً، وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ «2» .
وقال- سبحانه-: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ مع أن المجيء كان للوط- عليه السلام- والخطاب كان معه، تشريفا وتكريما للمؤمنين من قوم لوط، فكأنهم كانوا حاضرين ومشاهدين لوجود الملائكة بينهم، ولما دار بينهم وبين لوط- عليه السلام-.
وقوله- سبحانه-: قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ. وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ.
حكاية لما رد به الملائكة على لوط، لكي يزيلوا ضيقه بهم، وكراهيته لوجودهم عنده.
وقوله يَمْتَرُونَ من الامتراء، وهو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق.
وهو- كما يقول الإمام الفخر الرازي- مأخوذ من قول العرب: مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها، فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء، كاللبن الذي يجتذب عند الحلب. يقال: قد مارى فلان فلانا، إذا جادله كأنه يستخرج غضبه» «3» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 62.
(2) سورة هود الآية 77.
(3) تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 80.(8/60)
أى: قال الملائكة للوط لإدخال الطمأنينة على نفسه: يا لوط نحن ما جئنا لإزعاجك أو إساءتك، وإنما جئناك بأمر كان المجرمون من قومك، يشكون في وقوعه، وهو العذاب الذي كنت تحذرهم منه إذا ما استمروا في كفرهم وفجورهم ...
وإنا ما أتيناك إلا بالأمر الثابت المحقق الذي لا مرية فيه ولا تردد، وهو إهلاك هؤلاء المجرمين من قومك، وإنا لصادقون في كل ما قلناه لك، وأخبرناك به، فكن آمنا مطمئنا.
فالإضراب في قوله قالُوا بَلْ جِئْناكَ ... إنما هو لإزالة ما وقر في قلب لوط- عليه السلام- تجاه الملائكة من وساوس وهواجس.
فكأنهم قالوا له: نحن ما جئناك بشيء تكرهه أو تخافه.. وإنما جئناك بما يسرك ويشفى غليلك من هؤلاء القوم المنكوسين.
وعبر عن العذاب بقوله بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ زيادة في إدخال الأنس على نفسه وتحقيقا لوقوع العذاب بهم.
وقوله وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ تأكيد على تأكيد.
وهذه التأكيدات المتعددة والمتنوعة تشعر بأن لوطا- عليه السلام- كان في غاية الهم والكرب لمجيء الملائكة إليه بهذه الصورة التي تغرى المجرمين بهم دون أن يملك حمايتهم أو الدفاع عنهم.
لذا كانت هذه التأكيدات من الملائكة له في أسمى درجات البلاغة، حتى يزول خوفه، ويزداد اطمئنانه إليهم، قبل أن يخبروه بما أمرهم الله- تعالى- بإخباره به، وهو قوله- تعالى- فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ.
قال القرطبي: قوله فَأَسْرِ.. قرئ فاسر وقرئ فأسر، بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان. قال- تعالى- وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ.. وقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ... وقيل: فأسر تقال لمن سار من أول الليل.. وسرى لمن سار في آخره، ولا يقال في النهار إلا سار» «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 9 ص 79.(8/61)
وقوله بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ.. أى: بجزء من الليل. والمراد به الجزء الأخير منه.
أى: قال الملائكة للوط- عليه السلام- بعد أن أزالوا خوفه منه: يا لوط إنا نأمرك- بإذن الله تعالى- أن تخرج من هذه المدينة التي تسكنها مع قومك وأن يخرج معك أتباعك المؤمنون، وليكن خروجكم في الجزء الأخير من الليل.
وقوله وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أى: وكن وراءهم لتطلع عليهم وعلى أحوالهم.
قال الإمام ابن كثير: يذكر الله- تعالى- عن الملائكة أنهم أمروا لوطا أن يسرى بأهله بعد مضى جانب من الليل، وأن يكون لوط- عليه السلام- يمشى وراءهم ليكون أحفظ لهم.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى في الغزاة يزجى الضعيف، ويحمل المنقطع «1» .
وقوله وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أى: ولا يلتفت منكم أحد أيها المؤمنون- خلفه، حتى لا يرى العذاب المروع النازل بالمجرمين.
وإنما أمرهم- سبحانه- بعدم الالتفات إلى الخلف، لأن من عادة التارك لوطنه، أن يلتفت إليه عند مغادرته، كأنه يودعه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟
قلت: قد بعث الله الهلاك على قوم لوط، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا فلم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله، وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به. ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا له، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة، ويمضوا قدما غير ملتفتين إلى ما وراءهم، كالذي يتحسر على مفارقة وطنه ...
أو جعل النهى عن الالتفات، كناية عن مواصلة السير، وترك التواني والتوقف، لأن من يتلفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة» «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 456.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 395.(8/62)
وقوله وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ إرشاد من الملائكة للوط- عليه السلام- إلى الجهة التي أمره الله- تعالى- بالتوجه إليها.
أى: وامضوا في سيركم إلى الجهة التي أمركم الله- تعالى- بالسير إليها، مبتعدين عن ديار القوم المجرمين، تصحبكم رعاية الله وحمايته.
قيل: أمروا بالتوجه إلى بلاد الشام، وقيل إلى الأردن، وقيل إلى مصر.
ولم يرد حديث صحيح يحدد الجهة التي أمروا بالتوجه إليها، ولكن الذي نعتقده أنهم ذهبوا بأمر الله- تعالى- إلى مكان آخر، أهله لم يعملوا ما كان يعمله العادون من قوم لوط- عليه السلام-.
وقوله- سبحانه- وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ بيان لجانب آخر من جوانب الرعاية والتكريم للوط- عليه السلام-.
وعدى «قضينا» بإلى، لتضمنه معنى أوحينا.
والمراد بذلك الأمر: إهلاك الكافرين من قوم لوط- عليه السلام-.
وجملة أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ مفسرة ومبينة لذلك الأمر.
وعبر عن عذابهم وإهلاكهم بالإبهام أولا. ثم بالتفسير والتوضيح ثانيا، للإشعار بأنه عذاب هائل شديد.
ودابرهم: أى آخرهم الذي يدبرهم. يقال: فلان دبر القوم يدبرهم دبورا إذا كان آخرهم في المجيء. والمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب استئصالا.
وقوله مُصْبِحِينَ أى: داخلين في الصباح، مأخوذ من أصبح التامة، وصيغة أفعل تأتى للدخول في الشيء، نحو أنجد وأتهم، أى دخل في بلاد نجد وفي بلاد تهامة، وهو حال من اسم الإشارة هؤلاء، والعامل فيه معنى الإضافة.
والمعنى: وقضينا الأمر بإبادتهم، وأوحينا إلى نبينا لوط- عليه السلام- أن آخر هؤلاء المجرمين مقطوع ومستأصل ومهلك مع دخول وقت الصباح.
وفي هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن العذاب سيمحقهم جميعا، بحيث لا يبقى منهم أحدا، لا من كبيرهم ولا من صغيرهم، ولا من أولهم ولا من آخرهم.
ثم حكى- سبحانه- ما حدث من القوم المجرمين، بعد أن تسامعوا بأن في بيت لوط(8/63)
- عليه السلام- شبانا فيهم جمال ووضاءة فقال- تعالى- وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ.
والمراد بأهل المدينة: أهل مدينة سدوم التي كان يسكنها لوط وقومه.
ويستبشرون: أى يبشر بعضهم بعضا بأن هناك شبانا في بيت لوط- عليه السلام-، من الاستبشار وهو إظهار الفرح والسرور.
وهذا التعبير الذي صورته الآية الكريمة، يدل دلالة واضحة على أن القوم قد وصلوا إلى الدرك الأسفل من الانتكاس والشذوذ وانعدام الحياء ...
إنهم لا يأتون لارتكاب المنكر فردا أو أفرادا، وإنما يأتون جميعا- أهل المدينة- وفي فرح وسرور، وفي الجهر والعلانية، لا في السر والخفاء ...
ولأى غرض يأتون؟ إنهم يأتون لارتكاب الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
وهكذا النفوس عند ما ترتكس وتنتكس، تصل في مجاهرتها بإتيان الفواحش، إلى ما لم تصل إليه بعض الحيوانات ...
ويقف لوط- عليه السلام- أمام شذوذ قومه مغيظا مكروبا، يحاول أن يدفع عن ضيفه شرورهم، كما يحاول أن يحرك فيهم ذرة من الآدمية فيقول لهم: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ.
وتفضحون: من الفضح والفضيحة. يقال فضح فلان فلانا فضحا وفضيحة، إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه.
أى: قال لوط- عليه السلام- لمن جاءوا يهرعون إليه من قومه لارتكاب الفاحشة مع ضيوفه: يا قوم إن هؤلاء الموجودين عندي ضيوفى الذين يلزمني حمايتهم، فابتعدوا عن دارى وعودوا إلى دياركم، ولا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فأهون في نظرهم، لعجزى عن حمايتهم، وأنتم تعلمون أن كرامة الضيف جزء من كرامة مضيفه ...
وعبر لوط- عليه السلام- عن الملائكة بالضيف لأنه لم يكن قد علم أنهم ملائكة ولأنهم قد جاءوا إليه في هيئة الآدميين.
ثم أضاف لوط- عليه السلام- إلى رجاء قومه رجاء آخر، حيث ذكرهم بتقوى الله فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ.
أى: واتقوا الله وصونوا أنفسكم عن عذابه وغضبه، ولا تخزون مع ضيفي، وتذلونى وتهينونى أمامهم.(8/64)
يقال: خزي الرجل يخزى خزيا وخزي، إذا وقع في مصيبة فذل لذلك.
ولكن هذه النصائح الحكيمة من لوط- عليه السلام- لقومه، لم تجد أذنا صاغية، بل قابلوها بسوء الأدب معه، وبالتطاول عليه، شأن الطغاة الفجرة قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ.
والاستفهام للإنكار. والواو للعطف على محذوف، والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله- تعالى- والمراد بالعالمين هنا: الرجال الذين كانوا يأتون معهم الفاحشة من دون النساء.
أى: قال قوم لوط له بوقاحة وسوء أدب. أو لم يسبق لنا يا لوط أننا نهيناك عن أن تحول بيننا وبين من نريد ارتكاب الفاحشة معه من الرجال، وإذا كان الأمر كذلك فكيف ساغ لك بعد هذا النهى أن تمنعنا عما نريده من ضيوفك وأنت تعلم ما نريده منهم؟
ولكن لوطا- عليه السلام- مع شناعة قولهم هذا، لم ييأس من محاولة منعهم عما يريدونه من ضيوفه، فأخذ يرشدهم إلى ما تدعو إليه الفطرة السليمة فقال: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.
والمراد ببناته هنا: زوجاتهم ونساؤهم اللائي يصلحن للزواج. وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبي أب لأمته من حيث الشفقة والرعاية وحسن التربية.
قال ابن كثير ما ملخصه: يرشد لوطا- عليه السلام- قومه إلى نسائهم فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم، كما قال- تعالى- في آية أخرى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ «1» .
وقيل المراد ببناته هنا: بناته من صلبه، وأنه عرض عليهم الزواج بهن.
ويضعف هذا الرأى أن لوطا- عليه السلام- كان له بنتان أو ثلاثة كما جاء في بعض الروايات، وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيرا، كما يرشد إليه قوله- تعالى- وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج بهن؟
قال الإمام الرازي في ترجيح الرأى الأول ما ملخصه: «وهذا القول عندي هو المختار، ويدل عليه وجوه منها: أنه قال هؤلاء بناتي.. وبناته اللاتي من صلبه لا تكفى هذا الجمع العظيم، أما نساء أمته ففيهم كفاية للكل، ومنها: أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما:
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 268.(8/65)
«زنتا وزاعورا» وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة» «1» .
والمعنى: أن لوطا- عليه السلام- لما رأى هيجان قومه، وإصرارهم على ارتكاب الفاحشة مع ضيوفه، قال لهم على سبيل الإرشاد إلى ما يشبع الفطرة السليمة: يا قوم هؤلاء نساؤكم اللائي هن بمنزلة بناتي، فاقضوا معهن شهوتكم إن كنتم فاعلين لما أرشدكم إليه من توجيهات وآداب.
وعبر بإن في قوله إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ لشكه في استجابتهم لما يدعوهم إليه فكأنه يقول لهم: إن كنتم فاعلين لما أطلبه منكم، وما أظنكم تفعلونه لانتكاس فطرتكم، وانقلاب أمزجتكم..
وجواب الشرط محذوف، أى: إن كنتم فاعلين ما أرشدكم إليه فهو خير لكم.
وقوله- سبحانه-: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يرى جمهور المفسرين أنه كلام معترض بين أجزاء قصة لوط- عليه السلام- مع قومه، لبيان أن الموعظة لا تجدى مع القوم الغاوين، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه.
فالخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم واللام في «لعمرك» لام القسم، والمقسم به حياته صلى الله عليه وسلم والعمر- بفتح العين- لغة في العمر- بضمها، ومعناهما: مدة حياة الإنسان وبقائه في هذه الدنيا، إلا أنهم ألزموا مفتوح العين في القسم، وهو مبتدأ وخبره محذوف وجوبا والتقدير لعمرك قسمي أو يمينى.
والسكرة: ذهاب العقل، مأخوذة من السكر- بفتح السين وإسكان الكاف- وهو السد والإغلاق. وأطلقت هنا على الغواية والضلالة لإزالتهما الرشد والهداية عن عقل الإنسان ويَعْمَهُونَ من العمه بمعنى التحير والتردد في الأمر. وهو للبصيرة بمنزلة العمى للبصر.
يقال: عمه فلان- كفرح- عمها، إذا تردد وتحير، فهو عمه وعامه، وهم عمهون وعمه- كركع- والمعنى: بحق حياتك- أيها الرسول الكريم- إن هؤلاء المكذبين لك، لفي غفلتهم وغوايتهم يترددون ويتحيرون، شأنهم في ذلك شأن الضالين من قبلهم كقوم لوط وقوم شعيب وقوم صالح، وغيرهم من المتكبرين في الأرض بغير الحق..
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 18 ص 32.(8/66)
قال الآلوسى: وقوله لَعَمْرُكَ قسم من الله- تعالى- بعمر نبينا صلى الله عليه وسلم على ما عليه جمهور المفسرين. وأخرج البيهقي في الدلائل، وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: ما خلق الله- تعالى- وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله- تعالى- أقسم بحياة أحد غيره، قال- تعالى-: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وقيل هو قسم من الملائكة بعمر لوط- عليه السلام-، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول، أى. قالت الملائكة للوط- عليه السلام- لعمرك.. وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهدا له وقرينة عليه..» «1» .
ثم ختم- سبحانه- القصة ببيان النهاية الأليمة لهؤلاء المفسدين من قوم لوط فقال- تعالى- فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.
والصيحة: من الصياح وهو الصوت الشديد. يقال: صاح فلان إذا رفع صوته بشدة.
وأصل ذلك تشقيق الصوت من قولهم: انصاح الخشب أو الثوب، إذا انشق فسمع منه صوت. قالوا: وكل شيء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة.
مُشْرِقِينَ: اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، أى: أن الله- تعالى- بعد أن أخبر لوطا- عليه السلام- بإهلاك قومه، وأمره عن طريق الملائكة- بالخروج ومعه المؤمنون من هذه المدينة.. جاءت الصيحة الهائلة من السماء فأهلكتهم جميعا وهم داخلون في وقت شروق الشمس.
وقال- سبحانه- قبل ذلك: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وقال هنا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ للإشارة إلى أن ابتداء عذابهم كان عند الصباح وانتهاءه باستئصال شأفتهم كان مع وقت الشروق.
والضمير في قوله عالِيَها سافِلَها يعود إلى المدينة التي كان يسكنها المجرمون من قوم لوط.
أى: فجعلنا بقدرتنا عالى هذه المدينة سافلها، بأن قلبناها قلبا كاملا وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أى على هؤلاء المجرمين من قوم لوط حِجارَةً كائنة مِنْ سِجِّيلٍ أى من طين متحجر. فهلكوا جميعا.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 66.(8/67)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
وهكذا أخذ الله- تعالى- هؤلاء المجرمين أخذ عزيز مقتدر، حيث أهلكهم بهذه العقوبة التي تتناسب مع جريمتهم، فهم قلبوا الأوضاع، فأتوا بفاحشة لم يسبقوا إليها، فانتقم الله- تعالى- منهم بهذه العقوبة التي جعلت أعلى مساكنهم أسفلها.
ثم ساقت السورة الكريمة بعض العبر والعظات التي يهتدى بها العقلاء من قصتي إبراهيم ولوط- عليهما السلام- كما ساقت بعد ذلك جانبا من قصتي شعيب وصالح- عليهما السلام- فقال- تعالى-:
[سورة الحجر (15) : الآيات 75 الى 84]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
فاسم الإشارة في قوله- سبحانه- إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ يعود إلى ما تضمنته القصة السابقة من عبر وعظات.
والآيات جمع آية، والمراد بها هنا الأدلة والعلامات الدالة على ما يوصل إلى الحق والهداية.
والمتوسمون: جمع المتوسم، وهو المتأمل في الأسباب وعواقبها، وفي المقدمات ونتائجها..
قال القرطبي ما ملخصه: التوسم تفعل من الوسم، وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيره. يقال: توسمت في فلان الخير، إذا رأيت ميسم ذلك فيه، ومنه قول عبد الله ابن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم.
إنى توسمت فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أنى ثابت البصر(8/68)
وأصل التوسم: التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره.. وذلك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وتطهير القلب من أدناس المعاصي.
والمراد بالمتوسمين: المتفرسين، أو المتفكرين، أو المعتبرين، أو المتبصرين.. والمعنى متقارب..» «1» .
والمعنى: إن في ذلك الذي سقناه في قصتي إبراهيم ولوط- عليهما السلام- لأدلة واضحة على حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الغاوين، لمن كان ذا فكر سليم، وبصيرة نافذة تتأمل في حقائق الأشياء، وتتعرف على ما يوصلها إلى الهداية والطريق القويم.
قال بعض العلماء عند تفسيره لهذه الآية: هذه الآية أصل في الفراسة. أخرج الترمذي من حديث أبى سعيد مرفوعا: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية ...
وقد أجاد الكلام في الفراسة، الراغب الأصفهاني في كتابه «الذريعة» حيث قال في الباب السابع: وأما الفراسة فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله، على أخلاقه وفضائله ورذائله ...
وقد نبه- سبحانه- على صدقها بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وبقوله تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً «2» . وبقوله وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «3» .
ولفظها مأخوذ من قولهم «فرس السبع الشاه» فكأن الفراسة اختلاس المعارف «4» .
وفي هذه الآية الكريمة تعريض لمن تمر عليهم العبر والعظات. والأدلة الدالة على وحدانية الله- تعالى-، وكمال قدرته ... فلا يعتبرون ولا يتعظون ولا يتفكرون فيها، لانطماس بصيرتهم، واستيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم، كما قال- تعالى- وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 42.
(2) سورة البقرة الآية 273.
(3) سورة محمد الآية 30.
(4) راجع تفسير القاسمى ج 14 ص 3764.(8/69)
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ، إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ «1» .
والضمير في قوله- سبحانه- وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ يعود إلى المدينة أو القرى التي كان يسكنها قوم لوط- عليه السلام-.
أى: وإن هذه المساكن التي كان يسكنها هؤلاء المجرمون، لبطريق ثابت واضح يسلكه الناس، ويراه كل مجتاز له وهو في سفره من الحجاز إلى الشام، كما قال- تعالى- وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«2» .
والمقصود تذكير كفار قريش وغيرهم بعاقبة الظالمين، حتى يقلعوا عن كفرهم وجحودهم، وحتى يعتبروا ويتعظوا، ويدخلوا مع الداخلين في دين الإسلام.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تذييل قصد به التعميم بعد التخصيص، لأن اسم الإشارة هنا يعود إلى جميع ما تقدم من قصتي إبراهيم ولوط- عليهما السلام- وإلى ما انضم إليهما من التذكير بآثار الأقوام المهلكين.
أى: إن فيما ذكرناه فيما سبق من أدلة واضحة على حسن عاقبة المتقين، وسوء نهاية الظالمين، لعبرة واضحة، وحكمة بالغة، للمؤمنين الصادقين.
وخصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالأدلة والعظات، وللتنبيه على أن التفرس في الأمور لمعرفة أسبابها ونتائجها من صفاتهم وحدهم.
وجمع الآيات قبل ذلك في قوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وأفردها هنا فقال:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ للأشعار بأن المؤمنين الصادقين تكفى لهدايتهم، ولزيادة إيمانهم، آية واحدة من الآيات. الدالة على أن دين الإسلام هو الدين الحق، وفي ذلك ما فيه من الثناء عليهم، والمدح لهم، بصدق الإيمان، وسلامة اليقين ...
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك جانبا من قصة أصحاب الأيكة لزيادة العظات والعبر، فقال- تعالى-: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ وإِنْ هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف.
وأصحاب الأيكة، هم قوم شعيب- عليه السلام-، والأيك الشجر الكثير الملتف واحدته أيكة- كتمر وتمره-.
__________
(1) سورة يوسف الآيتان 105، 106. [.....]
(2) سورة الصافات الآيتان 137، 138.(8/70)
والمراد بها البقعة الكثيرة الأشجار التي كانت فيها مساكنهم، قرب مدين قرية شعيب- عليه السلام-.
وجمهور العلماء على أن أهل مدين وأصحاب الأيكة قبيلة واحدة، وأرسل الله- تعالى- إليهم جميعا شعيبا- عليه السلام- لأمرهم بإخلاص العبادة لله- تعالى-، ونهيهم عن تطفيف الكبل والميزان، وعن قطع الطريق ...
وكانوا جميعا يسكنون في المنطقة التي تسمى بمعّان، على حدود الحجاز والشام، أو أن بعضهم كان يسكن الحاضرة وهم أهل مدين، والبعض الآخر كان يسكن في البوادي المجاورة لها والمليئة بالأشجار.
وقيل: إن شعيبا- عليه السلام- أرسل إلى أمتين: أهل مدين، وأصحاب الأيكة، وهذه خصوصية له- عليه السلام-.
وعلى أية حال فالعلماء متفقون على أن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب- عليه السلام-.
والإمام: الطريق الواضح المعالم. وسمى الطريق إماما لأن المسافر يأتم به، ويهتدى بمسالكه، حتى يصل إلى الموضع الذي يريده.
والمعنى: وإن الشأن والحال أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين متجاوزين لكل حد، فاقتضت عدالتنا أن ننتقم منهم، بسبب كفرهم وفجورهم.
وَإِنَّهُما أى مساكن قوم لوط، ومساكن قوم شعيب لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أى: لبطريق واضح يأتم به أهل مكة في سفرهم من بلادهم إلى بلاد الشام.
قال ابن كثير: وقد كانوا- أى أصحاب الأيكة- قريبا من قوم لوط، بعدهم في الزمان، ومسامتين لهم في المكان، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في إنذاره لهم وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ «1» .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن قصص الأنبياء مع أقوامهم بجانب من قصة صالح- عليه السلام- مع قومه. فقال- تعالى- وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ...
وأصحاب الحجر: هم ثمود قوم صالح- عليه السلام-.
والحجر: واد بين الشام والمدينة المنورة، كان قوم صالح يسكنونه. والحجر في الأصل:
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 492.(8/71)
كل مكان أحاطت به الحجارة، أو كل مكان محجور أى ممنوع من الناس بسبب اختصاص بعضهم به.
وما زال هذا المكان يعرف إلى الآن باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك، كما أشرنا إلى ذلك عند التعريف بالسورة الكريمة.
وقال- سبحانه-: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولهم- عليه السلام-، لأن تكذيب رسول واحد، تكذيب لجميع الرسل، حيث إن رسالتهم واحدة، وهي الأمر بإخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، والنهى عن الرذائل والمفاسد.
ثم بين- سبحانه- مظاهر هذا التكذيب لرسولهم- عليه السلام- فقال: وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ.
أى: وأعطينا قوم صالح- عليه السلام- آياتنا الدالة على صدقه وعلى أنه رسول من عندنا، والتي من بينها الناقة التي أخرجها الله- تعالى- لهم ببركة دعاء نبيهم فَكانُوا عَنْها أى عن هذه الآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا مُعْرِضِينَ لا يلتفتون إليها، ولا يفكرون فيها، ولهذا عقروا الناقة وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر حضارتهم وتحصنهم في بيوتهم المنحوتة في الجبال فقال- تعالى- وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ.
وينحتون: من النحت وهو برى الحجر من وسطه أو جوانبه، لإعداده للبناء أو للسكن أى: وكانوا لقوتهم وغناهم يتخذون لأنفسهم بيوتا في بطون الجبال وهم آمنون مطمئنون، أو يقطعون الصخر منها ليتخذوه بيوتا لهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ «1» ، أى: حاذقين في نحتها. وقوله- تعالى- وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً «2» .
قال ابن كثير: ذكر- تعالى- أنهم كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ أى: من
__________
(1) سورة الشعراء الآية 149.
(2) سورة الأعراف الآية 74.(8/72)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
غير خوف ولا احتياج إليها، بل بطرا وعبثا، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر، الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه- أى غطاها بثوبه- وأسرع دابته، وقال لأصحابه: «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم» «1» .
ولكن ماذا كانت نتيجة هذه القوة الغاشمة، والثراء الذي ليس معه شكر لله- تعالى- والإصرار على الكفر والتكذيب لرسل الله- تعالى-، والإعراض عن الحق ... ؟
لقد بين القرآن عاقبة ذلك فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.
أى: فكانت نتيجة تكذيب أصحاب الحجر لرسولهم صالح- عليه السلام- أن أهلكهم الله- تعالى- وهم داخلون في وقت الصباح، عن طريق الصيحة الهائلة، التي جعلتهم في ديارهم جاثمين، دون أن يغنى عنهم شيئا ما كانوا يكسبونه من جمع الأموال، وما كانوا يصنعونه من نحت البيوت في الجبال.
وهكذا نرى أن كل وقاية ضائعة، وكل أمان ذاهب، وكل تحصن زائل أمام عذاب الله المسلط على أعدائه المجرمين.
وهكذا تنتهي تلك الحلقات المتصلة من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم والتي تتفق جميعها في بيان سنة من سنن الله- تعالى- في خلقه، وهي أن النجاة والسعادة والنصر للمؤمنين، والهلاك والشقاء والهزيمة للمكذبين.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان كمال قدرة الله- تعالى-، وببيان جانب من النعم التي منحها- سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبتهديد المشركين الذين جعلوا القرآن عضين، والذين جعلوا مع الله إلها آخر، وبتسليته صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى، فقال- تعالى-:
[سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 99]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 463.(8/73)
فقوله- سبحانه- وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ توجيه للناس إلى التأمل في مظاهر قدرة الله- تعالى-، وإلى الحق الأكبر الذي قام عليه هذا الوجود، بعد أن بين- سبحانه- قبل ذلك، سنته التي لا تتخلف، وهي أن حسن العاقبة للمتقين، وسوء المصير للمكذبين.
والحق: هو الأمر الثابت الذي تقتضيه عدالة الله- تعالى- وحكمته.
والباء فيه للملابسة.
أى: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلا الله، إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وبالعدل الذي لا يخالطه جور وبالحكمة التي تتنزه عن العبث، وتأبى استمرار الفساد، واستبقاء ضعف الحق أمام الباطل.(8/74)
والمراد بالساعة في قوله- تعالى-: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ساعة البعث والحساب والثواب والعقاب في الآخرة.
أى: وإن ساعة إعطاء كل ذي حق حقه، ومعاقبة كل ذي باطل على باطله، لآتية لا ريب فيها، فمن فاته أخذ حقه في الدنيا فسيأخذه وافيا غير منقوص في الآخرة، ومن أفلت من عقوبة الدنيا فسينال ما هو أشد وأخزى منها في يوم الحساب.
فالجملة الكريمة انتقال من تهديد المجرمين بعذاب الدنيا، إلى تهديدهم بعذاب الآخرة، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المكذبين من أذى.
وأكد- سبحانه- هذه الجملة بإن وبلام التوكيد، ليدل على أن الساعة آتية لا محالة، وليخرس ألسنة الذين ينكرون وقوعها وحدوثها ...
وجملة فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ تفريع على ما قبلها.
والصفح الجميل: ترك المؤاخذة على الذنب، وإغضاء الطرف عن مرتكبه بدون معاتبة.
أى: ما دام الأمر كما ذكرنا لك أيها الرسول الكريم- من أن هذا الكون قد خلقناه بالحق، ومن أن الساعة آتية لا ريب فيها ... فاصفح عن هؤلاء المكذبين لك صفحا جميلا، لا عتاب معه ولا حزن ولا غضب ... حتى يحكم الله بينك وبينهم.
وهذا التعبير فيه ما فيه من تسليته صلى الله عليه وسلم وتكريمه، لأنه- سبحانه- أمره بالصفح الجميل عن أعدائه، ومن شأن الذي يصفح عن غيره، أن يكون أقوى وأعز من هذا الغير- فكأنه- سبحانه- يقول له: اصفح عنهم فعما قريب ستكون لك الكلمة العليا عليهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «1» .
وقوله- سبحانه-: ... فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» .
وقوله- سبحانه- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ تعليل للأمر بالصفح الجميل عنهم.
والخلاق والعليم: صيغتا مبالغة من الخلق والعلم، للدلالة على كثرة خلقه، وشمول علمه.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 89.
(2) سورة البقرة الآية 109.(8/75)
أى: إِنَّ رَبَّكَ أيها الرسول الكريم، الذي رباك برعايته وعنايته، واختارك لحمل رسالته هُوَ- سبحانه- الْخَلَّاقُ لك ولهم ولكل شيء في هذا الوجود.
الْعَلِيمُ بأحوالك وبأحوالهم، وبما يصلح لك ولهم ولكل الكائنات.
وقد علم- سبحانه- أن الصفح عنهم في هذا الوقت فيه المنفعة لك ولهم، فحقيق بك- أيها الرسول الكريم- أن تطيعه- سبحانه-، وأن تكل الأمور إليه.
ولقد تحقق الخير من وراء هذا التوجيه السديد من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم فقد نرتب على هذا الصفح: النصر للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، والهداية لبعض الكافرين وهم الذين دخلوا في الإسلام بعد نزول هذه الآية، وصاروا قوة للدعوة الإسلامية بعد أن كانوا حربا عليها، وتحقق- أيضا- قوله صلى الله عليه وسلم: «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله- عز وجل-» .
ثم أتبع- سبحانه- هذه التسلية والبشارة للرسول صلى الله عليه وسلم، بمنة ونعمة أجل وأعظم من كل ما سواها، ليزيده اطمئنانا وثقة بوعد الله- تعالى- فقال: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.
والمراد بالسبع المثاني: صورة الفاتحة. وسميت بذلك، لأنها سبع آيات، ولأنها تثنى أى تكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة.
قال صاحب الكشاف: والمثاني من التثنية وهي التكرير للشيء، لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة. أو من الثناء، لاشتمالها على ما هو ثناء على الله- تعالى- ... » «1» .
والمعنى: ولقد أعطيناك- أيها الرسول الكريم- سورة الفاتحة التي هي سبع آيات، والتي تعاد قراءتها في كل ركعة من ركعات الصلاة، وأعطيناك- أيضا- القرآن العظيم الذي يهدى للطريق التي هي أقوم.
وأوثر فعل آتَيْناكَ بمعنى أعطيناك على أوحينا إليك، أو أنزلنا عليك لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والإنعام.
وقوله وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ معطوف على سَبْعاً من باب عطف الكل على الجزء، اعتناء بهذا الجزء.
ووصف- سبحانه- القرآن بأنه عظيم، تنويها بشأنه، وإعلاء لقدره.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 397.(8/76)
ومما يدل على أن المراد بالسبع المثاني سورة الفاتحة ما أخرجه البخاري بسنده عن أبى سعيد بن المعلى قال: مربى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلى، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتينى؟ فقلت: كنت أصلى.
فقال: ألم يقل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ.
ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ ثم ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .
وروى البخاري- أيضا- عن أبى هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أم القرآن هي:
السبع المثاني والقرآن العظيم» .
هذا، وهناك أقوال أخرى في المقصود بالسبع المثاني، ذكرها بعض المفسرين فقال:
اختلف العلماء في السبع المثاني: فقيل الفاتحة. قاله على بن أبى طالب، وأبو هريرة، والربيع بن أنس، وأبو العالية، والحسن وغيرهم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة من حديث أبى بن كعب وأبى سعيد بن المعلى ...
وقال ابن عباس: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معا ...
وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية بمكة، ولم ينزل من السبع الطوال شيء إذ ذاك.
وقيل: المثاني القرآن كله، قال الله- تعالى- كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ. هذا قول الضحاك وطاوس، وقاله ابن عباس. وقيل له: مثاني، لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه..
وقيل: المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر والنهى والتبشير والإنذار..
ثم قال: والصحيح الأول لأنه نص. وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، إلا أنه إذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل، كان الوقوف عنده «1» .
والذي نراه، أن المقصود بالسبع المثاني هنا: سورة الفاتحة، لثبوت النص الصحيح بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتى ثبت النص الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم في شيء فلا كلام لأحد معه أو بعده صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 55.(8/77)
ثم نهى الله- تعالى- المسلمين في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا، فقال- تعالى-: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ...
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف وصل هذا بما قبله؟
قلت: يقول الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة، وهي القرآن العظيم، فعليك أن تستغني به، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا ...
قال أبو بكر الصديق من أوتى القرآن، فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى، فقد صغر عظيما، وعظم صغيرا» «1» .
وقال ابن كثير: وقال ابن أبى حاتم: ذكر عن وكيع بن الجراح، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبى رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا، ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم شيء يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود:
يقول لك محمد رسول الله: أسلفنى دقيقا إلى هلال رجب. قال اليهودي: لا إلا برهن. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: أما والله إنى لأمين من في السماء، وأمين من في الأرض، ولئن أسلفنى أو باعني لأؤدين إليه. فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية. «لا تمدن عينيك» كأنه- سبحانه- يعزيه عن الدنيا» «2» .
وقوله- سبحانه- تَمُدَّنَّ من المد، وأصله الزيادة. واستعير هنا للتطلع إلى ما عند الغير برغبة وتمن وإعجاب. يقال: مد فلان عينه إلى مال فلان، إذا اشتهاه وتمناه وأراده.
والمراد بالأزواج: الأصناف من الكفار الذين متعهم الله بالكثير من زخارف الدنيا.
والمعنى: لا تحفل- أيها الرسول الكريم- ولا تطمح ببصرك طموح الراغب في ذلك المتاع الزائل، الذي متع الله- تعالى- به أصنافا من المشركين فإن ما بين أيديهم منه شيء سينتهي عما قريب، وقد آتاهم الله- تعالى- إياه على سبيل الاستدراج والإملاء، وأعطاك ما هو خير منه وأبقى، وهو القرآن العظيم.
قال صاحب الظلال: والعين لا تمتد. إنما يمتد البصر أى: يتوجه. ولكن التعبير التصويرى يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع. وهي صورة طريفة حين يتخيلها المتخيل..
__________
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 398.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 566.(8/78)
والمعنى وراء ذلك، ألا يحفل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك المتاع الذي آتاه الله- تعالى- لبعض الناس ... ولا يلقى إليه نظرة اهتمام، أو نظرة استجمال، أو نظرة تمن» «1» .
وقال- سبحانه- هنا لا تَمُدَّنَّ ... بدون واو العطف، وقال في سورة طه وَلا تَمُدَّنَّ ... بواو العطف، لأن الجملة هنا مستأنفة استئنافا بيانيا، جوابا لما يختلج في نفوس بعض المؤمنين من تساؤل عن أسباب الإملاء والعطاء الدنيوي لبعض الكافرين. ولأن الجملة السابقة عليها وهي قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ... كانت بمنزلة التمهيد لها، والإجمال لمضمونها.
أما في سورة طه، فجملة وَلا تَمُدَّنَّ ... معطوفة على ما سبقها من طلب وهو قوله- تعالى- فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى. وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً ... «2» .
وقوله- سبحانه- وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ نهى له صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بالمصير السيئ الذي ينتظر أعداءه.
أى: ولا تحزن- أيها الرسول الكريم- لكفر من كفر من قومك، أو لموتهم على ذلك، أو لأعراضهم عن الحق الذي جئتهم به، فإن القلوب بأيدينا نصرفها كيف نشاء، أما أنت فعليك البلاغ.
وقوله- سبحانه- وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بيان لما يجب عليه نحو أتباعه، بعد بيان ما يجب عليه نحو أعدائه.
وخفض الجناح كناية عن اللين والمودة والعطف.
أى: وكن متواضعا مع أتباعك المؤمنين، رءوفا بهم، عطوفا عليهم.
قال الشوكانى: وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب ... وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إليه بسط جناحه ثم قبض على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتواضع الإنسان لأتباعه ... والجناحان من ابن آدم: جانباه «3» .
وقوله- سبحانه-: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ معطوف على ما قبله.
__________
(1) تفسير في ظلال القرآن ج 14 ص 3154.
(2) سورة طه الآيتان 130، 131.
(3) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 142. [.....](8/79)
أى: لا تحزن- أيها الرسول الكريم- على مصير الكافرين، وتواضع لأتباعك المؤمنين، وقل للناس جميعا ما قاله كل نبي قبلك لقومه: إنى أنا المنذر لكم من عذاب الله إذا ما بقيتم على كفركم، الموضح لكم كل ما يخفى عليكم.
فالنذير هنا بمعنى المنذر، والمبين بمعنى الكاشف والموضح.
وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إنى رأيت الجيش بعيني، وإنى أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا.
وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق» «1» .
ثم هدد- سبحانه- الذين يحاربون دعوة الحق، ويصفون القرآن بأوصاف لا تليق به فقال- تعالى-: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ..
والكاف في قوله كَما للتشبيه، وما موصوله أو مصدرية وهي المشبه به أما المشبه فهو الإيتاء المأخوذ من قوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي.
ولفظ «المقتسمين» افتعال من القسم بمعنى تجزئة الشيء وجعله أقساما..
والمراد بهم بعض طوائف أهل الكتاب، الذين آمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر.
أو المراد بهم- كما قال ابن كثير: «المقتسمين» أى المتحالفين، أى الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ... » «2» .
ولفظ «عضين» جمع عضة- بزنة عزة-، وهي الجزء والقطعة من الشيء. تقول:
عضيت الشيء تعضية، أى: فرقته وجعلته أجزاء كل فرقة عضة.
قال القرطبي ما ملخصه: وواحد العضين عضة، من عضيت الشيء تعضية أى فرقته، وكل فرقة عضة. قال الشاعر: وليس دين الله بالمعضى. أى: بالمفرق.
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم- ج 9 ص 115 وصحيح مسلم كتاب الفضائل ج 7 ص 63.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 66.(8/80)
والعضة والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر عاضه، وللساحرة عاضهة ...
وفي الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة أى الساحرة والمستسحرة..
وقيل: هو من العضة، وهي التميمة. والعضيهة: البهتان.. يقال: أعضهت يا فلان أى:
جئت بالبهتان» «1» .
والمعنى: ولقد آتيناك- أيها الرسول الكريم- السبع المثاني والقرآن العظيم، مثل ما أنزلنا على طوائف أهل الكتاب المقتسمين، أى الذين قسموا كتابهم أقساما، فأظهروا قسما وأخفوا آخر، والذين جعلوا- أيضا- القرآن أقساما، فآمنوا ببعضه، وكفروا بالبعض الآخر.. فجعله الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ بيان وتوضيح للمقتسمين.
ومنهم من يرى أن قوله- تعالى- كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ... متعلق بقوله- تعالى- قبل ذلك، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، فيكون المشبه الإنذار بالعقاب المفهوم من الآية الكريمة. وأن المراد بالمقتسمين: جماعة من مشركي قريش، قسموا أنفسهم أقساما لصرف الناس عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: وقل- أيها الرسول الكريم- إنى أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين ...
وقد فصل الإمام الآلوسى القول عند تفسيره لهاتين الآيتين فقال ما ملخصه: قوله- تعالى- كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ... متعلق بقوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً ... على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أى: آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا، وهو في معنى: أنزلنا عليك ذلك إنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أى قسموه إلى حق وباطل..
وقيل: هو متعلق بقوله- تعالى-: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ.. وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش ... أرسلهم الوليد بن المغيرة، أيام موسم الحج، ليقفوا على مداخل طرق مكة، لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل، يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر..
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 59.(8/81)
أى: وقل إنى أنا النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين.
وقيل المراد بالمقتسمين، الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا- أى يقتلوه ليلا- فأهلكهم الله ...
ثم قال- رحمه الله-: والأقرب من الأقوال المذكورة أن قوله كَما أَنْزَلْنا.. متعلق بقوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً ... وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين، وأن الموصول مع صلته، صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ...
والمعنى: لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما ... «1» .
ويبدو لنا أن من الأفضل أن يكون المراد بالمقتسمين، ما يشمل أهل الكتابين وغيرهم من المشركين المتحالفين على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم- كما قال ابن كثير- وقد ذهب إلى ذلك الإمام ابن جرير، فقد قال- رحمه الله- بعد سرده للأقوال في ذلك ما ملخصه:
«والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله- تعالى- أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم قومه الذين عضوا القرآن ففرقوه، أنه نذير لهم من سخط الله وعقوبته، أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين من قبلهم ومنهم ...
وجائز أن يكون عنى بالمقتسمين: أهل الكتابين.. وجائز أن يكون عنى بذلك: المشركين من قريش، لأنهم اقتسموا القرآن، فسماه بعضهم شعرا، وسماه بعضهم كهانة ...
وجائز أن يكون عنى به الفريقين ... وممكن أن يكون عنى به المقتسمين على صالح من قومه. لأنه ليس في التنزيل ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في فطرة العقل، ما يدل على أنه عنى به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين، وإذا فكل من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض، كان داخلا في هذا التهديد والوعيد ... «2» .
ثم أكد- سبحانه- هذا التهديد والوعيد فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 14 ص 74 وما بعدها.
(2) تفسير ابن جرير ج 14 ص 23.(8/82)
والفاء هنا متفرعة على ما سبق تأكيده في قوله وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ... إذ في هذا اليوم يكون سؤالهم.
والواو للقسم، أى: فوحق ربك- أيها الرسول الكريم- الذي خلقك فسواك فعدلك، لنسألن هؤلاء المكذبين جميعا، سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت، عما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال قبيحة: وعما كانوا يقولونه من أقوال فاسدة، ثم لننزلن بهم جميعا العقوبة المناسبة لهم.
فالمقصود من هذه الآية الكريمة زيادة التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيد التهديد للمشركين.
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يمضى في طريقه، وأن يجهر بدعوته وأن يعرض عن المشركين، فقد كفاه- سبحانه- شرهم فقال- تعالى-: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
وقوله فَاصْدَعْ.. من الصدع بمعنى الإظهار والإعلان. ومنه قولهم: انصدع الصبح، إذا ظهر بعد ظلام الليل والصديع الفجر لانصداعه أى ظهوره. ويقال: صدع فلان بحجته، إذا تكلم بها جهارا.
أى: فاجهر- أيها الرسول الكريم- بدعوتك، وبلغ ما أمرناك بتبليغه علانية، وأعرض عن سفاهات المشركين وسوء أدبهم.
قال عبد الله بن مسعود: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا بدعوته حتى نزلت هذه الآية.
فخرج هو وأصحابه، وقوله إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ تعليل للأمر بالجهر بالدعوة، بعد أن مكث صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرا ثلاث سنين أو أكثر.
وقوله كَفَيْناكَ.. من الكفاية. تقول: كفيت فلانا المؤنة إذا توليتها عنه، ولم تحوجه إليها. وتقول: كفيتك عدوك أى: كفيتك بأسه وشره.
والمراد بالمستهزئين: أكابر المشركين في الكفر والعداوة والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم أى: إنا كفيناك الانتقام من المستهزئين بك وبدعوتك، وأرحناك منهم، بإهلاكهم. وذكر بعضهم أن المراد بهم خمسة من كبرائهم، وهم: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل: وقد أهلكهم الله جميعا بمكة، وكان هلاكهم العجيب من أهم الصوارف لأتباعهم عن الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي: واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين، وفي أسمائهم، وفي كيفية طريق استهزائهم، ولا حاجة إلى شيء منها.(8/83)
والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورئاسة، لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة، مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره، وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله- تعالى- أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم» «1» .
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المستهزئين قد أضافوا إلى ذلك الشرك والكفر فقال:
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ في عباداتهم وفي عقيدتهم.
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يترتب على ذلك في الآخرة من عذاب شديد لهم، بعد أن أهلكناهم في الدنيا وقطعنا دابرهم.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتسلية أخرى له صلى الله عليه وسلم، وبإرشاده إلى ما يزيل همه. ويشرح صدره، فقال- تعالى-: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
وضيق الصدر: كناية عن كدر النفس، وتعرضها للهموم والأحزان.
أى: ولقد نعلم- أيها الرسول الكريم- أن أقوال المشركين الباطلة فيك وفيما جئت به من عندنا، تحزن نفسك، وتكدر خاطرك.
وقال- سبحانه- وَلَقَدْ نَعْلَمُ.. بلام القسم وحرف التحقيق، لتأكيد الخبر، وإظهار مزيد الاهتمام والعناية بالمخبر عنه صلى الله عليه وسلم في الحال والاستقبال.
والفاء في قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... واقعة في جواب شرط.
والتسبيح لله- تعالى- معناه: تنزيهه- عز وجل- عن كل ما لا يليق به.
والتحميد له- تعالى- معناه: الثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال والجلال.
أى: إن ضاق صدرك- أيها الرسول الكريم- بسبب أقوال المشركين القبيحة، فافزع إلينا بالتسبيح والتحميد، بأن تكثر من قول سبحان الله، والحمد لله.
قال بعض العلماء: فهذه الجملة الكريمة قد اشتملت على الثناء على الله بكل كمال لأن الكمال يكون بأمرين:
أحدهما: التخلي عن الرذائل، والتنزه عما لا يليق، هذا معنى التسبيح.
والثاني: التحلي بالفضائل، والاتصاف بصفات الكمال، وهذا معنى الحمد.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 19 ص 215.(8/84)
فتم الثناء بكل كمال. ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ... » «1» .
والمراد بالسجود في قوله- تعالى- وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ الصلاة. وعبر عنها بذلك من باب التعبير بالجزء عن الكل، لأهمّيّة هذا الجزء وفضله، ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة، أن ترتيب الأمر بالتسبيح والتحميد والصلاة على ضيق الصدر دليل على أن هذه العبادات، بسببها يزول المكروه بإذنه- تعالى-، وتنقشع الهموم ... ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث نعيم بن عمار- رضى الله عنه- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله- تعالى-: «يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره» .
فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله- تعالى- بأنواع الطاعات من صلاة وتسبيح وتحميد وغير ذلك من ألوان العبادات.
والمراد بالأمر بالعبادة في قوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ المداومة عليها وعدم التقصير فيها.
والمراد باليقين: الموت، سمى بذلك لأنه أمر متيقن لحوقه بكل مخلوق.
أى: ودم- أيها الرسول الكريم- على عبادة ربك وطاعته ما دمت حيا، حتى يأتيك الموت الذي لا مفر من مجيئه في الوقت الذي يريده الله- تعالى-.
ومما يدل على أن المراد باليقين هنا الموت قوله- تعالى- حكاية عن المجرمين: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أى: الموت.
ويدل على ذلك أيضا ما رواه البخاري عن أم العلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على
__________
(1) تفسير أضواء البيان الشيخ الأمين الشنقيطى ج 2 ص 203.(8/85)
عثمان بن مظعون وقد مات، قالت: قلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه ... أما هو فقد جاءه اليقين- أى الموت- وإنى لأرجو له الخير» «1» .
قال الإمام ابن كثير: ويستدل بهذه الآية الكريمة، على أن العبادة كالصلاة ونحوها، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلى بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .
ويستدل بها أيضا على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة، سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل ... » «2» .
وبعد: فهذه سورة الحجر، وهذا تفسير لها. نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد طنطاوى المدينة المنورة في 6 من جمادى الثانية سنة 1402
__________
(1) صحيح البخاري ج 2 ص 91: كتاب الجنائز «باب الدخول على الميت..»
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 472.(8/86)
تفسير سورة النّحل(8/87)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.
أما بعد: فقد سبق لي- بحمد الله وتوفيقه- أن قمت بتفسير سور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر.
وها أنا ذا أقدم للقارئ الكريم تفسير سورة «النحل» ، وقد حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية، وآداب عالية، وإرشادات حكيمة، ومجادلات بالتي هي أحسن.
وقد مهدت لتفسيرها بكلمة، بينت فيها زمان نزولها، وعدد آياتها. وسبب تسميتها بهذا الاسم، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ونافعا لعباده، وشفيعا لنا يوم نلقاه- سبحانه-.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف د. محمد سيد طنطاوى(8/89)
تعريف بسورة النحل
1- سورة النحل هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور:
الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر.
أما في ترتيب النزول، فكان ترتيبها التاسعة والستين، وكان نزولها بعد سورة الكهف «1» .
2- وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية.
3- وسميت بسورة النحل، لقوله- تعالى- فيها وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ... «2» .
وتسمى- أيضا- بسورة النعم، لأن الله- تعالى- عدد فيها أنواعا من النعم التي أنعم بها على عباده.
4- وسورة النحل من السور المكية: أى التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة.
قال القرطبي: «وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية إلا قوله- تعالى- وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.. الآية. نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد..» «3» .
وقال الآلوسى: وأطلق جمع القول بأنها مكية، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير- رضى الله عنهم- وأخرجه النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها، فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف النبي- صلى الله عليه وسلم- من غزوة أحد «4» .
والذي تطمئن إليه النفس، أن سورة النحل كلها مكية، وذلك لأن الروايات التي ذكروها
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 27 طبعة المشهد الحسيني تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(2) الآية رقم 68.
(3) تفسير القرطبي ج 10 ص 65.
(4) تفسير الآلوسى ج 14- 89.(8/91)
في سبب نزول قوله- تعالى-، وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.. إلخ السورة، فيها مقال. فقد ذكر الإمام ابن كثير عند سردها، أن بعضها مرسل وفيه مبهم، وبعضها في إسناده ضعف.. «1» .
5- (أ) وإذا ما قرأنا سورة النحل بتدبر وتفكر، نراها في مطلعها تؤكد أن يوم القيامة حق، وأنه آت لا ريب فيه، وأن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو الله الخالق لكل شيء.
قال- تعالى-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.
(ب) تم تسوق ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته، عن طريق خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان، وعن طريق إنزال الماء من السماء، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم.. وغير ذلك من النعم التي لا تحصى.
استمع إلى بعض هذه الآيات التي تحكى جانبا من هذه النعم فتقول: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
ثم تقول: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
(ج) وبعد أن توبخ السورة المشركين لتسويتهم بين من يخلق ومن لا يخلق تحكى جانبا من أقاويلهم الباطلة التي وصفوا بها القرآن الكريم، وتصور استسلامهم لقضاء الله العادل فيهم يوم الحساب، فتقول: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ.
إلى أن تقول: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 2 ص 596. [.....](8/92)
(د) وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترهيب بالترغيب، وفي عقده المقارنات بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين، جاءت الآيات بعد ذلك لتبشر المتقين بحسن العاقبة.
جاء قوله- تعالى-: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
(هـ) ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى حكاية أقوال المشركين حول مسألتين من أخطر المسائل، وهما مسألة الهداية والإضلال، ومسألة البعث بعد الموت بعد أن حكت ما قالوه في شأن القرآن الكريم.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى أقوالهم ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.
(و) ثم تهدد السورة الكريمة أولئك الجاحدين لنعم الله، الماكرين للسيئات، بأسلوب يستثير النفوس ويبعث الرعب في القلوب، وتدعوهم إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض، لعل هذا التفكر يكون سببا في هدايتهم، وتخبرهم بأن الله- تعالى- هو الذي نهاهم عن الشرك، وهو الذي أمرهم بإخلاص العبادة له.
استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البديع فيقول: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
(ز) ثم انتقلت السورة إلى سرد أنواع من جهالات المشركين، ومن سوء تفكيرهم،(8/93)
حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ويشكروا الله- تعالى- على توفيقه إياهم إلى الدخول في الإسلام.
لقد ذكرت السورة الكريمة ألوانا متعددة من جهالات الكافرين، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ، تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.
(ح) هكذا تصور سورة النحل ما كان عليه المشركون من غباء وغفلة وسوء تفكير، ثم تعود- سورة النعم- مرة أخرى إلى الحديث عن نعم الله- تعالى- على عباده، فتتحدث عن نعمة الكتاب، وعن نعمة الماء، وعن نعمة الأنعام، وعن نعمة الثمار والفواكه، وعن نعمة العسل المتخذ من بطون النحل وعن نعمة التفاضل في الأرزاق، وعن نعمة الأزواج والبنين والحفدة.
قال- تعالى-: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ.
إلى أن يقول- سبحانه-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.
(ط) ثم تسوق السورة الكريمة مثلين مشتملين على الفرق الشاسع، بين المؤمن والكافر، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة، فتقول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(ى) وبعد إيراد هذين المثلين البليغين، تعود سورة النعم إلى الحديث عن أنواع أخرى من نعم الله على خلقه، لكي يشكروه عليها، ويستعملوها فيما خلقت له فتتحدث عن نعمة إخراج الإنسان من بطن أمه، وعن نعمة البيوت التي هي محل سكن الإنسان، وعن نعمة الظلال، وعن نعمة الجبال، وعن نعمة الثياب.(8/94)
قال- تعالى-: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ.
(ك) ثم بعد أن تصور السورة الكريمة أحوال المشركين يوم القيامة عند ما يرون العذاب، وتحكى ما يقولون عند ما يرون شركاءهم، وتقرر أن الله يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- سيكون شهيدا على من بعث إليهم.
بعد كل ذلك تسوق السورة الكريمة عددا من الآيات الآمرة بمكارم الأخلاق والناهية عن منكراتها فتقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.
(ل) وبعد هذه التوجيهات السامية المشتملة على الترغيب والترهيب، وعلى الأوامر والنواهي. تتحدث آيات السورة عن آداب تلاوة القرآن وعن الشبهات التي أثارها المشركون حوله مع الرد عليها بما يدحضها، وعن حكم من تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، فتقول: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
ثم تقول: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
ثم تقول: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
(م) ثم تعود السورة الكريمة لضرب الأمثال، فتسوق مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فلم يقابلوها بالشكر، فانتقم الله- تعالى- منهم. كما تسوق جانبا من حياة سيدنا إبراهيم كمثال للشاكرين الذين استعملوا نعم الله فيما خلقت له.
استمع إلى قوله- تعالى-: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
ثم إلى قوله- تعالى-: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.(8/95)
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
(ن) وأخيرا تختتم السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لأحكم الأساليب وأكملها وأجملها وأ نجمعها في الدعوة إلى الله- تعالى- وفي معاملة الناس فتقول: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
6- وبعد، فهذا عرض إجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة، ومنه نرى:
(أ) عنايتها الفائقة بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته، وعلى أن يوم القيامة حق، وعلى أن القرآن من عند الله- عز وجل.
(ب) كما نرى تفصيلها القول في بيان آلاء الله- تعالى- على خلقه، وقد سبحت السورة في هذا الجانب سبحا عظيما، فذكّرت الإنسان بنعمة خلقه، وبنعمة تسخير الأنعام والشمس، والقمر، والنجوم، والماء، والجبال، والأشجار.. كل ذلك وغيره لمنفعته ومصلحته.
(ج) كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة.. وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفى، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر.
(د) كما ندرك حرصها على إيراد أقوال المشركين وشبههم! ثم الرد عليها بطريقة تقنع العقول، وترضى العواطف، بأن الإسلام هو الدين الحق، وبذلك يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
(هـ) كما نحس- عند قراءتها- بعنايتها بتوجيه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وأمهات الفضائل، كالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والوفاء، والصبر، والشكر ... وبنهيهم عن الرذائل كالغدر والجحود، ونقض العهود، والاستكبار، والظلم.
وأخيرا فإن المتأمل في هذه السورة- أيضا- يراها حافلة بأسلوب الترغيب والترهيب، والتبشير والإنذار، والوعد والوعيد.(8/96)
الوعيد للكافرين بسوء المصير إذا ما لجوا في ضلالهم وطغيانهم كما في قوله- تعالى-:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ.
والوعد للمؤمنين بالحياة الطيبة في الدارين، كما في قوله- تعالى-: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
والآن فلنبدأ في التفسير التحليلى لسورة النعم، ونسأل الله- تعالى- أن يرزقنا التوفيق والسداد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/97)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
(التفسير) قال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)(8/99)
افتتحت السورة الكريمة، بتهديد الكافرين الذين كانوا ينكرون البعث، وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب، ويستبعدون نصر الله- تعالى- لأوليائه، فقال- تعالى-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ والفعل «أتى» هنا، بمعنى قرب ودنا بدليل «فلا تستعجلوه» ، لأن المنهي عن الاستعجال يقتضى أن الأمر الذي استعجل حصوله لم يحدث بعد.
والمراد بأمر الله: ما اقتضته سنته وحكمته- سبحانه- من إثابة المؤمنين ونصرهم، وتعذيب الكافرين ودحرهم.
والفاء في قوله «فلا تستعجلوه» للتفريع. والاستعجال: طلب حصول الشيء قبل وقته.
والضمير المنصوب في «تستعجلوه» يعود على «أمر الله» ، لأنه هو المتحدث عنه، أو على «الله» - تعالى-، فلا تستعجلوا الله فيما قضاه وقدره.
والمعنى: قرب ودنا مجيء أمر الله- تعالى- وهو إكرام المؤمنين بالنصر والثواب، وإهانة الكافرين بالخسران والعقاب، فلا تستعجلوا- أيها المشركون- هذا الأمر، فإنه آت لا ريب فيه، ولكن في الوقت الذي يحدده الله تعالى- ويشاؤه.
وعبر عن قرب إتيان أمر الله- تعالى- بالفعل الماضي «أتى» للإشعار بتحقق هذا الإتيان، وللتنويه بصدق المخبر به، حتى لكأن ما هو واقع عن قريب، قد صار في حكم الواقع فعلا. وفي إبهام أمر الله، إشارة إلى تهويله وتعظيمه، لإضافته إلى من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
قوله «فلا تستعجلوه» زيادة في الإنذار والتهديد، أى: فلا جدوى من استعجالكم، فإنه نازل بكم سواء استعجلتم أم لم تستعجلوا.
والظاهر أن الخطاب هنا للمشركين، لأنهم هم الذين كانوا يستعجلون قيام الساعة، ويستعجلون نزول العذاب بهم، وقد حكى القرآن عنهم ذلك في آيات:
منها قوله- تعالى-: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ «1» .
ومنها قوله- سبحانه-: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «2» .
__________
(1) سورة الشورى. الآية 18.
(2) سورة الحج. الآية 47.(8/100)
وقال بعض العلماء: و «يجوز أن يكون الخطاب هنا شاملا للمؤمنين، لأن عذاب الله- تعالى- وإن كان الكافرون يستعجلونه، تهكما به، لظنهم أنه غير آت، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه، ويحبون تعجيله للكافرين» «1» .
وقوله: «سبحانه وتعالى عما يشركون» جملة مستأنفة، قصد بها إبطال إشراكهم، وزيادة توبيخهم وتهديدهم:
أى: تنزه الله- تعالى- وتعاظم بذاته وصفاته، عن إشراك المشركين، المؤدى بهم إلى الأقوال الفاسدة، والأفعال السيئة، والعاقبة الوخيمة. والعذاب المهين. وقوله:
«يشركون» : قراءة الجمهور، وفيها التفات من الخطاب في قوله «فلا تستعجلوه» إلى الغيبة، تحقيرا لشأن المشركين، وحطا من درجتهم عن رتبة الخطاب، وحكاية لشنائعهم التي يتبرأ منها العقلاء.
وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» تبعا لقوله- تعالى- فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وعلى قراءتهما لا التفات في الآية.
ثم بين- سبحانه- لونا من ألوان قدرته، ورحمته بعباده، حيث أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، فقال تعالى-: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ...
والمراد بالملائكة هنا: جبريل- عليه السلام- ومن معه من حفظة الوحى. أو المراد بهم جبريل خاصة، ولا مانع من ذلك، لأن الواحد قد يسمى باسم الجمع إذا كان رئيسا عظيما.
والمراد بالروح: كلام الله- تعالى- ووحيه الذي ينزل به جبريل، ليبلغه إلى من أمره الله بتبليغه إياه.
وقد جاء ذكر الروح بمعنى الوحى في آيات منها قوله- تعالى-: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ... «2» .
والمعنى: ينزل- سبحانه- الملائكة بكلامه ووحيه، على من يشاء إنزالهم إليه من عباده المصطفين الأخبار.
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير، لفضيلة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج 14 ص 97.
(2) سورة الشورى: الآية 52.(8/101)
وأطلق- سبحانه- على وحيه اسم الروح، على سبيل التشبيه، ووجه الشبه: أن بسببهما تكون الحياة الحقة.
فكما أن بالروح تحيا الأبدان والأجساد، فكذلك بالوحي تحيا القلوب والنفوس وتؤدى رسالتها في هذه الحياة.
وفي قوله- سبحانه-: «من أمره» إشارة إلى أن نزول الملائكة بالوحي، لا يكون إلا بسبب أمر الله لهم بذلك، كما قال- تعالى- حكاية عنهم: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا «1» .
وقوله: «على من يشاء من عباده» رد على مطالب المشركين المتعنتة، والتي من بينها ما حكاه الله تعالى- عنهم في قوله: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ... «2» .
فالآية الكريمة تبين أن نزول الملائكة بالوحي، إنما هو على من يختاره الله- تعالى- لنزول الوحى عليه، لا على من يختارونه هم، وأن النبوة هبة من الله- تعالى- لمن يصطفيه من عباده. قال- تعالى-: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «3» .
وقوله: «أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاعبدون» بيان للمقصود من نزول الملائكة بالوحي على الأنبياء.
أى: أنزل- سبحانه- ملائكته بوحيه على أنبيائه، لكي ينذر هؤلاء الأنبياء الناس، ويخوفوهم من سوء عاقبة الإشراك بالله، ويدعوهم إلى أن يخلصوا العبادة لله- تعالى- وحده، ويبينوا لهم أن الألوهية لا يصح أن تكون لغيره- سبحانه-.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: أَنْ أَنْذِرُوا بدل من «الروح» على أن «أن» هي التي من شأنها أن تنصب المضارع، وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم: كتبت إليه بأن قم.
وجوز بعضهم كون «أن» هنا مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في «ينزل
__________
(1) سورة مريم: الآية 64.
(2) سورة الزخرف الآية 31.
(3) سورة الأنعام الآية 124.(8/102)
الملائكة بالوحي، من معنى القول، كأنه قيل: يقول- سبحانه- بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا ... » «1» .
واقتصر هنا على الإنذار الذي هو بمعنى التخويف، لأن الحديث مع المشركين، الذين استعجلوا العذاب، واتخذوا مع الله- تعالى- آلهة أخرى.
والفاء في قوله «فاتقون» فصيجة: أى، إذا كان الأمر كذلك، من أن الألوهية لا تكون لغير الله، فعليكم أن تتقوا عقوبتي لمن خالف أمرى، وعبد غيرى.
قال الجمل: «وفي قوله «فاتقون» تنبيه على الأحكام الفرعية بعد التنبيه على الأحكام العلمية بقوله، «أنه لا إله إلا أنا» ، فقد جمعت الآية بين الأحكام الأصلية والفرعية» «2» .
وبعد أن بين- سبحانه- أنه منزه عن أن يكون له شريك، وأنه قد أنزل الملائكة بوحيه على من يشاء من عباده، وأنه لا إله يستحق العبادة سواه.
بعد كل ذلك، بين الأدلة الدالة على قدرته ووحدانيته، بأسلوب بديع، جمع فيه بين دلالة المخلوق على الخالق، ودلالة النعمة على منعمها، ووبخ المشركين على شركهم، تارة عن طريق خلقه وحده- سبحانه- للسموات والأرض، وتارة عن طريق خلقه للإنسان، وتارة عن طريق خلقه للحيوان وللنبات، ولغير ذلك من المخلوقات التي لا تحصى.
قال- تعالى-: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
والباء في قوله «بالحق» للملابسة. والحق: ضد الباطل، وهو هنا بمعنى الحكمة والجد الذي لا هزل فيه ولا عبث معه، كما قال- تعالى-: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ... «3» .
أى: خلق- سبحانه- بقدرته النافذة السموات وما أظلت، والأرض وما أقلت، خلقا ملتبسا بالحكمة الحكيمة، وبالجدية التي لا يحوم حولها لهو أو عبث.
وقوله: «تعالى عما يشركون» تنزيه وتقدير لذاته وصفاته، عما قاله المشركون في شأنه- عز وجل- من أن له ولدا أو شريكا.
قال- تعالى-: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 14 ص 94.
(2) حاشية الجمل ج 2 ص 557.
(3) سورة الدخان الآيتان 38، 39.(8/103)
خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ «1» .
وقد صدر- سبحانه- هذه الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته، بخلق السموات والأرض، لأن خلقهما أعظم من خلق غيرهما، ولأنهما حاويتان لما لا يحصى من مخلوقاته- سبحانه-.
قال- تعالى-: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «2» .
ثم ساق- سبحانه- دليلا آخر على انفراده بالألوهية عن طريق خلق الإنسان فقال:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.
والمراد بالإنسان هنا جنس الإنسان.
وأصل النطفة: الماء الصافي. أو الماء القليل الذي يبقى في الدلو أو القربة، وجمعها: نطف ونطاف. يقال: نطفت القربة إذا قطرت، أى سال منها الماء وتقاطر.
والمراد بالنطفة هنا: المنى الذي هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة.
والخصيم: الكثير الخصام لغيره، فهو صيغة مبالغة. يقال: خصم الرجل يخصم- من باب تعب- إذا أحكم الخصومة، فهو خصم وخصيم.
والمبين. المظهر للحجة، المفصح عما يريده بألوان من طريق البيان.
أى: خلق- سبحانه- الإنسان. من منىّ يمنى، أو من ماء مهين خلقا عجيبا في أطوار مختلفة، لا يجهلها عاقل، ثم أخرجه بقدرته من بطن أمه إلى ضياء الدنيا، ثم رعاه برعايته ولطفه إلى أن استقل وعقل.
حتى إذا ما وصل هذا الإنسان إلى تلك المرحلة التي يجب معها الشكر لله- تعالى- الذي رباه ورعاه، إذا به ينسى خالقه، ويجحد نعمه، وينكر شريعته، ويكذب رسله ويخاصم ويجادل بلسان فصيح من بعثه الله- تعالى- لهدايته وإرشاده، ويقول- كما حكى القرآن عنه-: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ...
وإذا في قوله- سبحانه- فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. هي التي تسمى بإذا الفجائية التي يؤتى بها لمعنى ترتب الشيء، على غير ما يظن أن يترتب عليه.
__________
(1) سورة المؤمنون، الآية 91.
(2) سورة غافر، الآية 57.(8/104)
وجيء بها هنا لزيادة التعجيب من حال الإنسان، لأنه كان المنتظر منه بعد أن خلقه الله- تعالى- بقدرته، ورباه برحمته ورعايته، أن يشكر خالقه على ذلك، وأن يخلص العبادة له، لكنه لم يفعل ما كان منتظرا منه، بل فعل ما يناقض ذلك من الإشراك والمجادلة في أمر البعث وغيره.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا «1» .
وقوله- تعالى-: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً «2» .
وبعد أن بين- سبحانه- ما يدل على وحدانيته وقدرته عن طريق خلقه للسموات وللأرض وللإنسان، أتبع ذلك ببيان أدلة وحدانيته وقدرته عن طريق خلق الحيوان فقال- تعالى-: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ، وَمَنافِعُ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ.
والأنعام: جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وقد تطلق على الإبل خاصة،.
وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان في قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ، أو هو منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور بعده. أى: وخلق الأنعام خلقها.
والدفء: السخونة. ويقابله شدة البرد، يقال: دفئ الرجل- من باب طرب- فهو دفأ- كتعب- ودفآن، إذا لبس ما يدفئه، ويبعد عنه البرد.
والمراد بالدفء هنا: ما يتخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها لهذا الغرض.
وعطف «منافع» على «دفء» من باب عطف العام على الخاص، إذ المنافع تشمل ما يستدفأ به منها وغيره.
وخص الدفء بالذكر من عموم المنافع، للعناية به وللتنويه بأهميته في حياة الناس.
أى: ومن مظاهر نعم الله- تعالى- عليكم- أيها الناس-، أن الله- تعالى- خلق الأنعام، وجعل لكم فيها ما تستدفئون به، من الثياب المأخوذة من أصوافها وأوبارها وأشعارها، فتقيكم برودة الجو وجعل لكم فيها منافع متعددة، حيث تتخذون من ألبانها شرابا سائغا للشاربين، ومن لحومها أكلا نافعا للآكلين.
__________
(1) سورة الكهف الآية 54.
(2) سورة الفرقان الآية 55. [.....](8/105)
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ بيان لنوع آخر من أنواع منافع الحيوان للإنسان.
قال أبو حيان في البحر والجمال مصدر جمل- بضم الميم-، يقال رجل جميل وامرأة جميلة وجملاء، قال الشاعر:
فهي جملاء كبدر طالع ... بذت الخلق جميعا بالجمال
والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب، بحيث يدركه البصر فتتعلق به النفس.
ويكون في الأخلاق، باشتمالها على الصفات المحمودة، كالعلم والعفة والحلم.
ويكون في الأفعال، بوجودها ملائمة لمصالح الخلق. وجلب المنفعة لهم وصرف الشر عنهم..» «2» .
وجمال الأنعام من النوع الأول، ومن جمالها- أيضا- كثرتها ودلالتها على أن صاحبها من أهل السعة واليسار.
وقوله «تريحون» من الإراحة، يقال: أراح فلان ماشيته إراحة، إذا ردها إلى المراح، وهو منزلها الذي تأوى إليه، وتبيت فيه.
و «تسرحون» من السروح، وهو الخروج بها غدوة من حظائرها إلى مسارحها ومراعيها.
يقال: سرحت الماشية أسرحها سرحا وسروحا، إذا أخرجتها إلى المرعى.
ومفعول الفعلين «تريحون وتسرحون» محذوف للعلم به.
والمعنى: ولكم- أيها الناس- في هذه الأنعام جمال وزينة، حين تردونها بالعشي من مسارحها إلى معاطنها التي تأوى إليها، وحين تخرجونها بالغداة من معاطنها إلى مسارحها ومراعيها.
وخص- سبحانه- هذين الوقتين بالذكر، لأنهما الوقتان اللذان تتراءى الأنعام فيهما، وتتجاوب أصواتها ذهابا وجيئة، ويعظم أصحابها في أعين الناظرين إليها.
__________
(1) سورة المؤمنون آية 21.
(2) تفسير البحر المحيط ج 5 ص 475- بتصرف وتلخيص.(8/106)
وقدم- سبحانه- الإراحة على التسريح، لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج، حيث تقبل من مسارحها وقد امتلأت بطونها، وحفلت ضروعها، وازدانت مشيتها.
وقال- سبحانه-: حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. بالفعل المضارع، لإفادة التجديد والتكرار، وفي ذلك ما يزيد السرور بها، ويحمل على شكر الله- تعالى- على وافر نعمه.
قال صاحب الكشاف: «منّ الله بالتجمل بها، كما منّ بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي. بل هو من معاظمها لأن الرعيان إذا روحوها بالعشي، وسرحوها بالغداة فزينت إراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، آنست أهلها، وفرحت أربابها. وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس.
فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح- مع تأخر الإراحة في الوجود؟.
قلت: لأن الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها» «1» .
ثم بين- سبحانه- منفعة ثالثة من منافع الأنعام، التي سخرها الله- تعالى- للإنسان فقال: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
والضمير في قوله «وتحمل» يعود إلى الإبل خاصة، لأنها هي التي يحمل عليها.
والأثقال: جمع ثقل. وهو ما يثقل الإنسان حمله من متاع وغيره.
والمراد بالبلد جنسه ولأن الارتحال قد يكون إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما.
والشق- بالكسر- المشقة: ومن كل شيء نصفه، والباء للملابسة. أى: إلا بمشقة شديدة، كأن نفوسكم قد ذهب نصفها خلال تلك الرحلة الطويلة الشاقة التي لم تستخدموا فيها الأنعام.
قال القرطبي: وشق الأنفس: مشقتها وغاية جهدها. وقراءة العامة بكسر الشين.
قال المهدوى: وكسر الشين وفتحها في «شق» متقاربان. وهما بمعنى المشقة.
وقرأ أبو جعفر «إلا بشق الأنفس» - بفتح الشين- وهما لغتان مثل رق ورق.
والشق- أيضا- بالكسر- النصف. وقد يكون المراد من الآية هذا المعنى. أى: لم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 397.(8/107)
تكونوا بالغيه إلا بنقص من القوة وذهاب شق منها ... » «1» .
والمعنى: ومن فوائد هذه الأنعام- أيضا- أنها تحمل أمتعتكم وأثقالكم من بلد إلى بلد آخر بعيد، هذا البلد الآخر البعيد. لم تكونوا واصلين إليه بدونها، إلا بعد تعب شديد، وجهد مضن، وكلفة يذهب معها نصف قوتكم.
والتنكير في «بلد» لإفادة معنى البعد، لأن بلوغ المسافر إليه بمشقة، هو من شأن البلد البعيد، الذي يصعب الوصول إليه بدون راحلة.
وجملة «لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس» التي هي صفة لبلد، تشير إلى هذا المعنى.
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى-: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ «2» .
وقوله- سبحانه-: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ «3» .
وجملة «إن ربكم لرءوف رحيم» تعليل لخلقه- سبحانه- الأنعام لخدمة الإنسان.
أى: خلق لكم هذه الأنعام لأنه رءوف رحيم بكم، حيث لم يترككم تحملون أثقالكم بأنفسكم، وتقطعون المسافات الطويلة على أرجلكم، بل أوجد هذه الأنعام لمنافعكم ومصالحكم. ثم ذكر- سبحانه- أنواعا أخرى من الحيوان المنتفع به، فقال- تعالى-:
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ.
قال الجمل: «الخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه، بل من معناه وهو فرس. وسميت خيلا لاختيالها في مشيها. والبغال جمع بغل: وهو المتولد بين الخيل والحمير..» «4» .
واللام في قوله «لتركبوها» للتعليل.
ولفظ «وزينة» مفعول لأجله، معطوف على محل «لتركبوها» .
والزينة: اسم لما يتزين به الإنسان.
قال القرطبي: «هذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا، إلا أن الله تعالى- أذن به
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 71.
(2) سورة غافر الآيتان 79، 80.
(3) سورة يس. الآيتان 71، 72.
(4) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 559.(8/108)
لعباده، ففي الحديث الشريف: «الإبل عز لأهلها، والغنم بركة، والخيل في نواصيها الخير» خرجه البرقاني وابن ماجة في السنن ... » «1» .
والمعنى: ومن مظاهر فضله عليكم، ورحمته بكم، أنه خلق لمنفعتكم- أيضا- الخيل والبغال والحمير، لتركبوها في غزوكم وتنقلاتكم، ولتكون زينة لكم في أفراحكم ومسراتكم.
وأتى- سبحانه- باللام في «لتركبوها» دون ما بعدها، للإشارة إلى أن الركوب هو المقصود الأصلى بالنسبة لهذه الدواب، أما التزين بها فهو أمر تابع للركوب ومتفرع منه.
قال صاحب الظلال: وفي الخيل والبغال والحمير، تلبية للضرورة في الركوب، وتلبية لحاسة الجمال في الزينة.
وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة، فالجمال- المتمثل في الزينة- عنصر له قيمة في هذه النظرة، وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب، بل تلبية الأشواق الزائدة عن الضرورات. تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنسانى المرتفع على ميل الحيوان، وحاجة الحيوان» «2» .
وقال بعض العلماء: وقد استدل بهذه الآية، القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب والزينة يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها.
وأجاب المجوزون لأكلها، بأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها- وهو الركوب والزينة- لا ينافي غيره.
وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما، من حديث أسماء قالت نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه.
وثبت- أيضا- في الصحيحين من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل «3» .
وقد بسط الإمام القرطبي القول في هذه المسألة، ورجح حل أكل لحوم الخيل، وساق الأدلة والأحاديث في ذلك ثم قال: «وكل تأويل من غير ترجيح في مقابلة النص، فإنما هو دعوى، لا يلتفت إليه، ولا يعرج عليه، «4» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 79.
(2) تفسير في ظلال القرآن ج 14 ص 2161 للأستاذ سيد قطب.
(3) تفسير القاسمى ج 10 ص 3870.
(4) راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 76. وتفسير ابن كثير ج 4 ص 476 طبعة دار الشعب.(8/109)
ويعجبني في هذا المقام قول الإمام البغوي: ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب.
ولما كان نص الآية يقتضى أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة، وكان الأكل مسكوتا عنه، ودار الأمر فيه على الإباحة والتحريم، وردت السنة النبوية بإباحة لحوم الخيل، وبتحريم لحوم البغال والحمير فوجب الأخذ بما جاء في السنة التي هي بيان للكتاب «1» .
هذا وقد ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على عظيم قدرته، وسعة علمه، فقال وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ.
أى: ويخلق- سبحانه- في الحال والاستقبال، مالا تعلمونه- أيها الناس- من أنواع المخلوقات المختلفة سوى هذه الدواب، كالسفن التي تمخر عباب الماء، والطائرات التي تشق أجواز الفضاء، والسيارات التي تنهب الأرض نهبا لسرعتها، وغير ذلك من أنواع المخلوقات التي لا يعلمها سواه- سبحانه- والتي أوجدها لمنفعتكم ومصلحتكم.
وهذه الجملة الكريمة تدل على أن القرآن من عند الله- تعالى- فقد أوجد- سبحانه- العقول البشرية، التي ألهمها صنع الكثير من المخترعات النافعة في البر وفي البحر وفي الجو، والتي لم يكن للناس معرفة بها عند نزول القرآن الكريم.
وتشير- أيضا- إلى مزيد فضل الله- تعالى- على الناس، حيث أخبرهم بأنه سيخلق لهم في مستقبل الأيام من وسائل الركوب وغيرها، ما فيه منفعة لهم، سوى هذه الدواب التي ذكرها.
فعليهم أن يستعملوا هذه الوسائل في طاعة الله- تعالى- لا في معصيته وعليهم أن يتقبلوا هذه الوسائل، وأن يفتحوا عقولهم لكل ما هو نافع.
ورحم الله صاحب الظلال، فقد قال عند تفسيره الآية ما ملخصه: يعقب الله- تعالى- على خلق الأنعام والخيل والبغال والحمير بقوله وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ليظل المجال مفتوحا في التصور البشرى، لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والركوب والزينة.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 560.(8/110)
وحتى لا يقول بعض الناس: إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير، فلا نستخدم سواها، وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها.
ولقد جدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة، لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان، وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان: والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان، بلا جمود ولا تحجر، «ويخلق مالا تعلمون» «1» .
وبعد أن بين- سبحانه- دلائل وحدانيته وقدرته، عن طريق خلق السموات والأرض والإنسان والدواب.. أتبع ذلك ببيان أنه- عز وجل- كفيل بالإرشاد إلى الطريق المستقيم لمن يتجه إليه فقال- تعالى-: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَمِنْها جائِرٌ، وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.
والقصد: الاستقامة. والسبيل: الطريق والقصد منه: هو المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. يقال: سبيل قصد وقاصد، أى: مستقيم. قال الشاعر:
ومن الطريقة جائر وهدى ... قصد السبيل، ومنه ذو دخل
قال الجمل ما ملخصه: «وعلى الله» أى: تفضلا «قصد السبيل» على تقدير مضاف، أى: وعلى الله بيان قصد السبيل. وهو بيان طريق الهدى من الضلالة، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والقصد مصدر يوصف به. يقال: سبيل قصد وقاصد أى: مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. والمراد بالسبيل: جنسه..» «2» .
والضمير في قوله «ومنها جائر» يعود إلى السبيل. والجائر: المائل عن الاستقامة، المنحرف عن الجادة وهو صفة لموصوف محذوف. أى: ومنها سبيل جائر.
أى: وعلى الله- تعالى- وحده، تفضلا منه وكرما، بيان الطريق المستقيم وهو طريق الحق، الذي يوصل من سلكه إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وهذا الطريق الحق: هو الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم.
ومن الطريق ما هو حائد عن الاستقامة، وهو كل طريق يخالف ما جاء به خاتم الرسل، صلّى الله عليه وسلم من عقائد وشرائع وآداب.
__________
(1) في ظلال القرآن ج 14 ص 2161.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 561. [.....](8/111)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
قال- تعالى-: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.. «1» .
فالمراد بالطريق القصد: الطريق الموصل إلى الإسلام، والمراد بالطريق الجائر: الطريق الموصل إلى غيره من ملل الكفر والضلال.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة، ببيان أن الهداية والإضلال بقدرته ومشيئته، فقال- تعالى-: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.
أى: ولو شاء- سبحانه- هدايتكم- أيها الناس- إلى الطريق المستقيم، لهداكم جميعا، ولكنه- عز وجل- لم يشأ ذلك، بل اقتضت حكمته أن يخلق الناس، مستعدين للهدى والضلال، وأن يترك لهم اختيار أحد الطريقين فكان منهم من استحب العمى على الهدى، وكان منهم من سلك الطريق المستقيم. وسيجازى- سبحانه- الذين أساءوا بما عملوا، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
قال تعالى-: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «2» .
وقال- سبحانه-: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً.. «3» .
وبعد أن بين- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على عباده عن طريق خلق الأنعام وغيرها من البهائم، التي لهم فيها منافع، أتبع ذلك ببيان نعمه عليهم في إنزال المطر، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 11]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153.
(2) سورة الإنسان الآيتان 2، 3.
(3) سورة يونس الآية 99.(8/112)
والمراد بالسماء: السحاب المرتفع في طبقات الجو، حيث ينزل منه الماء بقدرة الله- تعالى- والشراب: اسم للمشروب الذي يشربه الإنسان والحيوان وغيرهما.
والشجر: يطلق على النبات ذي الساق الصلبة على سبيل الحقيقة، ويطلق على العشب والكلأ على سبيل المجاز، وهو المراد هنا، لأنه هو الذي ترعاه الأنعام.
والضمير في قوله- سبحانه- وَمِنْهُ شَجَرٌ يعود على الماء، باعتباره السبب في وجود الشجر.
قال الآلوسى: قوله- سبحانه- «ومنه شجر» أى: نبات مطلقا سواء أكان له ساق أم لا، كما نقل عن الزجاج، وهو حقيقة في الأول، ومن استعماله في الثاني قول الراجز:
نعلفها اللحم إذا عز الشجر ... والخيل في إطعامها اللحم ضرر
فإنه قيل: الشجر فيه بمعنى الكلأ، لأنه الذي يعلف..» «1» .
وقوله: «تسيمون» من الإسامة، بمعنى إطلاق الإبل وغيرها للسوم، أى الرعي.
يقال: أسام فلان إبله للرعي أسامة، إذا أخرجها إلى المرعى. وسامت هي تسوم سوما، إذا رعت حيث شاءت وأصل السوم: الإبعاد في المرعى.
والمعنى: هو- سبحانه- وحده وليس غيره: الذي غمركم بنعمه، حيث أنزل لكم من السحاب ماء كثيرا، هذا الماء الكثير المنزل بقدر معلوم، منه تأخذون ما تشربونه وما تنتفعون في حوائجكم الأخرى، وبسببه تخرج المراعى التي ترعون فيها دوابكم.
فالآية الكريمة دليل آخر من الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وبديع خلقه، حيث أنزل- سبحانه- المطر من السماء، ولو شاء لأمسكه، أو لأنزله غير صالح للشراب.
قال- تعالى-: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ «2» .
وأتى- سبحانه- بلفظ «في» المفيدة للظرفية، في قوله- تعالى- فِيهِ تُسِيمُونَ للإشارة إلى أن الرعي في هذا الشجر، قد يكون عن طريق أكل الدواب منه، وقد يكون عن طريق أكل ما تحته من الأعشاب.
وقوله- سبحانه-: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.. تفصيل لأهم منافع الماء.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 105.
(2) سورة الواقعة الآيات 68- 70.(8/113)
أى: يخرج لكم من الأرض، بسبب الماء الذي أنزله عليها من السماء «الزرع» الذي هو أصل أغذيتكم، وعماد معاشكم، كالقمح والشعير وغيرهما «والزيتون» الذي تستعملونه إداما في أغذيتكم «والنخيل والأعناب» اللذين فيهما الكثير من الفوائد، ومن التلذذ عند أكل ثمارهما.
وأخرج لكم- أيضا- بسبب هذا الماء «من كل الثمرات» التي تشتهونها وتنتفعون بها، والتي تختلف في أنواعها، وفي مذاقها، وفي روائحها، وفي ألوانها، مع أن الماء الذي سقيت به واحد، والأرض التي نبتت فيها متجاورة.
ولا شك أن في هذا الإنبات بتلك الطريقة، أكبر دليل على قدرة الله- تعالى-. لأنه لا يقدر على ذلك سواء- سبحانه-.
وأسند- سبحانه- الإنبات إليه فقال: «ينبت لكم به ... » لأنه الفاعل الحقيقي لهذا الإنبات والإخراج للزروع من الأرض: أما غيره- سبحانه- فيلقى الحب في الأرض، ويرجو الثمار والإنبات منه- عز وجل-.
قال- تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ «1» .
وقال- سبحانه-: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «2» .
وقال- عز وجل-: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ «3» .
وختم- سبحانه- الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ للحض على التفكر والتأمل في عظيم قدرته- سبحانه- حتى يصل المتأمل إلى إخلاص العبادة له- عز وجل.
أى: إن في ذلك المذكور، من إنزال الماء من السماء، وإنبات الزروع والثمار بسببه، لآية
__________
(1) سورة الواقعة الآيات 63- 70.
(2) سورة الرعد الآية 4.
(3) سورة النمل الآية 60.(8/114)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
باهرة، ودلالة عظيمة، على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، لقوم يحسنون التفكير، ويجيدون التأمل في خلقه، أما الذين لا يحسنون التفكير والتأمل، فهم كالأنعام بل هم أضل.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقال- سبحانه-: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن من تفكر في أن الحبة والنواة، تقع في الأرض، وتصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أسفلها، فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض، وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع ...
من تفكر في ذلك علم أن من هذه آثاره وأفعاله، لا يمكن أن يشبهه غيره في صفة من صفات الكمال، فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة.
وحيث كان الاستدلال بما ذكر، مشتملا على أمر خفى محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد، ختم- سبحانه- الآية بالتفكر «1» .
ثم ساق- سبحانه- دلائل أخرى مما خلق لنفع الإنسان، تدل على وحدانيته وقدرته، فقال- تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 12 الى 13]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
وقوله «سخر» من التسخير بمعنى التذليل والتكليف، يقال. سخر فلان فلانا تسخيرا، إذا كلفه عملا بلا أجرة، والمراد به هنا: الإعداد والتهيئة لما يراد الانتفاع به أى: ومن آياته سبحانه الدالة على وحدانيته وقدرته، أنه «سخر لكم الليل والنهار» يتعاقبان فيكم لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا الرزق بالنهار.
وأنه- سبحانه- سخر لكم «الشمس والقمر» يدأبان في سيرهما بدون كلل أو
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 108.(8/115)
اضطراب، بل يسيران من أجل منفعتكم ومصلحتكم بنظام ثابت، كما قال- تعالى-:
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «1» .
وأنه- سبحانه- أوجد النجوم مسخرات بأمره وإذنه، لكي تهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.
هذا وقد قرأ جمهور القراء هذه الأسماء: الليل والنهار ... إلخ بالنصب على المفعولية لفعل «سخر» كما قرأ الجمهور. أيضا. «مسخرات» بالنصب على الحالية.
وقرأ ابن عامر: «والشمس والقمر والنجوم» بالرفع على الابتداء، وقرأ- أيضا قوله- «مسخرات، بالرفع على أنه خبر عنها.
وقرأ حفص برفع النجوم ومسخرات، على أنهما مبتدأ وخبر: أما بقية الأسماء السابقة فقرأها بالنصب.
وقوله «بأمره» متعلق بمسخرات. والمراد بأمره: إرادته ومشيئته وتدبيره، الجاري على هذا الكون وفق حكمته وإذنه.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
أى: إن في ذلك المذكور من تسخير الليل والنهار وغيرهما لمنفعتكم ومصلحتكم- يا بنى آدم- لآيات بينات، ودلائل واضحات، على وجوب العبادة لله- تعالى- وحده، لقوم يعقلون نعم الله- تعالى-، ويستدلون بها على وحدانيته- سبحانه- وقدرته.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «2» .
وقوله- سبحانه-: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ.. معطوف على ما قبله من النعم وأصل الذرأ: الخلق بالتناسل والتوالد عن طريق الحمل والتفريخ.
قال القرطبي: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا، أى خلقهم، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، والجمع الذراري، ويقال: أنمى الله ذرأك وذروك أى: ذريتك.
__________
(1) سورة يس الآية 40.
(2) سورة الأعراف الآية 54.(8/116)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
والمعنى: وسخر لكم- أيضا- ما أوجده في الأرض من أجل منفعتكم من عجائب الأمور، ومختلف الأشياء، من حيوان ونبات، ومعادن مختلفة الألوان والأجناس والخواص.
ولا شك أن في اختلاف الألوان والمناظر والهيئات وغير ذلك، فيه الدلالة الواضحة على قدرة الله- تعالى- وعلى أنه الخالق لكل شيء.
قال- تعالى- وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ... «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أى: إن في ذلك الذي بيناه لكم، لآية واضحة على قدرة الله- تعالى- لقوم يعتبرون، ويتذكرون آلاء الله ونعمه، فيشكرونه عليها، ويخلصون له العبادة.
وبعد أن ذكر- سبحانه- جملة من نعمه التي أوجدها لعباده في البر، أتبع ذلك ببيان جانب من نعمه عليهم عن طريق خلقه للبحر، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : آية 14]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
ففي هذه الآية الكريمة بين- سبحانه- أربع نعم على عباده في تسخير البحر لهم.
أما النعمة الأولى فتتجلى في قوله- تعالى- وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا.
والطري: ضد اليابس، والمصدر الطراوة، وفعله طرو بوزن خشن وقرب.
أى: وهو- سبحانه- وحده الذي ذلل لكم البحر، بحيث مكنكم من الانتفاع به، وأقدركم على الركوب عليه، وعلى الغوص فيه، وعلى الصيد منه، لتأكلوا من أسماكه لحما.
طريا غضا شهيا.
__________
(1) سورة الروم الآية 22.(8/117)
ووصف- سبحانه- لحم أسماكه بالطراوة، لأن أكله في هذه الحالة أكثر فائدة، وألذ مذاقا، فالمنة بأكله على هذه الحالة أتم وأكمل.
وقال بعض العلماء: وفي وصفه بالطراوة، تنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء، فسبحان الخبير بخلقه، ومعرفته ما يضر استعماله وما ينفع، وفيه أيضا إيماء إلى كمال قدرته- تعالى- في خلقه الحلو الطري في الماء المر الذي لا يشرب.
وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء، وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجهه، لحديث جابر- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا» .
فالمراد من ميتة البحر في الحديث: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه البحر لا ما مات فيه من غير آفة «1» .
وقوله «وتستخرجوا منه حليه تلبسونها» نعمة ثانية من نعم الله- تعالى- للإنسان في تسخير البحر له.
والحلية- بالكسر- اسم لما يتحلى به الناس. وجمعها حلى وحلى- بضم الحاء وكسرها- يقال: تحلت المرأة إذا لبست الحلي، أى: ومن فوائد تسخير البحر لكم أنه سبحانه أقدركم على الغوص فيه، لتستخرجوا منه ما يتحلى به نساؤكم كاللؤلؤ والمرجان وما يشبههما.
قال- تعالى- مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» .
والتعبير بقوله- سبحانه- تستخرجوا..» يشير إلى كثرة الإخراج فالسين والتاء للتأكيد، مثل استجاب بمعنى أجاب. كما يشير إلى أن من الواجب على المسلمين أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما في البحر من كنوز وألا يتركوا ذلك لأعدائهم.
وأسند- سبحانه- لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور فقال: «تلبسونها» على سبيل التغليب، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء في معظم الأحيان.
__________
(1) تفسير المراغي ج 14 ص 61.
(2) سورة الرحمن الآيات 19، 22. [.....](8/118)
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله «تلبسونها» أى: تلبسها نساؤكم، وأسند الفعل إلى ضمير الرجال، لاختلاطهم بهم، وكونهم متبوعين، أو لأنهم سبب لتزينهن، فإنهن يتزين ليحسن في أعين الرجال، فكأن ذلك زينتهم ولباسهم.
قال القرطبي: «امتن، الله- تعالى- على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم الله- تعالى- على الرجال الذهب والحرير، ففي الصحيح عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم:
«لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» .
وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب..، فاتخذ الناس مثله، فرمى به وقال: «لا ألبسه أبدا» . ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتم الفضة ... » «1» .
وقوله- سبحانه-: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ نعمة ثالثة من نعمه- تعالى- في تسخير البحر للناس وأصل المخر: الشق. يقال: مخر الماء الأرض إذا شقها. ويقال مخرت السفينة تمخر، وتمخر، مخرا، ومخورا، إذا جرت في الماء وأخذت تشقه بمقدمتها.
أى: وترى- أيها العاقل- بعينيك السفن وهي تشق البحر بسرعة، متجهة من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى آخر، لا تحرسها إلا رعاية الله تعالى وقدرته، كما قال- سبحانه-:
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ «2» .
والتعبير بقوله: «وترى..» لاستحضار الحالة العجيبة عن طريق الرؤية البصرية، وهي حالة تدل على قدرة الله تعالى ورحمته بعباده. حيث سخر لهم السفن لتجرى في البحر بأمره.
ثم بين- سبحانه- النعمة الرابعة من نعم تسخير البحر للناس فقال تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ والابتغاء: الطلب للشيء عن رغبة ومحبة.
أى: وسخر لكم البحر- أيضا- لتستخرجوا منه الحلية، ولتطلبوا فضل الله تعالى
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 87.
(2) سورة يس الآيات 41- 44.(8/119)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
ورزقه، عن طريق التجارات والأسفار على ظهر البحر من مكان إلى آخر. سعيا وراء الربح.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بحض الناس على شكره على نعمه فقال وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أى: ولعلكم تشكرون الله- تعالى- على آلائه، حيث سخر لكم البحر، وجعله وسيلة من وسائل منفعتكم ومعاشكم.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن فوائد الجبال والأنهار والسبل والنجوم، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 15 الى 16]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
ولفظ: «رواسى» جمع راس من الرسو- بفتح الراء وسكون السين- بمعنى الثبات والتمكن في المكان، يقال رسا الشيء يرسو إذا ثبت. وهو صفة لموصوف محذوف. أى:
جبالا رواسى.
و «تميد» أى تضطرب وتميل. يقال: ماد الشيء يميد ميدا، إذا تحرك، ومادت الأغصان إذا تمايلت أى: وألقى- سبحانه- في الأرض جبالا ثوابت لكي تقر وتثبت ولا تضطرب.
فقوله «أن تميد بكم» تعليل لإلقاء الجبال في الأرض.
قال القرطبي: وروى الترمذي بسنده عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتضطرب، فخلق الجبال عليها فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدة الجبال. قالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال نعم، الحديد. قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال نعم النار. قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال نعم الماء، قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال نعم الريح.
قالوا يا رب: فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال نعم، ابن آدم إذا تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله» «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 90.(8/120)
هذا، ومن الآيات التي تشبه هذه الآية قوله- تعالى-: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ..» «1» .
وقوله- تعالى-: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَالْجِبالَ أَوْتاداً «2» .
ثم بين- سبحانه- نعما أخرى لما ألقاه في الأرض فقال: وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. أى: وجعل في الأرض «أنهارا» تجرى من مكان إلى آخر، فهي تنبع في مواضع. وتصب في مواضع أخرى، وفيها نفع عظيم للجميع، إذ منها يشرب الناس والدواب والأنعام والنبات.
وجعل فيها كذلك طرقا ممهدة، يسير فيها السائرون من مكان إلى آخر. «لعلكم تهتدون» بتلك السبل إلى المكان الذي تريدون الوصول إليه. بدون تحير أو ضلال.
وقد كرر القرآن الكريم هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله تعالى-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً «3» .
والمراد بالعلامات في قوله- تعالى-: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ الأمارات والمعالم التي يضعها الناس على الطرق بإلهام من الله- تعالى- للاهتداء بها عند السفر.
والمراد بالنجم: الجنس، فيشمل كل نجم يهتدى به المسافر.
أى ومن مظاهر نعمه- أيضا-، أنه- سبحانه- جعل في الأرض معالم وأمارات من جبال كبار، وآكام صغار، وغير ذلك، ليهتدى بها المسافرون في سفرهم، وتكون عونا لهم على الوصول إلى غايتهم، وبمواقع النجوم هم يهتدون في ظلمات البر والبحر، إلى الأماكن التي يبغون الوصول إليها.
والضمير «هم» في قوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ يشمل كل سالك في ظلمات البر والبحر، ويدخل فيه دخولا أوليا أهل مكة، لأنهم كانوا كثيرى الأسفار للتجارة، كما كانوا معروفين بالاهتداء في سيرهم بمواقع النجوم.
__________
(1) سورة لقمان الآية 10.
(2) سورة النبأ الآيتان 6، 7.
(3) سورة نوح الآيتان 19، 20.(8/121)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
وقدم- سبحانه- المتعلق وهو «وبالنجم» للاهتمام به، إذ أن الاهتداء بالنجوم، أمر هام في حياة المسافرين ولا سيما الذين يسافرون في البحر.
وعدل- سبحانه- عن الخطاب إلى الغيبة في قوله «هم يهتدون» على سبيل الالتفات، ليزداد الكلام طلاوة وانتباها إلى ما اشتمل عليه.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «1» .
وإلى هنا نرى السورة الكريمة، التي هي سورة النعم، قد حدثتنا في بضع عشرة آية. عن ألوان متنوعة من نعم الله- تعالى- على عباده.
حدثتنا عن نعمة الروح الذي يحيى القلوب الميتة وينقذها من الكفر والضلال.
وحدثتنا عن نعمة خلق الإنسان، وخلق السموات والأرض.
وحدثتنا عن نعمة خلق الأنعام، والخيل والبغال والحمير.
وحدثتنا عن نعمة إنزال الماء من السماء، وما يترتب على هذه النعمة من فوائد ومنافع.
وحدثتنا عن نعمة تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم لمصلحة الإنسان.
وحدثتنا عن نعمة تسخير البحر وتذليله للانتفاع بخيراته.
وحدثتنا عن كل ذلك وغيره. لكي يخلص الإنسان عبادته لخالقه، ولكي يطيعه حق الطاعة، ويشكره عليها، ويستعملها فيما خلقت له.
وبعد أن حدثتنا السورة عن كل ذلك، ساقت لنا جملة من صفات الله- تعالى- ووبخت المشركين على شركهم، وأبطلته بأبلغ أسلوب، ودعتهم إلى الدخول في الدين الحق، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 97.(8/122)
والاستفهام في قوله- سبحانه-: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. للإنكار والتوبيخ لأولئك المشركين الذين عبدوا غير الله- تعالى- أى: أفمن يخلق هذه الأشياء العجيبة، والمخلوقات البديعة، التي بينا لكم بعضها، وهو الله- عز وجل- كمن لا يخلق شيئا على سبيل الإطلاق، بل هو مخلوق، كتلك الأصنام والأوثان وغيرها، التي أشركتموها في العبادة مع الله- تعالى-؟
إن فعلكم هذا لدليل واضح على جهلكم- أيها المشركون- وعلى انطماس بصيرتكم، وقبح تفكيركم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت من لا يخلق أريد به الأصنام، فلماذا جيء بمن الذي هو لأولى العلم؟.
قلت: فيه أوجه: أحدها أنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولى العلم.
الثاني: المشاكلة بينه وبين من يخلق.
الثالث: أن يكون المعنى: أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم، فكيف بما لا علم عنده. كقوله- تعالى- أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها.. يعنى أن الآلهة- التي عبدوها- حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب لأن هؤلاء أحياء وهم أموات، فكيف تصح لهم العبادة، لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا.
فإن قلت الآية إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيها بالله- تعالى-: فكان من حق الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟(8/123)
قلت حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيها بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. «1» .
وقوله- سبحانه-: أَفَلا تَذَكَّرُونَ زيادة في توبيخهم وفي التهكم بهم.
أى: أبلغ بكم السفه والجهل أنكم سويتم في العبادة بين من يخلق ومن لا يخلق، والحال أن هذه التسوية لا يقول بها عاقل، لأن من تفكر أدنى تفكر، وتأمل أقل تأمل، عرف وتيقن أنه لا يصح التسوية في العبادة بين الخالق والمخلوق، فهلا فكرتم قليلا في أمركم، لكي تفيئوا إلى رشدكم، فتخلصوا العبادة لله الخلاق العليم.
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمه على سبيل الإجمال، بعد أن فصل جانبا منها في الآيات السابقة فقال- تعالى- وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها.
والمراد بالنعمة هنا جنسها، الذي يشمل كل نعمه، لأن لفظ العدد والإحصاء قرينة على ذلك، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع اعتمادا على القرينة- من أبلغ الأساليب الكلامية.
أى: وإن تعدوا نعمة الله- تعالى- التي أنعمها عليكم، في أنفسكم، وفيما سخره لكم لا تستطيعون حصر هذه النعم لكثرتها ولتنوعها.
وما دام الأمر كذلك فاشكروه عليها ما استطعتم، وأخلصوا له العبادة والطاعة.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ استئناف قصد به فتح باب الأمل أمامهم لكي يتداركوا ما فرط منهم من جحود وتقصير في حقه- سبحانه-.
أى: إن الله- تعالى- لغفور لعباده على ما فرط منهم متى تابوا إليه توبة نصوحا، رحيم بهم، حيث لم يؤاخذهم بذنوبهم. بل منحهم نعمه مع تقصيرهم في شكره- تعالى.
قال ابن كثير- رحمه الله- قوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أى يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازى على اليسير» «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 405- بتصرف يسير.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 482.(8/124)
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ بيان لكمال علمه- تعالى- وتحذير من الوقوع فيما نهى عنه، لأنه- تعالى- لا تخفى عليه خافية.
أى: والله- تعالى- وحده، يعلم ما تسرونه من أقوال وأفعال، وما تظهرونه منها، وهو محص عليكم ذلك، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
ثم وصف- سبحانه- الأوثان التي يعبدها المشركون من دونه، بثلاثة أوصاف. تجعلها بمعزل عن النفع، فضلا عن استحقاقها للعبادة، فقال- تعالى- وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ، وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.
فوصفها- أولا- بالعجز التام، فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً ...
أى: وهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله- تعالى- لا تخلق شيئا من المخلوقات مهما صغرت، بل هم يخلقون بأيديكم، فأنتم الذين تنحتون الأصنام. كما قال- سبحانه- حكاية عن إبراهيم- عليه السلام- الذي قال لقومه على سبيل التهكم بهم: قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ «1» .
وإذا كان الأمر كذلك فكيف تعبدون شيئا أنتم تصنعونه بأيديكم، أو هو مفتقر إلى من يوجده؟! وهذه الآية الكريمة أصرح في إثبات العجز للمعبودات الباطلة من سابقتها التي تقول:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. لأن الآية السابقة نفت عن المعبودات الباطلة أنها تخلق شيئا، أما هذه الآية التي معنا فنفت عنهم ذلك، وأثبتت أنهم مخلوقون لغيرهم وهو الله- عز وجل-، أو أن الناس يصنعونهم عن طريق النحت والتصوير، فهم أعجز من عبدتهم، وعليه فلا تكرار بين الآيتين.
وأما الصفة الثانية لتلك الأصنام فهي قوله- تعالى- أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ.
أى: هؤلاء المعبودون من دون الله- تعالى-، هم أموات لا أثر للحياة فيهم، فهم لا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يغنون عن عابديهم شيئا، فقد دلت هذه الصفة على فقدانهم للحياة فقدانا تاما.
وجملة «غير أحياء» جيء بها لتأكيد موتهم، وللدلالة على عراقة وصفهم بالموت، حيث
__________
(1) سورة الصافات الآيتان 95، 96.(8/125)
إنه لا توجد شائبة للحياة فيهم، ولم يكونوا أحياء- كعابديهم- ثم ماتوا، بل هم أموات أصلا. أو جيء بها على سبيل التأسيس، لأن بعض مالا حياة فيه من المخلوقات، قد تدركه الحياة فيما بعد، كالنطفة التي يخلق الله- تعالى- منها حياة، أما هذه الأصنام فلا يعقب موتها حياة، وهذا أتم في نقصها، وفي جهالة عابديها.
وأما الصفة الثالثة لتلك الأصنام فهي قوله- تعالى-: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.
ولفظ «أيان» ظرف زمان متضمن معنى متى.
وهذه الصفة تدل على جهلهم المطبق، وعدم إحساسهم بشيء.
أى: أن من صفات هذه المعبودات الباطلة، أنها لا تدرى متى يبعثها الله- تعالى- لتكون وقودا للنار.
وبعضهم يجعل الضمير في «يشعرون» يعود على الأصنام، وفي «يبعثون» يعود على العابدين لها، فيكون المعنى: وما تدرى هذه الأصنام التي تعبد من دون الله- تعالى- متى تبعث عبدتها للحساب يوم القيامة.
قال صاحب فتح القدير ما ملخصه: قوله: «وما يشعرون أيان يبعثون» الضمير في «يشعرون» للآلهة وفي «يبعثون» للكفار الذين يعبدون الأصنام.
والمعنى: وما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة. فضلا عن الأمور التي لا يعلمها إلا الله- سبحانه-.
ويجوز أن يكون الضمير في الفعلين للآلهة. أى: وما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث. ويدل على ذلك قوله تعالى-: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.. «1» .
وبعد أن أبطل- سبحانه- عبادة غيره بهذا الأسلوب المنطقي الحكيم، صرح بأنه لا معبود بحق سواه، فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
أى إلهكم المستحق للعبادة والطاعة هو إله واحد لا شريك له، لا في ذاته ولا في صفاته:
فأخلصوا له العبادة، ولا تجعلوا له شركاء.
__________
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 2 ص 156.(8/126)
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي جعلت المشركين يصرون على كفرهم ويستحبون العمى على الهدى، فقال- تعالى-: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.
أى: فالكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب قلوبهم منكرة للحق، جاحدة لنعم الله، منصرفة عن وحدانية الله- تعالى- وعن الأدلة الدالة عليها، وحالهم فوق ذلك أنهم مستكبرون مغرورون، لا يستمعون إلى موعظة واعظ، ولا إلى إرشاد مرشد. ومتى استولت على إنسان هاتان الصفتان- الجحود والاستكبار-، حالفه البوار والخسران، وآثر سبيل الغي على سبيل الرشد.
والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته «فالذين لا يؤمنون بالآخرة..» دون التصريح بذواتهم، لاشتهارهم بتلك الصفات القبيحة، وللإيمان بأن عدم إيمانهم بالآخرة، هو أساس خيبتهم، وخسرانهم وجحودهم ...
وعبر بالجملة الاسمية في قوله «قلوبهم منكرة وهم مستكبرون» للدلالة على تأصل صفتي الجحود والاستكبار في قلوبهم، وعلى أن الإنكار للحق سمة من سماتهم التي لا يتحولون عنها مهما وضحت لهم الأدلة على بطلانها، وعلى أن التعالي والغرور لا ينفك عنهم، وأنهم ممن قال- سبحانه- فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ «1» . أى: صاغرين أذلاء.
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم، فقال: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
وكلمة «لا جرم» وردت في القرآن في خمسة مواضع، وفي كل موضع كانت متلوة بأن واسمها، وليس بعدها فعل.
وجمهور النحاة على أنها مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر ومعناها بعد التركيب معنى الفعل: حق وثبت، والجملة بعدها فاعل.
قال الخليل: لا جرم، كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا، يقال: فعلوا ذلك، فيقال:
لا جرم سيندمون.
__________
(1) سورة غافر. الآية 60.(8/127)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
وقال الفراء: «لا جرم» كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزله حقا فلذلك يجاب عنها باللام، كما يجاب بها عن القسم ألا تراهم يقولون لا جرم لآتينك.
والمعنى: حق وثبت أن الله- تعالى- يعلم ما يسره هؤلاء المشركون وما يعلنونه من أقوال وأفعال، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات، لأنه- سبحانه- لا يحب المستكبرين عن الاستجابة للحق، المغرورين بأموالهم وأولادهم، الجاحدين لنعم الله وآلائه.
قال القرطبي: قال العلماء: وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه، إلا الكبر، فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله.
وفي الحديث الصحيح: «إن المتكبرين يحشرون أمثال الذرّ يوم القيامة، يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم: «تصغر لهم أجسامهم في المحشر حتى يضرهم صغرها، وتعظم لهم في النار حتى يضرهم عظمها» «1» .
وبعد أن أقامت السورة الكريمة الأدلة الساطعة، على وحدانية الله، وقدرته، وعلى بطلان عبادة غيره.. أتبعت ذلك بحكاية بعض أقاويل المشركين، وردت عليها بما يدحضها، وببيان سوء عاقبتهم، وعاقبة أشباههم من قبلهم، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 95.(8/128)
وقوله- سبحانه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ حكاية لبعض ما كان يدور بين أولئك المستكبرين، وبين غيرهم من أسئلة واستفسارات حول القرآن الكريم.
والأساطير: جمع أسطورة، كأعاجيب وأعجوبة، وأحاديث وأحدوثة.
والمراد بها: الأكاذيب والترهات التي لا أصل لها، والتي كانت مبثوثة في كتب الأولين.
والمعنى: وإذا قال قائل لهؤلاء الكافرين المستكبرين، أى شيء أنزل ربكم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا له على سبيل الجحود للحق: لم ينزل عليه شيء، وإنما هذا القرآن الذين يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم على أتباعه، هو من أساطير الكهنة الأولين، نقله من كتبهم ثم قرأه على من يستمع إليه.
روى ابن أبى حاتم عن السدى قال: اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاءه يريده ردوه عنه.
فخرج ناس في كل طريق، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ووصل إليهم، قال أحدهم: أنا فلان بن فلان، فيعرفه نسبه، ثم يقول للوافد: أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد(8/129)
ومن لا خير فيهم، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له، فيرجع الوافد. فذلك قوله- تعالى- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد، فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد لقومي أنا، إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم- من مكة- رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل، وأنظر ما يقول، وآتى قومي ببيان أمره. فيدخل مكة، فيلقى المؤمنين فيسألهم: ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: خيرا..» «1» .
وعبر- سبحانه- بالفعل «قيل» المبنى للمجهول، للإشارة إلى أن هذا القول الذي تفوه به عتاة الكافرين، كانوا يقولونه لكل من يسألهم عن القرآن الكريم، لكي يصدوه عن الدخول في الإسلام. وجملة «ماذا أنزل ربكم» نائب فاعل لقيل.
وقولهم- كما حكى القرآن عنهم- «أساطير الأولين» خبر لمبتدأ محذوف.
أى: قالوا هو أساطير الأولين أو المسئول عنه: أساطير الأولين.
ولقد حكى القرآن قولهم الباطل هذا، ورد عليه بما يدحضه في آيات كثيرة، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «2» .
ثم بين- سبحانه- عاقبة كفرهم، ونطقهم بالباطل، فقال- تعالى-: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ....
واللام في قوله- «ليحملوا» هي التي تسمى بلام العاقبة، وذلك لأنهم لما وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين، كانت عاقبتهم تلك العاقبة السيئة.
والأوزار جمع وزر- بكسر الواو وسكون الزاى- بمعنى الشيء الثقيل.
المراد بها الذنوب والآثام التي يثقل حملها على صاحبها يوم القيامة، كما قال- تعالى-:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ «3» .
والمعنى: قالوا ذلك في القرآن الكريم، لتكون عاقبتهم أن يحملوا أوزارهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 131. [.....]
(2) سورة الفرقان. الآيتان 5، 6.
(3) سورة العنكبوت. الآية 13.(8/130)
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله «ليحملوا» متعلق- بقالوا- كما هو الظاهر.. واللام للعاقبة، لأن الحمل مترتب على قولهم وليس باعثا ولا غرضا لهم.
وعن ابن عطية: أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا، أى: قدر صدور ذلك منهم ليحملوا ... «1» .
وقال- سبحانه- كامِلَةً لتأكيد أنه لا يرفع عنهم شيء من ذنوبهم، بل سيعاقبون عليها جميعا دون أن ينقص منها شيء.
قال الفخر الرازي: وهذا يدل على أن الله- تعالى- قد يسقط بعض العقاب على المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلا في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى.. «2» .
وقال بعض العلماء: «ويصور التعبير هذه الذنوب بكونها أحمالا ذات ثقل- وساءت أحمالا وأثقالا-، فهي توقر النفوس كما توقر الأحمال الظهور، وهي تثقل القلوب، كما تثقل الأحمال العواتق، وهي تتعب وتشقى كما تتعب الأثقال حاملها، بل هي أدهى وأنكى» «3» .
وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله وجها، وأنتنه ريحا، فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده فزعا، وكلما تخوف من شيء زاده خوفا. فيقول له بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول له وما تعرفني؟
فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا، وكان منتنا فلذلك تراني منتنا. طأطئ إلى أركبك، فطالما ركبتني في الدنيا، فيركبه، وهو قوله- تعالى- لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ.. «4» .
وقوله: «ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم» بيان لأثقال أخرى يحملونها فوق أثقالهم.
أى: أن أولئك المستكبرين، قالوا في القرآن إنه أساطير الأولين، فكانت عاقبة قولهم الباطل أن حملوا آثامهم الخاصة، وأن حملوا فوقها جانبا من آثام من كانوا سببا في ضلالهم.
قال ابن كثير: أى يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم،
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 14 ص 124.
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي ج 20 ص 18.
(3) في ظلال القرآن ج 14 ص 2167 للأستاذ سيد قطب.
(4) تفسير ابن جرير ج 14 ص 66.(8/131)
واقتداء أولئك بهم، كما جاء في الحديث: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» .
كما قال- تعالى-: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ «1» .
فهذه الآية وأمثالها، لا تعارض بينها وبين قوله- تعالى- وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2» .
لأن هؤلاء المستكبرين لم يكتفوا بضلالهم في أنفسهم، بل تسببوا في إضلال غيرهم، فعوقبوا على هذا التسبب السيئ، الذي هو فعل من أفعالهم القبيحة.
وقوله «بغير علم» في موضع الحال من الضمير المنصوب في قوله «يضلونهم» .
أى: يضلون ناسا لا علم عندهم، فهم كالأنعام بل هم أضل، وفي ذلك ما فيه من مدح أهل العلم والتفكير، لأن الآية الكريمة قد بينت أن أئمة الكفر، يستطيعون إضلال من لا علم عنده، أما أصحاب العقول السليمة فلن يستطيعوا إضلالهم.
قالوا: واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث، وأن يميز بين الحق والباطل، ولا يعذر بسبب جهله.
وقيل: إن قوله «بغير علم» في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله «يضلونهم» .
أى: هم يضلون غيرهم حالة كونهم غير عالمين بما يترتب على ذلك من آثام وعقاب، إذ لو علموا ذلك لما أقدموا على هذا الإضلال لغيرهم.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ. قال الجمل:
و «ساء» فعل ماض لإنشاء الذم بمعنى بئس، و «ما» تمييز بمعنى شيئا، أو فاعل بساء، و «يزرون» صفة لما والعائد محذوف، أو «ما» اسم موصول، وقوله «يزرون» صلة الموصول، والعائد محذوف أى: يزرونه، والمخصوص بالذم محذوف» «3» .
والتقدير: بئس شيئا يزرونه ويحملونه نتيجة كفرهم وكذبهم وإضلالهم لغيرهم وافتتحت
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 484.
(2) سورة الأنعام الآية 164.
(3) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 566.(8/132)
الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح «ألا» للاهتمام بما تضمنه التحذير، حتى يقلعوا عن كفرهم، ويثوبوا إلى رشدهم، ويحترسوا عن الوقوع في الباطل من القول.
ثم سلى الله- تعالى- نبيه والمؤمنين، فبين لهم أن هؤلاء المستكبرين الذين قالوا في القرآن: إنه أساطير الأولين، سيحيق بهم مكرهم السيئ، كما حاق بالذين من قبلهم.
فقال- تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ.
وقوله- سبحانه- «مكر» من المكر، وهو التدبير المحكم، أو صرف الغير عما يريده بحيلته، وهو مذموم إن تحرى به الماكر الشر والباطل، ومحمود إن تحرى به الخير والحق.
والمراد به هنا النوع الأول.
والمراد بالذين من قبلهم: الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة، كقوم نوح وهود وصالح.
وقوله: «فأتى الله بنيانهم..» أى: أهلكهم، كما في قوله- تعالى- ... فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا.. «1» .
ويقال: أتى فلان من مأمنه أى: نزل به الهلاك من جهة أمنه. وأتى عليه الدهر. أى:
أهلكه وأفناه. ومنه الأتوّ. وهو الموت والبلاء.
يقال: أتى على فلان أتوّ، أى موت أو بلاء يصيبه.
والقواعد: جمع قاعدة. وهي أساس البناء، وبها يكون ثباته واستقراره.
والمعنى: لا تهتم- أيها الرسول الكريم- بما يقوله المستكبرون من قومك في شأن القرآن الكريم لكي يصرفوا الناس عن الدخول في الإسلام، فقد مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم، فكانت عاقبة مكرهم أن أتى الله بنيانهم من القواعد، بأن اجتث هذا البنيان من أصله واقتلعه من أساسه «فخر عليهم السقف من فوقهم» أى: فسقط عليهم سقف بنيانهم فأهلكهم «وأتاهم العذاب» المبير المدمر «من حيث لا يشعرون» ولا يحتسبون بأنه سيأتيهم من هذه الجهة، بل كانوا يتوقعون أن ما شيدوه سيحميهم من المهالك.
فالآية الكريمة تصور بأسلوب بديع معجز، كيف أن هؤلاء الماكرين، قد حصنوا أنفسهم بالبناء المحكم المتين، ليتقوا ما يؤذيهم، إلا أن جميع هذه التحصينات قد هوت وتساقطت على
__________
(1) سورة الحشر. الآية 2.(8/133)
رءوسهم، أمام قوة الله- تعالى- التي لا ترد، فإذا بالبناء الذي بنوه ليحتموا به، قد صار مقبرة لهم.
وصدق الله إذ يقول: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
«1» .
وقال- سبحانه-: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ مع أن السقف لا يكون إلا من فوق، لتأكيد الكلام وتقويته.
وقال القرطبي: قال ابن الأعرابى: وكد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته، والعرب تقول:
خر علينا سقف، ووقع علينا حائط، إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله: «من فوقهم» ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب، فقال: «من فوقهم» أى: عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا..» «2» .
هذا ومن المفسرين الذين رجحوا أن الآية مسوقة على سبيل التمثيل، الفخر الرازي.
فقد قال: وفي قوله- سبحانه- فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ قولان:
الأول: أن هذا محض التمثيل.
والمعنى أنهم رتبوا حيلا ليمكروا بها على أنبياء الله، فجعل الله- تعالى- حالهم في تلك الحيل، مثل حال قوم بنوا بنيانا وعموده بالأساطين، فانهدم ذلك البناء، وضعفت تلك الأساطين، فسقط السقف عليهم، ونظيره قولهم: من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه.
- ووجه الشبه أن ما عدوه سبب بقائهم، صار سبب استئصالهم وفنائهم.
الثاني: أن المراد منه ما دل عليه الظاهر، وهو أن الله- تعالى- أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته.
والأول أقرب إلى المعنى «3» .
ومن المفسرين الذين رجحوا أن الكلام على حقيقته، الإمام ابن جرير فقد قال- بعد أن سرد بعض الأقوال-: وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك، تساقطت
__________
(1) سورة النمل الآيات 50، 51، 52.
(2) تفسير القرطبي ج 10 ص 97.
(3) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 20.(8/134)
عليهم سقوف بيوتهم، إذ أتى على أصولها وقواعدها أمر الله، فانكفأت بهم منازلهم، لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف.
وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وجد إليه سبيل» «1» .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير- رحمه الله- أولى بالقبول، لأنه مادام اللفظ صالحا للحمل على الحقيقة، فلا داعي لصرفه عن ذلك.
وقد حكى لنا القرآن الكريم صنوفا من العذاب الذي أنزله الله- تعالى- بالظالمين، ومن ذلك قوله- تعالى-: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «2» .
ثم بين- سبحانه- مصيرهم في الآخرة، بعد أن بين عاقبة مكرهم في الدنيا فقال- تعالى-: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ...
أى: هذا هو مصير هؤلاء المستكبرين في الدنيا، أما مصيرهم في الآخرة فإن الله- تعالى- يذلهم ويهينهم ويفضحهم على رؤوس الأشهاد، ويقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: أين شركائى في العبادة والطاعة، الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، قائلين لهم: إنكم لا بد لكم من إشراكهم معى في العبادة.
وجيء بثم المفيدة للترتيب النسبي، للإشارة إلى ما بين الجزاءين من تفاوت فإن خزي الآخرة أشد وأعظم مما نزل بهم من دمار في الدنيا.
والاستفهام في قوله «أين شركائى..» للتهكم بهم وبمعبوداتهم الباطلة التي كانوا يعبدونها في الدنيا، فإنهم كانوا يقولون للمؤمنين إن صح ما تقولونه من العذاب في الآخرة، فان الأصنام ستشفع لنا.
أى: أين هؤلاء الشركاء ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من خزي وذلة وعذاب مهين؟! وأضاف- سبحانه- الشركاء إليه، لزيادة توبيخهم، لأنهم في هذا اليوم العظيم، يعلمون
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 14 ص 68. [.....]
(2) سورة العنكبوت. الآية 40.(8/135)
علم اليقين أنه لا شركاء له- سبحانه- وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ «1» .
قال الجمل ما ملخصه: وقوله: «تشاقون» من المشاقة وهي عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه.
وقرأ نافع «تشاقون» بكسر النون خفيفه، وقرأ الباقون بفتح النون، ومفعوله محذوف.
أى: تشاقون المؤمنين، أو تشاقون الله، بدليل القراءة الأولى ... » «2» .
ثم حكى- سبحانه- ما يقوله أولو العلم في هذا الموقف الهائل الشديد فقال- تعالى-: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ.
والمراد بالذين أوتوا العلم، كل من اهتدى إلى الحق في الدنيا وأخلص لله- تعالى- العبادة والطاعة.
أى: قال الذين هداهم الله- تعالى- إلى صراطه المستقيم، في هذا اليوم العصيب، إن الخزي الكامل، في هذا اليوم، والسوء الذي ليس بعده سوء، على هؤلاء الكافرين، أصحاب القلوب المنكرة للحق، والنفوس الجاحدة لليوم الآخر وما فيه من حساب.
وجيء بجمله «قال الذين أوتوا العلم..» غير معطوفة على ما قبلها، لأنها واقعة موقع الجواب لقوله- سبحانه- «أين شركائى ... » وللتنبيه على أن الذين أوتوا العلم سارعوا بالجواب بعد أن وجم المستكبرون، وعجزوا عن الإجابة.
وقولهم هذا يدل على شماتتهم بأعداء الله- تعالى-، وتوبيخهم لهم على كفرهم، واستكبارهم عن الاستماع إلى كلمة الحق.
وقال- سبحانه-: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... بلفظ الماضي، مع أن هذا القول سيكون في الآخرة، للإشارة إلى تحقق وقوعه، وأنه كائن لا محالة.
ثم صور- سبحانه- أحوال هؤلاء الكافرين ساعة انتزاع أرواحهم من أجسادهم وساعة وقوفهم للحساب، فقال- تعالى-: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ.......
قال الآلوسى: وفي الموصول أوجه الإعراب الثلاثة: الجر على أنه صفة للكافرين،
__________
(1) سورة القصص: الآية 74.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 567.(8/136)
أو بدل منه، أو بيان له، والنصب والرفع على القطع للذم. وجوز بعضهم كونه مرتفعا بالابتداء، وجملة «فألقوا» خبره..» «1» .
والمراد بالملائكة: عزرائيل ومن معه من الملائكة.
والمراد بظلمهم لأنفسهم: إشراكهم مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة.
أى: إن أشد أنواع الخزي والعذاب يوم القيامة على الكافرين، الذين تنتزع الملائكة أرواحهم من أجسادهم وهم ما زالوا باقين على الكفر والشرك دون أن يتوبوا منهما، أو يقلعوا عنهما. وقوله: «ظالمي أنفسهم» حال من مفعول تتوفاهم.
وفي وصف هؤلاء الكافرين بكونهم «ظالمي أنفسهم» إشعار إلى أن الملائكة تنتزع أرواحهم من جنوبهم بغلظة وقسوة، ويشهد لذلك قوله- تعالى-: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ... «2» .
وقوله «فألقوا السلم» بيان لما صار إليه هؤلاء المستكبرون من ذل وخضوع في الآخرة، بعد أن كانوا مغترين متجبرين في الدنيا.
وأصل الإلقاء يكون في الأجسام والمحسات فاستعير هنا لإظهار كمال الخضوع والطاعة، حيث شبهوا بمن ألقى سلاحه أمام الأقوى منه، بدون أية مقاومة أو حركة.
والمراد بالسلم: الاستسلام والاستكانة. أى: أنهم عند ما عاينوا الموت، وتجلت لهم الحقائق يوم القيامة، خضعوا واستكانوا واستسلموا وانقادوا، وقالوا: ما كنا في الدنيا نعمل عملا سيئا، توهما منهم أن هذا القول ينفعهم.
وقد حكى الله- تعالى- عنهم في آيات أخرى ما يشبه هذا القول، ومن ذلك قوله- تعالى-: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.
وقوله- سبحانه- بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تكذيب لهم في دعواهم أنهم ما كانوا يعملون السوء لأن لفظ «بلى» لإبطال ما نفوه.
أى: بلى كنتم تعملون السوء، لأن الله- تعالى- لا تخفى عليه خافية من أعمالكم،
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 128.
(2) سورة الأنفال الآية 50.(8/137)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
وسيجازيكم عنها بما تستحقون وهذا التكذيب لهم قد يكون من الملائكة بأمر الله- تعالى- وقد يكون من قبله- سبحانه-.
وقوله- سبحانه-: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ... بيان لما انتهى إليه أمرهم من عذاب مهين.
وأبواب جهنم قد ذكر- سبحانه- عددها في قوله- تعالى-: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ «1» .
أى: فادخلوا- أيها الكافرون- من أبواب جهنم، حالة كونكم خالدين فيها خلودا أبديا «فلبئس مثوى المتكبرين» أى فلبئس مقام المتعاظمين عن الإيمان بالله جهنم.
وبذلك نرى الآيات الكريمة. قد بينت بأسلوب مؤثر، مصير المستكبرين الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين، والذين جادلوا المؤمنين بالباطل ليدحضوا به الحق.
وبعد أن بين- سبحانه- أقوال المستكبرين، وأحوالهم، وسوء عاقبتهم أتبع ذلك ببيان أحوال المتقين، وببيان ما أعده لهم من خيرات فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
__________
(1) سورة الحجر الآية 44.(8/138)
فقوله- سبحانه-: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً.. بيان لما رد به المؤمنون الصادقون، على من سألهم عما أنزله الله- تعالى- على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو معطوف على ما قبله، للمقابلة بين ما قاله المتقون، وما قاله المستكبرون.
ووصفهم بالتقوى، للاشعار بأن صيانتهم لأنفسهم عن ارتكاب ما نهى الله- تعالى- عنه، وخوفهم منه- سبحانه- ومراقبتهم له، كل ذلك حملهم على أن يقولوا هذا القول السديد. وكلمة «خيرا» مفعول لفعل محذوف أى: أنزل خيرا. أى: رحمة وبركة ونورا وهداية، إذ لفظ «خيرا» من الألفاظ الجامعة لكل فضيلة.
قال صاحب الكشاف: فان قلت لم نصب هذا ورفع الأول؟.
قلت: فصلا بين جواب المقر وجواب الجاحد، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإنزال، فقالوا خيرا. أى أنزل خيرا. وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء «1» .
وقوله- سبحانه-: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ جملة مستأنفة لبيان ما وعدهم به- تعالى- على أعمالهم الصالحة من أجر وثواب.
أى: هذه سنتنا في خلقنا أننا نجازي الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن الكريم، دون أن نضيع من أعمالهم شيئا.
وقوله «حسنة» صفة لموصوف محذوف أى: مجازاة حسنة بسبب أعمالهم الصالحة.
كما قال- تعالى- في آية اخرى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «2» .
ثم بين- سبحانه- جزاءهم في الآخرة فقال: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ. والمراد بدار الآخرة: الجنة ونعيمها.
و «خير» صيغة تفضيل، حذفت همزتها لكثرة الاستعمال على سبيل التخفيف، كما قال ابن مالك:
وغالبا أغناهم خير وشر ... عن قولهم أخير منه وأشر
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 407.
(2) سورة النحل الآية 97.(8/139)
ونعم: فعل ماض لإنشاء المدح، وهو ضد بئس.
والمعنى: ولدار الآخرة وما فيها من عطاء غير مقطوع، خير لهؤلاء المتقين مما أعطيناهم في الدنيا، ولنعم دارهم هذه الدار. قال- تعالى-: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى «1» .
ووصفها- سبحانه- بالآخرة، لأنها آخر المنازل، فلا انتقال عنها إلى دار أخرى، كما قال- تعالى-: خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا.
والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ما يدل عليه، والتقدير: ولنعم دار المتقين، دار الآخرة.
ثم وصف- سبحانه- ما أعده لهم من نعيم فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
والعدن: الإقامة الدائمة: يقال: عدن فلان ببلد كذا، إذا توطن فيه وأقام دون أن يبرحه أى: لهؤلاء المتقين: جنات دائمة باقية، يدخلونها بسرور وحبور، تجرى من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار.
«لهم فيها ما يشاءون» مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين «كذلك يجزى الله المتقين» أى:
مثل هذا الجزاء الحسن، يجزى الله- تعالى- عباده المتقين، الذين جنبوا أنفسهم مالا يرضيه.
ثم حكى- سبحانه- ما تحييهم به الملائكة فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ...
أى: هذا الجزاء الحسن لهؤلاء المتقين، الذين تتوفاهم الملائكة، أى: تقبض أرواحهم، حال كونهم «طيبين» أى: مطهرين من دنس الشرك والفسوق والعصيان.
«يقولون» أى الملائكة لهؤلاء المتقين عند قبض أرواحهم، «سلام عليكم» أى: أمان عليكم من كل شر ومكروه.
«ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون» أى: بسبب ما قدمتموه من أعمال صالحة.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
__________
(1) سورة الأعلى الآيتان 16، 17.(8/140)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
الْمَلائِكَةُ، أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ «1» .
هذا، ولا تعارض بين قوله تعالى- تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وبين قوله في آية أخرى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وبين قوله في آية ثالثة اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها.
لأن إسناد التوفي إلى ذاته- تعالى-، باعتبار أن أحدا لا يموت إلا بمشيئته- تعالى-، وإسناده إلى ملك الموت باعتباره هو المأمور بقبض الأرواح، وإسناده إلى الملائكة باعتبارهم أعوانا له، ولا تعارض- أيضا- بين قوله- تعالى- ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وبين ما جاء في الحديث الصحيح: «لن يدخل أحدا عمله الجنة..» .
لأن الأعمال الصالحة إنما هي أسباب عادية لدخول الجنة، أما السبب الحقيقي فهو فضل الله- تعالى- ورحمته، حيث قبل هذه الأعمال، وكافأ أصحابها عليها.
وبعد أن بينت السورة الكريمة جانبا من أقوال المتقين، وبشرتهم بما يسرهم ويشرح صدورهم، عادت مرة أخرى لتهديد الكافرين، لعلهم يزدجرون أو يتذكرون، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
والاستفهام في قوله- سبحانه-لْ يَنْظُرُونَ..
إنكارى في معنى النفي.
«ينظرون» هنا بمعنى ينتظرون، من الإنظار بمعنى الإمهال، والضمير المرفوع يعود إلى أولئك المتكبرين الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين، والذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، كما جاء في الآيات السابقة.
أى: ما ينتظر أولئك المتكبرون الذين لا يؤمنون بالآخرة، إلا أن تأتيهم الملائكة لنزع
__________
(1) سورة فصلت الآية 30.(8/141)
أرواحهم من أجسادهم، أو يأتى أمر ربك- أيها الرسول الكريم- بإهلاكهم، أو بإنزال العذاب بهم من حيث لا يشعرون.
وليس المراد من الجملة الكريمة، أنهم ينتظرون ذلك على سبيل الحقيقة، لأن إصرارهم على الكفر جعلهم يستهينون بهذا التهديد وإنما المراد أنهم حين أصروا على الكفر مع ظهور البراهين على بطلانه، صار حالهم كحال المترقب لنزول أحد الأمرين: قبض الملائكة لأرواحهم، أو نزول العذاب بهم.
فالجملة الكريمة تهديد لهم في تماديهم في الكفر، وتحريض لهم على الإيمان قبل فوات الأوان.
قال الجمل: و «أو» في قوله «أو يأتى أمر ربك» مانعة خلو، فإن كلا من الموت والعذاب يأتيهم وإن اختلف الوقت، وإنما عبر بأو دون الواو، للاشارة إلى كفاية كل واحد من الأمرين في تعذيبهم ... » «1» .
وقوله- سبحانه-: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
. تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم من أذى.
أى: مثل هذا الفعل الشنيع الذي صدر عن الكافرين من قومك- يا محمد- فعل الذين من قبلهم من أقوام الرسل السابقين، كقوم نوح وقوم هود، وقوم صالح، فإنهم قد آذوا رسلهم. كما آذاك قومك.
وقد أنزلنا بهم ما يستحقون من عقاب دنيوى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
وقوله- سبحانه- ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
. بيان لعدالة الله- تعالى- وأنه- سبحانه- لا يظلم الناس شيئا.
أى: وما ظلمهم الله حين أنزل بهم عقابه: ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم بترديهم في الكفر، وإصرارهم عليه، ومحاربتهم لمن جاء لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وقوله- سبحانه-: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ معطوف على قوله ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وما بينهما اعتراض.
وحاق: بمعنى أحاط، من الحيق بمعنى الإحاطة، وبابه باع، يقال: حاق يحيق، وخص في الاستعمال بإحاطة الشر، ومنه قوله- تعالى-: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 569.(8/142)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
أى: هكذا تمادى أسلافهم في الكفر والجحود، فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم، وأحاط بهم العذاب من كل جانب، بسبب كفرهم وسخريتهم بالرسل وبما أخبروهم به من حساب وثواب وعقاب في الآخرة، وسيقال لهؤلاء المجرمين يوم القيامة وهم يردون النار: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ «1» .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين، قد هددتا الكافرين ودعتهما إلى الدخول في الحق، وحذرتاهم من انتهاج نهج الظالمين من قبلهم.
ثم حكى- سبحانه- بعض أقاويلهم الباطلة، ومعاذيرهم الفاسدة، ورد عليهم بما يدحضها ويدمغها، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 37]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
إن هذه الآيات الكريمة، تعالج شبهة من الشبهات القديمة الحديثة.
قديمة، لأن كثيرا من مجادلى الرسل- عليهم الصلاة والسلام- جادلوا بها.
وحديثة، لأنها كثيرا ما تراود الذين يتمسكون بالأوهام، إرضاء لنزواتهم وشهواتهم.
إنهم جميعا يقولون عند ارتكابهم للقبائح والمنكرات: هذا أمر الله وهذا قضاؤه، وتلك
__________
(1) سورة الطور الآية 14.(8/143)
مشيئته وإرادته، ولو شاء الله عدم فعلنا لهذه الأشياء لما فعلناها ومادام الله- تعالى- قد قضى علينا بها فما ذنبنا؟ ولماذا يعاقبنا عليها مادام قد شاءها لنا؟
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى هذه الشبهة بأسلوبه الخاص فيقول: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ....
أى: وقال الذين أشركوا، مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة، لنبيهم صلى الله عليه وسلم:
لو شاء الله- تعالى- لنا عبادته وحده لعبدناه نحن وآباؤنا الذين هم قدوتنا.
ولو شاء لنا ولآبائنا- أيضا- ألا نحرم شيئا مما حرمناه من البحائر والسوائب وغيرهما، لتمت مشيئته، ولما حرمنا شيئا لم يأذن به- سبحانه-.
ولكنه- عز وجل- لم يشأ ذلك، بل شاء لنا أن نشرك معه في العبادة هذه الأصنام، وأن نحرم بعض الأنعام، وقد رضى لنا ذلك، فلماذا تطالبنا يا محمد صلى الله عليه وسلم بتغيير مشيئة الله، وتدعونا إلى الدخول في دين الإسلام والذي لم يشأ لنا الله- تعالى- الدخول فيه؟
هذه حجتهم، ولا شك أنها حجة داحضة، لأنهم يحيلون شركهم وفسوقهم على مشيئة الله- تعالى- مع أن مشيئته- تعالى- لم يطلع عليها أحد من خلقه حتى يقولوا ما قالوا.
وإنما الذي أطلعنا عليه- سبحانه- أنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم لهدايتنا، ومنحنا العقول التي نميز بها بين الحق والباطل، فمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم سعد وفاز، ومن أعرض عن هدايته خسر وخاب، قال- تعالى-: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «1» .
وقال- سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ.. «2» .
ولقد حكى- سبحانه- شبهة المشركين هذه في آيات أخرى ورد عليها، ومن ذلك قوله- تعالى- وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «3» .
وقوله- سبحانه-: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
__________
(1) سورة الإنسان الآيتان 2، 3.
(2) سورة الكهف الآية 29. [.....]
(3) سورة الزخرف الآية 19.(8/144)
فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.. «1» .
هذا، وقد قلنا عند تفسيرنا لهذه الآيات ما ملخصه: ونريد أن نزيد هذه الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا، فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله.
نقول لهم: نحن معكم في أنه لا يقع في ملكه- سبحانه- إلا ما يشاؤه. فالطائع تحت المشيئة، والعاصي تحت المشيئة، ولكن هذه المشيئة لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية، وقضاء الله هو علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون وليس العلم صفة تأثير وجبر.
ولقد شاء- سبحانه- أن يجعل في طبيعة البشر الاستعداد للخير والشر، ووهبهم العقل ليهتدوا به، وأرسل إليهم الرسل لينمو فيهم استعدادهم، وسن لهم شريعة لتكون مقياسا ثابتا لما يأخذون وما يدعون، كي لا يتركهم لعقولهم وحدها.
وإذا فمشيئة الله متحققة حسب سنته التي ارتضاها، سواء اتخذ العبد طريقه إلى الهدى أم إلى الضلال، وهو مؤاخذ إن ضل، ومأجور إذا اهتدى، غير أن سنة الله اقتضت أن من يفتح عينيه يبصر النور، ومن يغمضهما لا يراه.
كذلك من يفتح قلبه لإدراك دلائل الإيمان يهتدى، ومن يحجب قلبه عنها يضل. سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا.
وإذا فزعم الزاعمين بأن الله شاء هذا، على معنى أنه أجبرهم عليه، فهم لا يستطيعون عنه فكاكا، إنما هو زعم باطل لا سند له من العلم والتفكير الصحيح..» «2» .
وقوله- سبحانه-: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قاله هؤلاء المشركون من كذب، وما نطقوا به من باطل.
واسم الإشارة «كذلك» يعود إلى إشراكهم وتحريمهم لما أحله الله- تعالى- أى: مثل ذلك الفعل الشنيع الذي فعله قومك معك يا محمد، فعل أشباههم السابقون مع أنبيائهم الذين أرسلهم الله- تعالى- لهدايتهم، فلا تبتئس- أيها الرسول الكريم- مما فعله معك مشركو قومك. فإننا لولا وجودك فيهم، لأنزلنا بهم ما أنزلنا على سابقيهم من عذاب.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 148، 149.
(2) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام من ص 205 إلى ص 211.(8/145)
والاستفهام في قوله- تعالى-: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. إنكارى في معنى النفي. والبلاغ: اسم مصدر بمعنى الإبلاغ. والمبين: الواضح الصريح.
أى: ما على الرسل الكرام الذين أرسلهم الله- تعالى- لإرشاد أقوامهم إلى الصراط المستقيم إلا الإبلاغ الواضح، المظهر لأحكام الله، المميز بين الحق والباطل، أما إجبار الناس على الدخول في الحق فليس من وظيفتهم.
قال- تعالى-: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ «1» .
وقال- تعالى-: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.. «2» .
ثم بين- سبحانه- أن من رحمته بعباده، أن أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فقال- تعالى-: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ...
والطاغوت: اسم لكل معبود من دون الله- تعالى-، كالأصنام والأوثان وغير ذلك من المعبودات الباطلة، مأخوذ من طغا يطغى طغوا.. إذا جاوز الحد في الضلال.
أى: ولقد اقتضت حكمتنا ورحمتنا أن نبعث في كل أمة، من الأمم السالفة «رسولا» من رسلنا الكرام، ليرشدوا الناس إلى الحق والخير، وليقولوا «أن اعبدوا الله» - تعالى- وحده، «واجتنبوا» عبادة «الطاغوت» الذي يضل ولا يهدى.
وأكد- سبحانه- الجملة باللام وقد، للرد على ما زعمه المشركون من أن الله- تعالى- لم ينكر عليهم عبادتهم لغيره، وأنه- سبحانه- راض لتحريمهم لما أحله.
حيث بين لهم- عز وجل- أنه قد أرسل الرسل للدعوة إلى عبادته وحده، ولتجنب عبادة أحد سواه. و «أن» في قوله «أن اعبدوا..» تفسيرية، لأن البعث يتضمن معنى القول، إذ هو بعث للتبليغ.
ثم بين- سبحانه- موقف هؤلاء الأقوام من رسلهم فقال- تعالى-: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ...
__________
(1) سورة الرعد الآية 40.
(2) سورة البقرة: الآية 272.(8/146)
أى: بعثنا في كل أمة من الأمم السابقة رسولا لهداية أبنائها فمن هؤلاء الأبناء من هداهم الله- تعالى- إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. بأن وفقهم إليه، لانشراح صدورهم له، ومنهم من ثبتت وحقت عليه الضلالة، لاستحبابه العمى على الهدى.
وأسند- سبحانه- هداية بعض أفراد هذه الأمم إليه، مع أنه أمر جميعهم- على ألسنة رسله- بالدخول في طريق الهدى، للرد على المشركين الذين أحالوا شركهم وفسوقهم على مشيئة الله، إذ أن الله- تعالى- قد بين للناس جميعا طرق الخير وطرق الشر، فمنهم من استجاب للأولى، ومنهم من انحدر إلى الثانية، وكلاهما لم يقسره الله- تعالى- قسرا على الهدى أو الضلال.
فاهتداء المهتدين إنما هو بسبب اختيارهم لذلك، واتباعهم الرسل، وضلال الضالين إنما هو بسبب استحواذ الشيطان عليهم.
وعبر- سبحانه- في جانب الضالين بقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ للإشارة إلى أنهم لم يستجيبوا لما أرشدهم- سبحانه- إليه، بل ظلوا ثابتين مصممين على البقاء في طريق الضلالة، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «1» .
وقوله- سبحانه-: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
تحريض لهم على التأمل في آثار المكذبين، لعلهم عن طريق هذا التأمل والتدبر يثوبون إلى رشدهم، ويعودون إلى صوابهم، ويدركون سنة من سنن الله في خلقه، وهي أن العاقبة الطيبة للمتقين، والعاقبة السيئة للكافرين.
والفاء في قوله «فسيروا ... » للتفريع، وقد جيء بها للإشعار بوجوب المبادرة إلى التأمل والاعتبار.
أى: إن كنتم في شك مما أخبرناكم به، فسارعوا إلى السير في الأرض، لتروا بأعينكم آثار المجرمين، الذين كذبوا الرسل وأسندوا شركهم إلى مشيئة الله. لقد نزل بهؤلاء المكذبين عذاب الله، فدمرهم تدميرا وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«2» .
ثم أخبر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بأن حرصه على هداية المصرين على ضلالهم، لن يغير من واقع أمرهم شيئا، فقال- تعالى- إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ...
__________
(1) سورة الصف الآية 5.
(2) سورة الصافات الآيتان 137، 138.(8/147)
والفعل المضارع «تحرص» بكسر الراء، ماضيه «حرص» بفتحها كضرب يضرب.
والحرص: شدة الرغبة في الحصول على الشيء، والاستئثار به.
وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ تعليل لجواب الشرط المحذوف، والتقدير:
إن تحرص- أيها الرسول الكريم- على هداية هؤلاء المصرين على كفرهم لن ينفعهم حرصك. فإن الله- تعالى- قد اقتضت حكمته أن لا يهدى من يخلق فيه الضلالة بسبب سوء اختياره، وفساد استعداده.
وفي الجملة الكريمة إشارة إلى ما جبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، فإنه مع ما لقيه من مشركي قومه من أذى وعناد وتكذيب ... كان حريصا على ما ينفعهم ويسعدهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك، أو علة للجواب المحذوف، أى: إن تحرص على هداهم لن ينفع حرصك شيئا، فإن الله لا يهدى من يضل.
والمراد بالموصول: كفار قريش المعبر عنهم قبل ذلك بالذين أشركوا، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإشعار بعلة الحكم.
ومعنى الآية: أنه- سبحانه- لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره. و «من» على هذا. مفعول «يهدى» وضمير الفاعل في «يضل» لله- تعالى- والعائد محذوف، أى من يضله.
وقرأ غير واحد من السبعة «فإن الله لا يهدى..» بضم الياء وفتح الدال- على البناء للمفعول.
و «من» على هذا نائب فاعل، والعائد وضمير الفاعل كما مر..» «1» .
والمعنى على هذه القراءة: إن تحرص على هداهم- يا محمد- لن ينفعهم حرصك، فإن من أضله الله- تعالى- لا يهديه أحد.
وقوله: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ تذييل مؤكد لما قبله.
أى: وليس لهؤلاء الضالين من ناصر يدفع عنهم عذاب الله- تعالى- إن نزل بهم،
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 14 ص 39.(8/148)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
أو يصرفهم عن سبيل الغي الذي آثروه على سبيل الرشد.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.. «1»
وقوله- تعالى-: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «2» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك مقولة أخرى من مقولاتهم الباطلة، التي أكدوها بالأيمان المغلظة، ورد عليها بما يدمغها، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
قوله- سبحانه-: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ... معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا..
للإيذان بأنهم قد جمعوا بين إنكار التوحيد وإنكار البعث بعد الموت.
والقسم: الحلف: وسمى الحلف قسما، لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق ومكذب والجهد- بفتح الجيم- المشقة. يقال جهد فلان دابته وأجهدها، إذا حمل عليها فوق طاقتها. وجهد الرجل في كذا، إذا جد فيه وبالغ، وبابه قطع.
والمراد بقوله: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أنهم أكدوا الأيمان ووثقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق،
__________
(1) سورة المائدة الآية 41.
(2) سورة الأعراف الآية 186.(8/149)
على أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت، لأنهم يزعمون أن إعادة الميت إلى الحياة بعد أن صار ترابا وعظاما نخرة، أمر مستحيل.
وقد أكدوا زعمهم هذا بالقسم، للتدليل على أنهم متثبتون مما يقولونه. ومتيقنون من صحة ما يدعونه، من أنه لا يبعث الله من يموت.
قال القرطبي. قوله- تعالى- وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.. هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت.
ووجه العجب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات.
وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت، فنزلت الآية.
وفي البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال الله- تعالى- كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياى فقوله: لن يعيدني كما بدأنى، وأما شتمه إياى فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» «1» .
وقوله- سبحانه-: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ تكذيب لهم فيما زعموه من أن الله- تعالى- لا يبعث من يموت، ورد عليهم فيما قالوه بغير علم.
و «بلى» حرف يؤتى به لإبطال النفي في الخبر والاستفهام.
أى: بلى سيبعث الله- تعالى- الأموات يوم القيامة، وقد وعد بذلك وعدا صدقا لا خلف فيه ولا تبديل، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة لجهلهم بكمال قدرة الله- تعالى- وعموم علمه، ونفاذ إرادته، وسمو حكمته.
قال الجمل: وقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد، أى: وعد ذلك وعدا، وحق حقا. وقيل: حقا نعتا لوعدا، والتقدير، بلى يبعثهم وعد بذلك وعدا حقا» «2» .
وجيء بقوله «عليه» لتأكيد هذا الوعد، تفضلا منه- سبحانه- وكرما.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 105.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 571.(8/150)
والمراد بالحق هنا: الصدق الذي لا يتخلف، والثابت الذي لا يتبدل.
أى: وعدا صادقا ثابتا لا يقبل الخلف، لأن البعث من مقتضيات حكمته- سبحانه-.
والمراد بأكثر الناس: المشركون ومن كان على شاكلتهم في إنكار البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة.
وفي التنصيص على أكثر الناس، مدح للأقلية منهم، الذين آمنوا بالبعث وبالآخرة وما فيها من حساب، وهم المؤمنون الصادقون.
هذا، وقد حكى- سبحانه- مزاعم المشركين ورد عليها في آيات كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ.. «1» .
وقوله- تعالى-: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.. «2» .
ثم بين- سبحانه- الحكمة من بعث الناس يوم القيامة، فقال- تعالى-: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.
واللام في قوله «ليبين لهم..» وفي قوله «وليعلم..» متعلقة بما دل عليه حرف «بلى» وهو يبعثهم. أى: بلى يبعث الله- تعالى- الموتى، ليظهر لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه في شأن البعث وغيره، وليعلم الذين كفروا علم مشاهدة ومعاينة، أنهم كانوا كاذبين في قسمهم أن الله- تعالى- لا يبعث من يموت، وفي غير ذلك من أقوالهم الباطلة.
وفي إظهار الحق، وفي بيان كذبهم يوم البعث، حسرة وندامة لهم، حيث ظهر لهم ما أنكروه في الدنيا، وما كانوا يستهزئون به، عند ما كان الرسل- عليهم الصلاة والسلام- يدعونهم إلى نبذ الشرك، وإلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده.
فالآية الكريمة قد بينت حكمتين لبعث الناس للحساب يوم القيامة، الأولى إظهار ما اختلفوا فيه في شأن البعث وغيره مما جاءتهم به الرسل. والثانية: إظهار كذب الكافرين الذين أنكروا البعث واستهزءوا بمن دعاهم إلى الإيمان به.
__________
(1) سورة التغابن الآية 7.
(2) سورة يس الآية 78، 79. [.....](8/151)
وقوله- سبحانه-: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ استئناف لتأكيد قدرة الله- تعالى- النافذة، وشمولها لكل شيء من بعث وغيره، وذلك لأن الكفار لما أقسموا بالله جهد أيمانهم بأنه- سبحانه- لا يبعث الموتى، ورد عليهم بما يبطل مزاعمهم، أتبع ذلك ببيان أن قدرته- تعالى- لا يتعاصى عليها شيء، ولا يحول دون نفاذها حائل.
قال الإمام ابن كثير: «أخبر- سبحانه- عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له «كن فيكون» . والمراد من ذلك إذا أراد كونه، فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون كما يشاء، قال- تعالى-: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «1» وقال- سبحانه- ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «2» .
وقال- سبحانه- في هذه الآية إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أى:
يأمر به دفعة واحدة فإذا هو كائن قال الشاعر:
إذا ما أراد الله أمرا فإنما ... يقول له «كن» قولة فيكون
أى: أنه- تعالى- لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به، فإنه- سبحانه- لا يمانع ولا يخالف، لأنه الواحد القهار العظيم، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء..» «3» .
وقال بعض العلماء: وعبر- تعالى- عن المراد قبل وقوعه باسم الشيء، لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل، فلا تنافى الآية إطلاق الشيء- على خصوص الموجود دون المعدوم، لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء- وأنه يقول كن فيكون-، كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه.
أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع كتسمية العصير خمرا في قوله إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً.. نظرا لما يؤول إليه..» «4» .
وقوله «فيكون» قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أى: فهو يكون.
وقرأ ابن عامر والكسائي «فيكون» بالنصب عطفا على قوله «أن نقول له..» .
__________
(1) سورة القمر الآية 50.
(2) سورة لقمان الآية 28.
(3) تفسير ابن كثير ج 4 ص 491.
(4) تفسير أضواء البيان ج 3 ص 272 الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.(8/152)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت جانبا من أقوال المشركين، وردت عليها بما يبطلها، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.
وبعد أن عرضت السورة الكريمة لأقاويل المشركين وردت عليها.. أتبعت ذلك بذكر جانب من الثواب العظيم الذي أعده الله- تعالى- للمؤمنين الصادقين، الذين فارقوا الدار والأهل والخلان، من أجل إعلاء كلمة الله- تعالى-، فقال- سبحانه-:
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قوله- تعالى-: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا.. هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله- تعالى- المدينة فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. وعن ابن عباس: هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، بعد أن ظلمهم المشركون، «1» .
والذي نراه أن الآية الكريمة تشمل هؤلاء، وتشمل غيرهم ممن هاجر من بلده إلى غيرها، رجاء ثواب الله، وخدمة لدينه.
والمهاجرة في الأصل تطلق على المفارقة والمتاركة للديار وغيرها، واستعملت شرعا في المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، أو من دار الكفر إلى غيرها لنشر دعوة الإسلام.
وقوله «لنبوئنهم» من التبوؤ بمعنى الإحلال والإسكان والإنزال يقال بوأ فلان فلانا منزلا، إذا أسكنه فيه، وهيأه له.
«وحسنة» صفة لموصوف محذوف أى: لنبوئنهم تبوئة حسنة، أو دارا حسنة.
والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم في المدينة، ونصرهم على أعدائهم، وإبدال خوفهم أمنا.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 14 ص 73.(8/153)
قال القرطبي في المراد بالحسنة هنا ستة أقوال: نزول المدينة قاله ابن عباس والحسن..
الثاني: الرزق الحسن. قاله مجاهد. الثالث: النصر على عدوهم، قاله الضحاك، الرابع:
لسان صدق، حكاه ابن جريج. الخامس: ما استولوا عليه من البلاد.. السادس: ما بقي لهم في الدنيا من ثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف.
ثم قال: وكل ذلك قد اجتمع لهم بفضل الله- تعالى-» «1» .
والمعنى: والذين هاجروا في سبيل الله، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم.. من أجل إعلاء كلمته، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم.
هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا، لنسكننهم في الدنيا مساكن حسنة يرضونها، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا.
وقوله «في الله» أى: في سبيله، ومن أجل نصرة دينه. فحرف «في» مستعمل للتعليل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها ... » .
والمقصود أن هذا الأجر الجزيل إنما هو للمهاجرين من أجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل نصرة الحق، وليس لمن هاجر لنشر الظلم أو الفساد في الأرض.
وأسند فعل «ظلموا» إلى المجهول، لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون.
وفي ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يفارقوا ديارهم، إلا بعد أن أصابهم ظلم أعدائهم لهم، كتعذيبهم إياهم، وتضييقهم عليهم، إلى غير ذلك من صنوف الأذى.
وأكد- سبحانه- الجزاء الحسن الذي وعدهم به باللام وبنون التوكيد «لنبوئنهم..» ،
زيادة في إدخال السرور والطمأنينة على قلوبهم، وجبرا لكل ما اشتملت عليه الهجرة من مصاعب وآلام وأضرار.
إذ الحسنة- كما قلنا- تشمل كل حسن أعطاه الله- تعالى- للمهاجرين في هذه الدنيا.
أما في الآخرة فأجرهم أعظم، وثوابهم أجزل، كما قال- تعالى-: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
والضمير في قوله «لو كانوا يعلمون» يعود على أعدائهم الظالمين.
أى: ولثواب الله- تعالى- لهم في الآخرة على هجرتهم من أجل إعلاء كلمته، أكبر
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 107.(8/154)
وأعظم، ولو كان أعداؤهم الظالمون يعلمون ذلك لدخلوا في دين الإسلام، ولأقلعوا عن ظلمهم لهؤلاء المهاجرين.
وكأن جملة «لو كانوا يعلمون» جوابا عن سؤال تقديره: كيف لم يقتد بهم من بقي على الكفر مع هذا الثواب الذي أعده الله لهؤلاء المهاجرين؟
فكان الجواب: لو كان هؤلاء الكافرون يعلمون ذلك لأقلعوا عن كفرهم.
ويصح أن يكون الضمير يعود على المهاجرين، فيكون المعنى: لو كانوا يعلمون علم مشاهدة ومعاينة ما أعده الله لهم، لما حزنوا على مفارقة الأوطان والأولاد والأموال، ولازدادوا حبا وشوقا واجتهادا في المهاجرة.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب، أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له «خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخره لك في الآخرة أفضل، ثم تلا هذه الآية «1» .
وجوز بعضهم أن يكون الضمير يعود للمتخلفين عن الهجرة أى: لو علم هؤلاء المتخلفون عن الهجرة، ما أعده- سبحانه- من أجر للمهاجرين، لما تخلفوا عن ذلك.
وعلى أية حال فلا مانع من أن يكون الضمير يعود على كل من يتأتى له العلم، بهذا الثواب الجزيل لهؤلاء المهاجرين في سبيل الله- تعالى-.
ثم وصف- سبحانه- هؤلاء المهاجرين بوصفين كريمين فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أى: هذا الأجر العظيم لهؤلاء المهاجرين الذين صبروا على ما أصابهم من عدوان وظلم، وفوضوا أمرهم إلى خالقهم، فاعتمدوا عليه وحده، ولم يعتمدوا على أحد سواه.
وصفتا الصبر والتوكل على الله. إذا دخلا في قلب، حملاه على اعتناق كل فضيلة، واجتناب كل رذيلة.
وعبر عن صفة الصبر بصيغة الماضي للدلالة على أن صبرهم قد آذن بالانتهاء لانقضاء أسبابه وهو ظلم أعدائهم لهم، لأن الله- تعالى- قد جعل لهم مخرجا بالهجرة، وذلك بشارة لهم.
وعبر عن صفة التوكل بصيغة المضارع للإشارة إلى أن هذه الصفة ديدنهم في كل وقت،
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 14 ص 74.(8/155)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
فهم متوكلون عليه- سبحانه- وحده في السراء والضراء، وفي العسر واليسر، وفي المنشط والمكره.
والمتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين، يراهما قد غرستا في النفوس محبة هذا الدين، والاستهانة بكل ألم أو ضر أو مصيبة في سبيل إعلاء كلمته، والرغبة فيما عند الله- تعالى- من أجر وثواب.
ثم رد- سبحانه- على المشركين الذين أنكروا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم من البشر، فبين- سبحانه- أن الرسل السابقين الذين لا ينكر المشركون نبوتهم كانوا من البشر، فقال- تعالى-.
[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 44]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قال الإمام ابن كثير: عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: لما بعث الله- تعالى- محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ.. «1»
وقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.. «2» .
أى: وما أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم- لهداية الناس وإرشادهم إلى الحق إلا رجالا مثلك، وقد أوحينا إليهم بما يبلغونه إلى أقوامهم، من نصائح وتوجيهات وعبادات وتشريعات، وقد لقى هؤلاء الرسل من أقوامهم، مثل ما لقيت من قومك من أذى وتكذيب وتعنت في الأسئلة.
فالمقصود من الآية الكريمة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والرد على المشركين فيما أثاروه حوله صلى الله عليه وسلم من شبهات.
__________
(1) سورة يونس الآية 2.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 492.(8/156)
وقد حكى القرآن في مواطن عدة إنكار المشركين لبشرية الرسل ورد عليهم بما يخرسهم، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.. «1» .
وقوله- تعالى-: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا، أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا «2» .
وقوله- تعالى- ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا، فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ «3» .
والمراد بأهل الذكر في قوله «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» علماء أهل الكتاب أى: لقد اقتضت حكمتنا أن يكون الرسول من البشر في كل زمان ومكان، فإن كنتم في شك من ذلك- أيها المكذبون- فاسألوا علماء أهل الكتب السابقة من اليهود والنصارى، فسيبينون لكم أن الرسل جميعا كانوا من البشر ولم يكونوا من الملائكة.
وهذه الجملة الكريمة معترضة بين قوله- تعالى- وَما أَرْسَلْنا.. وبين قوله بعد ذلك: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.. للمبادرة إلى توبيخ المشركين وإبطال شبهتهم، لأنه قد احتج عليهم، بمن كانوا يذهبون إليهم لسؤالهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله- تعالى- إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ إيماء إلى أنهم كانوا يعلمون أن الرسل لا يكونون إلا من البشر، ولكنهم قصدوا بإنكار ذلك الجحود والمكابرة، والتمويه لتضليل الجهلاء، ولذا جيء في الشرط بحرف «إن» المفيد للشك.
وجواب الشرط لهذه الجملة محذوف، دل عليه ما قبله. أى: إن كنتم لا تعلمون، فاسألوا أهل الذكر. وقيل المراد بأهل الذكر هنا: المسلمون مطلقا، لأن الذكر هو القرآن، وأهله هم المسلمون.
ونحن لا ننكر أن الذكر يطلق على القرآن الكريم، كما في قوله- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ إلا أن المراد بأهل الذكر هنا: علماء أهل الكتاب، لأن المشركين كانوا يستفسرون منهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، أكثر من استفسارهم من المسلمين.
__________
(1) سورة يوسف الآية 109.
(2) سورة الإسراء الآية 94.
(3) سورة التغابن الآية 6.(8/157)
قال الآلوسى ما ملخصه قوله- تعالى-: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.. أى: أهل الكتاب من اليهود والنصارى. قاله: ابن عباس والحسن والسدى وغيرهم.
وقال أبو حيان في البحر: والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب، لأنهم الذين لا يتهمون عند المشركين في إخبارهم بأن الرسل كانوا رجالا، فإخبارهم بذلك حجة عليهم. والمراد كسر حجتهم وإلزامهم، وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج إلى إخبار هؤلاء..» «1» .
قالوا: وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى أهل العلم فيما لا يعلم، وعلى أن الرسل جميعا كانوا من الرجال ولم يكن من بينهم امرأة قط.
والجار والمجرور في قوله: «بالبينات والزبر» .... متعلق بقوله «وما أرسلنا..» وداخل تحت حكم الاستثناء مع «رجالا» .
والمراد بالبينات: الحجج والمعجزات الدالة على صدق الرسل.
والزبر: جمع زبور بمعنى مزبور أى مكتوب. يقال: زبرت الكتاب.. من باب نصر وضرب- أى: كتبته كتابة عظيمة.
أى: وما أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم- إلا رجالا مؤيدين بالمعجزات الواضحات، وبالكتب العظيمة المشتملة على التشريعات الحكيمة والآداب الحميدة، والعقائد السليمة، التي تسعد الناس في دينهم وفي دنياهم.
وقوله- سبحانه-: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. بيان للحكم التي من أجلها أنزل الله- تعالى- القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
أى: وأنزلنا إليك- أيها الرسول الكريم- القرآن، لتعرف الناس بحقائق وأسرار ما أنزل لهدايتهم في هذا القرآن من تشريعات وآداب وأحكام ومواعظ ولعلهم بهذا التعريف والتبيين يتفكرون فيما أرشدتهم إليه، ويعملون بهديك ويقتدون بك في أقوالك وأفعالك، وبذلك يفوزون ويسعدون.
فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على حكمتين من الحكم التي أنزل الله- تعالى- من أجلها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الحكمة الأولى: فهي تفسير ما اشتمل عليه هذا القرآن من آيات خفى معناها على
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 147.(8/158)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
أتباعه، بأن يوضح لهم صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن الكريم من أحكام أو يؤكد لهم صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام.
ففي الحديث الشريف عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«ألا وإنى أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ... » .
وأما الحكمة الثانية: فهي التفكر في آيات هذا القرآن، والاتعاظ بها، والعمل بمقتضاها، قال- تعالى-: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ. وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
والمراد بالناس في قوله- تعالى- لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ العموم، ويدخل فيهم المعاصرون لنزول القرآن الكريم دخولا أوليا.
وأسند- سبحانه- التبيين إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو المبلغ عن الله- تعالى- ما أمره بتبليغه.
قال الجمل: قوله- تعالى- وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ...
يعنى: أنزلنا إليك- يا محمد- الذكر الذي هو القرآن، وإنما سماه ذكرا، لأن فيه مواعظ وتنبيها للغافلين، «لتبين للناس ما نزل إليهم» يعنى ما أجمل إليك من أحكام القرآن، وبيان الكتاب يطلب من السنة، والمبين لذلك المجمل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال بعضهم: متى وقع تعارض بين القرآن والحديث، وجب تقديم الحديث، لأن القرآن مجمل والحديث مبين، بدلالة هذه الآية، والمبين مقدم على المجمل» «1» .
وبعد أن ردت السورة الكريمة على ما أثاره المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية، أتبعت ذلك بتهديدهم من سوء عاقبة ما هم فيه من كفر وعصيان وعناد، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 572. [.....](8/159)
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى-: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ هم عند أكثر المفسرين، مشركو مكة، الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وراموا صد أصحابه عن الإيمان.
وقيل: هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء ... والمعول عليه ما عليه أكثر المفسرين، «1» .
والاستفهام في الآية الكريمة للتعجيب والتوبيخ.
والفاء للعطف على مقدر دل عليه المقام.
قال بعضهم ما ملخصه: كل ما جاء في القرآن الكريم، من همزة استفهام بعدها واو العطف أو فاؤه. فالأظهر فيه، أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل عليه المقام. والتقدير هنا: أجهل الذين مكروا السيئات وعيد الله لهم بالعقاب، فأمنوا مكره» «2» .
والمراد بمكرهم هنا: سعيهم بالفساد بين المؤمنين، على سبيل الإخفاء والخداع.
والسيئات: صفة لمصدر محذوف، أى: مكروا المكرات السيئات. والمكرات- بفتح الكاف- جمع مكرة- بسكونها- وهي المرة من المكر.
ويجوز أن تكون كلمة السيئات مفعولا به بتضمين «مكروا» معنى: فعلوا.
والخسف: التغييب في الأرض، بحيث يصير المخسوف به في باطنها.
يقال: خسف الله بفلان الأرض، إذا أهلكه بتغييبه فيها.
ومنه قوله- تعالى-: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ.... «3» .
والمعنى: أجهل الذين اجترحوا السيئات وعيدنا، فأمنوا عقابنا وتوهموا أنهم لن يصيبهم شيء من عذابنا، الذي من مظاهره خسف الأرض بهم كما خسفناها بقارون من قبلهم؟!!.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 150.
(2) تفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطى ج 3 ص 276.
(3) سورة القصص الآية 81.(8/160)
إن جهلهم هذا لدليل على انطماس بصيرتهم، واستحواذ الشيطان عليهم.
وقوله «أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون» بيان للون آخر من ألوان تهديدهم.
أى: في قدرتنا أن نخسف بهم الأرض، وفي قدرتنا أيضا أن نرسل عليهم العذاب فجأة فيأتيهم من جهة لا يتوقعون مجيئه منها، ولا يترقبون الشر من ناحيتها.
وفي الجملة الكريمة إشارة إلى أن هذا العذاب الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون. عذاب لا يمكن دفعه أو الهروب منه، لأنه أتاهم بغتة، ومن جهة لا يترقبون الشر منها.
وشبيه بهذا قوله- سبحانه- فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ... «1» .
وقوله- سبحانه- أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بيان لنوع ثالث من أنواع التهديدات التي هددهم الله- تعالى- بها.
والأخذ في الأصل: حوز الشيء وتحصيله، والمراد به هنا: القهر والإهلاك والتدمير ومنه قوله- تعالى- فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً وقوله- تعالى-: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
والتقلب: الحركة السريعة إقبالا وإدبارا، من أجل السعى في شئون الحياة من متاجرة ومعاملة وسفر وغير ذلك.
ومنه قوله- تعالى-: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ.
أى: في قدرتنا أن نخسف بهم الأرض، وأن نرسل عليهم العذاب من حيث لا يشعرون، وفي قدرتنا كذلك أن نهلكهم وهم يتحركون في مناكب الأرض خلال سفرهم أو إقامتهم، فإنهم في جميع الأحوال لا يعجزنا أخذهم، ولا مهرب لهم مما نريده بهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «2» .
وقوله- سبحانه-: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
قال بعض العلماء: والتخوف في اللغة يأتى مصدر تخوف القاصر، بمعنى خاف، ويأتى مصدر
__________
(1) سورة الحشر آية 2.
(2) سورة الأعراف الآيات 97- 99.(8/161)
تخوف المتعدى بمعنى تنقص. وهذا الثاني لغة هذيل، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن» «1» .
والمعنى على الأول: أو يأخذهم وهم في حالة خوف وتوقع لنزول العذاب بهم، كما نزل بالذين من قبلهم.
وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير بقوله: وقوله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ. أى: أو يأخذهم الله- تعالى- في حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد حالات الأخذ، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ... » «2» .
والمعنى على الثاني: أو يأخذهم وهم في حالة تنقص في أنفسهم وأموالهم وأولادهم حتى يهلكوا، فيكون هلاكهم قد سبقه الفقر والقحط والمرض، وفي ذلك ما فيه من عذاب لهم، وحسرة عليهم.
قال القرطبي: وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب- رضى الله عنه على المنبر قال: أيها الناس ما تقولون في قول الله- عز وجل-: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ.
فسكت الناس.
فقال شيخ من بنى هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين. التخوف: التنقص.
فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد اكتنازه:
تخوّف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوّف عود النّبعة السّفن
فقال عمر: أيها الناس: عليكم بديوانكم شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم» «3» .
وختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لبيان فضله- سبحانه- على عباده، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، بل أمهلهم لعلهم يتوبون إليه ويستغفرونه.
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير. للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 494.
(3) تفسير القرطبي ج 10 ص 110. وتخوف في البيت بمعنى تنقص، والرحل: السفر. والتامك: المرتفع. والقرد المتراكم لحمه بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة: شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسي. والسفن: كما يتنقص المنشار أو ما يشبهه أعواد الأشجار.(8/162)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة قد حذرت الكافرين من التمادي في كفرهم، وهددتهم:
بخسف الأرض بهم. أو بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون، أو بإهلاكهم وهم في الأرض يكدحون، أو بأخذهم وهم للأخذ متوقعون.
وبعد أن خوف- سبحانه- الماكرين بما خوف، أتبع ذلك بما يدل على كمال قدرته وعظمته وجلاله، حيث خضعت جميع المخلوقات لذاته- سبحانه- فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
قرأ جمهور القراء «أو لم يروا..» وقرأ حمزة والكسائي: «أو لم تروا» بالتاء، على الخطاب، على طريقة الالتفات.
وقوله «من شيء» بيان للإبهام الذي في «ما» الموصولة في قوله «إلى ما خلق الله» .
وقوله «يتفيأ» من التفيؤ، بمعنى الرجوع. يقال: فاء فلان يفيء إذا رجع وفاء الظل فيئا، إذا عاد بعد إزالة ضوء الشمس له. وتفيؤ الظلال: تنقلها من جهة إلى أخرى بعد شروق الشمس، وبعد زوالها.
والظلال: جمع ظل، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور.
و «داخرون» من الدخور بمعنى الانقياد والخضوع، يقال: دخر فلان يدخر دخورا، ودخر- بزنة فرح- يدخر دخرا، إذا انقاد لغيره وذل له.
والمعنى: أعمى هؤلاء المشركون الذين مكروا السيئات، ولم يروا ما خلق الله- تعالى- من الأشياء ذوات الظلال- كالجبال والأشجار وغيرها- وهي تتنقل ظلالها. من جانب إلى جانب، ومن جهة إلى جهة، باختلاف الأوقات وهي في كل الأحوال والأوقات منقادة لأمر الله- تعالى- جارية على ما أراده لها من امتداد وتقلص وغير ذلك، خاضعة كل الخضوع لما سخرت له.(8/163)
قال ابن كثير- رحمه الله-: يخبر- تعالى- عن عظمته وجلاله، الذي خضع له كل شيء ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها، جمادها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، فأخبر أن كل ماله ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال- أى بكرة وعشيا-، فإنه ساجد بظله لله- تعالى- «1» .
والاستفهام في قوله- تعالى- أَوَلَمْ يَرَوْا.. للإنكار والتوبيخ، والرؤية بصرية.
أى: قد رأوا كل ذلك، ولكنهم لم ينتفعوا بما رأوا، ولم يتعظوا بما شاهدوا.
والمراد بقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ جهتهما، وليس المراد التقييد بذلك، إذ أن الظل أحيانا يكون أمام الإنسان وأحيانا يكون خلفه. وإنما ذكر اليمين والشمائل اختصارا للكلام.
وأفرد اليمين، لأن المراد به جنس الجهة، كما يقال: المشرق، أى جهة المشرق، وجمع «الشمائل» - مفردة شمال-، لأن المقصود تعدد هذه الجهة باعتبار تعدد أصحابها.
قال الشوكانى: قال الفراء: وحد اليمين، لأنه أراد واحدا من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل، لأنه أراد كلها.
وقال الواحدي: وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازا في اللفظ، كقوله: «ويولون الدبر» ، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع. وقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد، كما في قوله- تعالى- وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ... «2» .
وقوله- سبحانه-: سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ. حال من «ظلاله» أى: حال كون هذه الأشياء وظلالها سجدا لله- تعالى-، وحال كون الجميع لا يمتنع عن أمر الله- تعالى-، بل الكل خاضع له- سبحانه- كل الخضوع.
وجاء قوله- تعالى-: وَهُمْ داخِرُونَ. بصيغة الجمع الخاصة بالعقلاء، تغليبا لهم على غيرهم ثم أتبع- سبحانه- هذه الآية الكريمة، بآيات أخرى مؤكدة لها، ومبينة أن كل المخلوقات لن تمتنع عن السجود لله- تعالى-، سواء أكانت لها ظلال أم لا، فقال- سبحانه-: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ، وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ...
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 494 طبعة دار الشعب.
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 166.(8/164)
والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض، مشتقة من الدب بمعنى الحركة.
قال الجمل: قال العلماء، السجود على نوعين: سجود طاعة وعبادة كسجود المسلم لله- عز وجل- وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. يحتمل النوعين، لأن سجود كل شيء بحسبه، فسجود المسلمين والملائكة سجود طاعة وعبادة، وسجود غيرهم سجود خضوع وانقياد..» «1» .
وأوثرت «ما» الموصولة على من، تغليبا لغير العقلاء، لكثرتهم ولإرادة العموم.
وقوله: «من دابة» بيان لما في الأرض، إذ الدابة ما يدب على الأرض أو- كما يقول الآلوسى- بيان لما فيهما، بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية، سواء أكانت في أرض أم سماء..» «2» .
وقوله «والملائكة» معطوف على «ما» في قوله «ما في السموات وما في الأرض» من باب عطف الخاص على العام.
وخصهم- سبحانه- بالذكر تشريفا لهم. ورفعا لمنزلتهم، وتعريضا بالمشركين الذين عبدوا الملائكة. أو قالوا هم بنات الله.
قوله «وهم لا يستكبرون» أى: والملائكة لا يستكبرون عن إخلاص العبادة له، وعن السجود لذاته- سبحانه- بل هم «عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» .
ثم وصفهم- سبحانه- بالخشية منه، وبالخوف من عقابه فقال: «يخافون ربهم من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون» .
أى: أن من صفات الملائكة، أنهم يخافون ربهم الذي هو من فوقهم بجلاله وقهره وعلوه- بلا تشبيه ولا تمثيل-، ويفعلون ما يؤمرون به من الطاعات، ومن كل ما يكلفهم به- سبحانه- دون أن تصدر منهم مخالفة.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد وصفت الله- تعالى- بما هو أهل له- سبحانه- من صفات القدرة والجلال والكبرياء، حتى يفيء الضالون إلى رشدهم، ويخلصوا العبادة لخالقهم- عز وجل-.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 574.
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 157.(8/165)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وبعد أن بين- سبحانه- أن كل شيء في هذا الكون خاضع لقدرته، أتبع ذلك بالنهى عن الشرك، وبوجوب إخلاص العبادة له، فقال- تعالى-.
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- سبحانه- لما بين في الآيات الأولى، أن ما سوى الله- تعالى- سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجسام، منقاد وخاضع لجلاله- تعالى- وكبريائه- أتبعه في هذه الآية بالنهى عن الشرك، وببيان أن كل ما سواه واقع في ملكه وتحت تصرفه، وأنه غنى عن الكل، فقال- تعالى-: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ... «1» .
أى: وقال الله- تعالى- لعباده عن طريق رسله- عليهم الصلاة والسلام- لا تتخذوا شركاء معى في العبادة والطاعة، بل اجعلوهما لي وحدي، فأنا الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء.
قال الآلوسى: وقوله وَقالَ اللَّهُ.. معطوف على قوله- سبحانه- وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...
وإظهار الفاعل، وتخصيص لفظ الجلالة بالذكر، للإيذان بأنه- تعالى- متعين الألوهية.
__________
(1) التفسير الكبير للفخر الرازي ج 20 ص 47.(8/166)
والمنهي عنه هو الإشراك به، لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ إلهين..» «1» .
«اثنين» صفة للفظ إلهين أو مؤكد له. وخص هذا العدد بالذكر، لأنه الأقل، فيعلم انتفاء اتخاذ ما فوقه بالطريق الأولى.
وقوله- سبحانه- إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بيان وتوكيد لما قبله، وهو مقول لقوله- سبحانه- وَقالَ اللَّهُ.
أى: وقال الله لا تتخذوا معى في العبادة إلها آخر، وقال- أيضا- إنما المستحق للعبادة إله واحد، والقصر في الجملة الكريمة من قصر الموصوف على الصفة، أى: الله وحده هو المختص بصفة الوحدانية.
وقد نهى- سبحانه- عن الشرك في آيات كثيرة، وأقام الأدلة على بطلانه ومن ذلك قوله- تعالى- ... وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً «2» وقوله- سبحانه- لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ «3» .
والفاء في قوله «فإياى فارهبون» واقعة في جواب شرط مقدر و «إياى» مفعول به لفعل محذوف يقدر مؤخرا، يدل عليه قوله «فارهبون» .
والرهبة: الخوف المصحوب بالتحرز، وفعله رهب بزنة طرب.
والمعنى: إن رهبتم شيئا فإياى فارهبوا دون غيرى، لأنى أنا الذي لا يعجزنى شيء.
وفي الجملة الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب، للمبالغة في التخويف، إذ تخويف الحاضر أبلغ من تخويف الغائب، لا سيما بعد أن وصف- سبحانه- ذاته بما وصف من صفات القهر والغلبة والكبرياء.
وقدم المفعول وهو إياى لإفادة الحصر، وحذف متعلق الرهبة، للعموم.
أى: ارهبونى في جميع ما تأتون وما تذرون.
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على ألوان من المؤكدات للنهى عن الشرك، والأمر بإخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، تارة عن طريق التقرير «وقال الله..» وتارة عن طريق النهى الصريح، وتارة عن طريق القصر وتارة عن طريق التخصيص.
وذلك لكي يقلع الناس عن هذه الرذيلة النكراء، ويؤمنوا بالله الواحد القهار.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 161. [.....]
(2) سورة الإسراء الآية 39.
(3) سورة الأنبياء الآية 22.(8/167)
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته، ونفاذ إرادته، فقال- تعالى-: وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ...
والمراد بالدين هنا: الطاعة والخضوع بامتثال أمره واجتناب نهيه، وقد أتى الدين بمعنى الطاعة في كثير من كلام العرب، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
وأياما لنا غرا كراما ... عصينا الملك فيها أن ندينا
أى: عصيناه وامتنعنا عن طاعته وعن الخضوع له.
قوله «واصبا» من الوصوب بمعنى الدوام والثبات، يقال: وصب الشيء يصب- بكسر الصاد- وصوبا، إذا دام وثبت. ومنه قوله- تعالى- دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ «1» أى: دائم.
أى: ولله- تعالى- وحده ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا، لا شريك له في ذلك، ولا منازع له في أمره أو نهيه.. وله- أيضا- الطاعة الدائمة، والخضوع الباقي الثابت الذي لا يحول ولا يزول.
والآية الكريمة معطوفة على قوله «إنما هو إله واحد» .
والاستفهام في قوله «أفغير الله تتقون» للإنكار والتعجيب، والفاء للتعقيب، وهي معطوفة على محذوف، والتقدير، أفبعد أن علمتم أن الله- تعالى- له ما في السموات والأرض، وله الطاعة الدائمة.. تتقون غيره، أو ترهبون سواه؟
إن من يفعل ذلك لا يكون من جملة العقلاء، وإنما يكون من الضالين الجاهلين.
ثم بين- سبحانه- أن كل نعمة في هذا الكون، هو- سبحانه- مصدرها وموجدها، فقال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ...
أى: وكل نعمة عندكم كعافية في أبدانكم، ونماء في مالكم، وكثرة في أولادكم، وصلاح في بالكم.. فهي من الله- تعالى- وحده.
فالمراد بالنعمة هنا النعم الكثيرة التي أنعم بها- سبحانه- على الناس، لأنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معينة، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع- اعتمادا على القرينة- من أبلغ الأساليب الكلامية، و «ما» موصولة مبتدأ، متضمنة معنى الشرط.
وقوله «فمن الله» خبرها.
__________
(1) سورة الصافات الآية 9.(8/168)
وقوله «من نعمة» بيان لما اشتملت عليه «ما» من إبهام.
وقوله- سبحانه- ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ، إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بيان لطبيعة الإنسان، ولموقفه من خالقه- عز وجل- والضر: يشمل المرض والبلاء والفقر وكل ما يتضرر منه الإنسان.
وقوله «تجأرون» من الجؤار بمعنى- رفع الصوت بالاستغاثة وطلب العون، يقال: جأر فلان يجأر جأرا وجؤارا، إذا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث وأصله: صياح الوحش. ثم استعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
أى: كل ما يصاحبكم من نعمة فهو من الله- تعالى- فكان من الواجب عليكم أن تشكروه على ذلك، ولكنكم لم تفعلوا، فإنكم إذا نزل بكم الضر، صحتم بالدعاء، ورفعتم أصواتكم بالتضرع، ليكشف عنكم ما حل بكم، فإذا ما كشف- سبحانه- عنكم الضر، سرعان ما يقع فريق منكم في الشرك الذي نهى الله- تعالى- عنه.
و «ثم» في هاتين الآيتين للتراخي الرتبى، لبيان الفرق الشاسع بين حالتهم الأولى وحالتهم الثانية.
والتعبير بالمس في قوله «ثم إذا مسكم الضر..» للإيماء بأنهم بمجرد أن ينزل بهم الضر ولو نزولا يسيرا، جأروا إلى الله- تعالى- بالدعاء لكشفه.
وقدم- سبحانه- الجار والمجرور في قوله «فإليه تجأرون» لإفادة القصر، أى إليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء ليرفع عنكم ما نزل بكم من بلاء، لا إلى غيره لأنكم تعلمون أنه لا كاشف للضر إلا هو- سبحانه-.
و «إذا» الأولى في قوله «ثم إذا كشف..» شرطية والثانية وهي قوله «إذا فريق منكم..» فجائية، وهي جواب الأولى.
وهذا التعبير يشير إلى مسارعة فريق من الناس، إلى جحود نعم الله- تعالى- بمجرد أن يكشف عنهم الضر بدون تريث أو تمهل.
وقال- سبحانه- فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لتسجيل الشرك على هذا الفريق ولإنصاف غيره من المؤمنين الصادقين، الذين يشكرون الله- تعالى- في جميع الأحوال، ويواظبون على أداء ما كلفهم به في السراء والضراء.
وهذا المعنى الذي تضمنته هاتان الآيتان، قد جاء ما يشبهه في آيات كثيرة منها(8/169)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قوله- تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «1» .
وقوله- سبحانه-: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ، أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ.. «2» .
فهذه الآيات الكريمة تصور الطبائع البشرية أكمل تصوير وأصدقه، إذ الناس- إلا من عصم الله- يجأرون إلى الله- تعالى- بالدعاء عند الشدائد والمحن، وينسونه عند السراء والرخاء.
واللام في قوله «ليكفروا بما آتيناهم..» يصح أن تكون للتعليل، وأن تكون هي التي تسمى بلام العاقبة أو الصيرورة.
قال الشوكانى: «واللام في «ليكفروا بما آتيناهم..» لام كي. أى: لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى لكأن هذا الكفر منهم الواقع في موقع الشكر الواجب عليهم، غرض لهم ومقصد من مقاصدهم. وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية.
وقيل: اللام للعاقبة: يعنى ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا الكفر..» «3» .
وقوله- سبحانه-: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد ووعيد لهم على جحودهم لنعم الله- تعالى- والجملة الكريمة معمولة لقول محذوف.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- اعملوا ما شئتم وانتفعوا من متاع الدنيا كما أردتم فسوف تعلمون سوء عاقبتكم يوم القيامة.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك جانبا من عقائدهم الباطلة، وأفعالهم القبيحة التي تمجها العقول السليمة، والأفكار القويمة، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 60]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
__________
(1) سورة فصلت الآية 51.
(2) سورة يونس الآية 12.
(3) تفسير الشوكانى ج 3 ص 169.(8/170)
وقوله- سبحانه-: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ.... معطوف على ما سبقه بحسب المعنى، لتسجيل رذائلهم، وتعداد جناياتهم.
وضمير الجمع في قوله «لما لا يعلمون» يصح أن يعود إلى الكفار، كالذي قبله في «ويجعلون» .
فيكون المعنى: إن هؤلاء المشركين يفعلون ما يفعلون من إشراكهم بالله- تعالى- ومن التضرع إليه عند الضر ونسيانه عند الرخاء.. ولا يكتفون بذلك، بل ويجعلون للأصنام التي لا يعلمون منها ضرا ولا نفعا، نصيبا مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرهما.
ويصح أن يعود ضمير الجمع في قوله «لما لا يعلمون» للأصنام، فيكون المعنى: ويجعلون للأصنام التي لا تعلم شيئا لأنها جماد لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر.. يجعلون لها نصيبا مما رزقناهم.
قال الآلوسى: قوله: لِما لا يَعْلَمُونَ أى لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وأنها لا تضر ولا تنفع، على أن «ما» موصولة، والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار، أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء لأنها جماد. على أن «ما» موصوله- أيضا- عبارة عن الآلهة، وضمير «يعلمون» عائد عليها ومفعول «يعلمون» متروك لقصد العموم، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم..» «1» .
وقال- سبحانه- «نصيبا» بالتنكير، للايماء بأنه نصيب كبير وضعوه في غير موضعه ووصفه بأنه مما رزقهم- سبحانه- لتهويل جهلهم وظلمهم، حيث تركوا التقرب إلى الرازق
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 14 ص 167.(8/171)
الحقيقي- جل وعلا-، وتقربوا بجانب كبير مما رزقهم به- سبحانه- إلى جمادات لا تغنى عنهم شيئا.
وما أجملته هذه الآية الكريمة عن جهالتهم، فصلته آيات أخرى منها قوله- تعالى- في سورة الأنعام: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ «1» .
وقوله- سبحانه- تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ تهديد ووعيد لهم على سوء أفعالهم. أى: أقسم بذاتى لتسألن- أيها المشركون- سؤال توبيخ وتأنيب في الآخرة، عما كنتم تفترونه من أكاذيب في الدنيا، ولأعاقبنكم العقاب الذي تستحقونه بسبب افترائكم وكفركم. وصدرت الجملة الكريمة بالقسم، لتأكيد الوعيد، ولبيان أن العقاب أمر محقق بالنسبة لهم وجاءت الجملة الكريمة بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، لأن توبيخ الحاضر أشد من توبيخ الغائب.
وقوله- سبحانه-: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة، وهو معطوف على ما قبله.
وسؤالهم يوم القيامة عما اجترحوه- مع أنه سؤال تقريع وتأنيب- إلا أنه يدل على عدل الله- تعالى- مع هؤلاء الظالمين، لأنه لم يعاقبهم إلا بعد أن سألهم، وبعد أن ثبت إجرامهم وفي ذلك ما فيه من تعليم العباد أن يكونوا منصفين في أحكامهم.
وهذه الآية الكريمة تحكى ما كان شائعا في بعض قبائل العرب، من أنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله. قالوا: وكانت قبيلة خزاعة، وقبيلة كنانة تقولان بذلك في الجاهلية.
أى: أن هؤلاء المشركين لم يكتفوا بجعل نصيب مما رزقناهم لآلهتهم، بل أضافوا إلى ذلك رذيلة أخرى، وهي أنهم زعموا أن الملائكة بنات الله- تعالى-، وأشركوها معه في العبادة.
قوله «سبحانه» مصدر نائب عن الفعل، وهو منصوب على المفعولية المطلقة، وهو في محل جملة معترضة، وقعت جوابا عن مقالتهم السيئة، التي حكاها الله- تعالى- عنهم، وهي «ويجعلون لله البنات» .
__________
(1) راجع تفسيرنا لهذه الآية في كتابنا (تفسير سورة الأنعام) من ص 185 إلى ص 188.(8/172)
أى: تنزه وتقدس الله- عز وجل- عن أن يكون له بنات أو بنين، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
والمراد بما يشتهونه في قوله- عز وجل-: وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ الذكور من الأولاد.
أى: أن هؤلاء المشركين يجعلون لأصنامهم نصيبا مما رزقناهم، ويجعلون لله- تعالى- البنات، أما هم فيجعلون لأنفسهم الذكور، ويختارونهم ليكونوا خلفاء لهم.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ. وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ، ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «1» .
ثم صور- سبحانه- حالتهم عند ما يبشرون بولادة الأنثى، وحكى عاداتهم الجاهلية المنكرة فقال- تعالى-: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ...
قال الآلوسى: قوله «وإذا بشر أحدهم بالأنثى..» أى: أخبر بولادتها. وأصل البشارة الإخبار بما يسر. لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوؤهم حملت على مطلق الإخبار. وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة، بقطع النظر عن كونها أنثى..» «2» .
وقوله «كظيم» من الكظم بمعنى الحبس. يقال: كظم فلان غيظه، إذا حبسه وهو ممتلئ به وفعله من باب ضرب.
والمعنى: وإذا أخبر أحد هؤلاء الذين يجعلون لله البنات، بولادة الأنثى دون الذكر، صار وجهه مسودا كئيبا كأن عليه غبرة، ترهقه قترة- أى تعلوه ظلمه وسواد-، وصار جسده ممتلئا بالحزن المكتوم، والغيظ المحبوس، وأصبح يتوارى ويتخفى عن أعين الناس خجلا وحياء، من أجل أن زوجته ولدت له أنثى ولم تلد له ذكرا.
وقوله- سبحانه-: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ تصوير بليغ لموقف ذلك الشرك مما بشر به وهو ولادة الأنثى.
فالضمير المنصوب في قوله «أيمسكه، ويدسه» يعود على المبشر به وهو الأنثى.
والهون بمعنى الهوان والذل.
__________
(1) سورة الزخرف الآيتان 19، 20.
(2) تفسير الآلوسي ج 14 ص 169.(8/173)
ويدسه من الدس بمعنى الإخفاء للشيء في غيره. والمراد به. دفن الأنثى حية في التراب حتى تموت، وهو المشار إليه في قوله- تعالى-: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.
أى: أن هذا المشرك بعد أن يبشر بولادة الأنثى، يدور بذهنه أحد أمرين: إما أن يمسكها ويبقيها على هوان وذل، وإما أن يدسها ويخفيها في التراب، بأن يدفنها فيه وهي حية حتى تموت.
والجار والمجرور في قوله «على هون» يصح أن يكون حالا من الفاعل وهو المشرك: أى أيمسك المبشر به مع رضاه- أى المشرك- بهوان نفسه وذلتها بسبب هذا الإمساك.
ويصح أن يكون حالا من المفعول وهو الضمير المنصوب. أى أيمسك هذه الأنثى ويبقيها بقاء ذلة وهوان لها، بحيث لا يورثها شيئا من ماله، ولا يعاملها معاملة حسنة.
ومن بلاغة القرآن أنه عبر بقوله «أيمسكه على هون» ليشمل حالة المشرك وحالة المبشر به وهو الأنثى.
وقوله- تعالى-: أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ. ذم لهم على صنيعهم السيئ، وعلى جهلهم الفاضح.
أى: بئس الحكم حكمهم، وبئس الفعل فعلهم، حيث نسبوا البنات إلى الله- تعالى-، وظلموهن ظلما شنيعا، حيث كرهوا وجودهن، وأقدموا على قتلهن بدون ذنب أو ما يشبه الذنب.
وصدر- سبحانه- هذا الحكم العادل عليهم بحرف «ألا» الاستفتاحية: لتأكيد هذا الحكم، ولتحقيق أن ما أقدموا عليه، إنما هو جور عظيم، قد تمالئوا عليه بسبب جهلهم الفاضح، وتفكيرهم السيئ.
أسند- سبحانه- الحكم إلى جميعهم، مع أن من فعل ذلك كان بعضا منهم، لأن ترك هذا البعض يفعل ذلك الفعل القبيح، هذا الترك هو في ذاته جريمة يستحق عليها الجميع العقوبة، لأن سكوتهم على هذا الفعل مع قدرتهم على منعه يعتبر رضا به.
ثم أتبع- سبحانه- هذا الذم لهم بذم آخر على سبيل التأكيد فقال- تعالى-:
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
والمثل: الحال والصفة العجيبة في الحسن والقبح.
والسوء: مصدر ساءه يسوءه سوءا، إذا عمل معه ما يكره، وإضافة المثل إلى السوء للبيان.(8/174)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
والمراد بمثل السوء: أفعال المشركين القبيحة التي سبق الحديث عنها.
والمعنى للذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب.. صفة السوء، التي هي كالمثل في القبح، وهي وأدهم البنات، وجعلهم لآلهتهم. نصيبا مما رزقناهم، وقولهم:
الملائكة بنات الله، وفرحهم بولادة الذكور للاستظهار بهم.
فهذه الصفات تدل على غبائهم وجهلهم وقبح تفكيرهم.
أما الله- عز وجل- فله المثل الأعلى أى الصفة العليا، وهي أنها الواحد الأحد، المنزه عن الوالد والولد: والمبرأ من مشابهة الحوادث، والمستحق لكل صفات الكمال والجلال في الوحدانية، والقدرة والعلم.. وغير ذلك مما يليق به- سبحانه-.
وهو- عز وجل- «العزيز» في ملكه بحيث لا يغلبه غالب «الحكيم» في كل أفعاله وأقواله.
وبعد أن ساق- سبحانه- ما يدل على جهالات المشركين، وانطماس بصائرهم، وسوء تفكيرهم، أتبع ذلك بالحديث عن مظاهر رحمته بخلقه وعن جانب من جرائم المشركين، وعن وظيفة القرآن الكريم، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
و «لو» في قوله- تعالى-: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ.. حرف امتناع(8/175)
لامتناع. أى: حرف شرط يدل على امتناع وقوع جوابه، لأجل امتناع وقوع شرطه، وقد امتنع هنا إهلاك الناس، لامتناع إرادة الله- تعالى- ذلك.
وقوله «يؤاخذ» مفاعلة من المؤاخذة بمعنى العقوبة، فالمفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد.
فمعنى آخذ الله- تعالى- الناس يؤاخذهم: أخذهم وعاقبهم بسبب ذنوبهم.
والأخذ بمعنى العقاب قد جاء في القرآن الكريم في آيات كثيرة: ومن ذلك قوله- تعالى- وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ «1» .
والباء في «بظلمهم» للسببية، والظلم: مجاوزة الحدود التي شرعها الله- تعالى- وأعظمه الإشراك بالله- تعالى- كما قال- تعالى- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
والمراد من المؤاخذة بسبب ظلمهم: تعجيل العقوبة لهم في الدنيا.
والضمير في قوله- سبحانه- «عليها» يعود على الأرض. وصح عود الضمير عليها مع أنه لم يسبق ذكر لها، لأن قوله «من دابة» يدل على ذلك لأنه من المعلوم، أن الدواب تدب على الأرض.
ونظيره قوله- تعالى- في آية أخرى ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وقوله حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أى: الشمس. فإنه وإن كان لم يجر لها ذكر إلا أن المقام يدل عليها.
ورجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إلا أن المقام يدل عليه كثير في كلام العرب، ومنه قول حاتم الطائي:
أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقوله: حشرجت وضاق بها، المقصود به الروح أو النفس، ولم يجر لها ذكر، إلا أن قوله: وضاق بها الصدر، يعين أن المراد بها النفس.
والمراد بالساعة في «لا يستأخرون عنه ساعة» مطلق الوقت الذي هو غاية في القلة.
والمعنى: ولو عاجل الله- تعالى- الناس بالعقوبة، بسبب ما اجترحوه من ظلم وآثام، لأهلكهم جميعا، وما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب عليها، ولكنه- سبحانه- فضلا منه وكرما، لا يعاجلهم بالعقوبة التي تستأصلهم بل يؤخرهم «إلى أجل مسمى» أى: إلى وقت معين محدد تنتهي عنده حياتهم، وهذا الوقت المحدد لا يعلمه إلا هو- سبحانه- «فإذا
__________
(1) سورة هود الآية 102.(8/176)
جاء أجلهم» . أى: فإذا حان الوقت المحدد لهلاكهم، فارقوا هذه الدنيا بدون أدنى تقديم أو تأخير عن هذا الوقت.
هذا، ومن العلماء من ذهب إلى أن المراد بالناس هنا: الكفار خاصة، لأنهم هم الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى.
ويبدو لنا أن المراد بالناس هنا: العموم، لأن قوله «من دابة» يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة، ولأن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة «من» تكون نصا صريحا في العموم.
وإلى العموم أشار ابن كثير عند تفسيره للآية بقوله: يخبر الله- تعالى- عن حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أى: لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بنى آدم. ولكن الرب- جل وعلا- يحلم ويستر وينظر..» «1» .
وقال القرطبي: فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟
فالجواب: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أراد الله- تعالى- بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم- وأعمالهم-، «2» .
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا «3» .
وقوله- تعالى-: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ «4» .
وقوله- تعالى-: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «5» .
ثم حكى- سبحانه- رذيلة أخرى من رذائل المشركين فقال- تعالى- وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ...
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 497.
(2) تفسير القرطبي ج 10 ص 120.
(3) سورة الكهف الآية 58. [.....]
(4) سورة إبراهيم الآية 42.
(5) سورة نوح الآية 4.(8/177)
أى: أن هؤلاء المشركين لا يكتفون بإنكارهم البعث وبجحود نعم الله- تعالى- بل أضافوا إلى ذلك أنهم يثبتون له- سبحانه وينسبون إليه كذبا وزورا- ما يكرهونه لأنفسهم، فهم يكرهون أن يشاركهم أحد في أموالهم أو في مناصبهم ومع ذلك يشركون مع الله- تعالى- في العبادة آلهة أخرى، ويكرهون أراذل الأموال، ومع ذلك يجعلون لله- تعالى- أراذل أموالهم. ويجعلون لأصنامهم أكرمها، ويكرهون البنات، ومع ذلك ينسبونهن إليه- سبحانه-. فالجملة الكريمة تنعى عليهم أنانيتهم، وسوء أدبهم مع خالقهم- عز وجل- وقوله- سبحانه- وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ... تصوير بليغ لما جبلوا عليه من كذب صريح، وبهتان واضح.
ومعنى: «تصف» تقول وتذكر بشرح وبيان وتفصيل، حتى لكأنها تذكر أوصاف الشيء، وجملة «أن لهم الحسنى» بدل من «الكذب» .
والحسنى: تأنيث الأحسن، والمراد بها زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب وأعظمه، كما كان لهم في الدنيا ذلك، فقد روى أنهم قالوا: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فيما يخبر عنه من أمر البعث، فلنا الجنة ...
والمعنى: أن هؤلاء المشركين يجعلون لله- تعالى- ما يكرهونه من الأولاد والأموال والشركاء، وتنطق ألسنتهم بالكذب نطقا واضحا صريحا إذ زعموا أنه إن كانت الآخرة حقا، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب..
وهذا الزعم قد حكاه القرآن عنهم في آيات متعددة منها قوله- تعالى- وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «1» .
وقوله- تعالى-: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً ... «2» .
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه. جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته. كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر «3» .
__________
(1) سورة سبأ الآية 35.
(2) سورة مريم الآية 37.
(3) تفسير الكشاف ج 2 ص 432.(8/178)
وقال بعض العلماء: والتعبير القرآنى في قوله وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته، أو كأنها صورة له، تحكيه وتصفه بذاتها، كما تقول: فلان قوامه يصف الرشاقة.. لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة، مفصح عنها.
كذلك قال- سبحانه- وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ... فهي بذاتها تعبير عن الكذب، لطول ما قالت الكذب، ولكثرة ما عبرت عنه، حتى صارت رمزا عليه، ودلالة له «1» .
وقوله- سبحانه-: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ تكذيب لهم فيما زعموه من أن لهم الحسنى، ووعيد لهم بإلقائهم في النار.
وكلمة «لا جرم» وردت في القرآن الكريم في خمسة مواضع، متلوة بأن واسمها وليس بعدها فعل. وجمهور النحاة على أنها مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر. ومعناها بعد التركيب معنى حق وثبت. والجملة بعدها فاعل، أى: حق وثبت كونهم لهم النار وأنهم مفرطون فيها.
وقوله- سبحانه-: مُفْرَطُونَ قرأها الجمهور- بسكون الفاء وفتح الراء- بصيغة اسم المفعول من أفرطه بمعنى قدمه. يقال: أفرطته إلى كذا. أى: قدمته إليه.
قال القرطبي: والفارط الذي يتقدم غيره الى الماء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» أى: متقدمكم ... «2» .
أو من أفرط إذا نسيه وتركه. تقول: أفرطت فلانا خلفي، إذا تركته ونسيته.
والمعنى: أن هؤلاء الذين يزعمون أن لهم الحسنى في الآخرة كذبوا في زعمهم، وفجروا في إفكهم، فإنهم ليس لهم شيء من ذلك، وإنما الأمر الثابت الذي لا شك فيه، أن لهم في الآخرة النار، وأنهم مفرطون فيها، مقدمون إليها بدون إمهال، ومتروكون فيها بدون اكتراث بهم، كما يترك الشيء الذي لا قيمة له. قال- تعالى-: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا «3» .
وقرأ نافع «وأنهم مفرطون» - بسكون الفاء وكسر الراء- بصيغة اسم الفاعل. من أفرط اللازم بمعنى أسرف وتجاوز الحد. يقال: أفرط فلان في كذا، إذا تجاوز الحدود المشروعة.
__________
(1) في ظلال القرآن ج 14 ص 2179.
(2) تفسير القرطبي ج 10 ص 121.
(3) سورة الأعراف الآية 51.(8/179)
فيكون المعنى: لا جرم أن لهم النار، وأنهم مفرطون ومسرفون في الأقوال والأعمال التي جعلتهم حطبا لها، ووقودا لنيرانها كما قال- تعالى-: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ «1» .
ثم وجه- سبحانه- خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التسلية والتثبيت، حيث بين له أن ما أصابه من مشركي قومه، قد فعل ما يشبهه المشركون السابقون مع أنبيائهم، فقال- تعالى-: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وقوله فَزَيَّنَ من التزيين وهو تصيير الشيء زينا، أى: حسنا والزينة: هي ما في الشيء من محاسن ترغب الناس فيه.
والمعنى: أقسم لك- أيها الرسول الكريم- بذاتى، لقد أرسلنا رسلا كثيرين إلى أمم كثيرة من قبلك، فكانت النتيجة أن استحوذ الشيطان على نفوس عامة هؤلاء المرسل إليهم، حيث زين لهم الأفعال القبيحة، وقبح لهم الأعمال الحسنة، وجعلهم يقفون من رسلهم موقف المكذب لأقوالهم، المعرض عن إرشاداتهم، المحارب لدعوتهم.
وقوله- سبحانه-: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بيان لسوء عاقبة هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا.
قال الإمام الشوكانى ما ملخصه: والمراد باليوم في قوله- تعالى-: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يحتمل أن يكون المراد به زمان الدنيا- أى مدة أيام الدنيا- فيكون المعنى: فهو قرينهم في الدنيا. ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده. فيكون للحال الآتية. ويكون الولي بمعنى الناصر. والمراد نفى الناصر عنهم بأبلغ الوجوه، لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلا في الآخرة.
ويحتمل أن يكون المراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين: الأول أن يراد البعض الذي مضى، وهو الذي وقع فيه التزيين للأمم الماضية من الشيطان، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية.. الثاني: أن يراد البعض الحاضر، وهو وقت نزول الآية. والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش أعمالهم، فيكون الضمير في «وليهم» لكفار قريش. فيكون المعنى: فهو ولى هؤلاء المشركين اليوم أى: معينهم على الكفر والمعاصي ولهم ولأمثالهم عذاب أليم في الآخرة» «2» .
__________
(1) سورة غافر الآية 43.
(2) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 3 ص 173.(8/180)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
ثم بين- سبحانه- أهم الوظائف التي من أجلها أنزل كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أى: وما أنزلنا عليك- أيها الرسول الكريم- هذا القرآن، إلا من أجل أن تبين لمن أرسلت إليهم وجه الصواب فيما اختلفوا فيه من أمور العقائد والعبادات والمعاملات والحلال والحرام ... وبذلك يعرفون الحق من الباطل، والخير من الشر.
وسيقت هذه المعاني بأسلوب القصر، لقصد الإحاطة بأهم الغايات التي من أجلها أنزل الله- تعالى- كتابه على نبيه الكريم، ولترغيب السامعين في تقبل إرشادات هذا الكتاب بنفس منشرحة، وقلب متفتح.
وقوله وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ثناء آخر على هذا الكتاب الكريم.
أى: أنزلنا هذا الكتاب يا محمد، لتبين للناس عن طريقه وجه الحق فيما اختلفوا فيه من أمور الدين، وليكون هذا الكتاب هداية إلى الطريق القويم، ورحمة لقوم يؤمنون به، ويسيرون في كل أمورهم على هدى تعاليمه وإرشاداته وتشريعاته.
وقال- سبحانه-: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ للإشارة الى أن الظفر بما اشتمل عليه القرآن من خيرات، إنما هو لقوم قد توجهت نفوسهم إلى الإيمان به، وتفتحت قلوبهم لاستقبال هداياته.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت لنا جانبا من مظاهر فضل الله- تعالى- على عباده، وردت على المشركين فيما زعموه من أن لهم في الآخرة العاقبة الحسنى، وسلت النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم من أذى، وبينت أهم الوظائف التي من أجلها أنزل الله- تعالى- كتابه.
ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من نعم الله- تعالى- على خلقه، ومن ذلك: نعمة إنزال الماء من السماء، ونعمة خلق الأنعام، ونعمة إيجاد النخيل والأعناب، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 67]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)(8/181)
والمراد بالسماء في قوله- تعالى-: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً: جهة العلو أو السحاب المنتشر في طبقات الجو العليا والذي تنزل منه الأمطار.
والمراد بإحياء الأرض: تحرك القوى النامية فيها، وإظهار ما أودعه الله- تعالى- فيها من نبات وأزهار، وثمرات، وغير ذلك مما تنبته الأرض.
والمراد بموتها: خلوها من ذلك، بسبب استيلاء القحط والجدب عليها.
قال- تعالى-: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
أى: وكما أنزل الله- تعالى- كتابه ليكون هداية ورحمة لقوم يؤمنون، أنزل- سبحانه- أيضا الماء من السماء على الأرض، فتحولت بسبب نزول هذا الماء المبارك الكثير عليها، من أرض جدباء خامدة، إلى أرض خضراء رابية.
ثم حرض- سبحانه- عباده على التدبر والشكر فقال- تعالى-: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
أى: إن في ذلك الذي فعلناه بقدرتنا وحدها، من انزل الماء من السماء، وإحياء الأرض به من بعد موتها، لآية عظيمة، وعبرة جليلة، ودلالة واضحة تدل على وحدانيتنا وقدرتنا وحكمتنا، «لقوم يسمعون» ما يتلى عليهم من كلام الله- تعالى- سماع تدبر واعتبار، فيعملون بما اشتمل عليه من توجيهات حكيمة وإرشادات سديدة.
فالمراد بالسمع: سمع القلوب والعقول، لا سمع الآذان فقط، إذ سمع الآذان بدون وعى واستجابة للحق، لا قيمة له، ولا فائدة ترجى من ورائه.
ثم أرشد- سبحانه- إلى مظهر آخر من مظاهر وحدانيته، وعظيم قدرته وعجيب صنعه، وسعة رحمته، حيث خلق للناس الأنعام، وسقاهم من ألبانها، فقال- تعالى-: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً....
والأنعام: تطلق على الإبل والبقر والغنم من الحيوان، ويدخل في الغنم المعز.(8/182)
والعبرة: مصدر بمعنى العبور، أى: التجاوز من محل إلى آخر، والمراد بها هنا: العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى اليقظة.
أى: وإن لكم- أيها الناس- في خلق الأنعام، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة، وعظة بليغة، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، ومداومة الشكر له على نعمه. فالتنكير في قوله لَعِبْرَةً للتفخيم والتهويل.
وقوله- تعالى-: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ استئناف بيانى، كأنه قيل: وما وجه العبرة في الأنعام؟ فكان الجواب: نسقيكم مما في بطونه.
قال الآلوسى: والضمير في «بطونه» يعود للأنعام، وهو اسم جمع، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه، ويجوز تأنيثه وجمعه باعتبار معناه ... » «1» .
وقوله- سبحانه-: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ بيان لموطن العبرة ومحل النعمة، ومظهر الدلالة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته ورحمته..
والفرث: الطعام المتبقى في أمعاء الحيوان بعد هضمه. وأصل الفرث: التفتيت. يقال فرثت كبده. أى: فتتتها.
قال الجمل ما ملخصه: والفرث: الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش- بفتح الكاف وكسر الراء- فإذا خرجت من الكرش لا تسمى فرثا بل تسمى روثا. وقوله لَبَناً مفعول ثان لنسقيكم، والأول هو الكاف» «2» .
والخالص: النقي الصافي الخالي من الشوائب والأكدار. يقال خلص الشيء من التلف خلوصا- من باب قعد- إذا سلم منه.
والسائغ: اللذيذ الطعم، السهل المدخل الى الحلق. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا.
من باب قال- إذا سهل مدخله في الحلق.
أى: نسقيكم من بين الفرث والدم الذي اشتملت عليه بطون الأنعام، «لبنا» نافعا لأبدانكم «خالصا» من رائحة الفرث، ومن لون الدم، مع أنه موجود بينهما «سائغا للشاربين» بحيث يمر في الحلوق بسهولة ويسر، ويشعر شاربه بلذة وارتياح.
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 14 ص 176.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 580.(8/183)
وقدم- سبحانه- قوله: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ على قوله لَبَناً، لأن خروج اللبن من بينهما هو موطن العبرة، وموضع الدليل الأسمى على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته.
قال صاحب الكشاف: قوله- تعالى-: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ أى: يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله- تعالى-، بحيث لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله ... فسبحان الله ما أعظم قدرته، وألطف حكمته، لمن تفكر وتأمل. وسئل «شقيق» عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم.
ثم قال- رحمه الله-: فإن قلت: أى فرق بين «من» الأولى والثانية؟.
قلت: الأولى للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونها ... والثانية لابتداء الغاية، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ ...
وإنما قدم قوله: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم» «1» .
وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية: «ومن تدبر في بدائع صنع الله- تعالى- فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها، والأسباب المولدة لها، وتسخير القوى المتصرفة فيها ... اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه- سبحانه- وقدرته، وحكمته، وتناهى رأفته ورحمته:
حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار «2»
والحق، أن هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة على وحدانية الله تعالى ونفاذ قدرته، وعجيب صنعته، حيث استخرج- سبحانه- من بين فرث ودم في بطون الأنعام، لبنا خالصا سائغا للشاربين.
وهذا الاستخراج قد تكلم العلماء المتخصصون عن كيفيته وعن مراحله.. كلاما يقوى إيمان المؤمنين، ويدفع باطل الملحدين.
هذا، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن اللبن نعمة جزيلة من نعم الله- تعالى- على خلقه.
قال القرطبي ما ملخصه: «روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، ثم قال: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل، اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 616.
(2) تفسير الآلوسي ج 14 ص 178. [.....](8/184)
خيرا منه، وإذا سقى لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزئ عن الطعام والشراب إلا اللبن» .
ثم قال الإمام القرطبي: قال علماؤنا: فكيف لا يكون كذلك، وهو أول ما يغتذى به الإنسان، وتنمو به الأبدان، فهو قوت به قوام الأجسام، وقد جعله الله- تعالى- علامة لجبريل على هداية هذه الأمة، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن. فقال لي جبريل: اخترت الفطرة ... » «1» .
ثم انتقلت السورة الكريمة الى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله التي لا تحصى، وهي نعمة ثمرات النخيل والأعناب، فقال- تعالى-: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً....
قال الجمل ما ملخصه: قوله- سبحانه-: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ.. خبر مقدم، ومن تبعيضية، والمبتدأ محذوف تقديره ثمر، وقوله تَتَّخِذُونَ نعت لهذا المبتدأ المحذوف، أى: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا.
ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف، والتقدير: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أى: من عصيرهما، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه، وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً بيان وكشف عن كيفية الإسقاء.
والضمير في قوله مِنْهُ يعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير، أو على المبتدأ المحذوف وهو الثمر «2» .
والسكر- بفتح السين والكاف- اسم من أسماء الخمر، يقال: سكر فلان- بوزن فرح- يسكر سكرا، إذا غاب عقله وإدراكه فهو سكران وسكر- بفتح السين وكسر الكاف-.
وأما الرزق الحسن، فالمراد به ما كان حلالا من ثمرات النخيل والأعناب كالتمر والزبيب وغير ذلك مما أحله الله- تعالى- من ثمارهما.
وعلى هذا المعنى سار جمهور العلماء من السلف والخلف.
قال الآلوسى ما ملخصه: والسكر: الخمر. قال الأخطل:.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 127.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 580.(8/185)
بئس الصّحاة وبئس الشّرب شربهم إذا جرى فيهم المزّاء والسّكر والمزاء: نوع من الأشربة. والسكر ما يسكر وهو الخمر.
وفسروا الرزق الحسن. بالخل والتمر والزبيب وغير ذلك.
ثم قال: وتفسير «السّكر» بالخمر، هو المروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبى رزين، والحسن، ومجاهد، والشعبي.. والنخعي.. مع خلق آخرين.. «1» .
وعلى هذا التفسير الذي قاله جمهور العلماء يكون السكر غير الرزق الحسن، ويكون العطف للتغاير.
ومن العلماء من فسر السكر بأنه اسم للخل، أو للعصير غير المسكر، أو لما لا يسكر من الأنبذة، وقد بسط الإمام القرطبي القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه: قوله- تعالى- سَكَراً السكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر.
والمراد بالسكر: الخمر. وبالرزق الحسن: جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين.
وقد قيل إن السكر: الخل بلغة الحبشة. والرزق الحسن: الطعام. وقيل السكر: العصير الحلو الحلال، وسمى سكرا، لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم ...
وقال الحنفيون. المراد بقوله «سكرا» مالا يسكر من الأنبذة. والدليل عليه أن الله- سبحانه- امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز.
وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حرم الله الخمر بعينها والسّكر من غيرها» «2» .
وأصحاب هذا الرأى كأنهم يرون أن عطف الرزق الحسن على السكر من باب عطف الشيء على مرادفه، كما في قوله- تعالى- لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وليس من باب العطف المقتضى للمغايرة، فالسكر عندهم ليس هو الخمر، وإنما هو الخل أو العصير أو النبيذ غير المسكر.
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه الجمهور من أن السكر هو الخمر أولى بالقبول، لأن هذا التفسير
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 180.
(2) تفسير القرطبي ج 10 ص 128.(8/186)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
هو المروي عن جمع من الصحابة ومن التابعين، ولأن الأصل في العطف أنه يقتضى المغايرة.
قال ابن العربي: أسد هذه الأقوال قول ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، والمراد بالسكر الخمر، فتكون هذه الآية منسوخة لأنها مكية باتفاق العلماء، وتحريم الخمر مدني «1» .
وقال صاحب تفسير آيات الأحكام بعد أن ذكر أدلة الأحناف ورد عليها: والحاصل أننا نرى أن الآية ليس فيها ما يشهد بالحل، إذ الكلام في الامتنان بخلق الأشياء لمنافع الإنسان، ولم تنحصر المنافع في حل التناول، فقد قال الله- تعالى-: في شأن الخمر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.. فهل انحصرت منافع السكر- على فرض أنه النبيذ- في الشرب؟ «2» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أى: في ذلك الذي ذكرناه لكم من إخراج اللبن من بين فرث ودم، ومن اتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، «لآية» باهرة، ودلالة واضحة، على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته، «لقوم يعقلون» هذه التوجيهات الحكيمة، فيدركون أن من يفعل كل ذلك وغيره، هو المستحق للعبادة والطاعة «ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين» .
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يدل- أيضا- على وحدانيته وقدرته، عن طريق إخراج العسل الذي فيه شفاء للناس بواسطة حشرة ضعيفة وهي النحلة، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 128.
(2) راجع تفسير آيات الأحكام ج 3 ص 52 لفضيلة الشيخ محمد على السائس- رحمه الله.(8/187)
وقوله- سبحانه-: وَأَوْحى من الوحى، وهو هنا بمعنى الإلهام، وهو- كما يقول القرطبي- ما يخلقه الله- تعالى- في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر. ومنه قوله- تعالى-: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها، وترك ما يضرها، وتدبير معاشها.. «1» .
وقال صاحب الكشاف: والإيحاء إلى النحل: إلهامها والقذف في قلوبها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فتأنقها في صنعتها ولطفها في تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها دلائل شاهدة على أن الله- تعالى- أودعها علما بذلك وفطنها، كما أودع أولى العقول عقولهم.. «2» .
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل كل من يصلح للخطاب من الأمة الإسلامية.
والنحل: اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء، ويطلق على الذكر والأنثى، وسمى بذلك لأن الله- تعالى- نحله أى منحه العسل الذي يخرج منه.
وقوله- سبحانه-: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ بيان لما ألهمه الله النحل من أوامر. ولما كلفها به من أعمال.
و «أن» مفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه وما بعدها لا محل له من الإعراب، ويجوز بأن تكون مصدرية فيكون ما بعدها في محل نصب على تقدير الجار. أى:
بأن اتخذى.
والمعنى: وألهم ربك النحل وأرشدها وهداها إلى أن تتخذ من فجوات الجبال بيوتا تسكن فيها، وكذلك من تجاويف الأشجار ومما يرفعه الناس ويعرشونه من السقوف وغيرها.
يقال: عرش الشيء يعرشه- بكسر الراء وضمها- إذا رفعه عن الأرض، ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر لمشاهدة سير المعركة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى «من» في قوله أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ؟ وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟.
قلت: أريد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 133.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 618.(8/188)
وقد علق الشيخ ابن المنير على هذا الكلام بقوله: «ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه الزمخشري في تبعيض «من» المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل، كأنه- تعالى- وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه، وإن حجر عليها في البيوت، وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض لأن مصلحة الأكل على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع. ولهذا المعنى دخلت ثم في قوله ثُمَّ كُلِي ...
لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت، والإطلاق لها في تناول الثمرات، كما تقول:
راع الحلال فيما تأكله ثم كل أى شيء شئت. فتوسط ثم لتفاوت. الحجر والإطلاق فسبحان اللطيف الخبير» «1» .
وقوله: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا.. بيان للون آخر من الإلهامات التي ألهمها الله- تعالى- إياها.
والسبل: جمع سبيل. والمراد بها الطرق التي تسلكها النحلة في خروجها من بيتها وفي رجوعها إليه وأضاف- سبحانه- السبل إليه، لأنه هو خالقها وموجدها.
وذللا: جمع ذلول وهو الشيء الممهد المنقاد، وهو حال من السبل، أى: فاسلكي سبل ربك حال كونها ممهدة لك، لا عسر في سلوكها عليك، وإن كانت صعبة بالنسبة لغيرك.
قالوا: ربما أجدب عليها ما حولها، فتنتجع الأماكن البعيدة للمرعى، ثم تعود إلى بيوتها دون أن تضل عنها.
وقيل إن «ذللا» حال من النحلة أى: ثم كلى من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك، حالة كونك منقادة لما يراد منك، مطيعة لما سخرك الله له من أمور تدل على قدرته وحكمته- سبحانه-.
وقوله- تعالى-: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ كلام مستأنف، عدل به من خطاب النحلة الى خطاب الناس، تعديدا للنعم، وتعجيبا لكل سامع، وتنبيها على مواطن العظات والعبر الدالة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته وعجيب صنعه في خلقه.
أى: يخرج من بطون النحل- بعد أكلها من كل الثمرات وبعد اتخاذها بيوتها- شراب هو العسل، مختلف ألوانه ما بين أبيض وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل، على حسب اختلاف مراعيها ومآكلها وسنها، وغير ذلك بما اقتضته حكمته- سبحانه-.
__________
(1) الكشاف وحاشيته ج 2 ص 618.(8/189)
والضمير في قوله- تعالى-: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ يعود على الشراب المستخرج من بطونها وهو العسل.
أى: في العسل شفاء عظيم للناس من أمراض كثيرة تعرض لهم.
وقيل: الضمير يعود إلى القرآن الكريم، والتقدير: فيما قصصنا عليكم في هذا القرآن الشفاء للناس.
وهذا القيل وإن كان صحيحا في ذاته، إلا أن السياق لا يدل عليه، لأن الآية تتحدث عما يخرج من بطون النحل وهو العسل، ولا وجه للعدول عن الظاهر، ومخالفة المرجع الواضح.
قال الإمام ابن كثير: والدليل على أن المراد بقوله فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ هو العسل، الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبى سعيد الخدري- رضى الله عنه-، أن رجلا جاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخى استطلق بطنه فقال: «اسقه عسلا» ، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا. قال:
«اذهب فاسقه عسلا» . فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «صدق الله وكذب بطن أخيك. اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا فبرئ.
ثم ساق الإمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى منها ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل أوكية بنار، وأنهى أمتى عن الكي» .
وروى البخاري- أيضا- عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم- أو يكون في شيء من أدويتكم- خير: ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار، توافق الداء، وما أحب أن أكتوى» «1» .
وقال صاحب فتح البيان: وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء، أو خاص ببعض الأمراض.
فقال طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد.
وقالت طائفة: أخرى: إن ذلك خاص ببعض الأمراض، ولا يقتضى العموم في كل علة
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 575.(8/190)
وفي كل إنسان، وليس هذا بأول لفظ خصص في القرآن فالقرآن مملوء منه، ولغة العربي يأتى فيها العام كثيرا بمعنى الخاص، والخاص بمعنى العام.
ومما يدل على هذا، أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان.
ومحققي أهل الأصول. وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض، أو أمراض، لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم.
ثم قال: قلت: وحديث البخاري: أن أخى استطلق بطنه.. أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء، لأن قوله صلى الله عليه وسلم «صدق الله» أى: أنه شفاء فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا» «1» .
والذي نراه، أن من الواجب علينا أن نؤمن إيمانا جازما بأن العسل المذكور فيه شفاء للناس، كما صرح بذلك القرآن الكريم، وكما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلينا بعد ذلك أن نفوض أمر هذا الشفاء وعموميته وخصوصيته لعلم الله- تعالى- وقدرته وحكمته ويكفينا يقينا في هذا المجال، إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقول للرجل الذي استطلق بطن أخيه أكثر من مرة، «اذهب فاسقه عسلا» .
وقد تولى كثير من الأطباء شرح هذه الآية الكريمة شرحا علميا وافيا، وبينوا ما اشتمل عليه عسل النحل من فوائد «2» .
ثم ختم- سبحانه-: الآية الكريمة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
أى: إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من أمر النحل من إلهامها اتخاذ البيوت العجيبة، ومن إدارتها لشئون حياتها بدقة متناهية، ومن سلوكها الطرق التي جعلها الله مذللة في ذهابها وإيابها للحصول على قوام حياتها، ومن خروج العسل من بطونها ... إن في ذلك وغيره، لآية باهرة، وعبرة ظاهرة، ودلالة جلية، على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وحكمته، لقوم يحسنون التفكير فيما أخبرهم الله- تعالى- عنه، ويوقنون بأن لهذا الكون ربا واحدا لا إله الا هو تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا ألوانا من عجائب صنع الله في خلقه، كاستخراج اللبن من بين فرث ودم، وكاتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، وكاستخراج العسل الذي فيه شفاء للناس من بطون النحل.
__________
(1) تفسير فتح البيان ج 5 ص 267 للشيخ صديق خان.
(2) راجع على سبيل المثال كتاب: الإسلام والطب الحديث» للدكتور عبد العزيز إسماعيل.(8/191)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
فهذه الأشربة قد أخرجها الله- تعالى- من أجساد مخالفة لها في شكلها، وقد ساقها- سبحانه- في آيات جمع بينها التناسق الباهر في عرض هذه النعم، مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله،.. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1» .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن عجائب خلق الله- تعالى- في الأنعام والأشجار والنحل..
ساقت السورة الكريمة ألوانا أخرى من مظاهر قدرته- تعالى- في خلق الإنسان، وفي التفاضل في الأرزاق، ومن نعمه على عباده في إيجاد الأزواج والبنين والحفدة.. فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 72]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
قال الإمام الرازي- رحمه الله-: لما ذكر- سبحانه- بعض عجائب أحوال الحيوانات، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس، ومنها ما هو مذكور في هذه الآية:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ- وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان. والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب: أولها: سن النشوء والنماء، وثانيها: سن الوقوف وهو سن الشباب، من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة-، وثالثها: سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة- وهو من الأربعين إلى الستين- ورابعها: سن الانحطاط الكبير- وهو سن الشيخوخة- وهو من الستين إلى نهاية العمر-» «2» .
__________
(1) سورة النساء الآية 82.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 5 ص 332. [.....](8/192)
والمعنى: «والله» - تعالى- هو الذي «خلقكم» بقدرته، ولم تكونوا قبل ذلك شيئا مذكورا.
«ثم» هو وحده الذي «يتوفاكم» وينهى حياتكم من هذه الدنيا عند انقضاء آجالكم.
وقوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.. معطوف على مقدر. أى: والله- تعالى- هو الذي خلقكم، فمنكم من يبقى محتفظا بقوة جسده وعقله حتى يموت، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر..
والمراد بأرذل العمر: أضعفه وأوهاه وهو وقت الهرم والشيخوخة، الذي تنقص فيه القوى، وتعجز فيه الحواس عن أداء وظائفها.
يقال: رذل الشيء يرذل- بضم الذال فيهما- رذالة.. إذا ذهب جيده وبقي رديئه.
وقوله: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً تعليل للرد إلى أرذل العمر.
أى: فعلنا ما فعلنا من إبقاء بعض الناس في هذه الحياة إلى سن الشيخوخة لكي يصير إلى حالة شبيهة بحالة طفولته في عدم إدراك الأمور إدراكا تاما وسليما.
ويجوز أن تكون اللام للصيرورة والعاقبة. أى: ليصير أمره بعد العلم بالأشياء، إلى أن لا يعلم شيئا منها علما كاملا.
ولقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصل عمره إلى هذه السن، لأنها سن تتكاثر فيها الآلام والمتاعب. وقد يصير الإنسان فيها عالة على غيره. وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ «1» .
قال الإمام ابن كثير: روى البخاري عند تفسير هذه الآية، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: «اللهم إنى أعوذ بك من البخل، والكسل، والهرم، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات» .
وقال زهير بن أبى سلمى في معلقته المشهورة:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم «2»
__________
(1) سورة الروم. الآية 55.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 577.(8/193)
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على كمال علمه، وتمام قدرته، فقال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أى: إن الله- تعالى- عليم بأحوال مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء من تصرفاتهم «قدير» على تبديل الأمور كما تقتضي حكمته وإرادته.
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة إمكان البعث وأنه حق، لأن الله- تعالى- القادر على خلق الإنسان وعلى نقله من حال إلى حال.. قادر- أيضا- على إحيائه بعد موته.
ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن خلق الإنسان، وتقلبه في أطوار عمره، إلى الحديث عن التفاوت بين الناس في أرزاقهم، فقال- تعالى-: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ... فجعل منكم الغنى والفقير، والمالك والمملوك، والقوى والضعيف، وغير ذلك من ألوان التفاوت بين الناس، لحكمة هو يعلمها- سبحانه-.
ثم بين- سبحانه- موقف المفضلين في الرزق من غيرهم فقال: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ...
أى: فليس الذين فضلهم الله- تعالى- في الرزق على غيرهم «برادي» أى: بمانحى وباذلى «رزقهم» الذي رزقهم الله إياه على مماليكهم أو خدمهم الذين هم إخوة لهم في الإنسانية «فهم» أى الأغنياء الذين فضلوا في الرزق ومماليكهم وخدمهم «فيه» أى: في هذا الرزق «سواء» من حيث إنى أنا الرازق للجميع.
فالجملة الكريمة يجوز أن تكون دعوة من الله- تعالى- للذين فضلوا على غيرهم في الرزق، بأن ينفقوا على مماليكهم وخدمهم، لأن ما ينفقونه عليهم هو رزق أجراه الله للفقراء على أيدى الأغنياء.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية: أى: جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم، وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم. كما يحكى عن أبى ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما هم إخوانكم، فاكسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه، وإزاره إزاره من غير تفاوت «1» .
ويجوز أن تكون الآية الكريمة توبيخا للذين يشركون مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة. فيكون المعنى: لقد فضل الله- تعالى- بعضكم على بعض في الرزق- أيها
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 620.(8/194)
الناس-، ومع ذلك فالمشاهد الغالب بينهم، أن الأغنياء لا يردون أموالهم على خدمهم وعبيدهم بحيث يتساوون معهم في الرزق، وإذا ردوا عليهم شيئا، فإنما هو شيء قليل يسير يدل على بخلهم وحرصهم.. مع أنى أنا الرازق للجميع.
وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير بقوله عند تفسيره للآية: «يبين- تعالى- للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من شركاء وهم يعترفون بأنهم عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، فقال- تعالى- منكرا عليهم: أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم، فكيف يرضى هو تعالى- بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم، كما قال- تعالى- في آية أخرى ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... «1» .
وقال العوفى عن ابن عباس في هذه الآية يقول: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون معى عبيدي في سلطاني.. «2» » .
وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى سياق آيات السورة الكريمة، لأن السورة الكريمة مكية، ومن أهدافها الأساسية دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله- عز وجل-، ونبذ الإشراك والمشركين، وإقامة الأدلة المتنوعة على بطلان كل عبادة لغير الله- تعالى-.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع، والفاء معطوفة على مقدر أى: أيشركون به- سبحانه- فيجحدون نعمه، وينكرونها، ويغمطونها حقها، مع أنه- تعالى- هو الذي وهبهم هذه النعم، وهو الذي منحهم ما منحهم من أرزاق؟!!.
ثم ذكرت السورة الكريمة بعد ذلك نعمة أخرى من نعم الله- تعالى- على الناس، فقال- تعالى-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً.
أى: والله- تعالى- هو وحده الذي جعل لكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أى: من جنسكم ونوعكم أَزْواجاً لتسكنوا إليها، وتستأنسوا بها، فإن الجنس إلى الجنس آنس وأسكن.
قال- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ... «3» .
__________
(1) سورة الروم الآية 28.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 577.
(3) سورة الروم الآية 21.(8/195)
قال الإمام ابن كثير: يذكر- تعالى- نعمه على عبيده، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا، أى: من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته أنه خلق من بنى آدم ذكورا وإناثا، وجعل الإناث أزواجا للذكور..» «1» .
وقوله- سبحانه-: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً بيان لنعمة أخرى من نعمه- تعالى- والحفدة، جمع حافد يقال، حفد فلان يحفد حفدا من باب ضرب إذا أسرع في خدمة غيره وطاعته. ومن دعاء القنوت: «وإليك نسعى ونحفد» أى: نسرع في طاعتك يا ربنا. والمراد بالحفدة: أبناء الأبناء. روى عن ابن عباس إنه قال: الحفيد ولد الابن والبنت، ذكرا كان أو أنثى. وقيل المراد بهم: الخدم والأعوان، وقيل المراد بهم: الأختان والأصهار أى: أزواج البنات وأقارب الزوجة..
قال الجمل بعد أن نقل جملة من أقوال المفسرين في ذلك: وكل هذه الأقوال متقاربة، لأن اللفظ يحتمل الكل بحسب المعنى المشترك. وبالجملة فالحفدة غير البنين، لأن الأصل في العطف المغايرة «2» .
وقوله- سبحانه-: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ بيان لنعمة ثالثة من النعم المذكورة في هذه الآية. أى: ورزقكم- سبحانه- من الطيبات التي تستلذونها وتشتهونها، وقد أحل لكم التمتع بها فضلا منه وكرما.
ثم ختم- تعالى- الآية الكريمة بتأنيب الذين يؤثرون الغي على الرشد فقال- تعالى-:
أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.
والباطل يشمل كل اعتقاد أو قول أو فعل يخالف الحق والرشاد والاستفهام للتوبيخ والتقريع، والفاء معطوفة على مقدر. والمعنى: أيجحدون نعم الله- تعالى- فيؤمنون بالباطل، ويكفرون بكل ما سواه من الحق والهدى والرشاد.
وفي تقديم الباطل على الفعل «يؤمنون» إشارة إلى أنهم قد اختلط الباطل بدمائهم فأصبحوا لا يؤمنون إلا به، ولا ينقادون إلا له.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 577.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 586.(8/196)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
والمراد بنعمة الله عموم النعم التي أنعم الله بها عليهم، والتي لا تعد ولا تحصى.
وفي تقديم النعمة وتوسيط ضمير الفصل، إشعار بأن كفرهم بالنعم مستمر وإنكارهم لها لا ينقطع، لأنهم «استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله» .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ذكرت الناس بعجائب خلقهم وبأطوار حياتهم، ويتفاوت أرزاقهم، وببعض نعم الله- تعالى- عليهم لعلهم عن طريق هذا التذكير يفيئون إلى رشدهم، ويخلصون العبادة لخالقهم- سبحانه-، ويستعملون نعمه فيما خلقت له.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك لونا من ألوان العقول المنحرفة عن الطريق الحق، كما ساقت مثلين للرب الخالق العظيم، وللمملوك العاجز الضعيف، لعل في ذلك عبرة لمن يعتبر، وهداية لمن يريد الصراط المستقيم، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 76]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
والمراد بقوله سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ..... كل معبود سوى الله- تعالى- من صنم أو وثن أو غير ذلك من المعبودات الباطلة.
والجملة الكريمة داخلة تحت مضمون الاستفهام الإنكاري، ومعطوفة عليه: وهو قوله(8/197)
- تعالى-: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.
أى أن هؤلاء الجاحدين لنعم الله- تعالى-، بلغ من جهالتهم وسفاهاتهم أنهم يؤمنون بالباطل، ويكفرون بالحق، ويعبدون من دون الله- تعالى- أصناما وأوثانا لا تملك لعابدها أى شيء من الرزق فهي لا تنزل مطرا من السماء ولا تخرج نباتا من الأرض، ولا تستطيع أن تنفع أو تضر..
و «ما» في قوله- تعالى- ما لا يَمْلِكُ.. كناية عن معبوداتهم الباطلة فهي مفردة لفظا، مجموعة معنى.
والتنكير في قوله- سبحانه- رِزْقاً للاشعار بقلته وتفاهته، وأن معبوداتهم لا تملك لهم أى شيء من الرزق، حتى ولو كان تافها حقيرا.
وقوله: شَيْئاً منصوب على المصدر، أى: ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم ملكا، أى: شيئا من الملك.
والضمير في قوله وَلا يَسْتَطِيعُونَ يعود إلى ما وجمع بصيغة العقلاء بناء على زعمهم الفاسد، من أن هذه الأصنام في إمكانها النفع والضر.
وجاءت جملة وَلا يَسْتَطِيعُونَ بعد قوله- تعالى- ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. لتأكيد عجز هذه المعبودات عن فعل أى شيء فهي لا تملك شيئا، وليس في استطاعتها أن تملك لأنها ليست أهلا لذلك.
وقوله- سبحانه- فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ.. نهى منه- سبحانه- عن أن يشبه في ذاته أو صفاته بغيره، وقد جاء هذا النهى في صورة الالتفات من الغائب إلى المخاطب للاهتمام بشأن هذا النهى، والفاء لترتيب النهى على ما عدد من النعم التي وردت في هذه السورة والتي لم ينته الحديث عنها بعد.
والأمثال: جمع مثل، وهو النظير والشبيه لغيره، ثم أطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه-، لمورده- وهو الذي ورد فيه أولا.
وتضرب الأمثال: لتوضيح الشيء الغريب، وتقريب المعنى المعقول من المعنى المحسوس، وعرض ما هو غائب في صورة ما هو مشاهد، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس.
وقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تعليل لهذا النهى عن ضرب الأمثال لله- عز وجل-.(8/198)
أى: فلا تتجاسروا، وتتطاولوا، وتضربوا لله- تعالى- الأمثال، كما يضرب بعضكم لبعض، فإن الله- تعالى- هو الذي يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك.
قال الزجاج: ورد أن المشركين كانوا يقولون: إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك، فنهوا عن ذلك «1» .
ثم وضح لهم- سبحانه- كيف تضرب الأمثال، فساق مثلين حكيمين يدلان على وحدانية الله- تعالى- وقدرته..
أما المثل الأول فيتجلى في قوله- عز وجل-: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ... أى: ذكر الله- تعالى- وبين ووضح لكم مثلا تستدلون به على وحدانيته- سبحانه- وهو أن هناك عبدا رقيقا مملوكا لغيره، وهذا العبد لا يقدر على شيء من التصرفات حتى ولو كانت قليلة.
وقوله- سبحانه-: عَبْداً بدل من مَثَلًا و «مملوكا» صفة للعبد. ووصف- سبحانه- العبد بأنه مملوك، ليحصل الامتياز بينه وبين الحر، لأن كليهما يشترك في كونه عبدا لله- تعالى-.
ووصفه أيضا- بأنه لا يقدر على شيء للتمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون له في التصرف، لأنهما يقدران على بعض التصرفات.
هذا هو الجانب الأول من المثل، أما الجانب الثاني فيتجلى في قوله- تعالى-: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً....
قال الآلوسى: و «من» في قوله وَمَنْ رَزَقْناهُ نكرة موصوفه، ليطابق عبدا فإنه نكرة موصوفة- أيضا-، وقيل: إنها موصولة، والأول اختيار الأكثرين أى: حرا رزقناه بطريق الملك، والالتفات إلى التكلم- في «رزقناه» - للإشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق ... » «2» .
أى: ذكر الله- تعالى- لكم لتتعظوا وتتفكروا، حال رجلين: أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شيء. والثاني حر مالك رزقه الله- تعالى- رزقا واسعا حلالا حسنا، «فهو» أى هذا
__________
(1) تفسير فتح القدير للشيخ صديق حسن خان ج 5 ص 273.
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 195.(8/199)
الحر ينفق على غيره من هذا الرزق الحسن «سرا وجهرا» واختار- سبحانه- ضمير العظمة في قوله رَزَقْناهُ للإشعار بكثرة هذا الرزق وعظمته، ويزيده كثرة وعظمة قوله- تعالى- بعد ذلك مِنَّا أى من عندنا وحدنا وليس من عند غيرنا.
ووصف- سبحانه- الرزق بالحسن، للإشارة إلى أنه مع كثرته فهو حلال طيب مستحسن في الشرع وفي نظر الناس.
وقال- سبحانه- فَهُوَ يُنْفِقُ بصيغة الجملة الاسمية، للدلالة على ثبوت هذا الإنفاق ودوامه.
وقوله سِرًّا وَجَهْراً منصوبان على المصدر، أى إنفاق سر وجهر، أو على الحالية، أى فهو ينفق منه في حالتي السر والجهر.
والمراد أنه إنسان كريم، لا يبخل بشيء مما رزقه الله، بل ينفق منه في عموم الأحوال، وعلى من تحسن معه النفقة سرا، وعلى من تحسن معه النفقة جهرا.
هذان هما الجانبان المتقابلان في هذا المثل، والفرق بينهما واضح وعظيم عند كل ذي قلب سليم، ولذا جاء بعدهما بالاستفهام الإنكارى التوبيخي فقال:
هَلْ يَسْتَوُونَ؟ أى: هل يستوي في عرفكم أو في عرف أى عاقل، هذا العبد المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء.. مع هذا الإنسان الحر. المالك الذي رزقه الله- سبحانه- رزقا واسعا حلالا، فشكر الله عليه، واستعمله في وجوه الخير.
إن مما لا شك فيه أنهما لا يستويان حتى في نظر من عنده أدنى شيء من عقل.
ومادام الأمر كذلك، فكيف سويتم- أيها المشركون الجهلاء- في العبادة، بين الخالق الرازق الذي يملك كل شيء، وبين غيره من المعبودات الباطلة التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تعقل، ولا تملك شيئا.
وقال- سبحانه- هَلْ يَسْتَوُونَ مع أن المتقدم اثنان، لأن المراد جنس العبيد والأحرار، المدلول عليهما بقوله عَبْداً وبقوله وَمَنْ رَزَقْناهُ.
فالمقصود بالمثل كل من اتصف بهذه الأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان.
وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثناء منه- سبحانه- على ذاته، حيث ساق- سبحانه- هذه الأمثال الواضحة للتمييز بين الحق والباطل.
أى: قل- أيها الإنسان المؤمن العاقل- «الحمد» كله «لله» - تعالى- على إرشاده(8/200)
لعباده المؤمنين، وتعليمهم كيف يقذفون بحقهم على باطل أعدائهم فإذا هو زاهق.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أى: بل أكثر هؤلاء الكافرين الضالين، لا يعلمون كيف يميزون بين الحق والباطل لانطماس بصائرهم، واستيلاء الجحود والحسد والعناد على قلوبهم.
وقال- سبحانه- بَلْ أَكْثَرُهُمْ.. للإشعار بأن من هؤلاء الكافرين من يعلم الحق ويعرفه كما يعرف أبناءه، ولكن الهوى والغرور والتقليد الباطل.. حال بينه وبين اتباع الحق.
هذا هو المثال الأول الذي ذكره الله- تعالى- للاستدلال على بطلان التسوية بين عبادة الله- تعالى- الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء.. وبين عبادة غيره من الأصنام والجمادات التي لا تخلق شيئا، ولا تملك شيئا، ولا تضر ولا تنفع.
أما المثال الثاني فهو أشد وضوحا من سابقه على وحدانية الله- تعالى- ورحمته بعباده، وعلى الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر، ويتجلى هذا المثال في قوله- عز وجل-:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ...
أى: وذكر الله- تعالى- مثلا آخر لرجلين، أَحَدُهُما أَبْكَمُ أى: لا يستطيع النطق أو الكلام، ضعيف الفهم والتفهيم لغيره.
لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ أى: لا يقدر على فعل شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره.
وَهُوَ أى هذا الرجل كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أى: حمل ثقيل، وهم كبير على مولاه الذي يتولى شئونه من طعام وشراب وكساء وغير ذلك. وهذا بيان لعدم قدرته على القيام بمصالح نفسه، بعد بيان عدم قدرته على القيام بفعل أى شيء على الإطلاق.
قال القرطبي: قوله وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أى ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر:
أكول لمال الكلّ قبل شبابه ... إذا كان عظم الكلّ غير شديد «1»
فالكل هو الإنسان العاجز الضعيف الذي يكون محتاجا إلى من يرعى شئونه.
وقوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أى: أن هذا الرجل حيثما يوجهه مولاه وكافله لقضاء أمر من الأمور يعود خائبا، لعجزه، وضعف حيلته، وقلة إدراكه..
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 149.(8/201)
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هذا الرجل بأربع صفات، تدل على سوء فهمه، وقلة حيلته، وثقله على ولى أمره، وانسداد طرق الخير في وجهه..
هذا هو الجانب الأول من المثل، أما الجانب الثاني فيتجلى في قوله- تعالى-: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ..
أى: «هل يستوي هو» أى هذا الرجل الأبكم العاجز.. مع رجل آخر «يأمر» غيره بالعدل «وهو» أى هذا الرجل الآخر في نفسه «على صراط مستقيم» أى: على دين قويم، وخلق كريم فقد جمع بذلك بين فضيلتين جليلتين: نفعه لغيره، وصلاحه في ذاته.
لا شك أن هذين الرجلين لا يستويان في عقل أى عاقل، إذ أن أولهما أبكم عاجز خائب..
وثانيهما منطيق، ناصح لغيره، جامع لخصال الخير في نفسه.
ومادام الأمر كذلك فكيف سويتم- أيها المشركون الضالون المكذبون- في العبادة بين الله- تعالى- وهو الخالق لكل شيء، وبين تلك الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى عن عابديها شيئا.
أو كيف سويتم بين المؤمن الجامع لكل مكرمة، وبين الكافر الغبي الأبله الذي آثر الغي على الرشد، فتكون الآية الكريمة مسوقة لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر.
وقد قابل- سبحانه- الأوصاف الأربعة للرجل الأول، بهذين الوصفين للرجل الثاني، لأن حاصل أوصاف الأول أنه غير مستحق لشيء، وحاصل وصفي الثاني أنه مستحق لكل فضل وخير.
وقوله وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ... معطوف على الضمير المستتر في قوله هَلْ يَسْتَوِي....
وجملة «وهو على صراط مستقيم» في محل نصب على الحال.
وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا مثلين واضحين، لبيان الفرق الشاسع بين ذات الله- تعالى- الخلاق العليم، الرزاق الكريم.. وبين تلك المعبودات الباطلة التي أشركها الضالون في العبادة مع الله- عز وجل-.
أو بين المؤمن الذي هو على بصيرة من أمره، وبين الكافر الذي استحب العمى على الهدى.. أو بين الحق في وضوحه وجماله وجلاله، وبين الباطل في ظلامه وقبحه وخسته.
هذا، وما ذكره بعضهم من أن المثلين في الآيتين الكريمتين، قد وردا في أشخاص معينين من(8/202)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
المؤمنين أو الكافرين، لا يعول عليه، لضعف الروايات التي وردت في ذلك، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الآلوسى ما ملخصه: وما روى من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار، أو بالأبكم أبى بن خلف، والآمر بالعدل عثمان بن مظعون لا يصح إسناده..» «1» .
وبهذين المثلين تكون السورة الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأسطعها على صحة قوله- تعالى- قبل ذلك: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ....
ثم ساقت السورة بعد ذلك ما يدل على إحاطة علمه- سبحانه- بكل شيء، وعلى شمول قدرته، وعلى سابغ نعمته، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 83]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 197.(8/203)
والمراد بالغيب في قوله- سبحانه- وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ما لا تدركه الحواس، ولا تحيط بكنهه العقول لأنه غائب عن مدارك الخلائق.
والكلام على حذف مضاف، والتقدير: لله- تعالى- وحده، علم جميع الأمور الغائبة عن مدارك المخلوقين، والتي لا سبيل لهم إلى معرفتها لا عن طريق الحس، ولا عن طريق العقل.
ومن كانت هذه صفته، كان مستحقا للعبادة والطاعة، لا تلك المعبودات الباطلة التي لا تعلم من أمرها أو من أمر غيرها شيئا.
وقوله- سبحانه-: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بيان لسرعة نفاذ أمره بدون مهلة.
والساعة في الأصل: اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين. والمراد بها هنا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال.
وسمى يوم القيامة بالساعة: لوقوعه بغتة، أو لسرعة ما يقع فيه من حساب أو لأنه على طوله زمنه يسير عند الله- تعالى-.
واللمح: النظر الذي هو في غاية السرعة. يقال لمحه لمحا ولمحانا إذا رآه بسرعة فائقة، ولمح البصر: التحرك السريع لطرف العين من جهة الى جهة، أو من أعلى إلى أسفل.
و «أو» هنا للتخيير بالنسبة لقدرة الله- تعالى- أو للإضراب.(8/204)
أى: ولله- سبحانه- وحده علم جميع ما غاب في السموات والأرض من أشياء، وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته، وما يترتب عليه من إماتة وإحياء، وحساب، وثواب وعقاب ... ما أمر ذلك كله إلا كتحرك طرف العين من جهة إلى جهة، أو هو- أى أمر قيامها- أقرب من ذلك وأسرع، بحيث يكون في نصف هذا الزمان أو أقل من ذلك، لأن قدرته لا يعجزها شيء، قال- تعالى-: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. والمقصود من هذه الجملة الكريمة: بيان سرعة تأثير قدرة الله- عز وجل- متى توجهت إلى شيء من الأشياء.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يؤكد شمول قدرته فقال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى: إن الله- تعالى- لا يعجز قدرته شيء سواء أكان هذا الشيء يتعلق بأمر قيام الساعة في أسرع من لمح البصر.. أم بغير ذلك من الأشياء.
ثم ساق- تعالى- بعد ذلك أنواعا من نعمه على عباده فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً. أى: والله- تعالى- وحده هو الذي أخرجكم- أيها الناس- من بطون أمهاتكم إلى هذه الحياة، وأنتم لا تعلمون شيئا لا من العلم الدنيوي ولا من العلم الديني، ولا تعرفون ما يضركم أو ينفعكم، والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ...
وجملة «لا تعلمون شيئا» حال من الكاف في «أخرجكم» .
وقوله- سبحانه- وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة ثانية من نعمة الله- سبحانه- التي لا تحصى.
أى: أن من نعمة الله- تعالى- أنه أخرجكم من بطون أمهاتكم- بعد أن مكثتم فيها شهورا تحت كلاءته ورعايته- وأنتم لا تعرفون شيئا، وركب فيكم بقدرته النافذة، وحكمته البالغة، «السمع» الذي تسمعون به، والبصر الذي بواسطته تبصرون، «والأفئدة» التي عن طريقها تعقلون وتفقهون، لعلكم بسبب كل هذه النعم التي أنعمها عليكم، تشكرونه حق الشكر، بأن تخلصوا له العبادة والطاعة، وتستعملوا نعمه في مواضعها التي وجدت من أجلها.
قال الجمل: وجملة: «وجعل لكم السمع والأبصار ... » ابتدائية، أو معطوفة على ما قبلها، والواو لا تقتضي ترتيبا، فلا ينافي أن هذا الجعل قبل الإخراج من البطون. ونكتة تأخيره- أى الجعل- أن السمع ونحوه من آلات الإدراك، إنما يعتد به إذا أحس الإنسان(8/205)
وأدرك وذلك لا يكون الا بعد الإخراج. وقدم السمع على البصر، لأنه طريق تلقى الوحى، أو لأن إدراكه أقدم، من إدراك البصر. وإفراده- أى السمع- باعتبار كونه مصدرا في الأصل ... «1» .
وقال الإمام ابن كثير: «وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا حتى يبلغ أشده. وإنما جعل- تعالى- هذه الحواس في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه كما جاء في صحيح البخاري عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول تعالى- «من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب.
وما تقرب إلى عبدى بشيء أفضل مما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن دعاني لأجيبنه ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددى في قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه» .
فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة، صارت أفعاله كلها لله، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله أى: لما شرعه الله له.. «2» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «3» .
ثم حض- سبحانه- عباده على التفكر في مظاهر قدرته فقال- تعالى-: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ...
والطير: جمع طائر كركب وراكب. و «مسخرات» من التسخير بمعنى التذليل والانقياد أى: ألم ينظر هؤلاء الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في العبادة، إلى الطيور وهن يسبحن في الهواء المتباعد بين الأرض والسماء، ما يمسكهن في حال قبضهن وبسطهن لأجنحتهن إلا الله- تعالى-، بقدرته الباهرة، وبنواميسه التي أودعها في فطرة الطير.
إنهم لو نظروا نظر تأمل وتعقل، لعلموا أن المسخر لهن هو الله الذي لا معبود بحق سواه
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 589.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 579. [.....]
(3) سورة الملك الآية 24.(8/206)
وفي قوله- تعالى- «مسخرات» إشارة إلى أن طيرانها في الجو ليس بمقتضى طبعها، وإنما هو بتسخير الله تعالى لها وبسبب ما أوجد لها من حواس ساعدتها على ذلك، كالأجنحة وغيرها. وأضاف- سبحانه- الجو إلى السماء لارتفاعه عن الأرض، ولإظهار كمال قدرته- سبحانه-.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أى: إن في ذلك التسخير والتذليل للطير على هذه الصفة «لآيات» بينات على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته، «لقوم يؤمنون» بالحق، ويفتحون قلوبهم له ويسمون بأنفسهم عن التقليد الباطل.
ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من النعم، منها ما يتعلق بنعمة المسكن فقال- تعالى-:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً....
قال القرطبي: قوله- تعالى-: جَعَلَ لَكُمْ معناه صير، وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت، وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت وقوله: «سكنا» أى: تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة ... «1» .
والحق أن نعمة السكن في البيوت والاستقرار فيها، والشعور بداخلها بالأمان والاطمئنان، هذه النعمة لا يقدرها حق قدرها، إلا أولئك الذين فقدوها، وصاروا يعيشون بلا مأوى يأويهم، أو منزل يجمع شتاتهم.
والتعبير بقوله عز وجل سَكَناً فيه ما فيه من السمو بمكانة البيوت التي يسكنها الناس. فالبيت مكان السكينة النفسية، والراحة الجسدية، هكذا يريده الإسلام، ولا يريده مكانا للشقاق والخصام، لأن الشقاق والخصام ينافي كونه «سكنا» .
والبيت له حرمته التي جعل الإسلام من مظاهرها، عدم اقتحامه بدون استئذان، وعدم التطلع إلى ما بداخله، وعدم التجسس على من بداخله.
وصيانة حرمة البيت- كما أمر الإسلام- تجعله «سكنا» آمنا، يجد فيه أصحابه كل ما يريدون من الراحة النفسية والشعورية.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 152.(8/207)
وقوله- تعالى-: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ بيان لنعمة أخرى تتمثل في البيوت الخفيفة المتنقلة، بعد الحديث عن البيوت الثابتة المستقرة.
والأنعام: جمع نعم. وتشمل الإبل والبقر والغنم، ويدخل في الغنم المعز.
والظعن بسكون العين وفتحها: التحول والانتقال والرحيل من مكان إلى آخر طلبا للكلأ، أو لمساقط الغيث، أو لغير ذلك من الأغراض.
أى: ومن نعمه أيضا أنه أوجد لكم من جلود الأنعام بيوتا «تستخفونها» أى: تجدونها خفيفة «يوم ظعنكم» أى: يوم سفركم ورحيلكم من موضع إلى آخر «ويوم إقامتكم» في مكان معين بحيث يمكنكم أن تنصبوها لترتاحوا بداخلها، بأيسر السبل، وذلك كالقباب والخيام والأخبية، وغير ذلك من البيوت التي يخف حملها.
ثم ختم- سبحانه- الآية بإبراز نعمة ثالثة، تتمثل فيما يأخذونه من الأنعام فقال- تعالى-: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها، وَأَشْعارِها، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ.
والأثاث: متاع البيت الكثير، وأصله من أث الشيء- بفتح الهمزة وتشديد الثاء مع الفتح- إذا كثر وتكاتف، ومنه قول الشاعر.
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيت كقنو النخلة المتعثكل «1»
ويشمل جميع أصناف المال كالفرش وغيرها.
والمتاع: ما يتمتع به من حوائج البيت الخاصة كأدوات الطعام والشراب، فيكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام.
وقيل: هما بمعنى واحد. والعطف لتنزيل تغاير اللفظ بمنزله تغاير المعنى.
أى: ومن أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، تتخذون لأنفسكم «أثاثا» كثيرا تستعملونه في مصالحكم المتنوعة، كما تتخذون من ذلك ما تتمتعون به في بيوتكم وفي معاشكم «إلى حين» أى: إلى وقت معين قدره الله- تعالى- لكم في تمتعكم بهذه الأصواف والأوبار والأشعار.
وبعد الحديث عن نعمة البيوت والأنعام جاء الحديث عن نعمة الظلال والجبال واللباس،
__________
(1) الفرع: الشعر التام: والمتن: ما عن يمين الرأس وشماله، والفاحم: الشديد السواد. والأثيت: الكثير المتكاثف.
والمتعثكل: الذي دخل بعضه في بعض لكثرته (راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 154) .(8/208)
فقال- تعالى-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا....
والظلال: جمع ظل، وهو ما يستظل به الإنسان.
أى: والله- تعالى- بفضله وكرمه جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد، كالأبنية والأشجار، وغير ذلك من الأشياء التي تستظلون بها.
وقوله- تعالى- وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ... نعمة ثانية.
والأكنان جمع كن- بكسر الكاف- وأصله السّترة، والجمع: أكنان وأكنّة، ومنه قوله- تعالى-: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ... «1» أى في أستار وأغطية فلا يصل إليها قولك ...
والمراد بالأكنان هنا: المغارات والأسراب والكهوف المنحوتة في بطون الجبال.
أى: وجعل لكم- سبحانه- من الجبال مواضع تستترون فيها من الحر أو البرد أو المطر، أو غير ذلك من وجوه انتفاعكم بتلك الأكنان.
وقوله- سبحانه- وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ نعمة ثالثة. والسرابيل: جمع سربال وهي كل ما يتسربل به: أى يلبسه الناس للتستر والوقاية كالقمصان والثياب والدروع وغيرها. أى: وجعل لكم من فضله وكرمه ملابس تتقون بها ضرر الحر وضرر البرد، وملابس أخرى هي الدروع وما يشبهها- تتقون بها الضربات والطعنات التي تسدد إليكم في حالة الحرب.
وقال- سبحانه-: تَقِيكُمُ الْحَرَّ مع أنها تقى من الحر والبرد، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر، أو اكتفى بذكر الحر لأنه الأهم عندهم، إذ من المعروف أن بلاد العرب يغلب عليها الحر لا البرد.
قال صاحب الكشاف: لم يذكر البرد، لأن الوقاية من الحر أهم عندهم، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيرا محتملا، وقيل: ما يقي من الحر يقي من البرد، فدل ذكر الحر على البرد «2» .
وقال القرطبي: قال العلماء: في قوله- تعالى-: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ دليل
__________
(1) سورة فصلت الآية 5.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 626.(8/209)
على اتخاذ الناس عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء. وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه.. «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أى: كذلك الإتمام السابغ للنعم التي أنعم بها- سبحانه- على عباده يتم نعمته عليكم المتمثلة في نعم الدين والدنيا، لعلكم بذلك تسلمون وجوهكم لله- عز وجل-، وتدخلون في دين الإسلام عن اختيار واقتناع، فإن من شاهد كل هذه النعم، لم يسعه إلا الدخول في الدين الحق.
ثم سلى الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
وجواب الشرط محذوف، والتقدير: فإن استمر هؤلاء المشركون في إعراضهم عن دعوتك بعد هذا البيان والامتنان، فلا لوم عليك، فأنت عليك البلاغ الواضح ونحن علينا محاسبتهم، ومعاقبتهم بما يستحقون من عقاب.
وقوله- سبحانه-: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ استئاف مسوق لبيان الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من نعم الله- تعالى-.
والمراد بالكفر في قوله- تعالى-: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ الستر لنعم الله عن معرفة لها، وغمطها عن تعمد وإصرار.
أى: إن هؤلاء المشركين، يعرفون نعم الله التي عددها في هذه السورة، كما أنهم يعترفون بأن خالقهم وخالق السموات والأرض هو الله، ولكنهم ينكرون هذه النعم بأفعالهم القبيحة، وأقوالهم الباطلة، كقولهم هذه النعم من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا الأصنام، أو كقولهم: هذه النعم ورثناها عن آبائنا.
وجاء التعبير بثم لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة بالنعم، فإن من شأن العالم بالنعمة أن يؤدى الشكر لمسديها، وأن يستعملها فيما خلقت له.
وقوله وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أى: وأكثر هؤلاء الضالين. جاحدون لنعم الله عن علم بها لا عن جهل، وعن تذكر لا عن نسيان.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا.. «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 160.
(2) سورة النمل الآية 14.(8/210)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قال صاحب فتح البيان: وعبر هنا بالأكثر في قوله- تعالى-: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ والمراد الكل، لأنه قد يذكر الأكثر ويراد به الجميع، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر أقلهم عن جهل، وكفر أكثرهم بسبب تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم عنادا أو حسدا.. «1» .
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت لنا ألوانا من نعم الله- تعالى- على عباده، وأدلة متعددة على وحدانيته وقدرته، وجانبا من موقف الكافرين من هذه النعم.
ثم تحدثت السورة الكريمة بعد ذلك عن حال الظالمين يوم القيامة وعن الأقوال التي يقولونها عند ما يرون أصنامهم في هذا اليوم العصيب..
قال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
__________
(1) تفسير فتح البيان ج 5 ص 282.(8/211)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما بين حال القوم، أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وذكر أيضا من حالهم أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد، فذكر حال يوم القيامة فقال:. وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ... وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الإنكار، وبذلك الكفر، والمراد بهؤلاء الشهداء: الأنبياء، كما قال- تعالى-:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» .
والمعنى: واذكر- أيها العاقل لتعتبر وتتعظ- يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أى: جماعة من الناس، «شهيدا» يشهد للمؤمن بالإيمان ويشهد على الكافر بالكفر.
قال ابن عباس: شهيد كل أمة نبيها يشهد لهم بالإيمان والتصديق، وعليهم بالكفر والتكذيب.
وقوله: ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بيان للمصير السيئ الذي ينتظر هؤلاء الكافرين يوم القيامة.
أى: ثم لا يؤذن للذين كفروا يوم القيامة في الاعتذار، عما كانوا عليه في الدنيا من عقائد زائفة، وأقوال باطلة، وأفعال قبيحة، كما قال- تعالى- في سورة أخرى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «2» .
أو المعنى: ثم لا يؤذن لهم في الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من عقائد سليمة وأعمال صالحة، لأنهم قد تركوها ولا عودة لهم إليها. أى: ثم لا يؤذن لهم في الكلام، بعد أن ثبت بطلانه، وقامت عليهم الحجة والتعبير بثم للاشعار بأن مصيبتهم بسبب عدم قبول أعذارهم، أشد من مصيبتهم بسبب شهادة الأنبياء عليهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 5 ص 342.
(2) سورة المرسلات الآيتان 36، 37.(8/212)
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى «ثم» هذه؟.
قلت: معناها أنهم يبتلون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها، وهو أنهم يمنعون الكلام، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ تيئيس آخر لهم في الحصول على شيء من رحمة الله- تعالى-. أى: لا يؤذن لهم في الاعتذار، ولا يقبل منهم أن يزيلوا عتب ربهم، أى: غضبه وسخطه عليهم، لأن العتاب إنما يطلب لأجل معاودة الرضا من العاتب، وهؤلاء قد انسد عليهم هذا الطريق، لأن الله- تعالى- قد سخط عليهم سخطا لا مجال لإزالته، بعد أن أصروا على كفرهم في الدنيا وماتوا على ذلك.
قال القرطبي: قوله وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أى لا يكلفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون.
وأصل الكلمة من العتب- بفتح العين وسكون التاء- وهي الموجدة. يقال: عتب عليه يعتب، إذا وجد عليه، فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه، قيل: عاتبه، فإذا رجع الى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب.
قال النابغة:
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته ... وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب «2»
وبذلك ترى الآية الكريمة قد نفت عن الذين كفروا قبول أعذارهم، وقبول محاولتهم إرضاء ربهم عما كانوا عليه من كفر وزيغ في الدنيا.
ثم نفى- سبحانه- عنهم- أيضا- تخفيف العذاب أو تأخيره فقال: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ.
أى: وإذا أبصر الذين ظلموا العذاب الذي أعد لهم في الآخرة بسبب ظلمهم وكفرهم في الدنيا، فزعوا وخافوا، ولكن خوفهم وفزعهم لن يغير من الأمر شيئا، إذ لا يخفف عنهم العذاب بسبب خوفهم أو فزعهم: ولا هم يمهلون أو يؤخرون عنه.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 626.
(2) تفسير القرطبي ج 10 ص 162.(8/213)
وعلق- سبحانه- الرؤية بالعذاب، للإشعار بأن فجيعتهم الكبرى كانت عند إبصاره ومشاهدته.
ثم حكى سبحانه بعض ما يدور بينهم وبين معبوداتهم الباطلة يوم القيامة، فقال- تعالى-: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ...
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أى: أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفي صحيح مسلم: «من كان يعبد شيئا فليتبعه» فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ... » «1» .
وقال الآلوسى: والمراد بشركائهم: كل من اتخذوه شريكا له- عز وجل- من صنم، ووثن، وشيطان، وآدمي، وملك.. وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ- أى لاتخاذهم إياهم شركاء لله في العبادة- أو لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم» «2» .
أى: وإذا أبصر المشركون يوم القيامة شركاءهم الذين أشركوهم مع الله- تعالى- في العبادة، «قالوا» أى المشركون على سبيل التحسر والتفجع يا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا في الدنيا نعبدهم من دونك، ونتقرب بهم إليك، فلا تجعل يا ربنا العذاب علينا وحدنا بل خففه أو ارفعه عنا فهؤلاء الشركاء هم الذين أضلونا.
قال أبو مسلم: ومقصود المشركين بهذا القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللا بذلك واسترواحا، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه «3» .
وقوله- تعالى-: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ حكاية لما رد به الشركاء على المشركين. أى: فرد أولئك الشركاء من الأصنام وغيرها على المشركين بقولهم: إنكم لكاذبون- أيها المشركون- في إحالتكم الذنب علينا، فإننا ما دعوناكم لعبادتنا، ولا أجبرناكم على الإشراك بالله- تعالى-، ولكنكم أنتم الذين اخترتم هذا الطريق المعوج،
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 163.
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 208- بتصرف وتلخيص-. [.....]
(3) تفسير فتح البيان ج 5 ص 284 للشيخ صديق حسن خان.(8/214)
تقليدا لآبائكم واستجابة لأهوائكم وشهواتكم، وإيثارا للباطل على الحق وما رد به الشركاء على المشركين هنا، قد جاء ما يشبهه في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «1» .
وقوله- تعالى-: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ.. «2» .
قال القرطبي: وقوله- تعالى-: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ... أى: ألقت إليهم الآلهة القول، أى: نطقت بتكذيب من عبدها. بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، فينطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار «3» .
وقال الجمل: فإن قلت: كيف أثبت للأصنام نطقا هنا، ونفاه عنها في قوله- تعالى- في سورة الكهف: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ...
فالجواب: أن المثبت لهم هنا النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم لها، والمنفي عنهم في الكهف النطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم ودفع العذاب عنهم فلا تنافى «4» .
والتعبير بقوله- تعالى-: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ... يشعر بأن الشركاء قد ردوا على المشركين قولهم بسرعة وبدون إبطاء حيث أتى- سبحانه- بالفاء في قوله فَأَلْقَوْا واشتملت جملة «إنكم لكاذبون» على جملة من المؤكدات، لإفحام المشركين، وتكذيبهم في قولهم تكذيبا قاطعا لا يحتمل التأويل.
ولذا وجدنا المشركين يعجزون عن الرد على شركائهم، بدليل قوله- تعالى- بعد ذلك:
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
أى: وألقى المشركون يوم القيامة «السلم» أى: الاستسلام والخضوع والانقياد، لقضاء الله- تعالى- العادل فيهم، وغاب وذهب عنهم ما كانوا يفترونه ويزعمونه في الدنيا من أن آلهتهم ستشفع لهم، أو ستنفعهم يوم القيامة.
__________
(1) سورة مريم الآيتان 81، 82.
(2) سورة إبراهيم الآيات 22.
(3) تفسير القرطبي ج 10 ص 163.
(4) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 592.(8/215)
وقيل: إن الضمير في قوله- تعالى- وَأَلْقَوْا يعود على المشركين وشركائهم. أى.
استسلم العابدون والمعبودون وانقادوا لحكم الله الواحد القهار فيهم.
ثم بين- سبحانه- مصير الذين لم يكتفوا بالكفر، بل ضموا إليه رذائل أخرى فقال- تعالى-: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أى: الذين لم يكتفوا بكفرهم، بل أضافوا إلى ذلك أنهم «صدوا» غيرهم ومنعوه «عن سبيل الله» أى: عن اتباع الصراط المستقيم، والطريق القويم وهو طريق الإسلام.. هؤلاء الأشقياء الذين فعلوا ذلك: «زدناهم عذابا» شديدا «فوق العذاب» الذي يستحقونه «بما كانوا يفسدون» أى: بسبب فسادهم في الأرض وكفرهم بالحق، وصدهم الناس عن اتباعه.
وهذه الزيادة في عذابهم، وردت آثار عن بعض الصحابة في بيانها. ومن ذلك ما روى عن ابن مسعود- رضى الله عنه- أنه قال: «زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال ينهشونهم في جهنم» «1» .
قال ابن كثير: وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم «2» .
ثم أكد- سبحانه- أمر البعث، وأنه آت لا ريب فيه، فقال- تعالى-: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
والمراد بالشهيد هنا: كل نبي بعثه الله- تعالى- لأمة من الأمم السابقة كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وغيرهم من الأنبياء السابقين- عليهم الصلاة والسلام-.
والظرف «يوم» متعلق بمحذوف تقديره: اذكر.
والمعنى: واذكر- أيها العاقل لتتعظ وتعتبر- يوم القيامة- يوم نبعث في كل أمة من الأمم السابقة، نبيها الذي أرسل إليها في الدنيا، ليشهد عليها الشهادة الحق، بأن يشهد لمؤمنها بالإيمان، ولكافرها بالكفر.
وقوله- سبحانه-: مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى: من جنسهم وبيئتهم، ليكون أتم للحجة، وأقطع للمعذرة، وأدعى إلى العدالة والإنصاف.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 14 ص 107.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 581.(8/216)
قال الآلوسى: ولا يرد لوط- عليه السلام- فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم- أيضا-.
وقال ابن عطية: يجور أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الأنبياء- عليهم السلام-.
وقد قال بعض الصحابة: إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة «1» .
وقوله- سبحانه-: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريف والتكريم. أى: وجئنا بك- أيها الرسول الكريم- يوم القيامة شهيدا على هؤلاء الذين أرسلك الله- تعالى- لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وإيثار لفظ المجيء على البعث، لكمال العناية بشأنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير قوله: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ يعنى أمتك. أى اذكر ذلك اليوم وهوله، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم، والمقام الرفيع. وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة النساء فلما وصل إلى قوله- تعالى- فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «حسبك» . فقال ابن مسعود: فالتفت فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان. أى بالدموع ... «2» .
والمراد بشهادته على أمته صلى الله عليه وسلم: تصريحه بأنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لأمته، وتزكيته لأعمال الصالحين منها، ورجاؤه من الله- تعالى- في هذا اليوم العصيب أن يغفر للعصاة من هذه الأمة.
ويرى بعضهم أن المراد بهؤلاء في قوله: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أى: على الأنبياء السابقين وأممهم.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأنه هو الظاهر من معنى الجملة الكريمة، ولأن آية سورة النساء فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ تؤيده.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان ما أنزله عليه من وحى فيه الشفاء للصدور،
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 212.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 582.(8/217)
والموعظة للنفوس فقال- تعالى-: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.
والتبيان: مصدر يدل على التكثير. قالوا: ولم يجئ من المصادر على هذه الزنة إلا لفظان لفظ التبيان، ولفظ التلقاء. أى: «ونزلنا عليك» - أيها الرسول الكريم- «الكتاب» الكامل الجامع وهو القرآن الكريم «تبيانا» . أى: بيانا بليغا شاملا «لكل شيء» على سبيل الإجمال تارة، وعلى سبيل التفصيل تارة أخرى.
وقوله: وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ صفات أخرى للكتاب.
أى: أنزلنا عليك القرآن ليكون تبيانا لكل شيء وليكون هداية للناس إلى طريق الحق والخير، ورحمة لهم من العذاب، وبشارة لمن أسلموا وجوههم لله- تعالى- وأحسنوا القول والعمل، لا لغيرهم ممن آثروا الكفر على الإيمان، والغىّ على الرشد.
قال الجمل ما ملخصه: وقوله: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ أى بيانا بليغا، فالتبيان أخص من مطلق البيان على القاعدة: أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
وهذا التبيان إما في نفس الكتاب، أو بإحالته على السنة لقوله- تعالى-: ... وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... «1» ، أو بإحالته على الإجماع كما قال- تعالى-: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ... «2» أو على القياس كما قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ والاعتبار: النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس.
فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلها مذكورة في القرآن، فكان تبيانا لكل شيء فاندفع ما قيل: كيف قال الله- تعالى- وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ونحن نجد كثيرا من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصا، كعدد ركعات الصلاة، ومقدار حد الشرب، ونصاب السرقة وغير ذلك ... «3» .
وبعد أن مدح- سبحانه- القرآن الكريم، بأن فيه تبيان كل شيء، وأنه هداية ورحمة وبشرى للمسلمين، أتبع ذلك بآيات كريمة أمرت المسلمين بأمهات الفضائل، وبجماع مكارم
__________
(1) سورة الحشر الآية 7.
(2) سورة النساء الآية 115.
(3) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 593.(8/218)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
الأخلاق، ونهتهم عن الفواحش والرذائل لتكون كالدليل على ما في هذا الكتاب من تبيان وهدى ورحمة فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 93]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان، فقال ابن عباس: العدل: لا إله إلا الله، والإحسان:
أداء الفرائض. وقيل العدل: الفرض. والإحسان: النافلة، وقال على بن أبى طالب:
العدل: الإنصاف. والإحسان: التفضل.
وقال ابن العربي: العدل بين العبد وربه: إيثار حقه- تعالى- على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعه(8/219)
ما فيه هلاكها.. وأما العدل بينه وبين غيره فبذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل أو كثر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه.
وأما الإحسان فهو مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين: أحدهما: متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أى: حسنته وأتقنته وكملته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أى: أوصلت إليه ما ينتفع به. وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا.. «1» .
ومن هذا الكلام الذي نقلناه بشيء من التلخيص عن الإمام القرطبي، يتبين لنا أن العدل هو أن يلتزم الإنسان جانب الحق والقسط في كل أقواله وأعماله، وأن الإحسان يشمل إحسان الشيء في ذاته سواء أكان هذا الشيء يتعلق بالعقائد أم بالعبادات أم بغيرهما، كما يشمل إحسان المسلم إلى غيره.
فالإحسان أوسع مدلولا من العدل: لأنه إذا كان العدل معناه: أن تعطى كل ذي حق حقه، بدون إفراط أو تفريط، فإن الإحسان يندرج تحته أن تضيف إلى ذلك: العفو عمن أساء إليك، والصلة لمن قطعك، والعطاء لمن حرمك.
وإيثار صيغة المضارع في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ ... لإفادة التجدد والاستمرار. ولم يذكر- سبحانه- متعلقات العدل والإحسان ليعم الأمر جميع ما يعدل فيه، وجميع ما يجب إحسانه وإتقانه من أقوال وأعمال، وجميع ما ينبغي أن تحسن إليه من إنسان أو حيوان أو غيرهما.
وقوله- تعالى-: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى فضيلة ثالثة معطوفة على ما قبلها من عطف الخاص على العام، إذ هي مندرجة في العدل والإحسان.
وخصها- سبحانه- بالذكر اهتماما بأمرها، وتنويها بشأنها، وتعظيما لقدرها.
والإيتاء: مصدر بمعنى الإعطاء، وهو هنا مصدر مضاف لمفعوله.
والمعنى: إن الله- تعالى- يأمركم- أيها المسلمون- أمرا دائما وواجبا، أن تلتزموا الحق والإنصاف في كل أقوالكم وأفعالكم وأحكامكم، وأن تلتزموا التسامح والعفو والمراقبة لله- تعالى- في كل أحوالكم.
كما يأمركم أن تقدموا لأقاربكم على سبيل المعاونة والمساعدة، ما تستطيعون تقديمه لهم من خير وبر..
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 166.(8/220)
لأن هذه الفضائل متى سرت بينكم، نلتم السعادة في دينكم ودنياكم، إذ بالعدل ينال كل صاحب حق حقه، وبالإحسان يكون التحاب والتواد والتراحم، وبصلة الأقارب يكون التكافل والتعاون ...
وبعد أن أمر- سبحانه- بأمهات الفضائل، نهى عن رءوس الرذائل فقال- تعالى-:
وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ...
والفحشاء: كل ما اشتد قبحه من قول أو فعل. وخصها بعضهم بالزنا.
والمنكر: كل ما أنكره الشرع بالنهى عنه، فيعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها.
والبغي: هو تجاوز الحد في كل شيء يقال: بغى فلان على غيره، إذا ظلمه وتطاول عليه.
وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إليه الفساد ...
أى: كما أمركم- سبحانه- بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، فإنه- تعالى- ينهاكم عن كل قبيح وعن كل منكر، وعن كل تجاوز لما شرعه الله- عز وجل-.
وذلك لأن هذه الرذائل ما شاعت في أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا، وأمرها فرطا، والفطرة البشرية النقية تأبى الوقوع أو الاقتراب من هذه الرذائل، لأنها تتنافى مع العقول السليمة، ومع الطباع القويمة.
ومهما روج الذين لم ينبتوا نباتا حسنا لتلك الرذائل، فإن النفوس الطاهرة، تلفظها بعيدا عنها، كما يلفظ الجسم الأشياء الغريبة التي تصل إليه.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أى: ينبهكم- سبحانه- أكمل تنبيه وأحكمه إلى ما يصلحكم عن طريق اتباع ما أمركم به وما نهاكم عنه، لعلكم بذلك تحسنون التذكر لما ينفعكم، وتعملون بمقتضى ما علمكم- سبحانه.
هذا، وقد ذكر المفسرون في فضل هذه الآية كثيرا من الآثار والأقوال، ومن ذلك ما أخرجه الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة.. قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يدعوه وقالوا له: أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه.
قال: فليأته من يبلغه عنى ويبلغني عنه. فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا له: نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فمحمد ابن عبد الله، وأما ما أنا، فأنا عبد الله ورسوله» .(8/221)
ثم تلا عليهم هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.. الآية.
فقالوا: ردد علينا هذا القول، فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم فقالا له: أبى أن يرفع نسبه فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب.. وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها فلما سمعهن أكثم قال: إنى أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا «1» .
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: أعظم آية في كتاب الله: «الله لا إله إلا هو الحي القيوم..» . وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وأكثر آية في كتاب الله تفويضا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ... وأشد آية في كتاب الله رجاء: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. «2» .
ثم أمرهم- سبحانه- بالوفاء بالعهود فقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ ...
والعهد: ما من شأنه أن يراعى ويحفظ، كاليمين والوصية وما يشبههما.
وعهد الله: أوامره ونواهيه وتكاليفه الشرعية التي كلف الناس بها، والوفاء بعهد الله- تعالى-: يتأتى بتنفيذ أوامره وتكاليفه، واجتناب ما نهى عنه.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ... لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان، ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة، أو مواثقة في أمر موافق للديانة.
وهذه الآية مضمن قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ لأن المعنى فيها: افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير.
وقد قيل إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام. وقيل: نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية، وجاء الإسلام بالوفاء به- كحلف الفضول-.
والعموم يتناول كل ذلك ... «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 583. [.....]
(2) تفسير فتح القدير ج 5 ص 289.
(3) تفسير القرطبي ج 10 ص 169.(8/222)
والمعنى: إن الله يأمركم- أيها المسلمون- بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ويأمركم- أيضا- بالوفاء بالعهود التي التزمتم بها مع الله- تعالى- أو مع الناس.
والآيات التي وردت في وجوب الوفاء بالعهود كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا «1» .
وخص- سبحانه- الأمر بالوفاء بالعهد بالذكر- مع أنه داخل في المأمورات التي اشتملت عليها الآية السابقة كما أشار إلى ذلك القرطبي في كلامه السابق- لأن الوفاء بالعهود من آكد الحقوق وأوجبها على الإنسان.
وقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «2» .
ومن الأحاديث التي وردت في ذلك ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . «3» .
وقوله- سبحانه-: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ... تأكيد للأمر بالوفاء، وتحذير من الخيانة والغدر.
والنقض في اللغة: حقيقة في فسخ ما ركب بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب.
واستعمل هنا على سبيل المجاز في إبطال العهد.
والأيمان: جمع يمين. وتطلق بمعنى الحلف والقسم. وأصل ذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا توثيق عهودهم بالقسم يقسمونه، ووضع كل واحد من المتعاهدين يمينه في يمين صاحبه.
أى: كونوا أوفياء بعهودكم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، أى: بعد توثيقها وتغليظها عن طريق تكرارها بمرة ومرتين، أو عن طريق الإتيان فيها ببعض أسماء الله- تعالى- وصفاته.
وقوله- تعالى-: بَعْدَ تَوْكِيدِها للإشعار بأن نقض الأيمان وإن كان قبيحا في كل حالة، فهو في حالة توكيد الأيمان وتغليظها أشد قبحا.
ولذا قال بعض العلماء: وهذا القيد لموافقة الواقع، حيث كانوا يؤكدون أيمانهم في
__________
(1) سورة الإسراء الآية 34.
(2) سورة البقرة الآية 40.
(3) رياض الصالحين للإمام النووي ص 302.(8/223)
المعاهدة، وحينئذ فلا مفهوم له، فلا يختص النهى عن النقض بحالة التوكيد، بل نقض اليمين منهى عنه مطلقا. أو يراد بالتوكيد القصد، ويكون احترازا عن لغو اليمين. وهي الصادرة عن غير قصد للحلف» «1» .
وقال الإمام ابن كثير ما ملخصه: ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «إنى والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها- وفي رواية- وكفرت عن يميني» لأن هذه الأيمان المراد بها في الآية: الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة في حث أو منع..» «2» .
والخلاصة، أن الآية الكريمة تنهى المؤمن عن نقض الأيمان نهيا عاما، إلا أن السنة النبوية الصحيحة قد خصصت هذا التعميم بإباحة نقض اليمين إذا كانت مانعة من فعل خير، ويؤيد هذا التخصيص قوله- تعالى-: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ.. «3» .
وجملة «وقد جعلتم الله عليكم كفيلا..» حال من فاعل «تنقضوا» ، وهي مؤكدة لمضمون ما قبلها من وجوب الوفاء بالعهود والنهى عن نقضها.
والكفيل: من يكفل غيره، أى: يضمنه في أداء ما عليه.
أى: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، والحال أنكم قد جعلتم الله- تعالى- ضامنا لكم فيما التزمتم به من عهود، وشاهدا ورقيبا على أقوالكم وأعمالكم.
فالجملة الكريمة تحذر المتعاهدين من النقض بعد أن جعلوا الله- تعالى- كفيلا عليهم.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بهذا التهديد الخفى فقال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ. أى: إن الله- تعالى- يعلم ما تفعلون من الوفاء أو النقض، وسيجاز بكم بما تستحقون من خير أو شر، فالمراد من العلم لازمه، وهو المجازاة على الأعمال.
ثم ضرب- سبحانه- مثلا لتقبيح نقض العهد، فقال- تعالى-: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 594.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 583.
(3) راجع تفسير هذه الآية في تفسيرنا لسورة البقرة ص 499.(8/224)
وقوله: غَزْلَها اى: مغزولها، فهو مصدر بمعنى المفعول. والفعل منه غزل يغزل- بكسر الزاى.. من باب ضرب. يقال غزلت المرأة الصوف أو القطن غزلا.
والجار والمجرور في قوله مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بالفعل نَقَضَتْ أى: نقضته وأفسدته من بعد إبرامه وإحكامه.
وأَنْكاثاً حال مؤكدة من غَزْلَها، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا، بتضمين الفعل نقضت معنى صيرت أو جعلت.
والأنكاث: جمع نكث- بكسر النون-، بمعنى منكوث أى منقوض، وهو ما نقض وحل فتله ليغزل ثانيا، والجمع أنكاث كحمل وأحمال.
يقال: نكث الرجل العهد نكثا- من باب قتل- إذا نقضه ونبذه، ومنه قوله- تعالى- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ.
قال ابن كثير: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.
وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده. وهذا أرجح وأظهر سواء أكان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا «1» .
والمعنى: كونوا- أيها المسلمون- أوفياء بعهودكم، ولا تنقضوها بعد إبرامها، فإنكم إن نقضتموها كان مثلكم كمثل تلك المرأة الحمقاء، التي كانت تفتل غزلها فتلا محكما، ثم تنقضه بعد ذلك، وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة محلولة..
فالجملة الكريمة تحقر في كل جزئية من جزئياتها، حال من ينقض العهد، وتشبهه على سبيل التنفير والتقبيح بحال امرأة ملتاثه في عقلها، مضطربة في تصرفاتها.
وقوله- سبحانه-: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ.
إبطال للأسباب التي كان يتخذها بعض الناس ذرائع ومبررات لنقض العهود.
والدّخل- بفتح الخاء-: المكر والغش والخديعة. وهو في الأصل اسم للشيء الذي يدخل في غيره وليس منه.
قال الراغب: والدخل كناية عن الفساد والعداوة المستبطنة، كالدّغل، وعن الدعوة في النسب ... ومنه قيل: شجرة مدخولة- أى ليست من جنس الأشجار التي حولها «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 584.
(2) المفردات في غريب القرآن للراغب الاصفهانى ص 166.(8/225)
وقوله أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ ... متعلق بقوله تَتَّخِذُونَ.
وقوله أَرْبى مأخوذ من الربو بمعنى الزيادة والكثرة. يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر.
والمعنى: لا تكونوا مشبهين لامرأة هذا شأنها، حالة كونكم متخذين أيمانكم وأقسامكم وسيلة للغدر والخيانة، من أجل أن هناك جماعة أوفر عددا وأكثر مالا من جماعة أخرى.
قال القرطبي: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة أخرى كبيرة قوية فداخلتها غدرت بالأولى ونقضت عهدها، ورجعت إلى هذه الكبرى، فنهاهم الله- تعالى-: أن ينقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى، أو أكثر أموالا ...
وقال الفراء: المعنى: لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم، أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالأيمان «1» .
وقال ابن كثير: قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز، فنهوا عن ذلك «2» .
والخلاصة: أن الآية الكريمة تدعو إلى وجوب الوفاء بالعهود في جميع الأحوال، وتنهى عن اللجوء إلى الذرائع الباطلة، من أجل نقض العهود، إذ الإسلام لا يقر هذه الذرائع وتلك المبررات، بدعوى أن هناك جماعة أقوى من جماعة، أو دولة أعز من دولة، وإنما الذي يقره الإسلام هو مراعاة الوفاء بالعهود، وعدم اتخاذ الأيمان وسيلة للغش والخداع.
والضمير المجرور في قوله: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يعود على مضمون الجملة المتقدمة وهي قوله- تعالى-: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ.
أى: إنما يبلوكم الله ويختبركم بكون أمة أربى من أمة، لينظر أتفون بعهودكم أم لا. وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: قوله- تعالى-: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير لقوله: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ ... لأنه في معنى المصدر. أى: إنما يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم. وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم «3» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 171.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 584.
(3) تفسير الكشاف ج 2 ص 631.(8/226)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
ويجوز أن يعود إلى ما أمر الله به من الوفاء بالعهد، فيكون المعنى: إنما يبلوكم الله ويختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهود، ومن النهى عن النقض ليظهر لكم المطيع من العاصي، وقوى الإيمان من ضعيفه.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان أن مرد الفصل بين العباد فيما اختلفوا فيه إليه- تعالى- وحده، فقال: وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيجازى أهل الحق بما يستحقون من ثواب، ويجازى أهل الباطل بما هم أهله من عقاب.
ثم بين- سبحانه- أن قدرته لا يعجزها شيء فقال- تعالى-: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الناس أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الحق وَلكِنْ لحكم يعلمها ولا تعلمونها، ولسنن وضعها في خلقه يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله لاستحبابه العمى على الهدى، وإيثاره الغي على الرشد وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته لحسن استعداده، وسلامة اختياره، ونهيه النفس عن الهوى.
وَلَتُسْئَلُنَّ أيها الناس يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا، فيثيب الطائعين بفضله، ويعاقب العصاة بعدله.
وبعد أن أمر- سبحانه- بالوفاء بالعهود ونهى عن نقضها بصفة عامة، أتبع ذلك بالنهى عن الحنث في الإيمان بصفة خاصة، فقال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)(8/227)
فقوله- سبحانه- وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ تصريح بالنهى عن اتخاذ الإيمان من أجل الغش والخديعة، بعد النهى عن نقض العهود بصفة عامة. أى: ولا تتخذوا- أيها المؤمنون- الحلف بالله- تعالى- ذريعة إلى غش الناس وخداعهم واستلاب حقوقهم، فقد جرت عادة الناس أن يطمئنوا إلى صدق من يقسم بالله- تعالى-، فلا تجعلوا هذا الاطمئنان وسيلة للكذب عليهم، ولإفساد ما بينكم وبينهم من مودة.
ثم رتب- سبحانه- على هذا النهى ما من شأنه أن يردع النفوس عن اتخاذ الأيمان دخلا فقال: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وأصل الزلل الخروج عن الطريق السليم. يقال: زل فلان يزل زللا وزلولا، إذا دحضت قدمه ولم تصب موضعها الصحيح أى: لا تتخذوا أيمانكم وسيلة للخديعة والإفساد بين الناس، فتزل أقدامكم عن طريق الإسلام بعد ثبوتها عليها، ورسوخها فيها، قالوا: والجملة الكريمة مثل يضرب لكل من وقع في بلية ومحنة، بعد أن كان في عافية ونعمة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم وحدت القدم ونكرت؟ قلت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق. بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة «1» ؟.
وقوله وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بيان لما يصيبهم من عذاب دنيوى بسبب اتخاذ أيمانهم دخلا بينهم. أى: وتذوقوا السوء وهو العذاب الدنيوي من المصائب والخوف والجوع، بسبب صدودكم وإعراضكم عن أوامر الله ونواهيه، أو بسبب صدكم لغيركم عن الدخول في دين الله، حيث رأى منكم ما يجعله ينفر منكم ومن دينكم.
والتعبير بتذوقوا فيه إشارة إلى أن العذاب الدنيوي الذي سينزل بهم بسبب اتخاذهم أيمانهم دخلا بينهم، سيكون عذابا شديدا يحسون آلامه إحساسا واضحا، كما يحس الشارب للشيء المر مرارته، ويتذوق آلامه.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 427. [.....](8/228)
قال ابن كثير: حذر الله- تعالى- عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا، أى: خديعة ومكرا، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها مثل لمن كان على الاستقامة وحاد عنها، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة، المشتملة على الصد عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به، لم يبق له وثوق بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام «1» .
وقوله: وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم مقدار شدته وهو له إلا الله- عز وجل- فأنت ترى أن الآية الكريمة قد رتبت على اتخاذ الأيمان دخلا، انقلاب حالة الإنسان من الخير إلى الشر، ونزول العذاب الدنيوي والأخروى به.
ثم نهاهم- سبحانه- عن أن يبيعوا دينهم بدنياهم فقال- تعالى-: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا.
والاشتراء هنا: استعارة للاستبدال، والذي استبدل به الثمن القليل هو الوفاء بعهد الله.
والمراد بعهد الله- تعالى-: أوامره ونواهيه التي كلفنا بالتزامها والعمل بمقتضاها.
والمراد بالثمن القليل: حظوظ الدنيا وشهواتها وزينتها من الأموال وغيرها.
والمعنى: ولا تستبدلوا بأوامر الله- تعالى- ونواهيه، عرضا قليلا من أعراض الدنيا الزائلة، بأن تنقضوا عهودكم في مقابل منفعة دنيوية زائلة.
وليس وصف الثمن بالقلة في قوله: ثَمَناً قَلِيلًا من الأوصاف المخصصة للنكرات، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل عدم الوفاء بالعهد، إذ لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله- تعالى-.
ورحم الله الإمام ابن كثير، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية الكريمة: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أى: لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له «2» .
ثم رغبهم- سبحانه- فيما عنده فقال: إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أى: إن ما ادخره الله- تعالى- لكم من ثواب عظيم، وأجر جزيل، وحياة طيبة، هو خير لكم من ذلك الثمن القليل الذي تتطلعون إليه، وتنقضون العهود من أجله، إن كنتم من أهل العلم والفطنة، الذين يؤثرون الباقي على الفاني.
__________
(1، 2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 585.(8/229)
قال الآلوسى: قوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أى: إن كنتم من أهل العلم والتمييز. فالفعل منزل منزلة اللازم. وقيل: متعد، والمفعول محذوف، وهو فضل ما بين العوضين، والأول أبلغ ومستغن عن التقدير «1» .
ثم أضاف- سبحانه- إلى ترغيبهم في العمل بما يرضيه ترغيبا آخر فقال: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ.
أى: ما عندكم من متاع الدنيا وزهرتها يفنى وينقضي ويزول، وما عند الله- تعالى- في الآخرة من عطاء باق لا يفنى ولا يزول، فآثروا ما يبقى على ما ينفد. يقال: نفد الشيء بكسر الفاء- ينفد- بفتحها- نفادا ونفودا، إذا ذهب وفنى.
ثم بشر- سبحانه- الصابرين على طاعته بأعظم البشارات فقال: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
أى: ولنجزين الذين صبروا على طاعتنا، واجتنبوا معصيتنا، ووفوا بعهودنا، بجزاء أفضل وأكرم مما كانوا يعملونه في الدنيا من خيرات وطاعات.
وأكد- سبحانه- هذه البشارة بلام القسم، ونون التوكيد، لترغيبهم في الثبات على فضيلة الصبر، وعلى الوفاء بالعهد.
قال الجمل ما ملخصه: وقوله أَجْرَهُمْ مفعول ثان لنجزى. وقوله بِأَحْسَنِ نعت لمحذوف، أى: بجزاء أحسن من عملهم الذي كانوا يعملونه في الدنيا، والباء بمعنى على «2» .
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين الذين يحرصون على العمل الصالح فقال- تعالى-: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
أى: من عمل عملا صالحا، بأن يكون خالصا لوجه الله- تعالى- وموافقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم سواء أكان هذا العامل المؤمن ذكرا أم أنثى، فلنحيينه حياة طيبة، يظفر معها بصلاح البال، وسعادة الحال.
وقال- سبحانه-: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى مع أن لفظ «من» في قوله: مَنْ عَمِلَ
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 224.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 596.(8/230)
يتناول الذكور والإناث للتنصيص على النوعين، حتى يكون أغبط لهما، ولدفع ما قد يتوهم من أن الخطاب للذكور وحدهم.
ولذا قال صاحب الكشاف: فإن قلت «من» متناول في نفسه للذكر والأنثى فما معنى تبيينه بهما؟ قل: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين، إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور، فقيل «من ذكر أو أنثى» على التبيين ليعم الوعد النوعين جميعا «1» .
وقيد- سبحانه- العامل بكونه مؤمنا فقال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ لبيان أن العمل لا يكون مقبولا عند الله- تعالى- إلا إذا كان مبنيا على العقيدة الصحيحة، وكان صاحبه يدين بدين الإسلام، وقد أوضح القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «2» .
والمراد بالحياة الطيبة في قوله- تعالى-: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً الحياة الدنيوية التي يحياها المؤمن إلى أن ينقضي أجله.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: هذا وعد من الله- تعالى- لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا.. والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أى جهة كانت. وقد روى عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال، وعن على بن أبى طالب أنه فسرها بالقناعة.
والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه «3» » .
وقيل المراد بالحياة الطيبة هنا: الحياة الأخروية، وقد صدر الشيخ الآلوسى تفسيره بهذا الرأى فقال ما ملخصه: قوله- تعالى-: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً والمراد بالحياة الطيبة التي تكون في الجنة، إذ هناك حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وسعادة بلا شقاوة.. فعن الحسن: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة.
وقال شريك: هي حياة تكون في البرزخ.. وقال غير واحد هي في الدنيا «4» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 427.
(2) سورة الفرقان الآية 23.
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 585.
(4) تفسير الآلوسى ج 14 ص 227.(8/231)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
ويبدو لنا أن تفسير الحياة الطيبة هنا بأنها الحياة الدنيوية أرجح، لأن الحياة الأخروية جاء التصريح بها بعد ذلك في قوله- تعالى-: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
فلو فسرنا الحياة الطيبة بالحياة الأخروية لكان في الآية الكريمة ما يشبه التكرار، ولكننا لو فسرناها بالحياة الدنيوية لكانت الآية الكريمة مبينة لجزاء المؤمنين في الدارين.
وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم السابق: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا» يشير إلى أن المراد بالحياة الطيبة، الحياة الدنيوية، لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة.
وعلى ذلك يكون المعنى الإجمالى للآية الكريمة: من عمل عملا صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة في الدنيا، يظفر معها بالسعادة وصلاح البال، والأمان والاطمئنان، أما في الآخرة فسنجزيه جزاء أكرم وأفضل مما كان يعمله في الدنيا من أعمال صالحة.
قال صاحب الكشاف قوله: حَياةً طَيِّبَةً يعنى في الدنيا، وهو الظاهر لقوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ وعدهم الله ثواب الدنيا والآخرة، كقوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ ... «1» .
وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا، يعيش عيشا طيبا، إن كان موسرا فلا مقال فيه، وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله.
وأما الفاجر فأمره على العكس. إن كان معسرا فلا إشكال في أمره، وإن كان موسرا، فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه «2» .
ثم أشار- سبحانه- إلى أن من الأعمال الصالحة، أن يستعيذ المسلم عند قراءته للقرآن الكريم، من الشيطان الرجيم، فقال- تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 148.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 428.(8/232)
والمراد بقوله- تعالى-: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ.. أى فإذا أردت قراءته. فالكلام على حذف الإرادة، وذلك لأن المعنى الذي طلبت من أجله الاستعاذة وهو دفع وسوسة الشيطان يقتضى أن يبدأ القارئ بها- أى بالاستعاذة- قبل القراءة لا بعدها وشبيه بهذه الآية في حذف الإرادة لدلالة المقام عليها قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ.. «1» أى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا.
وقوله- تعالى-: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ «2» أى:
أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.
والمعنى: فإذا أردت- أيها المسلم- قراءة القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أى: فاستجر بالله، والتجئ إلى حماه مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
قال ابن كثير: والشيطان في لغة العرب، كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء، وهو مشتق من شطن بمعنى بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير ... » «3» .
والرجيم بزنة فعيل بمعنى مفعول. أى: أنه مرجوم ومطرود من رحمة الله- تعالى-.
قال بعض العلماء: وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة، مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون، لأن القرآن مصدر هداية، والشيطان مصدر ضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد في هذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته. فعلمنا الله- تعالى- أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صادق، وتعبير حق، عن امتلاء قلب
__________
(1) سورة المائدة الآية 6.
(2) سورة الأعراف الآية 4.
(3) تفسير ابن كثير ج 1 ص 14.(8/233)
المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله. وقوة عزيمته في طرد الشيطان ووساوسه، واستقبال هدايته بقلب طاهر، وعقل واع وإيمان ثابت «1» .
وكيفية الاستعاذة أن يقول القارئ عند إرادة قراءته للقرآن، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقد تضافرت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة.
قال الآلوسى. وروى الثعلبي والواحدي أن ابن مسعود قرأ عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ابن أم عبد، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنى جبريل..» «2» .
وقال صاحب تفسير آيات الأحكام: والأمر بها- أى بالاستعاذة- للندب عند الجمهور.
وعن الثوري أنها واجبة. وظاهر الآية يؤيده، إذ الأمر للوجوب. والجمهور يقولون: إنه صرفها عن الوجوب ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلمها للأعرابى- أى الذي سأله عن كيفية الصلاة- وأيضا فقد روى أنه كان صلى الله عليه وسلم يتركها.. «3» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن وسوسة الشيطان لا أثر لها على المؤمنين الصادقين فقال- تعالى-: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أى: إن الشيطان مهما تمرد وعتا فإنه «ليس له سلطان» أى: ليس له تسلط واستيلاء واستحواذ بالقهر والغلبة، على نفوس الذين آمنوا بالله- تعالى- حق الإيمان والذين هم عليه- تعالى- وحده يتوكلون ويعتمدون لا على غيره.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «4» وقوله- تعالى-: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا «5» .
وبعد أن نفى- سبحانه- أن يكون للشيطان سلطان على نفوس المؤمنين الصادقين، أثبت- سبحانه- أن تسلط الشيطان إنما هو على نفوس الضالين، فقال- تعالى-: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.
أى: إنما تسلط الشيطان وتأثيره على الضالين الفاسقين الذين يَتَوَلَّوْنَهُ أى:
يتقربون منه، ويجعلونه واليا عليهم، فيحبونه ويطيعونه ويتبعون خطواته.
__________
(1) تفسير القرآن الكريم ج 16 لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت.
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 228. [.....]
(3) تفسير آيات الأحكام ص 52 ج 3 لفضيلة الشيخ محمد على السائس رحمه الله.
(4) سورة الحجر الآية 42.
(5) سورة الأسراء الآية 65.(8/234)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
فقوله يَتَوَلَّوْنَهُ من الولي- بفتح الواو وسكون اللام- بمعنى القرب والنصرة وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ أى: والذين هم بسبب الشيطان وإغوائه لهم، مشركون مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة.
فالضمير في «به» يعود إلى الشيطان، والباء للسببية.
ويرى بعضهم أن الضمير في «به» يعود على الله- تعالى، وأن الباء للتعدية، فيكون المعنى: إنما سلطان الشيطان على الذين يطيعونه، والذين هم بالله- تعالى- مشركون.
قالوا، والأول أرجح لاتحاد الضمائر فيه، ولأنه هو المتبادر إلى الذهن.
وبذلك نرى الآيات الكريمة، تأمر المؤمنين بأن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، عند قراءتهم للقرآن الكريم، كما نراها تبشرهم بأنه لا سلطان للشيطان عليهم ما داموا معتصمين بحبل الله- تعالى- ومنفذين لأوامره، ومعتمدين عليه.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض الأقاويل التي قالها المشركون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن الكريم، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم فقال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 105]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)(8/235)
وقوله- تعالى-: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ... التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. فتبديل الآية رفعها بآية أخرى.
وجمهور المفسرين على أن المراد بالآية هنا: الآية القرآنية. وعلى أن المراد بتبديلها نسخها.
قال صاحب الكشاف: تبديل الآية مكان الآية هو النسخ، والله- تعالى- ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة بالأمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة. والله- تعالى- عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء، وينسخ ما يشاء بحكمته.. «1» .
وقال الجمل: قوله- تعالى-: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ... وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، ما هذا إلا مفترى يتقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله- تعالى-: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ... والمعنى: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر «2» .
وقال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ أى: وإذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه. وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها.. «3» .
ومنهم من يرى أن المراد بالآية هنا «الآية الكونية» أى المعجزة التي أتى بها كل نبي لقومه وأن المراد بتبديلها: الإتيان بمعجزة أخرى سواها.
قال الشيخ القاسمى عند تفسيره لهذه الآية: وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين. كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية، بآية أخرى نفسية علمية، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل.
فبدلت تلك- وهي الآيات الكونية- بآية هو كتاب العلم والهدى من نبي أمى صلى الله عليه وسلم «4» .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأن قوله- تعالى- بعد ذلك: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ... يدل دلالة واضحة على أن المراد بالآية، الآية القرآنية.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 428.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 598.
(3) تفسير الآلوسى ج 14 ص 231.
(4) تفسير القاسمى ج 10 ص 3858.(8/236)
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ جملة معترضة بين الشرط وجوابه للمسارعة إلى توبيخ المشركين وتجهيلهم.
أى: والله- تعالى- أعلم من كل مخلوق بما هو أصلح لعباده، وبما ينزله من آيات، وبما يغير ويبدل من أحكام، فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
وقوله- تعالى-: قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ جواب الشرط، وهو حكاية لما تفوهوا به من باطل وبهتان: وقوله مُفْتَرٍ من الافتراء وهو أشنع أنواع الكذب.
أى: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم عند تبديل آية مكان آية: إنما أنت يا محمد تختلق هذا القرآن من عند نفسك، وتفتريه من إنشائك واختراعك..
وقوله- تعالى-: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم.
أى: لا تهتم- أيها الرسول الكريم- بما قاله هؤلاء المشركون في شأنك وفي شأن القرآن الكريم، فإن أكثرهم جهلاء أغبياء، لا يعلمون ما في تبديلنا للآيات من حكمة، ولا يفقهون من أمر الدين الحق شيئا.
وقال- سبحانه- بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ للإشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق وتدركه، ولكنها تنكره عنادا وجحودا وحسدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله.
ثم لقن الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم الرد الذي يقذفه على باطلهم فيزهقه فقال:.
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وروح القدس: هو جبريل- عليه السلام-، والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى الصفة. أى: الروح المقدس. ووصف بالقدس لطهارته وبركته. وسمى روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة الحياة للبشر، فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب، والروح تحيا به الأجسام.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الجاهلين، إن هذا القرآن الذي تزعمون أننى افتريته، قد نزل به الروح الأمين على قلبي من عند ربي، نزولا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، ليزيد المؤمنين ثباتا في إيمانهم، وليكون هداية وبشارة لكل من أسلم وجهه لله رب العالمين.(8/237)
وفي قوله مِنْ رَبِّكَ تكريم وتشريف للرسول صلى الله عليه وسلم حيث اختص- سبحانه- هذا النبي الكريم بإنزال القرآن عليه، بعد أن رباه برعايته، وتولاه بعنايته.
وقوله بِالْحَقِّ في موضع الحال، أى: نزله إنزالا ملتبسا بالحكمة المقتضية له، بحيث لا يفارقها ولا تفارقه.
وقوله: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ بيان للوظيفة التي من أجلها نزل القرآن الكريم، وهي وظيفة تسعد المؤمنين وحدهم، أما الكافرون فهم بعيدون عنها.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك مقولة أخرى من مقولات المشركين فقال- تعالى-:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ....
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: يقول- تعالى- مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء: إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمى كان بياعا يبيع عند الصفا، وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمى اللسان لا يعرف إلا اليسير من العربية.
وعن عكرمة وقتادة كان اسم ذلك الرجل «يعيش» ، وعن ابن عباس كان اسمه «بلعام» ، وكان أعجمى اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله هذه الآية «1» .
والمعنى: ولقد نعلم- أيها الرسول الكريم- علما مستمرا لا يعزب عنه شيء مما يقوله المشركون في شأنك، من أنك تتعلم القرآن من واحد من البشر.
قال الآلوسى: وإنما لم يصرح القرآن باسم من زعموا أنه يعلمه- عليه الصلاة والسلام- مع أنه أدخل في ظهور كذبهم، للإيذان بأن مدار خطئهم، ليس بنسبته صلى الله عليه وسلم إلى التعلم من شخص معين، بل من البشر كائنا من كان، مع كونه صلى الله عليه وسلم معدنا لعلوم الأولين والآخرين «2» .
وقوله- تعالى-: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ رد عليهم فيما زعموه وافتروه.
والمراد باللسان هنا: الكلام الذي يتكلم به الشخص، واللغة التي ينطق بها.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 586.
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 233.(8/238)
وقوله: يُلْحِدُونَ من الإلحاد بمعنى الميل. يقال لحد وألحد، إذا مال عن القصد، وسمى الملحد بذلك، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها.
والأعجمي: نسبة إلى الأعجم: وهو الذي لا يفصح في كلامه سواء أكان من العرب أم من العجم. وزيدت فيه ياء النسب على سبيل التوكيد.
والمعنى: لقد كذبتم- أيها المشركون- كذبا شنيعا صريحا، حيث زعمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه القرآن بشر، مع أن لغة هذا الإنسان الذي زعمتم أنه يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لغة أعجمية، ولغة هذا القرآن لغة عربية في أعلى درجات البلاغة والفصاحة، فقد أعجزكم بفصاحته وبلاغته، وتحداكم وأنتم أهل اللسن والبيان أن تأتوا بسورة من مثله.
فخبروني بربكم، من أين للأعجمى أن يذوق بلاغة هذا التنزيل وما حواه من العلوم، فضلا عن أن ينطق به، فضلا عن أن يكون معلما له!!.
ثم هدد- سبحانه- المعرضين عن آياته بقوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدانيته- سبحانه- وعلى صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه.
لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى طريق الحق في الدنيا، بسبب زيغهم وعنادهم وإيثارهم الغي على الرشد. وَلَهُمْ في الآخرة عذاب أليم جزاء إصرارهم على الباطل، وإعراضهم عن الآيات التي لو تأملوها واستجابوا لها لاهتدوا إلى الصراط المستقيم.
ثم بين- سبحانه- أن افتراء الكذب لا يصدر عن المؤمنين فضلا عن الرسول الأمين، وإنما يصدر عن الكافرين فقال- تعالى-: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ أى: يختلقه ويخترعه الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له، وعلى صدق رسله، وعلى صحة البعث يوم القيامة، لأن عدم إيمانهم بذلك يجعلهم لا يخافون عقابا، ولا يرجون ثوابا. وَأُولئِكَ الكافرون بما يجب الإيمان به هُمُ الْكاذِبُونَ في قولهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه بشر، وفي قولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ وفي غير ذلك من أقوالهم الباطلة، التي حاربوا بها دعوة الحق.
قال بعض العلماء: ولا يخفى ما في الحصر بعد القصر من العناية بمقامه- صلوات الله عليه-، وقد كان أصدق الناس وأبرهم.. بحيث كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.
ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان فقال له- من بين ما قال-: هل كنتم تتهمونه(8/239)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله- تعالى-.
وفي هذه الآية دلالة على أن الكذب من أكبر الكبائر، وأفحش الفواحش. والدليل عليه أن كلمة «إنما» للحصر.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: «لا، ثم قرأ هذه الآية «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك حكم من أكره على النطق بكلمة الكفر، وحكم من استحب الكفر على الإيمان فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ...
روايات منها قول الآلوسى: روى أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه: ياسرا، وسمية، على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين ... ثم قتلوها وقتلوا ياسرا، وهما أول شهيدين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل يا رسول الله: إن عمارا قد كفر.
__________
(1) تفسير القاسمى ج 10 ص 3861.(8/240)
فقال صلى الله عليه وسلم: «كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» .
فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكى، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال له: «مالك، إن عادوا فعد لهم بما قلت» . وفي رواية أنه قال له: «كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم إن عادوا فعد» . فنزلت هذه الآية..
ثم قال الآلوسى: والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه، وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل، كما فعل ياسر وسمية، وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة، بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به. «1» .
و «من» في قوله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مبتدأ أو شرطية، والخبر أو جواب الشرط محذوف والتقدير: فعليه غضب من الله، أو فله عذاب شديد، ويدل عليهما قوله- تعالى- بعد ذلك: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
والمعنى: من كفر بالله- تعالى- من بعد إيمانه بوحدانيته- سبحانه- وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه بسبب هذا الكفر يكون قد ضل ضلالا بعيدا، يستحق من أجله العذاب المهين.
وقوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ استثناء متصل من الجملة السابقة أى:
إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان، ثابت عليه، متمكن منه.. فإنه في هذه الحالة لا يكون ممن يستحقون عقوبة المرتد.
قال بعض العلماء: وأما قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فهو استثناء متصل من «من» لأن الكفر أعم من أن يكون اعتقادا فقط، أو قولا فقط، أو اعتقادا وقولا ...
وأصل الاطمئنان سكون بعد انزعاج، والمراد به هنا: السكون والثبات على الإيمان بعد الانزعاج الحاصل بسبب الإكراه.. «2» .
وقوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بيان لسوء مصير من استحب الكفر على الإيمان باختياره ورضاه.
و «من» في قوله مَنْ شَرَحَ شرطية، وجوابها فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
أى: حكم من تلفظ بكلمة الكفر مكرها أنه لا يعتبر مرتدا، ولكن حكم من طابت
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 237.
(2) تفسير آيات الأحكام ج 3 ص 54.(8/241)
نفوسهم بالكفر، وانشرحت له صدورهم، واعتقدوا صحته، أنهم عليهم من الله- تعالى- غضب شديد لا يعلم مقداره إلا هو، ولهم يوم القيامة عذاب عظيم الهول، يتناسب مع عظيم جرمهم.
هذا، وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأخبار التي حكت ما تعرض له المسلمون الأولون من فتن وآلام. فقال ما ملخصه: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالى إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال- رضى الله عنه- يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله، فيأبى عليهم وهو يقول: أحد، أحد، ويقول:
والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها «1» .
وقوله- سبحانه-: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ بيان للأسباب التي جعلتهم محل غضب الله ونقمته.
واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى كفرهم بعد إيمانهم، أو إلى ما توعدهم الله- تعالى- به من غضب عليهم، وعذاب عظيم لهم.
أى: ذلك الذي جعلهم يرتدون عن دينهم، ويكونون محل غضب الله ونقمته، من أسبابه أنهم آثروا الحياة الدنيا وشهواتها على الآخرة وما فيها من ثواب.
وَأَنَّ اللَّهَ- تعالى- لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى الصراط المستقيم، لأنهم حين زاغوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم.
ثم أضاف- سبحانه- إلى رذائلهم رذيلة أخرى فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
والطبع: الختم والوسم بطابع ونحوه على الشيء، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه. أى: أولئك الذين شرحوا صدورهم بالكفر، وطابوا به نفسا، قد طبع الله تعالى على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فصارت ممنوعة من وصول الحق إليها، وعاجزة عن الانتفاع به، وأولئك هم الكاملون في الغفلة والبلاهة، إذ لا غفلة أشد من غفلة المعرض عن عاقبة أمره، ولا بلاهة أفدح من بلاهة من آثر الفانية على الباقية.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 2 ص 587.(8/242)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
ثم ختم- سبحانه- الآيات الكريمة بالحكم العادل عليهم فقال: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ.
أى: لا شك ولا محالة في أن هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان سيكونون يوم القيامة من القوم الخاسرين لأنهم لم يقدموا في دنياهم ما ينفعهم في أخراهم.
وكلمة «لا جرم» قد وردت في القرآن في خمسة مواضع، متلوة في كل موضع بأن واسمها، وليس بعدها فعل. وجمهور النحاة على أن هذه الكلمة مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر، ومعناها بعد التركيب معنى الفعل: حق، أو ثبت، أو ما يشبه ذلك، أى: حق وثبت كونهم في الآخرة من الخاسرين.
والذي يتدبر هذه الآيات، يراها قد توعدت المرتدين عن دينهم بألوان من العقوبات المغلظة، لقد توعدتهم بغضب الله- تعالى- وبعذابه العظيم، وبعدم هدايتهم إلى طريق الحق، وبالطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وبالغفلة التي ليس بعدها غفلة، وبالخسران الذي لا شك فيه يوم القيامة، نعوذ بالله- تعالى- من ذلك.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر لطفه ورأفته لقوم هاجروا من بعد ما فتنوا، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
وقوله- سبحانه-: مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أى: عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر.
وأصل الفتن: إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته، ثم استعمل في الاختبار(8/243)
والامتحان بالمحن والشدائد، وبالمنح واللطائف، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة، وأكثر ما تستعمل الفتنة في الامتحان والمحن وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة.
والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا- كما يقول ابن كثير- جماعة كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، فوافقوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا.. «1» .
والمعنى: «ثم إن ربك» - أيها الرسول الكريم- تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام، من بعد أن عذبهم المشركون لكي يرتدوا عن دينهم.
قال الآلوسى: وقرأ ابن عامر مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بالبناء للفاعل، وهو ضمير المشركين عند غير واحد، أى: عذبوا المؤمنين، كالحضرمى، أكره مولاه «جبرا» حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا.. «2» .
وقوله- تعالى-: ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا أى جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هي العليا، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله- تعالى-.
والضمير في قوله: مِنْ بَعْدِها يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر. أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى.
وقوله- سبحانه-: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ... منصوب على الظرفية بقوله رَحِيمٌ أو منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره اذكر. والمراد باليوم: يوم القيامة.
والمجادلة هنا بمعنى: المحاجة والمدافعة، والسعى في الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد.
والمعنى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- من بعد تلك المذكورات من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر، لغفور رحيم، يوم تأتى كل نفس مشغولة بأمرها، مهتمة بالدفاع عن ذاتها، بدون التفات إلى غيرها، ساعية في الخلاص من عذاب ذلك اليوم.
والمتأمل في هذه الجملة الكريمة، يراها تشير بأسلوب مؤثر بليغ إلى ما يعترى الناس يوم
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 588. [.....]
(2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 239.(8/244)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
القيامة من خوف وفزع يجعلهم لا يفكرون إلا في ذواتهم ولا يهمهم شأن آبائهم أو أبنائهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟.
قلت: يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها، فكأنه قيل: يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته، لا يهمه شأن غيره، كل يقول: نفسي نفسي. ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار عنها، كقولهم:
ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وكقولهم: هؤُلاءِ أَضَلُّونا.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بيان لمظهر من مظاهر عدل الله- تعالى- في قضائه بين عباده.
أى: وفي هذا اليوم تعطى كل نفس جزاء ما عملته من أعمال في الدنيا وافيا غير منقوص، بدون ظلم أو حيف أو ميل عن العدل والقسطاس، ولن ينفع نفسا مجادلتها عن ذاتها، واعتذارها بالمعاذير الباطلة، وإنما الذي ينفعها هو عملها.
وبذلك ترى الآيتين الكريمتين، قد بينتا بأسلوب بليغ جانبا من مظاهر فضل الله- تعالى- على عباده، وجانبا من أهوال يوم القيامة، ومن القضاء العادل الذي يحكم الله به بين الناس.
ثم ضرب- سبحانه- مثلا لسوء عاقبة الذين يجحدون نعم الله، ويكذبون بآياته، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 431.(8/245)
والفعل ضرب في قوله- تعالى-: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً ... متضمن معنى جعل، ولذا عدى إلى مفعولين.
والمثل- بفتح الثاء- بمعنى المثل- بسكونها- أى: النظير والشبيه. ويطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه لمورده الذي ورد فيه، ثم استعير للصفة والحال كما في الآية التي معنا.
والمراد بالقرية: أهلها، فالكلام على تقدير مضاف.
وللمفسرين اتجاهان في تفسير هذه الآية. فمنهم من يرى أن هذه القرية غير معينة، وإنما هي مثل لكل قوم قابلوا نعم الله بالجحود والكفران.
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف حيث قال: قوله- تعالى-: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً ... أى: جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة.
فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضرب بها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها «1» .
ومنهم من يرى أن المقصود بهذه القرية مكة، وعلى هذا الاتجاه سار الامام ابن كثير حيث قال ما ملخصه: هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا ... فجحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون «2» .
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لتنكير لفظ قرية، ولشموله الاتجاه الثاني، لأنه يتناول كل قرية بدلت نعمة الله كفرا، ويدخل في ذلك كفار مكة دخولا أوليا.
فيكون المعنى: وجعل الله قرية موصوفة بهذه الصفات مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بهذه النعم، فلم يشكروا الله- تعالى- عليها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله: كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً أى: كانت تعيش في أمان لا يشوبه خوف، وفي سكون واطمئنان لا يخالطهما فزع أو انزعاج:.
وقوله: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ بيان لسعة عيشها، أى: يأتيها ما يحتاج إليه أهلها واسعا لينا سهلا من كل مكان من الأمكنة.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 639.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 589.(8/246)
يقال: رغد- بضم الغين- عيش القوم، أى: اتسع وطاب فهو رغد ورغيد ... وأرغد القوم، أى: أخصبوا وصاروا في رزق واسع.
فالآية الكريمة قد تضمنت أمهات النعم: الأمان والاطمئنان ورغد العيش. قال بعضهم:
ثلاثة ليس لها نهاية ... الأمن والصحة والكفاية
وقوله- تعالى-: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ بيان لموقفها الجحودى من نعم الله- تعالى- أى: فكان موقف أهل هذه القرية من تلك النعم الجليلة، أنهم جحدوا هذه النعم، ولم يقابلوها بالشكر، وإنما قابلوها بالإشراك بالله- تعالى- مسدي هذه النعم.
قال القرطبي: «والأنعم: جمع النّعمة. كالأشد جمع الشّدة، وقيل: جمع نعمى، مثل بؤسى وأبؤس» .
وقوله- سبحانه-: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بيان للعقوبة الأليمة التي حلت بأهلها بسبب كفرهم وبطرهم.
أى: فأذاق- سبحانه- أهلها لباس الجوع والخوف، بسبب ما كانوا يصنعونه من الكفر والجحود والعتو عن أمر الله ورسله.
وذلك بأن أظهر أثرهما عليهم بصورة واضحة، تجعل الناظر إليهم لا يخفى عليه ما هم فيه من فقر مدقع، وفزع شديد.
ففي الجملة الكريمة تصوير بديع لما أصابهم من جوع وخوف، حتى لكأن ما هم فيه من هزال وسوء حال، يبدو كاللباس الذي يلبسه الإنسان، ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا يحسون أثره إحساسا عميقا.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد في تصوير هذا المعنى فقال: «فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟.
قلت: أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها. فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب. شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من الطعم المر البشع.
وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس، ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث.(8/247)
وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف.. «1» .
ثم بين- سبحانه- رذيلة أخرى من رذائل أهل هذه القرية الكافرة بأنعم الله فقال:
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ.
أى: ولقد جاء إلى أهل هذه القرية رسول من جنسهم، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأمرهم بطاعة الله وشكره، ولكنهم كذبوه وأعرضوا عنه.
والتعبير بقوله جاءَهُمْ يدل على أن هذا الرسول وصل إليهم وبلغهم رسالة ربه، دون أن يكلفهم الذهاب إليه، أو البحث عنه.
والتعبير بالفاء في قوله: فَكَذَّبُوهُ يشعر بأنهم لم يتمهلوا ولم يتدبروا دعوة هذا الرسول، وإنما قابلوها بالتكذيب السريع بدون روية، مما يدل على غباوتهم وانطماس بصيرتهم.
وقوله- تعالى- فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ بيان للعاقبة السيئة التي حاقت بهم.
أى: فكانت نتيجة تكذيبهم السريع لنبيهم أن أخذهم العذاب العاجل الذي استأصل شأفتهم، والحال أنهم هم الظالمون لأنفسهم، لأن هذا العذاب ما نزل بهم إلا بعد أن كفروا بأنعم الله، وكذبوا رسوله.
هذا، والذي يتأمل هاتين الآيتين الكريمتين يراهما وإن كانتا تشملان حال كل قوم بدلوا نعمة الله كفرا.. إلا أنهما ينطبقان تمام الانطباق على كفار مكة.
وقد بين ذلك الإمام الآلوسى- رحمه الله- فقال ما ملخصه: وحال أهل مكة- سواء أضرب المثل لهم خاصة، أم لهم ولمن سار سيرتهم كافة- أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب، فقد كانوا في حرم آمن ويتخطف الناس من حولهم، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء رزقا، ولقد جاءهم رسول منهم تحار في سمو مرتبته العقول صلى الله عليه وسلم فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله، وكذبوه صلى الله عليه وسلم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف، حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» - ما أصابهم من جدب شديد، فاضطروا إلى أكل الجيف.. وكان أحدهم ينظر إلى
__________
(1) راجع تفسير الكشاف ج 2 ص 639.(8/248)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يغيرون عليهم.. «1» .
ثم أمرهم- سبحانه- بأن يأكلوا مما أحله لهم، وأن يشكروه على نعمه، وأن يجتنبوا ما حرمه عليهم، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 115]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
والفاء في قوله: فَكُلُوا ... للتفريع على ما تقدم من التمثيل بالقرية التي كفرت بأنعم الله، والتي أصابها ما أصابها بسبب ذلك.
أى: لقد ظهر لكم حال الذين بدلوا نعمة الله كفرا، ورأيتم كيف أذاقهم الله لباس الجوع والخوف، فاحذروا أن تسيروا على شاكلتهم، وكلوا من الحلال الطيب الذي رزقكم الله- تعالى- إياه.
واشكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم، بأن تستعملوها فيما خلقت له، وبأن تقابلوها بأسمى ألوان الطاعة لمسديها- عز وجل-.
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ سبحانه- تعبدونه حق العبادة، وتطيعونه حق الطاعة.
ثم بين- سبحانه- ما حرمه على عباده رعاية لمصالحهم فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ...
والميتة في عرف الشرع: ما مات ح؟ ف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، فيدخل
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 244.(8/249)
فيها المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما عدا عليها السبع.
وكان الأكل من الميتة محرما، لفساد جسمها بسبب ذبول أجزائه وتعفنها، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها.
والدم المحرم: هو ما يسيل من الحيوان الحي كثيرا كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد ذبحه، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح..
والحكمة في تحريم الدم المسفوح، أنه تستقذره النفوس الكريمة، ويفضى شربه أو أكله إلى الإضرار بالنفس..
وحرمة الخنزير شاملة للحمه ودمه وشحمه وجلده. وإنما خص لحمه بالذكر لأنه المقصود بالأكل، ولأن سائر أجزائه كالتابعة للحمه ...
ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير: قذارته، واشتماله على دودة تضر بآكله، كما أثبت ذلك العلم الحديث.
وقوله: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ معطوف على ما قبله من المحرمات.
والفعل أُهِلَّ مأخوذ من الإهلال بمعنى رفع الصوت، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم، سموا عليها أسماءها فيقولون: باسم اللات أو باسم العزى، رافعين بذلك أصواتهم.
فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لعله ذاتية في تلك الأشياء، أما تحريم ما أهل لغير الله به، بسبب التوجه بالمذبوح إلى غير الله- عز وجل-.
وقوله- تعالى-: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بيان لحالات الضرورة التي يباح للإنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات.
واضطر: من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء بشدة.
والمعنى: فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات، حالة كونه «غير باغ» ، أى: غير طالب للمحرم وهو يجد غيره، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر، «ولا عاد» أى: ولا متجاوز في أكله ما يسد الجوع ويحفظ الحياة «فإن الله» - تعالى- «غفور» واسع المغفرة لعبادة «رحيم» كثير الرحمة بهم «1» .
__________
(1) إذا أردت التفصيل لتفسير هذه الآية فارجع الى تفسير الآية رقم 173 من سورة البقرة ص 350 للمؤلف.(8/250)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
ثم نهى- سبحانه- عن القول على الله- تعالى- بغير علم اتباعا للظن والأوهام، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 117]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ.. «ما» موصولة، والعائد محذوف، أى: ولا تقولوا- في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة- هذا حلال وهذا حرام، من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر، فضلا عن استناده إلى وحى أو قياس مبنى عليه، بل مجرد قول باللسان.
ولفظ «الكذب» منتصب على أنه مفعول به ل تَقُولُوا وقوله- سبحانه-:
هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل منه.. «1» .
والمعنى: ولا تقولوا- أيها الجاهلون- للشيء الكذب الذي تصفه ألسنتكم، وتحكيه وتنطق به بدون بينة أو برهان. هذا الشيء حلال وهذا الشيء حرام.
وقد حكى الله- تعالى- عن هؤلاء الجاهلين في آيات كثيرة، أنهم حللوا وحرموا أشياء من عند أنفسهم ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا.. «2» .
وقوله- سبحانه-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ «3» .
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 14 ص 247.
(2) سورة الانعام الآية 139.
(3) سورة يونس الآية 59.(8/251)
الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه. فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته، كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر.. «1» .
وقال بعض العلماء ما ملخصه: ويصح أن يكون لفظ الكذب مفعولا لتصف، وأن يكون قوله: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ مفعولا لتقولوا.
وعلى هذا الوجه يكون في وصف ألسنتهم الكذب، مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، حتى لكأن ماهية الكذب كانت مجهولة، فكشفت عنها ألسنتهم ووضحتها ووصفتها ونعتتها بالنعوت التي جلتها.. ومنه قول الشاعر:
أضحت يمينك من جود مصوّرة ... لا، بل يمينك منها صوّر الجود «2»
واللام في قوله: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ هي لام الصيرورة والعاقبة، أو هي- كما يقول صاحب الكشاف- من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض، لأن ما صدر عنهم من تحليل وتحريم دون أن يأذن به الله، ليس الغرض منه افتراء الكذب فحسب، بل هناك أغراض أخرى، كظهورهم بمظهر أولى العلم، وكحبهم للتباهى والتفاخر..
وقوله: لِتَفْتَرُوا من الافتراء وهو أشنع أنواع الكذب، لأنه اختلاق للكذب الذي لا يستند إلى شيء من الواقع.
أى: ولا تقولوا لما تحكيه ألسنتكم من أقوال وأحكام لا صحة لها، هذا حلال وهذا حرام، لتنسبوا ذلك إلى الله- تعالى- كذبا وزورا.
قال الإمام ابن كثير: ويدخل في الآية كل من ابتدع بدعة، ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه «3» .
وقال الآلوسى: وحاصل معنى الآية: لا تسلموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله- تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالا ولا حراما، فتكونوا كاذبين على الله، لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه- سبحانه-.
ومن هنا قال: أبو نضرة: لم أزل أخاف الفتيا منذ أن سمعت هذه الآية إلى يومى هذا.
وقال ابن العربي: كره مالك وقوم أن يقول المفتي: هذا حلال وهذا حرام في المسائل
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 433.
(2) تفسير القاسمى ج 10 ص 3872.
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 590.(8/252)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
الاجتهادية. وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه. ويقال في المسائل الاجتهادية: إنى أكره كذا وكذا ونحو ذلك «1» .
وقوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ بيان لسوء عاقبتهم، وخيبة مسعاهم.
أى: إن الذين يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله- تعالى- لا يفوزون بمطلوب، ولا يفلحون في الوصول إلى مأمول.
وقوله- تعالى-: مَتاعٌ قَلِيلٌ بيان لخسة ما يسعون للحصول إليه من منافع الدنيا، وهو خبر لمبتدأ محذوف أى: متاعهم في الدنيا متاع قليل، لأنهم عما قريب سيتركونه لغيرهم بعد رحيلهم عن هذه الدنيا.
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم في الآخرة فقال: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أى: ولهم في الآخرة عذاب شديد الألم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ «2» وقوله- تعالى-: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ «3» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك، أن ما حرمه على اليهود من طيبات، كان بسبب ظلمهم وبغيهم، وأن رحمته- تعالى- تسع العصاة متى تابوا وأصلحوا، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 119]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 248. [.....]
(2) سورة لقمان الآية 24.
(3) سورة البقرة الآية 126.(8/253)
قال ابن كثير- رحمه الله-: لما ذكر- تعالى- أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وإنما أرخص فيه عند الضرورة وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر-، ذكر- سبحانه- بعد ذلك ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ...
أى: في سورة الأنعام في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ «1» .
والمعنى: وعلى اليهود بصفة خاصة، دون غيرهم من الأمم، حرمنا بعض الطيبات التي سبق أن بيناها لك في هذا القرآن الكريم، وما كان تحريمنا إياها عليهم إلا بسبب بغيهم وظلمهم.
وفي الآية الكريمة إبطال لمزاعمهم، حيث كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه هذه الطيبات، وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم وغيرهما ممن جاء بعدهما.
وقوله: مِنْ قَبْلُ متعلق بحرمنا، أو بقصصنا.
وبذلك يتبين أن ما حرمه الله- تعالى- على الأمة الإسلامية، كالميتة والدم ولحم الخنزير.. كان من باب الرحمة بها، والحرص على مصلحتها.. أما ما حرمه- سبحانه- على اليهود، فقد كان بسبب بغيهم وظلمهم.
وقوله- تعالى-: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بيان لمظهر من مظاهر عدل الله- تعالى- في معاملته لعباده.
أى: وما ظلمنا هؤلاء اليهود بتحريم بعض الطيبات عليهم، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم، حيث تركوها تسير في طريق الشيطان، ولم يوقفوها عند حدود الله- تعالى-، فاستحقوا بسبب ذلك ما استحقوا من عقوبات.
وصدق الله إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «2» .
وقوله- سبحانه- ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ.. بيان لسعة رحمته- سبحانه- بعباده، ورأفته بهم.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 590.
(2) سورة يونس الآية 44.(8/254)
والمراد بالجهالة: الجهل والسفه اللذان يحملان صاحبهما على ارتكاب ما لا يليق بالعقلاء، وليس المراد بها عدم العلم.
قال مجاهد: كل من عصى الله- تعالى- عمدا أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
وقال ابن عطية: الجهالة هنا بمعنى تعدى الطور، وركوب الرأس: لا ضد العلم.
ومنه ما جاء في الخبر: «اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل، أو يجهل على» .
ومنه قول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلين «1»
والمعنى: ثم إن ربك- أيها الرسول الكريم-، لكثير الغفران والرحمة لأولئك الذين عملوا الأعمال السيئة، بدافع الجهل والسفه والطيش وعدم تدبر العواقب، ثم إنهم بعد ذلك تابوا توبة صادقة عن تلك الأعمال السيئة، ولم يكتفوا بذلك بل أصلحوا من شأن أنفسهم، حيث أوقفوها عند حدود الله- تعالى- وأجبروها على تنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه.
قال الآلوسى: والتقييد بالجهالة قيل: لبيان الواقع، لأن كل من يعمل السوء لا يعمله إلا بجهالة.
وقال العسكري: ليس المعنى أنه- تعالى- يغفر لمن يعمل السوء بجهالة، ولا يغفر لمن عمله بدون جهالة، بل المراد أن جميع من تاب فهذه سبيله. وإنما خص من يعمل السوء بجهالة، لأن أكثر من يأتى الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة الأمر، أو عند غلبة الشهوة، أو في جهالة الشباب: فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك «2» .
واسم الإشارة في قوله: ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا يعود إلى الأعمال السيئة التي عملوها قبل التوبة والإصلاح. أى: ثم تابوا توبة صادقة من بعد أن عملوا ما عملوا من سيئات، وأصلحوا نفوسهم فهيأوها للسير على الطريق المستقيم.
والضمير في قوله: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها يعود إلى التوبة وما يصاحبها من فعل للطاعات ومن اجتناب للسيئات.
__________
(1) ، (2) تفسير الآلوسى ج 14 ص 249.(8/255)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- من بعد هذه التوبة النصوح، لكثير المغفرة والرحمة للتائبين.
والتعبير- بثم- في قوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ ... وقوله: ... ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لبيان الفرق الشاسع بين رحمة الله- تعالى- بعباده، وبين ما يصدر عن بعضهم من كفران وارتكاب للمعاصي، وبين المصرين على فعل السوء، وبين التائبين عنه.
وكرر- سبحانه- إِنَّ رَبَّكَ مرتين في الآية الواحدة، لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً «1» .
ثم مدح- سبحانه- خليله ابراهيم مدحا عظيما، وأنه بشره بالعطاء الذي يسعده في دنياه وآخرته، وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة أبيه إبراهيم، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف خليله ابراهيم- عليه السلام- بجملة من الصفات الفاضلة. والمناقب الحميدة.
وصفه أولا- بأنه كانَ أُمَّةً.
__________
(1) سورة النساء الآية 17.(8/256)
ولفظ أُمَّةً يطلق في اللغة بإطلاقات متعددة، منها: الجماعة، كما في قوله- تعالى-: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ «1» أى: جماعة من الناس ...
ومنها: الدين والملة، كما في قوله- تعالى-: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ.. «2» أى:
على دين وملة.
ومنها: الحين والزمان كما في قوله- سبحانه-: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ «3» . أى: إلى زمان معين..
والمراد بقوله- سبحانه-: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً.. أى: كان عنده من الخير ما كان عند أمة، أى جماعة كثيرة من الناس، وهذا التفسير مروى عن ابن عباس.
وقال مجاهد: سمى- عليه السلام- أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما.
وفي صحيح البخاري أنه قال لزوجته سارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيرى وغيرك.
ويصح أن يكون المراد بقوله- تعالى-: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً.. أى: كان إماما يقتدى به في وجوه الطاعات. وفي ألوان الخيرات، وفي الأعمال الصالحات، وفي إرشاد الناس إلى أنواع البر، قال- تعالى-: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً.. «4» .
ووصفه ثانيا- بأنه كان «قانتا لله» أى مطيعا لله، خاضعا لأوامره ونواهيه، من القنوت وهو الطاعة مع الخضوع.
ووصفه- ثالثا- بأنه كان، حنيفا، أى: مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. من الحنف بمعنى الميل والاعوجاج، يقال: فلان برجله حنف أى اعوجاج وميل.
ومنه قول أم الأحنف بن قيس وهي تداعبه:
والله لولا حنف برجله ... ما كان في فتيانكم من مثله
ووصفه- رابعا- بأنه منزه عن الإشراك بالله- تعالى- فقال: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
__________
(1) سورة القصص الآية 23.
(2) سورة الزخرف الآية 22.
(3) سورة هود الآية 8.
(4) سورة البقرة الآية 124.(8/257)
أى: ولم يكن ابراهيم- عليه السلام- من الذين أشركوا مع الله- تعالى- آلهة أخرى في العبادة أو الطاعة، أو في أى من الأمور، بل أخلص عبادته لخالقه- عز وجل-.
وقال- كما حكى القرآن عنه-: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» .
ووصفه- خامسا- بقوله- سبحانه-: شاكِراً لِأَنْعُمِهِ أى: معترفا بفضل الله- تعالى- عليه، ومستعملا نعمه فيما خلقت له، ومؤديا حقوق خالقه فيها. قال- تعالى-: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أى: قام بأداء جميع ما كلفه الله به.
وبعد أن مدح- سبحانه- إبراهيم بتلك الصفات الجامعة لمجامع الخير، أتبع ذلك ببيان فضله- تعالى- عليه فقال: اجْتَباهُ أى اختاره واصطفاه للنبوة. من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار.
واجتباء الله- تعالى- لعبده معناه: اختصاصه ذلك العبد بخصائص ومزايا يحصل له عن طريقها أنواع من النعم بدون كسب منه.
وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أى: وأرشده إلى الطريق القويم، الذي دعا الصالحون ربهم أن يرشدهم إليه، حيث قالوا في تضرعهم: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. وهو طريق الإسلام.
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أى: وجمعنا له خير الدنيا من كل ما يحتاج المؤمن إليه ليحيا حياة طيبة، كهدايته إلى الدين الحق، ومنحه نعمة النبوة، وإعطائه الذرية الصالحة، والسيرة الحسنة، والمال الوفير.
وقد أشار القرآن الكريم إلى جانب من هذه النعم، كما في قوله- تعالى-: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «2» .
وكما في قوله- تعالى-: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا.. «3» .
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أى: وإنه في الدار الآخرة لمندرج في عباد الله الصالحين، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، والذين كانت لهم جنات الفردوس نزلا.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 79.
(2) سورة الشعراء الآية 84.
(3) سورة مريم الآية 49.(8/258)
ثم ختم- سبحانه- هذه النعم التي منحها لخليله إبراهيم، بأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة أبيه إبراهيم- عليه السلام- فقال- تعالى-: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
والمراد بملة إبراهيم: شريعته التي أمره الله- تعالى- باتباعها في عقيدته وعبادته ومعاملاته، وهي شريعة الإسلام، التي عبر عنها آنفا بالصراط المستقيم في قوله- تعالى-:
اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
والمراد باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم له في ذلك: الاقتداء به في التوحيد وفي أصول الدين، الثابتة في كل الشرائع، لا الفروع الشرعية التي تختلف من شريعة إلى أخرى، بحسب المصالح التي يريدها الله- تعالى- لعباده.
أى: ثم أوحينا إليك- أيها الرسول الكريم- بأن تتبع في عقيدتك وشريعتك مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أى: شريعته التي هي شريعة الإسلام.
قال صاحب الكشاف: قوله- تعالى-: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.. في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتى خليل الله إبراهيم من الكرامة، وأجل ما أوتى من النعمة، اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لملته، من جهة أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها «1» .
وقال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول فيما يؤدى إلى الصواب، ولا درك على الفاضل في هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وقد أمر بالاقتداء بهم، قال- تعالى-: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ.. «2» وقال- سبحانه- هنا: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً.. «3» .
وقوله: حَنِيفاً حال من إبراهيم، أى: من المضاف إليه، وصح ذلك لأن المضاف هنا وهو مِلَّةَ كالجزء من المضاف إليه وهو إبراهيم من حيث صحة الاستغناء بالثاني عن الأول، لأن قولك: أن اتبع إبراهيم حنيفا كلام تام..
وقد أشار ابن مالك- رحمه الله- إلى هذا المعنى بقوله:
ولا تجز حالا من المضاف له ... إلا إذا اقتضى المضاف عمله
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 434. [.....]
(2) سورة الأنعام الآية 90.
(3) تفسير القرطبي ج 10 ص 190.(8/259)
أو كان جزء ماله أضيفا ... أو مثل جزئه فلا تحيفا
وقوله- سبحانه-: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تنزيه لإبراهيم- عليه السلام- عن أى لون من ألوان الإشراك بالله- تعالى-.
أى: وما كان إبراهيم- عليه السلام- من المشركين مع الله- تعالى- آلهة أخرى لا في عقيدته ولا في عبادته ولا في أى شأن من شئونه.
وفي ذلك رد على المشركين الذين زعموا أنهم على ملة ابراهيم، ورد- أيضا- على اليهود والنصارى الذين زعموا أن إبراهيم- عليه السلام- كان على ملتهم.
قال- تعالى-: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» .
وبعد أن بين- سبحانه- حقيقة عقيدة إبراهيم، ومدحه بجملة من الصفات الجليلة، وبين جانبا من مظاهر فضله- سبحانه- عليه، أتبع ذلك ببيان أن تحريم العمل في يوم السبت أمر خاص باليهود، ولا علاقة له بشريعة إبراهيم أو بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى-: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ....
والمراد بالسبت: اليوم المسمى بهذا الاسم، وأصله- كما يقول ابن جرير- الهدوء والسكوت في راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم مسبوت لهدوئه وسكون جسده واستراحته، كما قال- جل ثناؤه-: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أى: راحة لأبدانكم.. «2» .
والكلام على حذف مضاف، والمعنى: إنما جعل تعظيم يوم السبت، والتخلي فيه للعبادة، عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وهم اليهود، حيث أمرهم نبيهم موسى- عليه السلام- بتعظيم يوم الجمعة، فخالفوه واختاروا السبت.
قال الجمل ما ملخصه: قوله- سبحانه-: عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أى: خالفوا نبيهم، حيث أمرهم: أن يعظموا يوم الجمعة بالتفرغ للعبادة فيه، وشدد عليهم بتحريم الاصطياد فيه: فليس المراد بالاختلاف أن بعضهم رضى، وبعضهم لم يرض، بل المراد به امتناع الجميع- حيث قالوا لا نريد يوم الجمعة، واختاروا السبت.
ثم قال: وفي معنى الآية قول آخر. قال قتادة: إن الذين اختلفوا فيه هم اليهود، حيث استحله بعضهم وحرمه بعضهم، فعلى هذا القول يكون معنى قوله إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ ...
__________
(1) سورة آل عمران الآية 67.
(2) تفسير ابن جرير الطبري ج 1 ص 327.(8/260)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
أى: وبال يوم السبت ولعنته عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وهم اليهود، حيث استحله بعضهم فاصطادوا فيه، فعذبوا ومسخوا.. وثبت بعضهم على تحريمه فلم يصطد فيه، فلم يعذبوا.. والقول الأول أقرب إلى الصحة «1» .
وقال الإمام ابن كثير: وقد ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم- أى أهل الكتاب- أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم- أى يوم الجمعة- فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» «2» .
ثم بين- سبحانه- حكمه العادل فيهم فقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. أى: وإن ربك- أيها الرسول الكريم- ليحكم بين هؤلاء المختلفين يوم القيامة، بأن ينزل بهم العقوبة التي يستحقونها بسبب مخالفتهم لنبيهم، وإعراضهم عن طاعته فيما أمرهم به من تعظيم يوم الجمعة.
ويصح أن يكون المعنى: وإن ربك ليحكم بحكمه العادل بين هؤلاء اليهود الذين اختلفوا في شأن يوم السبت، حيث استحله بعضهم، وحرمه البعض الآخر، فيجازى كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت إبراهيم- عليه السلام- مدحا عظيما، وذكرت جانبا من المآثر التي أكرمه الله- تعالى- بها، وبرأته مما ألصقه به المشركون وأهل الكتاب من تهم باطلة، ودعاوى كاذبة.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لآداب الدعوة إلى الله، والهادية إلى مكارم الأخلاق، فقال- تعالى-:
[سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 605.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 591.(8/261)
والخطاب في قوله- تعالى-: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه كل مسلم يصلح للدعوة إلى الله- عز وجل-.
أى: ادع- أيها الرسول الكريم- الناس إلى سبيل ربك أى: إلى دين ربك وشريعته التي هي شريعة الإسلام بِالْحِكْمَةِ أى: بالقول المحكم الصحيح الموضح للحق، المزيل للباطل، الواقع في النفس أجمل موقع.
وحذف- سبحانه- مفعول الفعل ادْعُ للدلالة على التعميم، أى، ادع كل من هو أهل للدعوة إلى سبيل ربك.
وأضاف- سبحانه- السبيل إليه. للإشارة إلى أنه الطريق الحق، الذي من سار فيه سعد وفاز، ومن انحرف عنه شقي وخسر.
وقوله- تعالى-: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وسيلة ثانية للدعوة إلى الله- تعالى- أى: وادعهم- أيضا- إلى سبيل ربك بالأقوال المشتملة على العظات والعبر التي ترقق القلوب، وتهذب النفوس، وتقنعهم بصحة ما تدعوهم إليه، وترغبهم في الطاعة لله- تعالى- وترهبهم من معصيته- عز وجل- وقوله- تعالى-: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بيان لوسيلة ثالثة من وسائل الدعوة السليمة.
أى: وجادل المعاند منهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق وأجملها، بأن تكون مجادلتك لهم مبنية على حسن الإقناع، وعلى الرفق واللين وسعة الصدر فإن ذلك أبلغ في إطفاء نار غضبهم، وفي التقليل من عنادهم، وفي إصلاح شأن أنفسهم، وفي إيمانهم بأنك إنما تريد من وراء مجادلتهم، الوصول إلى الحق دون أى شيء سواه.(8/262)
وبذلك نرى الآية الكريمة قد رسمت أقوم طرق الدعوة إلى الله- تعالى- وعينت أحكم وسائلها، وأنجعها في هداية النفوس.
إنها تأمر الدعاة في كل زمان ومكان أن تكون دعوتهم إلى سبيل الله لا إلى سبيل غيره: إلى طريق الحق لا طريق الباطل، وإنها تأمرهم- أيضا- أن يراعوا في دعوتهم أحوال الناس، وطباعهم، وسعة مداركهم، وظروف حياتهم، وتفاوت ثقافاتهم.
وأن يخاطبوا كل طائفة بالقدر الذي تسعه عقولهم، وبالأسلوب الذي يؤثر في نفوسهم، وبالطريقة التي ترضى قلوبهم وعواطفهم.
فمن لم يقنعه القول المحكم، قد تقنعه الموعظة الحسنة، ومن لم تقنعه الموعظة الحسنة. قد يقنعه الجدال بالتي هي أحسن.
ولذلك كان من الواجب على الدعاة الى الحق، أن يتزودوا بجانب ثقافتهم الدينية الأصيلة الواسعة- بالكثير من ألوان العلوم الأخرى كعلوم النفس والاجتماع والتاريخ، وطبائع الأفراد والأمم.. فإنه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يشبعها من الزاد النافع، وبما يجعلها تقبل على فعل الخير، وتدبر عن فعل الشر.
وكما أن أمراض الأجسام مختلفة، ووسائل علاجها مختلفة- أيضا-، فكذلك أمراض النفوس متنوعة، ووسائل علاجها متباينة.
فمن الناس من يكون علاجه بالمقالة المحكمة: ومنهم من يكون علاجه بالعبارة الرقيقة الرفيقة التي تهز المشاعر، وتثير الوجدان، ومنهم من يكون علاجه بالمحاورة والمناقشة والمناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن، لأن النفس الإنسانية لها كبرياؤها وعنادها، وقلما تتراجع عن الرأى الذي آمنت به. إلا بالمجادلة بالتي هي أحسن. والحق: أن الدعاة إلى الله- تعالى- إذا فقهوا هذه الحقائق فتسلحوا بسلاح الإيمان والعلم، وأخلصوا لله- تعالى- القول والعمل، وفطنوا إلى أنجع الأساليب في الدعوة إلى الله، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم واستعدادهم.. نجحوا في دعوتهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال الآلوسى: وإنما تفاوتت طرق دعوته صلى الله عليه وسلم لتفاوت مراتب الناس، فمنهم خواص، وهم أصحاب نفوس مشرقة، قوية الاستعداد لإدراك المعاني، مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه، وهؤلاء يدعون بالحكمة.
ومنهم عوام، أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد، شديدة الإلف بالمحسوسات، قوية(8/263)
التعلق بالرسوم والعادات، قاصرة عن درجة البرهان، لكن لا عناد عندهم، وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.
ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق، لما غلب عليه من تقليد الأسلاف، ورسخ فيه من العقائد الباطلة، فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر، بل لا بد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال، لتلين عريكته، وتزول شكيمته، وهؤلاء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بجدالهم بالتي هي أحسن «1» .
وقوله- سبحانه-: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بيان لكمال علم الله- تعالى- وإحاطته بكل شيء، وإرشاد للدعاة في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى أن عليهم أن يدعوا الناس بالطريقة التي بينها- سبحانه- لهم، ثم يتركوا النتائج له- تعالى- يسيرها كيف يشاء.
والظاهر أن صيغة التفضيل أَعْلَمُ في هذه الآية وأمثالها، المراد بها مطلق الوصف لا المفاضلة، لأن الله- تعالى- لا يشاركه أحد في علم أحوال خلقه، من شقاوة وسعادة، وهداية وضلال.
والمعنى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- هو وحده العليم بمن ضل من خلقه عن صراطه المستقيم، وهو وحده العليم بالمهتدين منهم إلى السبيل الحق وسيجازى كل فريق منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
وما دام الأمر كذلك، فعليك- أيها الرسول الكريم- أن تسلك في دعوتك إلى سبيل ربك، الطرق التي أرشدك إليها، من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ومن كان فيه خير- كما يقول صاحب الكشاف- كفاه الوعظ القليل، والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد بارد «2» .
وبعد أن بين- سبحانه- أنجع أساليب الدعوة إلى سبيله في حالة المسالمة والمجادلة بالحجة والبرهان، أتبع ذلك ببيان ما ينبغي على المسلم أن يفعله في حالة الاعتداء عليه أو على دعوته فقال- تعالى-: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ....
أى: وإن أردتم معاقبة من ظلمكم واعتدى عليك، فعاقبوه بمثل ما فعله بكم، ولا تزيدوا على ذلك، فإن الزيادة حيف يبغضه الله- تعالى-.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 14 ص 254.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 435.(8/264)
ثم أرشدهم- سبحانه- إلى ما هو أسمى من مقابلة الشر بمثله فقال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
والضمير في قوله لَهُوَ يعود إلى المصدر في قوله صَبَرْتُمْ، والمصدر إما أن يراد به الجنس فيكون المعنى: ولئن صبرتم فالصبر خير للصابرين، وأنتم منهم.
وإما أن يراد به صبرهم الخاص فيكون المعنى: ولئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل، لصبركم خير لكم، فوضع- سبحانه- الصابرين موضع لكم على سبيل المدح لهم، والثناء عليهم بصفة الصبر.
هذا، وقد ذكر جمع من المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في أعقاب غزوة أحد، بعد أن مثل المشركون بحمزة- رضى الله عنه-.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: روى الحافظ البزار عن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد. فنظر الى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه.
وقد مثل المشركون به. فقال صلى الله عليه وسلم: رحمة الله عليك، لقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات. والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع. أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك. فنزلت هذه الآية. فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه.
ثم قال ابن كثير بعد روايته لهذا الحديث: وهذا إسناد فيه ضعف لأن أحد رواته وهو «صالح بن بشير المري» ضعيف عند الأئمة. وقال البخاري هو منكر الحديث.
ثم قال ابن كثير- رحمه الله-: وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أبى بن كعب، قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا، ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا اليوم من المشركين لنمثلن بهم، فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم. فنادى مناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأبيض والأسود إلا فلانا وفلانا- ناسا سماهم-، فنزلت الآية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نصبر ولا نعاقب» «1» .
والذي نراه أن الآية الكريمة- حتى ولو كان سبب نزولها ما ذكر- إلا أن التوجيهات التي
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 596.(8/265)
اشتملت عليها صالحة لكل زمان ومكان، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعلى رأس هذه التوجيهات السامية التي اشتملت عليها: دعوة المسلمين الى التزام العدالة في أحكامهم، وحضهم على الصبر والصفح ما دام ذلك لا يضر بمصلحتهم ومصلحة الدعوة الإسلامية.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ... «1» .
ثم أمر- سبحانه- بالصبر أمرا صريحا، بعد أن بين حسن عاقبته فقال: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ....
أى:: واصبر- أيها الرسول الكريم- على أذى قومك، وما صبرك في حال من الأحوال بمؤت ثماره المرجوة منه إلا بتوفيق الله- تعالى- لك، وبتثبيته إياك، وما دام الأمر كذلك فالجأ إليه وحده، واستعن به- سبحانه- في كل أمورك، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال.
ثم نهاه- سبحانه- عن الحزن بسبب كفر الكافرين، فإن الهداية والإضلال بقدرة الله وحده فقال- تعالى-: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ.
أى ولا تحزن بسبب كفر الكافرين، وإصرارهم على ذلك، وإعراضهم عن دعوتك، ولا يضق صدرك بمكرهم، فإن الله- تعالى- ناصرك عليهم، ومنجيك من شرورهم.
وقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ تعليل لما سبق من أمره بالصبر، ومن نهيه عن الحزن وضيق الصدر.
أى: إن الله- تعالى- بمعونته وتأييده مع الذين اتقوه في كل أحوالهم، وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضاه. ومع الذين يحسنون القول والعلم، بأن يؤدوهما بالطريقة التي أمر الإسلام بها، ومن كان الله- تعالى- معه، سعد في دنياه وفي أخراه.
وقد قيل لبعض الصالحين وهو يحتضر: أوص. فقال: إنما الوصية من المال. ولا مال لي،
__________
(1) سورة الشورى الآية 40.(8/266)
ولكني أوصيكم بالعمل بخواتيم سورة النحل.
وبعد فهذه سورة النحل، وهذا تفسير لها. نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم د. محمد سيد طنطاوى المدينة المنورة: مساء الثلاثاء 27 من ذي الحجة 1403 هـ الموافق 4/ 10/ 1983 م(8/267)
تفسير سورة الأسراء(8/269)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فهذا تفسير لسورة الإسراء، أسأل الله- عز وجل- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المدينة المنورة في 5/ 1/ 1404 هـ الموافق 10/ 10/ 1983 م المؤلف د. محمد سيد طنطاوى(8/271)
تعريف بسورة الإسراء
1- سورة الإسراء هي السورة السابعة عشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سورة:
الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء.... إلخ.
أما ترتيبها في النزول، فقد ذكر السيوطي في الإتقان أنها السورة التاسعة والأربعون، وأن نزولها كان بعد سورة القصص «1» .
2- وتسمى- أيضا- بسورة بنى إسرائيل، وبسورة «سبحان» ، وعدد آياتها عند الجمهور إحدى عشرة آية ومائة، وعند الكوفيين عشر آيات ومائة آية.
3- ومن الأحاديث التي وردت في فضلها، ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود- رضى الله عنه- أنه قال في بنى إسرائيل، والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول، وهنّ من تلادى «2» .
والعتاق: جمع عتيق وهو القديم، وكذلك التالد بمعنى القديم. ومراده- رضى الله عنه- أن هذه السور من أول ما حفظه من القرآن.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن زيد، عن مروان عن أبى لبابة، قال: سمعت عائشة- رضى الله عنها- تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول:
ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ كل ليلة: «بنى إسرائيل» و «الزمر» «3» .
4- ومن وجوه مناسبة هذه السورة لما قبلها، ما ذكره أبو حيان بقوله: «ومناسبة هذه لما قبلها، أنه- تعالى- لما أمره- في آخر النحل- بالصبر، ونهاه عن الحزن عليهم، وعن أن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر، وغير ذلك مما رموه به، أعقب- تعالى- ذلك بذكر شرفه، وفضله، واحتفائه به، وعلو منزلته عنده» «4» .
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 1 ص 27 طبعة المشهد الحسيني.
(2، 3) تفسير ابن كثير ج 5 ص 3- طبعة مكتبة الشعب.
(4) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 6 ص 3.(8/273)
5- وسورة الإسراء من السور المكية، ومن المفسرين الذين صرحوا بذلك دون أن يذكروا خلافا في كونها مكية. الزمخشري، وابن كثير، والبيضاوي، وأبو حيان.
وقال الآلوسى: وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور.
وقيل: هي مكية إلا آيتين: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ.
وقيل: إلا أربعا، هاتان الآيتان، وقوله- تعالى-: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ....
وقوله- سبحانه-: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ... «1» .
والذي تطمئن إليه النفس أن سورة الإسراء بتمامها مكية- كما قال جمهور المفسرين- لأن الروايات التي ذكرت في كون بعض آياتها مدنية، لا تنهض دليلا على ذلك لضعفها ...
والذي يغلب على الظن أن نزول هذه السورة الكريمة: أو نزول معظمها، كان في أعقاب حادث الإسراء والمعراج.
وذلك لأن السورة تحدثت عن هذا الحدث، كما تحدثت عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا مستفيضا، وحكت إيذاء المشركين له، وتطاولهم عليه، وتعنتهم معه، كمطالبتهم إياه بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا ...
وقد ردت السورة الكريمة على كل ذلك، بما يسلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبته، ويرفع منزلته، ويعلى قدره ... في تلك الفترة الحرجة من حياته صلى الله عليه وسلم وهي الفترة التي أعقبت موت زوجه السيدة خديجة- رضى الله عنها- وموت عمه أبى طالب ...
6- (أ) وعند ما نقرأ سورة الإسراء نراها في مطلعها تحدثنا عن إسراء الله- تعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعن الكتاب الذي آتاه الله- تعالى- لموسى- عليه السلام- ليكون هداية لقومه، وعن قضاء الله في بنى إسرائيل ...
قال- تعالى-: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ، أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا. ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 2. [.....](8/274)
شَكُوراً. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً..
(ب) ثم يبين- سبحانه- بعد ذلك أن هذا القرآن قد أنزله- سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم ليهدى الناس إلى الطريق الأقوم، وليبشر المؤمنين بالأجر الكبير، وأن كل إنسان مسئول عن عمله، وسيحاسب عليه يوم القيامة، دون أن تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ...
قال- تعالى-: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً....
إلى أن يقول- سبحانه-: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
(ج) ثم تسوق السورة الكريمة سنة من سنن الله في خلقه، وهي أن عاقبة الترف والفسق، الدمار والهلاك، وأن من يريد العاجلة كانت نهايته إلى جهنم، ومن يريد الآخرة ويقدم لها العمل الصالح كانت نهايته إلى الجنة.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ فيقول: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ. وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.
(د) وبعد أن بين- سبحانه- أن سعادة الآخرة منوطة بإرادتها، وبأن يسعى الإنسان لها وهو مؤمن، عقب ذلك بذكر بضع وعشرين نوعا من أنواع التكاليف، التي متى نفذها المسلم ظفر برضى الله- تعالى- ومثوبته، ومن تلك التكاليف قوله- تعالى-: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ...
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ...
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ....(8/275)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ...
(هـ) وبعد أن ساقت السورة الكريمة تلك التكاليف المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ أو النقض، في ثماني عشرة آية، أتبعت ذلك بالثناء على القرآن الكريم، وبتنزيه الله- تعالى- عن الشريك، وببيان أن كل شيء يسبح بحمده- عز وجل-.
قال- تعالى-: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً. قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً. تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً.
(و) ثم تحكى السورة الكريمة جانبا من أقوال المشركين، وترد عليها بما يدحضها، وتأمر المؤمنين بأن يقولوا الكلمة التي هي أحسن.. فتقول:.
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا. وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً.
(ز) وبعد أن تقرر السورة الكريمة شمول علم الله- تعالى- لكل شيء، وقدرته على كل شيء، بعد أن تقرر ذلك، تحكى لنا جانبا من قصة آدم وإبليس فتقول:.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً. قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً.
(ح) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من نعم الله على عباده في البر والبحر، وألوانا من(8/276)
تكريمه لبنى آدم، كما تصور أحوال الناس يوم القيامة، وعدالة الله- تعالى- في حكمه عليهم فتقول:
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً. أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ...
ثم يقول- سبحانه-: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ، وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا. يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ...
(ط) ثم تحكى السورة جانبا من نعم الله- تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم حيث ثبته- سبحانه- أمام مكر أعدائه، وأمره بالمداومة على الصلاة وعلى قراءة القرآن، لأن ذلك يزيده ثباتا على ثباته، وتكريما على تكريمه.
قال- تعالى-: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا.
(ى) ثم يقول- سبحانه-: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً..
(ك) وبعد أن تقرر السورة الكريمة طبيعة الإنسان، وتقرر أن الروح من أمر الله- تعالى- تتبع ذلك بالثناء على القرآن الكريم، وببيان أنه المعجزة الخالدة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبإيراد المطالب المتعنتة التي طالب المشركون بها النبي صلى الله عليه وسلم.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر كل ذلك بأسلوبه البليغ فيقول: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً. وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا
.(8/277)
(ل) ثم تسوق السورة الكريمة في أواخرها الدلائل الدالة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، وتحكى جانبا من قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وتؤكد أن هذا القرآن أنزله الله- تعالى- بالحق، وبالحق نزل، وأنه نزله مفرقا ليقرأه الناس على تؤدة وتدبر.
وكما افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله- تعالى-، فقد اختتمت بحمد الله- تعالى- وتكبيره. قال- تعالى-:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً.
(م) وبعد فهذا عرض إجمالى لأهم الموضوعات والمقاصد التي اشتملت عليها سورة الإسراء. ومن هذا العرض يتبين لنا ما يلى:.
1- أن سورة الإسراء- كغيرها من السور المكية- قد اهتمت اهتماما بارزا بتنقية العقيدة من كل ما يشوبها من شرك أو انحراف عن الطريق المستقيم.
وقد ساقت السورة في هذا المجال أنواعا متعددة من البراهين على وحدانية الله- تعالى- وعلمه وقدرته، ووجوب إخلاص العبادة له، وعلى تنزيهه- سبحانه- عن الشريك، ومن ذلك قوله- تعالى-:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً. وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً. قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً.
2- كذلك على رأس الموضوعات التي فصلت السورة الحديث عنها، شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ابتدأت بإسراء الله- تعالى- به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث أراه- سبحانه- من آياته ما أراه، ثم تحدثت عن طبيعة رسالته، وعن مزاياها، وعن موقف المشركين منه، وعن المطالب المتعنتة التي طلبوها منه، وعن تثبيت الله- تعالى- له، وعن تبشيره بحسن العاقبة ...
قال- تعالى-: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.
3- من الواضح- أيضا- أن سورة الإسراء اعتنت بالحديث عن القرآن الكريم، من حيث هدايته، وإعجازه، ومنع الذين لا يؤمنون به عن فقهه، واشتماله على ما يشفى الصدور، وتكراره للبينات والعبر بأساليب مختلفة، ونزوله مفرقا ليقرأه الناس على مكث..(8/278)
ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله- تعالى-:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ....
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ...
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ...
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ...
4- اهتمت السورة الكريمة اهتماما بينا، بالحديث عن التكاليف الشرعية، المتضمنة لقواعد السلوك الفردى والجماعى.
وقد ذكرت السورة أكثر من عشرين تكليفا، في آيات متتالية، بدأت بقوله- تعالى-:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا الآية 22 وانتهت بقوله- تعالى-:
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً الآية 38.
وبجانب حديثها المستفيض عن التكاليف الشرعية، تحدثت- أيضا- عن طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر، وعن بخله الشديد بما يملكه ...
قال- تعالى-: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً.
وقال- سبحانه-: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً.
5- ومن الجوانب التي حرصت السورة الكريمة على تجليتها والكشف عنها: بيان سنن الله التي لا تتخلف في الهداية والإضلال، وفي الثواب والعقاب، وفي النصر والخذلان، وفي الرحمة والإهلاك، ومن ذلك قوله- تعالى-:
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً.
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا.(8/279)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها....
هذه بعض المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها سورة الإسراء، وهناك مقاصد أخرى يراها المتأمل فيها، والمتدبر لآياتها، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوى(8/280)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
التفسير قال الله تعالى:
[سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
افتتحت سورة الإسراء بتنزيه الله- تعالى- عن كل ما لا يليق بجلاله، كما يدل على ذلك لفظ «سبحان» الذي من أحسن وجوه إعرابه، أنه اسم مصدر منصوب- على أنه مفعول مطلق- بفعل محذوف، والتقدير: سبحت الله- تعالى- سبحانا أى تسبيحا، بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء.
قال القرطبي: وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة- أى المبشرين بالجنة- أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: «تنزيه الله من كل سوء» «1» .
وقوله أَسْرى من الإسراء، وهو السير بالليل خاصة.
قال الجمل: يقال أسرى وسرى، بمعنى سار في الليل، وهما لازمان، لكن مصدر الأول الإسراء ومصدر الثاني السرى- بضم السين كالهدى- فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول، وإنما جاءت التعدية هنا من الباء. ومعنى أسرى به، صيره ساريا في الليل «2» .
والمراد بِعَبْدِهِ خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، والإضافة للتشريف والتكريم.
وأوثر التعبير بلفظ العبد، للدلالة على أن مقام العبودية لله- تعالى- هو أشرف صفات
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 204.
(2) حاشية الجمل ج 2 ص 608.(8/281)
المخلوقين وأعظمها وأجلها، إذ لو كان هناك وصف أعظم منه في هذا المقام لعبر به، وللإشارة- أيضا- إلى تقرير هذه العبودية لله- تعالى- وتأكيدها، حتى لا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية، كما التبسا في العقائد المسيحية، حيث ألهوا عيسى- عليه السلام-، وألهوا أمه مريم، مع أنهما بريئان من ذلك..
قال الشيخ القاسمى نقلا عن الإمام ابن القيم في كتاب «طريق الهجرتين» : أكمل الخلق أكملهم عبودية لله- تعالى-، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أقرب الخلق إلى الله- تعالى- وأعظمهم عنده جاها، وأرفعهم عنده منزلة، لكماله في مقام العبودية. وكان صلى الله عليه وسلم يقول:
«أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي. إنما أنا عبد» . وكان يقول: «لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» .
وذكره- سبحانه- بسمة العبودية في أشرف مقاماته: في مقام الإسراء حيث قال:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ.
وفي مقام الدعوة حيث قال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ...
وفي مقام التحدي حيث قال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا «1» .
وقوله: لَيْلًا ظرف زمان لأسرى.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟.
قلت: أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير، تقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ... » «2» .
وقوله: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بيان لابتداء الإسراء وانتهائه.
أى: جل شأن الله- عز وجل- وتنزه عن كل نقص، حيث أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم في جزء من الليل، من المسجد الحرام الذي بمكة إلى المسجد الأقصى الذي بفلسطين.
ووصف مسجد مكة بالحرام، لأنه لا يحل انتهاكه بقتال فيه، ولا بصيد صيده، ولا بقطع شجره.
__________
(1) تفسير القاسمى ج 10 ص 3884.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 426.(8/282)
ووصف مسجد فلسطين بالأقصى، لبعده عن المسجد الحرام، إذ المسافة بينهما كان يقطعها الراكب للإبل في مدة شهر أو أكثر.
قال الآلوسى: ووصفه بالأقصى- أى الأبعد- بالنسبة إلى من بالحجاز. وقال غير واحد: إنه سمى به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام وبينهما زهاء أربعين ليلة.
وقيل- وصف بذلك-: لأنه لبس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها.. «1» .
وظاهر الآية يفيد أن الإسراء كان من المسجد الحرام، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا في الحجر- وفي رواية- في الحطيم، بين النائم واليقظان، إذ أتانى آت فشق ما بين هذه إلى هذه، فاستخرج قلبي فغسله ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه» ...
وقيل أسرى به من بيت أم هانئ بنت أبى طالب، فيكون المراد بالمسجد الحرام: الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به. فعن ابن عباس- رضى الله عنهما-: الحرم كله مسجد.
ويمكن الجمع بين هذه الروايات، بأن الرسول صلّى الله عليه وسلم بقي في بيت أم هانئ لفترة من الليل، ثم ترك فراشه عندها وذهب إلى المسجد، فلما كان في الحجر أو في الحطيم بين النائم واليقظان، أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السموات العلا. ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد- كما جاء في بعض الروايات.
وبذلك يترجح لدينا أن وجود الرسول صلّى الله عليه وسلم في تلك الليلة في بيت أم هانئ، لا ينفى أن الإسراء بدأ من المسجد الحرام، كما تقرر الآية الكريمة.
وقوله الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صفة مدح للمسجد الأقصى.
أى: جل شأن الله الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، الذي أحطنا جوانبه بالبركات الدينية والدنيوية.
أما البركات الدينية فمن مظاهرها: أن هذه الأرض التي حوله، جعلها الله- تعالى- مقرا لكثير من الأنبياء، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وداود وسليمان، وزكريا ويحيى وعيسى.
قال- تعالى-: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها.. «2» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 9.
(2) سورة الأنبياء الآية 81.(8/283)
وقال- سبحانه- في شأن إبراهيم: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ «1» .
والمقصود بهذه الأرض: أرض الشام، التي منها فلسطين.
وأما البركات الدنيوية فمن مظاهرها: كثرة الأنهار والأشجار والثمار والزروع في تلك الأماكن.
قال بعض العلماء: وقد قيل في خصائص المسجد الأقصى: أنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السموات العلا.. وأولى القبلتين وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه «2» .
وقوله- سبحانه-: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إشارة إلى الحكمة التي من أجلها أسرى الله- تعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلم فقوله لِنُرِيَهُ متعلق بأسرى.
و «من» للتبعيض لأن ما رآه النبي صلّى الله عليه وسلم وإن كان عظيما إلا أنه مع عظمته بعض آيات الله بالنسبة لما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب.
أى: أسرينا بعبدنا محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، ثم عرجنا به إلى السموات العلا، لنطلعه على آياتنا، وعلى عجائب قدرتنا، والتي من بينها:
مشاهدته لأنبيائنا الكرام، ورؤيته لما نريد أن يراه من عجائب وغرائب هذا الكون.
ولقد وردت أحاديث متعددة في بيان ما أراه الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلم في تلك الليلة المباركة، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ...
ووجدت في السماء الدنيا آدم فقال لي جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه ورد على آدم السلام فقال: مرحبا وأهلا بابني، فنعم الابن أنت ...
وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما عرج بي ربي- عز وجل- مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم.. «3» » .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على سعة علمه، ومزيد فضله فقال- تعالى-: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 71.
(2) تفسير القاسمى ج 10 ص 3885.
(3) تفسير ابن كثير المجلد الخامس ص 8 طبعة دار الشعب.(8/284)
أى: إنه- سبحانه- هو السميع لأقوال عباده: مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم.
بصير بما يسرونه ويعلنونه، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب، بدون ظلم أو محاباة.
هذا وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية جملة من المسائل منها:
1- أن هذه الآية دلت على ثبوت الإسراء للنبي صلّى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأما العروج به صلّى الله عليه وسلم إلى السموات العلا فقد استدل عليه بعضهم بآيات سورة النجم، وهي قوله- تعالى-: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية أحاديث كثيرة بأسانيدها ومتونها، وقال في أعقاب ذكر بعضها:
قال البيهقي: وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسرى به- عليه الصلاة والسلام- من مكة إلى بيت المقدس، وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية «1» .
وقال القرطبي: ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروى عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابيا «2» .
2- قال بعض العلماء ما ملخصه: ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث، وأنه قبل الهجرة بسنة. قاله الزهري وابن سعد وغيرهما. وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه. وقال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة.
واختار الحافظ المقدسي أنه كان في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب «3» .
والذي تطمئن إليه النفس أن حادث الإسراء والمعراج، كان بعد وفاة أبى طالب والسيدة خديجة- رضى الله عنها-.
ووفاتهما كانت قبل الهجرة بسنتين أو ثلاثة. وفي هذه الفترة التي أعقبت وفاتهما اشتد أذى
__________
(1) تفسير ابن كثير المجلد الخامس ص 7 طبعة دار الشعب.
(2) تفسير القرطبي ج 10 ص 205
(3) تفسير القاسمى ج 10 ص 2888.(8/285)
المشركين بالنبي صلّى الله عليه وسلم فكان هذا الحادث لتسليته صلّى الله عليه وسلم عما أصابه منهم، ولتشريفه وتكريمه..
3- من المسائل التي ثار الجدل حولها، مسألة: أكان الإسراء والمعراج في اليقظة أم في المنام؟ وبالروح والجسد أم بالروح فقط؟.
وقد لخص بعض المفسرين أقوال العلماء في هذه المسألة فقال: اعلم أن هذا الإسراء به صلّى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية الكريمة زعم بعض أهل العلم أنه بروحه دون جسده، زاعما أنه في المنام لا في اليقظة، لأن رؤيا الأنبياء وحى.
وزعم بعضهم أن الإسراء بالجسد، والمعراج بالروح دون الجسد.
ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلّى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، لأنه قال:
بِعَبْدِهِ والعبد مجموع الروح والجسد.
ولأنه قال: سُبْحانَ والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناما لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه.
ولأنه لو كان رؤيا منام لما كان فتنة، ولا سببا لتكذيب قريش له صلّى الله عليه وسلم لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح.
ولأنه- سبحانه- قال لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا والظاهر أن ما أراه الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلم إنما كان رؤيا عن طريق العين ويؤيده قوله- تعالى-: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ولأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قد استعمل في رحلته البراق، واستعماله البراق يدل على أن هذا الحادث كان بالروح والجسد وفي اليقظة لا في المنام.
وما ثبت في الصحيحين عن طريق شريك عن أنس- رضى الله عنه- أن الإسراء المذكور وقع مناما، لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة من أنه كان يقظة وبالروح والجسد، لإمكان أنه صلّى الله عليه وسلم رأى الإسراء المذكور مناما، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح، فأسرى به يقظة تصديقا لتلك الرؤيا المنامية «1» .
__________
(1) تفسير أضواء البيان ج 3 ص 348 لفضيلة المرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.(8/286)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
هذا، ومن العلماء الذين فصلوا القول في تلك المسألة تفصيلا محققا، القاضي عياض في كتابه «الشفا» فقد قال- رحمه الله- بعد أن ساق الآراء في ذلك:
والحق في هذا والصحيح- إن شاء الله- أنه إسراء بالروح والجسد في القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار. ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وروحه حال يقظته استحالة.. «1» .
وما قاله القاضي عياض- رحمه الله- في هذه المسألة هو الذي نعتقده، ونلقى الله- تعالى- عليه.
وبعد أن بين الله- سبحانه- جانبا من مظاهر تكريمه وتشريفه لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلم عن طريق إسرائه به. أتبع ذلك بالحديث عما أكرم به نبيه موسى- عليه السلام- فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
والواو في قوله- تعالى-: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، استئنافية، أو عاطفة على قوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى ...
والمراد بالكتاب: التوراة التي أنزلها الله- تعالى- على نبيه موسى- عليه السلام- والضمير المنصوب في قوله: وَجَعَلْناهُ يعود إلى الكتاب.
وقوله لِبَنِي إِسْرائِيلَ متعلق بهدى.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ.
وأن في قوله أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا يصح أن تكون زائدة وتكون الجملة مقولة لقول محذوف، والمعنى:
__________
(1) راجع الشفا للقاضي عياض ج 1 ص 145 وما بعدها. [.....](8/287)
وآتينا موسى الكتاب من أجل أن يكون هداية لبنى إسرائيل إلى الصراط المستقيم.
وقلنا لهم: لا تتخذوا غير الله- تعالى- وكيلا، أى: معبودا، تفوضون إليه أموركم، وتكلون إليه شئونكم، فهو- سبحانه-: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: قرأ أبو عمرو «ألا يتخذوا» بالياء خبرا عن بنى إسرائيل: وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب، أى: قلنا لهم لا تتخذوا. ويصح أن تكون أن ناصبة للفعل فيكون المعنى: وجعلناه هدى لئلا تتخذوا ... وأن تكون أن بمعنى أى التي للتفسير- أى هي مفسرة لما تضمنه الكتاب من النهى عن اتخاذ وكيل سوى الله- تعالى- «1» .
وقوله: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ... منصوب على الاختصاص، أو على النداء والمقصود بهذه الجملة الكريمة إثارة عزائمهم نحو الإيمان والعمل الصالح، وتنبيههم إلى نعمه- سبحانه- عليهم، حيث جعلهم من ذرية أولئك الصالحين الذين آمنوا بنوح- عليه السلام- وحضهم على السير على منهاجهم في الإيمان والعمل الصالح، فإن شأن الأبناء أن يقتدوا بالآباء في التقوى والصلاح.
والمعنى: لا تتخذوا يا بنى إسرائيل معبودا غير الله- تعالى-، فأنتم أبناء أولئك القوم الصالحين، الذين آمنوا بنوح- عليه السلام- فأنجاهم الله- تعالى- مع نبيهم من الغرق.
قال الآلوسى: وفي التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهى من أوجه: أحدها تذكيرهم بالنعمة في إنجاء آبائهم. والثاني: تذكيرهم بضعفهم وحالهم المحوج إلى الحمل والثالث: أنهم أضعف منهم- أى من آبائهم- لأنهم متولدون عنهم وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر «2» .
وقوله: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً تذييل قصد به الثناء على نوح- عليه السلام- أى:
إن نوحا- عليه السلام- كان من عبادنا الشاكرين لنعمنا، المستعملين لها فيما خلقت له، المتوجهين إلينا بالتضرع والدعاء في السراء والضراء.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 153 طبعة دار الكتاب العالمية.
(2) تفسير الآلوسى ج 15 ص 15.(8/288)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قوله: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ما وجه ملاءمته لما قبله؟.
قلت: كأنه قيل لا تتخذوا من دوني وكيلا، ولا تشركوا بي، لأن نوحا كان عبدا شكورا، وأنتم من آمن به وحمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم، ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاصهم، والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح- عليه السلام- فهم متصلون به، فاستأهلوا لذلك الاختصاص.. «1» .
وبذلك نرى الآيتين الكريمتين قد دعتا إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- بأسلوب يرضى العقول السليمة، والعواطف الشريفة.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك قضاءه العادل في بنى إسرائيل وساق سنة من سننه التي لا تتخلف في خلقه فقال- تعالى-:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 438.(8/289)
وقوله- سبحانه-: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ... إخبار من الله- تعالى- لهم، بما سيكون منهم، حسب ما وقع في علمه المحيط بكل شيء، والذي ليس فيه إجبار أو قسر، وإنما هو صفة انكشافية، تنبئ عن مآلهم وأحوالهم.
قال أبو حيان: والفعل قضى يتعدى بنفسه إلى مفعول، كقوله- تعالى-: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ.. ولما ضمّن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدى بإلى أى: وأوحينا أو أنفذنا إلى بنى إسرائيل في القضاء المحتوم المثبوت وعن ابن عباس: وأعلمناهم.. «1» .
والمراد بالكتاب: التوراة، وقيل اللوح المحفوظ.
واللام في قوله لَتُفْسِدُنَّ ... جواب قسم محذوف تقديره: والله لتفسدن.
ويجوز أن تكون جوابا لقوله- تعالى-: وَقَضَيْنا ... لأنه مضمن معنى القسم، كما يقول القائل: قضى الله لأفعلن كذا، فيجري القضاء والقدر مجرى القسم ...
والمقصود بالأرض: عمومها أو أرض الشام.
و «مرتين» منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله: لَتُفْسِدُنَّ من غير لفظه، والمراد لتفسدن إفسادتين وقوله- عز وجل-: وَلَتَعْلُنَّ.. من العلو وهو ضد السفل، والمراد به هنا: التكبر والتجبر والبغي والعدوان.
والمعنى: وأخبرنا بنى إسرائيل في كتابهم التوراة خبرا مؤكدا: وأوحينا إليهم بواسطة رسلنا، بأن قلنا لهم: لتفسدن في الأرض مرتين، ولتستكبرن على الناس بغير حق، استكبارا كبيرا، يؤدى بكم إلى الخسران والدمار.
والتعبير عما يكون منهم من إفساد بالقضاء وأنه في الكتاب، يدل على ثبوته، إذ أصل القضاء- كما يقول القرطبي- الإحكام للشيء والفراغ منه.
وأكد إفسادهم واستعلاءهم بلام القسم، للإشعار بأنه مع ثبوته ووجوده فهو مصحوب بالتجبر والتكبر والبغي والعدوان.
__________
(1) تفسير البحر المحيط لأبي حيان ج 6 ص 8 طبعة دار الفكر- بيروت.(8/290)
وكان من مظاهر إفسادهم في الأرض: تحريفهم للتوراة، وتركهم العمل بما فيها من أحكام، وقتلهم الأنبياء والمصلحين.
ثم بين- سبحانه- أنه يسلط عليهم بعد إفسادهم الأول في الأرض، من يقهرهم ويستبيح حرماتهم، ويدمرهم تدميرا، فقال- تعالى-: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا.
والمراد بالوعد: الموعد المحدد لعقابهم بسبب إفسادهم في الأرض، فالكلام على حذف مضاف، والضمير في أُولاهُما يعود على المرتين المعبر عنهما بقول: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ.
وقوله فَجاسُوا معطوف على بَعَثْنا وأصل الجوس: طلب الشيء باستقصاء واهتمام لتنفيذ ما من أجله كان الطلب.
والمعنى: فإذا حان وقت عقابكم- يا بنى إسرائيل- على أولى مرتى إفسادكم بعثنا عليكم ووجهنا إليكم عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أى أصحاب بطش شديد في الحروب والقتال، فأذلوكم وقهروكم، وفتشوا عنكم بين المساكن والديار، لقتل من بقي منكم على قيد الحياة، وكان البعث المذكور وما ترتب عليه من قتلكم وسلب أموالكم، وهتك أعراضكم، وتخريب دياركم ... وعدا نافذا لا مرد له، ولا مفر لكم منه.
قال الآلوسى: واختلف في تعيين هؤلاء العباد- الذين بعثهم الله لمعاقبة بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول- فعن ابن عباس وقتادة: هم جالوت وجنوده، وقال ابن جبير وابن إسحاق: هم سنحاريب ملك بابل وجنوده. وقيل: هم العمالقة، وقيل: بختنصر «1» .
وسنبين رأينا فيمن سلطه الله- تعالى- عليهم في المرتين، بعد تفسيرنا لهذه الآيات الكريمة.
فإن قال قائل: وما فائدة أن يخبر الله- تعالى- بنى إسرائيل في التوراة أنهم يفسدون في الأرض مرتين. وأنه يعاقبهم على ما كان منهم من استعلاء وطغيان، بأن يسلط عليهم من يذلهم ويقهرهم ويقضى عليهم؟.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 17.(8/291)
فالجواب: أن إخبارهم بذلك يفيد أن الله- عز وجل- لا يظلم الناس شيئا، وإنما يعاقبهم على ما يكون منهم من إفساد ويعفو عن كثير، وأن رحمته مفتوحة للعصاة متى تابوا وأنابوا وأصلحوا من شأن أنفسهم.
وهناك فائدة أخرى لهذا الإخبار، وهو تنبيه العقلاء في جميع الأمم أن يحذروا من مواقعة المعاصي التي تؤدى إلى الهلاك، وأن يحذروا أممهم من ذلك، ويبصروهم بسوء عاقبة السير في طريق الغي، حتى لا يعرضوا أنفسهم لعقاب الله- عز وجل-.
ومن فوائد إيراد هذا الخبر في القرآن الكريم، تنبيه اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلم ومن على شاكلتهم في الفسوق والعصيان من المشركين، إلى سنة من سنن الله في خلقه، وهي أن الإفساد عاقبته الخسران.
فعلى اليهود وغيرهم من الناس أن يتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي ثبتت نبوته ثبوتا لا شك فيه، لكي يسعدوا في دنياهم وآخرتهم.
ثم أشار- سبحانه- إلى الفائدة الثالثة من هذا الإخبار، وهي أن الأمم المغلوبة على أمرها. تستطيع أن تسترد مجدها، متى أصلحت من شأن أنفسها، ومتى استقامت على أمر الله- تعالى- فقال- سبحانه-: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً.
ففي هذه الآية الكريمة تذكير لبنى إسرائيل بجملة من نعم الله عليهم، بعد أن أصابهم ما أصابهم من أعدائهم.
أما النعمة الأولى فقد عبر عنها- سبحانه- بقوله: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.
والكرّة: المرة من الشيء: وأصلها من الكرّ وهو الرجوع، مصدر كريكر- من باب قتل-، يقال: كرّ الفارس كرّا، إذا فر للجولان ثم عاد للقتال.
والمراد بالكرة هنا: الدولة والغلبة على سبيل المجاز.
أى: ثم أعدنا لكم- يا بنى إسرائيل- الدولة والغلبة على أعدائكم الذين قهروكم وأذلوكم، بعد أن أحسنتم العمل، ورجعتم إلى الله- تعالى- واتبعتم ما جاءكم به رسلكم.
والتعبير بثم لإفادة الفرق الشاسع بين ما كانوا فيه من ذل وهوان، وما أفاءه الله عليهم بعد ذلك من نصر وظفر.
قال أبو حيان: وجعل- سبحانه- رَدَدْنا موضع نرد- إذ وقت إخبارهم لم يقع(8/292)
الأمر بعد- لأنه لما كان وعد الله في غاية الثقة في كونه سيقع، عبر عن المستقبل بالماضي «1» .
وأما النعمة الثانية فقد عبر عنها- سبحانه- بقوله: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ.
أى: لم نكتف بأن جعلنا النصر لكم على أعدائكم، بل فضلا عن ذلك، أمددناكم بالكثير من الأموال والأولاد، بعد أن نهب أعداؤكم أموالكم، وقتلوا الكثيرين من أبنائكم.
وأما النعمة الثالثة فتتجلى في قوله- تعالى-: وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً.
والنفير: من ينفر مع الرجل من قومه لنصرته ومؤازرته، وهو منصوب على التمييز.
والمفضل عليه محذوف، والتقدير: وجعلناكم أكثر عددا وقوة من أعدائكم الذين جاسوا خلال دياركم..
فمن الواجب عليكم أن تقدروا هذه النعم، وأن تحسنوا الاستفادة منها، بأن تشكروا الله- تعالى- وتخلصوا له العبادة والطاعة، فقد نصركم بعد هزيمتكم، وأغناكم بعد فقركم، وكثّركم بعد قتلكم.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك سنة من سننه التي لا تتخلف، وهي أن الإحسان عاقبته الفلاح، والعصيان عاقبته الخسران، وأن كل إنسان مسئول عن عمله، ونتائج هذا العمل- سواء أكانت خيرا أم شرا- لا تعود إلا عليه، فقال- تعالى-: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها.
أى: إن أحسنتم- أيها الناس- أعمالكم، بأن أديتموها بالطريقة التي ترضى الله- تعالى- أفلحتم وسعدتم، وجنيتم الثمار الطيبة التي تترتب على هذا الإحسان للعمل، وإن أسأتم أعمالكم، بأن آثرتم الأعمال السيئة على الأعمال الحسنة، خسرتم وشقيتم وتحملتم وحدكم النتائج الوخيمة التي تترتب على إتيان الأعمال التي لا ترضى الله- تعالى-.
وقد رأيتم كيف أن الإفساد كانت عاقبته أن بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ.
وكيف أن الإحسان كانت عاقبته أن رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ على أعدائكم وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً.
قال صاحب البحر ما ملخصه: وجواب «وإن أسأتم» قوله «فلها» وهو خبر لمبتدأ محذوف أى: فالإساءة لها. قال الكرماني: قال- سبحانه-: فَلَها باللام ازدواجا.
__________
(1) تفسير أبى حيان ج 6 ص 10.(8/293)
أى: أنه قابل لِأَنْفُسِكُمْ بقوله فَلَها. وقال الطبري اللام بمعنى إلى أى: فإليها ترجع الإساءة.
وقيل: اللام بمعنى على. أى: فعليها، كما في قول الشاعر: فخر صريعا لليدين وللفم «1» .
ثم بين- سبحانه- ما يحل بهم من دمار، بعد إفسادهم للمرة الثانية، فقال- تعالى-:
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ، لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً.
والكلام أيضا هنا على حذف مضاف، وجواب إذا محذوف دل عليه ما تقدم وهو قوله بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا فإذا جاء وقت عقوبتكم يا بنى إسرائيل على إفسادكم الثاني في الأرض، بعثنا عليكم أعداءكم ليسوءوا وجوهكم أى: ليجعلوا آثار المساءة والحزن بادية على وجوهكم، من شدة ما تلقونه منهم من إيداء وقتل.
قال الجمل ما ملخصه: وقوله لِيَسُوؤُا الواو للعباد أولى البأس الشديد.
وفي عود الواو على العباد نوع استخدام، إذ المراد بهم أولا جالوت وجنوده، والمراد بهم هنا بختنصر وجنوده.
وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء المفتوحة والهمزة المفتوحة آخر الفعل ليسوء والفاعل إما الله- تعالى- وإما الوعد، وإما البعث.
وقرأ الكسائي لنسوء- بنون العظمة. أى: لنسوء نحن وهو موافق لما قبله، من قوله:
بعثنا، ورددنا، وأمددنا، ولما بعده من قوله: عدنا، وجعلنا، وقرأ الباقون. ليسوءوا، مسندا إلى ضمير الجمع العائد على العباد، وهو موافق لما بعده من قوله: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ وَلِيُتَبِّرُوا «2» .
وقال الإمام الرازي: ويقال ساءه يسوءه إذا أحزنه، وإنما عزا- سبحانه- الإساءة إلى الوجوه، لأن آثار الأعراض النفسية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهر الإشراق في الوجه، وإن حصل الحزن والخوف في القلب، ظهر الكلوح في الوجه «3» .
وقوله- سبحانه-: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ معطوف على ما قبله وهو قوله- سبحانه- لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ.
__________
(1) تفسير البحر المحيط ج 6 ص 11.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 617.
(3) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 159.(8/294)
والمراد بالمسجد: المسجد الأقصى الذي ببيت المقدس، وقوله «كما دخلوه» صفة لمصدر محذوف.
والمعنى: وليدخلوا المسجد دخولا كائنا كدخولهم إياه أول مرة.
قال أبو حيان: ومعنى كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أى بالسيف والقهر والغلبة والإذلال «1» .
أى: أن المراد من التشبيه، بيان أن الأعداء في كل مرة أذلوا بنى إسرائيل وقتلوهم وقهروهم.
وقوله- تعالى-: وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً يشعر بشدة العقوبة التي أنزلها أولئك العباد ببني إسرائيل، إذ التتبير معناه الإهلاك والتدمير والتخريب لكل ما تقع عليه. ومنه قول الشاعر:
وما الناس إلا عاملان فعامل ... يتبر ما يبنى وآخر رافع
أى: يخرب ويهد ما يبنى.
و «ما» في قوله ما عَلَوْا اسم موصول مفعول يتبروا: وهو عبارة عن البلاد والأماكن التي هدموها، والعائد محذوف، وتتبيرا مفعول مطلق مؤكد لعامله.
أى: وليدمرا ويخربوا البلاد والأماكن التي علوا عليها، وصارت في حوزتهم، تدميرا تاما لا مزيد عليه.
وبذلك نرى أن العباد الذين سلطهم الله- تعالى- على بنى إسرائيل، عقب إفسادهم الثاني في الأرض، لم يكتفوا بجوس الديار، بل أضافوا إلى ذلك إلقاء الحزن والرعب في قلوبهم، ودخول المسجد الأقصى فاتحين ومخربين، وتدمير كل ما وقعت عليه أيديهم تدميرا فظيعا لا يوصف.
ثم ختم- سبحانه- الآيات الكريمة ببيان أن هذا الدمار الذي حل ببني إسرائيل بسبب إفسادهم في الأرض مرتين، قد يكون طريقا لرحمتهم، وسببا في توبتهم وإنابتهم، إن فتحوا قلوبهم للحق، واعتبروا بالأحداث الماضية، وفهموا عن الله- تعالى- سنته التي لا تتخلف، وهي أن الإحسان يؤدى إلى الفلاح والظفر، والإفساد يؤدى إلى الخسران والهلاك.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه المعاني أبلغ تعبير وأحكمه. فقال- تعالى-: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً.
__________
(1) تفسير البحر المحيط ج 5 ص 11.(8/295)
أى: عسى ربكم أن يرحمكم: ويعفو عنكم يا بنى إسرائيل متى أخلصتم له العبادة والطاعة، وأصلحتم أقوالكم وأعمالكم، فقد علمتم أنه- سبحانه- لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفعه إلا بتوبة.
قال: أبو حيان: وهذه الترجية ليست لرجوع دولة، وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمدا- عليهما السلام- ولكنهم لم يفعلوا «1» .
وقوله- سبحانه-: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا إنذار لهم بإنزال العقوبات عليهم، إن عادوا إلى فسادهم وإفسادهم.
أى: وإن عدتم إلى المعاصي ومخالفة أمرى، وانتهاك حرماتى، بعد أن تداركتكم رحمتي، عدنا عليكم بالقتل والتعذيب وخراب الديار.
ولقد عادوا إلى الكفر والفسوق والعصيان، حيث أعرضوا عن دعوة الحق التي جاءهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بهذا الإعراض بل هموا بقتله صلى الله عليه وسلم وأيدوا كل متربص بالإسلام والمسلمين، فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما يستحقون من إجلاء وتشريد وقتل..
قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: «عادوا فسلط الله عليهم المؤمنين» .
ثم بين- سبحانه- عقوبتهم في الآخرة فقال: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أى: إن عدتم إلى معصيتنا في الدنيا عدنا عليكم بالعقوبة الرادعة، أما في الآخرة فقد جعلنا جهنم للكافرين منكم ومن غيركم «حصيرا» أى: سجنا حاصرا لكم لا تستطيعون الهروب منه، أو الفكاك عنه، أو فراشا تفترشونه، كما قال- تعالى-: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
قال بعض العلماء: قوله حَصِيراً فيه وجهان: الأول: أن الحصير المحبس والسجن. من الحصر وهو الحبس: يقال حصره يحصره حصرا، إذا ضيق عليه وأحاط به.
والثاني أن الحصير: البساط والفراش، من الحصير الذي يفرش، لأن العرب تسمى البساط الصغير حصيرا..» «2» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد حكت لنا قضاء الله- تعالى- في بنى إسرائيل، وساقت لنا لكي نعتبر ونتعظ ألوانا من سنن الله- تعالى- التي لا تتخلف، والتي من أبرزها أن
__________
(1) تفسير البحر المحيط ج 6 ص 11.
(2) تفسير أضواء البيان ج 3 ص 372 للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.(8/296)
الإيمان والصلاح عاقبتهما الفلاح، وأن الكفر والفساد عاقبتهما الشقاء، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
هذا، والذي يراجع ما قاله المفسرون في بيان العباد الذين سلطهم الله- تعالى- على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول والثاني في الأرض، يرى أقوالا متعددة يبدو على كثير منها الاضطراب والضعف «1» .
ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود- رضى الله عنهما- أن الله- تعالى- عهد إلى بنى إسرائيل في التوراة لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ فكان أول الفسادين قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، وكان يدعى «صحابين» فبعث الجنود، وكانوا من أهل فارس.. فتحصنت بنو إسرائيل.. ودخل فيهم «بختنصر» - أحد جنود صحابين- وسمع أقوالهم.. إلخ «2» .
وهذا الأثر من وجوه ضعفه، أن غزو النبط ومعهم بختنصر لبنى إسرائيل سابق على زمان زكريا- عليه السلام- بحوالى ستة قرون.
لأن الثابت تاريخيا أن بختنصر غزا بنى إسرائيل وانتصر عليهم ثلاث مرات: الأولى في سنة 606 ق. م والثانية في سنة 599 ق. م، والثالثة في سنة 588 ق. م.
وفي هذه المرة الثالثة أكثر القتل فيهم، وساق الأحياء منهم أسارى إلى أرض بابل.
أما زكريا- عليه السلام- فمن المعروف أنه كان معاصرا لعيسى- عليه السلام- أو مقاربا لعصره: فقد أخبرنا القرآن الكريم أن زكريا هو الذي تولى كفالة مريم أم عيسى.
وإذا فالقول بأن إفسادهم الأول كان لقتلهم زكريا، وأن المسلط عليهم ملك النبط ومع «بختنصر» يتنافى مع الحقائق التاريخية.
وفضلا عن ذلك، فإن هذا الأثر اضطرابه ظاهر، لأن «صحابين» ملك النبط، هو الذي يسميه المؤرخون «سنحاريب» وكان ملكا للأشوريين، وهو الذي غزا مملكة يهوذا سنة 713 ق. م أى قبل غزو بختنصر لها بأكثر من مائة سنة، أى: أن بختنصر لم يكن معاصرا له.
والرأى الذي نختاره: هو أن العباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم
__________
(1) ذكرنا معظم هذه الأقوال في كتابنا «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» ج 2 ص 359 وناقشناها، وضعفنا ما يستحق التضعيف منها، ورجحنا ما يستحق الترجيح.
(2) تفسير ابن جرير ج 16 ص 17- بتصرف وتلخيص. [.....](8/297)
الأول، هم جالوت وجنوده. ونستند في اختيارنا لهذا الرأى إلى أمور من أهمها ما يلي:.
1- ذكر القرآن الكريم في سورة البقرة، عند عرضه لقصة القتال الذي دار بين طالوت قائد بنى إسرائيل، وبين «جالوت» قائد أعدائهم، ما يدل على أن بنى إسرائيل كانوا قبل ذلك مقهورين مهزومين من أعدائهم.
ويتجلى هذا المعنى في قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا ...
فقولهم- كما حكى القرآن عنهم- وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا.. يدل دلالة قوية، على أنهم كانوا قبل قتالهم لجالوت مهزومين هزيمة اضطرتهم إلى الخروج عن ديارهم، وإلى مفارقة أبنائهم.
2- قوله- تعالى-: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ صريح في أن الله- تعالى- نصر بنى إسرائيل- بعد أن تابوا وأنابوا- على أعدائهم.
وهذا المعنى ينطبق على ما قصه القرآن علينا، من أن بنى إسرائيل بقيادة طالوت قد انتصروا على جالوت وجنوده..
قال- تعالى-: وَلَمَّا بَرَزُوا «1» لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ، قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ، وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ...
ولقد كان هذا النصر نعمة كبرى لبنى إسرائيل، فقد جاءهم بعد أن أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، وبعد أن اعترضوا على اختيار طالوت ملكا عليهم، وبعد أن قاتل مع طالوت عدد قليل منهم. ولا شك أن النصر في هذه الحالة، أدعى لطاعة الله- تعالى- وشكره على آلائه.
3- قوله- تعالى-: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أكثر ما يكون انطباقا على عهد حكم طالوت، وداود، وسليمان لهم.
ففي هذا العهد الذي دام زهاء ثمانين سنة، ازدهرت مملكتهم، وعز سلطانهم وأمدهم الله خلاله بالأموال الوفيرة، وبالبنين الكثيرة، وجعلهم أكثر من أعدائهم عددا وقوة.
__________
(1) أى بنو إسرائيل.(8/298)
أما بعد هذا العهد، بل وقبل هذا العهد، فقد كانت حياتهم سلسلة من المآسى والنكبات..
فبعد موت سليمان- عليه السلام- سنة 975 ق. م تقريبا، انقسمت مملكتهم إلى قسمين: مملكة يهوذا في الجنوب، ومملكة إسرائيل في الشمال، واستمرتا في صراع ونزاع حتى قضى الآشوريون سنة 721 ق. م على مملكة إسرائيل، وقضى «بختنصر» على مملكة يهوذا سنة 588 ق. م.
4- ذكر بعض المفسرين أن العباد الذين سلطهم الله عليهم بعد إفسادهم الأول هم جالوت وجنوده.
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس في قوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: بعث الله عليهم في الأولى جالوت، فجاس خلال ديارهم، فسألوا الله- تعالى- أن يبعث لهم ملكا، فبعث لهم طالوت، فقاتلوا جالوت، وانتصروا عليه، وقتل داود جالوت، ورجع إلى بنى إسرائيل ملكهم. فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرة الآخرة «بختنصر» فخرب المساجد، وتبر ما علوا تتبيرا.. «1» .
هذه بعض الأدلة التي تجعلنا نرجح أن المراد بالعباد الذين سلطهم الله- تعالى- على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول في الأرض، هم جالوت وجنوده.
أما العباد الذين سلطهم الله عليهم بعد إفسادهم الثاني، فيرى كثير من المفسرين أنهم «بختنصر» وجنوده.
وهذا الرأى ليس ببعيد عن الصواب، لما ذكرنا قبل ذلك من تنكيله بهم، وسوقهم أسارى إلى بابل سنة 588 ق. م.
إلا أننا نؤثر على هذا الرأى، أن يكون المسلط عليهم بعد إفسادهم الثاني، هم الرومان بقيادة زعيمهم، تيطس سنة 70 م. لأمور من أهمها:.
1- أن الذي يتتبع التاريخ يرى أن رذائل بنى إسرائيل في الفترة التي سبقت تنكيل «تبطس» بهم، أشد وأكبر من الرذائل التي سبقت إذلال «بختنصر» لهم. فهم- على سبيل المثال- قبيل بطش الرومان بهم، كانوا قد قتلوا من أنبياء الله زكريا ويحيى- عليهما السلام-، وكانوا قد حاولوا قتل عيسى- عليه السلام- ولكن الله- تعالى- نجاه من شرورهم.
__________
(1) تفسير الدر المنثور للسيوطي ج 4 ص 163.(8/299)
2- ضربات الرومان- في ذاتها- كانت أشد وأقسى على بنى إسرائيل. من ضربات «بختنصر» لهم.
فمثلا عدد القتلى من اليهود على يد الرومان بقيادة «تيطس» بلغ مليون قتيل، وبلغ عدد الأسرى نحو مائة ألف أسير «1» .
بينما عدد القتلى والأسرى منهم على يد «بختنصر» كان أقل من هذا العدد بكثير.
ولقد وصف المؤرخون النكبة التي أوقعها الرومان بهم، بأوصاف تفوق بكثير ما أوقعه البابليون بقيادة بختنصر بهم.
يقول أحد الكتاب واصفا ما حل باليهود على يد «تيطس» الرومانى: كان «تيطس» في الثلاثين من عمره، حين وقف سنة 70 م أمام أسوار أورشليم على رأس جيشه، بعد أن بدأت المدينة تعانى من أهوال الحصار.
وبعد أن اقتحم «تيطس» وجنوده المدينة، أصدر أمره إليهم: أن احرقوا وانهبوا واقتلوا، فأموال اليهود وأعراضهم حلال لكم، وقد أحرق الرومان معبد اليهود ودمروه، وتحققت نبوءة المسيح- عليه السلام- حين قال: ستلقى هذه الأرض بؤسا وعنتا، وسيحل الغضب على أهلها، وسيسقطون صرعى على حد السيف، ويسيرون عبيدا إلى كل مصر، وستطأ أورشليم الأقدام «2» .
3- النكبة التي أنزلها الرومان بهم- من حيث آثارها- أشنع بكثير من النكبة التي أنزلها بختنصر بهم. لأنهم بعد تنكيل بختنصر بهم وأخذهم أسرى إلى بلاده وبقائهم في الأسر زهاء خمسين سنة عادوا إلى ديارهم مرة أخرى، بمساعدة «قورش» ملك الفرس، الذي انتصر على «بختنصر» سنة 538 ق. م تقريبا، وبدءوا يتكاثرون من جديد.
أما بعد تنكيل «تيطس» بهم فلم تقم لهم قائمة، ومزقوا في الأرض شر ممزق، وانقطع دابرهم كأمة.
وقد صرح بهذا المعنى صاحب تاريخ الإسرائيليين فقال بعد وصفه لما أوقعه «تيطس» بهم من ضربات: إلى هنا ينتهى تاريخ الإسرائيليين كأمة، فإنهم بعد خراب أورشليم على يد «تيطس» تفرقوا في جميع بلاد الله، وتاريخهم بعد ذلك ملحق بتاريخ الممالك التي توطنوها أو نزلوا فيها «3» ...
__________
(1) من كتاب «تاريخ الإسرائيليين» ص 76 لشاهين مكاريوس.
(2) من مقال للاستاذ عمر طلعت زهران عنوانه «تدمير أورشليم» نشر بمجلة الأزهر المجلد 21 ص 47.
(3) تاريخ الإسرائيليين ص 77 لشاهين مكاريوس.(8/300)
ولهذه الأسباب نرجح أن يكون العباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الثاني في الأرض، هم الرومان بقيادة «تيطس» .
هذا، ومع ترجيحنا بأن المسلط عليهم في المرة الأولى، هم جالوت وجنوده وفي المرة الثانية هم الرومان بقيادة «تيطس» .
أقول مع ترجيحنا لذلك، إلا أننا نحب في نهاية حديثنا عن هذه الآيات الكريمة، أن نقرر ما يأتى:
1- أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث في بيان المراد بالعباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل عقب مرتى إفسادهم، وإلا لذكره المفسرون.
2- أن الإفساد في الأرض قد حدث كثيرا من بنى إسرائيل، وأن المقصود من قوله- تعالى- لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ إنما هو أظهر وأبرز مرتين حدث فيهما الإفساد منهم.
ومما يدل على أن هذا الإفساد قد تكرر منهم قوله- تعالى-: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وقوله- تعالى-: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «1» .
3- أن المقصود من سياق الآيات، إنما هو بيان سنة من سنن الله في الأمم حال صلاحها وفسادها.
وقد ساق القرآن الكريم هذا المعنى بأحكم عبارة، وذلك في قوله- تعالى-: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها.
ولا شك أن هذه السنة ماضية في الأمم دون تبديل أو تحويل في كل زمان ومكان.
وما دام هذا هو المقصود، ففهمه لا يتوقف على تحديد مرتى إفسادهم، وتحديد المسلط عليهم عقب كل مرة.
ويعجبني في هذا المقام، قول الإمام ابن كثير: «وقد وردت في هذا- أى في المسلط عليهم في المرتين- آثار كثيرة إسرائيلية، لم أر تطويل الكتاب بذكرها، لأن منها ما هو موضوع من وضع زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم.
وقد أخبر الله- تعالى- أنهم لما بغوا وطغوا سلط عليهم عدوهم، فاستباح بيضتهم وسلك
__________
(1) سورة الأعراف الآية 167.(8/301)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء» «1» .
وقول الإمام الرازي: «واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي. سلط عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم» «2» .
وقد بسطنا في تفسير هذه الآيات الكريمة، بصورة أكثر تفصيلا في غير هذا المكان، فليرجع إليه من شاء الاستزادة «3» .
وبعد أن بين- سبحانه- أنه قد آتى موسى- عليه السلام- التوراة لتكون هداية لبنى إسرائيل، وأنه- عز وجل- قد قضى فيهم بقضائه العادل. أتبع ذلك بالثناء على القرآن الكريم، فقال- تعالى-:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين، وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيتاء الكتاب لموسى- عليه السلام-، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة، ومعصيته توجب كل بلية وغرامة، لا جرم أثنى- سبحانه- على القرآن فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «4» .
والفعل يَهْدِي مأخوذ من الهداية، ومعناها: الإرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى البغية. والمفعول محذوف. أى: يهدى الناس.
__________
(1) تفسير ابن كثير المجلد 5 ص 44.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 156.
(3) راجع كتابنا «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» ج 2 من ص 347 إلى ص 396.
(4) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 160.(8/302)
وقوله- سبحانه- لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صفة لموصوف محذوف، أى يهدى الناس إلى الطريقة أو الملة التي هي أقوم.
قال صاحب الكشاف: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أى: للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها، أو للملة أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إيهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه «1» .
والمعنى: إن هذا القرآن الكريم، الذي أنزله الله- تعالى- عليك يا محمد صلى الله عليه وسلم، يرشد الناس ويدلهم ويهديهم- في جميع شئونهم الدينية والدنيوية- إلى الملة التي هي أقوم الملل وأعدلها، وهي ملة الإسلام. فمنهم من يستجيب لهذه الهداية فيظفر بالسعادة، ومنهم من يعرض عنها فيبوء بالشقاء.
قال صاحب الظلال ما ملخصه: إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية، ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدى للتي هي أقوم، في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله.
ويهدى للتي هي أقوم في عالم العبادة، بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل، ولا تسهل حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدى للتي هي أقوم، في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا.
ويهدى للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع، ونظام التعامل.. «2» .
وقوله- سبحانه-: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً صفة ثانية من صفات القرآن الكريم.
أى: أن هذا القرآن بجانب هدايته للتي هي أقوم، فهو- أيضا- يبشر المؤمنين الذين
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 439.
(2) في ظلال القرآن ج 15 ص 2215.(8/303)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
يعملون الأعمال الصالحات بأن لهم أجرا كبيرا من خالقهم- عز وجل-: أجرا كبيرا لا يعلم مقداره إلا مسديه ومانحه، وهو الله رب العالمين.
وقوله- سبحانه-: وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً بيان لسوء عاقبة الذين لا يستجيبون لهداية القرآن الكريم، وهو معطوف على قوله- تعالى-:
أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً.
أى: أن هذا القرآن يبشر المؤمنين بالأجر الكبير، ويبشر- على سبيل التهكم- الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب بالعذاب الأليم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وتخصيص الآخرة بالذكر من بين سائر ما لم يؤمن به الكفرة، لكونها أعظم ما أمروا بالإيمان به، ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها، الذي أنبأ عنه قوله- تعالى-: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب جهنم. أى: أعددنا وهيأنا لهم، فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا أليما.
والآية معطوفة على قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً فيكون إعداد العذاب الأليم للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين، ومصيبة العدو سرور يبشر به، فكأنه قيل: يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم.. «1» .
ثم بين- سبحانه- بعض الأحوال التي قد يقدم الإنسان فيها على طلب ما يضره بسبب عجلته واندفاعه فقال- تعالى-:.
[سورة الإسراء (17) : آية 11]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
والمراد بالإنسان هنا: الجنس وليس واحدا معينا.
قال الآلوسى: وقوله: دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أى: دعاء كدعائه بالخير، فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية «2» .
والمعنى: ويدعو الإنسان حال غضبه وضجره، على نفسه، أو على غيره، بِالشَّرِّ كأن يقول: «اللهم أهلكنى، أو أهلك فلانا..» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 22.
(2) الآلوسي ج 15 ص 23. [.....](8/304)
دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أى: يدعو بالشر على نفسه أو على غيره، كدعائه بالخير، كأن يقول: اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين.
قال ابن كثير: يخبر- تعالى- عن عجلة الإنسان، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده، أو ماله، بِالشَّرِّ أى: بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال- تعالى-:.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ...
وفي الحديث: «لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها» «1» .
وقيل المراد بالإنسان هنا: الكافر، أو الفاسق الذي يدعو الله- تعالى- بالشر، كأن يسأله بأن ييسر له أمرا محرما كالقتل والسرقة والزنا وما يشبه ذلك.
وقد أشار القرطبي إلى هذا الوجه بقوله: «وقيل نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول- كما حكى القرآن عنه-: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور، كما يدعو في طلب المباح. كما في قول الشاعر:
أطوف بالبيت فيمن يطوف ... وأرفع من مئزرى المسبل
واسجل بالليل حتى الصباح ... وأتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الهم عن يوسف ... يسخر لي ربة المحمل «2»
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأنه المأثور عن بعض الصحابة والتابعين وهم أدرى بتفسير كتاب الله من غيرهم.
قال ابن جرير- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: عن ابن عباس قال في قوله- تعالى-: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ.. يعنى قول الإنسان اللهم العنه واغضب عليه، فلو يعجل له الله ذلك كما يعجل له الخير لهلك ...
وقال قتادة: يدعو على ماله فيلعن ماله، ويدعو على ولده، ولو استجاب الله له لأهلكه.
وقال مجاهد: ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته ولا يحب أن يجاب «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 46.
(2) تفسير القرطبي ج 10 ص 225.
(3) تفسير ابن جرير ج 15 ص 37.(8/305)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
وقوله- تعالى-: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا بيان للسبب الذي حمل الإنسان على أن يدعو بالشر كما يدعو بالخير.
والعجول من العجل- بفتح العين والجيم- وهو الإسراع في طلب الشيء قبل وقته.
يقال: عجل- بزنة تعب- يعجل فهو عجلان، إذا أسرع.
أى: وكان الإنسان متسرعا في طلب كل ما يقع في قلبه، ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأنى المتبصر، ولا يتأمل تأمل المتدبر.
وشبيه بهذه الجملة قوله- تعالى-: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ «1» .
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته، وسعة رحمته بعباده، ومجازاتهم على أعمالهم يوم القيامة فقال- تعالى-:.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 15]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 37.(8/306)
قال أبو حيان: قوله- تعالى- وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. لما ذكر- سبحانه- القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة، ذكر ما أنعم به مما لم يمكن الانتفاع إلا به، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي. وأيضا لما ذكر عجلة الإنسان، وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك في الانتقال لا يثبت على حال، فنور عقب ظلمة وبالعكس، وازدياد نور وانتقاص آخر «1» .
والمراد بالآيتين هنا: العلامتان الواضحتان، الدالتان على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته.
وقوله: فَمَحَوْنا من المحو بمعنى إزالة أثر الشيء، يقال: محا فلان الشيء محوا- من باب قتل- إذا أزال أثره.
وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهات: أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه، أن المراد بالآيتين: نفس الليل والنهار، وأن الكلام ليس فيه حذف.
فيكون المعنى: وجعلنا الليل والنهار- بهيئاتهما الثابتة، وتعاقبهما الدائم، واختلافهما طولا وقصرا- آيتين كونيتين كبيرتين، دالتين على أن لهما صانعا قادرا، حكيما، هو الله رب العالمين.
وقوله- سبحانه- فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أى: فجعلنا الآية التي هي الليل. ممحوة الضوء، مظلمة الهيئة، مختفية فيها الأشياء، ساكنة فيها الحركات.
وقوله- تعالى-: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أى: وجعلنا الآية التي هي النهار مضيئة، تبصر فيها الأشياء وترى بوضوح وجلاء.
وعلى هذا الاتجاه، تكون إضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه، مع اختلاف اللفظ، تنزيلا لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى، كما في قوله- تعالى- شَهْرُ رَمَضانَ فرمضان هو نفس الشهر.
وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الكلام على حذف مضاف، وأن المراد بالآيتين:
الشمس والقمر، فيكون المعنى: وجعلنا نيرى الليل والنهار- وهما الشمس والقمر- آيتين دالتين على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته، فمحونا آية الليل- وهي القمر-، بأن أزلنا عنه شعاعه وضياءه، ولم نجعله كالشمس في ذلك، وجعلنا آية النهار- وهي الشمس- مبصرة، أى: ذات شعاع وضياء يبصر في ضوئها الشيء على حقيقته.
__________
(1) تفسير البحر المحيط ج 6 ص 14.(8/307)
وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين دون أن يرجح بينهما فقال: قوله- تعالى-:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. فيه وجهان: أحدهما: أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أى:
فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة.
والثاني: أن يراد: وجعلنا نيرى الليل والنار آيتين، يريد الشمس والقمر ...
أى: فمحونا آية الليل التي هي القمر، حيث لم نخلق له شعاعا كشعاع الشمس تبصر به الأشياء، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء «1» .
والذي نراه: أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ولأنه لا يحتاج إلى تقدير، وما كان كذلك أولى مما يحتاج إلى تقدير، ولأن الليل والنهار هما بذاتهما من أظهر العلامات والأدلة على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته.
وهناك عشرات الآيات القرآنية في هذا المعنى، ومن ذلك قوله- تعالى- وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ «2» .
وقوله- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... «3» .
وقال- تعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «4» إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي أوردها الله- تعالى- في هذا المعنى.
وقوله- سبحانه-: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ بيان لمظهر من مظاهر حكمته- تعالى- ورحمته بعباده.
والجملة الكريمة متعلقة بما قبلها، وهو قوله- سبحانه-: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أى: جعلنا النهار مضيئا، لتطلبوا فيه ما تحتاجونه من أمور معاشكم، ومن الأرزاق التي قسمها الله بينكم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وفي التعبير عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء: دلالة على أنه ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب، وإنما الإعطاء من الله- تعالى-
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 440.
(2) سورة يس الآية 37.
(3) سورة فصلت الآية 37.
(4) سورة آل عمران الآية 190.(8/308)
بطريق التفضل.. «1» .
وشبيه بهذه الجملة الكريمة قوله- تعالى-: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
فقوله- تعالى-: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يعود إلى الليل. وقوله- تعالى-: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعود على النهار.
ثم بين- سبحانه- حكمة أخرى ونعمة أخرى لجعله الليل والنهار على هذه الهيئة فقال:
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.
أى: وجعلنا الليل والنهار على هذه الصفة من التعاقب والاختلاف في الطول والقصر لتعرفوا عن طريق ذلك عدد الأيام والشهور والأعوام، التي لا تستغنون عن معرفتها في شئون حياتكم، ولتعرفوا- أيضا- الحساب المتعلق بها في معاملاتكم، وبيعكم وشرائكم، وأخذكم وعطائكم، وصلاتكم، وصيامكم، وزكاتكم، وحجكم، وأعيادكم.. وغير ذلك مما تتوقف معرفته على تقلب الليل والنهار. وولوج أحدهما في الآخر.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا.
والتفصيل: من الفصل بمعنى القطع. والمراد به هنا: الإبانة التامة للشيء بحيث يظهر ظهورا لا خفاء معه ولا التباس.
ولفظ كُلَّ منصوب على الاشتغال بفعل يفسره ما بعده.
أى: وفصلنا كل شيء تحتاجون إليه في أمور دينكم ودنياكم، تفصيلا، واضحا جليا، لا خفاء معه ولا التباس، فقد أقمنا هذا الكون على التدبير المحكم، وعلى الصنع المتقن، وليس على المصادفات التي لا تخضع لنظام أو ترتيب.
ثم ساق- سبحانه- صورة من صور هذا التفصيل المحكم في كل شيء فقال- تعالى-: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
والمراد بطائره: عمله الصادر عنه باختياره وكسبه، حسبما قدره الله- تعالى- عليه من خير وشر.
أى: وألزمنا كل إنسان مكلف عمله الناتج عنه، إلزاما لا فكاك له منه، ولا قدرة له على مفارقته.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 30.(8/309)
وعبر- سبحانه- عن عمل الإنسان بطائره، لأن العرب كانوا- كما يقول الآلوسى- يتفاءلون بالطير، فإذا سافروا ومر بهم الطير زجروه، فإن مر بهم سانحا- أى من جهة الشمال إلى اليمين- تيمنوا وتفاءلوا، وإن مر بارحا، أى: من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير استعارة تصريحية، لما يشبههما من قدر الله- تعالى- وعمل العبد، لأنه سبب للخير والشر «1» .
وقوله- سبحانه-: فِي عُنُقِهِ تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط بين الإنسان وعمله.
وخص- سبحانه- العنق بالذكر من بين سائر الأعضاء، لأن اللزوم فيه أشد، ولأنه العضو الذي تارة يكون عليه ما يزينه كالقلادة وما يشبهها، وتارة يكون فيه ما يشينه كالغل والقيد وما يشبههما.
قال الامام ابن كثير: وطائره: هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد- من خير أو شر، يلزم به ويجازى عليه: كما قال- تعالى-: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وكما قال- تعالى-: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه، قليله وكثيره: ويكتب عليه ليلا ونهارا، صباحا ومساء «2» .
وقوله- سبحانه-: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً بيان لحاله في الآخرة بعد بيان حاله في الدنيا.
والمراد بالكتاب هنا صحائف أعماله التي سجلت عليه في الدنيا.
أى: ألزمنا كل إنسان مكلف عمله الصادر عنه في الدنيا، وجعلناه مسئولا عنه دون غيره. أما في الآخرة فسنخرج له ما عمله من خير أو شر «في كتاب يلقاه منشورا» أى:
مفتوحا بحيث يستطيع قراءته، ومكشوفا بحيث لا يملك إخفاء شيء منه، أو تجاهله، أو المغالطة فيه.
كتاب ظهرت فيه الخبايا والأسرار ظهورا يغنى عن الشهود والجدال.
كتاب مشتمل على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإنسان، كما قال- تعالى-: وَنَضَعُ
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 31.
(2) تفسير ابن كثير ج 5 ص 47.(8/310)
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ «1» .
ثم بين- سبحانه- ما يخاطب به الإنسان بعد أن فتح كتابه أمامه، فقال- تعالى- اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً.
أى: ويقال له بعد أن وجد كتابه منشورا أمامه، اقرأ كتابك هذا، وما اشتمل عليه من أعمال صدرت عنك في الدنيا، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.
أى: محاسبا، كجليس بمعنى مجالس، أو حاسبا وعادّا كصريم بمعنى صارم يقال حسب فلان على فلان قوله، إذا عده عليه.
ولفظ كَفى هنا لازم، ويطرد في هذه الحالة جر فاعله بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية و «حسيبا» تمييز، وعليك متعلق به.
وتارة يأتى لفظ «كفى» متعديا، كما في قوله- تعالى-: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ.
ثم ساق- سبحانه- قاعدة كلية، لتحمل كل إنسان نتيجة عمله، فقال- تعالى-:
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
والفعل تَزِرُ من الوزر بمعنى الإثم والحمل والثقل. يقال: وزر يزر وزرا، أى:
أثم، أو حمل حملا ثقيلا، ومنه سمى الوزير، لأنه يحمل أعباء تدبير شئون الدولة.
أى: من اهتدى إلى الطريق المستقيم، وقدم في حياته العمل الصالح فثمرة هدايته راجعة إلى نفسه، ومن ضل عن الطريق القويم، وفسق عن أمر ربه فوبال ضلاله راجع إليه وحده، ولا تحمل نفس آثمة، إثم نفس أخرى، وإنما تسأل كل نفس عن آثامها فحسب.
وقد تكرر هذا المعنى في كثير من آيات القرآن الكريم ومن ذلك قوله- تعالى-:
وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2» .
وقوله- تعالى-: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى.. «3» .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 47.
(2) سورة الأنعام الآية 164. [.....]
(3) سورة فاطر الآية 18.(8/311)
ولا يتنافى هذا مع قوله- تعالى-: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ.. «1» .
وقوله- تعالى-: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. «2» .
لأن المقصود في هاتين الآيتين وأشباههما، أن دعاة الكفر والفسوق والعصيان، يحملون ذنوبهم يوم القيامة، ويحملون فوق ذلك جانبا من ذنوب من كانوا هم سببا في ضلالهم، لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها- كما جاء في الحديث الصحيح- فهم يحملون آثام أنفسهم، والآثام التي كانوا سببا في ارتكاب غيرهم لها.
كذلك لا يتنافى قوله- تعالى-: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى مع ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما من «أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه..» .
لأن العلماء حملوا الحديث على أن يكون الميت قد أوصى بذلك قبل موته، أو أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه ويشقون الجيوب، ويلطمون الخدود.. فتعذيبه بسبب تفريطه، وعدم تنفيذه لقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ.. «3» .
وقوله- تعالى-: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله- تعالى- بعباده- ورأفته بهم، وكرمه معهم.
قال الآلوسى: قوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا بيان للعناية الربانية إثر بيان آثار الهداية والضلالة بأصحابها، وعدم حرمان المهتدى من ثمرات هدايته. وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها.
أى: وما صح وما استقام منا، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة.. أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا، على فعل شيء أو ترك شيء أصليا كان أو فرعيا، حتى نبعث إليه رَسُولًا يهدى إلى الحق، ويردع عن الضلال، ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع.. «4» .
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم، تشبه هذه الآية، في بيان أن الله- تعالى-
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 13.
(2) سورة النحل الآية 25.
(3) سورة التحريم الآية 6.
(4) تفسير الآلوسى ج 15 ص 37.(8/312)
لا يعذب أحدا من خلقه، حتى يبعث إليه رسولا يبشره وينذره، فيعصى ذلك الرسول، ويستمر في كفره وضلاله بعد التبشير والإنذار.
ومن هذه الآيات قوله- تعالى-: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً «1» .
وقوله- تعالى-: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى «2» .
وقوله- تعالى-: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ.. «3» .
قال ابن كثير عند تفسيره لقوله- تعالى-: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا:
هذا إخبار عن عدله- تعالى- وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، بإرسال الرسول إليه، كما قال- تعالى-: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ...
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله- تعالى- لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.. «4» .
هذا، وما ذهب إليه الإمام ابن كثير، والإمام الآلوسى، من أن الله- تعالى- اقتضت رحمته وعدالته، أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، عن طريق إرسال الرسل، هو الذي نعتقده، وتطمئن إليه نفوسنا، لأنه هو الظاهر من معاني الآيات الكريمة، ولأنه هو المناسب لرحمة الله- تعالى- التي وسعت كل شيء.
وهناك من يرى أن من مات على الكفر فهو في النار، ولو لم يرسل الله- تعالى- إليه رسولا، واستدلوا بأدلة لا مجال لذكرها هنا «5» .
ثم ساق- سبحانه- سنة من سننه في إهلاك الأمم، وفي حال الذين يريدون العاجلة، وحال الذين يريدون الآجلة، فقال- تعالى-:
__________
(1) سورة النساء الآية 165.
(2) سورة طه الآية 134.
(3) سورة المائدة الآية 19.
(4) تفسير ابن كثير ج 5 ص 50.
(5) راجع تفسير الآلوسى ج 15 ص 37 وتفسير أضواء البيان ج 3 ص 429 للشيخ الشنقيطى.(8/313)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 16 الى 22]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
قال أبو حيان- رحمه الله-: لما ذكر- تعالى- في الآية السابقة، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا، بين بعد ذلك علة إهلاكهم، وهي مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والتمادي على الفساد- فقال، سبحانه-: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها..
«1» .
وقوله- سبحانه-: أَمَرْنا
من الأمر الذي هو ضد النهى، والمأمور به هو الإيمان والعمل الصالح، والشكر لله رب العالمين، وحذف لظهوره والعلم به.
وقوله مُتْرَفِيها
جمع مترف، وهو المتنعم الذي لا يمنع من تنعمه، بل يترك يفعل ما يشاء. يقال: ترف فلان- كفرح- أى: تنعم، وفلان أترفته النعمة، أى: أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها في وجوهها المشروعة.
__________
(1) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 6 ص 17.(8/314)
والمراد بهم، أصحاب الجاه والغنى والسلطان، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب، ولكنهم استعملوها في الفسوق والعصيان، لا في الخير والإحسان.
والمعنى: وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية، أمرنا مترفيها، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإيمان والعمل الصالح، والمداومة على طاعتنا وشكرنا، فلم يستجيبوا لأمرنا، بل فسقوا فيها، وعاثوا في الأرض فسادا.
وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وقال- سبحانه-: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ...
مع أن الهلاك لأهلها، للإشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية، بحيث تصير هي وسكانها أثرا بعد عين.
وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم في معظم الأحيان، ولأنهم في أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى الله عنه، وإلى الانغماس في المتع والشهوات.
والحكمة من هذا الأمر، هو الإعذار والإنذار، والتخويف والوعيد.
كما قال- تعالى-: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.. «1» .
وهذا التفسير للآية الكريمة، سار عليه جمهور المفسرين.
ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك، فهو يرى أن الأمر في الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التي أبطرتهم.
قال- رحمه الله-: قوله- تعالى-: وَإِذا أَرَدْنا
وإذا دنا وقت إهلاك قوم، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم فَفَسَقُوا
أى: أمرناهم بالفسق ففعلوا.
والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون، فبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على
__________
(1) سورة النساء الآية 165.(8/315)
الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة، على المعصية، فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم.. «1» .
ومن المفسرين من يرى أن قوله- تعالى-: أَمَرْنا
بمعنى كثّرنا- بتشديد الثاء- وقرئ أَمَرْنا
بتشديد الميم، أى: كثرنا مترفيها وجعلناهم أمراء مسلطين..
ولكن هذه القراءة. وقراءة آمرنا بمعنى «كثرنا» أيضا، ليستا من القراءات السبعة أو العشرة، وإنما هما من القراءات الشاذة.
قال الإمام ابن جرير: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأ «أمرنا» بقصر الألف وتخفيف الميم- لإجماع الحجة من القراء بتصويبها دون غيرها وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة، فأولى التأويلات به تأويل من تأوله: أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها. فحق عليهم القول، لأن الأغلب من معنى أَمَرْنا
الأمر الذي هو خلاف النهى دون غيره.
وتوجيه معاني كلام الله- جل ثناؤه- إلى الأشهر الأعرف من معانيه، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره.. «2» .
ويبدو لنا أن الرأى الأول الذي سار عليه جمهور المفسرين، وعلى رأسهم الإمام ابن جرير، أولى بالقبول، لأسباب منها:
ان القرآن الكريم يؤيده في كثير من آياته، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ.. «3» .
فقوله- تعالى-: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ دليل واضح على أن قوله- سبحانه-: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها..
معناه: أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وليس معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا لأنه- سبحانه- لا يأمر لا بالفسق ولا بالفحشاء.
ومنها: أن الأسلوب العربي السليم يؤيده لأنك إذا قلت: أمرته فعصاني كان المعنى المتبادر والظاهر من هذه الجملة، أمرته بالطاعة فعصاني، وليس معناه. أمرته بالعصيان فعصاني.
ومنها: أن حمل الكلام على الحقيقة- كما سار جمهور المفسرين- أولى من حمله على المجاز- كما ذهب صاحب الكشاف-.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 442.
(2) تفسير ابن جرير ج 15 ص 43. [.....]
(3) سورة الأعراف الآية 28.(8/316)
وقوله- سبحانه-: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
بيان لما نزل بهذه القرية وأهلها من عذاب محاها من الوجود، إذ التدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر، وهدم البناء.
أى: أمرنا مترفيها بطاعتنا وشكرنا، فعصوا أمرنا وفسقوا فيها، فثبت وتحقق عليها عذابنا، فأهلكناها إهلاكا استأصل شأفتها، وأزال آثارها.
وأكد- سبحانه- فعل التدمير بمصدره، للمبالغة في إبراز شدة الهلاك الواقع على تلك القرية الظالم أهلها.
قال الآلوسى ما ملخصه: والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه، وإهلاك جميعهم، لصدور الفسق منهم جميعا، فإن غير المترف يتبع المترف عادة ...
وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال- تعالى-: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً....
وقد صح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها قالت: قلت، يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث «1» .
ثم بين- سبحانه- أن هذه القرية لم تكن بدعا في نزول العذاب بها، بل هناك قرى كثيرة عتت عن أمر ربها فأخذها- سبحانه- أخذ عزيز مقتدر، فقال- تعالى-: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ....
وكَمْ هنا خبرية أى: أن معناها الإخبار عن عدد كثير، وهي في محل نصب مفعول به لجملة أَهْلَكْنا و «من» في قوله- تعالى-: مِنَ الْقُرُونِ بيان للفظ كَمْ وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما «من» في قوله- تعالى-: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فهي لابتداء الغاية.
والقرون: جمع قرن، ويطلق على القوم المقترنين في زمان واحد. والمشهور أن مدته مائة سنة.
أى: أن هذه القرية المدمرة بسبب فسوق أهلها، وعصيانهم لأمرنا، ليست هي القرية الوحيدة التي نزل بها عذابنا، بل إننا قد أهلكنا كثيرا من القرى من بعد زمن نوح- عليه السلام- كقوم عاد وثمود وغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الكفر على الإيمان والغي على الرشد.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 44.(8/317)
وخص نوح- عليه السلام- بالذكر، لأنه أول رسول كذبه قومه وآذوه وسخروا منه..
فأهلكهم الله- تعالى- بالطوفان.
قال ابن كثير: ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام، كما قاله ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالتهديد الشديد لمن يخالف أمره فقال- تعالى-:
وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.
أى: وكفى بربك- أيها الرسول الكريم- إحاطة واطلاعا وعلما بما يقدمه الناس من خير أو شر، فإنه- سبحانه- يعلم السر وأخفى.
والآية الكريمة بجانب أنها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فهي- أيضا- تهديد للمشركين، وإنذار لهم بأنهم إذا ما استمروا على كفرهم، ومعاداتهم للحق، وتطاولهم على من جاء به وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فسيكونون محلا لغضب الله- تعالى- وسخطه، ولنزول عذابه الذي أهلك به أمثالهم في الشرك والكفر والجحود.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها «2» .
وقوله- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «3» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك مصير الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة، فقال- تعالى-: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.
والمراد بالعاجلة: دار الدنيا، وهي صفة لموصوف محذوف أى: الدار العاجلة التي ينتهى كل شيء فيها بسرعة وعجلة.
أى: من كان يريد بقوله وعمله وسعيه، زينة الدار العاجلة وشهواتها فحسب، دون التفات إلى ثواب الدار الآخرة، عَجَّلْنا لَهُ فِيها أى: عجلنا لذلك الإنسان في هذه الدنيا، ما نَشاءُ تعجيله له من زينتها ومتعها..
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 59.
(2) سورة محمد الآية 10.
(3) سورة ق الآية 16.(8/318)
وهذا العطاء العاجل المقيد بمشيئتنا ليس لكل الناس، وإنما هو لِمَنْ نُرِيدُ عطاءه منهم، بمقتضى حكمتنا وإرادتنا.
فأنت ترى أنه- سبحانه- قد قيد العطاء لمن يريد العاجلة بمشيئته وإرادته.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: «من كانت العاجلة همه، ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد. فقيد الأمر تقييدين: أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته، والثاني: تقييد المعجل له بإرادته.
وهكذا الحال، ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموا فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة وأما المؤمن التقى فقد اختار مراده، وهو غنى الآخرة فما يبالى أوتى حظا من الدنيا أو لم يؤت. فإن أوتى فبها شكر، وإن لم يؤت صبر، فربما كان الفقر خيرا له، وأعون على مراده.
وقوله لِمَنْ نُرِيدُ بدل من لَهُ وهو بدل البعض من الكل، لأن الضمير يرجع إلى من وهو في معنى الكثرة «1» ومفعول نريد محذوف. أى: لمن نريد عطاءه.
وقوله: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً بيان لسوء مصير هذا المريد للعاجلة في الآخرة.
ويَصْلاها أى: يلقى فيها ويذوق حرها وسعيرها: يقال: صليت الشاة: شويتها.
وصلى فلان بالنار- من باب تعب- إذا وجد حرها.
ومَذْمُوماً من الذم الذي هو ضد المدح.
ومَدْحُوراً من الدحور بمعنى الطرد واللعن. يقال: دحره دحرا ودحورا، إذا طرده وأبعده.
أى: من كان يريد بسعيه الدنيا وزينتها أعطيناه منها ما نشاء إعطاءه له، أما في الآخرة فقد جعلنا له جهنم يدخلها، ويصلى حرها ولهيبها، حالة كونه «مذموما» أى مبغوضا بسبب سوء صنيعه، «مدحورا» أى: مطرودا ومبعدا من رحمة الله- تعالى-.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: وفي لفظ هذه الآية فوائد: منها: أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم، بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة فقوله: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها إشارة إلى المضرة العظيمة. وقوله مَذْمُوماً إشارة إلى الإهانة
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 443.(8/319)
والذم. وقوله مَدْحُوراً إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله- تعالى-.
وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة، وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً بيان لحسن عاقبة المؤمنين الصادقين بعد بيان سوء عاقبة المؤثرين لمتع الدنيا وشهواتها.
أى: ومن أراد بقوله وعمله ثواب الدار الآخرة، وما فيها من عطاء غير مقطوع، وسعى لهذه الدار سعيها الذي يوصله إلى مرضاة الله- تعالى- حالة كونه مؤمنا بالله- تعالى- وبكل ما يجب الإيمان به، فَأُولئِكَ الذي فعلوا ذلك، كانَ سَعْيُهُمْ للدار الآخرة سعيا مَشْكُوراً: من الله- تعالى-، حيث يقبله- سبحانه- منهم، ويكافئهم عليه بما يستحقون من ثواب لا يعلم مقداره إلا هو- سبحانه- وعبر- عز وجل- بالسعي عن أعمالهم الصالحة، للإشعار بجدهم وحرصهم على أداء ما يرضيه- تعالى- بدون إبطاء أو تأخير، إذ السعى يطلق على المشي الذي تصاحبه السرعة. وأشار- سبحانه- إليهم بأولئك، للإشعار بعلو درجاتهم وسمو مراتبهم.
قال بعض العلماء ما ملخصه: وفي الآية الدليل الواضح على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان بالله- تعالى- لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة.
ولذا قال- سبحانه-: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...
وقد أوضح- سبحانه- هذا في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً....
ومفهوم هذه الآية وأمثالها، أن غير المؤمن إذا قدم عملا صالحا في الدنيا لا ينفعه في الآخرة لفقد شرط الإيمان، قال- تعالى-: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» «2» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 178.
(2) تفسير أضواء البيان ج 3 ص 448 للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.(8/320)
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته، وسعة عطائه فقال: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ولفظ «كلا» هنا مفعول به للفعل نمد، والتنوين عوض عن المضاف إليه. أى: نمد كل واحد من الفريقين.
وقوله نُمِدُّ من الإمداد بمعنى الزيادة. يقال: أمد القائد الجيش بالجند، إذا زاده وقواه.
والمراد باسم الإشارة الأول «هؤلاء» : المؤثرون للعاجلة، والمراد بالثاني الراغبون في ثواب الآخرة.
والمعنى: كلا من الفريقين نمده من فضلنا وإحساننا فنعطى ما نريد إعطاءه لمن يريد العاجلة ولمن يريد الآجلة دون أن ينقص مما عندنا شيء، ودون أن يخرج عن مشيئتنا شيء.
وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ أيها الرسول الكريم مَحْظُوراً أى: ممنوعا لا عن المؤمن ولا عن الكافر، ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
من الحظر بمعنى المنع يقال: حظره يحظره- من باب قتل- فهو محظور، أى: ممنوع.
ثم أمر- سبحانه- عباده بالنظر والتأمل في أحوال خلقه، ليزدادوا عظة وعبرة، فقال:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.
أى: انظر- أيها العاقل- نظر تأمل وتدبر واعتبار في أحوال الناس، لترى عن طريق المشاهدة كيف فضل الله- تعالى- بعض الناس على بعض في هذه الحياة، فهذا غنى وذاك فقير، وهذا قوى وذاك ضعيف، وهذا ذكى وذاك خامل، وهذا مالك وذاك مملوك..
إلى غير ذلك من الأحوال التي تدل على تفاوت الناس في هذه الدنيا، على حسب ما تقتضيه إرادة الله- تعالى- وحكمته، ومشيئته.
أما في الآخرة فالناس فيها أكبر تفاضلا وتفاوتا في الدرجات والمنازل، مما كانوا عليه في الدنيا.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: وقوله: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا أى: ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العلا ونعيمها وسرورها.
ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون، فإن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين: «إن أهل الدرجات العلا(8/321)
ليرون أهل عليين، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء» «1» .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا سنة من سنن الله- تعالى- في إهلاك الأمم، وأنه- تعالى- ما أهلكها إلا بعد أن عتت عن أمره، وعصت رسله، كما أنها بينت لنا سوء عاقبة الذين يؤثرون متع الدنيا على طاعة الله- تعالى-، وحسن عاقبة الذين يريدون الآخرة وما فيها من ثواب جزيل، وأن الفريقين لا ينالون مما يطلبونه إلا ما قدره الله- تعالى- لهم، وأن عطاءه للناس جميعا لا ينقص مما عنده شيئا، وأن حكمته- سبحانه- قد اقتضت تفضيل بعض الناس على بعض في الدنيا والآخرة، وصدق- عز وجل- حيث يقول: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: بعد أن بين- سبحانه- أن الناس فريقان: فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وفريق يريد بعمله طاعة الله، ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة: أولها: إرادة الآخرة، وثانيها: أن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة، وثالثها: أن يكون مؤمنا.
لا جرم فصل في هذه الآيات تلك المجملات: فبدأ أولا بشرح حقيقة الإيمان ... ثم ذكر عقبيه سائر الأعمال ... «2» .
والخطاب في قوله- تعالى-: لا تَجْعَلْ ... لكل من يصلح له.
والقعود في قوله «فتقعد» قيل بمعنى المكث: كما يقول القائل: فلان قاعد في أسوأ حال، أى: ماكث في أسوأ حال، سواء أكان قاعدا أم غير قاعد. وقيل بمعنى العجز، لأن العرب تقول: فلان ما أقعده عن المكارم، أى: ما أعجزه عنها، وقيل هو بمعنى الصيرورة، من قولهم: فلان شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أى: صارت.
والذي تطمئن إليه النفس أن القعود على حقيقته، لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا نادما على ما فرط منه.
وقوله- سبحانه-: مَخْذُولًا من الخذلان، وهو ترك النصرة عند الحاجة إليها.
يقال: خذل فلان صديقه، أى: امتنع عن نصره وعونه مع حاجته الشديدة إليهما.
والمعنى: لا تجعل- أيها المخاطب- مع الله- تعالى- إلها آخر في عبادتك أو خضوعك، فتقعد جامعا على نفسك مصيبتين:
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 60- طبعة دار الشعب بالقاهرة.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 182.(8/322)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
مصيبة الذم من الله- تعالى- ومن أوليائه، لأنك تركت عبادة من له الخلق والأمر، وعبدت ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
ومصيبة الخذلان، بحيث لا تجد من يعينك أو ينصرك، في ساعة أنت أحوج ما تكون فيها إلى العون والنصر.
وجاء الخطاب في قوله- تعالى-: لا تَجْعَلْ عاما، لكي يشعر كل فرد يصلح للخطاب أن هذا النهى موجه إليه، وصادر إلى شخصه. لأن سلامة الاعتقاد مسألة شخصية، مسئول عنها كل فرد بذاته وسيحمل وحده تبعة انحرافه عن طريق الحق يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وقوله فَتَقْعُدَ منصوب لأنه وقع بعد الفاء جوابا للنهى. وقوله مَذْمُوماً مَخْذُولًا حالان من الفاعل.
وفي هذه الجملة الكريمة تصوير بديع لحال الإنسان المشرك، وقد حط به الذم والخذلان، فقعد مهموما مستكينا عاجزا عن تحصيل الخيرات، ومن السعى في تحصيلها.
قال الآلوسى: وفي الآية الكريمة إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة «1» .
ثم ساق- سبحانه- بضع عشرة آية، تناولت مجموعة من التكاليف تزيد على عشرين أمرا ونهيا.
وهذه التكاليف قد افتتحت بالنهى عن الإشراك بالله- تعالى- وبالأمر بالإحسان إلى الوالدين قال- تعالى-:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 25]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 53.(8/323)
وبعد أن ذكر- سبحانه- الأساس في قبول الأعمال، وهو إخلاص العبادة له- عزّ وجل- وحده، أتبع ذلك بتأكيد هذا الأساس بما هو من شرائط الإيمان الحق وشعائره فقال- تعالى- وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ...
قال القرطبي ما ملخصه: قَضى أى: أمر وألزم وأوجب ...
والقضاء يستعمل في اللغة على وجوه، فالقضاء بمعنى الأمر، كما في هذه الآية والقضاء بمعنى الخلق كقوله فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ يعنى خلقهن، والقضاء بمعنى الحكم، كقوله- تعالى-: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ يعنى: احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ من الشيء، كقوله قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أى فرغ منه.
والقضاء بمعنى الارادة. كقوله- تعالى-: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.. «2» .
والمعنى: لقد نهى ربك عن الإشراك به نهيا قاطعا، وأمر أمرا محكما لا يحتمل النسخ، بأن لا تعبدوا أحدا سواه، إذ هو الخالق لكل شيء، والقادر على كل شيء، وغيره مخلوق وعاجز عن فعل شيء إلا بإذنه- سبحانه-.
فالجملة الكريمة أمر لازم لإخلاص العبادة لله، بعد النهى عن الإشراك به في قوله- تعالى-: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ...
وقد جاء هذا الأمر بلفظ قَضى زيادة في التأكيد، لأن هذا اللفظ هنا يفيد الوجوب القطعي الذي لا رجعة فيه، كما أن اشتمال الجملة الكريمة على النفي والاستثناء- وهما أعلا مراتب القصر- يزيد هذا الأمر تأكيدا وتوثيقا.
ثم أتبع- سبحانه- الأمر بوحدانيته، بالأمر بالإحسان إلى الوالدين فقال:
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
أى: وقضى- أيضا- بأن تحسنوا- أيها المخاطبون- إلى الوالدين إحسانا كاملا لا يشوبه سوء أو مكروه.
__________
(2) تفسير القرطبي ج 10 ص 237.(8/324)
وقد جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب الأمر بوجوب إخلاص العبادة لله، في آيات كثيرة. منها قوله- تعالى-: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.. «1» .
وقوله- تعالى-: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.. «2» .
ولعل السر في ذلك هو الإشعار للمخاطبين بأهمية هذا الأمر المقتضى لوجوب الإحسان إلى الوالدين، حيث إنهما هما السبب المباشر لوجود الإنسان في هذه الحياة، وهما اللذان لقيا ما لقيا من متاعب من أجل راحة أولادهما، فيجب أن يقابل ما فعلاه بالشكر والاعتراف بالجميل.
قال بعض العلماء: وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب، وهو الإحسان إلى الوالدين، ولم تذكر بأسلوب النهى سموا بالإنسان عن أن تظن به الإساءة إلى الوالدين، وكأن الإساءة إليهما، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها.. «3» .
ثم فصل- سبحانه- مظاهر هذا الإحسان فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ...
وإِمَّا حرف مركب من «إن» الشرطية، ومن «ما» المزيدة عليها للتأكيد، وقوله: أَحَدُهُما فاعل يبلغن. وقرأ حمزة والكسائي إما يبلغان فيكون قوله أَحَدُهُما بدل من ألف الاثنين في يبلغان.
وقوله فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ جواب الشرط.
قال الآلوسى: وأُفٍّ اسم صوت ينبئ عن التضجر، أو اسم فعل مضارع هو أتضجر..
وفيه نحو من أربعين لغة. والوارد من ذلك في القراءات سبع ثلاث متواترة، وأربعة شاذة.
فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين، وهو للتنكير: فالمعنى: فلا تقل أتضجر تضجرا ما.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151.
(2) سورة البقرة الآية 83. [.....]
(3) تفسير القرآن الكريم ص 434 لفضيلة الأمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت- رحمه الله.(8/325)
وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر بدون تنوين.. «1» .
وقوله وَلا تَنْهَرْهُما من النهر بمعنى الزجر، يقال نهر فلان فلانا إذا زجره بغلظة.
والمعنى: كن- أيها المخاطب- محسنا إحسانا تاما بأبويك.
فإذا ما بلغ عِنْدَكَ أى: في رعايتك وكفالتك أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما سن الكبر والضعف فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أى: قولا يدل على التضجر منهما والاستثقال لأى تصرف من تصرفاتهما.
قال البيضاوي: والنهى عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى، وقيل عرفا كقولك: فلان لا يملك النقير والقطمير- فإن هذا القول يدل على أنه لا يملك شيئا قليلا أو كثيرا «2» .
وقوله وَلا تَنْهَرْهُما أى: ولا تزجرهما عما يتعاطيانه من الأفعال التي لا تعجبك.
فالمراد من النهى الأول: المنع من إظهار التضجر منهما مطلقا.
والمراد من النهى الثاني: المنع من إظهار المخالفة لهما على سبيل الرد والتكذيب والتغليظ في القول.
والتعبير بقوله: عِنْدَكَ يشير إلى أن الوالدين قد صارا في كنف الابن وتحت رعايته، بعد أن بلغ أشده واستوى، وبعد أن أصبح مسئولا عنهما، بعد أن كانا هما مسئولين عنه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى عِنْدَكَ قلت هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلّا على ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا، وربما تولى منهما ما كانا يتوليانه منه في حالة الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطاءة الخلق، ولين الجانب، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما، أو يستثقل من مؤنهما: أف، فضلا عما يزيد عليه «3» .
والتقييد بحالة الكبر في قوله- تعالى-: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ جرى مجرى الغالب، إذ أنهما يحتاجان إلى الرعاية في حالة الكبر، أكثر من احتياجهما إلى ذلك في حالة قوتهما وشبابهما، وإلا فالإحسان إليهما، والعناية بشأنهما. واجب على الأبناء سواء كان الآباء في سن الكبر أم في سن الشباب أم في غيرهما.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 55.
(2) تفسير البيضاوي ج 1 ص 582.
(3) تفسير الكشاف ج 2 ص 444.(8/326)
وقوله- سبحانه-: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أمر بالكلام الطيب معهما. بعد النهى عن الكلام الذي يدل على الضجر والقلق من فعلهما.
أى: وقل لهما بدل التأفيف والزجر، قولا كريما حسنا، يقتضيه حسن الأدب معهما، والاحترام لهما والعطف عليهما.
وقوله: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.. زيادة في تبجيلهما والتلطف معهما في القول والفعل والمعاملة على اختلاف ألوانها.
أى: وبجانب القول الكريم الذي يجب أن تقوله لهما، عليك أن تكون متواضعا معهما، متلطفا في معاشرتهما، لا ترفع فيهما عينا، ولا ترفض لهما قولا، مع الرحمة التامة بهما، والشفقة التي لا نهاية لها عليهما.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: وقوله: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ المقصود منه المبالغة في التواضع.
وذكر القفال في تقريره وجهين: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية. فكأنه قال للولد:
اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك.
والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه. فصار خفض الجناح كناية عن التواضع «1» .
وإضافة الجناح إلى الذل إضافة بيانية، أى: اخفض لهما جناحك الذليل ومِنَ في قوله مِنَ الرَّحْمَةِ ابتدائية. أى تواضع لهما تواضعا ناشئا من فرط رحمتك عليهما.
قال الآلوسى: وإنما احتاجا إلى ذلك، لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما، واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه أدعى إلى الرحمة، كما قال الشاعر:
يا من أتى يسألنى عن فاقتي ... ما حال من يسأل من سائله؟
ما ذلة السلطان إلا إذا ... أصبح محتاجا إلى عامله
وقوله: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً تذكير للإنسان بحال ضعفه وطفولته، وحاجته إلى الرعاية والحنان.
أى: وقل في الدعاء لهما: يا رب ارحمهما برحمتك الواسعة، واشملهما بمغفرتك الغامرة،
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 191.(8/327)
جزاء ما بذلا من رعاية لي في صغرى، فأنت القادر على مثوبتهما ومكافأتهما.
قال الجمل: والكاف في قوله كَما رَبَّيانِي.. فيها قولان: أحدهما أنها نعت لمصدر محذوف.
أى: ارحمهما رحمة مثل رحمتهما لي، والثاني أنها للتعليل. أى: ارحمهما لأجل تربيتهما لي، كما في قوله وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «1» .
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات التي سمت بمنزلة الوالدين، بما يدل على كمال علمه، وعلى التحذير من عقابه، فقال- تعالى-: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً.
والأوابون: جمع أواب. وهو الكثير الأوبة والتوبة والرجوع إلى الله- تعالى- يقال:
آب فلان يئوب إذا رجع.
قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأواب هو التائب من الذنب، الراجع عن معصية الله إلى طاعته، ومما يكرهه إلى ما يرضاه، لأن الأواب إنما هو فعال من قول القائل: آب فلان من سفره إلى منزله، كما قال الشاعر:
وكل ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يؤوب «2»
أى: ربكم- أيها الناس- أعلم بما في نفوسكم، وضمائركم، سواء أكان خيرا أو شرا، وسواء كنتم تضمرون البر بآبائكم أم تخفون الإساءة إليهما، ومع ذلك فإنكم إن تكونوا صالحين- أى: قاصدين الصلاح والبر بهما، والرجوع عما فرط منكم في حقهما أو في حق غيرهما- فالله- تعالى- يقبل توبتكم، فإنه- سبحانه- بفضله وكرمه كان للأوابين- أى الرجاعين إليه بالتوبة مما فرط منهم- غفورا لذنوبهم.
فالآية الكريمة وعيد لمن تهاون في حقوق أبويه، وفي كل حق أوجبه الله عليه، ووعد لمن رجع إليه- سبحانه- بالتوبة الصادقة.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أمرت بالإحسان إلى الوالدين، بأسلوب يستجيش عواطف البر والرحمة في قلوب الأبناء، ويبعثهم على احترامهما ورعايتهما والتواضع لهما، وتحذيرهم من الإساءة إليهما، ويفتح باب التوبة أمام من قصر في حقهما أو حق غيرهما.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 622.
(2) تفسير ابن جرير ج 15 ص 52.(8/328)
وقد كرر القرآن هذا الأمر للأبناء بالإحسان إلى الآباء، ولم يفعل ذلك مع الآباء.
وذلك لأن الحياة- كما يقول بعض العلماء- وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوى إلى الأمام. إلى الذرية. إلى الناشئة الجديدة، إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء. إلى الأبوة، إلى الحياة المولية إلى الجيل الذاهب.
ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد. إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات، وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد، كل رحيق، وكل عافية، وكل جهد، وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية- إن أمهلهما الأجل- وهما مع ذلك سعيدان.
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ويندفعون بدورهم إلى الأمام. إلى الزوجات والذرية ... وهكذا تندفع الحياة.
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء. إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة، ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف.
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين، في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله «1» .
هذا، وقد ساق المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات، كثيرا من الأحاديث والآثار التي توجه الأبناء إلى رعاية الآباء، واحترامهم، والعطف عليهم، والرحمة بهم، والاهتمام بشئونهم.
قال الإمام ابن كثير: وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: آمين. آمين. آمين.
فقالوا: يا رسول الله، علام أمنت؟ قال: أتانى جبريل فقال: يا محمد، رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقل: آمين فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين. فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. قل: آمين، فقلت: آمين» .
__________
(1) «في ظلال القرآن» ج 15 ص 2221.(8/329)
وعن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي على من بر أبوى شيء بعد موتهما أبر هما به؟
قال: «نعم: خصال أربع. الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما» «1» .
وقال القرطبي: أمر الله- سبحانه- بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك. كما قرن شكرهما بشكره، فقال: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
وقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أى الأعمال أحب إلى الله- تعالى-؟. قال: «الصلاة على وقتها. قلت: ثم أى؟ قال: «بر الوالدين» ، قلت ثم أى: قال: الجهاد في سبيل الله» ...
ثم قال القرطبي- رحمه الله-: ومن عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن من برهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه. ما لم يكن ذلك الأمر معصية، ولا يختص برهما بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما.
ففي صحيح البخاري عن أسماء قالت: قدمت أمى وهي مشركة فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمى قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ - أى وهي راغبة في برى وصلتي، أو وهي راغبة عن الإسلام كارهة له- قال: «نعم صلى أمك» .
ثم قال القرطبي: ومن الإحسان إليهما والبر بهما، إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما.
فعن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد» .
قال ابن المنذر: في هذا الحديث النهى عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع.
ثم قال: ومن تمام برهما: صلة أهل ودهما، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 5 ص 62.(8/330)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى» .
وكان صلى الله عليه وسلم يهدى لصديقات خديجة برّا بها ووفاء لها وهي زوجته، فما ظنك بالوالدين «1» .
وبعد أن بين- سبحانه- ما يجب على الإنسان نحو خالقه- عز وجل- ونحو والديه، أتبع ذلك ببيان ما يجب على هذا الإنسان نحو أقاربه، ونحو المسكين وابن السبيل، ونحو ماله الذي هو نعمة من نعم الله عليه. فقال- تعالى-:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 30]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
قال أبو حيان في البحر: «لما أمر الله- تعالى- ببر الوالدين، أمر بصلة القرابة. قال الحسن: نزلت في قرابة النبي صلى الله عليه وسلم. والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ... وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه. قال نحوه: ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم» «2» .
والمراد بذوي القربى: من تربطك بهم صلة القرابة سواء أكانوا من المحارم أم لا.
والمسكين: هو من لا يملك شيئا من المال، أو يملك مالا يسد حاجته، وهذا النوع من
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 10 ص 238.
(2) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 6 ص 29.(8/331)
الناس في حاجة إلى العناية والرعاية، لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل، على إراقة ماء وجوههم بالسؤال.
وفي الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟
قال الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا» .
وابن السبيل: هو المسافر المنقطع عن ماله سمى بذلك- كما يقول الآلوسى- لملازمته السبيل- أى: الطريق- في السفر. أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته» «1» .
وهذا النوع من الناس- أيضا- في حاجة الى المساعدة والمعاونة، حتى يستطيع الوصول إلى بلده.
وفي هذا الأمر تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة.
والمعنى: وأعط- أيها العاقل- ذوى قرباك حقوقهم الثابتة لهم من البر، وصلة الرحم، والمعاونة، والزيارة، وحسن المعاشرة، والوقوف إلى جانبهم في السراء والضراء، ونحو ذلك مما توجبه تعاليم دينك الحنيف.
وأعط- كذلك- المسكين وابن السبيل حقوقهما التي شرعها الله- تعالى- لهما، من الإحسان إليهما، ومعاونتهما على ما يسد حاجتهما.
وقدم- سبحانه- الأقارب على غيرهم، لأنهم أولى بالمعروف، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم، عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» .
وقوله- سبحانه-: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً نهى عن وضع المال في غير موضعه الذي شرعه الله- تعالى- مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، ثم استعير لتضييع المال في غير وجوهه.
قال صاحب الكشاف: التبذير تفريق المال فيما لا ينبغي، وإنفاقه على وجه الإسراف، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 2 ص 46.(8/332)
أشعارها، فأمر الله- تعالى- بالنفقة في وجوهها، مما يقرب منه ويزلف.. «1» .
وقال ابن كثير: وقوله وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً: لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه، بل يكون وسطا، كما قال- تعالى-: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً.
وقال ابن مسعود: التبذير: الإنفاق في غير حق. وكذا قال ابن عباس.
وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا. ولو أنفق مدا في غير حقه كان تبذيرا «2» .
وقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً تعليل للنهى عن التبذير، وتنفير منه بأبلغ أسلوب.
والمراد بأخوة الشياطين: المماثلة لهم في الصفات السيئة، والسلوك القبيح.
قال الإمام الرازي: والمراد من هذه الأخوة، التشبه بهم في هذا الفعل القبيح، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخا له، فيقولون: فلان أخو الكرم والجود. وأخو السفر، إذا كان مواظبا على هذه الأعمال «3» .
أى: كن- أيها العاقل- متوسطا في نفقتك، ولا تبذر تبذيرا. لأن المبذرين يماثلون ويشابهون الشياطين في صفاتهم القبيحة، وكان الشيطان في كل وقت وفي كل حال جحودا لنعم ربه، لا يشكره عليها، بل يضعها في غير ما خلقت له هذه النعم.
وفي تشبيه المبذر بالشيطان في سلوكه السيئ، وفي عصيانه لربه، إشعار بأن صفة التبذير من أقبح الصفات التي يجب على العاقل أن يبتعد عنها، حتى لا يكون مماثلا للشيطان الجاحد لنعم ربه.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما يجب على المؤمن فعله في حال عدم قدرته على تقديم العون للأقارب والمحتاجين، فقال- تعالى-: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً.
ولفظ إِمَّا مركب من «إن» الشرطية، ومن «ما» المزيدة. أى: إن تعرض عنهم.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 446.
(2) تفسير ابن كثير ج 5 ص 66 طبعة دار الشعب. [.....]
(3) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 193.(8/333)
وقوله تُعْرِضَنَّ من الإعراض، بمعنى صرف الوجه عن السائل حياء منه وبسبب عدم القدرة على تلبية طلبه.
وقوله: ابْتِغاءَ مفعول لأجله منصوب بتعرضن، وهو من باب وضع المسبب موضع السبب. لأن الأصل: وإما تعرضن عنهم لإعسارك.
والمراد بالرحمة: انتظار الحصول على الرزق، وحلول الفرج بعد الضيق.
والميسور: اسم مفعول من يسر الأمر- بالبناء للمفعول- مثل سعد الرجل، ومعناه:
السهل اللين.
والمعنى: وإما تعرضن- أيها المخاطب- عن ذي قرابتك وعن المسكين وابن السبيل، بسبب إعسارك وانتظارك لرزق يأتيك من الله- عز وجل- فقل لهم في هذه الحالة قولا لينا رفيقا يدل على اهتمامك بشأنهم، ويدخل السرور على نفوسهم، كأن تقول لهم مثلا-: ليس عندي اليوم ما أقدمه لكم، وإن يرزقني الله بشيء فسأجعل لكم نصيبا منه.
قال القرطبي ما ملخصه: وهو تأديب عجيب، وقول لطيف بديع، أى لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر غنى وقدرة فتحرمهم، وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض، وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله- تعالى- فتح باب الخير، لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أى لينا لطيفا.. ولقد أحسن من قال:
إلّا تكن ورق يوما أجود بها ... للسائلين فإنى لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إما نوالى وإما حسن مردود «1»
ثم أرشد- سبحانه- عباده إلى أفضل الطرق لإنفاق أموالهم والتصرف فيها، فقال- تعالى-: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً.
وقوله مَغْلُولَةً من الغل- بضم الغين- وأصله الطوق الذي يجعل في العنق وتربط به اليد، كما يربط المذنب والأسير: وهو كناية عن البخل والتقتير.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط. ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة. حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط، ولا
__________
(1) تفسير القرطبي ج 10 ص 249.(8/334)
يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان للبخل والجود.. «1» .
وقوله: مَحْسُوراً من الحسور بمعنى الانقطاع عن الشيء، والعجز عن الحصول عليه.
يقال: فلان حسره السير، إذا أثر فيه أثرا بليغا جعله يعجز عن اللحاق برفقائه.
ويقال: بعير محسور. أى: ذهبت قوته وأصابه الكلل والإعياء. فصار لا يستطيع النهوض بما يوضع عليه من أحمال.
والمقصود من الآية الكريمة: الأمر بالتوسط والاعتدال في الإنفاق والنهى عن البخل والإسراف.
فقد شبه- سبحانه- مال البخيل، بحال من يده مربوطة إلى عنقه ربطا محكما بالقيود والسلاسل، فصار لا يستطيع تحريكها أو التصرف بها.
وشبه حال المسرف والمبذر، بحال من مد يده وبسطها بسطا كبيرا، بحيث أصبحت لا تمسك شيئا يوضع فيها سواء أكان قليلا أم كثيرا.
والمعنى: كن- أيها الإنسان- متوسطا في كل أمورك، ومعتدلا في إنفاق أموالك بحيث لا تكون بخيلا ولا مسرفا، فان الإسراف والبخل يؤديان بك إلى أن تصير ملوما. أى:
مذموما من الخلق والخالق، محسورا، أى: مغموما منقطعا عن الوصول إلى مبتغاك بسبب ضياع مالك، واحتياجك إلى غيرك.
قال الآلوسى ما ملخصه: فالآية الكريمة تحض على التوسط، وذلك هو الجود الممدوح، فخير الأمور أوساطها. وأخرجه أحمد وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد» . وأخرجه البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة» . وفي رواية عن أنس مرفوعا: «التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» وكما يقال: حسن التدبير مع الكفاف، خير من الغنى مع الإسراف «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 655.
(2) تفسير الآلوسى ج 15 ص 65.(8/335)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
ثم بين- سبحانه- أن مرجع الأمور كلها اليه، فهو المعطى وهو المانع، فقال- تعالى-: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.
أى: إن ربك- أيها الإنسان- العاقل- يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء أن يبسطه له ويمسك الرزق ويضيقه ويقدره على من يشاء من خلقه. إذ كل شيء في هذا الكون يسير على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته، وهو- سبحانه- العليم ببواطن الناس وبظواهرهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، ولا يعطى أو يمنع، إلا لحكمة هو يعلمها.
قال- تعالى-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد حضت على إيتاء ذوى القربى والمساكين وابن السبيل حقوقهم. وعلى الاعتدال في إنفاق المال، ونهت عن الشح والتبذير، وأسندت العطاء والمنع إلى الله- تعالى- الخبير البصير بالظواهر والبواطن.
ثم يسوق- سبحانه- جملة من النواهي التي يؤدى الوقوع فيها إلى فساد أحوال الأفراد والجماعات، وإلى شيوع الفاحشة في الأمم، مما يؤدى إلى اضمحلالها وذهاب ريحها، فقال- تعالى-:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 39]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)(8/336)
وقوله- سبحانه-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ... نهى عن قتل الأولاد بعد بيان أن الأرزاق بيده- سبحانه-، يبسطها لمن يشاء، ويضيقها على من يشاء.
والإملاق: الفقر. يقال: أملق الرجل إذا افتقر قال الشاعر:.
وإنى على الإملاق يا قوم ماجد ... أعد لأضيافى الشواء المصهبا
قال الآلوسى: وظاهر اللفظ النهى عن جميع أنواع قتل الأولاد، ذكورا كانوا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة.
لكن روى أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن، فنهى في الآية عن ذلك، فيكون المراد بالأولاد البنات، وبالقتل الوأد.. «1» .
أى: ولا تقتلوا- أيها الآباء- أولادكم خشية فقر متوقع، فنحن قد تكفلنا برزقهم ورزقكم، وأرزاق غيركم من مخلوقاتنا التي لا تحصى.
قال- تعالى-: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ...
ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم، فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم، والتخلص منهم خوفا من الفقر المتوقع في المستقبل، مع أن الله- تعالى- هو الرازق لهم ولكم في كل زمان ومكان.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 66.(8/337)
وقد ورد النهى عن قتل الأولاد هنا بهذه الصيغة، وورد في سورة الأنعام بصيغة أخرى، هي قوله- تعالى-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.
وليست أحدهما تكرارا للأخرى وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة.
فهنا يقول- سبحانه-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ لأن النهى موجه بالأصالة إلى الموسرين الذين يقتلون أولادهم لا من أجل فقر كائن فيهم، وإنما من أجل فقر هم يتوهمون حصوله في المستقبل بسبب الأولاد، لذا قال- سبحانه- نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر، في زعم آبائهم- لكي يمتنع الآباء عن هذا التوقع ولكي يضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء.
وقال- سبحانه- هناك مِنْ إِمْلاقٍ لأن النهى متوجه أصالة إلى الآباء المعسرين:
أى لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم- أيها الآباء-، فقد يجعل الله بعد عسر يسرا.
ولذا قال- سبحانه-: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فجعل الرزق للآباء ابتداء. لكي يطمئنهم- سبحانه- على أنه هو الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم.
وفي كلتا الحالتين، القرآن الكريم ينهى عن قتل الأولاد، ويغرس في نفوس الآباء الثقة بالله- تعالى- والاعتماد عليه.
وجمله نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ تعليل للنهى عن قتل الأولاد، بإبطال موجبه- في زعمهم- وهو الفقر.
أى: نحن نرزقهم لا أنتم، ونرزقكم أنتم معهم، وما دام الأمر كذلك فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء: وهي قتل الأولاد، لأن الأولاد، قطعة من أبيهم، والشأن- حتى في الحيوان الأعجم- أنه يضحى من أجل أولاده ويحميهم، ويتحمل الصعاب في سبيلهم.
وقوله إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً تعليل آخر للنهى عن قتل الأولاد جيء به على سبيل التأكيد.
والخطء: هو الإثم- وزنا ومعنى-، مصدر خطئ خطئا كأثم إثما من باب علم.
أى: أن قتل الأولاد كان عند الله- تعالى- إثما كبيرا فاحشا، يؤدى إلى التعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة:
والحق أن المجتمع الذي يبيح قتل الأولاد، خوفا من الفقر أو العار، لا يمكن أن يصلح شأنه، لأنه مجتمع نفعي تسوده الأثرة والأنانية والتشاؤم والأوهام، لأن أفراده يظنون أن الله(8/338)
يخلق خلقا لا يدبر لهم رزقهم، ويعتدون على روح بريئة طاهرة، تخوفا من فقر أو عار مترقب، وذلك هو الضلال المبين.
ورحم الله الإمام الرازي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر، فهو سوء ظن بالله. وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى في تخريب العالم. فالأول: ضد التعظيم لأمر الله- تعالى- والثاني: ضد الشفقة على خلقه، وكلاهما مذموم «1» .
ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم برعاية الأبناء، وحذر من الاعتداء عليهم في أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أى؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أى؟ قال: أن تزنى بحليلة جارك «2» .
وبعد أن نهى- سبحانه- عن قتل الأولاد المؤدى إلى إفناء النسل، أتبع ذلك بالنهى عن فاحشة الزنا المؤدية إلى اختلاط الأنساب: فقال- تعالى-: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
والزنا: وطء المرأة بدون عقد شرعي يجيز للرجل وطأها.
والفاحشة: ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال. يقال فحش الشيء، فحشا، كقبح قبحا- وزنا ومعنى-، ويقال أفحش الرجل، إذا أتى الفحش بضم الفاء وسكون الحاء-، وهو القبيح من القول أو الفعل. وأكثر ما تكون الفاحشة إطلاقا على الزنا.
وتعليق النهى بقربانها، للمبالغة في الزجر عنها، لأن قربانها قد يؤدى إلى الوقوع فيها، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وهذا لون حكيم من ألوان إصلاح النفوس، لأنه إذا حصل النهى عن القرب من الشيء، فلأن ينهى عن فعله من باب أولى.
فكأنه- سبحانه- يقول: كونوا- أيها المسلمون بعيدين عن كل المقدمات التي تفضى إلى فاحشة الزنا كمخالطة النساء، والخلوة بهن، والنظر إليهن ... فإن ذلك يفتح الطريق إلى الوقوع فيها.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 296.
(2) تفسير ابن كثير ج 5 ص 69.(8/339)
قال بعض العلماء: وكثيرا ما يتعلق النهى في القرآن بالقربان من الشيء، وضابطه بالاستقراء:
أن كل منهى عنه من شأنه أن تميل النفوس إليه، وتدفع إليه الأهواء، جاء النهى فيه عن القربان، ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل في النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف المحرم، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ... وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ...
أما المحرمات التي لم يؤلف ميل النفوس إليها، ولا اقتضاء الشهوات لها، فإن الغالب فيها، أن يتعلق النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه.
ومن ذلك قوله- تعالى-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ... وقوله- تعالى-:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ...
فهذه وإن كانت فواحش، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية، يميل إليها الإنسان بشهوته.
بل هي في نظر العقل على المقابل من ذلك، يجد الإنسان في نفسه مرارة ارتكابها، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها، أو في حكم الكاره.. «1» .
وقوله: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا تعليل للنهى عن الاقتراب منه، أى: ابتعدوا عن مقدمات الزنا فضلا عن الوقوع فيه ذاته، لأنه كان- وما زال- في شرع الله، وفي نظر كل عقل سليم فعلة فاحشة ظاهرة القبح وبئس الطريق طريقه، فإنها طريق تؤدى إلى غضب الله- تعالى- وسخطه.
ومما لا شك فيه أن فاحشة الزنا من أقبح الفواحش التي تؤدى إلى شيوع الفساد والأمراض الخبيثة في الأفراد والمجتمعات، وما وجدت في أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا.
ولقد تحدث الإمام الرازي عن تلك المفاسد التي تترتب على الزنا فقال ما ملخصه:
الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد، أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها، فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية، أهو منه أو من غيره ...
وثانيا: أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل لتلك المرأة، لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم ص 441 لفضيلة المرحوم الشيخ محمود شلتوت.(8/340)
وثالثها: أن المرأة إذا باشرت الزنا، استقذرها كل طبع سليم، وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة، ولا يتم السكن والازدواج..
ورابعها: أنه إذا فتح باب الزنا، فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان، وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب.
وخامسها: أنه ليس المقصود من المرأة قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته.. وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد، منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا ... فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضى على الزنا بالقبح «1» .
ولقد سد الإسلام جميع المنافذ التي تؤدى إلى ارتكاب هذه الفاحشة، وسلك لذلك وسائل من أهمها:
1- تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء إلا في حدود الضرورة الشرعية، ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى، ما رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم» .
وروى الشيخان- أيضا- عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو- بفتح الحاء وسكون الميم- وهو قريب الزوج كأخيه وابن عمه فقال صلى الله عليه وسلم: «الحمو الموت» «2» . أى: دخوله قد يؤدى إلى الموت.
2- تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية. ووجوب غض البصر.
قال- تعالى-: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ...
وقال- سبحانه-: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ.. «3» .
وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام ... والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» «4» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 20 ص 198.
(2) رياض الصالحين ص 624 باب تحريم الخلوة بالأجنبية.
(3) سورة النور الآيتان 30، 31.
(4) رياض الصالحين ص 622 للإمام النووي.(8/341)
3- وجوب التستر والاحتشام للمرأة فإن التبرج والسفور يغرى الرجال بالنساء، ويحرك الغريزة الجنسية بينهما.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ.. «1» .
4- الحض على الزواج، وتيسير وسائله، والبعد عن التغالى في نفقاته، وتخفيف مؤنه وتكاليفه.. فإن الزواج من شأنه أن يحصن الإنسان، ويجعله يقضى شهوته في الحلال..
فإذا لم يستطع الشاب الزواج، فعليه بالصوم فإنه له وقاية- كما جاء في الحديث الشريف-.
5- إقامة حدود الله بحزم وشدة على الزناة سواء أكانوا من الرجال أم من النساء، كما قال- تعالى-: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» .
وهذا الجلد إنما هو بالنسبة للبكر ذكرا كان أو أنثى، أما بالنسبة للمحصن وهو المتزوج أو الذي سبق له الزواج، فعقوبته الرجم ذكرا كان أو أنثى، وقد ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة.
ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في زان لم يتزوج وزانية متزوجة، بقوله لوالد الرجل: «على ابنك مائة جلدة وتغريب عام» ثم قال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه واسمه أنيس: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها.
ومما لا شك أنه لو تم تنفيذ حدود الله- تعالى- على الزناة، لمحقت هذه الفاحشة محقا، لأن الشخص إن لم يتركها خوفا من ربه- عز وجل- لتركها خوفا من تلك العقوبة الرادعة، ومن فضيحته على رءوس الأشهاد.
هذه بعض وسائل الوقاية من تلك الفاحشة القبيحة، ولو اتبعها المسلمون، لطهرت أمتهم من رجسها، ولحفظت في دينها ودنياها.
ثم نهى- سبحانه- عن قتل النفس المعصومة الدم، بعد نهيه عن قتل الأولاد، وعن الاقتراب من فاحشة الزنا فقال- تعالى-: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59.
(2) سورة النور الآية 2. [.....](8/342)
أى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها، إلا بالحق الذي يبيح قتلها شرعا، كردة، أو قصاص، أو زنا يوجب الرجم.
قال الإمام ابن كثير: يقول- تعالى- ناهيا عن قتل النفس بغير حق شرعي، كما ثبت في الصحيحين- عن عبد الله بن مسعود- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة» .
وفي السنن: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم «1» » .
وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بلا تقتلوا، والباء للسببية، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أى: لا تقتلوها في حال من الأحوال، إلا في حال ارتكابها لما يوجب قتلها.
وذلك: لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بناء بناه الله- تعالى- فلا يحل لأحد أن يهدمه إلا بحق.
وبهذا يقرر الإسلام عصمة الدم الإنسانى، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة، فكأنما قد اعتدى على الناس جميعا. قال- تعالى-: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.. «2» .
وقوله- سبحانه-: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً إرشاد لولى المقتول إلى سلوك طريق العدل عند المطالبة بحقه.
والمراد بوليه: من يلي أمر المقتول، كأبيه وابنه وأخيه وغيرهم من أقاربه الذين لهم الحق في المطالبة بدمه. فإن لم يكن للمقتول ولى، فالحاكم وليه.
والمراد بالسلطان: القوة التي منحتها شريعة الله- تعالى- لولى المقتول على القاتل، حيث جعلت من حق هذا الولي المطالبة بالقصاص من القاتل، أو أخذ الدية منه، أو العفو عنه، ولا يستطيع أحد أن ينازعه في هذا الحق، أو أن يجبره على التنازل عنه.
والمعنى: ومن قتل مظلوما، أى: بدون سبب يوجب قتله، فإن دمه لم يذهب هدرا، فقد شرعنا «لوليه سلطانا» على القاتل، لأنه- أى الولي- إن شاء طالب بالقصاص منه، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا عنه. وبذلك يصير الولي هو صاحب الكلمة الأولى في
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 70.
(2) سورة المائدة الآية 32.(8/343)
التصرف في القاتل، حتى لكأنه مملوك له.
وما دامت شريعة الله- تعالى- قد أعطت الولي هذا السلطان على القاتل، فعليه أن لا يسرف في القتل، وأن لا يتجاوز ما شرعه الله- تعالى-.
ومن مظاهر هذا التجاوز: أن يقتل اثنين- مثلا- في مقابل قتيل واحد أو أن يقتل غير القاتل، أو أن يمثل بالقاتل بعد قتله.
قال الآلوسى ما ملخصه: كان من عادتهم في الجاهلية، أنهم إذا قتل منهم واحد، قتلوا قاتله، وقتلوا معه غيره ...
وأخرج البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم أنه قال: إن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل من ليس شريفا شريفا، لم يقتلوه به، وقتلوا شريفا من قومه، فنهوا عن ذلك، كما نهوا عن المثلة بالقاتل.
وقرأ حمزة والكسائي: «فلا تسرف» بالخطاب للولي على سبيل الالتفات «1» .
وقوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تذييل المقصود به تعليل النهى عن الإسراف في القتل.
والضمير يعود إلى الولي- أيضا-.
أى: فلا يسرف هذا الولي في القتل، لأن الله- تعالى- قد نصره عن طريق ما شرعه له من سلطان عظيم، من مظاهره: المطالبة بالقصاص من القاتل، أو بأخذ الدية، ومن مظاهره- أيضا- وقوف الحاكم وغيره إلى جانبه حتى يستوفى حقه من القاتل، دون أن ينازعه منازع في هذا الحق.
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله إِنَّهُ يعود إلى المقتول ظلما، على معنى: أن الله- تعالى- قد نصره في الدنيا بمشروعية القصاص والدية حتى لا يضيع دمه، ونصره في الآخرة بالثواب الذي يستحقه، وما دام الأمر كذلك فعلى وليه أن لا يسرف في القتل.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب. لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة.
قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك: وأشبه ذلك بالصواب عندي، قول من قال: عنى بها- أى بالهاء في إنه- الولي، وعليه عادت، لأنه هو المظلوم ووليه المقتول، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول، وهو المنصور- أيضا- لأن الله- جل ثناؤه- قضى في كتابه المنزل، أن سلطه على قاتل وليه، وحكمه فيه، بأن جعل إليه قتله إن شاء،
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 15 ص 70.(8/344)