الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
وقوله الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ. يصح أن يراد به اليوم الذي نزلت فيه. فإنه يجوز أن تكون هذه الآية وما قبلها من قوله- تعالى- الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قد نزلت جميعا في يوم واحد وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع.
ويصح أن يراد به الزمان الحاضر مع ما يتصل به من الماضي والمستقبل. والمراد بالطيبات:
ما يستطاب ويشتهى مما أحله الشرع.
والمراد بطعام الذين أوتوا الكتاب: ذبائحهم خاصة. وهذا مذهب جمهور العلماء.
قالوا: لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب، وبعد أن صارت لهم.
فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى، لأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره.
وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم.
وقيل المراد بطعام أهل الكتاب هنا: الخبز والحبوب والفاكهة وغير ذلك مما لا يحتاج فيه إلى تذكية. وينسب هذا القول إلى بعض طوائف الشيعة.
وقيل المراد به: ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة. وقد روى هذا القول عن ابن عباس، وأبى الدرداء، وقتادة ومجاهد وغيرهم.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى.
قال الآلوسى: وحكم الصابئين كحكم أهل الكتاب عند أبى حنيفة. وقال صاحباه الصابئة صنفان: صنف يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.
واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله- كعزير وعيسى- فقال ابن عمر: لا تحل. وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل. وهو قول الشعبي(4/51)
وعطاء قالا: فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون» «1» .
والمعنى: إن الله أسبغ عليكم نعمه- أيها المؤمنون- وأكمل لكم دينه، ويسر لكم شرعه، ومن مظاهر ذلك أنه- سبحانه- أحل لكم التمتع بالطيبات، كما أحل لكم أن تأكلوا من ذبائح أهل الكتاب. وأن تطعموهم من طعامكم.
قال ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه- تعالى وتقدس- «2» .
وإنما قال: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أى يحل لكم ان تطعموهم من طعامكم للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح عن المناكحة. فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات فإنها في جانب واحد، إذ لا يحل لغير المسلم أن يتزوج بمسلمة، لأنه لو جاز ذلك لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن، والله- تعالى- لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظورا.
قال بعض العلماء: والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح، والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص، وأما غير الذبائح فهو قسمان:
القسم الأول: ما لا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر وهو حلال بالاتفاق.
والقسم الثاني: ما لهم فيه عمل وهو قسمان- أيضا- أحدهما، ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات وهذا قد اختلف فيه الفقهاء. فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة، ومن هؤلاء: ابن عباس، لأن احتمال النجاسة ثابت، وهو يمنع الحل.
وقد تبع هذا الرأى بعض المالكية، ومن هؤلاء الطرطوسي وقد صنف في تحريم جبن النصارى ويجرى مجرى الجبن الزيت، وعلى هذا الرأى يجرى مجراها السمن الهولاندى وما شابهه. ولكن الجمهور على جواز ذلك مادام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة، والثاني:
المحرم، وهو ما ثبت أنه قد دخله نجاسة بأن دخله أجزاء من الخمر أو الميتة، أو الخنزير، أو غير ذلك من المحرمات» «3» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 65 [.....]
(2) ابن كثير ج 2 ص 19
(3) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد الرابع من السنة التاسعة عشرة.(4/52)
ثم بين- سبحانه- حكم نكاح نساء أهل الكتاب بعد بيان حكم ذبائحهم فقال:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ.
وقوله: وَالْمُحْصَناتُ عطف على الطَّيِّباتُ وهو جمع محصنة.
والإحصان يطلق على معان منها: الإسلام. ولا موضع له هنا لأن الكلام في غير المسلمات، ويطلق على التزوج، ولا موضع له هنا- أيضا- لأنه لا يحل تزوج ذات الزوج.
ويطلق على العفة وعلى الحرية وهذان المعنيان هما المختاران هنا.
فمن الفقهاء من قال: المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا العفيفات ويكون الوصف للترغيب في طلب العفة، والعمل على اختيار من هذه صفتها.
وعلى هذا الرأى يصح الزواج من الكتابيات سواء أكن حرائر أم إماء.
ومنهم من قال: المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا: الحرائر أى أنه لا يحل الزواج بنساء أهل الكتاب إلا إذا كن حرائر.
والمراد بقوله أُجُورَهُنَّ أى مهورهن. وعبر عن المهر بالأجر لتأكيد وجوبه. وعدم الاستهانة بأى حق من حقوقهن.
وقوله. محصنين- بكسر الصاد- أى متعففين بالزواج عن اقتراب الفواحش.
يقال أحصن الرجل فهو محصن أى: تعفف فهو متعفف وأحصن بالزواج الرجل فهو محصن- بفتح- الصاد- أى: أعفه الزواج عن الوقوع في الفاحشة.
وقوله مُسافِحِينَ جمع مسافح. والسفاح. الزنا. يقال: سافح الرجل المرأة إذا ارتكب معها فاحشة الزنا، وسمى الزاني مسافحا. لأنه سفح ماءه أى: صبه ضائعا.
وقوله: أَخْدانٍ جمع خدن- بكسر الخاء وسكون الدال- بمعنى الصديق. ويطلق على الذكر والأنثى.
والمراد بالخدن هنا. المرأة البغي التي يخادنها الرجل أى يصادقها ليرتكب معها فاحشة الزنا.
وغالبا ما تكون خاصة به.
والمعنى: وكما أحل الله لكم- أيها المؤمنون- الطيبات من الرزق، وأحل لكم ذبائح أهل الكتاب، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، فقد أحل لكم- أيضا- نكاح المحصنات من المؤمنات. أى العفيفات الحرائر لأنهن أصون لعرضكم. وأنقى لنطفكم، وأحل لكم نكاح(4/53)
النساء المحصنات أى: الحرائر العفيفات مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أى: من اليهود والنصارى.
قال الآلوسى: وتخصيص المحصنات بالذكر في الموضعين، للحث على ما هو الأولى والأليق، لا لنفى ما عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه، صحيح بالاتفاق. وكذا نكاح غير العفائف منهن. وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم» «1» .
وقوله: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أى: مهورهن، وهي عوض عن الاستمتاع بهن.
قالوا: وهذا الشرط بيان للأكمل والأولى لا لصحة العقد، إذ لا تتوقف صحة العقد على دفع المهر، إلا أن الأولى هو إيتاء الصداق قبل الدخول.
وقوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أمر لهم بالعفة والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وقوله مُحْصِنِينَ حال من فاعل آتَيْتُمُوهُنَّ.
وقوله: غَيْرَ مُسافِحِينَ صفة لمحصنين، أو حال من الضمير المستتر في محصنين.
وقوله: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ يحتمل أن يكون مجرورا على أنه عطف على مسافحين، وزيدت فيه «لا» لتأكيد النفي المستفاد من لفظ غير. ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه عطف على غَيْرَ مُسافِحِينَ.
والمعنى: أبحنا لكم الزواج بالكتابيات المحصنات لتشكروا الله- تعالى- على تيسيره لكم فيما شرع، ولتطلبوا من وراء زواجكم العفة والبعد عن الفواحش، والصون لأنفسكم ولأنفس أزواجكم عن انتهاك حرمات الله في السر أو العلن.
وقدم- سبحانه- المحصنات من المؤمنات على المحصنات من الذين أوتوا الكتاب للتنبيه على أن المحصنات من المؤمنات أحق باختيار الزواج بهن من غيرهن، وأن المحصنة المؤمنة الزواج بها أولى وأجدر وأحسن من الزواج بالمحصنة الكتابية.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
أى: ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله، أى: خاب سعيه. وفسد عمله الذي عمله. وهو في الآخرة من الهالكين الذين ضيعوا ما عملوه في الدنيا من أعمال بسبب انتهاكهم لحرمات الله وأحكام دينه.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 65- بتصرف يسير.(4/54)
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة: الترهيب من مخالفة أوامر الله والترغيب في طاعته- سبحانه-.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من الآية الكريمة:
1- إباحة التمتع بالطيبات التي أنعم بها- سبحانه- على عباده، ولم يرد نص بحرمتها.
2- إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب وإباحة إطعامهم من طعامنا.
3- الترغيب في نكاح المرأة المحصنة أى التي أحصنت نفسها عن الفواحش وصانتها عن كل ريبة واعتصمت بالعفاف والشرف، وكان سلوكها المستقيم دليلا على أنها متمسكة بتعاليم دينها. وبالآداب الحميدة التي جاءت بها شريعة الإسلام.
وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى، ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» ومعنى (تربت يداك) : افتقرت وندمت إن لم تبحث عن ذات الدين، وتجعلها محط طلبك للزواج بها.
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إن امرأتى لا تمنع يد لامس. قال صلى الله عليه وسلّم: «غربها- أى طلقها-» . قال: أخاف أن تتبعها نفسي- أى:
أرتكب معها ما نهى الله عنه بعد طلاقها- قال صلى الله عليه وسلّم: «فاستمتع بها» . أى أبقها مع المحافظة عليها «1» .
4- إباحة نكاح النساء الكتابيات- وهذا مذهب أكثر الفقهاء، لأن هذا هو الظاهر من معنى قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
قال ابن كثير: وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن ربها عيسى، وقد قال الله- تعالى- وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ:
وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ فحجز الناس عنهن حتى نزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فنكح الناس نساء أهل الكتاب.
__________
(1) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ج 2 ص 277 للشيخ منصور على ناصف(4/55)
وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية، وجعلوها مخصصة للتي في سورة البقرة وهي قوله- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها. وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع. كقوله- تعالى- لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ «1» .
وقال بعض العلماء ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أخذه الجمهور على عمومه، فأباحوا التزوج من أهل الكتاب وإن غيروا وبدلوا، ذميين كانوا أو حربيين. وقيده جماعة بالذميين دون الحربيين.
وذهب جماعة من السلف إلى أن أهل الكتاب قد غيروا أو بدلوا وعبدوا المسيح. وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة. فهم بذلك والمشركون في العقيدة سواء وقد حرم الله التزوج من المشركات ونسب هذا الرأى إلى عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة.
وتأولوا الآية بوجوه أقربها أنها رخصة خاصة في الوقت الذي نزلت فيه. قال عطاء: إنما رخص الله في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة. أما الآن ففيهن الكثرة العظيمة، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة.
والذي نراه في المسألة أنه ليس في الآية ما يدل على أنه رخصة، ولا نعلم في الشريعة ما يدل على أنه رخصة. والآية دالة على الإباحة المطلقة، ولم تقيد بوقت خاص، ولا بحالة خاصة.
نعم إن ما نراه اليوم في بعض المسلمين من رغبة التزوج بنساء الإفرنج لا لغاية سوى أنها إفرنجية. ثم يضع نفسه وأولاده تحت تصرفها فتنشئهم على تقاليدها وعاداتها التي تأباها تعاليم الإسلام.
نعم إن ما نراه من كل ذلك يجعلنا نوجب على الحكومات التي تدين بالإسلام وتغار على قوميتها وشعائرها.. أن تمنع من التزوج بالكتابيات، وأن تضع حدا لهؤلاء الذين ينسلخون عن قواميتهم على المرأة. حفاظا على مبادئ الدين وعلى عقيدة أولاد المسلمين.
وإن العمل على تقييد هذا الحكم في التشريع الإسلامى أو منعه، لألزم وأوجب مما تقوم به بعض الحكومات الإسلامية، أو تحاول أن تقوم به، من تحديد سن الزواج للفتاة. وتقييد تعدد الزوجات، وتقييد الطلاق، وما إلى ذلك من التشريعات التي ينشط لها كثير من رجال الحكم، سيرا وراء مدنية الغرب المظلمة.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 20(4/56)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
ألا وإن انحلال الكثرة الغالبة ممن يميلون إلى التزوج بالكتابيات للمعاني التي أشرنا إليها لمما يوجب الوقوف أمام هذه الإباحة التي أصبحت حالتنا لا تتفق والغرض المقصود منها.
وهذا معنى تشهد به كليات الدين وقواعده التي يتجلى فيها شدة حرصه على حفظ شخصية الأمة الإسلامية، وعدم انحلالها وفنائها في غيرها» «1» .
وبعد أن بين- سبحانه- بعض مظاهر نعمه على عباده فيما يتعلق بمطاعمهم. وفيما يتعلق بما يحل لهم من النساء. أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم فيما يتعلق بعبادتهم التي من أهمها الوضوء، والغسل. والصلاة. وأمرهم بالمحافظة على ما شرعه لهم من شرائع وأحكام فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
__________
(1) تفسير القرآن الكريم ص 30 لفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت.(4/57)
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- افتتح السورة بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية.
فقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ طلب الله- تعالى- من عباده أن يفوا بعهد العبودية. فكأنما قيل:
يا إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال- تعالى-: نعم أنا أوفى أولا بعهد الربوبية والكرم.
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح فاستقصى- سبحانه- في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح. وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية.
ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ- سبحانه- بذكر فرائض الوضوء فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «1» .
والمراد بالقيام إلى الصلاة إرادة القيام إليها، والتهيؤ للدخول فيها من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب، للإيجاز وللتنبيه على أن الشأن في المؤمنين أن يكونوا دائما على ذكر من إرادتها وعدم الإهمال في أدائها.
وإنما قلنا المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها لأنه لو بقي الكلام على حقيقته للزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وهذا باطل بالإجماع.
وليس المراد بالقيام انتصاب القامة أو ما يشبه ذلك، بل المراد به الاشتغال بأفعال الصلاة وأقوالها وكل ما يتعلق بذاتها.
قال الآلوسى ما ملخصه: وظاهر الآية يفيد وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين. لكن الإجماع على خلاف ذلك، فقد أخرج مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد. فقال له عمر: يا رسول صنعت شيئا لم تكن تصنعه. فقال صلى الله عليه وسلّم: «عمدا فعلته يا عمر» .
يعنى: بيانا للجواز. فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون بقرينة دلالة الحال.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 150(4/58)
ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا. وقوله- تعالى- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية.
ويحكى عن داود الظاهري أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده كانوا يتوضئون لكل صلاة، ورد بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلّم والخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب وقد ورد: «من توضأ على طهر كتب الله- تعالى- له عشر حسنات» «1» .
وقوله: فَاغْسِلُوا من الغسل وهو إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه وزاد بعضهم: مع الدلك.
وقوله: بِوُجُوهِكُمْ جمع وجه. وهو مأخوذ من المواجهة.
وحد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا.
والمرافق: جمع مرفق- كمنبر ومجلس- وهو ملتقى عظم العضد بعظم الذراع.
والكعبين: تثنية كعب. وهما الجزءان البارزان في أعلى القدم.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون حدثا أصغر، فاغسلوا وجوهكم، أى: فأسيلوا الماء على وجوهكم، وأسيلوه أيضا على أيديكم إلى المرافق وامسحوا بأيديكم المبللة بالماء رءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.
وهنا توسع الفقهاء وبعض المفسرين في ذكر مسائل تتعلق بهذه الآية نرى من الواجب الإلمام بأهمها فنقول:
أولا: أخذ جمهور الفقهاء من قوله- تعالى- إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا إلخ أن الوضوء لا بد فيه من القصد إليه وإرادته لأجل الصلاة لا لأجل أى شيء آخر كالنظافة وغيرها مما يشبهها، وذلك لأن الوضوء عمل من الأعمال التي يقصد بها المسلم الطاعة لله، والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنما الأعمال بالنيات» وعليه تكون النية ركنا من أركان الوضوء، فإذا لم يقصد بوضوئه إرادة الصلاة وابتغاء رضاء الله، لم تكن صلاته بهذا الوضوء صحيحة.
وقال الأحناف. إن النية في الوضوء ليست بفرض. لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة لذاتها.
وإنما هو وسيلة لغيره وهو الصلاة، والنية إنما هي شرط في العبادة نفسها وهي الصلاة باعتبارها المقصد، وليست شرطا في الوسيلة وهي الوضوء.
وعليه فالوضوء يتحقق بغسل ما يجب غسله من الأعضاء المعروفة، ومسح ما يجب مسحه
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 69(4/59)
منها، وللمسلم أن يصلى بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل. قالوا: ومما يشهد بأن الوضوء وسيلة لعبادة ظاهر قوله- تعالى- إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فإنه يدل على أن الصلاة هي المقصودة وهي الغاية أما الوضوء فقد شرع ليكون سبيلا إليها.
ثانيا: قوله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ اتفق الفقهاء على وجوب غسل الوجه إلا أنهم اختلفوا في دخول المضمضة والاستنشاق فيه.
فجمهور الفقهاء اتفقوا على أنهما لا يدخلان في غسل الوجه، بل هما سنتان كان يفعلهما النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه قبل غسل الوجه.
وقال بعض الفقهاء: المضمضة والاستنشاق داخلان في الغسل.
ثالثا: أخذ كثير من الفقهاء من قوله- تعالى- إِلَى الْمَرافِقِ.. وإِلَى الْكَعْبَيْنِ أن المرافق داخلة مع اليدين في وجوب الغسل، وأن الكعبين داخلان مع الرجلين في وجوب الغسل.
قالوا: لأن إِلَى هنا بمعنى مع، ولأن بعض علماء اللغة وعلى رأسهم سيبويه قد قرروا أن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد، وإذا لم يكن من نوعه لم يدخل. وهنا ما بعد إلى من نوع ما قبلها فوجب دخوله في الحد.
ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا، لا يصلح أن يكون علامة واضحة على ذلك، ومن شأن العلامات أن تكون واضحة وهذا لا يتأتى إلا بغسل المرفقين والكعبين.
وفضلا عن كل ذلك فالمعروف من وضوء النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يغسل المرفقين والكعبين.
قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لما رواه الدّارقطنيّ عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه» .
ويرى بعض الفقهاء أن غسل المرفقين والكعبين مستحب، لأن الغاية من قوله: إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ تحتمل أن تدخل المرافق والكعبين في الوجوب وتحتمل عدم الدخول، ولا وجوب مع الاحتمال.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المسألة بقوله: قوله إِلَى الْمَرافِقِ تفيد معنى الغاية مطلقا. فأما دخولها في الحكم وخروجها، فأمر يدور مع الدليل. فمما فيه دليل على الخروج قوله: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ لأن الإعسار علة الإنظار. وبوجود الميسرة تزول العلة. ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسرا وموسرا. وكذلك ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ لو دخل الليل لوجب الوصال في الصوم. ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره- لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله- تعالى-: مِنَ الْمَسْجِدِ(4/60)
الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله.
وقوله إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يدير الماء على مرفقيه» «1» .
رابعا: أجمع الفقهاء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء، لقوله- تعالى- وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ إلا أنهم اختلفوا في مقدار المسح.
فقال المالكية: يجب مسح جميع الرأس أخذا بالاحتياط، وتبعهم في ذلك الحنابلة.
وقال الشافعية: يكفى مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين وقال الحنفية:
يفترض مسح ربع الرأس.
ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء زائدة أو أصلية. فقال المالكية والحنابلة إن الباء كما تكون أصلية تكون- أيضا- زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول واعتبارها هنا زائدة أولى، لأن التركيب حينئذ يدل على مسح جميع الرأس، ويكون البعض داخلا في ذلك.
وقال الأحناف والشافعية الباء هنا للتبعيض، إلا أن البعض لم يقدره الشافعية بمقدار معين، وقدره الأحناف بمقدار ربع الرأس أخذا من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته» قالوا: والناصية تساوى ربع الرأس.
قال بعض العلماء: والسنة الصحيحة وردت بالبيان. وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلّم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي التي استمر عليها صلى الله عليه وسلّم فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان يداوم عليها. وهي مسح الرأس مقبلا ومدبرا. وإجراء غيرها في بعض الأحوال «2» .
خامسا: قوله تعالى وَأَرْجُلَكُمْ وردت فيه قراءتان متواترتان.
إحداهما: بفتح اللام وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب.
والثانية: بكسر اللام وهي قراءة الباقين.
أما قراءة النصب فعلى أن قوله وَأَرْجُلَكُمْ معطوف على قوله وُجُوهَكُمْ أو هو منصوب بفعل مقدر أى: وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.
وأما قراءة الجر فعلى أن قوله وَأَرْجُلَكُمْ معطوف على بِرُؤُسِكُمْ
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 60
(2) تفسير القاسمى ج 6 ص 188(4/61)
قال القرطبي ما ملخصه: فمن قرأ بالنصب جعل العامل «اغسلوا» وبنى على ذلك أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح. وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم واللازم من قوله في غير ما حديث. وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء» ثم إن الله حدهما فقال: إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما قال في اليدين إِلَى الْمَرافِقِ فدل على وجوب غسلهما، ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء. فقال ابن العربي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم. وتعلق الطبري بقراءة الخفض- أى قال بمسح الرجلين.
ثم قال: وقد قيل: إن قوله وَأَرْجُلَكُمْ بقراءة الخفض- معطوف على اللفظ دون المعنى- أى لفظ الرءوس- وهذا أيضا يدل على الغسل، فإن المراعى المعنى لا اللفظ وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب. وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال- تعالى- يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ بالجر لأن النحاس هو الدخان.
ثم قال: والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه، وما ثبت من قوله صلّى الله عليه وسلّم «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» فخوفنا ذكر النار على مخالفة مراد الله. ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب. ومعلوم أن المسح ليس من شأنه الاستيعاب.
ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بطلان من قال بالمسح. إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح.
ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما. وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح وأن العامل في قوله وَأَرْجُلَكُمْ قوله فَاغْسِلُوا والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما. تقول: أكلت الخبز واللبن. أى: وشربت اللبن «1» .
وقد عقد الإمام ابن كثير فصلا أورد فيه- عند تفسيره لهذه الآية- كثيرا من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين، وجعل عنوانه: «ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 91- ص 96.(4/62)
ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين والسنن عن عثمان وعلى وابن عباس. أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة، وإما مرتين أو ثلاثا. على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توضأ فغسل قدميه ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» .
وعن جابر بن عبد الله قال: رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله فقال:
«ويل للأعقاب من النار» .
ثم قال ابن كثير: ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة. وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنه يجوز ذلك لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل. بل يجرى فيه ما يجرى في مسح الخف «1» .
ويرى الزمخشري أن قراءة الجر في قوله وَأَرْجُلَكُمْ محمولة في المعنى على النصب ويكون السبب في عطفها على الرءوس المجرورة، للإشارة إلى وجوب عدم الإسراف في الماء. فقد قال: فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها: فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث المسموح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.
وقد وضح هذا المعنى الشيخ ابن المنير بقوله: لم يوجه الزمخشري قراءة الجر بما يشفى الغليل. والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما مساس بالعضو، فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم، كقوله: متقلدا سيفا ورمحا. وعلفتها تبنا وماء باردا. ونظائره كثيرة.
ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار. وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا:
واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح، ونبه بهذا التشريك- الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدا. على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح. وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة وهذا تقرير كامل لهذا المقصود» «2» .
هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء سواء أكانت القراءة بالنصب أم
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 26
(2) تفسير الكشاف وحاشيته ج 1 ص 610(4/63)
بالجر. وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطا موسعا فليرجع إليها من شاء «1» .
سادسا: أخذ الأحناف من هذه الآية الكريمة أن أركان الوضوء هي هذه الأربعة فحسب أى: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين.
وقد أضاف جمهور الفقهاء إلى ذلك النية- كما سبق أن أشرنا- كما أضافوا الترتيب بين الأركان بحيث يغسل الوجه أولا ثم اليدان ثم من بعدهما مسح الرأس، ثم غسل الرجلين، لأن هذه الأركان قد ذكرت بهذا التريب في القرآن فيجب التزامه. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخالف هذا الترتيب ولو مرة واحدة فوجب اتباع ما جاء عنه صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الأحناف: الترتيب ليس فرضا، لأن العطف بين الأركان بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا.
كذلك أضاف بعض الفقهاء إلى أركان الوضوء الموالاة بمعنى أن يواصل المتوضئ الاشتغال بوضوئه ولا ينقطع عنه. وذهب بعضهم إلى أن ذلك سنة.
والذي تطمئن إليه النفس أن المتوضئ إذا انقطع وضوؤه بعمل أجنبى لمدة جفت معها أعضاء الوضوء وجب عليه استئناف الوضوء مبتدئا بأوله. أما إذا قطع المتوضئ وضوءه لفترة قصيرة بحيث بقيت آثار الوضوء ظاهرة فإنه في هذه الحالة يجوز له الاستمرار فيه.
تلك هي بعض المسائل التي رأينا أن نتكلم عنها بإيجاز بمناسبة حديثنا عن هذه الآية الكريمة وهناك مسائل أخرى تتعلق بها تكفلت كتب الفروع بتفصيلها. وقد انتقلت الآية الكريمة بعد حديثها عن الوضوء إلى الحديث عن الاغتسال وموجبه فقال- تعالى- وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا.
والجنب من أصابته الجنابة بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما مما تتحقق معه الجنابة. وكلمة جنب من الألفاظ التي يستوي فيها الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث لجريانها مجرى المصدر، فيقال: رجل جنب، وامرأة جنب، وهما جنب، ورجال ونساء جنب.. واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة، لأن الجنابة معنى شرعي يستلزم من المسلم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يتطهر.
وقوله فَاطَّهَّرُوا أصله فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء فسكنت فأتى بالهمزة.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الدخول في الصلاة فعليكم أن تتوضئوا قبل دخولكم
__________
(1) راجع تفسير الآلوسى ج 6 ص 610 [.....](4/64)
فيها بأن تغسلوا وجوهكم وتغسلوا أيديكم إلى المرافق، وتمسحوا برءوسكم. وتغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، هذا إذا كنتم محدثين حدثا أصغر وأردتم الصلاة أما إذا كنتم محدثين حدثا أكبر، بأن كنتم جنبا بسبب خروج منى أو التقاء ختانين وأردتم الدخول في الصلاة فعليكم في هذه الحالة أن تتطهروا. أى: تغسلوا بالماء جميع بدنكم. لأن الأمر بالتطهر لما لم يتعلق بعضو دون عضو، كان أمرا شاملا لتطهير جميع البدن، بدليل أن الوضوء لما تعلق بعضو دون عضو نص الله- تعالى- في الآية على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها.
وإنما حملت الطهارة هنا على الطهارة بالماء لأن الماء هو الأصل كما يشير إلى ذلك قوله- تعالى- وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» ولأنه- سبحانه- قد ذكر بعد هذه الجملة ما يحل محل الماء عند فقده.
والتعبير بقوله فَاطَّهَّرُوا فيه إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء على الجسد كله، وإيماء إلى أن النجاسة المعنوية قد عمت كل أجزاء الجسم، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم ولا شك أن الاغتسال بعد الجناية أو الحيض أو النفاس فيه إنعاش الجسم بعد أن أصابه التعب والإنهاك، وفيه كذلك طهارة نفسية، لأنه يبعث في الإنسان حسن الاستعداد لذكر الله، ولأداء تكاليفه.
قال الفخر الرازي: والدلك غير واجب في الغسل. وقال مالك: الدلك واجب وحجة غيره أن قوله فَاطَّهَّرُوا أمر بتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك. ثم قال:
والشافعى قال: المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل- ومثله في ذلك الإمام مالك.
وقال أبو حنيفة- والحنابلة- هما: واجبان لأن الآية تقول فَاطَّهَّرُوا وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم. وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس، ما عدا الأجزاء الباطنة التي لا يمكن تطهيرها. وداخل الفم والأنف يمكن تطهير هما. فوجب بقاؤهما تحت النص. ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة» فقوله «بلوا الشعر» يدخل فيه الأنف. لأن داخله شعر. وقوله «وأنقوا البشرة» يدخل فيه الجلدة التي داخل الفم. وحجة الشافعى- ومالك قوله صلّى الله عليه وسلّم أما أنا فأحثى على رأسى ثلاث حثيات فإذا أنا.
قد طهرت» وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك في مجلس جماعة من أصحابه كانوا يتحدثون أمامه في أمر الغسل، وكل يبين ما يعمله «2» .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 11
(2) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 165 الطبعة البهية.(4/65)
ثم شرع- سبحانه- في بيان الاعذار التي تبيح التيمم من أجل الطهارة عند العجز عن استعمال الماء فقال- تعالى-: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ والمراد بالمرضى في قوله- تعالى- وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقا كأن يكون استعمال الماء يزيد المرض شدة، أو يبطئ البرء.
وقوله أَوْ عَلى سَفَرٍ في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله مرضى وليس المراد بالسفر هنا سفر القصر، وإنما المراد السير خارج العمران سواء أوصل المسافر إلى مسافة القصر أم لا، بخلافه في قوله- تعالى- في سورة البقرة: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فان المراد به هناك سفر القصر، إنما قيد الأمر هنا بالسفر مع أن المنظور إليه عدم الماء لأن السفر هو الذي يغلب فيه عدم الماء بخلاف الحضر ولو فرض عدم الماء في الحضر وجب التيمم على المحدث عند إرادة الصلاة عند الحنفية والمالكية والشافعية.
وقوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ معطوف على ما قبله والغائط: من الغيط وهو المكان المنخفض من الأرض. وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس.
وفي إسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين، سمو في التعبير. حيث تحاشى- سبحانه- التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو يستهجن التصريح به. وفي ذلك ما فيه من تعليم الناس الأدب في الخطاب، والبعد عن الألفاظ التي تخدش الحياء، ويمجها الذوق السليم.
والمراد بالملامسة في قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع: فهو هنا كناية عما يكون بين الرجل والمرأة مما يوجب الاغتسال: وهي كناية قرآنية أراد- سبحانه- أن يعلم الناس منها حسن التعبير، والبعد عن الألفاظ التي تتنافى مع آداب الإسلام وتعاليمه السامية.
وإلى هذا الرأى اتجه كثير من الصحابة، منهم على بن أبى طالب وابن عباس وأبو موسى.
وتبعهم في ذلك كثير من الفقهاء كأبى حنيفة وأبى يوسف وزفر والثوري فقد قالوا: لا وضوء على من مس امرأة سواء أكان المس بشهوة أو بدونها. واستدلوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقبل نساءه ثم يصلّى ولم يتوضأ وكان يقبلهن وهو صائم.
واستدلوا- أيضا- بأن ظاهر مادة المفاعلة يكون في الفعل من الجانبين مقصودا، وذلك إنما يتأتى في الجماع دون اللمس باليد. وأيضا فإن اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع كما في قوله- تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ(4/66)
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
«1» .
ويرى جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود أن المراد بالملامسة هنا اللمس باليد، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء.
وقد سار الإمام الشافعى على هذا الرأى فقال: إذا مس جسدها فعليه الوضوء سواء أكان المس بشهوة أم بغير شهوة.
ومن أدلته أن اللمس حقيقة في المس باليد، وهو في الجماع مجاز أو كناية ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة ويرى الإمام مالك أن اللمس إن كان بشهوة وتلذذ فعليه الوضوء، وكذا إذا مسته بشهوة وتلذذ، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليهما.
وقد انتصر كل فريق لرأيه بصورة أوسع من ذلك في كتب الفروع. والذي نراه أولى بالصواب في هذه المسألة ما قاله الإمام مالك- رحمه الله- لأنه بنى رأيه على وجود الشهوة وعدمها. والفاء في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى.
والضمير في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا يعود لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس وفيه تغليب للخطاب على الغيبة.
والمراد بعدم الوجدان في قوله هنا فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ما هو أعم من الوجود الحسى أى: أن قوله: «فلم تجدوا ماء» كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا، إذ أن الشيء المتعذر استعماله هو والمعدوم سواء.
وقوله: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً جواب الشرط وهو قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى.
والمعنى: وإن كنتم- أيها المؤمنون- في حالة مرض يحول بينكم وبين استعمال الماء أو كنتم مستقرين على سفر أو كنتم محدثين حدثا أصغر أو أكبر، أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء تستعملونه لطهارتكم، ولأداء ما كلفكم الله به من تكاليف، أو وجدتموه ولكن منعكم مانع من استعماله، أو كنتم في حاجة ماسة إليه، فعليكم في هذه الأحوال أن تتيمموا صعيدا طيبا بدلا من الماء، فإن الله- تعالى- ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً يعود إلى الجميع ما عدا المرضى، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله. وعلى هذا الرأى يكون المراد بعدم الوجدان، عدم الوجدان الحسى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 237(4/67)
والتيمم لغة القصد. يقال تيممت الشيء إذا قصدته.
ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به.
وأما الصعيد- بوزن فعيل- فيطلق على وجه الأرض البارز ترابا كان أو غيره. وقيل يطلق على التراب فحسب.
والطيب: الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر.
وقوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ بيان لكيفية التيمم.
أى: إذا لم تجدوا ماء للتطهر به، أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله، فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم.
وقد استدل بعض الفقهاء بقوله: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر، لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب.
ويرى بعض آخر أن التيمم يجوز بالتراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض. متى كان طاهرا. قالوا: لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض. وهذه الصفة لا تختص بالتراب.
قال القرطبي- بعد أن ذكر آراء الفقهاء في ذلك- «وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب والصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره ومنع وهو مذهب الشافعى وغيره» «1» .
كما استدل الأحناف والشافعية بقوله- تعالى- فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ على أن التيمم المطلوب شرعا هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير.
والعضوان هما الوجه واليدان إلى المرفقين، فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التيمم ضربتان ضربة للوجه. وضربة للذراعين إلى المرفقين» .
ويرى الحنابلة والمالكية أن العضوين هما الوجه واليدين إلى الرسغين. هذا، وقد تكلمنا عن هذه المسألة وغيرها بصورة أوسع عند تفسيرنا لقوله- تعالى- في سورة النساء:
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 237(4/68)
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان بعض مظاهر رحمته بعباده، ورعايته لمصالحهم فقال- تعالى ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أى: ما يريد الله- تعالى- بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل بعد الجنابة، ومن الأمر بالتيمم عند وجود أسبابه، ما يريد- سبحانه- بذلك لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أى ضيق ومشقة وعسر، ولكن يريد بذلك ليطهركم.
أى: ليطهر نفوسكم من الأرجاس الحسية والمعنوية وليزيل عنها ما علق بها من ذنوب وأوساخ، ويريد بذلك أيضا لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بما شرع لكم من أحكام ميسرة ومن آداب عالية، ومن تكاليف جليلة لكي تشكروه على نعمه وإحسانه وتشريعاته، لأنكم متى شكرتم زادكم من فضله ومننه.
وعبر- سبحانه- عن نفى الحرج بنفي إرادته، مبالغة في بيان رأفته- سبحانه- بعباده، ورعايته لمصالحهم. فكأنه- سبحانه- يقول: ما كان من شأن الله- تعالى- مع عباده أن يشرع لهم ما فيه مشقة أو حرج.
وقوله لِيَجْعَلَ يحتمل أن يكون الجعل بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو قوله:
مِنْ حَرَجٍ وتكون مِنَ زائدة لتأكيد النفي وقوله عَلَيْكُمْ متعلق بالجعل. ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير فيكون قوله عَلَيْكُمْ هو المفعول الثاني، وقوله: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ استدراك قصد به بيان بعض مظاهر رحمته- سبحانه- بالمؤمنين ومحبته لسعادتهم ولتزكية نفوسهم وتطهيرها من الذنوب والأدران كما قصد به حضهم على مداومة شكره حتى يزيدهم من فضله.
وقريب من معنى هذه الجملة قوله- تعالى- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2» . وقوله- تعالى- وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» وقوله تعالى- يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً «4» .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما أرادوا
__________
(1) راجع تفسيرنا لسورة النساء الآية 43
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة الحج الآية 78
(4) سورة النساء الآية 28(4/69)
الدخول في الصلاة، وما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما كانوا جنبا، وما يجب أن يفعلوه إذا ما فقدوا الماء أو عجزوا عن استعماله وكانوا يريدون الطهارة أو أداء ما عليهم من تكاليف، كما بينت لهم حكمة الله في تشريعاته لهم، ورعايته لمصالحهم حتى يشكروه على نعمه فيزيدهم منها.
ثم بعد أن بين- سبحانه- بعض مظاهر فضله على عباده ورحمته بهم، أتبع ذلك بأمرهم بمداومة شكره، وبالوفاء بعهده فقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا.
أى: تنبهوا أيها المؤمنون- بعقولكم وقلوبكم لما أسبغه الله عليكم من منن فداوموا على شكرها وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بدين الإسلام الذي هديتم به إلى الصراط المستقيم، واذكروا كذلك مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أى: عهده الوثيق الذي أخذه عليكم، وأمركم بالتزامه بكل قوة.
وقوله: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ظرف لقوله واثَقَكُمْ بِهِ أى: إذ قلتم وقت أن أخذ عليكم العهد الموثق: سمعنا قولك وأطعنا أمرك.
فأنت ترى أن الآية الكريمة أوجبت على المؤمنين أمرين:
أولهما: التنبه إلى نعم الله وعلى رأس هذه النعم نعمة الهداية إلى دين الإسلام، ومداومة شكره- سبحانه- على ذلك.
وثانيهما: الوفاء بعهوده التي أخذها عليهم، وتقبلوها بالسمع والطاعة لأنهم متى شكروه على نعمه، وكانوا أوفياء بعهودهم، زادهم- سبحانه- من فضله وعطائه قال الفخر الرازي: وإنما قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ولم يقل نعمه عليكم، لأنه ليس المقصود منه التأمل في أعداد نعم الله، بل المقصود منه التأمل في جنس النعم. كالنظر إلى الحياة والصحة والعقل والهداية وحسن التدبير والصون عن الآفات والعاهات. فجنس هذه النعم لا يقدر عليه سوى الله- تعالى- فيكون وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل.
وإنما قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهو يشعر بنسيانها مع أن مثلها في تواترها لا ينسى، للإشارة إلى أنه لكثرة هذه النعم وتعاقبها، صارت كالأمر المعتاد الذي لكثرة وجوده قد يغفل عنه المرء» «1» والمراد بالميثاق الذي أخذه عليهم ما جرى بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين المؤمنين من عهود على أن
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 178- بتصرف وتلخيص-.(4/70)
يسمعوا له ويطيعوا في العسر واليسر، والمنشط والمكره، كما حدث مع الأنصار ليلة العقبة، وكما حدث مع المؤمنين جميعا في بيعة الرضوان وإنما أضيف الميثاق إلى الله تأكيدا لوجوب الوفاء به ولأنه- سبحانه- هو الذي شرعه وهو الذي سيحاسبهم على نقضه وعدم الوفاء به وقال مجاهد: المراد به الميثاق الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من ظهر آدم، وضعف هذا القول بأن الخطاب هنا للمؤمنين وليس للبشر جميعا.
قال ابن جرير ما ملخصه: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك: قول ابن عباس، وهو أن معناه: واذكروا أيها المؤمنون- نعمة الله التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم إلى الإسلام وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعنى: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة له في المنشط والمكره، والعسر واليسر، إذ قلتم سمعنا ما قلت لنا وأخذت علينا من المواثيق، وأطعناك فيما أمرتنا ونهيتنا عنه.. فأوفوا- أيها المؤمنون- بميثاقه الذي واثقكم به ونعمته التي أنعم عليكم بها يوف لكم بما ضمن لكم الوفاء به، من إتمام نعمته عليكم، وبإدخالكم جنته، وإنعامكم بالخلود في دار كرامته وإنقاذكم من عذابه وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال المراد بالميثاق ما أخذ عليهم في صلب آدم، لأن الله بعد أن ذكر المؤمنين بميثاقه الذي واثقهم به، ذكر بعد ذلك أهل التوراة بالميثاق الذي أخذه الله عليهم في قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ منبها بذلك المؤمنين على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه، ويعرفهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه «1» وبعد أن ذكر الله- تعالى- المؤمنين بنعمته عليهم وبميثاقه الذي واثقهم به وأمرهم بالوفاء بما كلفهم به ختم- سبحانه- الآية بأمرهم بخشيته والخوف منه قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
أى: اشكروا الله- أيها المؤمنون- على نعمته، وكونوا أوفياء بعهودكم واتقوا الله وراقبوه في كل ما تأتون وما تذرون، وصونوا أنفسكم عن كل ما يكرهه لكم، فإنه- سبحانه- عليم علما تاما بخفيات الأمور الكامنة في الصدور. وبكل ما يظهره الإنسان ويبطنه، وسيحاسبكم يوم القيامة على أعمالكم، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته و (ذات الصدور) هي الأمور المستقرة في الصدور، فهي بالنسبة للصدور كالصاحب بالنسبة لصاحبه الذي يلازمه ولا يفارقه. ومثلوا لها بالنيات والاعتقادات وسائر الأمور القلبية.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 140(4/71)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
والجملة الكريمة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ وكرر- سبحانه- اسمه الجليل لإشعار المؤمنين برقابته التامة عليهم. واطلاعه على أحوالهم المختلفة، وأعمالهم المتنوعة وللإشارة إلى أنه إذا كان- سبحانه- يعلم خفيات الأمور، فمن باب أولى يعلم جلياتها.
وبعد أن أمر الله- تعالى- عباده المؤمنين بالوفاء بمواثيقه، أتبع ذلك بأمرهم بالتزام الحق في كل أقوالهم وأعمالهم، وذكرهم بما أفاء عليهم من نعم فقال- سبحانه-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
وقوله: قَوَّامِينَ جمع قوام. وهو صيغة مبالغة من قائم. والقوام: هو المبالغ في القيام بالشيء. وفي الإتيان به على أتم وجه وأحسنه.
وقوله: شُهَداءَ جمع شهيد- بوزن فعيل- والأصل في هذه الصيغة، دلالتها على الصفات الراسخة في النفس ككريم وحكيم.(4/72)
والقسط: العدل يقال أقسط فلان يقسط إذا عدل في أقواله وأحكامه وقوله وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أى: ولا يحملنكم من جرمه على كذا إذا حمله عليه أو معناه:
ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة وأصل الجرم قطع الثمرة من الشجرة وأطلق على الكسب لأن الكاسب ينقطع لكسبه والشنآن: البغض الشديد. يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا، إذا أبغضته بغضا شديدا.
والمعنى. يا أيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أى. ليكن من أخلاقكم وصفاتكم أن تقوموا لله وحده بالحق في كل ما يلزمكم القيام به. ومن العمل بطاعته، واجتناب منهياته، وليكن من دأبكم وشأنكم- أيضا- أن تلتزموا العدل في شهادتكم، ولا يحملنكم بغضكم الشديد لقوم على عدم العدل معهم، فإن عدم العدل في الأقوال والأحكام يتنافى مع تعاليم دين الإسلام. الذي آمنتم به، ورضيه الله لكم دينا.
وفي ندائه- سبحانه- بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بصفة الكينونة الدالة على الدوام، وبصيغة المبالغة الدالة على الكثرة. لتمكين صفة الطاعة له من نفوسهم، وترسيخها في قلوبهم.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: روضوا أنفسكم على طاعة خالقكم، وعودوها على التزام الحق والعدل. واجعلوا ذلك شأنكم في جميع الظروف والأحوال فلا يكفى أن تلتزموا الطاعة والعدل مرة أو مرتين، وإنما الواجب عليكم أن يكون التزامكم لذلك في كل أوقاتكم وأعمالكم.
وقوله: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى تصريح بوجوب العدل بعد ما علم من النهى عن تركه في قوله وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا للتأكيد على وجوب التزامهم بما أمرهم- سبحانه- به وما نهاهم عنه، ولبيان العلة في تكليفهم بذلك.
والضمير هُوَ يعود إلى المصدر المفهوم من قوله: اعْدِلُوا.
أى: التزموا- أيها المؤمنون- العدل في كل أحوالكم، فإن العدل مع الأعداء ومع غيرهم أقرب إلى اتقاء المعاصي، وإلى صيانة النفس عن الوقوع في المهالك.
وقال- سبحانه اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى مع أن العدل دليل التقوى ولبابها لأن المؤمن في حال حربه وتعامله مع عدوه قد يرى أن من التقوى أن يستبيح ما له، وأن يأخذ منه ما يمكن(4/73)
أخذه، فبين له القرآن الكريم أن الأقرب إلى التقوى التامة أن يحسن معاملة عدوه، وأن لا يعتدى على حق من حقوقه.
قال صاحب الكشاف، قوله: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى نهاهم أولا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أى: العدل أقرب للتقوى، وأدخل في مناسبتها.
وفيه تنبيه على أن وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه» «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.
أى: واتقوا الله أيها المؤمنون- في كل ما تأتون وما تذرون، وصونوا أنفسكم عمّا لا يرضيه، وافعلوا ما أمركم به، إن الله- تعالى- لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه على حسب أعمالكم فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير من مخالفة أوامر الله، ومن انتهاك حرماته.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد أمرت المؤمنين بالمداومة على طاعة الله في جميع الأوقات والأحوال، وبأداء الشهادات على وجهها بدون محاباة ولا ظلم، وبوجوب العدل في معاملة الأعداء والأصدقاء، وبمراقبة الله- تعالى- وخشيته في السر والعلانية.
قال الآلوسى: وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ «2» - ولم يكتف بذلك لمزيد من الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ. وقيل: لاختلاف السبب، فإن الأولى نزلت في المشركين، وهذه في اليهود. وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه. بدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس، ولا والد ولا قرابة. والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيام لله- تعالى- لأنه أردع للمؤمنين، ثم ثنى بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه» «3» .
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة الكافرين فقال- تعالى- وَعَدَ اللَّهُ بفضله وإحسانه الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقا وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي نالوا بها رضا الله، وعدهم بأن لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة ولهم أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يعرف مقداره إلا
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 613
(2) الآية 135 من سورة النساء.
(3) تفسير الآلوسى ج 6 ص 83(4/74)
هو- سبحانه-. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا التي جاء بها نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أى: أولئك الموصوفون بما ذكر من الكفر والتكذيب بآياتنا هم المستحقون لدخول النار المشتعلة الشديدة التأجج، بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان والتكذيب على التصديق.
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمة أخرى من نعمه الجزيلة، حتى يزدادوا شكرا له، ووفاء بعهده والتزاما لطاعته فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.
وقد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه عبد الرازق عن معمر الزهري عن أبى أسامة عن جابر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها. وعلق النبي صلّى الله عليه وسلّم سلاحه بشجرة فجاء أعرابى إلى سيف رسول الله فأخذه فسله. ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك منى؟ قال: الله- عز وجل- فسقط السيف من يد الأعرابى. فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابى، وهو جالس إلى جانبه ولم يعاقبه.
قال ابن كثير: وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد أنها نزلت في شأن بنى النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك. وأمروه إن جلس النبي صلّى الله عليه وسلّم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقى تلك الرحى من فوقه. فأطلع الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم على ما تمالئوا عليه. فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه. فأنزل الله في ذلك هذه الآية «1» .
وعلى هاتين الروايتين وما يشبههما يكون المراد بقوله- تعالى- اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم حيث نجى نبيهم صلّى الله عليه وسلّم مما أضمره له أعداؤه وأعداؤهم.
وقال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية. روى أن المشركين رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا بعسفان في غزوة ذات أنمار. فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا: إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم- يعنون صلاة العصر- وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها. فنزل جبريل بصلاة الخوف «2» .
وعلى هذه الرواية يكون المراد بقوله- تعالى- اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكيرهم برعاية الله لهم ولنبيهم صلّى الله عليه وسلّم من كيد أعدائهم.
وقد رجح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 31 [.....]
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 613(4/75)
للنبي وأصحابه فقال: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم صلّى الله عليه وسلّم مما كانت يهود بنى النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إليهم في الدية التي كان تحملها عن قتيلى عمرو بن أمية وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله عقب ذكر ذلك برمي اليهود بسوء صنائعها، وقبيح أفعالها، وخيانتها ربها وأنبياءها «1» .
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا تنبهوا إلى نعم الله عليكم وقابلوها بدوام الشكر والطاعة له- سبحانه- حيث أراد قوم من أعدائكم، أن يبسطوا إليكم أيديهم. أى: أن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك ولكنه- سبحانه- رحمة بكم، ودفاعا عنكم، حال بين أعدائكم وبين ما يريدونه بكم من سوء.
فالآية الكريمة تذكير للمؤمنين بنعمة عظيمة من نعم الله عليهم حيث نجاهم من كيد أعدائهم، ومن محاولتهم إهلاكهم. إثر تذكيرهم قبل ذلك بنعم أخرى كإكمال الدين، وهدايتهم إلى الإسلام، وغير ذلك من الآلاء والمنن.
وفي تكرار هذا التذكير ما فيه من الحض على تأكيد المداومة على طاعة الله والمواظبة على شكره.
وقوله إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ظرف لقوله: نِعْمَتَ اللَّهِ والهم: إقبال النفس على فعل الشيء.
أى: اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن قصدكم قوم من أعدائكم بالسوء والإهلاك.
وبسط اليد هنا كناية عن البطش والإهلاك. يقال: بسط يده إليه، إذا بطش به. وبسط إليه لسانه: إذا شتمه. والبسط في الأصل: مطلق المد. وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر.
وقوله: فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ معطوف على قوله: هَمَّ قَوْمٌ وهذا الكف هو النعمة التي قصد تذكيرهم بها حتى يداوموا على شكره وطاعته وعبر- سبحانه- بقوله إِذْ هَمَّ قَوْمٌ للإيذان بأن نعمة كف أيدى الأعداء عنهم قد جاءت عند شدة الحاجة إليها والفاء في قوله فَكَفَّ للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها فهو- سبحانه- قد حال بين الأعداء وبين ما يشتهونه بمجرد أن قصدوا السوء بالمؤمنين.
وقال- سبحانه- فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ بإظهار الأيدى، ولم يقل فكفها عنكم لزيادة
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 147(4/76)
التقرير. وللإشارة إلى أنه- سبحانه- هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم، ومناط شدتهم إذ الأيدى هي من أهم وسائل البطش والقتل.
أى: أنه- سبحانه- قد منع أيديهم عن أن تمتد إليكم بالأذى عقيب همهم بذلك دفاعا عنكم- أيها المؤمنون- وحماية لكم من الشرور، فقابلوا ذلك بالشكر لخالقكم. وقوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ معطوف على قوله: اذْكُرُوا وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر لهم بالاعتماد على الله وحده.
أى: داوموا على شكر نعم الله عليكم، وصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه، وعليه وحده اعتمدوا وتوكلوا فإنه- سبحانه- هو الفعال لما يريد، وهو الذي يدفع الشر عمن توكل عليه، ويعطى الخير لمن شكره وأطاعه.
فالجملة الكريمة تذييل مقرر لما قبله، من وجوب المداومة على طاعة الله وشكره على نعمه.
وإلى هنا نرى أن السورة الكريمة قد وجهت إلى المؤمنين خمسة نداءات، أمرتهم في أول نداء منها بالوفاء بالعقود. ونهتهم في الثاني عن إحلال شعائر الله، وأرشدتهم في النداء الثالث إلى ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا أرادوا الدخول في الصلاة، وأمرتهم في النداء الرابع بالمداومة على القيام بالتكاليف التي كلفهم- سبحانه- بها وبالتزام العدل في أقوالهم وأحكامهم، ثم أمرتهم في النداء الخامس بالتنبه إلى نعم الله ومداومة شكره عليها حيث نجاهم- سبحانه- مما أراده لهم أعداؤهم من شرور واستئصال وبعد هذه النداءات والتكليفات التي كلف الله- تعالى- بها المؤمنين، شرعت السورة الكريمة في الحديث عن أحوال أهل الكتاب من اليهود، فذكرت ما أخذه الله عليهم من عهود موثقة، وموقفهم منها، وعقوبتهم على نقضهم لها. فقال- تعالى-:(4/77)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قال الفخر الرازي: قوله- تعالى- وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه- تعالى- خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا. ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بنى إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به، فلا تكونوا- أيها المؤمنون- مثلهم في هذا الخلق الذميم.
الثاني: أنه لما ذكر قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ وقد ذكرت بعض الروايات أنها نزلت في اليهود، وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالمؤمنين. فلما ذكر- سبحانه ذلك أتبعه بذكر فضائحهم، وبيان أنهم كانوا أبدا مواظبين على نقض العهود والمواثيق.
الثالث: أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان. فذكر- سبحانه- أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والإلزام غير مخصوصة بهم، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده» «1» .
والميثاق: العهد الموثق المؤكد، مأخوذ من لفظ وثق المتضمن معنى الشد والربط على الشيء بقوة وإحكام.
والمراد به: ما أخذه الله على بنى إسرائيل لكي يؤدوا ما أوجب عليهم من تكاليف ولكي يعملوا بما تضمنته التوراة من أحكام وتشريعات وغير ذلك مما جاء فيها.
والنقيب: كبير القوم. والكفيل عليهم والمنقب عن أحوالهم وأسرارهم فيكون شاهدهم
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 183(4/78)
وضمينهم وعريفهم، وأصله من النقب وهو الثقب الواسع.
قال الآلوسى. والنقيب: قيل فعيل بمعنى فاعل مشتق من النقب بمعنى التفتيش ومنه فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ وسمى بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأمرهم.
قال الزجاج: وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل:
ويقول: فلان حسن النقيبة. أى: جميل الخليقة، ويقال: فلان نقاب للعالم بالأشياء، الذكي القلب، الكثير البحث عن الأمور «1» .
والمعنى: ولقد أخذ الله العهود المؤكدة على بنى إسرائيل. لكي يعملوا بما كلفهم من تكاليف، وأمر نبيه موسى- عليه السلام- أن يختار متهم اثنى عشر نقيبا. وأن يرسل هؤلاء النقباء إلى الأرض المقدسة لكي يطلعوا على أحوال ساكنيها، ثم يخبروا نبيهم موسى- عليه السلام- بعد ذلك بما شاهدوه من أحوالهم.
وسنفصل القول في شأن بعث هؤلاء النقباء عند تفسيرنا لقوله- تعالى- بعد ذلك وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً.
وأكد- سبحانه- ما أخذه على بنى إسرائيل من عهود بقد وباللام، للاهتمام بشأن هذا الخبر، ولترغيب المؤمنين في الوفاء بعهودهم مع الله- تعالى- حتى لا يصيبهم ما أصاب بنى إسرائيل من عقوبات بسبب نقضهم لمواثيقهم.
وأسند- سبحانه- الأخذ إليه، لأنه هو الذي أمر به موسى- عليه السلام- ولأن في إسناد أخذ الميثاق إليه- سبحانه- زيادة في توثيقه، وتعظيم توكيده وأى عهد يكون أقوى وأوثق من عهد يكون بين العبد والرب؟
وفي قوله: وَبَعَثْنا التفات إلى المتكلم العظيم- سبحانه- لتهويل شأن هذا الابتعاث، لأن الله- تعالى- هو الذي أمر به.
وإنما اختار موسى- عليه السلام- اثنى عشر نقيبا من بنى إسرائيل لأنهم كانوا اثنى عشر سبطا، كما قال- تعالى- وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً «2» ولأن كل نقيب كان بمنزلة الرقيب على القبيلة التي هو منها يذكرها بالفضائل ويرغبها في اتباع موسى- عليه السلام- وينهاها عن معصيته.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 85
(2) سورة الأعراف الآية 160.(4/79)
والمعية في قوله- تعالى- وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ معية مجازية بمعنى الحفظ والرعاية والنصرة.
أى: أخذ الله على بنى إسرائيل العهود الموثقة، وأمر نبيه موسى أن يرسل منهم اثنى عشر نقيبا لمعرفة أحوال الجبارين الذين يسكنون الأرض المقدسة وقال الله- تعالى- لهؤلاء النقباء، أو لبنى إسرائيل جميعا: إنى معكم لا تخفى علىّ خافية من أحوالكم. وسأؤيدكم برعايتي ونصرى متى وفيتم بعهدي، واتبعتم رسلي. فالجملة الكريمة تحذير لهم من معصية الله لأنه لا تخفى عليه خافية، ووعد لهم بالنصر متى أطاعوه.
ثم بين- سبحانه- بعض التكاليف التي كلفهم بها، وأخذ عليهم العهد بالمحافظة عليها فقال: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
واللام في قوله لَئِنْ موطئة للقسم المحذوف، و «إن» شرطية، وقوله: لَأُكَفِّرَنَّ جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.
وقوله: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ من التعزيز بمعنى النصر والإعانة مع التعظيم والتفخيم يقال: عزر فلان فلانا إذا نصره وقواه، وأصل معناه: المنع والذب لأن من نصر إنسانا منع عنه أعداءه.
والمعنى: لئن داومتم على إقامة الصلاة، وعلى أدائها على الوجه الأكمل بخضوع وخشوع، وأعطيتم الزكاة لمستحقيها وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي إيمانا كاملا، ونصرتموهم مع تعظيمهم وطاعتهم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن أنفقتم جانبا من أموالكم في وجوه الخير والبر، لئن فعلتم ذلك لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ بأن أغفرها لكم، ولأدخلنكم في الآخرة جنات تجرى من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار فأنت ترى أن الله- تعالى- قد كلف بنى إسرائيل بخمسة أمور نافعة ووعدهم على أدائها بتكفير سيئاتهم في الدنيا، وبإدخالهم جناته في الآخرة.
قال الإمام الرازي: وأخر- سبحانه- الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها لأن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد في حصول النجاة من الصلاة وإيتاء الزكاة، إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل. فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود. وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل» «1» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 185(4/80)
والمراد بالزكاة في قوله وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ الزكاة المفروضة.
والمراد بالقرض الحسن في قوله وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الصدقات غير المفروضة التي يبذلها القادرون عليها في وجوه الخير المتنوعة بدون رياء أو أذى وفي التعبير بقوله: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً تأنيس للقلوب وترغيب للنفوس في البذل والعطاء، حيث شبه- سبحانه- ما يعطى للمحتاج رغبة في الثواب بالقرض الذي سيكافئ الله- تعالى- صاحبه عليه بأضعافه من الخير والنعم.
وأضاف- سبحانه- الرسل إليه في قوله وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي لتشريفهم وتكريمهم وتعظيم شأن رسالاتهم وللإشارة إلى أن الايمان بهم جميعا واجب، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن كفر بواحد منهم كفر بالله- تعالى-.
ثم بعد أن فتح الله- تعالى- لهم باب كرمه إن أدوا ما أمرهم به حذرهم من المخالفة والعصيان فقال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أى: فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به فتركه، أو أعرض عن التكاليف التي كلفته بها بعد أن عرفها فقد بعد عن السبيل المستوية، أخطأ الطريق الواضح المستقيم، وسار في متاهات الضلال التي لا هداية فيها ولا خير معها.
فالجملة الكريمة تهديد شديد لمن ترك الدين الحق واتجه إلى الأديان الباطلة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل سواء السبيل، فلم قال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ؟ قلت: أجل من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل. ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم: لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية العظمى» «1» .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت أن الله- تعالى- قد أخذ الميثاق على بنى إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم بها، وحذرهم من النقض والخيانة والكفر، ورغبهم في الطاعة والإيمان فماذا كان موقفهم من عهود الله- تعالى-؟
لقد بين- سبحانه- جانبا من رذائلهم، ومن العقوبات التي عاقبهم بها بسبب فسوقهم عن أمره فقال: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ، لَعَنَّاهُمْ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
والفاء في قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ للتفريع على ما تقدم من الحديث عنهم، والباء للسببية
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 615(4/81)
و «ما» مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس والجار والمجرور- متعلق بقوله: لَعَنَّاهُمْ وقوله: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً معطوف على ما قبله وقوله: قاسِيَةً بوزن فاعلة- من القسوة بمعنى الصلابة واليبوسة يقال: قسا قلبه يقسو فهو قاس، إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا وقساوة القلب هنا مجاز عن عدم تأثره بالمواعظ والترغيب والترهيب أى فبسبب جرائمهم الشديدة أبعدناهم من رحمتنا وجعلنا قلوبهم يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تتأثر بالمواعظ والنذر.
وقرأ حمزة والكسائي: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً بتشديد الياء من غير ألف على وزن فعيلة.
وللمفسرين في معناها رأيان:
أحدهما: أن (قسية) بمعنى قاسية، غير أن فيها مبالغة، إذ هي على وزن فعيلة، وهذه الصفة تدل على تمكن صفة القسوة من قلوبهم.
والثاني: أن معنى (قسية) هنا غير معنى قاسية، لأن قسية في هذا الموضع مأخوذة من قولهم:
درهم قسى- على وزن شقي- أى: فاسد رديء لأنه مغشوش بنحاس أو غيره مما يخلو منه الدرهم السليم.
والمعنى على هذا الوجه: وجعلنا قلوبهم إيمانها ليس خالصا وإنما يخالطه كفر ونفاق كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص أو غيرهما.
وقد رجح ابن جرير الرأى الأول- وهو أن قسية بمعنى قاسية غير أن فيها مبالغة- فقال (وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من تأول فعيلة من القسوة كما قيل: نفس زكية وزاكية، وامرأة شاهدة وشهيدة، لأن الله- تعالى- وصف القوم بنقضهم ميثاقهم، وكفرهم به، ولم يصفهم بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش) «1» وأما صاحب الكشاف فقد رد التفسير الثاني إلى الأول وجعل بينهما تعانقا وتلازما في المعنى فقال: وقرأ عبد الله (قسية) أى: ردية مغشوشة. من قولهم: درهم قسى وهو من القسوة، لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة» «2» .
وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ استئناف مبين لشدة قساوة قلوبهم، فإنه لا قسوة
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 155
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 615(4/82)
أشد من تحريف كلام الله- تعالى- والميل به عن الحق والصواب.
أى: أنهم بلغ بهم الحال في قسوة قلوبهم، وعدم تأثرها بوعيد الله أنهم يميلون كلامه- سبحانه- عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله عن طريق التأويل الباطل، أو التفسير الفاسد، أو التبديل للألفاظ بالزيادة تارة وبالنقصان أخرى، على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم الممقوتة وعبر- سبحانه- بقوله: يُحَرِّفُونَ بصيغة الفعل المضارع، لاستحضار صورة هؤلاء المحرفين. والدلالة على أن أبناءهم قد نهجوا نهج آبائهم في هذا الخلق الذميم.
فإن هذا التحريف الذي حكاه الله- تعالى- في هذه الآية قد كان من بنى إسرائيل بعد عهد موسى- عليه السلام- واستمروا على ذلك دون أن يصدهم عنه ما كان من نصح النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم ومن تحذيره إياهم.
والمراد بالنسيان في قوله: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ الترك والإهمال قال الراغب:
(النسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع. إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى يزول عن القلب ذكره) .
والأنواع الثلاثة التي ذكرها الراغب كأسباب للنسيان قد فعلها بنو إسرائيل فهم قد أصابتهم الغفلة عن تدبر كتابهم والعمل بما فيه بسبب ضعف قلوبهم، واستيلاء المطامع والشهوات عليها وأهملوا أمر دينهم وشريعتهم ولم يقيدوا أنفسهم بها عن تعمد وإصرار، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على دين الله وهذا ما تأباه نفوسهم الجامحة وشهواتهم العارمة.
والتنكير في قوله: حَظًّا للتكثير والتهويل. أى: تركوا نصيبا كبيرا مما أمرتهم به شريعتهم وذكرتهم به توراتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد- صلّى الله عليه وسلّم- عند ظهوره.
وهذه الجملة الكريمة وما يشبهها مما أورده القرآن في هذا المعنى تعتبر من المعجزات الدالة على صدق القرآن الكريم فإن الناس قبل البعثة النبوية الشريفة لم يكونوا يعرفون أن اليهود نسوا حظا كبيرا مما ذكرتهم به توراتهم. فلما بين القرآن ذلك، عرفوا ما لم يكونوا يعرفونه من قبل.
ولما كانت أخلاق الآباء كثيرا ما يتوارثها الأبناء، فقد رأينا القرآن الكريم يحذر النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود المعاصرين له، والذين ورثوا رذائل آبائهم فقال: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
وقوله خائِنَةٍ بمعنى الخيانة أى عدم الوفاء بالعهد. فهي مصدر على وزن فاعله كالعافية والطاغية. قال- تعالى- فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أى بالطغيان. ويحتمل أن يكون قوله(4/83)
خائِنَةٍ صفة لموصوف محذوف أى على فرقة خائنة أو طائفة.
والمعنى: ولا تزال- أيها الرسول الكريم- ترى في هؤلاء اليهود المعاصرين لك صورة السابقين في الغدر والخيانة. وإن تباعدت الأزمان فهؤلاء الذين يعاصرونك فيهم خيانة أسلافهم، وغدرهم ونقضهم لعهودهم. إلا قليلا منهم دخلوا في الإسلام فوفوا بعهودهم ولم يكونوا ناقضين لها.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم عما لقيه من اليهود المعاصرين له من كيد ومكر وخيانة. فكأن الله- تعالى- يقول له إن ما تراه منهم من غدر وخداع ليس شيئا مستبعدا، بل هو طبيعة فيهم ورثوها عن آبائهم منذ زمن بعيد: وفيها- أيضا- تحذير له صلّى الله عليه وسلّم من شرورهم ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين فإن التعبير بقوله وَلا تَزالُ المفيد للدوام والاستمرار يدل على استمرار خيانتهم ودوام نقضهم لعهودهم ومواثيقهم وقوله: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء من الضمير المجرور في قوله خائِنَةٍ مِنْهُمْ والمراد بهذا العدد القليل منهم، أولئك الذين دخلوا في الإسلام، واتبعوا الحق كعبد الله بن سلام وأمثاله.
ثم ختم سبحانه- الآية بقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والعفو عدم مقابلة الإساءة بمثلها.
والصفح: ترك اللوم والمعاتبة. ولذا قالوا: الصفح أعلى رتبة من العفو، لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا. أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية واعتبار الإساءة كأن لم تكن في الظاهر والباطن.
وللعلماء أقوال في المراد بالذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعفو والصفح عنه:
1- فيرى بعضهم أن المراد بهم، القلة اليهودية التي أسلمت، واستثناها الله بقوله إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهذا الرأى مردود بأنهم ماداموا قد آمنوا، فقد عصموا دماءهم وأموالهم، ولم يصبح للعفو والصفح عنهم موضع.
2- ويرى آخرون أن الذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعفو والصفح عنهم هم كافة اليهود، إلا أن الآية نسخت بآية التوبة وهي قوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ «1» وهذا الرأى ضعيف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين وهو غير متعذر- كما سنبين.
__________
(1) سورة التوبة آية 29(4/84)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
3- ويرى أبو مسلّم أن المراد بهم اليهود الذين بقوا على كفرهم ولكنهم لم ينقضوا عهودهم.
والذي نراه أولى أن العفو والصفح عام لليهود، وأن من مظاهر ذلك مسالمتهم ومساكنتهم، ومجادلتهم بالتي هي أحسن ومعاملتهم بمبدأ لهم ما لنا وعليهم ما علينا، مع العفو عن زلاتهم التي لا تؤثر على كيان الدعوة الإسلامية.
فإذا ما نقضوا عهودهم وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، وأصبح العفو عنهم فيه مضرة بالمسلمين ففي هذه الحالة تجب معاملتهم بالطريقة التي تقى المسلمين شرورهم، لأن العفو عنهم- عند استلزام قتالهم للدفاع عن النفس وعن العقيدة- يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة ويكون قد وضع العفو في غير موضعه. وهذا القول يقارب ما ذهب إليه أبو مسلم. وربما اعتبر توضيحا له. فكأن الله- تعالى- يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فاعف عن هؤلاء اليهود الذين ورثوا الخيانة عن آبائهم، واصفح عن زلاتهم التي لا تؤثر في سير الدعوة الإسلامية إلى الوقت المناسب لمحاسبتهم، إن الله تعالى يحب المحسنين.
وبذلك نرى السورة الكريمة قد بينت جانبا مما أخذ الله على بنى إسرائيل من عهود ومواثيق، ورغّبتهم في الوفاء بها وحذرتهم. من نقضها، كما بينت بعض العقوبات التي عاقبهم الله بها بسبب فسوقهم عن أمره ورسمت للنبي صلّى الله عليه وسلّم طريق معالجتهم ومعاملتهم بما يقي المسلمين من شرورهم ومكرهم.
وبعد أن بين- سبحانه- جانبا من قبائح اليهود ونقضهم لمواثيقهم عقب ذلك ببيان حال النصارى فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
وقوله- تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى معطوف على قوله قبل ذلك: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ.
ونسب- سبحانه- تسميتهم نصارى إلى أنفسهم فقال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى(4/85)
جمع نصران كندامى جمع ندمان، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب. وقد صارت كلمة نصراني لكل من اعتنق المسيحية.
وقد سموا بذلك لدعواهم أنهم أنصار عيسى على أعدائهم. أو نسبة إلى بلدة الناصرة التي فيها نشأ عيسى- عليه السلام- وأعلن دعوته للناس.
والمعنى: وكما أخذنا على بنى إسرائيل الميثاق بأن يعبدوا الله وحده ويطيعوا أنبياءه، ويستجيبوا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي بشرت به الكتب السماوية، فقد أخذنا- أيضا- من الذين قالوا إنا نصارى الميثاق بذلك، ولكنهم كان شأنهم في الكفر ونقض العهود كشأن اليهود، إذ ترك هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى قدرا كبيرا، ونصيبا عظيما مما ذكروا به على لسان عيسى عليه السلام- فقد أمرهم بتوحيد الله، وبشرهم بظهور رسول من بعده هو محمد صلّى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى الإيمان به، ولكنهم استحبوا الكفر على الإيمان، فكان دأبهم كدأب بنى إسرائيل في العناد والضلال.
ونسب- سبحانه- تسميتهم نصارى إلى أنفسهم فقال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل: «ومن النصارى» للإشارة إلى أن ادعاءهم النصرانية وهي الدين الذي جاء به عيسى.
إنما هو قول يقولونه بأفواههم دون أن يتبعوه بقلوبهم إذ لو كانوا متبعين حقا لما جاء به عيسى عليه السلام- لأقروا لله- تعالى- بالوحدانية ولآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي بشر به عيسى- عليه السلام-.
وإلى هذا المعنى أشار- صاحب الكشاف بقوله: فإن قلت: فهلا قيل: ومن النصارى؟
قلت: لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله. ثم اختلفوا بعد: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية، أنصارا للشيطان» «1» .
وقوله- تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ بيان لما حدث منهم بعد أخذ الميثاق.
أى: أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويطيعوا أنبياءه ورسله ولكنهم لم يكونوا أوفياء بعهودهم، بل تركوا نصيبا كبيرا مما أمروا بفعله ومما ذكروا به على لسان المسيح عيسى بن مريم. والمراد بالنسيان هنا الترك والإهمال عن تعمد وقصد، لأن الناسي حقيقة لا يؤاخذه الله- تعالى-:
والإتيان بالفاء في قوله: فَنَسُوا للإشارة إلى أن تركهم لما أخذ عليهم من ميثاق، كان عن تعجل وعدم تمهل بسبب استيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم.
والتنكير في قوله تعالى: حَظًّا للتهويل والتكثير. أى تركوا نصيبا كبيرا مما أمرتهم به
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 616 طبعة دار الكتاب العربي ببيروت(4/86)
شريعتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم عند ظهوره فكان تركهم لهذا النصيب العظيم مما ذكروا به سببا في ضلالهم وسوء عاقبتهم.
قال بعض العلماء: «وسبب نسيان حظ أى نصيب كبير مما ذكروا به، هو اضطهاد النصارى اضطهادا شديدا في عهد الرومان حتى ضاعت كتبهم ولم يعرف شيء منها إلا قليل غير سليم بعد مائتي سنة من ترك المسيح هذه الدنيا. وما ظهرت هذه الأناجيل التي يتدارسونها- ولا يزالون يغيرون ويبدلون فيها على حسب الطبعات المختلفة- إلا بعد أن دخل قسطنطين أمبراطور الرومان في المسيحية، وغير وبدل في مجمع نيقية الذي انعقد في سنة 325 ميلادية.
وقد ذهب لب الديانة وهو التوحيد» «1» .
وقوله: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وعيد شديد لهم بسبب تركهم لما أرشدوا إليه، ولما ذكروا به.
فالفاء في قوله- تعالى- فَأَغْرَيْنا للسببية وأغرينا أى: ألقينا وهيجنا وألصقنا. يقال:
أغريت فلانا بكذا حتى أغرى به، أى: ألزمته به وألصقته وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلتصق به الشيء.
وقوله: بَيْنَهُمُ ظرف لأغرينا. والضمير فيه يعود إلى فرق النصارى المتعددة عند جمهور المفسرين.
والمعنى: بسبب ترك هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى لما ذكروا به فرقناهم شيعا وأحزابا وجعلنا كل فرقة منهم تعادى الأخرى وتبغضها إلى يوم القيامة.
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله: بَيْنَهُمُ تعود إلى اليهود والنصارى، فيكون المعنى:
بسبب ما عليه الطائفتان من عناد وضلال، ألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فهم في عداوة شديدة، وكراهية مستحكمة.
وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى فرق النصارى فقال:
وأولى التأويلين بالآية عندي: ما قاله الربيع بن أنس وغيره. وهو أن المعنى بالإغراء بينهم:
النصارى في هذه الآية خاصة وأن الهاء والميم عائدتان على النصارى، دون اليهود، لأن ذكر الإغراء في خبر الله عن النصارى بعد تقضى خبره عن اليهود، وبعد ابتداء خبره عن النصارى، فلأن يكون ذلك معنيا به النصارى خاصة. أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا لما ذكرناه» «2»
__________
(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة- رحمه الله- مجلة لواء الإسلام السنة 19 العدد التاسع ص 545.
(2) تفسير ابن جرير ج 6 ص 60(4/87)
وقال ابن كثير: قوله- تعالى-: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أى: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى يوم قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها.
فالملكانية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون. وكذلك النسطورية الآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد» «1» .
والذي تطمئن إليه النفس أن قوله- تعالى- فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يشمل ما بين اليهود والنصارى من عداوة ظاهرة مستحكمة يراها الرائي في كل العصور والأزمان، كما يشمل ما بين فرق النصارى من اختلاف وتباغض وتقاتل بسبب عقائدهم الزائغة وأهوائهم الفاسدة. وما نراه من تصارع وتقاتل بين طائفتى الكاثوليك والبروستانت في. إيرلاندا وفي غيرها خير شاهد على صدق القرآن الكريم، وأنه من عند الله- عز وجل- وقوله- تعالى: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة بعد بيان ما حكم به عليه في الدنيا من عداوة وبغضاء. وسَوْفَ هنا لتأكيد الخبر وتقويته وبيان أنه وإن تأخر آت لا محالة.
والمعنى: لقد ألقينا العداوة والبغضاء بين هذه الطوائف الضالة وسوف يخبرهم الله في الآخرة بما كانوا يصنعونه من كتمان الحق، ومخالفة للرسل، وانغماس في الباطل، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون من عذاب شديد.
وبعد أن بين- سبحانه- بعض الرذائل التي انغمس فيها اليهود والنصارى. وجه إليهم نداء دعاهم فيه إلى الدخول في الدين الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال: تعالى:
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 33. [.....](4/88)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
والمعنى: يا أَهْلَ الْكِتابِ من اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أى: يظهر لكم كثيرا من الأحكام والمسائل التي ذكرتها كتبكم وكتمتموها عن الناس، كإخفائكم صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تجدونها في التوراة والإنجيل وكتمانكم ما جاء فيها من بشارات تبشر به. وغير ذلك من الأحكام التي أخفاها علماؤكم عن العامة، وتولى الرسول صلّى الله عليه وسلّم إعلانها إظهارا للحق، ووضعا للأمور في نصابها.
وقوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أى: يعرض ولا يظهر كثيرا مما كنتم تخفونه، لأنه لا ضرورة تدعو إلى بيانه، ولا فائدة تعود على الناس من وراء إظهاره، ففي السكوت عنه رحمة بكم، وصيانة لكم عن الافتضاح والمؤاخذة.
يقال: عفا عن المذنب، أى: ستر عنه ذنبه فلم يعاقبه عليه.
والمراد بالكتاب في قوله يا أَهْلَ الْكِتابِ جنس الكتب، فيشمل التوراة والإنجيل.
وفي ندائهم بهذا الوصف حمل لهم على الدخول في الإسلام فإن علمهم بما في كتبهم من بشارات بالرسول صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى الإيمان به. فإذا لم يؤمنوا به مع علمهم بأنه رسول صادق في رسالته كانت مذمتهم أشد وأقبح، وكان عقابهم على كتمانهم الحق أعظم وأقسى. وكان التعبير بقوله- تعالى- قَدْ جاءَكُمْ للإشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم قد وصل إليهم، ويعيش بينهم، فهم يرونه ويراهم، ويخاطبهم ويخاطبونه، ليسمعوا منه ما يشهد بصدقه بدون حجاب أو وساطة.
وفي التعبير بقوله- تعالى- رَسُولُنا تشريف للرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث أضافه- سبحانه- إلى ذاته، وفيه كذلك إيذان بوجوب اتباعه لأنه رسول مبلغ عن الله- تعالى- ما يأمره بتبليغه بدون تغيير أو تبديل.
والمراد بالكتاب في قوله: تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ التوراة والإنجيل. فقد امتدت أيدى اليهود والنصارى إلى هذين الكتابين فغيروا وبدلوا فيهما على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم.
وفي إظهار الرسول صلّى الله عليه وسلّم للكثير مما كتموه، وعفوه عن الكثير مما أخفوه، معجزة له، لأنه لم(4/89)
يقرأ كتابا، ولم يجلس أمام معلم، فإخباره بأسرار ما في كتبهم إخبار عن أمور مغيبة، فيكون معجزة له تحملهم على الإيمان به فيما يدعوهم إليه.
ثم مدح الله- تعالى- رسوله، وما جاء به من الخير والهدى فقال: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ.
والمراد بالنور هنا: محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو نور الأنوار- كما يقول الآلوسى.
والمراد بالكتاب: القرآن الكريم الذي أنزله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم والجملة الكريمة مستأنفة مسوقة لبيان أن فائدة مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليست منحصرة فيما ذكر من بيان ما كانوا يخفونه، بل له منافع أخرى لا تحصى.
قال ابن جرير ما ملخصه، قوله: تعالى- قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يقول- جل ثناؤه- لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب: «قد جاءكم يا أهل التوراة والإنجيل من الله نور هو محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام ومحق به الشرك» قوله وَكِتابٌ مُبِينٌ يعنى: «كتابا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم من توحيد الله، وحلاله وحرامه وشرائع دينه وهو القرآن الذي أنزله على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم» «1» .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالنور وبالكتاب هنا: القرآن الكريم.
وقد اقتصر على هذا التفسير صاحب الكشاف فقال: قوله: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يريد القرآن لكشفه ظلمات الشرك والشك، ولإبانته ما كان خافيا عن الناس من الحق، أو لأنه ظاهر الإعجاز» «2» .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير أرجح، لأن العطف في الغالب يقتضى المغايرة في الذات إذ الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد جاء للناس برسالة هي نور في شخصه صلّى الله عليه وسلّم كما جاءهم بالقرآن الكريم الدال على صدقه في رسالته.
ثم بين- سبحانه- الغاية من رسالته صلّى الله عليه وسلّم فقال- تعالى- يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ.
والضمير في قوله بِهِ يعود إلى مجموع ما ذكر، أو إلى الكتاب المبين باعتباره أقرب مذكور وسُبُلَ جمع سبيل بمعنى طريق. والسَّلامِ مصدر بمعنى السلامة.
والمعنى: قد جاءكم- يا معشر أهل الكتاب- من الله نور وكتاب مبين. يهدى الله- تعالى-
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 161
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 617(4/90)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
بذلك أو بالكتاب مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أى: من علم- سبحانه- منه أنه يريد اتباع ما يرضي بأن يخلص له العبادة ويستجيب للحق الذي أرسل به أنبياءه فإنه متى كان كذلك، أوصله- سبحانه- إلى سُبُلَ السَّلامِ أى: إلى طرق السلامة والنجاة من كل خوف وشقاء، بأن يثبته في الدنيا على طريق الحق، ويكرمه في الآخرة بمثوبته وجنته هذه هي الثمرة الأولى من ثمار اتباع ما جاء من عند الله من نور وكتاب مبين. أما الثمرة الثانية فقد بينها- سبحانه- بقوله: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ.
والضمير المنصوب في قوله وَيُخْرِجُهُمْ وهو هم يعود إلى مَنِ في قوله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ باعتبار المعنى.
أى: ويخرج- سبحانه- هؤلاء الأخيار الذين علم منهم اتباع ما يرضيه يخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الحق والإيمان بِإِذْنِهِ أى: بإرادته وعلمه.
وقوله: وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بيان للثمرة الثالثة من ثمار اتباع ما جاء من عند الله من حق وخير.
أى: ويهدى- سبحانه- هؤلاء الذين علم منهم اتباع ما يرضيه إلى صراط مستقيم، وطريق قويم لا اعوجاج فيه ولا اضطراب، وهو طريق الإسلام الذي يوصل إلى الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
وبذلك نرى الآيتين الكريمتين قد دعتا أهل الكتاب إلى اتباع الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند الله، بأوضح أسلوب، وأكمل بيان، وبينتا لهم ما يترتب على اتباعه صلّى الله عليه وسلّم من منافع جليلة، وفوائد عظيمة تجعلهم يسارعون إلى تصديقه إن كانوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وبعد أن أرشد- سبحانه- أهل الكتاب إلى الطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسلكوه، عقب ذلك ببيان ما عليه النصارى من ضلال وبطلان فقال:
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)(4/91)
اللام في قوله: لَقَدْ كَفَرَ واقعة جوابا لقسم مقدر.
والمراد بالكفر: ستر الحق وإنكاره، والانغماس في الباطل والضلال. والمعنى: أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا: إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح عيسى ابن مريم.
قال بعض العلماء ما ملخصه: «لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهى» وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله وفيه عنصر إلهى فقد قالوا: إن الألوهية قد حلت فيه. ولازم ذلك القول أن يكون هو الله، أو هو إله يعبد ومهما يكن فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه. وقد قال في ذلك البيضاوي: «هم الذين قالوا بالاتحاد منهم. وقيل: لم يصرح به أحد منهم. ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا، وقالوا: لا إله إلا واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم» .
وذلك بلا ريب ينتهى إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله، وإن لم يصرحوا بذلك، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الألوهية فيه مع الله.
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله- تعالى- في أواخر هذه السورة لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ متلاقيا مع هذا النص الكريم فهنا صرح بلازم قولهم وهناك صرح بذات قولهم.
والحقيقة أن النصارى اليوم- وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون- يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة. وأنها شيء واحد. وينتهون إلى أن المسيح هو الله، والله هو روح القدس. فقد قال الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس: «طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر هي: الله الأب، والله الابن والله الروح القدس فإلى الأب ينتمى الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطيهر. غير أن ثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء. أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم، كما هي في العهد الجديد» .
ومن هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم، بل بطريق الصريح منه. فهم يصرحون بأن الله هو الابن، كما أن الله هو الأب، كما أن الله هو روح القدس «1» هذا، وقد أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرد على أولئك الذين قالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ بما يكشف عن جهلهم وضلالهم فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة مجلة لواء الإسلام السنة 19 العدد 11(4/92)
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء النصارى الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، قل لهم على سبيل الإنكار والتوبيخ والتجهيل: من ذا الذي يملك من أمر الله وإرادته شيئا يدفع به الهلاك عن المسيح وعن أمه وعن سائر أهل الأرض، إن أراد الله- سبحانه- أن يهلكهم ويبيدهم؟ لا شك أن أحدا لن يستطيع أن يمنع إرادته- سبحانه- لأنه هو المالك لأمر الوجود كله، ولا يملك أحد من أمره شيئا يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده أو يحمله على أمر لا يريده، أو يستقل بعمل دونه. ومادام الأمر كذلك فدعوى أن الله هو المسيح ابن مريم ظاهرة البطلان، لأن المسيح وأمه من مخلوقات الله التي هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها.
وحاشا للمخلوق الفاني أن يكون إلها وإنما الألوهية لله الخالق الباقي أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قال الإمام الرازي ما ملخصه: «احتج- سبحانه- على فساد ما ذهب إليه النصارى بقوله: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط.
والتقدير: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره. وقوله فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أى: فمن يملك من أفعال الله شيئا والملك هو القدرة. يعنى فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله- تعالى- ومنع شيء من مراده.
وقوله: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى: أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلما سلّم كونه- تعالى- خالقا للكل مدبرا للكل وجب أن يكون أيضا خالقا لعيسى» «1» .
وفي توجيه الأمر إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للرد عليهم تثبيت له وتقوية لحجته حتى يبطل قولهم الفاسد إبطالا يزداد معه المؤمنون إيمانا بالحق الذي آمنوا به.
قال أبو السعود: وإنما نفيت المالكية المذكورة بالاستفهام الإنكارى عن أحد مع تحقيق الإلزام والتبكيت لا بنفيها عن المسيح فقط، لتحقيق الحق بنفي الألوهية عن كل ما عداه- سبحانه- وإثبات المطلوب في ضمنه بالطريق البرهاني.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 191. طبعة عبد الرحمن محمد(4/93)
وتعميم إرادة الإهلاك للكل- مع حصول المطلوب بقصرها على المسيح- لتهويل الخطب، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره- تعالى- وملكوته. لا يقدر أحد على دفع ما أريد به. فضلا عن دفع ما أريد بغيره.
وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك، كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز، وعدم استحقاق الألوهية» «1» .
وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف، لزيادة تأكيد عجز المسيح، وأنه هو وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما.
وعطف عليهما قوله وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من باب عطف العام على الخاص، ليكونا قد ذكرا مرتين. مرة بالنص عليهما. ومرة بالاندراج في العام، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما.
وقوله وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما تأكيد لاختصاص الألوهية به- تعالى- إثر بيان انتفائها عما سواه.
أى: ولله- تعالى- وحده دون أن ينازعه منازع. أو يشاركه مشارك، ملك جميع الموجودات، والتصرف المطلق فيها، إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة. فهو المالك للسموات وما فيها وللأرض وما عليها، ولما بينهما من فضاء تجرى فيه السحب بأمره، ويطير فيه الطير بإذنه وقدرته. وما المسيح وأمه إلا من جملة ما في الأرض، فهما عبدان من عباد الله يدينان له- سبحانه- بالعبادة والطاعة والخضوع.
وقال- سبحانه- وَما بَيْنَهُما ولم يقل وما بينهن مع أن السموات بلفظ الجمع، لأن المراد بالسموات والأرض النوعان أو الصنفان.
أى: ولله- تعالى- وحده ملك السموات والأرض وما بين هذين النوعين من مخلوقات خاضعة لمشيئة الله وقدرته.
وقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعترى النصارى من شبه في أمر المسيح لولادته من غير أب، وإحيائه الموتى، وإبرائه الأكمه والأبرص، كل ذلك بإذن الله.
أى أنه- سبحانه- يخلق ما يشاء أن يخلقه من أنواع الخلق بالكيفية التي يريدها تبعا لمشيئته وإرادته.
__________
(1) تفسير أبى السعود ج 2 ص 17 طبعة صبيح.(4/94)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو المعتاد بين الناس، وتارة يخلقه بدون أب أو أم كما هو الشأن في خلق آدم، وتارة يخلقه بدون أب كما هو الشأن في خلق عيسى، إلى ذلك من مخلوقاته التي ليست مقصورة على نوع واحد بل هي شاملة لهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد، فكل ما تعلقت إرادته بإيجاده أوجده، وكل ما تعلقت إرادته بإعدامه أعدمه، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه ولا حائل دون نفاذ قدرته.
وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
أى: والله- تعالى- قدير على كل شيء ومالك لكل شيء ومهيمن على كل شيء لا يغلبه شيء طلبه، ولا يعجزه أمر أراده وما عيسى وأمه إلا من مخلوقاته وعبيده، وحاشا للمخلوق العاجز أن يكون إلها من دون الله- عز وجل-.
فهذه الآية الكريمة تحكى أقوال النصارى الباطلة في شأن عيسى- عليه السلام- وترد عليهم بما يزهق باطلهم، ويثبت أن عيسى إنما هو عبد من عباد الله وأن العبادة إنما تكون لله الواحد القهار.
ثم ساق- سبحانه- بعض دعاوى أهل الكتاب الباطلة وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قال الإمام ابن كثير: روى محمد بن إسحاق وابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عباس قال:
أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من اليهود فكلموه وكلمهم ودعاهم إلى الله- تعالى- وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟ نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى فأنزل الله- تعالى- فيهم.
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.. الآية «1» .
وقوله- تعالى- وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى حكاية لما صدر عن الفريقين من أقاويل فاسدة ودعاوى باطلة، يدل على سفاهة عقولهم، وبلادة تفكيرهم، حيث قالوا في حق الله- تعالى-
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 35(4/95)
ما لا يليق بعظمته- سبحانه-.
قال الآلوسى: ما ملخصه: قوله- تعالى-: «ومرادهم بالأبناء: المقربون. أى نحن مقربون عند الله- تعالى- قرب الأولاد من والدهم. ومن مرادهم بالأحباء: جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب.
ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة، كما يقال: أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. ويجوز أن يكونوا أرادوا بما قالوا أنهم أشياع وأتباع من وصف بالبنوة. أى قالت اليهود: نحن أشياع ابنه عزير. وقالت النصارى: نحن أشياع ابنه عيسى. وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء في قرب المنزلة. وهذا كما يقول أتباع الملك: نحن الملوك.
وقيل الكلام على حذف المضاف. أى: نحن أبناء أنبياء الله- تعالى- وهو خلاف الظاهر.
ومقصود الفريقين بقوله- تعالى- حكاية عنهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ هو المعنى المتضمن مدحا، وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزيد عند الله- تعالى- على سائر الخلق» «1» .
والمعنى: وقالت طائفة اليهود التي تزعم أنها شعب الله المختار، وقالت طائفة النصارى التي تزعم أنها على الحق دون غيرهم قالت كل طائفة منهما: نحن في القرب من الله- تعالى- بمنزلة أبنائه المدللين، وأحبائه المختارين، فلنا من الفضل والمنزلة والتكريم ما ليس لغيرنا من البشر.
والذي حملهم على هذا القول الباطل، جهلهم بما اشتملت عليه كتبهم، وتخبطهم في الكفر والضلال وفهمهم السقيم لمعانى الألفاظ.
قال ابن كثير: «ونقلوا عن كتبهم أن الله- تعالى- قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكرى.
فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه. وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلّم من عقلائهم. وقالوا هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام. كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم.
إنى ذاهب إلى أبى وأبيكم، يعنى: ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى- عليه السلام- وإنما أرادوا بذلك معزتهم لديه، وحظوتهم عنده، ولهذا قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «2» .
وعطف- سبحانه- قولهم: وَأَحِبَّاؤُهُ على قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ للإشارة إلى غلوهم في الجهل والغرور، حيث قصدوا أنهم أبناء محبوبون وليسوا مغضوبا عليهم من أبيهم بل هم محل رضاه وإكرامه.
وقد أمر الله- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بما يكبتهم فقال: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 100
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 34 طبعة عيسى الحلبي.(4/96)
والفاء في قوله فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ للافصاح، لأنها تفصح عن جواب شرط مقدر أى: قل يا محمد لهؤلاء المغرورين، إن كان الأمر كما زعمتم من أنكم أبناء الله وأحباؤه فلأى شيء يعذبكم إذ الحبيب لا يعذب حبيبه.
وإن واقعكم يا أهل الكتاب يناقض دعواكم، فقد عذبكم- سبحانه- في الدنيا بسبب ذنوبكم بالقتل والأسر والمسخ وتهييج العداوة والبغضاء بينكم إلى يوم القيامة.
أما في الآخرة فإن كتبكم التي بين أيديكم تشهد بأنكم ستعذبون في الآخرة على ما تقترفون من آثام في دنياكم.
وقد أقر اليهود بأن العذاب سيقع بهم- في زعمهم- أياما معدودات في الآخرة وحكى القرآن عنهم ذلك في قوله- تعالى- وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً:
وأقر النصارى بأن الله- تعالى- سيحاسب الناس يوم القيامة، وسيجازى كل إنسان على حسب عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
قال القرطبي: «رد الله عليهم قولهم فقال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين، إما إن يقولوا هو يعذبنا، فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه ولا أحباءه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه. وأنتم تقرون بعذابه، فذلك دليل على كذبكم- وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف- أو يقولوا: لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم.
ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم، ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم» «1» وقوله:
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ رد على أصل دعواهم الباطلة، وبيان لما هو الحق من أمرهم وهو معطوف على كلام مقدر.
أى: ليس الأمر كما زعمتم يا معشر اليهود والنصارى من أنكم أبناء الله وأحباؤه، بل الحق أنكم كسائر البشر من خلق الله. فإنكم إن آمنتم وأصلحتم أعمالكم نلتم الثواب من الله، وإن بقيتم على كفركم وغروركم حق عليكم العقاب، وليس لأحد فضل على أحد إلا بالإيمان والعمل الصالح.
قال أبو حيان قوله: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ إضراب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلال آخر من ثبوت كونهم بشرا من بعض خلقه، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة، فإن القديم لا يلد بشرا، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوجهين البنوة. وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما» «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 120
(2) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 2 ص 451(4/97)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وقوله- سبحانه- يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بيان لعموم قدرته، وشمول إرادته.
أى أنه- سبحانه- يغفر لمن يشاء أن يغفر له من خلقه، وهم المؤمنون به وبرسله، ويعذب من يشاء أن يعذبه منهم، وهم المنحرفون عن طريق الحق والهدى، لا راد لقضائه. ولا معقب لحكمه.
وقوله وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ تذييل قصد به تأكيد ما قبله من عموم قدرته، وشمول إرادته وهيمنته على سائر خلقه.
أى: ولله- تعالى- وحده ملك جميع الموجودات وهو صاحب التصرف المطلق فيها، إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، وإليه وحده مصير الخلق يوم القيامة فيجازيهم على ما عملوا من خير أو شر. قال- تعالى- فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. وبذلك تكون الآية الكريمة قد أبطلت حجة اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وأثبتت بالمنطق الواضح أنهم كذابون فيما يدعون وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان والعمل الصالح.
وبعد أن بين- سبحانه- فساد أقوال أهل الكتاب وبطلان عقائدهم، ورد عليهم بما لا يدع للعاقل متمسكا بتلك الضلالات. أتبع ذلك بتوجيه نداء آخر إليهم تكريرا لوعظهم، وتحريضا لهم على اتباع الحق فقال- تعالى-
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله. لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته. فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله(4/98)
في قولهما قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ الآية «1» .
وقوله عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أى: على انقطاع من الرسل، إذ الفترة هي الزمن بين زمنين، ويكون فيها سكون عما يكون في هذين الزمنين.
قال الراغب: الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة. قال- تعالى- يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أى: سكون خال عن مجيء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوله يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ أى لا يسكنون عن نشاطهم في العادة» «2» . فأصل الفتور: السكون والانقطاع. يقال فتر عن عمله إذا انقطع عما كان عليه من الجد والنشاط.
والمعنى: يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، يا من أنزل الله- تعالى- الكتب السماوية على أنبيائكم لهدايتكم وسعادتكم، ها هو ذا رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم قد جاءكم لكي يبين لكم شرائع الدين، والطريق الحق الذي يوصلكم إلى السعادة الدينية والدنيوية، وذلك بعد انقطاع من الرسل، وطموس من السبل، وضلال في العقائد، وفساد في الأفكار والمعاملات.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: قوله- تعالى-: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أى: بعد مدة متطاولة ما بين إرساله صلّى الله عليه وسلّم وبين عيسى ابن مريم. وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي؟
فعن قتادة خمسمائة وستون سنة.
وكانت هذه الفترة بين عيسى ابن مريم- آخر أنبياء بنى إسرائيل- وبين محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين من بنى آدم على الإطلاق، كما ثبت في «صحيح البخاري» عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبي» وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان.
والمقصود من هذه الآية، أن الله- تعالى- بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبّاد الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم «3» .
وفي ندائه- سبحانه- لليهود والنصارى بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ تنبيه لهم إلى أن مصاحبتهم للكتاب وكونهم أهل معرفة، يوجبان عليهم المبادرة إلى اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي بشرت بمبعثه كتبهم التي بين أيديهم، والذي يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم. وإلا فسيكون
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 166
(2) المفردات في غريب القرآن ص 371 للراغب الاصفهانى
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 35(4/99)
عقابهم أشد إذا ما استمروا في كفرهم وضلالهم.
وعبر- سبحانه- بقوله: قَدْ جاءَكُمْ للإيذان بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد أصبح بينهم، بحيث يشاهدهم ويشاهدونه، ويسمع منهم ويسمعون منه، وأنه قد صار من اللازم عليهم اتباعه، لأن الشواهد قد قامت على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
وأضاف- سبحانه- الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ذاته فقال: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا لتشريفه صلّى الله عليه وسلّم وتكريمه، وللإشارة إلى قدسية هذه الرسالة وسمو منزلتها، وأنها لا تسوغ مخالفة من أتى بها، ولا يصح الخروج عن طاعته، لأنه رسول من عند الله- تعالى- الذي له الخلق والأمر.
ومفعول يُبَيِّنُ محذوف. أى: يبين لكم الشرائع والأحكام، وما أمرتم به، وما نهيتم عنه، وحذف هذا المفعول اعتمادا على ظهوره، إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام.
وقوله: عَلى فَتْرَةٍ متعلق بقوله جاءَكُمْ على الظرفية، وقوله: مِنَ الرُّسُلِ متعلق بمحذوف صفة لفترة. أى: قد جاءكم رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحى، ومزيد الاحتياج إلى البيان.
والتعبير بقوله- تعالى- عَلى فَتْرَةٍ فيه معنى فوقيه الرسالة على الفترة، وعلوها عليها كعلوا البيان على الجهل، والنور على الظلمة، فمن الواجب عليهم أن يسارعوا إلى اتباع الرسول الذي جاءهم بالحق، وإلا كانوا ممن يرتضى لنفسه الانحدار من الأعلى إلى الأدنى، ومن العلم إلى الجهل، ومن الهدى إلى الضلال.
وقوله- تعالى-: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ جملة تعليلية المقصود بها قطع معاذيرهم إذا احتجوا بالجهل وعدم معرفتهم لأوامر الله ونواهيه.
والمراد بالبشير: المبشر الذي يبشر أهل الحق والطاعة بالخير والسعادة.
والمراد بالنذير: المنذر الذي ينذر أهل الباطل والضلال بسوء المصير.
والمعنى: لقد جاءكم يا معشر أهل الكتاب رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يبين لكم شرائع الله بعد فترة متطاولة من انقطاع الرسل، لكي لا تقولوا على سبيل المعذرة يوم الحساب، ما جاءنا من بشير يبشرنا بالخير عند الطاعة، ولا نذير ينذرنا بسوء العاقبة عند المعصية.
ومِنَ في قوله مِنْ بَشِيرٍ لتأكيد نفى المجيء.
والتنكير في قوله: بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ للتقليل، أى: ما جاءنا أى بشير ولو كان صغيرا، وما جاءنا أى نذير ولو كان ضئيلا.(4/100)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
وهنا يسوق الله- تعالى- ما يبطل معاذيرهم، بإثبات أن البشير والنذير قد جاءهم فقال- تعالى-: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ.
والفاء هنا للافصاح عن كلام مقدر قبلها. والتقدير. لا تعتذروا بقولكم ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقد جاءكم رسولنا الذي يبشركم بالخير إن آمنتم وينذركم بسوء المصير إذا ما بقيتم على كفركم. والتنكير هنا في قوله: بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ للتعظيم من شأن الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي هو خاتم النبيين، والذي أرسله الله- تعالى- رحمة للعالمين.
وقوله: بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وإن كانا وصفين للرسول صلّى الله عليه وسلم إلا أن ثانيهما قد عطف على أولهما لتغايرهما في المعنى، لأن التبشير عمل يختلف عن الإنذار، وكلاهما من وظائف النبوة.
وقوله- تعالى- وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل قصد به شمول قدرة الله وأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء. أى: والله على كل شيء قدير، فلا يعجزه أن يرسل رسله تترى، كما لا يعجزه أيضا أن يرسلهم على فترات متباعدة.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت سمو الرسالة المحمدية وعظمتها، وأنها جاءت والناس في أشد الحاجة إليها، وأنه لا عذر لأهل الكتاب في عدم الاستجابة لها بعد أن بلغتهم، وبشرتهم بالخير إن آمنوا وأطاعوا، وبالعذاب الأليم إن استمروا على كفرهم وضلالهم.
وبعد أن بين- سبحانه- جانبا من رذائل أهل الكتاب، ومن أقوالهم الباطلة في حق الرسول الذي أرسله الله- تعالى- لهدايتهم وسعادتهم وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
بعد كل ذلك ساق- سبحانه- جانبا مما حدث بين موسى- عليه السلام- وبين قومه بنى إسرائيل، ومما لقيه منهم من سفاهة وجبن وتخاذل وعصيان. إذ في ذلك تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما شاهده منهم من عناد وجحود. استمع إلى القرآن وهو يحكى بعض قصص بنى إسرائيل مع نبيهم موسى فيقول:
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)(4/101)
هذه الآيات الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من جبن شديد، وعزيمة خوارة، وعصيان لرسلهم. وإيثار للذلة مع الراحة على العزة مع الجهاد وهي تحكى بأسلوبها البليغ قصة تاريخية معروفة، وملخص هذه القصة:
أن بنى إسرائيل بعد أن ساروا مع نبيهم موسى- عليه السلام- إلى بلاد الشام، عقب غرق فرعون أمام أعينهم. أوحى الله- تعالى- إلى موسى أن يختار من قومه اثنى عشر نقيبا، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة التي كان يسكنها الكنعانيون حينئذ. ليتحسسوا أحوال سكانها، وليعرفوا شيئا من أخبارهم.
وقد أشار القرآن قبل ذلك إلى هذه القصة بقوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «1» .
ولقد نفذ موسى- عليه السلام- ما أمره به ربه- سبحانه-، وكان مما قاله موسى للنقباء
__________
(1) راجع تفسيرنا للآية رقم 12 من هذه السورة. [.....](4/102)
عند إرسالهم لمعرفة أحوال سكان الأرض المقدسة: «لا تخبروا أحدا سواي عما ترونه» .
فلما دخل النقباء الأرض المقدسة، واطلعوا على أحوال سكانها. وجدوا منهم قوة عظيمة، وأجساما ضخمة.. فعاد النقباء إلى موسى وقالوا له- وهو في جماعة من بنى إسرائيل-: قد جئنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها، فإذا هي في الحقيقة تدر لبنا وعسلا، وهذا شيء من ثمارها، غير أن الساكنين فيها أقوياء، ومدينتهم حصينة. وأخذ كل نقيب منهم ينهى سبطه عن القتال.
إلا اثنين منهم، فإنهما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى- عليه السلام- وبقتال الكنعانيين معه.
ولكن بنى إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين، وأطاعوا أمر بقية النقباء العشرة «وأصروا على عدم الجهاد، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: يا ليتنا متنا في مصر أو في هذه البرية.
وحاول موسى- عليه السلام- أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان وأن يحملهم على قتال الجبارين ولكنهم عموا وصموا.
وأوحى الله- تعالى- إلى موسى أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض جزاء عصيانهم وجبنهم.
هذا هو ملخص هذه القصة كما وردت في كتب التفسير والتاريخ. وقد حشا بعض المفسرين كتبهم بأوصاف للجبارين- الذين ورد ذكرهم في الآيات الكريمة- لا تقبلها العقول السليمة، وليس لها أصل يعتمد عليه بل هي مما يستحى من ذكره كما قال ابن كثير «1» .
هذا، وقوله- تعالى-: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كلام مستأنف ساقه الله- تعالى- لبيان بعض ما فعله بنو إسرائيل من رذائل بعد أخذ الميثاق عليهم، وتفصيل لكيفية نقضهم لهذا الميثاق.
وإِذْ ظرف للزمن الماضي بمعنى وقت. وهو مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام، تقديره اذكر. وقد خوطب بهذا الفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطريق قرينة الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب، ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من جنايات.
أى: واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك، قول موسى لآبائهم على سبيل النصح والإرشاد: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. أى: تذكروا إنعامه عليكم بالشكر والطاعة.
والمراد بذكر الوقت تذكر ما حدث فيه من وقائع وخطوب.
قال أبو السعود: وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت، دون ما وقع فيه من حوادث، - مع أنها
__________
(1) من ذلك ما جاء في وصفهم من أن منهم عوج بن عنق الذي كان طوله ثلاثة آلاف ذراع. وأن سبعين رجلا من قوم موسى استظلوا في ظل واحد منهم. وقال الآلوسى بعد أن حكى ما قيل فيهم من صفات. وهي عندي حديث خرافة.(4/103)
هي المقصودة، لأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا» «1» .
وفي قول موسى لهم- كما حكى القرآن عنه-: يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تلطف معهم في الخطاب، وحمل لهم على شكر النعمة، واستعمالها فيما خلقت له لكي يزيدهم الله منها. وفيه كذلك تذكير لهم بما يربطهم به من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم، يهمه ما يهمهم، ويسعده ما يسعدهم، فهو يوجه إليهم ما هو كائن لهدايتهم وسعادتهم.
وقوله- تعالى-: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ بيان لنعم ثلاث أسبغها الله عليهم.
أما النعمة الأولى: فهي جعل كثير من الأنبياء فيهم كموسى وهارون، واسحق،، ويعقوب، ويوسف، - عليهم السلام-. وقد أرسل الله- تعالى- هؤلاء الأنبياء وغيرهم في بنى إسرائيل، لكي يخرجوهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، إلى نور الهداية والطاعة والإيمان.
والتنكير في قوله أَنْبِياءَ للتكثير والتعظيم. أى: تذكروا يا بنى إسرائيل نعم الله عليكم، وأحسنوا شكرها، حيث جعل فيكم أنبياء كثيرين يهدونكم إلى الرشد.
قال صاحب الكشاف: «لم يبعث الله في أمة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء» «2» .
وأما النعمة الثانية: فهي جعلهم ملوكا. أى: جعلكم أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه، الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب.
أى: جعلكم تملكون المساكن وتستعملون الخدم، بعد أن كنتم لا تملكون شيئا من ذلك وأنتم تحت سيطرة فرعون وقومه.
قال الآلوسى: «أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك زوجة تأوى إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟
قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال الرجل: فإن لي خادما. قال عبد الله: فأنت من الملوك.
واخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كانت بنو إسرائيل
__________
(1) تفسير أبى السعود ج 2 ص 17- بتصرف وتلخيص-
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 619(4/104)
إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا» «1» .
وهذه النعمة- أى: نعمة الحرية بعد الذل، والسعة بعد الضيق- من النعم العظمى التي لا يقدرها ويحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة، التي تعاف الظلم، وتأبى الضيم، وتحسن الشكر لله- تعالى-.
قال صاحب الانتصاف: فإن قلت: فلماذا لم يقل إذ جعلكم أنبياء، كما قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً؟ قلت. لأن النبوة مزية غير الملك. وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا، ولا كذلك النبوة، فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك» «2» .
وأما النعمة الثالثة: فهي أنه- سبحانه-: آتاهم من ألوان الإكرام والمنن ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم. فقد فلق لهم البحر فساروا في طريق يابس حتى نجوا وغرق عدوهم. وأنزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات، وفجر لهم من الحجر اثنتي عشرة عينا حتى يعلم كل أناس مشربهم.. إلى غير ذلك من ألوان النعم التي حباهم الله- تعالى- بها، والتي كانت تستلزم منهم المبادرة إلى امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
قال الآلوسى: و «أل» في الْعالَمِينَ للعهد: والمراد عالمو زمانهم. أو للاستغراق.
والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل: وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية، لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبنى إسرائيل، فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم» «3» .
وبعد هذا التذكير بالنعم، وجه إليهم نداء ثانيا طلب منهم فيه دخول الأرض المقدسة فقال- كما حكى القرآن عنه: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
ومعنى المقدسة: المطهرة المباركة بسبب أنها كانت موطنا لكثير من الأنبياء.
والمراد بها. بيت المقدس وقيل المراد بها: اريحاء وقيل: الطور وما حوله.
قال ابن جرير: وهي لا تخرج عن أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 105.
(2) حاشية الكشاف ج 1 ص 619
(3) تفسير الآلوسى ج 6 ص 106(4/105)
ومعنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: قدر لكم سكناها، ووعدكم إياها متى آمنتم به وأطعتم أنبياءه، أو معناه: فرض عليكم دخولها وأمركم به كما أمركم بأداء الصلاة والزكاة- وسنفصل القول في هذه المسألة بعد تفسيرنا للآيات-.
ومفعول كَتَبَ محذوف. أى كتب لكم أن تدخلوها وفرض عليكم دخولها لإنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وجنده.
وقد تعدى فعل كَتَبَ هنا باللام دون على، للإشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لمنفعتهم ولعزتهم ورفعة شأنهم.
وفي تكرير النداء من موسى لهم بقوله: يا قَوْمِ مبالغة في حثهم على الامتثال لما يأمرهم به، وتنبيه إلى خطر ما يدعوهم إليه وعظم شأنه.
وقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فيه حض شديد لهم على الاستجابة لأمره، وإغراء لهم بالنصر والفوز، لأن الذي كتب لهم أن يدخلوها متى آمنوا وأطاعوا هو الله الذي لا معقب لحكمه.
قال الإمام الرازي: في قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فائدة عظيمة. وهي أن القوم كانوا جبارين إلا أن الله- تعالى- لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم، فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى- عليه السلام- علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم، فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع» «1» .
وقوله- تعالى-: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ تحذير لهم من الجبن والإحجام، بعد ترغيبهم الشديد في الشجاعة والإقدام.
وقوله تَرْتَدُّوا من الارتداد وهو الرجوع إلى الخلف.
والأدبار جمع دبر وهو الظهر.
وهذا التعبير استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه، يحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء، بدل أن يسير بوجهه إلى الأمام. وهذا التعبير يصور قبح الجبن والتخاذل حسا ومعنى.
وقوله (فتنقلبوا) من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء وهو مجزوم عطفا على فعل النهى وهو وَلا تَرْتَدُّوا.
والمعنى: أمضوا أيها القوم لأمر الله، وسيروا خلفي لقتال الأعداء ودخول الأرض المقدسة
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 198(4/106)
التي أمركم- سبحانه- بدخولها، ولا ترجعوا القهقرى منصرفين عن القتال خوفا من أعدائكم، ومبتعدين عن طاعتي وأمرى، فإن ذلك يؤدى بكم إلى الخسران في الدنيا والآخرة، وإلى الحرمان من خيرات الأرض التي أوجب الله عليكم دخولها.
قال ابن جرير: فإن قال قائل: وما كان وجه قول موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل: إن الله- تعالى- كان أمره بقتال من فيها من أهل يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل: إن الله- تعالى- كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به، وفرض عليهم دخولها، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم فرض الله عليهم من وجهين:
أحدهما: تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم.
والثاني: مخالفتهم أمر الله في تركهم دخول الأرض المقدسة» «1» .
هذا، وقد جاءت هذه الجملة الكريمة، وهي قوله- تعالى-: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ تحمل طابع التحذير الشديد، وتنذرهم بالخسران المبين إذا لم يستجيبوا لأمر الله بعد أن ساق لهم موسى ألوانا من المشجعات والمرغبات في الجهاد، وذلك لأنه- عليه السلام- كان متوقعا منهم الإحجام عن القتال، بعد أن جرب عنادهم وعصيانهم ونكوصهم على أعقابهم في مواطن كثيرة، فهذه التجارب جعلته وهو يأمرهم بدخول الأرض المقدسة يذكر لهم أكبر النعم ويسوق لهم أكرم الذكريات وأقوى الضمانات وأشد التحذيرات لكي يقبلوا على الجهاد بعزيمة صادقة.
ولكن بنى إسرائيل هم بنو إسرائيل، مهما قيل لهم من ألوان الترغيب والترهيب فإن همتهم الساقطة وعزيمتهم الخائرة، وطبيعتهم المنتكسة لم تتركهم فقد قالوا لنبيهم متذرعين بالمعاذير الكاذبة: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ وقوله: جَبَّارِينَ جمع جبار «والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي. ويطلق في اللغة على الطويل القوى العاتي الذي يجبر غيره على ما يريد. مأخوذ من قولهم: مخلة جبارة أى: طويلة لا ينال ثمرها بالأيدى.
أى: قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى- عليه السلام- إن الأرض التي وعدتنا بدخولها فيها قوم متغلبون على من يقاتلهم، ولا قدرة لنا على لقائهم وإنا لن ندخل هذه الأرض المقدسة التي أمرتنا بدخولها مادام هؤلاء الجبارون فيها، فإن يخرجوا منها لأى سبب من الأسباب التي لا شأن لنا بها، فنحن على استعداد لدخولها في راحة ويسر، وبلا أدنى تعب أو جهد.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 173(4/107)
ولا شك أن قولهم هذا الذي حكته الآية الكريمة عنهم ليدل على منتهى الجبن والضعف، لأنهم لا يريدون أن ينالوا نصرا باستخدام حواسهم البدنية أو العقلية، وإنما يريدون أن ينالوا ما يبغون بقوة الخوارق والآيات، وأمة هذا شأنها لا تستحق الحياة الكريمة، لأنها لم تقدم العمل الذي يؤهلها لتلك الحياة:
وفي ندائهم لنبيهم باسمه مجردا قالُوا يا مُوسى سوء أدب منهم معه، حيث استهانوا بمقام النبوة فنادوه باسمه حتى يكف عن دعوتهم إلى الجهاد. وفي قولهم وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها امتناع عن القتال بإصرار شديد، حيث أكدوا عدم دخولهم بحرف النفي لَنْ وجعلوا غاية النفي أن يخرج الجبارون منها، مع أن خروجهم منها بدون قتال أمر مستبعد، وهم لا يريدون قتالا، بل يريدون دخولا من غير معاناة ومجاهدة.
ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكرا إحجام قومهما عن الجهاد، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
والمراد بالرجلين: يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وكانا من الاثنى عشر نقيبا.
وقد وصف الله- تعالى- هذين الرجلين بوصفين.
أولهما: قوله: مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أى: من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه- تعالى- بل يخافون العدو.
وقيل المعنى: من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله- تعالى- ربط على قلبيهما بطاعته. فجعلهما يقولان ما قالا:
الوصف الثاني: فهو قوله: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين. أى: قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله- تعالى- ولا يخافون سواه، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإيمان والتثبيت والثقة بوعده، والطاعة لأمره قالا لقومهما. ادخلوا عليهم الباب.
هذا، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال: ويجوز أن تكون الواو في قوله:
يَخافُونَ- لبنى إسرائيل. والراجع إلى الموصول محذوف. والتقدير: قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم، - وهم الجبارون- وهما رجلان منهم «أنعم الله عليهما» بالإيمان فآمنا، قالا لهم: إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم،(4/108)
يشجعانهم على قتالهم. وقراءة من قرأ: يَخافُونَ- يضم الياء- شاهدة له. وكذلك. أنعم الله عليهما» «1» .
والذي نراه أن الرأى الأول أرجح وهو أن الرجلين من بنى إسرائيل، وأن قوله- تعالى- مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا صفتان للرجلين وأن مفعول يخافون محذوف للعلم به وهو الله- تعالى- أى: يخافون الله ويخشونه لأن هذا هو الظاهر من معنى الآية، وهو الذي صدر به المفسرون تفسيرهم للآية، ولأنه لم يرد نص يعتمد عليه في أن أحد الجبارين قد آمن وحرض بنى إسرائيل على قتال قومه، بينما وردت الآثار في بيان اسمى الرجلين وأنهما كانا من الاثنى عشر نقيبا- كما سبق أن ذكرنا- وقوله- تعالى- ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ تشجيع من الرجلين لقومهما ليزيلا عنهم الخوف من قتال الجبارين.
أى: قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما: ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم، وباغتوهم بقتالكم إياهم، فإذا فعلتم ذلك أحرزتم النصر عليهم، وأدركتم الفوز، فإنه «ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا» .
قال صاحب الكشاف: فان قلت: من أين علما أنهم غالبون؟ قلت: من جهة إخبار موسى بذلك. ومن جهة قوله- تعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وقيل: من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة» «2» .
وقوله- تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دعوة من الرجلين المؤمنين لقومها، بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب، وأن يعقدوا عزمهم على دخول الباب على أعدائهم، إن كانوا مؤمنين حقا، فإن النصر يحتاج إلى تأييد من الله- تعالى- لعباده، وإلى توكل عليه وحده، وإلى عزيمة صادقة، ومباشرة للأسباب التي توصل إليه.
ولكن هذه النصيحة الحكيمة من هذين الرجلين المؤمنين، لم تصادف من بنى إسرائيل قلوبا واعية، ولا آذانا صاغية بل قابلوها بالتمرد والعناد وكرروا لنبيهم موسى عليه السلام- نفيهم القاطع للإقدام على دخول الأرض المقدسة مادام الجبارون فيها فقالوا- كما حكى القرآن عنهم: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها.
أى: قالوا غير عابئين بالنصيحة. بل معلنين العصيان والمخالفة: يا موسى إنا لن ندخل
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 630
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 126(4/109)
هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها في أى وقت من الأوقات، مادام أولئك الجبارون يقيمون فيها، لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم.
وقد أكدوا امتناعهم عن دخول هذه الأرض في هذه المرة بثلاثة مؤكدات، هي: إن، ولن، وكلمة أبدا.
أى: لن ندخلها بأى حال من الأحوال مادام الجبارون على قيد الحياة ويسكنون فيها.
ثم أضافوا إلى هذا القول الذي يدل على جبنهم وخورهم، سلاطة في اللسان، وسوء أدب في التعبير، وتطاولا على نبيهم فقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
أى: إذا كان دخول هذه الأرض يهمك أمره، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم منها لأنه- سبحانه- ليس ربا لهم- في زعمهم- إن كانت ربوبيته تكلفهم قتال سكان تلك الأرض.
وقولهم: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ تأكيد منهم لعدم دخولهم لتلك الأرض المقدسة.
أى: إنا ها هنا قاعدون في مكاننا لن نبرجه، ولن نتقدم خطوة إلى الأمام لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين فنحن في غنى عنه، ولا رغبة لنا فيه.
وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم، ليدل على الخسة وسقوط الهمة، لأن القعود في وقت وجوب النشاط للعمل الصالح يؤدى بصاحبه إلى المذمة، والمذلة، قال- تعالى- ذمّا لأمثالهم: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ «1» .
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله- تعالى- حكاية عنهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا قالوا ذلك استهانة واستهزاء به- سبحانه- وبرسوله موسى وعدم مبالاة. وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم، وقسوة قلوبهم والمقابلة: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
ولم يذكروا أخاه هارون ولا الرجلين اللذين قالا، كأنهم لم يجزموا بذهابهم، أو يعبئوا بقتالهم وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا عدم التأخر ثم قصت علينا السورة الكريمة أن موسى- عليه السلام- بعد أن رأى من قومه ما رأى من عناد وجبن، لجأ إلى ربه يشكو إليه منهم، يلتمس منه أن يفرق بينه وبينهم، فقال: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
أى: قال موسى باثا شكواه وحزنه إلى الله، ومعتذرا إليه من فسوق قومه وسفاهتهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 46(4/110)
وجبنهم: رب إنك تعلم أنى لا أملك لنصرة دينك أمر أحد ألزمه بطاعتك سوى أمر نفسي، وأمر أخى هارون، ولا ثقة لي في غيرنا أن يطيعك في العسر واليسر والمنشط والمكره.
ولم يذكر الرجلين اللذين قالا لقومهما فيما سبق ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ لعدم ثقته الكاملة في دخولهما معه أرض الجبارين، وفي وقوفهما بجانبه عند القتال إذا تخلى بقية القوم عنه فإن بعض الناس كثيرا ما يقدم على القتال مع الجيش الكبير، ولكنه قد يحجم إذا رأى أن عدد المجاهدين قليل. ومن هنا لم يذكر أنه يملك أمر هذين الرجلين كما يملك أمر نفسه وأمر أخيه.
وصرح موسى- عليه السلام- بأنه يملك أمر أخيه هارون كما يملك أمر نفسه، لمؤازرته التامة له في كفاحه ظلم فرعون، ولوقوفه إلى جانبه بعزيمة صادقة في كل موطن من مواطن الشدة وليقينه بأنه مؤيد بروح من الله- تعالى.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أما كان معه الرجلان المذكوران؟ قلت كأنه لم يثق بهما كل الوثوق، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه، وتلونهم وقسوة قلوبهم فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره. ويجوز أن يكون قال ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه. ويجوز أن يريد ومن يؤاخينى على ديني» «1» .
هذا وقد ذكر النحويون وجوها من الإعراب لقوله وَأَخِي منها: أنه منصوب عطفا على قوله: نَفْسِي أى: ولا أملك إلا أخى مع ملكي نفسي دون غيرهما.
وقوله- تعالى-: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بيان لما يرجوه موسى من ربه- عز وجل- بعد أن خرج بنو إسرائيل عن طاعته.
والفاء هنا لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله. والفرق معناه الفصل بين شيئين.
والمعنى: قال موسى مخاطبا ربه: لقد علمت يا إلهى أنى لا أملك لنصرة دينك إلا أمر نفسي وأمر أخى، أما قومي فقد خرجوا عن طاعتي وفسقوا عن أمرك ومادام هذا شأنهم فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل، بأن تحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون فإنك أنت الحكم العدل بين العباد.
وهذا الرجاء من موسى لربه في معنى الدعاء عليهم بسبب جبنهم وعصيانهم وقد أجاب الله- تعالى- دعاءه فيهم، بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا وجاء الحكم الفاصل ممن يملكه فقال- تعالى-: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 623(4/111)
وقوله: يَتِيهُونَ من التيه وهو الحيرة. يقال: تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق. ووقع فلان في التيه. أى: في مواضع الحيرة.
وقوله: فَلا تَأْسَ أى: فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن. يقال: أسى- كتعب- أى: حزن. فهو آس مثل حزين. وأسا على مصيبته- من باب عدا- أى: حزن قال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل أى: يقولون لا تهلك نفسك حزنا وتجمل بالصبر.
والمعنى: قال الله- تعالى- لنبيه موسى مجيبا لدعائه: يا موسى إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة، يسيرون خلالها في الصحراء تائهين حيارى لا يستقيم لهم أمر، ولا يستقر لهم قرار، فلا تحزن عليهم بسبب هذه العقوبة فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خروجهم عن طاعتنا، وتمردهم على أوامرنا، وجبنهم عن قتال أعدائنا، وسوء أدبهم مع أنبيائنا.
قال الآلوسى. قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أى: لا يدخلونها ولا يملكونها. والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، وجوز أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر وقوله أَرْبَعِينَ سَنَةً متعلق بقوله:
محرمة فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله- تعالى- ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي- يجوز له دخولها- فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بنى إسرائيل- بعد انقضاء هذه المدة- إلى الأرض المقدسة.
وقوله: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ استئناف لبيان كيفية حرمانهم. وقيل حال من ضمير عَلَيْهِمْ. وقيل: الظرف متعلق بقوله: يَتِيهُونَ فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه» «1» .
وقال الفخر الرازي: اختلف الناس في أن موسى وهارون- عليهما السلام- هل بقيا في التيه أو لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ودعوات الأنبياء مجابة، لأن التيه كان عذابا والأنبياء لا يعذبون.
وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه، إلا أن الله- تعالى- سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما. وإنهما قد ماتا في التيه وبقي يوشع بن
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 109- بتصرف وتلخيص-(4/112)
نون- وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته- وهو الذي فتح الأرض المقدسة- بعد انقضاء مدة التيه وقيل بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة» «1» .
هذا ونرى من المناسب في هذا المقام أن نتعرض بشيء من التفصيل للمسائل الآتية:
أولا: الرد على اليهود في دعواهم أن الأرض المقدسة- فلسطين- ملك لهم مستندين إلى قوله- تعالى-: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثانيا: الحكمة في كون عقابهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.
ثالثا: ما يؤخذ من هذه الآيات من العبر والعظات.
وللإجابة على المسألة الأولى نقول: للمفسرين أقوال في المراد من الكتابة في قوله- تعالى- ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أشهرها قولان:
أولهما: أن معنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: أمركم بدخولها، وفرضه عليكم كما أمركم بالصلاة والزكاة فالكتب هنا مثله في قوله- تعالى- كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ: أى: فرض عليكم وهذا قول قتادة والسدى والثاني: أن معنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قدرها لكم وقضى أن تكون مساكن لكم دون الجبارين. وهذا القضاء مشروط بالإيمان، وطاعة الأنبياء، والجهاد في سبيل نصرة الحق، فإذا لم يكونوا كذلك- وهم لم يكونوا كذلك فعلا- لم يتحقق لهم التمكين في الأرض المقدسة، ولذا بعد أن أغراهم نبيهم موسى- عليه السلام- بدخولها، حذرهم من الجبن والعصيان فقال لهم: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
قال الآلوسى: «وترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعا» «2» .
وقال ابن عباس: كانت هبة من الله لهم ثم حرمها- سبحانه- عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم.
وقال الفخر الرازي: إن الوعد بقوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط» «3» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 199. [.....]
(2) تفسير الآلوسى ج 6 ص 106
(3) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 197(4/113)
والخلاصة أن الكتابة في قوله- تعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: إما أن تكون تكليفية على معنى: أن الله- تعالى- كتب عليكم وفرض أن تدخلوها مجاهدين مطيعين لنبيكم فإذا خالفتم ذلك حقت عليكم العقوبة.
وإما أن تكون كتابة قدرية. أى: قضى وقدر- سبحانه- أن تكون لكم متى آمنتم وأطعتم. وبنو إسرائيل ما آمنوا وما أطاعوا، بل كفروا وعصوا فحرمها- سبحانه- عليهم.
وبذلك ترى أن دعوى اليهود بأن الأرض المقدسة ملك لهم، بدليل قوله- تعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ لا أساس لها من الصحة ولا يشهد لها عقل أو نقل.
وللإجابة عن المسألة الثانية نقول: اقتضت حكمة الله- تعالى- أن يجعل عقوبته لقوم مناسبة لما اجترحوا من ذنوب وآثام وبنو إسرائيل لطول ما ألفوا من ذل واستعباد، هانت عليهم نعمة الحرية. وضعف عندهم الشعور بالعزة. وأصبحت حياة الذلة مع القعود. أحب إليهم من حياة العزة مع الجهاد ولهذا عند ما أمرهم نبيهم موسى- عليه السلام- بدخول الأرض المقدسة اعتذروا بشتى المعاذير الواهية وأكدوا له عدم اقترابهم منها مادام الجبارون فيها:
وقالوا: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
فاقتضت حكمة الله- تعالى- أن يحرمهم منها جزاء جبنهم وعصيانهم وأن يعاقبهم بما يشبه القعود، بأن يحكم عليهم بالتيهان في بقعة محدودة من الأرض، يذهبون فيها ويجيئون وهم حيارى لا يعرفون لهم مقرا وأن يستمروا على تلك الحالة أربعين سنة حتى ينشأ من بينهم جيل آخر سوى ذلك الجيل الذي استمرأ الذل والهوان.
قال ابن خلدون في مقدمته.. ويظهر من مساق قوله- تعالى- قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ومن مفهومه: أن حكمة ذلك التيه مقصودة، وهي فناء الأجيال الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر، وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة. فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتى فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر.
فسبحان الحكيم العليم» «1» .
هذا ولصاحب المنار كلام حسن في حكمة هذه العقوبة، نرى من المناسب إثباته هنا، فقد قال- رحمه الله- في ختام تفسيره لهذه الآيات:
«إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، والإحساس بالظلم والاضطهاد، تفسد
__________
(1) مقدمة ابن خلدون. نقلا عن تفسير القاسمى ج 6 ص 1942(4/114)
أخلاقها، وتذل نفوسها. وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية. والطبائع الخلقية، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه، ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر.
أفسد ظلم فرعون فطرة بنى إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل. وقد أراهم الله- تعالى- من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى- عليه السلام- وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل إلى الحرية. ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنون إليها.
وكان الله- تعالى- يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده- تعالى- لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشرى، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية. ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة، وعدل الشريعة، ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم إنما يظلمون أنفسهم.
وعلى هذه السّنة العادلة أمر الله- تعالى- بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، فأبوا واستكبروا. فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي ضربها الله لنا، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها «1» .
وللإجابة عن المسألة الثالثة- وهي ما يؤخذ من هذه الآيات من عظات وعبر- نقول: إن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على لون حكيم في أسلوب الدعوة إلى الله- تعالى- فقد بدأت بتذكير بنى إسرائيل بأمجادهم وبعظم نعم الله عليهم، لتغرس فيهم الشعور بالعزة ولتغريهم بالاستجابة لما أمر به- سبحانه-.
كما اشتملت على تحذيرهم من مغبة الجبن والمخالفة لأن ذلك يؤدى إلى الخسران.
وفوق ذلك فقد صورت تصويرا معجزا طبيعة بنى إسرائيل على حقيقتها وكشفت عن خور عزيمتهم، وسقوط همتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم.. بما جعلهم أهلا للعقوبات الرادعة وفي كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه من اليهود المعاصرين له من أذى، وتحذير لهم من السير
__________
(1) تفسير المنار ج 6 ص 337- بتصرف يسير.(4/115)
على طريقة آبائهم المعوجة، حتى لا يعرضوا أنفسهم للعقوبات التي حلت بأسلافهم.
قال الإمام ابن جرير: عند تفسيره للآيات الكريمة: وهذا- أيضا- من الله- تعالى تعريف- لنبيه صلى الله عليه وسلم بتمادي هؤلاء اليهود في الغي، وبعدهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم وبطء إثابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع آياته وآلائه عليهم، مسليا بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما ينزل به من مجادلاتهم في ذات الله، يقول الله- له: لا تأس على ما أصابك منهم، فإن الذهاب عن الله، والبعد عن الحق، وما فيه من الحظ لهم في الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم، وأوائلهم، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى- عليه السلام- «1» .
وقال الإمام ابن كثير: وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم كليم الله وصفيه من خلقه في ذلك الزمان. وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم. هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من الغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون. لتقر به أعينهم- وما بالعهد من قدم- ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم. وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل.
وقال- رحمه الله- قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة- رضى الله عنهم- يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال قريش. فقد قالوا فأحسنوا.
لقد قال المقداد: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن نقول لك: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون» «2» كذلك يؤخذ من هذه القصة أن معصية الله ورسله تؤدى إلى الخسران، فإن بنى إسرائيل لما جبنوا عن دخول الأرض المقدسة، وعصوا أمر نبيهم، عاقبهم الله بالتيه مدة أربعين سنة، صارت قصتهم عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين.
وبعد أن ساق- سبحانه- جوانب متعددة من أحوال أهل الكتاب وما جبلوا عليه من أخلاق سيئة، أتبع ذلك بقصة ابني آدم، فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 168
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 39 بتصرف وتلخيص.(4/116)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قال أبو حيان في البحر «مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هو أن الله لما ذكر تمرد بنى إسرائيل وعصيانهم أمره في النهوض لقتال الجبارين، أتبع ذلك بذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله وأنهم انتهوا في خور الطبيعة. وهلع النفوس(4/117)
والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة- فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتو بأن أقدم على أكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها، بحيث كان أول من سن القتل، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة. فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه. ومن حيث المعصية بهما وأيضا فتقدم قوله في أوائل الآيات:
إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وتبين ان عدم اتباع بنى إسرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنما سببه الحسد، وقصة بنى آدم انطوت على الحسد: وأن بسببه وقعت أول جريمة قتل على ظهر الأرض «1» .
وقوله: وَاتْلُ من التلاوة. وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها.
وفي النطق بها. والمراد بابني آدم: ولداه وهما قابيل وهابيل.
قال القرطبي: واختلف في ابني آدم. فقال الحسن البصري: ليسا من صلبه كانا رجلين من بنى إسرائيل- ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود- وكان بينهما خصومة، فتقربا بقربانين، ولم تكن القرابين إلا في بنى إسرائيل قال ابن عطية: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بنى إسرائيل يقتدى بالغراب؟ والصحيح أنهما ابناه لصلبه. هذا قول الجمهور من المفسرين وهما قابيل وهابيل «2» .
والضمير في قوله: عَلَيْهِمْ يعود على بنى إسرائيل الذين سبق الحديث عنهم. أو على جميع الذين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهدايتهم ويدخل فيه بنو إسرائيل دخولا أوليا، لإعلامهم بما هو في كتبهم حيث وردت هذه القصة في التوراة.
وقوله بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر اتْلُ أى: اتل عليهم تلاوة ملتبسة بالحق والصدق. والقربان: اسم لما يتقرب به إلى الله- تعالى- من صدقة أو غيرها. ويطلق في أكثر الأحوال على الذبائح التي يتقرب إلى الله- بذبحها.
قال أبو حيان: وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان- من قابيل وهابيل- وملخصه: أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن الآخر. ولا يحل للذكر نكاح توأمته: فولد مع قابيل أخت جميلة، وولد مع هابيل أخت دون ذلك. فأبى قابيل إلا أن يتزوج توأمته لا توأمة هابيل، وأن يخالف سنة النكاح ونازع قابيل هابيل في ذلك، فاتفقا على أن يقدما قربانا- فأيهما قبل قربانه تزوجها، والقربان الذي
__________
(1) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ص 460
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 133(4/118)
قرباه هو زرع لقابيل- وكان صاحب زرع- وكبش لهابيل- وكان صاحب غنم- فتقبل من أحدهما وهو هابيل ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل. وكانت علامة التقبل أن تأكل نار نازلة من السماء القربان المتقبل وتترك غير المتقبل «1» .
والمعنى: واتل- يا محمد- على هؤلاء الحسدة من اليهود، وعلى الناس جميعا قصة قابيل وهابيل، وقت أن قربا قربانا لله- تعالى- فتقبل الله- عز وجل- قربان أحدهما- وهو هابيل- لصدقه وإخلاصه، ولم يتقبل من الآخر- وهو قابيل- بسوء نيته وعدم تقواه.
ثم حكى- سبحانه- ما دار بين الأخوين من حوار فقال: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ أى قال قابيل متوعدا أخاه هابيل: لأقتلنك بسبب قبول قربانك، دون قرباني، فأنت ترى أن هذا الأخ الظالم قد توعد أخاه بالقتل- وهو من أكبر الكبائر. دون أن يقيم للأخوة التي بينهما وزنا ودون أن يهتم بحرمة الدماء وبحق غيره في الحياة والذي حمله على ذلك الحسد له على مزية القبول.
وقد أكد تصميمه على قتله لأخيه بالقسم المطوى في الكلام والذي تدل عليه اللام. ونون التوكيد الثقيلة أى والله لأقتلنك بسبب قبول قربانك.
وهنا يحكى القرآن الكريم مارد به الأخ البار التقى هابيل على أخيه الظالم الحاسد قابيل، فيقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
أى: قال هابيل لقابيل ناصحا ومرشدا: إنما يتقبل الله الأعمال والصدقات من عباده المتقين الذين يخشونه في السر والعلن وليس من سواهم من الظالمين الحاسدين لغيرهم على ما آتاهم الله من نعم، فعليك أن تكون من المتقين لكي يقبل منك الله.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان قوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ جوابا لقوله: لَأَقْتُلَنَّكَ؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أن الله- تعالى- لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق «2» .
ثم انتقل الأخ التقى من وعظ أخيه بتطهير قلبه، إلى تذكيره بحقوق الأخوة وما تقتضيه من بر وتسامح فقال- كما حكى القرآن عنه- لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 130
(2) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 2 ص 461
.(4/119)
وبسط اليد: مدها والمراد هنا: مدها بالاعتداء.
والمعنى: لئن مددت إلى- يا أخى- يدك لتقتلني ظلما وحسدا ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ فإن القتل- وخصوصا بين الأخوة جريمة منكرة، تأباها شرائع الله- تعالى- وتنفر منها العقول السليمة.
وإذا كان الأخ الظالم قابيل قد أكد تصميمه على قتل أخيه هابيل بجملة قسمية وهي لَأَقْتُلَنَّكَ فإن هابيل قد أكد عدم قتله له بجملة قسمية- أيضا وهي لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ.
فأنت ترى أن الجملة الكريمة تصور أكمل تصوير ما بين الأخيار والأشرار من تضاد.
قال الآلوسى: قيل كان هابيل أقوى من قابيل ولكنه تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله- تعالى- لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت، وفي تلك الشريعة. أو تحريا لما هو الأفضل والأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا، لا قاتلا» «1» .
وقوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ جملة تعليلية مسوقة لبيان سبب امتناع هابيل عن بسط يده إلى أخيه قابيل.
أى: إنى أخاف الله رب العالمين أن يراني باسطا يدي إليك بالقتل. وقد أكد خوفه من الله- تعالى- بأن المؤكدة للقول، وبذكره له- سبحانه- بلفظ الجلالة، المشعر بأنه هو وحده صاحب السلطان، وبوصفه له عز وجل بأنه رب العالمين، أى: منشئ الكون ومن وما فيه، وصاحب النعم التي لا تحصى على خلقه.
وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد لقابيل لخشية الله على أتم وجه، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله.
ثم انتقل هابيل من وعظ أخيه بتطهير قلبه وبتذكيره بما تقتضيه الأخوة من بر وتسامح إلى تخويفه من عقاب الآخرة فقال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ:
وقوله: أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، أى ترجع. وتقر: من البوء وهو الرجوع واللزوم، يقال: باء إليه: أى: رجع، وبؤت به إليه أى رجعت.
والآية الكريمة تعليل آخر لامتناعه عن بسط يده إلى أخيه، ولم تعطف على ما قبلها للإيذان باستقلالها في العلية، ولدفع توهم أن تكون جزء علة لا علة تامة.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 112(4/120)
والمعنى: إِنِّي أُرِيدُ بامتناعى عن التعرض لك ببسط يدي أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أى: ترجع بإثم قتلك إياى، وبإثمك الذي قد كان منك قبل قتلى، والذي بسببه لم يتقبل قربانك فَتَكُونَ بسبب الإثمين مِنْ أَصْحابِ النَّارِ في الآخرة وَذلِكَ أى:
كينونتك من أصحاب النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم.
قال الإمام الرازي: فإن قيل: كما لا يجوز للإنسان أن يريد من نفسه أن يعصى الله، فكذلك لا يجوز له أن يريد من غيره أن يعصى الله، فلم قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ؟
فالجواب: أن هذا الكلام إنما دار بينهما عند ما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له: وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد وأن تترصد قتلى في وقت أكون غافلا عنك وعاجزا عن دفعك فحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلى إلا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان.
وهذا منى كبيرة ومعصية وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا، وبين أن يكون أنت، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي.
ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة، وعلى هذا الشرط لا يكون حراما. ويجوز أن يكون المراد: إنى أريد أن تبوء بعقوبة قتلى. ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه» «1» .
وقال صاحب الانتصاف: فأما إرادته- أى إرادة هابيل- لإثم أخيه وعقوبته- في قوله- تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ- فمعناه: إنى لا أريد أن أقتلك فأعاقب. ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول. اضطر إلى الثاني.
فهو لم يرد إذا إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل- ولم تكن حينئذ مشروعة- فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناه أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله» «2» .
وإلى هنا نرى. أن هابيل قد استعمل في صرف أخيه عن جريمة القتل وسائل متنوعة فهو
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 207- بتصرف وتلخيص،
(2) حاشية تفسير الكشاف ج 1 ص 25.(4/121)
أولا أرشده إلى أن الله- تعالى- إنما يتقبل الأعمال من المتقين، فإذا أراد أن يتقبل قربانه فعليه أن يكون منهم.
وأرشده ثانيا إلى حقوق الأخوة وما تقتضيه من محبة ومودة وتسامح.
وأرشده ثالثا إلى أنه لا يمنعه من بسط يده إليه إلا الخوف من الله رب العالمين.
وأرشده رابعا إلى أن ارتكابه لجريمة القتل سيؤدي به إلى عذاب النار يوم القيامة، بسبب قتله لأخيه ظلما وحسدا.
فماذا كان وقع هذا النصح الحكيم، والإرشاد القويم في نفس ذلك الإنسان الحاسد الظالم؟
لقد بين الله ذلك بقوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ.
قال القرطبي: قوله فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ: أى: سولت وسهلت نفسه له الأمر. وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل. يقال: طاع الشيء يطوع أى: سهل وانقاد. «وطوعه فلان له أى سهله» «1» .
والمعنى: أن قابيل سهلت له نفسه وزينت له- بعد هذه المواعظ- قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ في دنياه وفي أخراه.
أصبح من الخاسرين في دنياه لأنه قتل أخاه، والأخ سند لأخيه وعون له، لما بينهما من رحم قوية ورابطة متينة.
وأصبح من الخاسرين في آخرته، لأنه ارتكب جريمة من أكبر الجرائم وأشنعها وقد توعد الله مرتكبها بالغضب واللعنة والعذاب العظيم.
والتعبير بقوله- تعالى فَطَوَّعَتْ تعبير دقيق بليغ، فإن هذه الصيغة- صيغة التفعيل- تشير إلى أنه كانت هناك بواعث متعددة تتجاذب نفسه، كانت هناك بواعث الشر التي تدعوه إلى الاقدام على قتله، ودوافع الخير التي تمنعه من الإقدام على قتل أخيه، وأخيرا تغلبت دوافع الشر على دوافع الخير فقتل أخاه.
وقد صور الإمام الرازي هذا المعنى تصويرا حسنا فقال:
قال المفسرون: فطوعت، أى: سهلت له نفسه قتل أخيه، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور القتل العمد العدوان وكونه من أعظم الكبائر فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله فيكون هذا الفعل كالشىء العاصي المتمرد عليه الذي لا يطيعه بوجه ألبتة. فإذا أوردت النفس
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 138 [.....](4/122)
أنواع وساوسها، صار هذا الفعل سهلا عليه، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له، بعد أن كان كالعاصى المتمرد عليه، فهذا هو المراد بقوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ «1» .
هذا، والآية الكريمة بعد كل ذلك، تشير إلى شناعة الجريمة في ذاتها من حيث الباعث عليها، إذ الباعث عليها هو الحسد ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول إذ هي صلة أخوة تقتضي المحبة والمودة والتراحم ومن حيث ذات الفعل فإنه أكبر جريمة بعد الإشراك بالله- تعالى-.
قال الآلوسى: أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه أول من سن القتل» وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر- رضى الله عنه- قال: «إنا لنجد ابن آدم القاتل، يقاسم أهل النار العذاب. عليه شطر عذابهم» «2» .
ثم حكى القرآن بعض ما حدث بعد قتل الأخ أخاه فقال: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
وقوله: فَبَعَثَ من البعث بمعنى الإرسال. وهو هنا مستعمل في الإلهام بالطير إلى ذلك المكان بحيث يراه قابيل.
والغراب: طائر معروف. قالوا: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الطيور أو الحيوان، لأنه يتشاءم به في الفراق والاغتراب. أو لأن من عادة الغراب دفن الأشياء.
وقوله: يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أى: ينبش التراب بمنقاره ورجليه بحيث يستخرجه من الأرض، ليعمل ما يشبه الحفرة.
والتعبير بالمضارع، للإشارة إلى أن البحث قد مكث وقتا، وكان مجال استمرار.
وقوله: لِيُرِيَهُ إما متعلق بقوله فَبَعَثَ فيكون الضمير في الفعل لله- تعالى- أو متعلق بقوله: يَبْحَثُ فيكون الضمير للغراب.
قال القرطبي: قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ثم حفر فدفنه- فتعلم قابيل ذلك من الغراب- وكان ابن آدم هذا أول من قتل. وقيل إن الغراب
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 207
(2) تفسير الآلوسى ج 6 ص 115(4/123)
بحث الأرض على طعمه- أى: أكله- ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه، لأن عادة الغراب فعل ذلك، فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه» «1» .
«والسوءة» ما تسوء رؤيته من الجسد، والمراد بها هنا: جميع جسد الميت وقيل: المراد بها العورة، لأنها تسوء ناظرها. وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها، لأن سترها آكد.
وهذه الآية الكريمة مرتبطة بكلام يسبقها لم يذكره القرآن الكريم لفهمه من السياق.
والتقدير: أن القاتل بعد أن ارتكب جريمته. ورأى جثة أخيه أمامه ملقاة في العراء. تحير ماذا يفعل فيها حتى لا يتركها عرضة لنهش السباع والطيور. فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ أى:
يحفر وينبش بمنقاره ورجليه متعمقا فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ أى: ليعلم ذلك القاتل ويعرفه كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أى: كيف يستر في التراب جسم أخيه بعد أن فارقته الحياة، وأصبح عرضة للتغير والتعفن.
وقوله- تعالى- قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي بيان لما اعترى هذا القاتل من تحسر وندم.
وكلمة يا وَيْلَتى أصلها: يا ويلتى. وهي كلمة جزع وتحسر. تستعمل عند وقوع المصيبة العظيمة كأن المتحسر ينادى ويلته ويطلب حضورها، بعد تنزيلها منزلة من ينادى. ولا يكون ذلك إلا في أشد الأحوال ألما، والويلة كالويل: ومعناهما الفضيحة والبلية والهلاك.
أى: قال القاتل لأخيه ظلما وحسدا بجزع وحسرة- بعد أن أرى غرابا يحفر حفرة ليدفن فيها شيئا- قال يا وَيْلَتى أى: يا فضحيتى وبليتى أقبلى فهذا وقتك، لأنى قد نزلت بي أسبابك.
وقوله: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي أى: أضعفت عن الحيلة التي تجعلني مثل هذا الغراب فأستر جسد أخى في التراب كما دفن الغراب بمنقاره ورجليه في الأرض ما أراد دفنه؟! والاستفهام في أَعَجَزْتُ للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب، مع أنه إنسان فيه عقل، والغراب طائر من أخس الطيور.
وقوله: فَأُوارِيَ معطوف على قوله: أَنْ أَكُونَ.
وقوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، تذييل قصد به بيان ما أصاب قابيل بعد أن قتل أخاه عدوانا وحسدا، ولم يعرف كيف يستر جثته إلا من الغراب.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 125(4/124)
والندم: أسف الفاعل على فعل صدر منه.
قال الراغب: الندم والندامة التحسر من تغير رأى في أمر فائت. قال- تعالى-: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. وأصله من منادمة الحزن له وملازمته إياه» «1» .
والمعنى: فأصبح قابيل الذي قتل أخاه هابيل بغيا وحسدا من النادمين على ما اقترف من فواحش تدل على جهله، وبغيه، وتمكن الحقد من نفسه.
قال صاحب المنار: والندم الذي ندمه- قابيل- هو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعل إذا ظهر له أن فعله كان شرا له لا خيرا. وقد يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله، والتألم من تعدى حدوده، وهذا هو المراد بحديث «الندم توبة» - رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم والبيهقي.
وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد وحده توبة. وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل- أى نصيب- من دمها لأنه أول من سن القتل» «2» .
ثم بين- سبحانه- بعد أن ساق ما جرى بين ابني آدم- ما شرعه من شرائع تردع المعتدى، وتبشر التقى فقال- تعالى-: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.
وأصل معنى الأجل: الجناية التي يخشى منها آجلا. يقال: أجل الرجل على أهله شرا يأجله- بضم الجيم وكسرها- أجلا إذا جناه أو أثاره وهيجه، ثم استعمل في تعليل الجنايات كما في قولهم: من أجلك فعلت كذا. أى بسببك، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل.
والجار والمجرور مِنْ أَجْلِ متعلق بالفعل كَتَبْنا واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما ذكر في تضاعيف قصة ابن آدم من أنواع المفاسد المترتبة على هذا القتل الحرام.
والمعنى: بسبب قتل قابيل لأخيه هابيل حسدا وظلما، ومن أجل ما يترتب على القتل بغير حق من مفاسد كَتَبْنا أى فرضنا وأوجبنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ في التوراة ما يردع المعتدى وما يبشر المتقى.
قال الجمل: قال بعضهم: إن قوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ من تمام الكلام الذي قبله- أى أنه
__________
(1) مفردات القرآن للراغب الاصفهانى ج 486.
(2) تفسير المنار ج 6 ص 347.(4/125)
متعلق بقوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ- والمعنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك. يعنى من أجل أنه قتل أخاه هابيل ولم يواره، ويروى عن نافع أنه كان يقف على قوله: من أجل ذلك ويجعله من تمام الكلام الأول، ولكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ابتداء كلام متعلق بقوله كَتَبْنا فلا يوقف عليه «1» .
ومِنْ هنا للسببية. أى: بسبب هذه الجناية شرعنا ما شرعنا من أحكام لدفع الشر وإشاعة الخير.
وعبر- سبحانه- عن السببية. بمن لبيان الابتداء في الحكم. وأنه اقترن بوقوع تلك الجريمة النكراء التي ستكون آثارها سيئة إذا لم تشرع الأحكام لمنعها.
وقدم الجار والمجرور على ما تعلق به وهو كَتَبْنا لإفادة الحصر أى: من ذلك ابتدئ الكتب ومنه نشأ لا من شيء آخر.
وعبر- سبحانه- بقوله كَتَبْنا للإشارة إلى أن الأحكام التي كتبها، قد سجلت بحيث لا تقبل المحو أو التبديل، بل من الواجب على الناس أن يلتزموا بها، ولا يفرطوا في شيء منها.
وخص بنو إسرائيل بالذكر مع أن الحكم عام- لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، ولأنهم أكثر الناس سفكا للدماء، وقتلا للمصلحين، فقد قتلوا كثيرا من الأنبياء، كما قتلوا أكثر المرشدين والناصحين، ولأن الأسباب التي أدت إلى قتل قابيل لهابيل من أهمها الحسد، وهو رذيلة معروفة فيهم، فقد حملهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على الكفر به مع أنهم يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم، كما حملهم على محاولة قتله ولكن الله- تعالى- نجاه من شرورهم.
وما أشبههم في قتلهم للذين يأمرونهم بالخير بقابيل الذي قتل أخاه هابيل لأنه أرشده إلى ما يصلحه.
وقوله- تعالى-: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً بيان لما كتبه- سبحانه- من أحكام تسعد الناس متى اتبعوها.
والمعنى: بسبب قتل قابيل لأخيه هابيل ظلما وعدوانا، كتبنا في التوراة على بنى إسرائيل أَنَّهُ أى: الحال والشأن مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة من النفوس الإنسانية بِغَيْرِ نَفْسٍ.
أى: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص منه أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أى: أو بغير فساد في
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 485- بتصرف يسير.(4/126)
الأرض يوجب إهدار الدم- كالردة وزنا المحصن- فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لأن الذي يقتل نفسا بغير حق، يكون قد استباح دما مصونا قد حماه الإسلام بشرائعه وأحكامه، ومن استباح هذا الدم في نفس واحدة، فكأنه قد استباحه في نفوس الناس جميعا، إذ النفس الواحدة تمثل النوع الإنسانى كله. وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أى: ومن تسبب في إحيائها وصيانتها من العدوان عليها، كأن استنقذها مما يؤدى بها إلى الهلاك والأذى الشديد، أو مكن الحاكم من إقامة الحد على قاتلها بغير حق، من فعل ذلك فكأنما تسبب في إحياء الناس جميعا.
وفي هذه الجملة الكريمة أسمى ألوان الترغيب في صيانة الدماء، وحفظ النفوس من العدوان عليها، حيث شبه- سبحانه- قتل النفس الواحدة بقتل الناس جميعا، وإحياءها بإحياء الناس جميعا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع، وجعل حكمه كحكمهم؟
قلت: لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على الله، وثبوت الحرمة. فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته، وعلى العكس. فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب وليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها، لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا، عظم ذلك عليه فثبطه- عن القتل- وكذلك الذي أراد إحياءها «1» » .
وقال الإمام ابن كثير: قال الحسن وقتادة في قوله- تعالى- أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً.. إلخ.
هذا تعظيم لتعاطى القتل. قال قتادة: عظيم والله وزرها، وعظيم والله أجرها. وقيل للحسن: هذه الآية لنا كما كانت لبنى إسرائيل؟ فقال: إى والذي لا إله غيره- هي لنا- كما كانت لهم. وما جعل- سبحانه- دماءهم أكرم من دمائنا «2» .
وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون المراد بالنفس في قوله أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً:
العموم أى: نفسا يحرم قتلها من بنى الإنسان.
وبعضهم يرى أن المراد نفس الامام العادل، لأن القتل في هذه الحالة يؤدى إلى اضطراب أحوال الجماعة، وإشاعة الفتنة فيها. قال القرطبي: روى عن ابن عباس أنه قال: المعنى:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 617.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 351.(4/127)
من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره، فكأنما أحيا الناس جميعا» «1» .
ويبدو لنا أن تفسير النفس بالعموم أولى، لأنه هو الذي عليه جمهور العلماء، ولأنه أدعى لحفظ الدماء الإنسانية، وإعطائها ما تستحقه من صيانة واحترام.
وقوله. بِغَيْرِ نَفْسٍ متعلق بالفعل قبله وهو (قتل) . وقوله أَوْ فَسادٍ مجرور عطفا على نفس المجرورة بإضافه غير إليها.
و «ما» في قوله فَكَأَنَّما كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها.
وقوله- تعالى-: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ بيان لموقف بنى إسرائيل القبيح مما جاءهم من هدايات على أيدى أنبيائهم ومرشديهم.
أى: ولقد جاءت رسلنا لبنى إسرائيل بالآيات البينات، والمعجزات الواضحات، ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ أى: بعد الذي كتبناه عليهم من شرائع، وبعد مجيء الرسل إليهم بالبينات فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أى: لمجاوزون الحد في ارتكاب المعاصي والآثام، إذ الإسراف مجاوزة حدود الحق والعدل بدون مبالاة أو اهتمام بهما. وأكد- سبحانه- جملة وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بالقسم، لكمال العناية بمضمونها، ولبيان أن الرسل- عليهم السلام- ما قصروا في إرشاد بنى إسرائيل إلى ما يسعدهم ويهديهم، فقد جاءوهم بالشرائع البينة الواضحة التي تحمل في نفسها دليل صلاحها. والتعبير «بجاءتهم» يشير إلى أن الرسل- عليهم السلام- وصلوا إليهم، وصاروا قريبين منهم، بحيث يرونهم ويخاطبونهم ولا يتركون أمرا يهمهم إلا بينوه لهم.
وجملة ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ معطوفة على جملة وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ.
وكان العطف «بثم» المفيدة هنا للتراخي في الرتبة، للإشارة إلى الفرق الشاسع بين ما جاءتهم به الرسل من بينات وهدايات، وبينات وهدايات، وبين ما كان عليه بنو إسرائيل من جحود وعناد وإفساد في الأرض.
واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى المذكور من مجيء الرسل إليهم بالبينات ومن كتابة الشرائع عليهم. وفي وصف الكثيرين من بنى إسرائيل بالإسراف احتراس في الحكم، وإنصاف للقلة التي آمنت منهم، وهذا من عدالة القرآن الكريم في أحكامه، ودقته في تعبيراته.
وذكر- سبحانه- أن إسراف الكثيرين منهم فِي الْأَرْضِ مع أنه لا يكون إلا فيها، للإيذان بأن فسادهم وإسرافهم في القتل والمعاصي لم يكن فيما بينهم فحسب، بل انتشر شره في
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 146(4/128)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
الأرض، وسرى إلى غيرهم من سكانها المنتشرين فيها. وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حكت لنا ما دار بين ابني آدم من محاورات أدت إلى قتل أحدهما للآخر ظلما وحسدا، إذ الحسد يأكل القلوب، ويشعلها بالشر كما تشتعل النار في الحطب، وبسببه ارتكبت أول جريمة قتل على ظهر الأرض، وبسببه كانت أكثر الجرائم في كل زمان ومكان.. كما حكت لنا أن بنى إسرائيل- مع علمهم بشناعة جريمة القتل- قد أسرفوا في قتل الأنبياء والمصلحين مما يدل على قسوة قلوبهم، وفي كل ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه عما كانوا يلاقونه من اليهود المعاصرين لهم من عناد ومكر وأذى.
وبعد أن ذكر- سبحانه- تغليظ الإثم في قتل النفس بغير حق، وتعظيم الأجر لمن عمل على إحيائها، أتبع ذلك ببيان الفساد المبيح للقتل، فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال بعضهم: نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فعرف الله نبيه الحكم فيهم ...
وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين.
وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عرينة وعكل- بضم العين وسكون الكاف- ارتدوا عن الإسلام، وحاربوا الله ورسوله، فعن أنس أن رهطا من عكل وعرينة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، وإنا استوخمنا المدينة- أى: وجدناها(4/129)
رديئة المناخ- فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع- أى: بعدد من الإبل ومعهم راع-، وأمرهم أن يخرجوا بها، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم، فأتى بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا، فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم.
ثم قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم: لمعرفة حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين» «1» .
والذي يراه ابن جرير أولى هو الذي تطمئن إليه النفس، فإن الآية الكريمة تبين عقاب قطاع الطرق الذين يحاربون النظام القائم للأمة، ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسلب والسرقة سواء أكانوا من المشركين أم من غيرهم؟ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله: سبحانه يُحارِبُونَ من المحاربة. والمحاربة: مفاعلة من الحرب وهي ضد السلم، والأصل في معنى كلمة الحرب: الأخذ والسلب. يقال: حربه، إذا سلبه ماله، والمراد بالمحاربة هنا: قطع الطريق على الآمنين بالاعتداء عليهم بالقتل أو السلب أو ما يشبه ذلك من الجرائم التي حرمها الله- تعالى-:
ومحاربة الناس لله- تعالى- على وجه الحقيقة غير ممكنة، لتنزهه- سبحانه- عن أن يكون من الجواهر والأجسام التي تقاتل ولأن، المحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين في وجهة ومكان والله منزه عن ذلك، فيكون التعبير مجازا عن المخالفة لشرع الله، وارتكاب ما يغضبه أو المعنى: يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون فيكون الكلام على تقدير حذف مضاف.
وصدر- سبحانه- الآية بلفظ إنما المفيد للقصر، لتأكيد العقاب، ولبيان أنه عقاب لا هوادة فيه، لأنه حد من حدود الله- تعالى- على تلك الجريمة النكراء التي تقوض بنيان الجماعة، وتهدم أمنها، وتزلزل كيانها، وتبعث الرعب والخوف في نفوس أفرادها.
وعبر- سبحانه- عمن يحارب أولياءه وشرعه بأنهم محاربون له ولرسوله لزيادة التشنيع عليهم، ولبيان أن كل من يهدد أمن المسلمين ويعتدى عليهم يكون محاربا لله ولرسوله ومستحقا لغضبه- سبحانه- وعقوبته.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً معطوف على قوله يُحارِبُونَ.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 208.(4/130)
وقوله: وَيَسْعَوْنَ من السعى وهو الحركة السريعة المستمرة.
والفساد: ضد الصلاح. فكل ما خرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا، يقال إنه قد فسد. والسعى في الأرض بالفساد المراد به هنا: قطع الطريق على الناس، وتهديد أمنهم، والتعرض لهم بالأذى في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم.
وقوله: فَساداً مفعول لأجله أى: يحاربون ويسعون لأجل الفساد. أو هو حال من فاعل يَسْعَوْنَ بتأويله بمفسدين، أو ذوى فساد.
وقوله: أن يقتّلوا أو يصلّبوا إلخ. خبر عن المبتدأ الذي هو جَزاءُ والمعنى: إِنَّما جَزاءُ أى: عقاب الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى: يخالفونهما ويعصون أمرهما، ويعتدون على أوليائهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أى: يعملون بسرعة ونشاط في الأرض لا من أجل الإصلاح وإنما من أجل الإفساد فيها عن طريق تهديد أمن الناس، والاعتداء على أموالهم وأنفسهم. جزاء هؤلاء أَنْ يُقَتَّلُوا والتقتيل هو القتل، إلا أنه ذكر بصيغة التضعيف لإفادة الشدة في القتل وعدم التهاون في إيقاعه عليهم لكونه حق الشرع وللإشارة إلى الاستمرار في قتلهم ماداموا مستمرين في الجريمة فكلما كان منهم قتل قتلوا.
أَوْ يُصَلَّبُوا والتصليب: وضع الجاني الذي يراد قتله مشدودا على مكان مرتفع بحيث يرى بعد القتل ليكون عبرة لغيره، وردعا له عن ارتكاب المعاصي والجرائم. قالوا: ويكون الصلب لمدة ثلاثة أيام وقيل: لمدة يوم واحد. وجيء هنا أيضا بصيغة التضعيف لإفادة التشديد في تنفيذ هذه العقوبة وإثبات أنه لا هوادة فيها.
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أى: تقطع مختلفة، فقوله مِنْ خِلافٍ حال من أيديهم وأرجلهم أى: لا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد بل تكونان من جانبين مختلفين.
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أى، يطردوا من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى ليتشتت شملهم، ويتفرق جمعهم، مع مراقبتهم والتضييق عليهم. وفسر بعضهم النفي بالحبس في السجون، لأن فيه إبعادا لهم وتفريقا لجمعهم.
واسم الإشارة في قوله- تعالى- ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا يعود إلى العقاب المذكور في الآية من القتل والصلب.. إلخ.
والخزي: الذل والفضيحة أى ذلك العقاب المذكور لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أى: ذل وفضيحة وعار عليهم، لأنه كشف أمرهم، وهتك سترهم، وجعلهم عبرة لغيرهم.(4/131)
هذا هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فقد بينه- سبحانه- بقوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أى: لهم في الآخرة عذاب عظيم في شدته وآلامه جزاء ما اقترفوا من جرائم.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بيان لحكم هؤلاء المحاربين إذا ما تابوا قبل القدرة عليهم.
أى نفذوا- أيها المسلمون- هذه العقوبات على هؤلاء المحاربين لأولياء الله وأولياء رسوله، والساعين في الأرض بالفساد ماداموا مستمرين في غيهم وعدوانهم إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أى: من قبل أن تتمكنوا من أخذهم، بأن أتوكم طائعين نادمين، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى واسع المغفرة والرحمة بعباده.
هذا وهناك مسائل تتعلق بهاتين الآيتين من أهمها ما يأتى:
1- احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في أن المحاربة في الأمصار وفي القرى وفي الصحراء على السواء، فحيثما تحققت إخافة المسلمين، كان الفاعلون لتلك الإخافة محاربين لله ولرسوله ويجب إنزال العقاب بهم، لقوله- تعالى- وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وكل هذه الأماكن من الأرض. وعلى هذا الرأى سار الإمام مالك والشافعى وأحمد وغيرهم.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن قطع الطريق لا يتصور في داخل المصر، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى وإنما يتصور قطع الطريق في الصحراء وخارج المدن والقرى.
والذي نراه متفقا مع الآية الكريمة أنه حيثما تحقق الوصف- وهو محاربة الآمنين واستلاب أموالهم، والاعتداء على أرواحهم- كانت الحرابة، ولزمت العقوبة التي تردع هؤلاء المعتدين على أموال الناس وأنفسهم.
قال القرطبي: واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة. فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة «1» .
قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة. وقالت طائفة حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق، وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة.
قال ابن المنذر: كذلك هو، لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة. والآية على العموم. وليس
__________
(1) نائرة: أى هاجة يقال: نارت ناره في الناس بمعنى: هاجت هائجة.(4/132)
لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجة عن المصر «1» .
وقال ابن العربي: والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض. ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها. ولو خرج بعض من في المصر لقتل بالسيف. ويؤخذ فيه بأشد ذلك لا بأيسره. فإنه سلب وغيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة وكان حدا» «2» 2- اختلف الفقهاء في معنى التخيير في قوله- تعالى- أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.
فقال قوم من السلف: الآية تدل على التخيير بين هذه الأجزية. فمتى خرج المحاربون بقطع الطريق، وقدر الإمام عليهم، فهو مخير بين أن يوقع بهم أى نوع من العقاب من هذه الأنواع الأربعة: القتل أو الصلب أو التقطيع أو النفي، حتى ولو لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا، ماداموا قد اجتمعوا وقصدوا تهديد أمن الناس. فالمسألة متروكة لتقدير الحاكم، وعليه أن يوقع بهم ما يراه مناسبا لزجرهم وردعهم وجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يستشرى الشر في الأمة.
قال ابن كثير: قال ابن أبى طلحة عن ابن عباس فيمن شهر السلاح في قبة الإسلام.
وأخاف السبيل ثم ظفر به الإمام وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله، وكذا قال: سعيد بن المسيب ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، كما رواه ابن جرير عن أنس- وهو مذهب المالكية.
ومستند هذا القول أن ظاهر أَوْ للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن، كما في قوله- تعالى- في كفارة الفدية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فأو هنا للتخيير، وكذلك في الآية التي معنا» «3» .
وقال قوم آخرون من السلف: الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على ما يليق بها من الجنايات. أى: أن أَوْ لتنويع العقوبات على حسب طبيعة الجرائم. فإذا قتل هؤلاء المحاربون غيرهم وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا فقط قتلوا، وإذا أخذوا المال فحسب قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا تجمعوا واتفقوا على ارتكاب الجرائم من غير أن
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 151.
(2) أحكام القرآن لابن العربي ج 2 ص 595.
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 51- بتلخيص يسير-[.....](4/133)
يرتكبوا بالفعل نفوا من الأرض.
وبهذا الرأى قال ابن عباس وقتادة والأوزاعى، وهو مذهب الشافعية والأحناف والحنابلة.
قال ابن كثير: وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال، فعن ابن عباس أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض.
ثم قال ابن كثير: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره أن عبد الله بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل.. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال جبريل:
من سرق ما لا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه» «1» .
وقال الفخر الرازي: والذي يدل على ضعف القول الأول وجهان:
الأول: أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي، ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير.
الثاني: أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقدهم بالمعصية ولم يفعل، وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير، فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلا على حدة، فصار التقدير: أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال. أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل» «2» .
والخلاصة أن أصحاب هذا الرأى الثاني يستدلون بأدلة نقلية- سبق بيانها- كما يستدلون بأدلة عقلية منها ما ذكر الإمام الرازي ومنها أن العقل يقضى أن يكون الجزاء مناسبا للجناية بحيث يزداد بازديادها، وينقص بنقصها، وليس من المعقول أن تكون جريمة الاتفاق على الإرهاب بدون تنفيذ، متساوية مع جريمة الإرهاب والقتل والسلب. إذا فالعدالة توجب تنويع العقوبة.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 51.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 216.(4/134)
ومنها أن التخيير الوارد في الأحكام المختلفة بحرف التخيير إنما يجرى على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة الفدية، أما إذا كان السبب مختلفا فإنه يخرج التخيير عن ظاهره- كما هنا-، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه، وذلك لأن قطع الطريق متنوع وبين أنواعه تتفاوت الجريمة: فقد يكون باستلاب المال فقط، وقد يكون بالقتل فقط، وقد يكون بهما ومادام الأمر كذلك وجب أن يكون العقاب مختلفا ووجب أن يحمل ظاهر النص على غير التخيير. بأن يحمل على بيان الحكم لكل نوع.
قالوا: ونظير ذلك قوله- تعالى- قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً فإنه ليس الغرض التخيير وإنما الغرض: ليكن شأنك مع قومك تعذيب من جحد وظلم، والإحسان إلى من آمن وعمل صالحا.
وإنما قلنا: ليس الغرض التخيير، لأنه لا يمكن أن يكون له الحق في أى الأمرين من غير مرجح لأحدهما في الاعتبار، إذ منطق العدالة يقتضى أن يكون العذاب لمن فسق وجحد، وأن يكون الإحسان لمن آمن واستقام.
قال بعض العلماء: «وإن الفقه في التفرقة بين الرأيين أن الرأى الثاني يحدد جرائم معينة، ويعتبرها موضوع قطع بفعلها أو بالشروع فيها وهي القتل والسرقة. وأن الجرائم لا تخلو عن ذلك، ولذلك كانت العقوبات مترددة بين القطع والقتل، وأنه يكون ثمة تغليظ إذا ارتكبت الجريمتان معا.
وإن كان الشروع بالتجمع واتخاذ الأسباب، فإن العقوبة تكون بمنع الجريمة من الوقوع باتخاذ أسباب الوقاية بالنفي من الأرض، ولذلك كان التنويع، وكان تخريج حرف أَوْ على ذلك الأساس، ليكون التكافؤ بين الجريمة والعقوبة، وإن لم تكن جريمة كانت الوقاية.
أما الرأى الأول فهو يتجه إلى أن عقوبة الحرابة لذات الحرابة والسعى في الأرض بالفساد، ومنع الناس من السير والاستمتاع بأموالهم وحرياتهم الشخصية. وظاهر هذا الرأى أنه لا ينظر إلا إلى ذات الحرابة التي هي التخويف والإرهاب، ولا ينظر إلى الجرائم التي ارتكبوها فعلا، ولذلك يعمم الجرائم ولا يقصرها على القتل والسرقة كالرأى الثاني.
ويرى أن العقوبات في جملتها هي لعلاج ذلك الشر، وحسم مادته، والقضاء على التفكير لمن يهم بمحاكاة من وقعوا فيه، ولذلك يجب إطلاق يد ولى الأمر واعتبار تلك العقوبات في يده كالدواء بين يدي الطبيب، يختار من أصنافه ما يراه أنجح في علاج الآفة التي أصابت الجسم الاجتماعى.
وإنا نرى الرأى الثاني بالنسبة لتنويع العقاب، ونرى الرأى الأول بالنسبة لتعميم الجرائم(4/135)
التي تفسد المجتمع. فإذا كانت عصابة تعمل لجمع الرجال على النساء وتخطف النساء لذلك الغرض، أو كانت عصابة لتجميع المواد المخدرة المحرم دينا وقانونا تناولها، فإنهم يكونون كقطاع الطريق، ويدخلون في باب الحرابة «1» .
3- تدل الآية بظاهرها على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة، ولا يكون العقاب الدنيوي طهرة لهم ولو كانوا مسلمين لقوله- تعالى- ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
قال القرطبي: فقوله: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا لشناعة المحاربة، وعظم ضررها وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر، لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس. لأنه إذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها الله لعباده. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ومستثناة من حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له» .
ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره. ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم ذنبه، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله- تعالى- أن يغفر هذا الذنب» «2» .
4- دل قوله- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ على أن توبة المحاربين قبل الظفر بهم، تسقط عنهم حد المحاربين المذكور في الآية، إلا أن كثيرا من الفقهاء قالوا إن الذي يسقط عنهم هو ما يتعلق بحقوق الله، أما ما يتعلق بحقوق العباد فلا يسقط عنهم بالتوبة قبل القدرة عليهم.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ: استثنى- جل شأنه- التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
. أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط، وظاهر الآية أن من تاب بعد القدرة عليه فتوبته لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم» «3» .
__________
(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد السابع. السنة العشرون.
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 157.
(3) تفسير القرطبي ج 6 ص 185.(4/136)
وقال الآلوسى: قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله- تعالى- كما ينبئ عنه قوله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وأما ما هو من حقوق العباد- كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه- فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدا، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا فإنهم إن شاءوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا» «1» .
ويرى ابن جرير وابن كثير أن توبة المحاربين قبل القدرة عليهم تسقط عنهم جميع الحدود.
فقد قال ابن جرير- بعد أن ساق الأقوال في ذلك-: «وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي، قول من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه، أو بجماعة معه، قبل القدرة عليه، تضع عنه تبعات الدنيا التي كانت لزمته أيام حربه وحرابته، من حدود الله، وغرم لازم، وقود وقصاص، إلا ما كان قائما في يده من أموال المسلمين والمعاهدين فيرد على أهله» «2» .
وقال ابن كثير: وقوله- تعالى- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أما على قول من قال إنها في أهل الشرك، فظاهر. - أى: فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم سقطت عنهم جميع الحدود المذكورة-: وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل.
وهل يسقط قطع اليد؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضى سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة.
ثم ساق آثارا في هذا المعنى منها: ما رواه ابن أبى حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة- وكان قد أفسد في الأرض وحارب- فكلم رجالا من قريش فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمدانى فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال:
يا أمير المؤمنين: أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، فقرأ حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فقال على: اكتب له أمانا..» «3» .
وبعد، فهذه بعض الأحكام التي تتعلق بقطاع الطريق الذين سماهم الله- تعالى- محاربين لله ولرسوله، وسمى الفقهاء عملهم حرابة.
وقد رأينا أن الله- تعالى- قد عاقبهم بتلك العقوبات الرادعة في الدنيا. وأعد لهم العذاب
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 120.
(2) تفسير ابن جرير ج 6 ص 225.
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 52.(4/137)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
العظيم في الآخرة، ما داموا مستمرين في عدوانهم وتهديدهم لأمن الناس، واستلابهم لأموالهم.
وإن المقصد من هذه العقوبات الشديدة، أن يكف المعتدون عن عدوانهم، وأن يحس الناس في حياتهم بالأمان والاطمئنان على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فإن الأمة التي ترتكب فيها الجرائم بدون خوف أو وجل، ويفتقد أبناؤها الأمان والاطمئنان، هذه الأمة التي هذا شأنها، لا بد أن تضطرب كلمتها، ويهون أمرها، وتنتزع الثقة بين الحاكمين والمحكومين فيها، لذا فقد أوجب الإسلام على أتباعه أن يتكاتفوا ويتعاونوا للقضاء على كل من يحاول إثارة الفتن والاضطراب بين صفوفهم، حتى يعيشوا آمنين مطمئنين، مؤدين لما يجب عليهم نحو دينهم ودنياهم بدون خوف أو إزعاج.
وقد قال القرطبي في هذا المعنى: «وإذا أخاف المحاربون السبيل، وقطعوا الطريق، وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته «1» .
وبعد أن بين- سبحانه- سوء عاقبة المحاربين له ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأخرج منهم من تاب إليه- سبحانه- قبل القدرة عليه بعد كل ذلك وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بتقواه، وبالتقرب إليه بالعمل الصالح فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : آية 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
وقوله: اتَّقُوا من التقوى بمعنى صيانة النفس عن كل ما يبغضه الله- تعالى-.
وقوله: وَابْتَغُوا من الابتغاء وهو الاجتهاد في طلب الشيء.
والْوَسِيلَةَ على وزن فعيلة بمعنى ما يتوصل به ويتقرب به إلى الله- تعالى-، من فعل
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 155.(4/138)
الطاعات، واجتناب المعاصي، مأخوذة من وسل إلى كذا، أى. تقرب إليه بشيء. وقيل:
الوسيلة الحاجة.
قال الراغب: الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة، لتضمنها معنى الرغبة، وحقيقة الوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحرى مكارم الشريعة، وهي كالقربة. والواسل: الراغب إلى الله- تعالى ... «1» .
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم اتَّقُوا اللَّهَ أى: خافوه وصونوا أنفسكم عن كل ما لا يرضيه وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ: أى: اطلبوا باجتهاد ونشاط الزلفى والقربى إليه عن طريق مداومتكم على فعل الطاعات، والتزود من الأعمال الصالحات، واجتناب المعاصي والمنكرات.
وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أى: وجاهدوا أنفسكم بكفها عن الأهواء، وكذلك جاهدوا أعداءكم حتى تكون كلمة الله هي العليا، رجاء أن تفوزوا بالفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. وقد ناداهم- سبحانه- بصفة الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان من طاعة وإخلاص.
وقوله: إِلَيْهِ متعلق بالفعل قبله وهو وَابْتَغُوا. أو بلفظ الْوَسِيلَةَ لأنها بمعنى المتوسل به، وقدم الجار والمجرور لإفادة التخصيص.
أى. اطلبوا برغبة وشدة ما يقربكم إلى الله من الأعمال الصالحة، ولا تتقربوا إلى غيره إلا في ظل طلب رضاه- سبحانه-.
أو: اطلبوا متوجهين إليه- سبحانه- حاجتكم، فإن بيده مقاليد السموات والأرض، ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره.
وقد جاء لفظ الوسيلة في الأحاديث النبوية على أنه اسم لأعلى الدرجات في الجنة، وهذا المعنى متلاق مع أصل المعنى، وهو التقرب إلى الله والتوسل إليه وحده بالطاعات، لأن من يفعل ذلك ينال من الله- تعالى- أسمى الدرجات.
وقد ساق الامام ابن كثير جملة من الأحاديث في هذا المعنى فقال ما ملخصه:
والوسيلة: القربة. كذا قال ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وغير واحد.
قال قتادة: أى تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
والوسيلة أيضا: علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة،
__________
(1) المرادات في غريب القرآن ص 523.(4/139)
وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين سمع النداء- أى الأذان-: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة. آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» .
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على، فإنه من صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو. فمن سأل الوسيلة حلت له شفاعتي» «1» .
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد أرشدت المؤمنين إلى ما يسعدهم بأن ذكرت لهم ثلاث وسائل وغاية، أو ثلاث مقدمات ونتيجة.
أما الوسائل الثلاث أو المقدمات الثلاث فهي: تقوى الله، والتقرب إليه بما يرضيه، والجهاد في سبيله. وأما الغاية أو النتيجة لكل ذلك فهي الفلاح والفوز والنجاح.
ولو أن المسلمين تمسكوا بهذه الوسائل حق التمسك لو صلوا إلى ما يسعدهم في دنياهم وفي آخرتهم.
هذا، وللعلماء كلام طويل في التوسل والوسيلة، نرى أنه لا بأس من ذكر جانب منه.
قال الامام ابن تيمية: إن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه: وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك، ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.
إن لفظ الوسيلة ورد في القرآن ومن ذلك قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.
الوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه. هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات.
فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.
ولفظ الوسيلة ورد- أيضا- في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم «سلوا الله لي الوسيلة فإنها
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 53(4/140)
درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد» .
ثم قال: والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة، يريدون التوسل به وشفاعته.
والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به.
وحينئذ فلفظ التوسل به صلى الله عليه وسلم يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة.
أما المعنيان الصحيحان. فأحدهما: التوسل بالإيمان به وبطاعته.
والثاني: دعاؤه وشفاعته. ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا- العباس- فاسقنا أى بدعائه وشفاعته.
والتوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر- هو توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس.
فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته.
وأما المعنى الثالث الذي لم ترد به سنة فهو التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته، فهذا لم يكن الصحابة يفعلونه لا في حياته ولا بعد مماته ولا عند قبره ولا غير قبره.
ولا يعرف في شيء من الأدعية المشهورة بينهم وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة. أو عمن ليس قوله حجة» «1» .
قال الآلوسى ما ملخصه: واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله- تعالى- وبين العباد والقسم على الله- تعالى- بهم، بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا. ومنهم من يقول للغائب أو للميت من عباد الله الصالحين: يا فلان ادع الله أن يرزقني كذا وكذا ويزعمون أن ذلك من ابتغاء الوسيلة وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما استأذنه في العمرة: «لا تنسنا يا أخى من دعائك» . ولم يرد عن أحد من الصحابة- وهم أحرص الناس على كل خير- أنه طلب من ميت شيئا.
وأما القسم على الله- تعالى- بأحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم إنى أقسم عليك أو
__________
(1) من كتاب الوسيلة «للإمام ابن تيمية» نقلا عن تفسير القاسمى ج 6 ص 1968(4/141)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم. ولا يجوز أن يقسم على الله بغيره من الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء. لأنهم ليسوا في درجته.
ومن الناس من منع التوسل بالذات، والقسم على الله بأحد من خلقه مطلقا، وهو الذي ترشح به كلام ابن تيمية ونقله عن أبى حنيفة وأبى يوسف، وغيرهما من العلماء الأعلام. ثم قال بعد كلام طويل:
وبعد هذا كله فأنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله- تعالى- بجاه النبي صلى الله عليه وسلم حيا وميتا ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته- تعالى- مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته فيكون معنى القائل: إلهى أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضى لي حاجتي، أى:
إلهى أجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، بل لا أرى بأسا- أيضا- في الإقسام على الله- تعالى- بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى.
ثم قال: وإن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله- تعالى- من الأولياء. الأحياء منهم والأموات وغيرهم. مثل يا سيدي فلان أغثنى. وليس ذلك من التوسل المباح في شيء.
واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك. وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده بعض العلماء شركا، وإن لا يكنه فهو قريب منه.
فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله- تعالى- القوى الغنى الفعال لما يريد» «1» .
وبعد أن حض- سبحانه- عباده المؤمنين على تقواه والتقرب إليه بصالح الأعمال لكي ينالوا الفلاح والنجاح، عقب ذلك ببيان ما أعده للكافرين من عذاب أليم فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 124(4/142)
والمعنى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآياتنا وجحدوا الحق الذي جاءتهم به رسلنا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أى: لو أن لهم جميع ما في الأرض من أموال وخيرات ومنافع وَمِثْلَهُ مَعَهُ أى: وضعفه معه، وقدموا كل ذلك لِيَفْتَدُوا بِهِ أى: ليخلصوا به أنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ أى: ما قبله الله منهم، لأن سنته قد اقتضت أن تكون نجاة الإنسان من العذاب يوم القيامة متوقفة على الإيمان والعمل الصالح، لا على الأموال وما يشبهها من حطام الدنيا مهما عظم شأنها وكثر عددها. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أى: شديد في آلامه وأوجاعه.
فالآية الكريمة تبين ما أعده الله- تعالى- يوم القيامة للكافرين بآياته من عذاب أليم، لن يصرفه عنهم صارف مهما قدموا من ثمن، أو بذلوا من أموال.
وقوله لَوْ أَنَّ لَهُمْ. إلخ، جملة شرطية جوابها قوله تعالى ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وهذه الجملة الشرطية وجوابها خبر إن في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وصدرت الآية الكريمة بأداة التوكيد «إن» للرد على ما ينكره الكافرون من وقوع عذاب عليهم يوم القيامة فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.
والمراد بقوله: لَوْ أَنَّ لَهُمْ أى: لو أن لكل واحد منهم منفردا، ما في الأرض جميعا ومثله معه، وقدمه يوم القيامة ليخلص نفسه من العذاب، ما قبل منه ذلك الذي قدمه. وفي ذلك ما فيه من ثبوت العذاب عليهم ووقوعه بهم لا محالة. وقوله: جَمِيعاً توكيد للموصول وهو ما في قوله: ما فِي الْأَرْضِ أو حال منه. وقوله: وَمِثْلَهُ معطوف على اسم أن وهو (ما) الموصولة.
وقوله: مَعَهُ ظرف واقع موقع الحال من المعطوف والضمير يعود إلى الموصول. وجاء الضمير المجرور في قوله لِيَفْتَدُوا بِهِ بصيغة الإفراد، مع أن الذي تقدمه شيئان وهما: ما في الأرض جميعا ومثله. للإشارة إلى أنهما لتلازمهما قد صارا بمنزلة شيء واحد. أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة بأن يؤول المرجع المتعدد بالمذكور أى ليفتدوا بذلك المذكور من عذاب يوم القيامة ما تقيل منهم.
ونفى- سبحانه- قبول الفدية منهم بقوله: ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لإفادة تأكيد هذا النفي واستبعاده، إذ أن صيغة «التقبل» تدل على تكلف القبول أى: أنه لا يمكن قبول الفداء منهم مهما قدموا من أموال ومهما بذلوا من محاولات في سبيل الوصول لغرضهم.
قال الفخر الرازي: والمقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم، فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه «1» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 221. [.....](4/143)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
روى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له: يا بن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع. فيقال له. أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدى به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بالله شيئا فيؤمر به إلى النار» «1» .
وقوله- تعالى- يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ بيان لدوام نزول العذاب بهم بعد بيان شدة آلامه وأوجاعه.
أى: يريد هؤلاء الكافرون أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بعد أن ذاقوا عذابها وآلامها، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها أبدا، بسبب ما ارتكبوه في الدنيا من قبائح ومنكرات وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أى: دائم ثابت لا ينقطع.
فأنت ترى هاتين الآيتين قد بينتا سوء عاقبة الكافرين، بعد أن رغب- سبحانه- المؤمنين في التقرب إليه بالإيمان والعمل الصالح، وذلك لكي يزداد المؤمنون إيمانا. ولكي ينصرف الناس عن الكفر والفسوق والعصيان إلى الإيمان والطاعة والاستجابة لتعاليم الله الواحد القهار.
وبعد أن بين- سبحانه- عقوبة الذين يحاربون الله ورسوله، ودعا المؤمنين إلى التقرب إليه بالعمل الصالح وبين سوء عاقبة الكافرين. بعد أن بين كل ذلك أعقبه ببيان عقوبة السرقة فقال- تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
__________
(1) رواه البخاري في باب «من نوقش الحساب عذب، ومن كتاب الرقاق» ج 8 ص 139(4/144)
قال الجمل ما ملخصه: قوله- تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ.. إلخ. شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى.
وقرأ الجمهور: والسارق بالرفع وفيها وجهان:
أحدهما: وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصريين- أن السارق مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة. أى: حكم السارق، ويكون قوله فَاقْطَعُوا بيانا لذلك الحكم المقدر. فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها، ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود. ولو لم يؤت بالفاء لتوهم أنه أجنبى، والكلام على هذا جملتان: الأولى خبرية والثانية أمرية.
والثاني: وهو مذهب الأخفش وجماعة كثيرة- أنه مبتدأ- أيضا- والخبر الجملة الأمرية من قوله فَاقْطَعُوا وإنما دخلت الفاء في الخبر، لأنه يشبه الشرط إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها، فهي في قوة قولك والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا» «1» .
والمعنى: السَّارِقُ أى: من الرجال وَالسَّارِقَةُ أى: من النساء فَاقْطَعُوا أيديهما، أى فاقطعوا يد كل منهما الذكر إذا سرق قطعت يده. والأنثى إذا سرقت قطعت يدها.
والخطاب في قوله: فَاقْطَعُوا لولاة الأمر الذين إليهم يرجع تنفيذ الحدود وجمع- سبحانه- اليد فقال «أيديهما» ولم يقل يديهما بالتثنية، لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية.
وقوله جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت. أى: اقطعوا أيديهما جزاء لهما بسبب فعلهما الخبيث، وكسبهما السيئ، وخيانتهما القبيحة، ولكي يكون هذا القطع لأيديهما نَكالًا أى: عبرة وزجرا من الله- تعالى- لغيرهما حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة.
يقال: نكل فلان بفلان تنكيلا: أى: صنع به صنيعا يحذر غيره.
والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك. وأصله من النكل- بالكسر- وهو القيد الشديد، وحديدة اللجام، لكونهما مانعين وجمعه أنكال.
وسميت هذه العقوبة نكالا، لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده، وفضيحة لأمره.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 488(4/145)
وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: والله- تعالى- غالب على أمره، حكيم في شرائعه وتكاليفه.
قال صاحب المنار ما ملخصه. وقد كانت العرب بدوها وحضرها تفهم الكثير من وضع أسماء الله- تعالى- في الآيات بحسب المناسبة.
ومن ذلك ما نقل الأصمعى أنه قال: كنت أقرأ سورة المائدة، ومعى أعرابى، فقرأت هذه الآية فقلت واللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ سهوا فقال الأعرابى كلام من هذا؟ فقلت: كلام الله. قال:
أعد فأعدت واللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم تنبهت فقلت: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فقال: الآن أصبت فقلت له. كيف عرفت؟ فقال: يا هذا عَزِيزٌ حَكِيمٌ فأمر بالقطع، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع.
فقد فهم الأعرابى الأمى أن مقتضى العزة والحكمة، غير مقتضى المغفرة والرحمة وأن الله- تعالى- يضع كل اسم موضعه من كتابه» «1» .
ثم فتح- سبحانه- لعباده باب التوبة فقال- تعالى-: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
أى: فمن تاب إلى الله- تعالى- توبة صادقة من بعد ظلمه لنفسه بسبب إيقاعها في المعاصي التي من أكبرها السرقة وأصلح عمله بالطاعات التي تمحو السيئات فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أى: يقبل توبته، ويغسل حوبته، إن الله واسع المغفرة والرحمة ومن مظاهر ذلك أنه سبحانه- فتح لعباده باب التوبة والإنابة.
فالآية الكريمة ترغب العصاة من السراق وغيرهم في التوبة إلى الله، وفي الرجوع إلى طاعته حتى ينالوا مغفرته ورحمته.
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على شمول قدرته، ونفاذ إرادته بصيغة الاستفهام التقريرى فقال- تعالى-: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بحيث يتصرف فيهما وفي غيرهما من خلقه تصرف المالك في ملكه بدون مدافع أو منازع.
فالاستفهام هنا لتقرير العلم وتأكيده. أى إنك تعلم أيها العاقل ذلك علما. متيقنا، فاعمل بمقتضى هذا العلم، بأن تكون مطيعا لخالقك في كل ما أمر ونهى وبأن تدعو غيرك إلى هذه الطاعة.
وقوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ تأكيد لشمول قدرته ونفاذ إرادته، أى: هو-
__________
(1) تفسير المنار ج 6 ص 384(4/146)
سبحانه- المالك لكل شيء، والخالق لكل شيء وهو صاحب السلطان المطلق في خلقه، فله- سبحانه- أن يعذب من يشاء تعذيبه وله أن يرحم من يشاء رحمته.
قال الآلوسى: وكان الظاهر لحديث: «سبقت رحمتي غضبى» ، تقديم المغفرة على التعذيب، وإنما عكس هنا، لأن التعذيب للمصر على السرقة، والمغفرة للتائب منها. وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق.
أو لأن المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله- تعالى- والأول في الدنيا والثاني في الآخرة، فجيء به على ترتيب الوجود. ولأن المقام مقام الوعيد «1» .
وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما قبله، ومقرر لشمول قدرته- سبحانه- على كل شيء.
هذا وقد تكلم العلماء عن معنى السرقة، وعن شروط إقامة حدها، وعن طريقة إثباتها.
وعن غير ذلك من المسائل المتعلقة بها، تكلموا عن كل ذلك باستفاضة في كتب الفقه وفي بعض كتب التفسير.
ونرى أنه لا بأس من ذكر خلاصة لبعض المسائل التي تحدثوا عنها فنقول:
1- عرف الفقهاء السرقة شرعا بأنها أخذ العاقل البالغ مقدارا مخصوصا من المال على طريق الاستخفاء من حرز بمكان أو حافظ وبدون شبهة.
2- وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به، سواء أكان قليلا أم كثيرا، لعموم هذه الآية.
ولكن جمهور الفقهاء يرون أنه لا تقطع يد السارق إلا إذا بلغ المسروق قدرا معينا من المال، وقد تفاوتت أنظارهم في هذا القدر.
فالاحناف يرون أنه لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا، أو فيما قيمته عشرة دراهم. ومن حججهم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» .
والمالكية والشافعية يرون أنه لا قطع إلا في ربع دينار أو فيما قيمته ذلك.
ومن حججهم ما روى عن عائشة أنها قالت: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» .
قال القرطبي: وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تقطع يد
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 135(4/147)
السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» فبين أنه إنما أراد بقوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بعض السراق دون بعض، فلا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، ويقطع في ربع دينار أو فيما قيمته ربع دينار أو في ثلاثة دراهم.. وقال أحمد: إن سرق ذهبا فربع دينار. وإن سرق غير الذهب والفضة فالقيمة ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق» .
وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري: لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا، أو في دينار ذهبا عينا أو وزنا. ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك صاحبه.. ثم قال: وتقطع اليد من الرسغ. ولا خلاف في أن اليمنى هي التي تقطع أولا» «1» .
3- وقد اشترط الفقهاء في المال المسروق الذي تقطع فيه يد السارق أن يكون ما لا محرزا، أى مصونا محفوظا معنيا بحفظه العناية اللائقة بمثله.
قال القرطبي: الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله. قال ابن المنذر: ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم. وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم. وحكى عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز. وفي الموطأ لمالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في ثمر معلق- أى في ثمر على الأشجار- ولا حريسة جبل- أى ما يحرس بالجبل- فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» «2» .
كذلك اشترطوا عدم الشبهة في المال المسروق، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» .
فلا يقطع من سرق ما لا له فيه شركة، أو سرق من مدينه مثل دينه، ولا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده. ولا الأب إذا سرق من مال ابنه وما أشبه ذلك لوجود الشبهة.
كذلك اشترطوا في المسروق الذي يجب فيه الحد أن يكون ما لا متقوما. أى: مما يتموّله الناس، ويعدونه لمقاصدهم المختلفة فلا تقطع يد السارق إذا سرق شيئا تافها، أو سرق شيئا مما لا يتمول كالتراب والطين والماء وما يشبه ذلك.
كذلك اشترطوا فيه ألا يكون مما يحرم تناوله أو استعماله. فإذا كان مما يحرم تناوله أو استعماله كالخمر أو الخنزير أو أدوات اللهو والمجون فإنه في تلك الأحوال لا تقطع يد السارق.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 160 بتصرف وتلخيص.
(2) في المعجم الوسيط: المراح: مأوى الماشية ج 1 ص 381. والجرين: الجرن، وهو الموضع الذي يداس به البر ونحوه وتجفف فيه الثمار ج 1 ص 119، والمجن: الترس يتقى به في الحرب وثمنه ثلاثة دراهم.(4/148)
وهكذا نرى أن الشريعة الإسلامية وإن كانت قد شرعت العقوبات الشديدة لزجر العصاة والمفسدين والخائنين.. إلا أنها لا تطبق هذه العقوبات إلا على الذين يستحقونها، وفي أضيق الحدود، وبأدق الشروط، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» .
ولو أن المسلمين ساروا على هدى شريعة الله لنالوا الأمان والاطمئنان في دنياهم، والفوز والرضا من الله- تعالى- في أخراهم.
4- كذلك أخذ أكثر الشافعية والحنابلة من قوله- تعالى- فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أن التوبة تمنع إقامة الحد.
قالوا: لأن هذه الآية قد اقترنت بقوله- تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما فكانت مخصصة للعموم في الأمر بالقطع، وإلا ما اقترنت به ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة أن التوبة تجب ما قبلها ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ويرى الأحناف والمالكية أن التوبة لا تسقط الحد، لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد كما جاءت بذلك الأحاديث النبوية.
قال ابن كثير: قوله- تعالى- فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ. إلخ. أى: من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله إن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه. فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو رد بدلها. وهذا عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة: متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها.
وقد روى الدّارقطنيّ عن أبى هريرة أن رسول الله أتى بسارق قد سرق شملة فقال «ما إخاله قد سرق» . فقال السارق: بلى يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به» . فقطع فأتى به فقال: تب إلى الله، فقال: تبت إلى الله. فقال: «تاب الله عليك» - أى: قبل توبتك.
وروى ابن ماجة عن ثعلبة الأنصارى: أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«يا رسول الله، إنى سرقت جملا لبنى فلان فطهرني. فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار» .
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله: إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها فقال(4/149)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
رسول الله صلى الله عليه وسلم- «اقطعوا يدها. فقطعت يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فأنزل الله- تعالى-: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ الآية «1» .
هذه خلاصة لبعض المسائل والأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى ما كتبه الفقهاء في كتبهم، وإلى ما كتبه بعض المفسرين في تفاسيرهم «2» .
وبعد أن بين- سبحانه- ما بين من تكاليف قويمة، وشرائع حكيمة، تهدى من اتبعها إلى السعادة في الدنيا والآخرة. أتبع ذلك بالحديث عن بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود وأشباههم لكيد الدعوة الإسلامية، فذكر تلاعبهم بأحكامه- تعالى-، ومحاولتهم فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم عند تقاضيهم أمامه، وحذر- سبحانه- رسوله من مكرهم وساق له ما يسليه ويشرح صدره، فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 56
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 159 وما بعدها.(4/150)
وردت أحاديث متعددة في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، ومن ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة قد زنيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم. إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها.
فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يميل نحو المرأة يقيها الحجارة «1» .
وروى مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود- أى قد وضع الفحم الأسود على وجهه للتنكيل به- فدعاهم فقال. هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا: نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال:
لا والله ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، تجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد- مكان الرجم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال: فأمر به فرجم. قال: فأنزل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحدود ج 8 ص 213 طبعه مصطفى الحلبي سنة 1345 هـ(4/151)
الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ «1» .
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وفَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا «2» . وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا خوفا منكم، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما. ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت:
والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم. ولقد صدقوا. ما أعطونا هذا إلا خوفا منا. فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه. إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم لا تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوه أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا. فأنزل الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ إلى قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «3» .
قال ابن كثير- بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها- فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بما يوافق حكم التوراة. وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله- تعالى- إليه بذلك وسؤالهم إياه عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحوده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة. فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه، ظهر زيفهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ، أى: إن حكم بالجلد والتحميم فاقبلوا حكمه، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أى: وإن لم يحكم بذلك فاحذروا من قبوله واتباعه «4» .
__________
(1) صحيح مسلم- كتاب الحدود ج 5 ص 122 طبعة مصطفى الحلبي سنة 1380 هـ
(2) الوسق: ستون صاعا.
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 60
(4) تفسير ابن كثير ج 2 ص 58(4/152)
وبمطالعتنا لهذه الأحاديث التي وردت في سبب نزول الآيات، نراها جميعها قد وردت بأسانيدها صحيحة وفي كتب السنة المعتمدة، وأن بعضها قد حكى أن الآيات نزلت في شأن القضية التي تحاكم فيها اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها قد حكى أنها نزلت في قضية دماء.
ولا تعارض بين هذه الأحاديث، فقد يكون هذان السببان قد حصلا في وقت واحد، أو متقارب، فنزلت هذه الآيات فيهما معا. وقد قرر العلماء أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات.
هذا، وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بنداء من الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال- سبحانه-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا.
قال القرطبي: قوله- تعالى- لا يَحْزُنْكَ قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاى وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاى. والحزن خلاف السرور. ويقال: حزن الرجل- بالكسر- فهو حزن وحزين» «1» .
والمعنى: يا أيها الرسول الكريم إن ربك يقول لك: لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين، وبأولئك اليهود الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة، ويقولون بأفواههم آمنا بك وصدقناك، مع أن قلوبهم خالية من الإيمان، ومليئة بالنفاق والفسوق والعصيان.. لا تهتم- أيها الرسول الكريم- بهؤلاء جميعا، فإنى ناصرك عليهم، وكافيك شرهم.
وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة يا أَيُّهَا الرَّسُولُ تشريف له وتكريم وإشعار بأن وظيفته كرسول أن يبلغ رسالة الله دون أن يصرفه عن ذلك عناد المعاندين، أو كفر الكافرين، فإن تكاليف الرسالة تحتم عليه الصبر على أذى أعدائه حتى يحكم الله بينه وبينهم.
والنهى عن الحزن- وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه- المراد به هنا: النهى عن لوازمه، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب. وتعظيم أمرها، وبذلك تتجدد الآلام، وتعز السلوى.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيس لقلبه، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور حتى لا يتأثر بها عند وقوعها.
وفي التعبير بقوله: يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ذم لهم على انحدارهم في دركات الكفر بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر. فهم يتنقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخله دون أن
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 181 [.....](4/153)
يزعهم وازع من خلق أو دين.
قال صاحب الكشاف: يقال: أسرع فيه الشيب، وأسرع فيه الفساد بمعنى: وقع فيه سريعا. فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه، بحيث إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها» «1» وقال أبو السعود: والمسارعة في الشيء: الوقوع فيه بسرعة ورغبة. وإيثار كلمة فِي على كلمة إلى، للإيمان إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه.
وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين، وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك» «2» وقوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ بيان لأولئك المسارعين في الكفر.
والمتنقلين في دركاته من دركة إلى دركة.
وقوله بِأَفْواهِهِمْ متعلق بقوله: قالُوا وقوله: وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ جملة حالية من ضمير، قالوا.
وقوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا معطوف على قوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وعليه فيكون الذين هادوا داخلين في الذين يسارعون في الكفر.
أى أن المسارعين في الكفر فريقان: فريق المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وفريق اليهود الذين تميزوا بهذا الإسم واشتركوا مع المنافقين في نفاقهم والمعنى: لا تهتم يا محمد بأولئك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود الذين من صفاتهم أنهم يظهرون الإيمان على أطراف ألسنتهم والحال أن قلوبهم خالية منه.
وعلى هذا المعنى يكون الكلام قد تم عند قوله- تعالى- وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا، ويكون ما بعده وهو قوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ. ألخ. من أوصاف الفريقين معا، لأنهم مشتركون في المسارعة في الكفر.
ومنهم من يرى أن قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا جمله مستأنفة لبيان أحوال فريق آخر من الناس وهم اليهود، وأن قوله- تعالى- بعد ذلك سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إلخ. من أوصاف هؤلاء اليهود، وأن الكلام قد تم عند قوله- تعالى- وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وأن البيان بقوله:
مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ لفريق المنافقين.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 632 بتصرف يسير
(2) تفسير أبو السعود ج 2 ص 27(4/154)
قال الفخر الرازي: قوله وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ذكر الفراء والزجاج ها هنا وجهين:
الأول: أن الكلام إنما يتم عند قوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ثم يبدأ الكلام من قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين للكذب.
الثاني: أن الكلام تم عند قوله- تعالى-: وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ثم ابتدأ من قوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وعلى هذا التقدير فقوله سَمَّاعُونَ صفة لمحذوف.
والتقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون «1» .
قال الجمل: الأولى والأحسن أن يكون قوله: ووَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا معطوفا على البيان وهو قوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا فيكون البيان بشيئين المنافقين واليهود. أما على القول الثاني فيكون البيان بشيء واحد وهو المنافقون» «2» .
وقوله: سَمَّاعُونَ للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك صفتان أخريان لأولئك الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة.
وقوله: سَمَّاعُونَ جمع سماع. وهو صيغة مبالغة جيء بها لإفادة أنهم كثير والسماع للكذب، وأنهم لفساد نفوسهم يجدون لذة في الاستماع إليه من رؤسائهم وأحبارهم، ومن هم على شاكلتهم في العناد والضلال.
واللام في قوله: لِلْكَذِبِ للتقوية أى: أنهم يسمعون الكذب كثيرا سماع قبول وتلذذ، ويأخذونه ممن يقوله من أعداء الإسلام على أنه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها.
وقيل إن اللام للتعليل أى أنهم كثير والسماع لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولأخباره من أجل الكذب عليه، عن طريق تغيير وتبديل ما سمعوه على حسب ما تهواه نفوسهم المريضة.
وقوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ بيان لمسلك آخر من مسالكهم الخبيثة بعد بيان احتفالهم بالأخبار الكاذبة، وتقبلها بفرح وسرور.
أى: أن هؤلاء المسارعين في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم أنهم كثير والسماع للأكاذيب التي يروجها أعداء الدعوة الإسلامية ضدها كثير والسماع والقبول والاستجابة لما يقوله عنها قوم آخرون من أعدائها لم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تكبرا وعتوا.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 232
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 400(4/155)
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كثير والسماع للكذب عن محبة ورغبة، وأنهم كثير والسماع لما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لينقلوه إلى قوم آخرين- من أشباههم في الكفر والعناد- ولم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضا فأنت ترى أن القرآن قد وصفهم بفساد بواطنهم حيث استحبوا الكذب على الصدق. كما وصفهم بضعف نفوسهم حيث صاروا مطايا لغيرهم يطيعون أمرهم ويبلغون أخبار المسلمين، فهم عيون على المسلمين ليبلغوا أخبارهم إلى زعماء الكفر والنفاق.
وإلى هذين المعنيين أشار صاحب الكشاف بقوله: ومعنى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه، من قولك: الملك يسمع كلام فلان، ومنه سمع الله لمن حمده.
وقوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يعنى اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدة البغضاء. وتبالغ من العداوة، أى: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك وقيل: سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه، بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه» «1» .
وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ. صفة أخرى للقوم الآخرين الذين لم يأتوا إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضا. أو للمسارعين في الكفر من الفريقين.
وقوله: يُحَرِّفُونَ من التحريف وأصله من الحرف وهو طرف الشيء.
ومعناه إمالة الكلام عن معناه، وإخراجه عن أطرافه وحدوده.
والكلم: اسم جنس جمعى للفظ كلمة ومعناه الكلام.
أى أن هؤلاء القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلسك نفورا منك، أو هم والمسارعون في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم ودأبهم تحريف جنس الكلم عن مواضعه. فهو يحرفون كلامك يا محمد، ويحرفون التوراة، ويحرفون معاني القرآن حسب أهوائهم وشهواتهم ويحرفون الحق الذي جئت به تارة تحريفا لفظيا، وتارة تحريفا معنويا، وتارة بغير ذلك من وجوه التحريف والتبديل.
وقوله: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أى: يحرفون الكلم من بعد استقرار مواضعه وبيان حلالها وحرامها.
__________
(1) تفسير الكشاف وحاشيته ج 1 ص 633(4/156)
وعبر هنا بقوله «من بعد مواضعه» وفي مواطن أخرى بقوله عَنْ مَواضِعِهِ لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التي حاول أولئك المسارعون في الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعا لأهوائهم كما حدث في قضية الزنا وفي غيرها من القضايا التي تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أى: من بعد استقرار مواضعه وثبوتها ثبوتا لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإهمال.
وقوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا بيان لما نطقت به أفواه أولئك الذين لم يحضروا مجالس رسول الله من مكر وخداع وضلال.
أى: أن أولئك القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا وتكبرا لم يكتفوا بتحريف الكلم عن مواضعه هم وأشياعهم. بل كانوا إلى جانب ذلك يقولون لمطاياهم السامعين منهم أو السامعين من أجلهم: يقولون لهم عند ما أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أى: إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم يمثل هذا الذي نفتيكم به- كالجلد والتحميم بدل الرجم- فاقبلوا حكمه وخذوه واعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أى: وإن أفتاكم بغير ما أفتيناكم به فاحذروا قبول حكمه، وإياكم أن تستجيبوا له، أو تميلوا إلى ما قاله لكم.
واسم الإشارة هذا في قوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا يعود إلى القول المحرف الذي تواضع أحبار اليهود على الإفتاء به تبعا لأهوائهم. كما حدث منهم في قضية الزنا حيث غيروا حكم الرجم بحكم آخر هو الجلد والتحميم.
وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل.
وقوله: إِنْ أُوتِيتُمْ مفعول لقوله قَدِيرٌ. واسم الإشارة يَقُولُونَ مفعول ثان «لأوتيتم» والأول نائب الفاعل وقوله: فَخُذُوهُ جواب الشرط ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
أى: ومن يقض الله بكفره وضلاله، فلن تملك له- أيها الرسول الكريم- شيئا من الهداية لتدفع بها ضلاله وكفره، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة لم يرد الله- تعالى- أن يطهر قلوبهم من النفاق والضلال لأنهم استحبوا العمى على الهدى، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أى: فضيحة وهوان بسبب ظهور كذبهم، وفساد نفوسهم، وانتشار تعاليم(4/157)
الإسلام التي يحاربونها ويشيعون الأباطيل حولها وحول من جاء بها صلى الله عليه وسلم.
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو خلودهم في النار بسبب اجتراحهم السيئات، ومحاربتهم لمن جاءهم بالحق والهدى والسعادة.
ثم كشف- سبحانه- عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال- تعالى-: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
والسحت: هو كل ما خبث كسبه وقبح مصدره، كالتعامل بالربا وأخذ الرشوة وما إلى ذلك من وجوه الكسب الحرام.
وقد بسط الإمام القرطبي هذا المعنى فقال: والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة.
قال- تعالى- فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ أى: - فيهلككم ويستأصلكم بعذاب- ويقال للحالق: أسحت أى استأصل. وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع. يقال رجل مسحوت المعدة أى: أكول، فكأن بالمسترشى وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به» قالوا يا رسول الله وما السحت؟ قال: «الرشوة في الحكم» .
وقال بعضهم: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه. وذلك بأن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها» «1» .
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم- أيضا- أنهم كثير والسماع للكذب، وكثير والأكل للمال الحرام بجميع صوره وألوانه. ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا، ولا تؤمل فيه رشدا.
وقوله: سَمَّاعُونَ خبر لمبتدأ محذوف أى: هم سماعون. وكرر تأكيدا لما قبله، وتمهيدا لما بعده وهو قوله: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
وجاءت هاتان الصفتان- سماعون وأكالون- بصيغة المبالغة، للإيذان بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم. فهم يستمرئون سماع الباطل من القول، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل:
إن اليهود بصفة خاصة قد اشتهروا في كل زمان بتقبل السحت، وقد أرشد الله- تعالى-
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 83 بتصرف وتلخيص.(4/158)
نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
أى: فإن جاءك هؤلاء اليهود متحاكمين إليك- يا محمد- في قضاياهم، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم، وإن تعرض عنهم، فيما احتكموا فيه إليك، قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشيء من كيدهم، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم في قضاياهم، فليكن حكمك بالعدل الذي أمرت به، لأن الله- تعالى- يحب العادلين في أحكامهم.
والفاء في قوله: فَإِنْ جاؤُكَ للإفصاح أى: إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.
وجاء التعبير بإن المفيدة للشك- مع أنهم قد جاءوا إليه- للإيذان بأنهم كانوا مترددين في التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأنهم ما ذهبوا إليه إلا ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه.
قال أبو السعود: وقوله: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما.
وتقديم حال الإعراض، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه، حيث كان مظنة الضرر، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم فتشتد عداوتهم ومضارتهم له، فأمنه الله بقوله: فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً من الضر «1» .
وكان التعبير بإن أيضا في قوله وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ليس حريصا على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون، والدليل على ذلك أن التوراة التي بين أيديهم فيها حكم الله، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤملين أن يقضى بينهم بغير ما أنزل الله، فيشيعوا ذلك بين الناس، ويعلنوا عدم صدقه في نبوته، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضى بينهم.
يقال: أقسط الحاكم في حكمه، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أى عادل ومنه قوله-
__________
(1) تفسير أبى السعود ج 2 ص 29(4/159)
تعالى- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» «1» .
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتى:
1- أن أكل السحت حرام سواء أكان عن طريق الرشوة أم عن أى طريق محرم سواها.
ولقد كان السابقون من السلف الصالح يتحرون الحلال. وينفرون من الحرام، بل ومن الشبهات، وكانوا يرون أن تأييد الحق ودفع الباطل واجب عليهم، وأنه لا يصح أن يأخذوا عليه أجرا..
قال ابن جرير: شفع مسروق لرجل في حاجة فأهدى إليه جارية، فغضب مسروق غضبا شديدا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك، ولا أكلمه فيما بقي من حاجتك. سمعت ابن مسعود يقول: من شفع شفاعة ليرد بها حقا، أو يرفع بها ظلما، فأهدى له، فقبل، فهو سحت» .
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به» . قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الرشوة في الحكم» .
وعن الحكم بن عبد الله قال: قال لي أنس بن مالك: إذا انقلبت إلى أبيك فقل له: إياك والرشوة فإنها سحت. وكان أبوه على شرط المدينة» «2» .
قال بعض العلماء: والرشوة قد تكون في الحكم وهي محرمه على الراشي والمرتشي. وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الراشي والمرتشي والذي يمشى بينهما» لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقا من جهه أنه قبل الرشوة على أن يحكم بما يعرض عليه الحكم به. وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة. ومن جهة أنه حكم بالباطل.
وقد تكون الرشوة في غير الحكم مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محرمة على معطيها، فقد روى عن الحسن أنه قال: «لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه» . وروى عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا: «لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وما له إذا خاف الظلم» .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ج 6 ص 7
(2) تفسير ابن جرير ج 6 ص 240- بتصرف يسير-(4/160)
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة، أعطى العباس ابن مرداس أقل من غيره، فلم يرق ذلك العباس وقال شعرا يتضمن التعجيب من هذا التصرف. فقال صلى الله عليه وسلم «اقطعوا لسانه» . فزادوه حتى رضى. فهذا نوع من الرشوة رخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه «1» .
2- استدل بعض العلماء بقوله- تعالى-: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم، وأن حكم التخيير غير منسوخ، لأن ظاهر الآية يفيد ذلك.
ويرى فريق من العلماء أن هذا التخيير قد نسخ بقوله- تعالى- بعد ذلك وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا ثم أمر بعد ذلك بإجراء الأحكام عليهم.
وقد رد القائلون بثبوت التخيير على القائلين بالنسخ بأن التخيير ثابت بهذه الآية.
أما قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له.
ويرى فريق ثالث من العلماء: أن التخيير ورد في المعاهدين الذين ليسوا من أهل الذمة كبني النضير وبنى قريظة، فهؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم:
وقوله- تعالى- وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ورد في أهل الذمة الذين لهم مالنا وعليهم ما علينا. وعلى هذا فلا نسخ في الآية.
قال الآلوسى: قال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود، إلا في بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة: يقرون عليها، وخالفه- في بعض ذلك. محمد وزفر. وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، وتمام التفصيل في كتب الفروع.
3- أخذ العلماء من هذه الآية- أيضا- أن الحاكم ينفذ حكمه فيما حكم فيه لأن اليهود حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض قضاياهم، فحكم فيهم بما أنزل الله، ونفذ هذا الحكم عليهم.
قال بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم قد حكم بينهم بشريعة موسى- عليه السلام- ولكن هذا الحكم كان قبل أن تنزل عليه الحدود. أما الآن وقد أكمل الله الدين، وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأى حاكم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية لا فرق بين المسلمين وغيرهم «2» .
__________
(1) تفسير آيات الأحكام ج 2 ص 193 لفضيلة الأستاذ محمد على السائس:
(2) تفسير آيات الأحكام ج 2 ص 195(4/161)
هذا، وبعد أن وصف الله- تعالى- اليهود وأشباههم بجملة من الصفات القبيحة، وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم فيهم بشرع الله وبين أن يعرض عنهم. بعد كل ذلك أنكر عليهم مسالكهم الخبيثة، وعجب كل عاقل من حالهم فقال- تعالى-: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أى أن أمر هؤلاء اليهود لمن أعجب العجب، لأنهم يحكمونك- يا محمد- في قضاياهم مع أنهم لم يتبعوا شريعتك ومع أن كتابهم التوراة قد ذكر حكم الله صريحا واضحا فيما يحكمونك فيه.
فالاستفهام في قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ للتعجب من أحوالهم حيث حكموا من لا يؤمنون به في قضية حكمها بين أيديهم، ظنا منهم أنه سيحكم بينهم بما اتفقوا عليه مما يرضى أهواءهم وشهواتهم.
وقوله: وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ جملة حالية من الواو في يُحَكِّمُونَكَ والعامل ما في الاستفهام من التعجيب.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت فِيها حُكْمُ اللَّهِ ما موضعه من الإعراب؟ قلت: إما أن ينتصب على الحال من التوراة، وكلمة التوراة هي مبتدأ والخبر عِنْدَهُمُ، وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. وإما أن لا يكون له محل وتكون جملة مبينة، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره «1» .
وقوله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ معطوف على يُحَكِّمُونَكَ- وجاء العطف بثم المفيدة للتراخي للإشارة إلى التفاوت الكبير بين ما في التوراة من حق وبين ما هم عليه من باطل ومخادعة.
واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى حكم الله الذي في التوراة، والذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم أى: كيف يحكمونك يا محمد في قضاياهم والحال أنهم عندهم التوراة فيها حكم الله واضحا فيما تحاكموا إليك فيه، ثم هم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما قضى الله به في كتابهم التوراة.
وقوله: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
ونفى الإيمان عنهم مع حذف متعلقه لقصد التعميم.
أى: وما أولئك الذين جاءوا يتحاكمون إليك من اليهود بالمؤمنين لا بكتابهم التوراة. لأنهم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 336(4/162)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
لو كانوا مؤمنين به لنفذوا أحكامه، ولا بك يا محمد لأنهم لو كانوا مؤمنين بك لاستجابوا لك فيما تأمرهم به وتنهاهم عنه.
قال الفخر الرازي: قوله- تعالى-: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ.. إلخ: هذا تعجيب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني، ثم تركهم قبول ذلك الحكم فعدلوا عما يعتقدونه حكما حقا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة. فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه:
أحدها: عدولهم عن حكم كتابهم.
والثاني: رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطل.
والثالث: إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه. فبين الله حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتربهم مغتر أنهم أهل كتاب الله، ومن المحافظين على أمر الله» «1» .
وبعد أن وصف الله- تعالى- اليهود وأشباههم بجملة من الصفات القبيحة، كمسارعتهم في الكفر. وكثرة سماعهم للكذب، وتحريفهم للكلم عن مواضعه، وتهافتهم على أكل أسحت. وبعد أن خير رسوله صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم إذا ما تحاكموا إليه، وبعد أن عجب كل عاقل من أحوالهم. بعد كل ذلك شرع- سبحانه- في بيان منزلة التوراة وفي بيان بعض ما اشتملت عليه من أحكام فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 45]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 236(4/163)
فقوله- تعالى-: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ بيان لشرف التوراة قبل أن تمتد إليها الأيدى الأثيمة بالتحريف والتبديل. ويدل على شرفها وعلو مقامها أن الله- تعالى- هو الذي أنزلها لا غيره، وأنه- سبحانه- جعلها مشتملة على الهدى والنور. والمراد بالهدى، ما اشتملت عليه من بيان للأحكام والتكاليف والشرائع التي تهدى الناس إلى طريق السعادة.
والمراد بالنور: ما اشتملت عليه من بيان للعقائد السليمة، والمواعظ الحكيمة، والأخلاق القويمة.
والمعنى إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى- عليه السلام- مشتملة على ما يهدى الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضيء لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة.
ثم بين- سبحانه- بعض الوظائف التي جعلها للتوراة فقال: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ.
والمراد بقوله: النَّبِيُّونَ من بعثهم الله في بنى إسرائيل من بعد موسى لإقامة التوراة.
وقوله: الذين أسلموا صفة للنبيين. أى: أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة والطاعة.
وعن الحسن والزهري وقتادة: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه حكم على اليهوديين الذين زنيا بالرجم، وكان هذا حكم التوراة. وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له.
وقال ابن الأنبارى: هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى- فقال- تعالى- يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يعنى أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية أو النصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفة» «1» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 6 ص 3- طبعة عبد الرحمن محمد [.....](4/164)
وقوله: لِلَّذِينَ هادُوا أى: رجعوا عن الكفر. والمراد بهم اليهود. واللام للتعليل.
وقوله: وَالرَّبَّانِيُّونَ معطوف على النَّبِيُّونَ وهو جمع رباني. وهم- كما يقول ابن جرير- العلماء والحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم «1» .
وقوله: الْأَحْبارُ معطوف أيضا على النَّبِيُّونَ.
قال القرطبي ما ملخصه: والأحبار: قال ابن عباس: هم الفقهاء. والحبر بالفتح والكسر- الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين، فهم يحبرون العلم.
أى: يبينونه، وهو محبر في صدورهم «2» والباء في قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ متعلقة بقوله يَحْكُمُ.
وقوله اسْتُحْفِظُوا من الاستحفاظ بمعنى طلب الحفظ بعناية وفهم، إذ أن السين والتاء للطلب، والضمير في اسْتُحْفِظُوا يعود على النبيين والربانيين والأحبار.
والمعنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق، وضياء لهم من ظلمات الباطل، وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياؤهم الذين أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا له العبادة والطاعة، ويحكم أيضا بينهم الربانيون والأحبار الذين هم خلفاء الأنبياء. وكان هذا الحكم منهم بالتوراة بين اليهود، بسبب أنه- تعالى- حملهم أمانة حفظ كتابه، وتنفيذ أحكامه وشرائعه وتعاليمه.
ويصح أن يكون قوله بِمَا اسْتُحْفِظُوا متعلقا بالربانيين والأحبار، وأن يكون الضمير عائدا عليهم وحدهم. أى: على الربانيين والأحبار ويكون الاستحفاظ بمعنى أن الأنبياء قد طلبوا منهم حفظه وتطبيق أحكامه.
والمعنى: كذلك الربانيون والأحبار كانوا يحكمون بالتوراة بين اليهود. بسبب أمر أنبيائهم إياهم بأن يحفظوا كتاب الله من التغيير والتبديل.
وقوله: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ معطوف على اسْتُحْفِظُوا.
أى: وكان الأنبياء والربانيون والأحبار شهداء على الكتاب الذي أنزله الله- وهو التوراة- بأنه حق، وكانوا رقباء على تنفيذ حدوده، وتطبيق أحكامه حتى لا يهمل شيء منها.
قال الفخر الرازي قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ: حفظ كتاب الله على وجهين:
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 39
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 189(4/165)
الأول: أن يحفظ فلا ينسى.
الثاني: أن يحفظ فلا يضيع.
وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من وجهين.
أحدهما: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم.
والثاني: ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه.
وقوله: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أى: هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها من التحريف والتغيير» «1» .
ثم أمر الله- تعالى- اليهود- ولا سيما علماءهم وفقهاءهم- أن يجعلوا خشيتهم منه وحده.
وألا يبيعوا دينهم بدنياهم فقال- تعالى-: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.
والخشية- كما يقول الراغب- خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها في قوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» .
وكأن الراغب- رحمه الله- يريد أن يفرق بين الخوف والخشية فهو يرى أن الخشية خوف يشوبه تعظيم ومحبة للمخشى بخلاف الخوف فهو أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغوض مذموم.
والفاء في قوله فَلا تَخْشَوُا للإفصاح عن كلام مقدر.
والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكر من أن الله- تعالى- قد أنزل التوراة لتنفيذ أحكامها، وتطبيق تعاليمها.. فمن الواجب عليكم يا معشر اليهود أن تقتدوا بأنبيائكم وصلحائكم في ذلك، وأن تستجيبوا للحث الذي جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن تجعلوا خشيتكم منى وحدي لا من أحد من الناس، فأنا الذي بيدي نفع العباد وضرهم.
وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا معطوف على قوله فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ والاشتراء هنا المراد به الاستبدال.
والمراد بالآيات: ما اشتملت عليه التوراة من أحكام وتشريعات وبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 4
(2) المفردات من غريب القرآن ص 149 للراغب الأصفهاني.(4/166)
والمراد بالثمن القليل: حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا.
أى: ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة أحكاما أخرى تغايرها وتخالفها، لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا وشهواتها كالمال والجاه وما يشبه ذلك.
وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل استبدال الآيات لأنه لا يكون إلا قليلا- وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا- بالنسبة لطاعة الله، والرجاء في رحمته ورضاه.
وهذا النهى الذي اشتملت عليه هاتان الجملتان الكريمتان: فَلا تَخْشَوُا، ولا تَشْتَرُوا وإن كان موجها في الأصل إلى رؤساء اليهود وأحبارهم. إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ومكان، لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب.
وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات- إذ انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة» «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان سوء عاقبة من يفعل فعل اليهود، فيحكم بغير شريعة الله فقال- تعالى- وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
أى: كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله: وقضى بغيره من الأحكام، فأولئك هم الكافرون بما أنزله- سبحانه- لأنهم كتموا الحق الذي كان من الواجب عليهم إظهاره والعمل به. والجملة الكريمة- كما يقول الآلوسى- تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير، وتحذير من الإخلال به أشد تحذير.
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1- سمو منزلة التوراة التي أنزلها الله- تعالى- على نبيه موسى- عليه السلام، فقد أضاف- سبحانه- إنزالها إليه، فكان لهذه الإضافة ما لها من الدلالة على علو مقامها، كما بين- سبحانه- شرفها الذاتي بذكر ما اشتملت عليه من هداية إلى الحق، ومن نور يكشف للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم ودنياهم.
وهذا السمو إنما هو للتوراة التي لم تمتد إليها أيدى اليهود بالتحريف والتبديل، والزيادة
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 145(4/167)
والنقصان. أما تلك التوراة التي بين أيديهم الآن، والتي دخلها من التحريف ما دخلها فهي عارية عن الثقة في كثير مما اشتملت عليه من قصص وأحكام.
2- قال الفخر الرازي: «دلت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار، وهذا يقتضى كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين.
والأحبار كآحاد العلماء.
ثم قال: وقد احتج جماعة بأن شرع من قبلنا لازم علينا- إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا- بهذه الآية، وتقريره أنه- تعالى- قال في التوراة هدى ونورا، والمراد كونها هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه، ولو كان ما فيها منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط، لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معا ما يتعلق بأصول الدين للزم التكرار، وأيضا فإن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها لأنا- وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا- لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها» «1» .
3- استدل العلماء بهذه الآية على أن الحاكم من الواجب عليه أن ينفذ أحكام الله دون أن يخشى أحدا سواه، وأن عليه كذلك أن يبتعد عن أكل المحرم بكل صوره وأشكاله، وألا يغير حكم الله في نظير أى عرض من أعراض الدنيا، لأن الله- تعالى- يقول: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.
وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله: قوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكومتهم، وادهانهم فيها- أى ومصانعتهم فيها- وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا» «2» .
4- قال بعض العلماء: في قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه، حيث علق عليه الكفر هنا والظلم والفسق بعد.
وكفر الحاكم لحكمه بغير ما أنزل الله مقيد بقيد الاستهانة به. والجحود له، وهذا ما سار عليه كثير من العلماء وأثروه عن عكرمة وابن عباس.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 402
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 673(4/168)
وعن عطاء: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. أى: أن كفر المسلم وظلمه وفسقه ليس مثل كفر الكافر وظلمه وفسقه. فإن كفر المسلم قد يحمل على جحود النعمة» «1» .
وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف: قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ: اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية والآيتان بعدها. فقيل في اليهود خاصة وقيل: في الكفار عامة. وقيل: الأولى في هذه الأمة والثانية في اليهود. والثالثة في النصارى والكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ، لا على الكفر الذي ينقل عن الملة.
والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أريد منهما العتو والتمرد في الكفر. وعن ابن عباس: من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فهو كافر. ومن أقربه ولم يحكم به فهو ظالم فاسق» «2» .
وقال الآلوسى ما ملخصه: واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن.
ووجه استدلالهم بها أن كلمة مِنْ في قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله فيدخل الفاسق المصدق أيضا لأنه غير حاكم وغير عامل بما أنزل الله.
وأجيب عن شبهتهم بأن الآية متروكة الظاهر فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله- تعالى» «3» .
والذي يبدو لنا أن هذه الجملة الكريمة عامة في اليهود وفي غيرهم فكل من حكم بغير ما أنزل الله، مستهينا بحكمه- تعالى- أو منكرا له، يعد كافرا لأن فعله هذا جحود وإنكار واستهزاء بحكم الله ومن فعل ذلك كان كافرا.
أما الذي يحكم بغير حكم الله مع إقراره بحكم الله واعترافه به، فإنه لا يصل في عصيانه وفسقه إلى درجة الكفر.
ثم بين- سبحانه- بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.
فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله- تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ.
__________
(1) تفسير القاسمى ج 1 ص 2000
(2) تفسير «صفوة البيان» ص 194
(3) تفسير الآلوسى ج 6 ص 145(4/169)
وقوله: كَتَبْنا بمعنى فرضنا وأوجبنا وقررنا. والمراد بالنفس: الذات.
أى: أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونورا لبنى إسرائيل، وفرضنا عليهم (أن النفس بالنفس) أى: مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق. وأن (العين) مفقوءة بِالْعَيْنِ وأن الْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وأن الْأُذُنَ مقطوعة بِالْأُذُنِ وأن السِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وأن الْجُرُوحَ قِصاصٌ أى: ذات قصاص، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه- ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته- ففيه حكومة عدل.
وعبر- سبحانه- عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله: كَتَبْنا للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقا وقوة.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. ألخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به- أى أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره.
وقرأ الكسائي وأبو عبيد: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ بالرفع فيها كلها.
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير، عن عقيل عن الزهري، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.
والرفع من ثلاث جهات، بالابتداء والخبر. والوجه الثاني: بالعطف على المعنى على موضع (أن النفس) ، لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس والوجه الثالث- قاله الزجاج- يكون عطفا على المضمر في النفس. لأن الضمير في النفس في موضع رفع، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي «1» .
وقوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ترغيب في العفو والصفح.
والضمير في (به) يعود إلى القصاص. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس. وإلى فتح باب التسامح بين الناس.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 6 ص 192(4/170)
وقوله: فَهُوَ يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل (تصدق) والضمير في قوله لَهُ يعود إلى العافي المتصدق وهو المجنى عليه أو من يقوم مقامه.
والمعنى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بما ثبت له من حق القصاص، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص.
وقيل إن الضمير في لَهُ يعود على الجاني فيكون المعنى: فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص، بأن عفا عن الجاني، فإن هذا التصدق يكون كفارة له. أى لذنوب الجاني، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو. وأما المتصدق فأجره على الله.
وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجنى عليه أو ولى دمه فقال:
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب: قول من قال: عنى به: فمن تصدق به فهو كفارة له أى المجروح، ولأنه لأن تكون الهاء في قوله (له) عائدة على (من) أولى من أن تكون عائدة على من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات) «1» .
وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله. أى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم.
قال الرازي: وفيه سؤال وهو أنه- تعالى-. قال: أولا: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وثانيا هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم، فلماذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأى فائدة في ذكر الأخف بعده؟
وجوابه: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس. ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق- سبحانه- وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه» «2» .
هذا، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1- أن الآية الكريمة- ككثير غيرها- تنعى على بنى إسرائيل إهمالهم لأحكام الله- تعالى- وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 262 بتصريف وتلخيص.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 12(4/171)
قال ابن كثير: هذه الآية مما وبخت به اليهود أيضا وقرعت عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس. وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا فأقادوا النضري من القرظي، ولم يقيدوا القرظي من النضري وعدلوا إلى الدية، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار. ولهذا قال هناك وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا. وقال هنا في تتمة الآية فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض.
ثم قال: واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية. وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ. والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة» «1» .
2- استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة. ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: أن الرجل يقتل بالمرأة.. وفي رواية للإمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل تجب ديتها «2» .
قال الآلوسى: واستدل بعموم أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ من قال: يقتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله- تعالى:
الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى وبقوله صلى الله عليه وسلم «لا يقتل مؤمن بكافر» .
وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفى ما عداه. والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي» «3» .
3- استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله- تعالى- الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ إلخ. إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى.
وقالوا: إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمدا. فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية: إن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 61 بتصرف يسير. [.....]
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 61 بتصرف يسير.
(3) تفسير الآلوسى ج 6 ص 118(4/172)
ويرى بعضهم أن في عين الأعور الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها.
وقد توسع الإمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت «1» .
4- أخذ العلماء من هذه الآية أن الله- تعالى- رغب في العفو، وحض عليه، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال- تعالى- فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. أى: فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه.
وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «2» وقوله- تعالى- وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «3» .
وروى الإمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به» «4» .
وروى ابن جرير عن أبى السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار، فاندقت ثنيته. فرفعه الأنصارى إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك.
قال: وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» . فقال الأنصارى: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته أذناى ووعاه قلبي- فخلى سبيل القرشي. فقال معاوية: «مروا له بمال» «5» ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجرا للمعتدى. وإشعارا له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده، جبرا لخاطر المعتدى عليه، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه.
ومع هذا التمكين التام للمجنى عليه من الجاني فقد رغب الإسلام المجنى عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه، وارتفاع درجاته عند الله- تعالى-
__________
(1) راجع تفسير القرطبي ج 6 ص 191- 209
(2) سورة الشورى الآية 40
(3) سورة آل عمران الآية 134
(4) تفسير ابن كثير ج 2 ص 164.
(5) تفسير ابن جرير ج 6 ص 260(4/173)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
وبعد أن بين- سبحانه- منزلة التوراة وما اشتملت عليه من هدايات وتشريعات أتبع ذلك ببيان منزلة الإنجيل وما اشتمل عليه من مواعظ وأحكام.. فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
وقوله: وَقَفَّيْنا معطوف على قوله قبل ذلك أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ وأصل القفو اتباع الأثر:
يقال قفاه يقفوه أى: اتبع أثره، والتقفية: الاتباع، يقال: قفيته بكذا أى أتبعته. وإنما سميت قافية الشعر قافية لأنها تتبع الوزن، والقفا مؤخر الرقبة. ويقال: قفا أثره إذا سار وراءه واتبعه.
قال صاحب الكشاف: قفيته مثل عقبته، إذا أتبعته. ثم يقال قفيته وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.
فإن قلت فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت هو محذوف. والظرف الذي هو «على آثارهم» كالسّاد مسدّه، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه. والضمير في قوله: عَلى آثارِهِمْ يعود على النبيين في قوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا «1» .
وقوله: آثارِهِمْ جمع أثر وهو العلم الذي يظهر للحس. وآثار القوم: ما أبقوا من أعمالهم. وقوله عَلى آثارِهِمْ تأكيد لمدلول فعل «قفينا» وإيماء إلى سرعة التقفية.
وقوله. لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أى: لما تقدمه، لأن ما بين يدي الإنسان كأنه حاضر أمامه.
والمعنى وأتبعنا على آثار أولئك النبيين الذين أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا له العبادة، والذين كانوا يحكمون بالتوراة- كموسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم- أتبعنا على آثارهم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 639(4/174)
بعيسى ابن مريم ناهجا نهجهم في الخضوع والطاعة والإخلاص لله رب العالمين ومصدقا للتوراة التي تقدمته، ومنفذا لأحكامها إلا ما جاء نسخه في الإنجيل منها.
وفي التعبير بقوله وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ إشارة إلى أن عيسى- عليه السلام- لم يكن بدعة من الرسل، وإنما هو واحد منهم، جاء على آثار من سبقوه، سالكا مسلكهم في الدعوة إلى عبادة الله وحده وإلى التحلي بمكارم الأخلاق.
وفي التعبير بقوله بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إيذان بأنه محدث كجميع المحدثات، وأنه قد ولد من أمه كما يولد سائر البشر من أمهاتهم، وأنه لا نسب له إلا من جهتها، فليس له أب، وليس ابنا لله- تعالى-، وإنما هو عبد من عباد الله أو جده بقدرته، وأرسله- سبحانه- لدعوة الناس إلى توحيده وعبادته.
وقوله: مُصَدِّقاً حال من عيسى- عليه السلام-:
قال بعض العلماء: «ولو سايرنا الواقع عند النصارى في هذه الأيام، لكان لذكر كلمة التصديق في هذا المقام معنى أعمق من مجرد التصديق بأصل النزول، بل بالتنفيذ، لأن الإنجيل ليس فيه أحكام عملية كثيرة، فأحكام الأسرة كلها مأخوذة عند النصارى من التوراة، وليس ثمة نص قاطع في الأناجيل التي بين أيدينا يغاير ما جاء في التوراة من أحكام تتعلق بالأسرة، ولا بأحكام العقوبات من حدود وقصاصر ولقد رويت عبارات عندهم منسوبة للمسيح- عليه السلام- تدل على العمل بأحكام التوراة، مثل قوله- عليه السلام- «ما جئت لأنقض الناموس» أى التوراة.
وكلمة بَيْنَ يَدَيْهِ تعبير قرآنى، للدلالة على أن التوراة كانت حاضرة قائمة وقت مجيء عيسى- عليه السلام- وعلما عنده، وهو علم خال من التحريف والتبديل، أوحى الله به إليه.
ولفظ بين يديه في دلالته على الأمر المهيأ القائم من الاستعارات الرائعة، ومضمونها أن الأمر معلوم علما يقينا لعيسى بن مريم- عليه السلام- كعلم المحسوس يكون موضوعا بين يديه «1» .
وقوله: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ، وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ معطوف على قَفَّيْنا.
وقد وصف الله- تعالى- الإنجيل الذي أعطاه لعيسى بخمس صفات:
__________
(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة مجلة لواء الإسلام العدد الثالث من السنة 21(4/175)
أولها: أنه فيه هُدىً أى: فيه هداية للناس إلى الحق الذي متى اتبعوه سعدوا في دنياهم وآخرتهم.
وثانيها: أنه فيه نُورٌ أى: ضياء يكشف لهم ما التبس عليهم من أمور دينية ودنيوية.
وثالثها: كونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ أى أن الإنجيل مؤيد ومقرر لما جاءت به التوراة من أحكام وآداب وشرائع أنزلها الله فيها.
ورابعها: كونه: هُدىً أى: هو بذاته هدى فضلا على اشتماله عليه.
وخامسها: كونه: مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أى: تذكير لهم بما يرق له القلب، وتصفو به النفس، وتنزجر به القلوب عن غشيان المحرمات.
وقوله فِيهِ هُدىً جملة مكونة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر. وقوله وَنُورٌ معطوف على قوله هُدىً والجملة كلها في موضع نصب على أنها حال من الإنجيل.
أى: أعطينا عيسى الإنجيل حالة كونه مشتملا على الهدى والنور.
وقوله: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ حال أيضا من الإنجيل. ولا تكرار بين مُصَدِّقاً الأولى وبين مُصَدِّقاً الثانية، لأن الأولى لبيان حال عيسى وأنه جاء يدعو الناس إلى التصديق بالتوراة وإلى تنفيذ أحكامها، والثانية لبيان حال الإنجيل وأنه جاء مقررا لما اشتملت عليه التوراة من أحكام أنزلها الله، وأن من الواجب على بنى إسرائيل أن يسيروا على هدى هذه الأحكام إلا ما نسخه الإنجيل منها فعليهم أن يتبعوا أحكام الإنجيل فيها.
قال ابن كثير: وقوله: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ أى: متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل. مما بين لبنى إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه- كما قال- تعالى- إخبارا عن المسيح أنه قال لبنى إسرائيل: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. ولهذا كان المشهور من قول العلماء: «أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة» «1» .
وقوله: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ معطوف على ما تقدم ومنتظم معه في سلك الحالية.
وقال أولا فِيهِ هُدىً وقال ثانيا هُدىً لزيادة المبالغة في التنويه بشأن الإنجيل، فهو مشتمل على ما يهدى الناس إلى الحق والخير، وهو في ذاته هدى، لأنه منزل من عند الله، ولأنه بشارة بنبي يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد.
قال الفخر الرازي: «وأما كونه هُدىً مرة أخرى، فلأن اشتمال الإنجيل على البشارة
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 64(4/176)
بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوته. ولما كان أشد وجوه الاختلاف والمنازعة بين المسلمين وبين اليهود، والنصارى في ذلك، لا جرم أعاده الله- تعالى- مرة أخرى تنبيها على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير.
وأما كونه موعظة: فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة.
وإنما خصها بالمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بها» «1» .
وقوله- تعالى-: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر من الله- تعالى- لأتباع سيدنا عيسى- عليه السلام- الذين وجدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكموا فيما بينهم بمقتضى أحكام الإنجيل بدون تحريف أو تبديل. أما الذين وجدوا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فمن الواجب عليهم أن يصدقوه ويتبعوا شريعته، لأن الشريعة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم نسخت ما قبلها من شرائع.
قال الآلوسى ما ملخصه، قوله: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكام، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله، بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها، لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها. واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي.
وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على قوله وَآتَيْناهُ.
أى: - وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور- وقلنا ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. وحذف القول- لدلالة ما قبله عليه- كثير في الكلام. ومنه قوله- تعالى-:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ.
واختار ذلك على بن عيسى.
وقرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ- بكسر اللام وفتح الميم- بأن مضمرة- بعد لام كي- والمصدر معطوف على هُدىً وَمَوْعِظَةً على تقدير كونهما معللين. أى: وآتيناه ليحكم «2» .
وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تذييل مقرر ومؤكد لوجوب الامتثال لأحكام الله- تعالى-. أى: ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن جادة الحق. وعن السنن القويم، والصراط المستقيم.
__________
(1) تفسير الرازي ج 12 ص 9
(2) تفسير الآلوسى ج 6 ص 150(4/177)
قال أبو حيان: قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ناسب هنا ذكر الفسق، لأنه خرج عن أمر الله- تعالى- إذ تقدم قوله: وَلْيَحْكُمْ وهو أمر كما قال- تعالى- للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
أى: خرج عن طاعته» «1» وقال صاحب المنار ما ملخصه: وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية، وبوصف الفسوق في الثالثة.
ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع، وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به. فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له، مؤثرا لغيره عليه. يكون كافرا به.
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء. فمن لم يحكم بحكم الله في ذلك يكون ظالما في حكمه.
وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته. فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا فهم الفاسقون بالمعصية، والخروج عن محيط تأديب الشريعة «2» .
وبعد أن تحدث- سبحانه- عن التوراة والإنجيل وما فيهما من الهدى والنور، وأمر باتباع تعاليمهما.. عقب ذلك بالحديث عن القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 3 ص 50
(2) تفسير المنار ج 6 ص 404. [.....](4/178)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
[سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ.
معطوف على قوله قبل ذلك إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ.
والمراد بالكتاب الأول: القرآن الكريم وأل فيه للعهد.
والمراد بالكتاب الثاني: جنس الكتب السماوية المتقدمة فيشمل التوراة والإنجيل وأل فيه للجنس وقوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أى: رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية المحفوظة من التغيير، وأمينا وحاكما عليها لأنه هو الذي يشهد لها بالصحة ويقرر أصول شرائعها.
قال ابن جرير: وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب. يقال: إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه. فهو يهيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن» «1» .
وقال صاحب الكشاف: وقرئ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ- بفتح الميم- أى هومن عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل كما قال- تعالى-: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.
والذي هيمن عليه هو الله- عز وجل. أو الحفاظ في كل بلد، لو حرّف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد، ولاشمأزوا، رادين ومنكرين» «2» .
والمعنى: لقد أنزلنا التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 266
(2) تفسير الكشاف ج 6 ص 640(4/179)
الجامع لكل ما اشتملت عليه الكتب السماوية من هدايات وقد أنزلناه ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وجعلناه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ أى: مؤيدا لما في تلك الكتب التي تقدمته: من دعوة إلى عبادة الله وحده، وإلى التمسك بمكارم الأخلاق. وجعلناه كذلك «مهيمنا عليها» أى: أمينا ورقيبا وحاكما عليها.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أشار إلى سمو مكانة القرآن من بين الكتب السماوية بإشارات من أهمها:
أنه- سبحانه- لم يقل: وقفينا على آثارهم- أى على آثار الأنبياء السابقين- بمحمد صلى الله عليه وسلم وآتيناه القرآن. كما قال في شأن عيسى ابن مريم وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ.. إلخ.
لم يقل ذلك في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شأن القرآن الكريم، وإنما قال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ للإشارة إلى معنى استقلاله وعدم تبعيته لغيره من الكتب التي سبقته، وللإيذان بأن الشريعة التي هذا كتابها هي الشريعة الباقية الخالدة التي لا تقبل النسخ أو التغيير.
وأنه- سبحانه- لم يزد في تعريف الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على تعريفه بلام العهد فقال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ للإشارة إلى كماله وتفوقه على سائر الكتب.
أى: أنه الكتاب الذي هو جدير بهذا الاسم، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه لأنه الفرد الكامل من بين الكتب في هذا الوجود.
وأنه- سبحانه- قد وصفه بأنه قد أنزله ملتبسا بالحق والصدق، وأنه مؤيد ومقرر لما اشتملت عليه الكتب السماوية من الدعوة إلى الحق والخير، وأنه- فضلا عن كل ذلك- أمين على تلك الكتب، وحاكم عليها، فما أيده من أحكامها وأقوالها فهو حق، وما لم يؤيده منها فهو باطل.
قال ابن كثير: جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، جعله أشملها وأعظمها وأكملها، لأنه- سبحانه- جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفل- سبحانه- بحفظه بنفسه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» .
وقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أمر من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يلتزم في حكمه بين الناس الأحكام التي أنزلها- سبحانه-
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 2 ص 65(4/180)
والفاء في قوله: فَاحْكُمْ للإفصاح عن شرط مقدر.
أى: إذا كان شأن القرآن كما ذكرت لك يا محمد فاحكم بين هؤلاء اليهود وبين غيرهم من الناس بما أنزله الله من أحكام، فإن ما أنزله هو الحق الذي لا باطل معه، ولا تتبع في حكمك أهواء هؤلاء اليهود وأشباههم لأن اتباعك لأهوائهم يجعلك منحرفا ومائلا عما جاءك من الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب. ولم يقل- سبحانه- «فاحكم بينهم به» بل ترك الضمير وعبر بالموصول فقال: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ للتنبيه على علية ما في حيز الصلة للحكم، لأن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم.
أى: التزم في حكمك بينهم بما يؤيده القرآن لأنه الكتاب الذي أنزله الله عليك.
قال بعض العلماء: «وهذا يفيد أن اليهود الذين عاشروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص، أو ما لم يثبت أنه نسخ والمعول عليه في الحالين هو القرآن وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولقد روى أنه- عليه السلام- ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإيمان به- عليه السلام» «1» .
والضمير في قوله، أَهْواءَهُمْ يعود إلى أولئك اليهود الذين كانوا يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا بقصد الوصول إلى الحق، وإنما بقصد الوصول إلى ما يسهل عليهم احتماله من أحكام.
قال الآلوسى: والنهى يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، ولا يقال: كيف نهى صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهوائهم، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك. وقيل الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد سائر الحكام» «2» .
وقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب على الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم بما أنزل الله إليه من الحق.
والشرعة والشريعة بمعنى واحد. وهي في الأصل الطريق الظاهر الموصل للماء. والمراد بها هنا ما اشتمل عليه الدين من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة. وسمى ما اشتمل عليه الدين من أحكام شريعة تشبيها بشريعة الماء. من حيث إن كلا منهما سبب الحياة. إذ أن الشريعة الدينية سبب في حياة الأرواح حياة معنوية. كما أن الماء سبب في حياة الأرواح حياة مادية.
__________
(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ الأستاذ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد الرابع السنة 21
(2) تفسير الآلوسى ج 6 ص 152(4/181)
والمنهاج: الطريق الواضح في الدين، من نهج الأمر ينهج إذا وضح. والعطف باعتبار جمع الأوصاف.
قال بعضهم. هما كلمتان بمعنى واحد والتكرير للتأكيد.
وقيل: ليستا بمعنى واحد. فالشرعة ابتداء الطريق. والمنهاج الطريق المستقيم.
وقوله: مِنْكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين «كل» .
أى: لكل أمة من الأمم الحاضرة والماضية وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بها، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى- عليهما السلام-، كانت شرعتها ما في التوراة من أحكام. والأمة التي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد- عليهما الصلاة والسلام كانت شرعتها ما في الإنجيل. وأما هذه الأمة الإسلامية فشريعتها ما في القرآن من أحكام، لأنه مشتمل على ما جاء في الكتب السابقة عليه من أصول الدين وكلياته التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وزاد عليها ما يناسب العصر الذي نزل فيه، والعصور التي تلت ذلك إلى يوم القيامة.
وأهل الكتاب إنما أمروا بأن يتحاكموا إلى كتبهم قبل نسخها بالقرآن الكريم، أما بعد نزوله ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم خاتما للرسالات السماوية، فقد أصبح من الواجب عليهم الدخول في الإسلام، واتباع رسوله محمد- صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به أو نهى عنه، وليس لأحد بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إيمان مقبول إلا باتباعه وتصديقه في جميع أقواله وأعماله.
والاختلاف في الشرائع إنما يكون فيما يتعلق ببعض الأوامر والنواهي، وببعض وجوه الحلال والحرام، وبغير ذلك من فروع الشريعة، فقد يحرم الله شيئا على قوم عقوبة لهم، ويحله لقوم آخرين تخفيفا عنهم، كما قال- تعالى-: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ «1» .
وكما قال- تعالى- حكاية عن عيسى- عليه السلام-: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ «2» .
أما ما يتعلق بأصول الشريعة، وجوهر الدين، وأساس العقيدة كالأمر بعبادة الله وحده،
__________
(1) سورة الأنعام. ص 146
(2) سورة آل عمران الآية 50(4/182)
والتحلي بمكارم الأخلاق، فلا يتعلق به اختلاف في أى شريعة من الشرائع، أو أى دين من الأديان.
وقد تكلم عن هذا المعنى الإمام ابن كثير فقال: قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد. كما ثبت في صحيح البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات- أمهاتهم شتى- ودينهم واحد» يعنى بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ «1» . وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى. كما قال- تعالى- في شأن شريعة عيسى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وبالعكس، قد يكون الشيء حلالا في هذه الشريعة ثم يحرم في شريعة أخرى، فيزداد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له- تعالى- في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة» «2» .
وقال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً الخطاب فيه- كما قال جماعة من المفسرين- للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب. واستدل بالآية من ذهب إلى أننا غير متعبدين بشرائع من قبلنا، لأن الخطاب يعم الأمم، واللام للاختصاص فيكون لكل أمة دين يخصها.
والتحقيق في هذا المقام أننا متعبدون بأحكام الشرائع السابقة من حيث إنها أحكام شريعتنا لا من حيث إنها شريعة للأولين» «3» .
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر قدرته، وبالغ حكمته فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ.
ومفعول المشيئة هنا محذوف لدلالة الجزاء عليه.
وقوله: وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ متعلق بمحذوف يستدعيه المقام.
والابتلاء: الاختبار والامتحان ليميز المطيع من العاصي.
والمعنى: لو شاء الله- تعالى- أن يجعل الأمم جميعا أمة واحدة تدين بدين واحد وبشريعة
__________
(1) سورة الأنبياء آية 25.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 67
(3) تفسير الآلوسى ج 6 ص 154.(4/183)
واحدة لفعل، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك، وإنما شاء أن يجعلكم أمما متعددة ليختبركم فيما آتاكم من شرائع مختلفة في بعض فروعها ولكنها متحدة في جوهرها وأصولها فيجازى من أطاعه بما يستحقه من ثواب ويجازى من خالف أمره بما يستحقه من عذاب.
وقوله: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ حض منه- سبحانه- لعباده على الاجتهاد في فعل الطاعات.
أى إذا كان الأمر كما وصفت لكم. فسارعوا إلى القيام بالأعمال الصالحة التي تسعدكم في الدنيا والآخرة، وتنافسوا في تحصيلها بكل عزيمة ونشاط لتنالوا رضا الله- تعالى- وجزيل مثوبته.
فَاسْتَبِقُوا بمعنى فتسابقوا، ولتضمنه معنى السبق والابتدار تعدى بنفسه من غير إلى كما في قوله- تعالى- وَاسْتَبَقَا الْبابَ أى: حاول كل واحد منهما الابتدار والوصول إلى الباب قبل الآخر.
وقوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات.
وقوله فَيُنَبِّئُكُمْ أى فيخبركم والمراد بالإنباء والإخبار هنا المجازاة على الأعمال، وإنما عبر عنها بالإنباء لوقوعها موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الأنبياء.
أى: إلى الله وحده مصيركم ومرجعكم، فيخبركم عند الحساب بما كنتم تختلفون فيه في الدنيا، ويجازيكم بما تستحقون: فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم منه- سبحانه- جزيل الثواب. وأما الذين طغوا وآثروا الحياة الدنيا فلهم منه شديد العقاب.
ثم كرر- سبحانه- الأمر لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين اليهود وغيرهم بما أنزله الله- تعالى- وحذره من مكرهم وكيدهم فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: قال كعب بن أسد وابن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه: فأتوه فقالوا:
يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم وإنا إن اتبعناك اتبعك يهود ولم يخالفونا. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدق فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. فأنزل الله فيهم: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ(4/184)
إلى قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ «1» .
وقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في محل نصب عطفا على الكتاب في قوله:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.
وقوله: أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل اشتمال من المفعول في وَاحْذَرْهُمْ كأنه قيل: واحذر فتنتهم كما تقول: أعجبنى زيد علمه.
والمراد بالفتنة هنا محاولة إضلاله وصرفه عن الحكم بما أنزل الله.
والمعنى: وأنزلنا إليك الكتاب يا محمد فيه حكم الله، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلناه إليك ولو كان أقل قليل بأن يصوروا لك الباطل في صورة الحق، أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم:
وقد كرر- سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله، لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعى التأكيد، لأن اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته صلى الله عليه وسلم وإغراءه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم، ولأنه قد جاء في الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد- سبحانه- أن ينفى هذا الوهم نفيا واضحا وأن يؤكد أن شريعة القرآن هي الشريعة العامة الخالدة التي يجب أن يتحاكم إليها الناس في كل زمان ومكان، لأنها نسخت ما سبقها من شرائع.
وقوله- تعالى- وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ تيئيس لأولئك اليهود الذين حاولوا إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقضى لهم بما يرضيهم لكي يتبعوه، ونهى له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه عن الاستجابة لأهواء هؤلاء ولو في أقل القليل مما يتنافى مع الحق الذي أمره الله- تعالى- بالسير عليه في القضاء بين الناس.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة كل من يعرض عن حكم الله- تعالى- فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ.
أى: فإن تولوا عن حكمك، وأعرضوا عنك بعد تحاكمهم إليك وأرادوا الحكم بغير ما أنزل الله. فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب بعض هذه الذنوب التي اقترفوها بتوليهم عن حكم الله، وإعراضهم عنك، وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغي والضلال، لأن الأمة التي لا تخضع لأحكام شرع الله، وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 273.(4/185)
الباطلة، لا بد أن يصيبها العقاب الشديد بسبب ذلك.
وعبر- سبحانه- عما يصيبهم من عقاب بأنه بسبب ارتكابهم لبعض الذنوب، للإشارة بأن لهم ذنوبا كثيرة بعضها كاف لإنزال العقوبة الشديدة بهم.
وقوله: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله، ومتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من مخالفيه ولا سيما اليهود.
أى: وإن كثيرا من الناس لخارجون عن طاعتنا، ومتمردون على أحكامنا، ومتبعون لخطوات الشيطان الذي استحوذ عليهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا تبتئس يا محمد عما لقيته من أصحاب النفوس المريضة، بل اصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآية الكريمة بتوبيخ أولئك الذين يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره فقال: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ.
فالهمزة هنا للاستفهام الإنكارى التوبيخي. والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام.
والمعنى: أينصرفون عن حكمك بما أنزل الله ويعرضون عنه فيبغون حكم الجاهلية مع أن ما أنزله الله إليك من قرآن فيه الأحكام العادلة التي ترضى كل ذي عقل سليم، ومنطق قويم.
وقدم- سبحانه- المفعول «أفحكم» لإفادة التخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجيب من أحوال أولئك اليهود الذين يريدون حكم الجاهلية.
إذ أن التولي عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حكم آخر منكر عجيب. وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب.
والمراد بالجاهلية: الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، والمداهنة في الأحكام، فيكون ذلك توبيخا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب يبغون حكم الملة الجاهلية. وعدم الأخذ بشريعة المساواة. فيكون ذلك- أيضا- تعييرا لهم لاقتدائهم بأهل الجاهلية.
قال الآلوسى: فقد روى أن بنى النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بنى قريظة، طلب بعضهم من رسول الله أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال صلى الله عليه وسلم: «القتلى سواء» - أى: متساوون- فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بحكمك، فنزلت هذه الآية» «1» .
وقوله- تعالى- وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إنكار منه- سبحانه- لأن يكون هناك حكم أحسن من حكمه أو مساو له.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 156.(4/186)
أى: لا أحد أحسن حكما من حكم الله- تعالى- عند قوم يوقنون بصحة دينه، ويذعنون لتكاليف شريعته، ويقرون بوحدانيته، ويتبعون أنبياءه ورسله.
فاللام في قوله: لِقَوْمٍ بمعنى عند، وهي متعلقة بأحسن، ومفعول يُوقِنُونَ محذوف أى لقوم يوقنون بحكمه وأنه أعدل الأحكام. والجملة حالية متضمنة لمعنى الإنكار السابق.
وخص- سبحانه- الموقنين بالذكر، لأنهم هم الذين يحسنون التدبر فيما شرعه الله من أحكام، وينتفعون بما اشتملت عليه من عدل ومساواة.
هذا، وقد شدد الإمام ابن كثير النكير على الذي يرغبون عن حكم الله إلى أحكام من عند البشر، ووصف من يفعل ذلك بالكفر، وأفتى بوجوب مقاتلته حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فقال- رحمه الله-:
«ينكر- تعالى- على من خرج عن حكم الله- المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر- وعدل عنه إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات.
مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم «جنكزخان» الذي وضع لهم «الباسق» وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى. فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.
قال- تعالى- أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أى: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن. وعلم أنه- سبحانه- أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟ فإنه- تعالى- هو العالم بكل شيء، والقادر على كل شيء، والعادل في كل شيء.
روى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الناس إلى الله- تعالى- من يبتغى في الإسلام سنة الجاهلين ومن طلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه «1» .
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد كشفت «باستفاضة» عن المسالك الخبيثة التي سلكها اليهود وأشباههم لكيد الإسلام والمسلمين.
فأنت تراها في مطلعها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النداء وأمرته بعدم المبالاة بما يصدر عن
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 67- بتصرف وتلخيص-(4/187)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
أولئك الذين يسارعون في الكفر من مكر وخداع ووصفهم بجملة من الصفات القبيحة التي تجعل كل عاقل ينفر من الاقتراب منهم، وخيرت الرسول صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم أو الإعراض عنهم إذا ما تحاكموا إليه.
ووبخت اليهود على إعراضهم عن الأحكام العادلة التي أنزلها الله- تعالى- ووصفت المعرضين عن حكمه سبحانه بالكفر تارة وبالظلم تارة وبالفسق تارة أخرى.
وبعد أن مدحت التوراة والإنجيل، وبينت بعض ما اشتملا عليه من هدايات ... عقبت ذلك ببيان منزلة القرآن الكريم وأنه الكتاب الجامع في هدايته وفضله وتشريعاته لكل ما جاء في الكتب السابقة.
ثم ختمت بتكرير الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يلتزم في أحكامه بما أنزله الله، وبتحذيره وتحذير أتباعه من خداع أعدائهم ومكرهم، وتتوعد كل من يرغب عن حكم الله إلى حكم غيره، بسوء العاقبة، وشديد العذاب.
وبعد هذا الحديث المستفيض عن الكتب السماوية: وعن وجوب الحكم بما أنزل الله، وعن المسالك الخبيثة التي استعملها اليهود ومن على شاكلتهم لكيد الدعوة الإسلامية بعد كل ذلك وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين حذرهم فيه من موالاة أعدائهم فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)(4/188)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة روايات منها:
ما رواه السدى من أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد واقعة أحد: أما أنا فإنى ذاهب إلى ذلك اليهودي فأواليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر: وأما أنا فإنى ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فأواليه وأتنصر معه. فأنزل الله تعالى الآيات.
وقال عكرمة: نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى بنى قريظة فسألوه: ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، أى: إنه الذبح.
وقيل نزلت في عبد الله بن أبى بن سلول فقد أخرج ابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بنى الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم. وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبى: إنى رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبى: يا أبا الحباب، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه قال: قد قبلت. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ ... إلى قوله: نادِمِينَ «1» .
والخطاب في قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ للمؤمنين جميعا في كل زمان ومكان، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الأولياء جمع ولى ويطلق بمعنى النصير والصديق والحبيب.
والمراد بالولاية هنا: مصافاة أعداء الإسلام والاستنصار بهم، والتحالف معهم دون المسلمين.
أى: يا أيها الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.، لا يتخذ أحد منكم أحدا من اليهود والنصارى وليا ونصيرا، أى: لا تصافوهم مصافاة الأحباب، ولا تستنصروا بهم، فإنهم جميعا يد واحدة عليكم، يبغونكم الغوائل، ويتربصون بكم الدوائر، فكيف يتوهم بينكم وبينهم موالاة؟.
وقد نادى- سبحانه- المؤمنين بصفة الإيمان، لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه، إذ أن وصفهم بما هو ضد صفات الفريقين- اليهود والنصارى- من أقوى الزواجر عن موالاتهما:
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 257 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 68. [.....](4/189)
وقوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ جملة مستأنفة بمثابة التعليل للنهى، والتأكيد لوجوب اجتناب المنهي عنه.
أى لا تتخذوا أيها المؤمنون اليهود والنصارى أولياء، لأن بعض اليهود أولياء لبعض منهم، وبعض النصارى أولياء لبعض منهم، والكل يضمرون لكم البغضاء والشر، وهم وإن اختلفوا فيما بينهم، لكنهم متفقون على كراهية الإسلام والمسلمين.
وقوله وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ تنفير من موالاة اليهود والنصارى بعد النهى عن ذلك.
والولاية لليهود والنصارى إن كانت على سبيل الرضا بدينهم، والطعن في دين الإسلام، كانت كفرا وخروجا عن دين الإسلام.
وإلى هذا المعنى أشار ابن جرير بقوله: قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أى: ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه راض. وإذا رضى دينه، فقد عادى من خالفه وسخطه. وصار حكمه حكمه» .
وإذا كانت الولاية لهم ليست على سبيل الرضا بدينهم وإنما هي على سبيل المصافاة والمصادقة كانت معصية تختلف درجتها بحسب قوة الموالاة وبحسب اختلاف أحوال المسلمين وتأثرهم بهذه الموالاة.
قال الفخر الرازي: قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قال ابن عباس: يريد كأنه مثلهم. وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين.
روى عن أبى موسى الأشعرى أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- إن لي كاتبا نصرانيا فقال: مالك؟ قاتلك الله، ألا اتخذت حنيفيا أما سمعت قول الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قلت: له دينه ولى كتابته. فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله. ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله قلت لا يتم أمر البصرة إلا به. فقال: مات النصراني والسلام.
يعنى: هب أنه مات فما تصنع بعد، فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره» «1» .
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تعليل لكون من يواليهم منهم وتأكيد للنهى عن موالاتهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 16.(4/190)
أى: إن الله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم إلى الطريق المستقيم، وإنما يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلال، والفسوق والعصيان، بسبب وضعهم الولاية في غير موضعها الحق، وسيرهم في طريق أعداء الله.
وبعد هذا النهى الشديد عن موالاة أعداء الله، صور القرآن حالة من حالات المنافقين بين فيها كيفية توليهم لأعداء الله، وأشعر بسببه فقال: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ.
والدائرة: من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وأصلها داورة. لأنها من دار يدور. ومعناها لغة: ما أحاط بالشيء. والمراد بها هنا: المصيبة من مصائب الدهر التي تحيط بالناس كما تحيط الدائرة بما في داخلها.
والمعنى: فترى- يا محمد أولئك المنافقين الذين ضعف إيمانهم، وذهب يقينهم، يسارعون في مناصرة أعداء الإسلام مسارعة الداخل في الشيء، قائلين في أنفسهم أو للناصحين لهم بالثبات على الحق: اتركونا وشأننا فإننا نخشى أن تنزل بنا مصيبة من المصائب التي يدور بها الزمان كأن تمسنا أزمة مالية، أو ضائقة اقتصادية، أو أن يكون النصر في النهاية لهؤلاء الذين نواليهم فنحن نصادقهم ونصافيهم لنتقى شرهم، ولننال عونهم عند الملمات والضوائق.
قال الجمل: والفاء في قوله فَتَرَى إما للسببية المحضة: أى: بسبب أن الله لا يهدى القوم الظالمين المتصفين بما ذكر فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ وإما للعطف على قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ من حيث المعنى.
والرؤية في قوله فَتَرَى. بصرية، فتكون جملة يسارعون حال. وقيل علمية فتكون جملة يسارعون مفعولا ثانيا. والأول أنسب بظهور نفاقهم.
وقوله: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من ضمير يسارعون «1» .
والتعبير بقوله: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ تعبير قوى رائع، وصف القرآن به المنافقين وأشباههم في الكفر والضلال في مواطن كثيرة، لأنه لما كانت قوة القلب تضرب مثلا للثبات والتماسك.
كان ضعف القلب الذي عبر عنه بالمرض يضرب مثلا للخور، والتردد والتزلزل، وانهيار النفس.
وهذه طبيعة المنافقين ومن على شاكلتهم في كل زمان ومكان. إنهم لا يمكن أن يكونوا صرحاء في انحيازهم إلى ناحية معينة. وإنما هم يترددون بين الناحيتين، ويلتمسون الحظوة في
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 500.(4/191)
الجانبين- فهم كما يقال: يصلون خلف على ويأكلون على مائدة معاوية- وأبلغ من كل ذلك وصف الله لهم بقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ.
والتعبير بقوله- سبحانه- ترى.. تصوير للحال الواقعة منهم بأنها كالمرئية المكشوفة التي لا تخفى على العقلاء البصراء.
وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتحذير له ولأصحابه من مكر أولئك الذين في قلوبهم مرض.
والتعبير بقوله: يُسارِعُونَ فِيهِمْ يشير إلى أنهم لا يدخلون ابتداء في صفوف الأعداء «وإنما هم منغمرون فيهم دائما» ولا يخرجون عن دائرتهم بل ينتقلون في صفوفهم بسرعة ونشاط من دركة إلى دركة، ومن إثم إلى آثام.
وقوله- تعالى- حكاية عنهم: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ بيان لما اعتذروا به من معاذير كاذبة تدل على سقوط همتهم، وقلة ثقتهم بما وعد الله به المؤمنين من حسن العاقبة.
ولذا فقد رد الله عليهم بما يكبتهم، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ.
وعسى: لفظ يدل على الرجاء والطمع في الحصول على المأمول، وإذا صدر من الله- تعالى- كان متحقق الوقوع لأنه صادر من أكرم الأكرمين الذي لا يخلف وعده، ولا يخيب من رجاه.
والفتح يطلق بمعنى التوسعة بعد الضيق كما في قوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ. ويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل. ومن ذلك قوله- تعالى-: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ ويطلق بمعنى الظفر والنصر كما في قوله- تعالى- إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
ولفظ الفتح هنا يشمل هذه الأمور الثلاثة فهو سعة بعد ضيق، وفصل بين حق وباطل، ونصر بعد جهاد طويل.
والمعنى: لا تهتموا أيها المؤمنون بمسارعة هؤلاء الذين في قلوبهم مرض إلى صفوف أعدائكم وارتمائهم في أحضانهم خشية أن تصيبهم دائرة، فلعل الله- عز وجل- بفضله وصدق وعده أن يأتى بالخير العميم والنصر المؤزر الذي يظهر دينه. ويجعل كلمته هي العليا.. أو يأتى بأمر من عنده لا أثر لكم فيه فيزلزل قلوب أعدائكم، وينصركم عليهم، ويجعل الهزيمة والندم للموالين لأعدائكم، وبسبب شكهم في أن تكون العاقبة للإسلام والمسلمين.
ولقد صدق الله وعده، ففضح المنافقين وأذلهم، وأنزل الهزيمة باليهود، وأورث المؤمنين(4/192)
أرضهم وديارهم وأموالهم.
وقد جاء التعبير في قوله- تعالى-: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ بصيغة الرجاء، لتعليم المؤمنين عدم اليأس من رحمة الله، ومن مجيء نصره، ولتعويدهم على أن يتوجهوا إليه- سبحانه- في مطالبهم بالرجاء الصادق، والأمل الخالص.
قال الفخر الرازي: فإن قيل: شرط صحة التقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين.
وقوله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ليس كذلك، لأن الإتيان بالفتح داخل في قوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.
قلنا: قوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ معناه: أو أمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل ألبتة، كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر «1» .
والضمير في قوله: فَيُصْبِحُوا يعود على أولئك المنافقين الذين في قلوبهم مرض والجملة معطوفة على أَنْ يَأْتِيَ داخل معه في حيز خبر عسى.
وعبر- سبحانه- عن ندمهم بالوصف نادِمِينَ لا بالفعل، للإيذان بأنه ندم دائم تصحبه الحسرات والآلام المستمرة، بسبب ما وقعوا فيه من ظن فاسد، وأمل خائب.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله المؤمنون الصادقون على سبيل الإنكار لمسالك المنافقين الخبيثة وتوبيخهم على ضعف إيمانهم، وهوان نفوسهم فقال- تعالى-: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ.
قال الآلوسى: قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة: - وهي قراءة عاصم وحمزه والكسائي بإثبات الواو مع الرفع.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بيانى، كأنه قيل: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب: ويقول بالنصب عطفا على فَيُصْبِحُوا «2» .
وقوله: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أى: أقوى أيمانهم وأغلظها. والجهد: الوسع والطاقة والمشقة.
يقال جهد نفسه يجهدها في الأمر إذا بلغ بها أقصى وسعها وطاقتها فيه. والمراد: أنهم أكدوا الإيمان ووثقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 192.
(2) تفسير الآلوسى ج 6 ص 159.(4/193)
والمعنى: ويقول الذين آمنوا بعضهم لبعض مستنكرين ما صدر عن المنافقين من خداع وكذب، ومتعجبين من ذبذبتهم والتوائهم: يقولون مشيرين إلى المنافقين: أهؤلاء الذين أقسموا بالله مؤكدين إيمانهم بأقوى المؤكدات وأوثقها، بأن يكونوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومعنا في ولايتهم ونصرتهم ومعونتهم ... ؟.
فالاستفهام للإنكار والتعجيب من أحوال هؤلاء المنافقين الذين مردوا على الخداع والكذب.
وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر في معنى ويقول الذين آمنوا فقال: فإن قلت: لمن يقولون هذا القول؟ قلت: إما أن يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم، واغتباطا بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا لكم بأغلظ الإيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار.
وإما أن يقولوه لليهود، لأنهم- أى المنافقون- حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ- ثم خذلوهم-، «1» :
وعلى كلا الوجهين فالجملة الكريمة تنعى على المنافقين كذبهم وجبنهم، وتعجب الناس من طباعهم الذميمة، وأخلاقهم المرذولة.
وقوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ أى: فسدت أعمالهم وبطلت فصاروا خاسرين في الدنيا والآخرة.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مما حكاه الله- تعالى- من قول المؤمنين ويحتمل أنها من كلام الله- تعالى- وقد ساقها على سبيل الحكم عليهم بفساد أعمالهم، وسوء مصيرهم.
هذا، وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على ضروب من توكيد النهى عن موالاة أعداء الله- تعالى- بأساليب متعددة.
منها: النهى الصريح كما في قوله- تعالى-: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ.
ومنها: بيان علة النهى كما في قوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.
ومنها: التصريح بأن من يواليهم فهو منهم وذلك في قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.
ومنها: تسجيل الظلم على من يواليهم كما في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
ومنها: الإخبار بأن موالاتهم من طبيعة الذين في قلوبهم مرض قال- تعالى-: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 634.(4/194)
ومنها: قطع أطماع الموالين لهم وتبشير المؤمنين بالفوز قال- تعالى-: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.
ومنها: الإخبار عن حال الموالين لهم بقوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ.
وهنا قد يرد سؤال وهو: إن الآيات الكريمة وما يشبهها من الآيات القرآنية تؤكد النهى عن موالاة غير المسلمين ومودتهم فهل هذا النهى على إطلاقه؟
والجواب عن ذلك أن غير المسلمين أقسام ثلاثة: القسم الأول: وهم الذين يعيشون مع المسلمين ويسالمونهم، ولا يعملون لحساب غيرهم ولم يبدر منهم ما يفضى إلى سوء الظن بهم.
وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولا مانع من مودتهم والإحسان إليهم كما في قوله- تعالى- لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «1» .
والقسم الثاني: وهم الذين يقاتلون المسلمين، ويسيئون إليهم بشتى الطرق وهؤلاء لا تصح مصافاتهم، ولا تجوز موالاتهم، وهم الذين عناهم الله في الآيات التي معنا وفيما يشبهها من آيات كما في قوله- تعالى- إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «2» .
والقسم الثالث: قوم لا يعلنون العداوة لنا ولكن القرائن تدل على أنهم لا يحبوننا بل يحبون أعداءنا، وهؤلاء يأمرنا ديننا بأن نأخذ حذرنا منهم دون أن نعتدى.
ومهما تكن أحوال غير المسلمين فإنه لا يجوز لولى الأمر المسلم أن يوكل إليهم ما يتعلق بأسرار الدولة الإسلامية. أو أن يتخذهم بطانة له بحيث يطلعون على الأمور التي يؤدى إفشاؤها إلى خسارة الأمة في السلم أو الحرب.
وبعد أن حذر- سبحانه- المؤمنين من ولاية اليهود والنصارى، عقب ذلك بنداء آخر وجهه إليهم، وبين لهم فيه أن موالاة أعداء الله قد تجر إلى الارتداد عن الدين، وأنهم إن ارتدوا فسوف يأتى الله بقوم آخرين لن يكونوا مثلهم، وأن من الواجب عليهم أن يجعلوا ولا يتهم لله ولرسوله وللمؤمنين فقال- تعالى-:
__________
(1) سورة الممتحنة آية 8.
(2) سورة الممتحنة آية 9.(4/195)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
[سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
قوله- تعالى- مَنْ يَرْتَدَّ من الارتداد. ومعناه: الرجوع إلى الخلف ومنه قوله- تعالى- رُدُّوها عَلَيَّ أى: ارجعوها على. وقوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ.
والمراد بالارتداد هنا: الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر والضلال، والخروج من الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيره من الأباطيل والأكاذيب.
قالوا: وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن من الذين دخلوا في الإسلام من سيرتد عنه إلى غيره من الكفر والضلال، وقد كان الأمر كما أشارت الآية الكريمة فقد ارتد عن الإسلام بعض القبائل كقبيلة بنى حنيفة- قوم مسيلمة الكذاب- وقبيلة بنى أسد، وقبيلة بنى مدلج وغيرهم.
وقد تصدى سيدنا أبو بكر الصديق ومن معه من المؤمنين الصادقين للمرتدين فكسروا شوكة الردة، وأعادوا لكلمة الإسلام هيبتها وقوتها.
قال الآلوسى ما ملخصه: هذه الآية من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها- وقد وقع المخبر به على وفقها فيكون معجزا- فقد روى أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة.
ثلاث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم: «بنو مدلج، ورئيسهم الأسود العنسي و «بنو حنيفة» قوم مسيلمة الكذاب و «بنو أسد» قوم طليحة بن خويلد الأسدى. وسبع في عهد أبى بكر وهم:
فزارة. وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض بنى تميم، وكنده، وبنو بكر ابن وائل.(4/196)
وارتدت فرقة واحدة في عهد عمر وهي قبيلة «غسان قوم جبلة بن الأيهم» «1» .
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا يتخذ أحد منكم أحدا من أعداء الله وليا ونصيرا لأن ولايتهم تفضى إلى مضرتكم وخسرانكم. بل وإلى ردتكم عن الحق الذي آمنتم به، ومن يرتدد منكم عن دينه الحق إلى غيره من الأديان الباطلة فلن يضر الله شيئا، لأنه- سبحانه- سوف يأتى بقوم آخرين مخلصين له، ومطيعين لأوامره، ومستجيبين لتعاليمه. بدل أولئك الذين ارتدوا على أدبارهم، وكفروا بعد إيمانهم. قال- تعالى-: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «2» .
ولفظ فَسَوْفَ جيء به هنا لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل، إذا ما ارتد بعض الناس على أدبارهم.
وقد وصف الله- تعالى- أولئك القوم الذين يأتى بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم، وصفهم بعدد من الصفات الحميدة، والسجايا الكريمة.
وصفهم- أولا- بقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ:
ومحبة الله- تعالى- للمؤمنين هي أسمى نعمة يتعشقونها ويتطلعون إليها، ويرجون حصولها ودوامها. وهي- كما يقول الآلوسى- محبة تليق بشأنه على المعنى الذي أراده.
ومن علاماتها: أن يوفقهم- سبحانه- لطاعته، وأن ييسر لهم الخير في كل شئونهم.
ومحبة المؤمنين لله- تعالى- معناها: التوجه إليه وحده بالعبادة، واتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، والاستجابة لتعاليمه برغبة وشوق.
وقوله: يُحِبُّهُمْ جملة في محل جر صفة لقوم. وقوله «ويحبونه» معطوف على يُحِبُّهُمْ.
وقدم- سبحانه- محبته لهم على محبتهم له، لشرفها وسبقها، إذ لولا محبته لهم لما وصلوا إلى طاعته.
وصفهم- ثانيا- بقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ.
وقوله: أَذِلَّةٍ جمع ذليل، من تذلل إذا تواضع وحنا على غيره، وليس المراد بكونهم أذلة أنهم مهانون، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب للمؤمنين.
وقوله: أَعِزَّةٍ جمع عزيز وهو المتصف بالعزة بمعنى القوة والامتناع عن أن يغلب أو يقهر
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 160.
(2) سورة محمد. الآية الأخيرة.(4/197)
ومنه قوله- تعالى- وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى: غلبني في الخطاب.
والمعنى: إن من صفات هؤلاء القوم الذين يأتى الله بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم، أنهم أرقاء على المؤمنين، عاطفون عليهم متواضعون لهم، تفيض قلوبهم حنوا وشفقة بهم. وأنهم في الوقت نفسه أشداء على الكافرين، ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب، لا نظرة الضعيف الخانع.
وهذه- كما يقول ابن كثير- صفات المؤمنين الكمل. أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه، متعززا على خصمه وعدوه كما قال- تعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ومن صفات الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنه الضحوك القتال» فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه» «1» .
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع.
والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين- خافضون لهم أجنحتهم» «2» .
وقال الطيبي: إن قوله- تعالى- أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ جيء به للتكميل، لأنه لما وصفهم قبل ذلك بالتذلل، ربما يتوهم أحد أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم فدفع ذلك الوهم بأنهم مع ذلتهم على المؤمنين أعزة على الكافرين على حد قول القائل:
جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيم ألم بهم خفاف
ثم وصفهم- ثالثا- بقوله: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وقوله:
يُجاهِدُونَ من المجاهدة وهي بذل الجهد ونهاية الطاقة من أجل الوصول إلى المقصد الذي يسعى إليه الساعى.
وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى في سبيل إعلاء دين الله، وإعزاز كلمته وليس في سبيل الهوى أو الشيطان.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 70.
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 698.(4/198)
واللومة: هي المرة الواحدة من اللوم. وهو بمعنى اعتراض المعترضين، ومخالفة المخالفين وعدم رضاهم عن هؤلاء القوم.
والمعنى: أن من صفات هؤلاء القوم- أيضا- أنهم يبذلون أقصى جهدهم في سبيل إعلاء كلمة الله والعمل على مرضاته، وأنهم في جهادهم وجهرهم بكلمة الحق، وحرصهم على ما يرضيه- سبحانه- لا يخافون لوما قط من أى لائم كائنا من كان. لأن خشيتهم ليست إلا من الله وحده.
وعبر- سبحانه- بلومة- بصيغة الإفراد والتنكير، للمبالغة في نفى الخوف عنهم سواء أصدر اللوم لهم من كبير أم من صغير. وسواء أكانت اللومة شديدة أم رفيقة..
فهم- كما يقول الزمخشري-: صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لإنكار منكر أو أمر بمعروف- مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم، والجملة على هذا معطوفة على يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ويحتمل أن تكون الواو للحال. أى أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين الذين كانوا إذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم» «1» .
وقد ذكر المفسرون أقوالا متعددة في المراد بهؤلاء القوم الذين وصفهم الله- تعالى- بتلك الصفات الكريمة، والذين يأتى بهم بدل أولئك الذين يرتدون على أعقابهم.
قال بعضهم: المراد بهم أبو بكر ومن معه من المؤمنين الذين قاتلوا المرتدين.
وقال آخرون: المراد بهم الأنصار الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم وأيدوه.
وقال مجاهد: المراد بهم أهل اليمن ... وقيل غير ذلك.
والذي نراه أنهم قوم ليسوا مخصوصين بزمن معين أو بلد معين، أو أشخاص معينين، وإنما هم كل من تنطبق عليهم هذه الصفات الجليلة. فكل من أحب الله وأحبه الله، وتواضع للمؤمنين وأغلظ على الكافرين. وجاهد في سبيل الله دون أن يخشى أحدا سواه فهو منهم، أما ذواتهم فيعلمها الله وحده، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه في بيان المراد بهؤلاء القوم.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يعود على ما تقدم ذكره من أوصاف القوم.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 698.(4/199)
أى: ذلك الذي أعطيناه لهم من صفات كريمة فضل الله وإحسانه، يؤتيه من يشاء إيتاءه من عباده، والله- تعالى- واسع الفضل والجود والعطاء، عليم بأحوال خلقه، لا تخفى عليه خافية من شئونهم.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: وجوب المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الله عن طريق قتال أعدائه- سبحانه- أو عن طريق الجهر بكلمة الحق، أو عن طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل- دون أن يخاف المجاهد لومة لائم.
ولقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث في هذا المعنى ومن ذلك:
ما رواه الإمام أحمد عن أبى ذر: أمرنى خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرنى بحب المساكين والدنو منهم، وأمرنى أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقى، وأمرنى أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرنى أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرنى أن أقول الحق وإن كان مرا، وأمرنى أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرنى أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن كنز تحت العرش» .
وعن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده. فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم» .
وعنه- أيضا- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: أن يرى أمر الله فيه مقال فلا يقول فيه. فيقال له يوم القيامة. ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول مخافة الناس. فيقول: إياى أحق أن تخاف» «1» .
وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى سوى التي ذكرها الإمام ابن كثير ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمنكرة. وأن لا ننازع الأمر أهله. وأن نقول بالحق حيثما كنا. لا نخاف في الله لومة لائم» «2» .
ثم بين- سبحانه- من تجب موالاتهم، بعد النهى عن تولى من تجب معاداتهم فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ راكِعُونَ.
أى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ المفيض عليكم كل خير، والمرجو وحده في الشدائد والكروب
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 70.
(2) أخرجه البخاري في باب كيف يبايع الإمام الناس من كتاب الأحكام ج 9 ص 96. [.....](4/200)
وَرَسُولُهُ الذي أخرجكم- بإذنه تعالى- من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد. وَالَّذِينَ آمَنُوا الذين هم منكم وأنتم منهم والذين يُقِيمُونَ الصَّلاةَ في مواقيتها بخشوع وإخلاص وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لمستحقيها بسماحة وطيب نفس وَهُمْ راكِعُونَ أى: خاشعون متواضعون لله، وليسوا مرائين أو منانين.
وقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ جملة من مبتدأ وخبر. وقوله: وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا معطوف على الخبر.
قال صاحب الكشاف: ومعنى إِنَّما وجوب اختصاصهم بالموالاة. فإن قلت قد ذكرت- الآية- جماعة فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت: أصل الكلام إنما وليكم الله، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له، إثباتها لرسوله وللمؤمنين على سبيل التبع. ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا، لم يكن في الكلام أصل وتبع «1» .
والمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وليس فردا معينا منهم.
قال- تعالى-: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «2» .
وما ورد من آثار تفيد أن المراد بالذين آمنوا شخصا معينا وهو على بن أبى طالب- رضى الله عنه- لا يعتمد عليها، لأنها كما يقول ابن كثير- «لم يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها» .
وقد توسع الإمام الرازي في الرد على الشيعة الذين وضعوا هذه الآثار فارجع إليه إن شئت «3» .
وقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ بدل من الذين آمنوا.
وهما وصفان لهم ساقهما- سبحانه- على سبيل الثناء عليهم والمدح لهم.
وقوله: وَهُمْ راكِعُونَ حال من فاعل الفعلين- يقيمون ويؤتون- أى: يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون خاضعون لله- تعالى- إذ الركوع قد يطلق بمعنى الخضوع لله- تعالى-:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 648.
(2) سورة التوبة الآية 71.
(3) راجع تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 26 وما بعدها.(4/201)
قال الراغب: الركوع: الانحناء وتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة، وتارة يستعمل في التذلل والتواضع إما في العبادة وإما في غيرها» «1» .
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة الذين يوالون الله ورسوله والمؤمنين فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. والحزب معناه الجمع من الناس يجتمعون على رأى واحد من أجل أمر حزبهم أى أهمهم وشغلهم.
والمعنى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ- تعالى- بأن يطيعه ويتوكل عليه، ويتول رَسُولَهُ بأن يتبعه ويتأسى به، ويتول الَّذِينَ آمَنُوا بأن يناصرهم ويشد أزرهم ويتعاون معهم على البر والتقوى، من يفعل ذلك لا شك في حسن عاقبته وظفره بالفلاح والنصر «فإن حزب الله هم الغالبون» لغيرهم من الأحزاب الأخرى التي استحوذ عليها الشيطان.
ومَنْ في قوله وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ شرطية، وقوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ دليل على جواب الشرط.
أى: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا يكن من حزب الله المنتصر القوى، فإن حزب الله هم الغالبون.
وقال- سبحانه- فإن حزب الله، ولم يقل حزب الله ورسوله، للإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعمل إلا بأمر من الله- تعالى- وأنه صلى الله عليه وسلم لا يستمد العون والنصرة إلا منه- سبحانه-.
قال بعض العلماء: وقوله- تعالى- فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ معناه: فإنهم الغالبون.
فوضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى من دلالة على علة الغلبة.
وهو أنهم حزب الله. فكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فهو حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. تنويها بذكرهم، وتعظيما لشأنهم، وتشريفا لهم بهذا الاسم، وتعريضا لمن يوالى غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان» «2» .
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين نهيا شديدا عن موالاة أعداء الله، لأن موالاتهم قد تجر إلى الارتداد عن الدين الحق، ومن يرتد عن الدين الحق فلن يضر الله شيئا، لأنه سبحانه- قادر على أن يأتى بقوم آخرين صادقين في إيمانهم بدل أولئك الذين ارتدوا على
__________
(1) المفردات في غريب القرآن ص 22.
(2) تفسير القاسمى ج 6 ص 2045.(4/202)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
أعقابهم. كما نراها قد أرشدت المؤمنين إلى من تجب موالاتهم، وبشرتهم بالفلاح والنصر متى جعلوا ولايتهم لله ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة والدين.
ثم كرر- سبحانه- نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم الذين استخفوا بتعاليم الإسلام، وشعائر دينه فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
قال الآلوسى: أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما.
فأنزل الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا ... الآية «1» .
والدين: هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة. فهو عنوان عقل المتدين، ورائد آماله، وباعث أعماله. والذي يتخذ دين امرئ هزوا ولعبا، فقد اتخذ ذلك المتدين بهذا الدين هزوا ولعبا.
وقوله: هُزُواً أى سخرية يقال: فلان هزئ من فلان إذا سخر منه، واستخف به.
وأصله هزءا، فأبدلت الهمزة واوا لضم ما قبلها.
وقوله: لَعِباً أى ملهاة وعبثا. وأصله من لعاب الطفل. يقال عن الطفل لعب- بفتح العين- إذا سال لعابه.
والمعنى: يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ الذي هو سر سعادتكم وعزتكم هُزُواً وَلَعِباً أى: اتخذوا مادة لسخريتهم وتهكمهم، وموضعا لعبثهم ولهوهم.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 171.(4/203)
ومِنَ في قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ بيانية.
أى: مبينة لأولئك الذين يستهزئون بدين الله ويجعلونه موضع عبثهم.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى.
وسموا بذلك لأن أصل شرعهم ينتمى إلى كتاب منزل هو التوراة والإنجيل.
وفي وصفهم بذلك هنا، توبيخ لهم، حيث إنهم استهزءوا بالدين الحق، مع أن كتابهم ينهاهم عن ذلك.
والمراد بالكفار هنا المشركون الذين لا كتاب لهم.
وقرأ الجمهور الْكُفَّارَ بالنصب عطفا على الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ المبين بقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.
وقرأ أبو عمرو والكسائي الْكُفَّارَ بالجر عطفا على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.
وقوله: أَوْلِياءَ أى: نصراء وأصفاء. وهو المفعول الثاني لقوله لا تَتَّخِذُوا والآية الكريمة تنهى المؤمنين عن ولاية كل عدو لله- تعالى- ولهم سواء أكان هذا العدو من أهل الكتاب أم من المشركين لأن الجميع يشتركون في الاستهزاء بتعاليم الإسلام، وفي العبث بشعائره.
وقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تذييل قصد به استنهاض همتهم لامتثال أمر الله- تعالى- وإلهاب نفوسهم حتى يتركوا موالاة أعدائهم بسرعة ونشاط.
أى: واتقوا الله في سائر ما أمركم به وما نهاكم عنه، فلا تضعوا موالاتكم في غير موضعها، ولا تخالفوا لله أمرا. إن كنتم مؤمنين حقا، ممتثلين صدقا، فإن وصفكم بالإيمان يحتم عليكم الطاعة التامة لله رب العالمين.
ثم ذكر- سبحانه- بعض مظاهر استهزاء أولئك الضالين بالدين وشعائره، فقال- تعالى-: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً.
والمراد بالنداء للصلاة: الإعلام بها عن طريق الأذان.
قال القرطبي: كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود: قاموا لا قاموا، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا. وقالوا في حق الأذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم. فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 224.(4/204)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
وروى ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى في قوله: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً قال: كان رجل من النصارى بالمدينة، إذا سمع المنادى ينادى: أشهد أن محمدا رسول الله. قال: حرق الكاذب. فدخل خادمه ليلا من الليالى بنار، وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت. فاحترق هو وأهله» «1» .
وقيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس منها.
أى: وإذا ناديتم- أيها المؤمنون- بعضكم بعضا إلى الصلاة عن طريق الأذان، اتخذ هؤلاء الضالون الصلاة والمناداة بها موضعا لسخريتهم وعبثهم وتهكمهم.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ يعود إلى ما كان منهم من استهزاء وسخرية.
أى: ذلك الذي صدر عنهم من استهزاء وعبث سببه أنهم قوم سفهاء جهلاء، لا يدركون الأمور على وجهها الصحيح، ولا يستجيبون للحق الذي ظهر لهم بسبب عنادهم وأحقادهم.
قال ابن كثير: هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوى وأخروى، يتخذونها هزوا يستهزئون بها، ولعبا يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد، كما قال القائل.
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم «2»
وبعد أن حذر- سبحانه- المؤمنين تحذيرا شديدا من موالاة أعدائه. عقب ذلك بتوبيخ أهل الكتاب على عنادهم وحسدهم، ووصفهم بجملة من الصفات القبيحة التي ينأى عنها العقلاء وأصحاب المروءة فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 59 الى 63]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 291.
(2) تفسير ابن كثير ج 3 ص 72.(4/205)
قال القرطبي: قال ابن عباس: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل- عليهم السلام- فقال: نؤمن بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله: ونحن له مسلمون» . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم. فنزلت هذه الآية وما بعدها.
وتنقمون معناه: تسخطون. وقيل تكرهون. وقيل تنكرون. والمعنى متقارب يقال: نقم من كذا ينقم ونقم والأول أكثر.. وفي التنزيل «وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد» . وانتقم منه أى: عاقبه: والاسم النقمة والجمع نقم «1» والاستفهام، للإنكار والتعجب من حالهم حيث يعيبون على المؤمنين ما هو المدح والثناء والتكريم.
والمعنى: قل يا محمد على سبيل التوبيخ لأهل الكتاب، والتعجيب من أحوالهم قل لهم:
يا أَهْلَ الْكِتابِ. يا من كتابكم عرفكم مواطن الذم هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أى: ما تعيبون وتنكرون وتكرهون منا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ الذي يجب الإيمان به، والخضوع له، لأنه الخالق لكل شيء، وآمنا بما أنزل إلينا من القرآن الكريم وآمنا بما أنزل من قبل من كتب سماوية كالتوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل إنزال القرآن الكريم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 233.(4/206)
ولا شك أن إيماننا بذلك لا يعاب ولا ينكر، بل يمدح ويشكر، ولكن لأن أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ- أى: خارجون عن دائرة هذا الايمان الحق- كرهتم منا ذلك، وأنكرتموه علينا، وحسدتمونا على توفيق الله إيانا لما يحبه ويرضاه.
وقال الجمل ما ملخصه: وقوله: إِلَّا أَنْ آمَنَّا مفعول لقوله تَنْقِمُونَ بمعنى تكرهون.
وهو استثناء مفرغ. وقوله: مِنَّا متعلق به. أى ما تكرهون من جهتنا إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وأصل نقم أن يتعدى بعلى. تقول: نقمت عليه بكذا. وإنما عدى هنا بمن لتضمنه معنى تكرهون وتنكرون.
وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ يحتمل أن يكون في محل رفع أو نصب أو جر فالرفع على أن يكون مبتدأ والخبر محذوف أى: وفسقكم ثابت عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل إلا أن حب الرياسة وجمع الأموال حملكم على العناد.
والنصب على أن يكون معطوفا على قوله أَنْ آمَنَّا ولكن الكلام فيه مضاف محذوف لفهم المعنى. والتقدير: واعتقاد أن أكثرهم فاسقون وهو معنى واضح فإن الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم- أى الكفار- فاسقون- أى: ما تعيبون منا إلا إيماننا بالله وما أنزل إلينا.
واعتقادنا أن أكثرهم فاسقون..
وأما الجر فعلى أن يكون معطوفا على علة محذوفة والتقدير: ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل. لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم شهواتكم» «1» .
هذا ومن بلاغة القرآن الكريم، وإنصافه في الأحكام، واحتراسه في التعبير أنه لم يعمم الحكم بالفسق على جميعهم. بل جعل الحكم بالفسق منصبا على الأكثرين منهم، حتى يخرج عن هذا الحكم القلة المؤمنة من أهل الكتاب.
وشبيه بهذا قوله في آية أخرى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ قال بعض العلماء: في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس، حيث جعلوا الإيمان بما ذكر، موجبا للنقمة، مع كونه في نفسه موجبا للقبول والرضا. وهذا مما تقصد العرب في مثله تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء وذلك الشيء لا يقتضى إثباته فهو منتف أبدا. ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس. فمن الأول قول القائل:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 505.(4/207)
وقول الآخر:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد، فما يبقى من المال باقيا
ومن الثاني هذه الآية وما يشبهها. أى: ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئا إلا هذا، وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئا إذا فليس هناك شيء ينقمونه، وما دام الأمر كذلك، فينبغي لهم أن يؤمنوا ولا يكفروا. وفيه أيضا تقريع لهم حيث قابلوا الإحسان بسوء الصنيع» «1» .
ثم تابع- سبحانه- التهكم بهم، وتعجب الناس من أفن رأيهم، مع تذكيرهم بسوء مصيرهم فقال: - قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ؟
والمشار إليه بقوله: ذلِكَ يعود إلى ما نقمه اليهود على المؤمنين من إيمانهم بالله وبالكتب السماوية وقيل يعود إلى الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب المعبر عنها بقوله: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. وتوحيد اسم الإشارة لكونه يشار به إلى الواحد وغيره. أو لتأويله بالمذكور ونحوه.
والخطاب لأهل الكتاب المتقدم ذكرهم وقيل للكفار مطلقا، وقيل للمؤمنين.
والمثوبة: مصدر ميمى بمعنى الثواب الثابت على العمل، وأكثر استعمالها في الخير.
وقد استعملت هنا بمعنى العقوبة على طريقة التهكم بهم كما في قوله- تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وهي منصوبة على أنها تمييز لقوله بِشَرٍّ.
وقوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ خبر لمبتدأ محذوف أى: هو من لعنه الله: والمراد اليهود لأن الصفات التي ذكرت في الآية لا تنطبق إلا عليهم.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين عابوا على المؤمنين إيمانهم بالله وبما أنزله من كتب سماوية والذين قالوا لكم: ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم قل لهم على سبيل التبكيت والتنبيه على ضلالهم: هل أخبركم بشر من أهل ذلك الدين عقوبة عند الله يوم القيامة؟ هو من لَعَنَهُ اللَّهُ أى أبعده من رحمته وَغَضِبَ عَلَيْهِ بأن منع عنه رضاه وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ بأن مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وجعل منهم من عبد الطاغوت أى: من عبد كل معبود باطل من دون الله كالأصنام والأوثان وغير ذلك من المعبودات الباطلة التي اتبعوها بسبب طغيانهم وفساد نفوسهم.
فإن قيل: إن قوله- قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً يفيد أن ما عابه اليهود على المؤمنين من إيمانهم بالله فيه شر. إلا أن ما عليه اليهود أشد شرا، مع أن إيمان المؤمنين لا شر فيه ألبتة بل هو عين الخير فكيف ذلك؟.
__________
(1) تفسير القاسمى ج 6 ص 251 وما بعدها بتصرف يسير.(4/208)
فالجواب، أن الكلام مسوق على سبيل المشاكلة، والمجاراة لتفكير اليهود الفاسد، وزعمهم الباطل، فكأنه- سبحانه- يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء اليهود- يا محمد- ينكرون عليكم إيمانكم بالله وبالكتب السماوية ويعتبرون ذلك شرا- مع أنه عين الخير- قل لهم على سبيل التبكيت وإلزامهم الحجة:
لئن كنتم تعيبون علينا إيماننا وتعتبرونه شرا لا خير فيه- في زعمكم فشر منه عاقبة ومآلا ما أنتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله، وما أصاب أسلافكم من مسخ بعضهم قردة، وبعضهم خنازير، وما عرف عنكم من عبادة لغير الله ... وشبيه بهذه الآية في مجاراة الخصم في زعمه قوله- تعالى- وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» .
وقوله: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ بيان لسوء عاقبتهم وقبح مكانتهم..
أى: أولئك المتصفون بما ذكر من الفسوق واللعن والطرد من رحمة الله أولئك المتصفون بذلك شَرٌّ مَكاناً من غيرهم وأكثر ضلالا عن طريق الحق المستقيم من سواهم، فهم في الدنيا يشركون بالله، وينتهكون محارمه وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار.
وقوله أُولئِكَ مبتدأ وقوله شَرٌّ خبره، وقوله مَكاناً تمييز محول عن الفاعل.
وأثبت- سبحانه- الشرية لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على كثرة شرورهم، إذ أن إثبات الشرية لمكان الشيء كناية عن إثباتها للشيء نفسه. فكأن شرهم قد أثر في مكانهم، أو عظم وضخم حتى صار متجسما.
وقوله: وَأَضَلُّ معطوف على شَرٌّ مقرر له. والمقصود من صيغتي التفضيل في قوله:
أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غيرهم في ذلك. أو بالنسبة إلى غيرهم من الكفار الذين لم يفجروا فجورهم، ولم يحقدوا على المؤمنين حقدهم.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض مظاهر نفاقهم وخداعهم فقال: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ.
قال الآلوسى: نزلت كما قال قتادة والسدى- في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. والضمير في جاؤُكُمْ يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة سبأ الآية 24.(4/209)
أى: وإذا جاء إليكم- أيها المؤمنون- أولئك اليهود أظهروا أمامكم الإسلام، وقالوا لكم آمنا بأنكم على حق، وحالهم وحقيقتهم أنهم قد دخلوا إليكم وهم متلبسون بالكفر، وخرجوا من عندكم وهم متلبسون به- أيضا- فهم يدخلون عليكم ويخرجون من عندكم وقلوبهم كما هي لا تتأثر بالمواعظ التي يلقيها الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم قد قست قلوبهم، وفسدت نفوسهم.
وقوله: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ، وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ جملتان في موضع الحال من ضمير الجمع في قالُوا.
والباء في قوله: بِالْكُفْرِ وقوله: بِهِ للملابسة. أى: دخلوا وخرجوا وهم متلبسون بالكفر من غير نقصان منه ولا تغيير فيه ألبتة.
قال الفخر الرازي: وذكر عند الدخول كلمة قَدْ وذكر عند الخروج كلمة هُمْ لأن الفائدة من ذكر كلمة قَدْ تقريب الماضي من الحال. والفائدة من ذكر كلمة هُمْ التأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل، أى: لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفرا، فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم» «1» .
ويبدو لنا أنه عبر عن دخولهم بقوله وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وعبر عن خروجهم بقوله: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ بإضافة ضميرهم مع قد، للإشارة إلى أنهم عند خروجهم كانوا أشد كفرا، وأقسى قلوبا منهم عند دخولهم.
وهذا شأن الجاحدين المنافقين، لا تؤثر فيهم العظات مهما كانت بليغة، ولا النذر مهما كانت قوية، بخلاف قلوب المؤمنين فإن المواعظ تزيدها يقينا على يقينها، وإيمانا على إيمانها. ألا ترى إلى قوله- تعالى-:
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ «2» .
وقوله- تعالى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ وعيد شديد لهم على كفرهم ونفاقهم.
أى: والله- تعالى- أعلم بما كانوا يخفونه من نفاق وخداع عند دخولهم وعند خروجهم، لأنه- سبحانه- لا تخفى عليه خافية من أحوالهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 28. [.....]
(2) سورة التوبة. الآيتان 124 و 125.(4/210)
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من رذائلهم فقال: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ.
والرؤية في قوله: وَتَرى بصرية.
والإثم: هو كل قول أو عمل لا يرضاه الله- تعالى-.
والعدوان: مجاوزة الحد في الظلم والتعدي. والسحت: هو المال الحرام كالرشوة وغيرها.
أى: وترى- أيها الرسول الكريم أو أيها السامع- كثيرا من هؤلاء اليهود، يسارعون في ارتكاب الآثام وفي التعدي والظلم وأكل المال الحرام بدون تردد أو تريث. والتعبير بقوله:
وَتَرى يفيد أن ارتكابهم لهذه المنكرات لم يكن خافيا أو مستورا، وإنما هم يرتكبونها مجاهرة وعلانية، لأن فضيلة الحياء قد نضبت من وجوههم.
والمسارعة في الشيء: المبادرة إليه بسرعة وخفة ونشاط، وأكثر استعمالها في الخير كما قال- تعالى- أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ «1» نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ «2» وقد استعملت هنا في مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت، للإشارة إلى أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات وكأنهم محقون فيها.
والتعدية بحرف فِي تؤذن بأنهم مغمورون في الآثام وأنهم يتنقلون فيها من حال إلى حال أخرى شر منها، حتى لكأن السير في طريق الحق والصدق والفضيلة صار غير مألوف عندهم.
وقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ تذييل قصد به تقبيح أعمالهم التي يأباها الدين والخلق الكريم.
أى: لبئس شيئا كانوا يعملونه هذه المنكرات التي منها مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت.
وهذه الجملة هي حكم من الله- تعالى- عليهم بذم أعمالهم. وقد جمع- سبحانه- في حكمه بين صيغة الماضي كانُوا وصيغة المضارع يَعْمَلُونَ للإشارة إلى أن هذا العمل القبيح كان منهم في الماضي، وأنهم قد استمروا عليه في حاضرهم ومستقبلهم بدون توبة أو ندم.
وقد أكد- سبحانه- هذا الحكم بالقسم، وباللام الموطئة للقسم، وبكلمة بئس الدالة على
__________
(1) سورة المؤمنون. الآية 61.
(2) سورة المؤمنون الآية 56.(4/211)
شدة الذم. أى: أقسم لبئس العمل الذي كان هؤلاء يعملونه من مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت.
ثم وبخ- سبحانه- رؤساء هؤلاء اليهود على سكوتهم على المنكر فقال:
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ.
ولَوْلا هنا للحض على الفعل في المستقبل، وللتوبيخ على تركه في الماضي فهي لتوبيخ علماء اليهود على تركهم فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في الماضي. ولحضهم على مباشرتها في المستقبل. وهي هنا بمعنى هلا.
والربانيون: كما يقول ابن جرير- جمع رباني. وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم.
والأحبار- جمع حبر- وهم علماء اليهود وفقهاؤهم المفسرون لما ورد في التوراة من أقوال وأحكام.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود دأبهم المسارعة إلى اقتراف الآثام وإلى أكل المال الحرام، فهلا ينهاهم علماؤهم عن هذه الأقوال الكاذبة الباطلة، وعن تلك المآكل الخبيثة التي أكلوها عن طريق السحت.
والسحت- كما سبق أن بينا- هو المال الحرام كالربا والرشوة. سمى سحتا من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة أى مقطوعها. أو لأنه يذهب فضيلة الإنسان ويستأصلها.
واليهود أرغب الناس في المال الحرام وأحرصهم عليه.
وقد وبخ الله- تعالى- علماء اليهود وفقهاءهم على عدم نهيهم لهم عن قولهم الإثم وأكلهم السحت، لأن هاتين الرذيلتين هما جماع الرذائل، إذ القول الباطل الكاذب إذا ما تعود عليه الإنسان هانت عليه الفضائل، وقال في الناس ما ليس فيهم بدون تحرج أو حياء. وأكل السحت يقتل في نفسه المروءة والشرف، ويجعله يستهين بحقوق الناس وأموالهم.
ولقد ألف علماء اليهود أكل أموال الناس بالباطل بدعوى أن هذا الأكل سيغفره الله لهم، ألا ترى قول الله- تعالى-: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا «1» .
قال بعض العلماء: واقتصر- سبحانه- في توبيخ الربانيين على ترك نهيهم عن قول الإثم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 169.(4/212)
وأكل السحت، ولم يذكر العدوان- الذي ورد في الآية السابقة إيماء إلى أن العدوان يزجرهم عنه المسلمون ولا يلتجئون في زجرهم إلى غيرهم لأن الاعتماد في النصرة على غير المجنى عليه ضعف» «1» .
وقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ تذييل قصد به ذم علماء اليهود بسبب تركهم لفضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وقوله: يَصْنَعُونَ من الصنع وهو العمل بدقة ومهارة وإحكام.
أى: والله لبئس الصنع صنعهم حيث تركوا نهى عامتهم عن قول الإثم وأكل السحت.
وقد تكلم المفسرون عن السر في أن الله تعالى- ذم اليهود بقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وذم علماءهم وفقهاءهم بقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ.
وقد أجاد الكلام عن ذلك الإمام الرازي فقال: والمعنى، أن الله- تعالى- استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي، وذلك يدل على أن تارك النهى عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه- تعالى- ذم الفريقين.. بل نقول: إن ذم تارك النهى عن المنكر أقوى، لأنه- سبحانه- قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وقال في العلماء التاركين للنهى عن المنكر لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ والصنع أقوى من العمل، لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار راسخا متمكنا، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ. وذنب التاركين للنهى عن المنكر ذنبا راسخا. والأمر في الحقيقة كذلك، لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان كمثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء إلا أن المرض بقي كما هو» «2» .
وقال ابن جرير: كان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها «3» .
وقال ابن كثير: روى الإمام أحمد عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا، إلا أصابهم الله منه بعذاب.
وروى ابن أبى حاتم عن يحيى بن يعمر قال: خطب على بن أبى طالب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس!! إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج 6 ص 248
(2) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 39
(3) تفسير ابن جرير ج 6 ص 298(4/213)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
والأحبار. فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم. واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يقطع رزقا، ولا يقرب أجلا «1» .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد وبخت اليهود على حسدهم للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، ووصفتهم بجملة من الصفات الذميمة حتى يحذرهم المؤمنون، ويجعلوا ولاءهم لله ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة والدين.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك لونا آخر من سوء معتقد اليهود، وخبث طويتهم، وسوء أدبهم مع الله- تعالى- فقال:
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قال ابن عباس: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: يا محمد إن ربك بخيل لا ينفق. فأنزل الله هذه الآية «2» .
وقد أضاف- سبحانه- المقالة إلى اليهود جميعا، لأنهم لم ينكروا على القائل ما قاله ورضوا به.
وقال عكرمة: إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه. فقد كانت لهم أموال فلما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قل ما لهم، فقالوا ما قالوا.
وقيل: إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قالوا: إن إله محمد بخيل «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 74
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 75
(3) تفسير القرطبي ج 6 ص 238(4/214)
وقوله- تعالى- حكاية عنهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ إخبار من الله عن جراءة اليهود عليه- سبحانه- وسوء أدبهم معه، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التي لا تحصى.
وأرادوا بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ: أنه- سبحانه- بخيل عليهم، ممسك خيره عنهم، مانع فضله عن أن يصل إليهم، حابس عطاءه عن الاتساع لهم، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف.
وأصل الغل- كما يقول الراغب- تدرع الشيء وتوسطه، ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر. والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه، وجمعه أغلال «1» .
وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم، لأن الله- تعالى- منزه عن مشابهة الحوادث. وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء.
والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال، لا سيما في دفع المال وإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد، مبسوط الكف، وقيل للبخيل: مقبوض اليد، كز الكف.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله: «غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ومنه قوله- تعالى- وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط. ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة، حتى إنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود.
وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقول القائل:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده
ويقال: بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفين.
وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف «غل اليد وبسطها مجاز» فقال:
والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا، وهي بسط اليد للجود وقبضها للبخل، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن، فلما كان الجود
__________
(1) المفردات في غريب القرآن ص 263(4/215)
والبخل معنيين لا يدر كان بالحس. عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات «1» .
وقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا دعاء عليهم بالشح المرير والبخل الشنيع بأن يخلق- سبحانه- فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله، وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله- تعالى- بسبب سوء أدبهم معه- سبحانه- وجحودهم لنعمه.
وهذه الجملة تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم، وأساءوا الأدب مع خالقهم ورازقهم، فقالوا في شأنه ما هو منزه عنه- تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قال الآلوسى ما ملخصه: ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدى الحقيقة، بأن يغلوا في الدنيا أسارى- وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم. ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا. وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقوله: سبني سب الله دابره أى قطعه، لأن السب أصله القطع «2» .
وقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ معطوف على مقدر يقتضيه المقام، وتكذيب لهم فيما قالوه من باطل.
والمعنى: كلا- أيها اليهود- ليس الأمر كما زعمتم من قول باطل، بل هو- سبحانه- الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه.
فبسط اليد هنا كناية عن الجود والفضل والإنعام منه- سبحانه- على خلقه.
وعبر بالمثنى فقال: بَلْ يَداهُ للإشارة إلى كثرة الفيض والإنعام، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء أعطى بكلتا يديه.
قال ابن كثير قوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أى: بل هو الواسع الفضل. الذي ما يخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له. كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ والآيات في هذا كثيرة.
وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة- أى لا ينقصها الإنفاق- سحاء- أى مليئة- الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه. وكان عرشه على الماء، وفي يده الأخرى
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 655
(2) تفسير الآلوسى ج 6 ص 108(4/216)
الفيض- أو القبض- يرفع ويخفض وقال: يقول الله- تعالى-: أنفق أنفق عليك» «1» .
وقوله: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده، والدلالة على أنه على مقتضى حكمته ومشيئته فهو- سبحانه- يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقبضه عمن يشاء أن يقبضه عنه، وقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه لا ينافي سعة كرمه، لأنه يعطى ويمنع على حسب مشيئته التي أقام بها نظام خلقه.
ثم بين- سبحانه- موقفهم الجحودى مما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً.
أى: إن ما أنزلنا عليك يا محمد من قرآن كريم، وما أطلعناك عليه من خفى أمور هؤلاء اليهود، ومن أحوال سلفهم كل ذلك ليزيدن الكثيرين منهم كفرا على كفرهم، وطغيانا على طغيانهم، وذلك لأنهم قوم أكل الحقد قلوبهم، واستولى الحسد على نفوسهم.
وإذا كان ما أنزلناه إليك يا محمد فيه الشفاء لنفوس المؤمنين، فإنه بالنسبة لهؤلاء اليهود يزيدهم بغيا وظلما وكفرا.
قال- تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «2» .
فالجملة الكريمة بيان لموقف اليهود الجحودى من الآيات التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهي في الوقت ذاته تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يلقاه منهم.
وقد أكد- سبحانه- هذه الجملة بالقسم المطوى، وباللام الموطئة له، ونون التوكيد الثقيلة لكي ينتفى الرجاء في إيمانهم، وليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة، وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع.
وقوله كَثِيراً هو المفعول الأول لقوله وَلَيَزِيدَنَّ وفاعله ما الموصولة في قوله ما أُنْزِلَ وقوله طُغْياناً هو المفعول الثاني.
ثم زاد- سبحانه- في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم فأصدر حكمه فيهم بدوام العداوة والبغضاء بين طوائفهم وفرقهم فقال: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فالضمير في قوله بَيْنَهُمُ يعود إلى فرق اليهود المختلفة من فريسيين وصدوقيين وقرائين، وكتبة وغير ذلك من فرقهم المتعددة.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 75 [.....]
(2) سورة الإسراء الآية 82(4/217)
وقيل: الضمير يعود إلى طائفتى اليهود والنصارى.
والأول أرجح لأن الحديث في هذه الآية عن اليهود الذين وصفوا الله- تعالى- بما هو منزه عنه.
والعداوة والبغضاء يرى بعضهم أنهما اسمان لمعنى واحد.
ويرى آخرون أن معناهما مختلف. فالعداوة معناها المناوأة الظاهرة، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب. فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا. فلا عداوة من غير بغضاء، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة.
قال أبو حيان: والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس التي تكون في القلب. فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا. فلا عداوة من غير بغضاء، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة.
قال أبو حيان: والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو. وقال ابن عطية. وكأن العداوة شيء يشهد، يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء لا تتجاوز النفوس «1» .
والمعنى: وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة العداوة الدائمة، والبغضاء المستمرة، فأنت تراهم كلمتهم مختلفة، وقلوبهم شتى وكل فرقة منهم تلصق النقائص بالأخرى، وهم على هذه الحال إلى يوم القيامة.
وما أظهره اليهود في هذا العصر من تعاون وتساند جعلهم ينشئون دولة لهم بفلسطين، هو أمر مؤقت، فإن هذه الدولة لن تستمر طويلا، بل ستعود إلى أهلها المسلمين متى صدقوا في جهادهم واتبعوا تعاليم دينهم.
قال الفخر الرازي: واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أنه- تعالى- بين أن هؤلاء اليهود إنما ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم بعد ظهور الدلائل على صحتها، لأجل الحسد. ولأجل حب الجاه والمال. ثم إنه- تعالى- بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة، لا جرم أنه- تعالى- كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته.. فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم. وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا. ويحارب بعضهم بعضا.
فإن قلت: فهذا المعنى حاصل أيضا بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيبا على الكتابيين حتى يذموا عليه؟
قلنا: بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين. أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيبا
__________
(1) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 3 ص 524(4/218)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن» «1» .
وقوله: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أى: كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهيئوا الأسباب لذلك وحاولوا تفريق كلمتهم وإثارة العداوة بينهم. كلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم، وأحبط مكرهم، وألقى الرعب في قلوبهم.
والتعبير بهذه الجملة الكريمة جاء على وفق ما جرى عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم أوقدوا نارا يسمونها نار الحرب.
والتعبير هنا لذلك على سبيل المجاز إذ عبر- سبحانه- عن إثارة الحروب بإيقاد نارها.
باعتبار أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعرة في أخطارها ومصائبها.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ تذييل مقرر لما قبله من الصفات الذميمة التي دمغ الله- تعالى- بها اليهود.
أى: أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وأنهم يسعون سعيا حثيثا للإفساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن، وإيقاظ الأحقاد بين الناس. والله- تعالى- لا يحب المفسدين بل يبغضهم ويمقتهم، لإيثارهم الضلالة على الهدى، والشر على الخير.
وبهذا نرى الآية الكريمة قد ردت على اليهود في نسبتهم البخل إلى الله- تعالى- وبينت أنه- سبحانه- هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء وكشفت عن جوانب من رذائلهم وعنادهم وأوضحت أنه- سبحانه- يبغضهم لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ولقد بسطنا القول في مظاهر فسادهم في الأرض في غير هذا الموطن فارجع إليه إن شئت «2» .
وبعد أن حكى- سبحانه- ما حكى من رذائل أهل الكتاب وخصوصا اليهود عقب ذلك بفتح باب الخير لهم متى آمنوا واتقوا فقال- تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 45
(2) راجع كتابنا «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» ج 2 من ص 288 إلى ص 320(4/219)
والمعنى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ من اليهود والنصارى آمَنُوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من حق ونور وَاتَّقَوْا الله- تعالى- بأن صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضاه. لو أنهم فعلوا ذلك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ بأن رفعنا عنهم العقاب وسترنا عليهم معاصيهم فلم نحاسبهم عليها، وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ في الآخرة.
قال الفخر الرازي: واعلم أنه- سبحانه- لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم عقب ذلك ببيان أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا. أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين:
أحدهما: رفع العقاب.
والثاني: إيصال الثواب.
أما رفع العقاب فهو المراد بقوله: لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. وأما إيصال التواب فهو المراد بقوله: وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وأما سعادات الدنيا فقد ذكرها في قوله بعد ذلك: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ «1» .
وكرر- سبحانه- اللام في قوله: لَكَفَّرْنا. وَلَأَدْخَلْناهُمْ لتأكيد الوعد. وفيه تنبيه إلى كثرة ذنوبهم ومعاصيهم وإلى أن الإسلام يجب ما قبله من ذنوب مهما كثرت.
وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.
وجمع- سبحانه- بين الإيمان والتقوى، للإيذان بأن الإيمان الذي ينجى صاحبه، ويرفع درجاته، هو ما كان نابعا عن يقين وإخلاص وخشية من الله، لا إيمان المنافقين الذين يدعون الإيمان وهو منهم برىء والضمير في قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعود إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين فتح الله لهم باب الإيمان ليدخلوا فيه كي ينالوا رضاه.
والمراد بإقامة التوراة والإنجيل: العمل بما فيهما من بشارات بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وحضهم على
__________
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 46- بتصريف وتلخيص-(4/220)
الإيمان به عند ظهوره وتنفيذ ما اشتملا عليه من أحكام أيدتها تعاليم الإسلام، وأصل الإقامة الثبات في المكان. ثم استعير في إقامة الشيء لتوفية حقه.
والمراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن الكريم، لأنهم مخاطبون به، وليسوا خارجين عن دائرة التكاليف التي دعا إليها.
قال- تعالى- وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «1» أى: لأنذركم به يا أهل مكة، ولأنذر به أيضا جميع من بلغه هذا الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم.
وقيل: المراد بما أنزل إليهم من ربهم. كتب أنبيائهم السابقين مثل كتاب شعياء، وكتاب حزقيل، وكتاب دانيال. فإنها مشتملة أيضا على البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد بقوله: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ المبالغة في شرح ما ينعم الله به عليهم من خيرات وأرزاق تعمهم من كل جهة من الجهات لا أن هناك فوقا وتحتا.
أى: لأكلوا أكلا متصلا وفيرا، ولعمهم الخير والرزق من كل جهة بأن تعطيهم السماء مطرها وبركتها، وتعطيهم الأرض نباتها وخيرها، فيعيشوا في رغد من العيش وفي بسطة من الرزق.
وفي ذلك دلالة على أن الاستقامة على شرع الله، تأتى بالرزق الرغيد، ولقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في آيات كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-:
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «2» .
وقال- تعالى- حكاية عن هود أنه قال لقومه: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ «3» .
والمعنى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أى اليهود والنصارى أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بأن عملوا بما فيهما من أقوال تدعوهم إلى الإيمان بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتركوا تحريف الكلم عن مواضعه.
ولو أنهم- أيضا آمنوا بما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من قرآن مجيد فيه هدايتهم وسعادتهم لو أنهم فعلوا ذلك لأتاهم الرزق الواسع من كل ناحية ولعمهم الخير من كل جهة، ولعاشوا آمنين مطمئنين.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة الجن الآية 16
(3) سورة هود الآية 52(4/221)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها.
ومفعول «أكلوا» محذوف لقصد التعميم. أو القصد إلى نفس الفعل كما في قولهم: فلان يعطى ويمنع.
وقوله: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ مدح للقلة التي تستحق المدح من أهل الكتاب» وذم للكثيرين منهم الذين قبح عملهم وفسدت نفوسهم.
والأمة: الجماعة من الناس الذين يجمعهم دين واحد. أو جنس واحد. أو مكان واحد.
ومقتصدة من الاقتصاد وهو الاعتدال في كل شيء والمراد به هنا: السير على الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق والخير، وهو طريق الإسلام.
والمعنى: من أهل الكتاب جماعة مستقيمة على طريق الحق، وهم قلة آمنت بالنبي- صلى الله عليه وسلم وإلى جوار هذه الجماعة القليلة المستقيمة عدد كبير من أهل الكتاب ساء عملهم، واعوج سلوكهم، وكان من حالهم ما يثير العجب والدهشة.
والمراد بهذه الأمة المقتصدة من أهل الكتاب من دخل منهم في الإسلام واتبع ما جاء به النبي- صلى الله عليه وسلم.
وبذلك نرى هاتين الآيتين قد بشرت أهل الكتاب بالسعادة الدنيوية والأخروية متى آمنوا بالله تعالى- واتبعوا ما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن حكى الله- تعالى- في الآيات السابقة ما كان عليه أعداء الإسلام- وخصوصا اليهود- من محاولات لفتنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن دسائس حاكوها لعرقلة سير الدعوة الإسلامية، ومن استهزاء بتعاليم الإسلام ومن حقد على المؤمنين لإيمانهم برسل الله وكتبه ومن سوء أدب مع خالقهم ورازقهم. بعد أن حكى- سبحانه- كل ذلك، أتبعه بتوجيه نداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمره فيه بأن يمضى في تبليغ رسالته إلى الناس دون أن يلتفت إلى مكر الماكرين، أو حقد الحاقدين. فإنه- سبحانه- قد حماه وعصمه منهم فقال:
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)(4/222)
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى أنمار، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل. فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال الحارث من بنى النجار: لأقتلن محمدا فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطنى سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. قال: فأتاه فقال يا محمد. أعطنى سيفك أشيمه- أى أراه- فأعطاه إياه- فرعدت يده حتى سقط السيف من يده: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الله بينك وبين ما تريد.
فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية «1» .
قال الفخر الرازي- بعد أن ذكر عشرة أقوال في سبب نزولها- واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمل الآية على أن الله- تعالى- آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها» «2» .
وهذا الذي قاله الإمام الرازي هو الذي تسكن إليه النفس أى أن الآية الكريمة ساقها الله- تعالى- لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه وأمره بالمضي في تبليغ رسالته بدون خوف من أعدائه الذين حدثه عن مكرهم به وكراهتهم له، حديثا مستفيضا، وقد بشره- سبحانه- في هذه الآية بأنه حافظه من مكرهم وعاصمه من كيدهم.
وقوله: بَلِّغْ من التبليغ بمعنى: إيصال الشيء إلى المطلوب إيصاله إليه.
والمعنى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الكريم المرسل إلى الناس جميعا بَلِّغْ أى: أوصل إليهم ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أى: كل ما أنزل إليك من ربك من الأوامر والنواهي والأحكام والآداب والأخبار دون أن تخشى أحدا إلا الله. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرت به من إيصال وتبليغ جميع ما أنزل إليك من ربك إلى الناس فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أى: وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك من ربك كنت كمن لم يبلغ شيئا مما أوحاه الله إليه، لأن ترك بعض الرسالة يعتبر تركا لها كلها.
وقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله: قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أى: وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك. فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أى: فلم تبلغ إذا ما كلفت به من أداء الرسالة، ولم تؤد منها شيئا قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض وإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدلى به
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 79.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 79(4/223)
غيرها، وكونها لذلك في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به» «1» .
وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بوصف الرسالة تشريف له وتكريم وتمهيد لما يأمره به الله من وجوب تبليغ ما كلف بتبليغه إلى الناس دون أن يخشى أحدا سواه.
لأن الله- تعالى- هو الذي خلقه ورباه وتعهده بالرعاية والحماية. وهو الذي اختاره لحمل هذه الرسالة دون غيره، فمن الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل إليه منه- سبحانه- قال الجمل: وقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ظاهر هذا التركيب اتحاد الشرط والجزاء، لأنه يؤول ظاهرا إلى وإن لم تفعل فما فعلت، مع أنه لا بد وأن يكون الجواب مغايرا للشرط لتحصل الفائدة ومتى اتحدا اختل الكلام.
وقد أجاب عن ذلك ابن عطية بقوله أى: وإن تركت شيئا فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به فصار المعنى: وإن لم تستوف ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا» «2» .
وقال صاحب الانتصاف ما ملخصه: ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوما عند الناس أنه عظيم شنيع، ينقم على مرتكبه بل إن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول: لما كان الأمر كذلك استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء، للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كان من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز يذكر الشرط عاما بقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم يقل: فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة، حتى يكون اللفظ متغايرا، وهذه المغايرة اللفظية- وإن كان المعنى واحدا- أحسن رونقا، وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان» «3» .
هذا، ومن المعلوم الذي لا خفاء فيه عند كل مسلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أمره الله به البلاغ التام، وقام به أتم القيام دون أن يزيد شيئا على ما كلفه به ربه أو ينقص شيئا.
وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من النصوص التي تشهد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد امتثل أمر الله في تبليغ رسالته، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة أنها قالت لمسروق: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 956
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 510
(3) حاشية الكشاف ج 1 ص 658(4/224)
والله يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية.
ثم قال: ابن كثير: وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بإبلاغ الرسالة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع. فقد قال في خطبته يومئذ: «أيها الناس، إنكم مسئولون عنى فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت» «1» .
وقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وعد منه- سبحانه- بحفظ نبيه من كيد أعدائه.
وقوله: يَعْصِمُكَ من العصم بمعنى الإمساك والمنع. وأصله- كما يقول ابن جرير- من عصام القربة، وهو ما تربط به من سير وخيط ومنه قول الشاعر:
وقلت عليكم بمالك إن مالكا ... سيعصمكم إن كان في الناس عاصم
أى: سيمنعكم «2» .
والمعنى: عليك يا محمد أن تبلغ رسالة الله دون أن تخشى أحدا سواه، والله- تعالى- يحفظك من كيد أعدائك ويمنعك من أن تعلق نفسك بشيء من شبهاتهم واعتراضاتهم ويصون حياتك عن أن يعتدى عليها أحد بالقتل أو الإهلاك:
فالمراد بالعصمة هنا: عصمة نفسه وجسمه صلى الله عليه وسلم من القتل أو الإهلاك، وعصمة دعوته من أن يحول دون نجاحها حائل. وهذا لا ينافي ما تعرض له صلى الله عليه وسلم من بأساء وضراء وأذى بدني، فقد رماه المشركون بالحجارة حتى سالت دماؤه، وشج وجهه وكسرت رباعيته في غزوة أحد.
والمراد بالناس هنا: المشركون والمنافقون واليهود ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال والعناد، إذ ليس في المؤمنين الصادقين إلا كل محب لله ولرسوله.
ولقد تضمنت هذه الجملة الكريمة معجزة كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصم الله- تعالى- حياة رسوله عن أن يصيبها قتل أو إهلاك على أيدى الناس مهما دبروا له من مكر وكيد.
لقد نجاه من كيدهم عند ما اجتمعوا لقتله في دار الندوة ليلة هجرته إلى المدينة.
ونجاه من كيد اليهود عند ما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم.
ونجاه من مكرهم عند ما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم.
ونجاه من مكرهم عند ما وضعت إحدى نسائهم السم في طعام قدم إليه صلى الله عليه وسلم.
إلى غير ذلك من الأحداث التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه. ولكن الله- تعالى- نجاه منهم «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 77 [.....]
(2) تفسير ابن جرير ج 6 ص 39
(3) إذا أردت المزيد من ذلك فارجع إلى كتاب «أعلام النبوة» للماوردى.(4/225)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
وهناك آثار تشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس من بعض أصحابه فلما نزلت هذه الآية صرفهم عن حراسته.
فقد أخرج الترمذي والحاكم وابن أبى حاتم وابن جرير عن عائشة قالت: كان رسول الله يحرس ليلا حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: «أيها الناس انصرفوا لقد عصمنى الله» «1» .
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تذييل قصد به تعليل عصمته صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلبه أى: إن الله- تعالى- لا يهدى القوم الكافرين إلى طريق الحق بسبب عنادهم وإيثارهم الغي على الرشد. ولا يوصلهم إلى ما يريدونه من قتلك ومن القضاء على دعوتك، بل سينصرك عليهم ويجعل العاقبة لك.
وبعد هذا التثبيت والتكريم لنبيه. أمره- سبحانه- أن يصارح أهل الكتاب بما هم عليه من باطل وأن يدعوهم إلى اتباع الحق الذي جاء به فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
قال الآلوسى: أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس قال: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمركم أن تبينوه للناس فبرئت من أحداثكم. قالوا: فإن لم تأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى ولا نؤمن بك ولا نتبعك فأنزل الله قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية «2» .
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين امتدت أيديهم إلى كتبهم بالتغيير والتبديل. قل لهم يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ يعتد به من الدين أو العلم أو المروءة
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 78.
(2) تفسير الآلوسى ج 6 ص 200(4/226)
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
أى: لستم على شيء يقام له وزن من أمر الدين حتى تعملوا بما جاء في التوراة والإنجيل، من أقوال تبشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحتى تؤمنوا بما أنزل إليكم من ربكم من قرآن كريم يهدى إلى الرشد: لأنكم مخاطبون به، ومطالبون بتنفيذ أوامره ونواهيه، ومحاسبون حسابا عسيرا على الكفر به، وعدم الإذعان لما اشتمل عليه.
والتعبير بقوله- تعالى- لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ فيه ما فيه من الاستخفاف بهم، والتهوين من شأنهم، أى: لستم على شيء يعتد به ألبتة من أمر الدين. وذلك كما يقول القائل عن أمر من الأمور: هذا الأمر ليس بشيء يريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي الأمثال، أقل من لا شيء.
فالجملة الكريمة تنفى عنهم أن يكون في أيديهم شيء من الحق والصواب ماداموا لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي بشرت به التوراة والإنجيل وأنزل الله عليه القرآن وهو الكتاب المهيمن على الكتب السماوية السابقة.
وقوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً جملة مستأنفة مبينة لغلوهم في العناد والجحود، وناعية عليهم عدم انتفاعهم بما يشفى النفوس، ويصلح القلوب.
والضمير في قوله مِنْهُمْ يعود إلى أهل الكتاب.
أى: وإن ما أنزلناه إليك يا محمد من هدايات وخيرات ليزيدن هؤلاء الضالين من أهل الكتاب طغيانا على طغيانهم. وكفرا على كفرهم لأن نفوسهم لا تميل إلى الحق والخير وإنما تنحدر نحو الباطل والشر.
وقوله: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ تذييل قصد به تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والفاء للإفصاح.
والأسى: الحزن. يقال: أسى فلان على كذا يأسى أسى إذا حزن.
أى: إذا كان شأن الكثيرين كذلك فلا تحزن عليهم، ولا تتأسف على القوم الكافرين فإنهم هم الذين استحبوا العمى على الهدى، وفي المؤمنين غنى لك عنهم.
وليس المراد نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن والأسى، لأنهما أمران طبيعيان لا قدرة للإنسان عن صرفهما، وإنما المراد نهيه عن لوازمهما، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب وتعظيم أمرها وبذلك تتجدد الآلام ويحزن القلب.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن الناس أمامه سواء وأنه لا تفاضل بينهم إلا بالإيمان والعمل الصالح، وأن الايمان الحق يقطع ما قبله من عقائد زائفة. وأفعال سيئة فقال- تعالى-:(4/227)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
فالآية الكريمة تبين أن أساس النجاة يوم القيامة هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وما يستتبع ذلك من أفعال طيبة وأعمال صالحة.
وقد ذكر- سبحانه- في هذه الآية أربع فرق من الناس:
أما الفرقة الأولى: فهي فرقة المؤمنين، وهم الذين عبر عنهم- سبحانه- بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أى: آمنوا إيمانا صادقا، بأن أذعنوا للحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه في كل ما جاء به.
وقد ابتدأ القرآن بهم لشرفهم وعلو منزلتهم وللإشعار بأن دين الإسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك.
والفرقة الثانية: فرقة الذين هادوا. أى اليهود. يقال: هاد وتهود إذا دخل في اليهودية.
وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب- عليه السلام- وقد قلبت الذال في كلمة يهوذا دالا في التعريب. أو سموا حين تابوا من عبادة العجل من هاد يهود هودا بمعنى تاب ومنه قوله- تعالى- إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أى: تبنا ورجعنا إليك.
والفرقة الثالثة: فرقة الصابئين جمع صابئ وهو الخارج من دين إلى دين. يقال صبا الظلف والناب والنجم- منع وكرم- إذا طلع.
والمراد بهم قوم يعبدون الملائكة، أو الكواكب ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم، ولا تزال بقية منهم تعيش في تخوم العراق، ومن العسير الجزم بحقيقة معتقدهم، لأنهم أكتم الناس لعقائدهم.
وأما الفرقة الرابعة: فهي فرقة النصارى جمع نصران بمعنى نصراني قيل سموا بذلك لأنهم ادعوا أنهم أنصار عيسى- عليه السلام- وقيل سموا بذلك نسبة إلى قرية الناصرة التي ظهر بها عيسى- عليه السلام- واتبعه بعض أهلها.
والإيمان المشار إليه في قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يفسره بعض العلماء بالنسبة(4/228)
لليهود والنصارى والصابئين بمعنى صدور الإيمان منهم على النحو الذي قرره الإسلام. فمن لم تبلغه منهم دعوة الإسلام، وكان ينتمى إلى دين صحيح في أصله بحيث يؤمن بالله واليوم الآخر ويقوم بالعمل الصالح على الوجه الذي يرشده إليه دينه، فله أجره على ذلك عند ربه.
أما الذين بلغتهم دعوة الإسلام من تلك الفرق ولكنهم لم يقبلوها فإنهم لا يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا أنهم يؤمنون بغيرها لأن شريعة الإسلام قد نسخت ما قبلها، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى» .
ويفسرونه- أى الإيمان المشار إليه سابقا- بالنسبة للمؤمنين الذين عبر الله عنهم بقوله:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا على أنه بمعنى الثبات والدوام والإذعان، وبذلك ينتظم عطف قوله- تعالى- وَعَمِلَ صالِحاً على قوله آمَنَ مع مشاركته هؤلاء المؤمنين لتلك الفرق الثلاث فيما يترتب على العمل الصالح من ثواب جزيل وعاقبة حميدة.
وبعض العلماء يرى أن معنى مَنْ آمَنَ أى: من أحدث من هذه الفرق إيمانا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه.
قالوا: لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام، وأما بيان من مضى على دين آخر قبل نسخه فلا ملابسة له بالمقام، فضلا عن أن الصابئين ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات.
وقوله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بيان لحسن عاقبتهم، وجزيل ثوابهم.
أى. فلا خوف عليهم من أهوال يوم القيامة بل هم في مأمن منها، ولا هم يحزنون على ما مضى من أعمارهم لأنهم أنفقوها في العمل الصالح.
هذا وقد قرأ جمهور القراء وَالصَّابِئُونَ بالرفع. وقرأ ابن كثير بالنصب.
وقد ذكر النحويون وجوها من الإعراب لتخريج قراءة الرفع التي قرأها الأكثرون، ولعل خير هذه الوجوه ما ذكره الشيخ الجمل في قوله: وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أى: إيمانا حقا لا نفاقا. وخبر إن محذوف تقديره: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. دل عليه المذكور، وقوله: وَالَّذِينَ هادُوا مبتدأ. فالواو لعطف الجمل أو للاستئناف وقوله وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى عطف على هذا المبتدأ. وقوله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. خبر عن هذه المبتدءات الثلاثة. وقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من كل منها بدل بعض من كل فهو مخصص. فكأنه قال: الذين آمنوا من اليهود والنصارى ومن الصابئين لا خوف عليهم ولا هم(4/229)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
يحزنون. فالإخبار عن اليهود ومن بعدهم بما ذكر مشروط بالإيمان لا مطلقا «1» .
وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر فقال: قوله: وَالصَّابِئُونَ رفع على الابتداء وخبره محذوف. والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها. كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا. والصابئون كذلك.
ثم قال: فإن قلت ما التأخير والتقديم إلا لفائدة فما فائدة هذا التقديم؟
قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فما الظن بغيرهم؟ وذلك لأن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها أى: خرجوا» «2» .
والخلاصة، أن الآية الكريمة مسوقة للترغيب في الإيمان والعمل الصالح ببيان أن كل من آمن بالله واليوم الآخر، واتبع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واستمر على هذا الإيمان وهذا الاتباع إلى أن فارق هذه الحياة، فإن الله- تعالى- يرضى عنه ويثيبه ثوابا حسنا، وبتجاوز عما فرط منه من ذنوب، لأن الإيمان الصادق يجب ما قبله، من عقائد زائفة، وأعمال باطلة وأقوال فاسدة.
وبعد أن فتح- سبحانه- باب الإيمان أمام أهل الكتاب وغيرهم لكي يدخلوه فينالوا رضاه ومثوبته. عقب ذلك باستئناف الحديث من أنواع أخرى من الرذائل التي عرفت عن بنى إسرائيل فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 511.
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 661(4/230)
والمراد بالميثاق في قوله: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ: العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم بواسطة أنبيائهم بأن يؤدوا ما كلفهم به من تكاليف وأن يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند ظهوره.
وقد أكد الله هذا الميثاق الذي أخذه عليهم بلام القسم وبقد المفيدة للتحقيق أى: بالله لقد أخذنا الميثاق على بنى إسرائيل بأن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا، وبأن ينفذوا ما كلفتهم به من المأمورات والمنهيات والشرائع والأحكام.
وقوله وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا معطوف على أَخَذْنا والتنكير في قوله: رُسُلًا للتكثير والتعظيم.
أى: أخذنا العهد المؤكد عليهم بأن يسيروا على الطريق المستقيم، وأرسلنا إليهم رسلا ذوى عدد كثير، وأولى شأن خطير، لكي يتعهدوهم بالتبشير والإنذار، ولكي يرشدوهم إلى ما يأتون وما يذرون من أمور دينهم.
فأنت ترى أن الله- تعالى- مع أخذه الميثاق عليهم لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم الرسل ليعينوهم على تنفيذ ما جاء به.
ولم يذكر- سبحانه- هنا موضوع هذا الميثاق، اكتفاء بذكره في مواطن أخرى كثيرة. ومن ذلك قوله- تعالى- قبل ذلك في هذه السورة:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ، لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ. وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية «1» .
وقوله- تعالى- في سورة البقرة: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ.. الآية «2» .
وقوله: كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ بيان لموقفهم الذميم من الميثاق الذي أخذ عليهم ومن الرسل الكرام الذين أرسلهم الله لهدايتهم وسعادتهم.
أى: أخذنا الميثاق المؤكد عليهم، وأرسلنا إليهم رسلا كثيرين لهدايتهم ولكنهم نقضوا الميثاق، وعصوا الرسل، فكانوا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بما لا تشتهيه نفوسهم الشقية، وبما لا تميل إليه قلوبهم الردية، ناصبوه العداء فكذبوا بعض الرسل، ولم يكتفوا مع البعض الآخر بالتكذيب بل أضافوا إليه القتل.
ولقد كذب اليهود جميع الرسل الذين جاءوا لهدايتهم ولم يؤمن بهم إلا قلة منهم. وقتلوا من
__________
(1) سورة المائدة الآية 12
(2) سورة البقرة الآية 83(4/231)
بين من قتلوا من الرسل بعد أن كذبوهم: زكريا ويحيى، وحاولوا قتل عيسى- عليه السلام- كما حاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن الله- تعالى- نجاهما من مكرهم وكيدهم.
قال صاحب الكشاف: وقوله: كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ جملة شرطية وقعت صفة لقوله:
رُسُلًا. والرابط محذوف: أى: رسول منهم بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أى بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم.
فإن قلت: أين جواب الشرط قلت: هو محذوف يدل عليه فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ فكأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه» «1» .
والتعبير بقوله: كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ يدل على أن حال بنى إسرائيل بالنسبة للرسل يدور بين أمرين إما التكذيب لهم، والاستهانة بتعاليمهم وإما أن يجمعوا مع التكذيب قتلهم وإزهاق أرواحهم الشريفة. فكأن التكذيب والقتل قد صارا سجيتين لهم لا تتخلفان في أى زمان ومع أى رسول، وذلك لأن لفظ «كل» يدل على العموم. «وما» مصدرية ظرفية دالة على الزمان، فكأنه- سبحانه- يقول: في كل أوقات مجيء الرسل إليهم كذبوا ويقتلون دون أن يفرقوا بين رسول ورسول أو بين زمان وزمان.
وقال- سبحانه- بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ للمبالغة في ذمهم، إذ هوى النفس ميلها في الغالب إلى الشهوات التي لا تنبغي، والرسل ما أرسلهم الله- تعالى- إلا لهداية الأنفس، وكفها عن شهواتها التي يؤدى الوقوع فيها إلى المفاسد.
وبنو إسرائيل لا يكذبون الرسل، ويقتلونهم إلا لأنهم جاءوهم بما يخالف هواهم، ويتعارض مع أنانيتهم وشرههم ومطامعهم الباطلة.
وهكذا الأمم عند ما تفسد عقولها وتسيطر عليها الأطماع والشهوات، ترى الحسن قبيحا، وتحارب من يهديها إلى الرشاد حتى لكأنه عدو لها.
وقدم- سبحانه- المفعول به في قوله فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ للاهتمام بتفصيل أحوال بنى إسرائيل السيئة، وبيان ما لقيه الرسل الكرام منهم.
وعبر عن التكذيب بالفعل الماضي فقال: فَرِيقاً كَذَّبُوا وعن القتل بالفعل المضارع فقال: وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لحكاية الحال الماضية التي صدرت من أسلافهم بتصوير ما حصل في الماضي كأنه حاصل وقت التكلم، ولاستحضار جريمتهم البشعة في النفوس حتى لكأنها واقعة
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 662(4/232)
في الحال، وفي ذلك ما فيه من النعي عليهم. والتوبيخ لهم والتعجيب من أحوالهم التي بلغت نهاية الشناعة والقبح.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أنهم مع ما فعلوه مع رسلهم من التكذيب والقتل لم ينزجروا، ولم يندموا ... بلغ بهم الغرور والسفه أنهم ظنوا أن ما فعلوه شيء هين وأنه لن يكون له أثر سىء في حياتهم. فقال- تعالى- وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
وقوله: وَحَسِبُوا معطوف على قوله كَذَّبُوا وهو من الحسبان بمعنى الظن: وقوله:
فِتْنَةٌ من الفتن وهو إدخال الذهب في النار لتظهر جودته. والمراد بها هنا: الشدائد والمحن والمصائب التي تنزل بالناس.
وقوله: فَعَمُوا وَصَمُّوا من العمى الذي هو ضد الإبصار، ومن الصمم الذي هو ضد السمع. وقد استعير هنا للإعراض عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل.
والمعنى إن بنى إسرائيل قد أخذنا عليهم العهد المؤكد، وأرسلنا إليهم الرسل لهدايتهم، فكان حالهم أنهم كذبوا بعض الرسل، وقتلوا البعض الآخر. ولم يكتفوا بهذا بل ظنوا- لسوء أعمالهم وفساد قلوبهم واستيلاء الغرور والتكبر على نفوسهم- أنهم لن يصيبهم بلاء ولا عقاب بتكذيبهم للرسل وقتلهم لهم فأمنوا عقاب الله وتمادوا في فنون البغي والفساد وعموا وصموا عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل واشتملت عليها الكتب السماوية ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أى: قبل توبتهم بعد أن رجعوا عما كانوا عليه من فساد ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا أى: ثم نكسوا على رءوسهم مرة أخرى فعادوا إلى فسادهم وضلالهم وعدوانهم على هدايتهم، إلا عددا قليلا منهم بقي على إيمانه وتوبته فأنت ترى أن الآية الكريمة مسوقة لبيان فساد معتقدات بنى إسرائيل وما جبلت عليه نفوسهم من جحود وغرور. حيث ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم ومنكرات تقشعر لها الأبدان ومع كل ذلك حسبوا أن الله- تعالى- لا يعاقبهم عليها، لأنهم- كما يزعمون- أبناء الله وأحباؤه. ثم إنهم بعد أن تاب الله عليهم نقضوا عهودهم معه وعادوا إلى عماهم عن الدين الذي جاءتهم به رسلهم وإلى صممهم عن الاستماع إلى الحق الذي ألقوه إليهم.
وقوله: أَلَّا تَكُونَ قراءة أبو عمر والكسائي وحمزة بضم النون على اعتبار «أن» هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فتنة. فخففت أن وحذف ضمير الشأن- وهو اسمها- وحسبوا على هذه القراءة بمعنى علموا.
وتعليق فعل الحسبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لتمكنه في قلوبهم.(4/233)
وقرأه الباقون بفتح النون على اعتبار أن «أن» ناصبة لتكون. وحسب على هذه القراءة على بابها من الشك والظن.
وسد مسد مفعولي حسب على القراءتين ما اشتمل عليه الكلام من المسند والمسند إليه وهو أن وما في حيزها.
وقوله فَعَمُوا معطوف على حَسِبُوا وجيء بالفاء التي للسببية للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها.
أى أن عماهم عن الطريق القويم وصممهم عن سماع الحق كان سببه ظنهم الفاسد، واعتقادهم الباطل أن ما ارتكبوه من قبائح لن يعاقبوا عليه في الدنيا.
ومن بديع إيجاز القرآن الكريم أن أومأ إلى عدم اهتمامهم بمصيرهم في الآخرة ببيان أن ظنهم لن تنزل بهم مصائب في الدنيا يسبب مفاسدهم، هذا الظن هو الذي جعلهم يرتكبون ما يرتكبون من قبائح.. أما الآخرة فلا مكان لها في تفكيرهم، لأنهم قوم تعساء يحرصون على الدنيا حرصا شديدا دون أن يعيروا الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب أى اهتمام.
وهذا شأن الأمم إذا ما استحوذ عليها الشيطان وتغلب عليها حب الشهوات وضعف الوازع الديني في نفوس أفرادها. إنهم في هذه الحالة يصير همهم مقصورا على تدبير شئون دنياهم، فإذا ما وجدوا فيها مأكلهم وشربهم وملذاتهم اغمضوا أعينهم عن آخرتهم، بل وربما استهانوا وتهكموا بمن يذكرهم بها فتكون نتيجة إيثارهم الدنيا على الآخرة الشقاء والتعاسة.
وجيء بحرف العطف ثُمَّ المفيد للتراخي في قوله ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ للإشارة إلى أن قبول توبتهم كان بعد مفاسد عظيمة وقعت منهم أى: ثم تاب الله عليهم بعد أن كان منهم ما كان من منكرات وجرائم وإعراض عن الرشد والهدى.
وقوله ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا بيان لنقضهم لعهودهم مع الله، وارتكاسهم في الذنوب والخطايا والمنكرات. ارتكاسا شديدا بحيث صاروا ليسوا أهلا لقبول التوبة منهم بعد ذلك.
أى: بعد أن قبل الله توبتهم من جرائمهم المنكرة. عادوا إلى الانتكاس مرة أخرى فوقعوا في الذنوب والجرائم بإصرار وعناد فأصابهم ما أصابهم من عقوبات لم يتب الله عليهم بعدها.
وقوله كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير في قوله عَمُوا وَصَمُّوا وهذا الإبدال في غاية الحسن. لأنه لو قال عَمُوا وَصَمُّوا بدون هذا البدل لأوهم ذلك أنهم جميعا صاروا كذلك.
فلما قال كَثِيرٌ مِنْهُمْ دل على أن العمى والصمم قد حدث للكثيرين منهم، وهناك قلة منهم لم تنقض عهودها مع الله- تعالى- بل بقيت على إيمانها وصدق توبتها.(4/234)
وهذا- كما قلنا مرارا- من إنصاف القرآن للناس في أحكامه، ودقته في ألفاظه، واحتراسه فيما يصدر من أحكامه.
وقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ تذييل قصد به بطلان حسبانهم المذكور، والبصير مبالغة في المبصر وهو هنا بمعنى العليم بكل ما يكون منهم من أعمال سواه أبصرها الناس أم لم يبصروها.
والمقصود من هذا الخبر لازم معناه، وهو الإنذار والتذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء.
وسيحاسبهم على أعمالهم.
أى: والله- تعالى- عليم بما يعملونه علم من يبصر كل شيء دون أن تخفى عليه خافية، وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقونه من عذاب أليم.
هذا، وقد تكلم المفسرون عن وقت التوبة التي كانت بعد عماهم وصممهم وعن العمى والصمم الذي أصابهم بعد ذلك وقد أجمل الإمام الرازي كلامهم فقال:
والآية تدل على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين. واختلف المفسرون في المراد بهاتين المرتين على وجوه:
الأول: المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى- عليهم السلام- ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان: ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان محمد صلى الله عليه وسلم بأن أنكروا نبوته. وقلة منهم هي التي آمنت به.
الثاني: المراد أنهم عموا وصموا حين عبدوا العجل، ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم، ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت وهو طلبهم رؤية الله جهرة.
الثالث: قال القفال: ذكر الله- تعالى- في سورة الإسراء ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً «1» .
والذي نراه أن تحديد عماهم وصممهم وتوبتهم بزمان معين أو بجريمة أو جرائم معينة تابوا بعدها هذا التحديد غير مقنع.
ولعل أحسن منه أن نقول: إن القرآن الكريم يصور ما عليه بنو إسرائيل من صفات ذميمة، وطبائع معوجة، ومن نقض للعهود والمواثيق. فهم أخذ الله عليهم العهود فنقضوها، وأرسل إليهم الرسل فاعتدوا عليهم وظنوا أن عدوانهم هذا شيء هين ولن يصيبهم بسببه عقاب
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 57(4/235)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
دنيوى، فلما أصابهم العقاب الدنيوي كالقحط والوباء والهزائم. بسبب مفاسدهم، تابوا إلى الله فقبل الله توبتهم ورفع عنهم عقابه، فعادوا إلى عماهم وصممهم- إلا قليلا منهم-، وارتكبوا ما ارتكبوا من منكرات بتصميم وتكرار فأصابهم- سبحانه- بفتن لم يتب عليهم منها. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «1» .
وبعد أن بين- سبحانه- أنماطا من قبائح اليهود ومن صفاتهم الذميمة شرع في بيان قبائح النصارى وضلالاتهم وأرشدهم إلى طريق الحق والصواب، وحذرهم من السير في طريق الغواية والعناد فقال- تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 75]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 40(4/236)
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما استقصى الكلام مع اليهود، شرع هاهنا في الكلام مع النصارى، فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم.
وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلها، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله- تعالى- حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى «1» .
واللام في قوله: لَقَدْ كَفَرَ واقعة جوابا لقسم مقدر.
والمراد بالكفر: ستر الحق وإنكاره والانغماس في الباطل والضلال.
أى: اقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا: إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح ابن مريم.
وقد أكد- سبحانه- كفرهم بالقسم المقدر لأنهم غالوا في إطراء عيسى وفي وضعه في غير موضعه كما غالت اليهود في الكفر به وفي وصفه بالأوصاف التي هو برىء منها.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله عيسى في الرد على من جعلوه إلها فقال: وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
أى: وقال المسيح مكذبا لمن وصفه بالألوهية: يا بنى إسرائيل اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، فهو ربي الذي خلقني وتعهدنى بالتربية والرعاية، وهو ربكم- أيضا- الذي أنشأكم وأوجدكم ورزقكم من الطيبات.
والواو في قوله: وَقالَ الْمَسِيحُ للحال. والجملة حالية من الواو التي هي فاعل قالُوا.
أى: قالوا ما قالوا، والحال أن عيسى قد تبرأ مما قالوه. وقال لبنى إسرائيل حين إرساله إليهم: اعبدوا الله ربي وربكم.
وقوله: رَبِّي وَرَبَّكُمْ تنبيه إلى ما هو الحجة القاطعة على فساد قولهم المذكور لأن عيسى لم يفرق بينه وبين غيره في العبودية لله- تعالى- لأنه- سبحانه- هو الخالق له ولهم ولكل شيء.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله عيسى محذرا من الإشراك فقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
وهذه الجملة تعليل للأمر بعبادة الله وحده. والضمير المقترن بإن ضمير الشأن والمراد بتحريم الجنة على المشرك: منعه من دخولها، لإشراكه مع الله آلهة أخرى.
والمأوى: المكان الذي يأوى إليه الإنسان. أى يرجع إليه ويستقر فيه.
__________
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 59(4/237)
أى: قال المسيح لبنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، لأنه أى الحال والشأن مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا في عبادته- سبحانه- فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أى: منعه من دخولها، بسبب شركه وكفره، وجعل مَأْواهُ النَّارُ أى: جعل مستقره ومكانه النار بدل الجنة وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم بأن ينقذوهم مما هم فيه من بلاء وشقاء مقيم.
فالجملة الكريمة تحذير شديد من الإشراك بالله، وبيان لما سيؤول إليه حال المشركين من تعاسة وشقاء.
وجمع- سبحانه- بين العقوبة السلبية للمشركين وهي حرمانهم من الجنة وبين العقوبة الإيجابية وهي استقرارهم في النار، للإشارة إلى عظيم جرمهم حيث أشركوا بالله، وتقولوا عليه الأقاويل الباطلة التي تدل على جهلهم وسفاهتهم.
والمراد بالظالمين: المشركون الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم فتكون ال للعهد.
ويجوز أن يراد بهم كل ظالم بسبب إشراكه وكفره ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا فتكون أل للجنس.
وقال- سبحانه- وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ بصيغة الجمع لكلمة «أنصار» ، وبالتأكيد بمن المفيدة للاستغراق، للإيذان بأنه إذا كان الظالمون لن يستطيع الأنصار مجتمعين أن ينصروهم فمن باب أولى لن يستطيع واحد أن ينصرهم.
أى: مالهم من أحد كائنا من كان أن ينقذهم من عقاب الله بأى طريقة من الطرق.
وهذه الجملة الكريمة يحتمل أن تكون من كلام عيسى الذي حكاه الله عنه- كما سبق أن ذكرنا- ويحتمل أن تكون من كلام الله- تعالى- وقد ساقها- سبحانه- لتأكيد ما قاله المسيح من أمره لقومه بعبادة الله وحده ولتقرير مضمونه المفيد للتحذير من الإشراك.
وقوله- تعالى- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ بيان لما قالته طائفة أخرى من طوائف النصارى الذين يتفرقون في العقائد والنحل، ويتجمعون على الكفر والضلال، فهم شيع شتى، وفرق متنابذة، كل شيعة منهم تكفر الأخرى وتعارضها في معتقداتها.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: في تفسير قول النصارى إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ طريقان:
الأول: أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. والذي يؤكد ذلك قوله- تعالى- للمسيح أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقوله: ثالِثُ ثَلاثَةٍ أى: أحد ثلاثة آلهة. أو واحد من ثلاثة آلهة.
والطريق الثاني: أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة(4/238)
أقانيم: أب، وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب الذات. وبالابن الكلمة.
وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر أو اللبن فزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد.
ثم قال الإمام الرازي: واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل. فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى» «1» :
وقد ذكر بعض المفسرين أن الذين قالوا من النصارى إن الله ثالث ثلاثة هم النسطورية والمرقوسية «2» .
ومعنى ثالث ثلاثة: واحد من ثلاثة. أى: أحد هذه الأعداد مطلقا وليس الوصف بالثالث فقد ذكر النحاة أن اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما لك أن تستعمله على وجوه منها: أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير. فتقول: رابع أربعة أى: واحد من أربعة وليس زائدا عليها، ويجب حينئذ إضافته إلى أصله.
وقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ بيان للاعتقاد الحق بعد ذكر الاعتقاد الباطل.
وقد جاءت هذه الجملة بأقوى أساليب القصر وهو اشتمالها على «ما» و «إلا» . مع تأكيد النفي بمن المفيدة لاستغراق النفي.
والمعنى: لقد كفر الذين قالوا كذبا وزورا إن الله واحد من آلهة ثلاثة، والحق أنه ليس في هذا الوجود إله مستحق للعبادة والخضوع سوى إله واحد وهو الله رب العالمين، الذي خلق الخلق بقدرته، ورباهم بنعمته. وإليه وحده مرجعهم وإيابهم.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة هؤلاء الضالين الذين قالوا ما قالوا من ضلال وكذب فقال- تعالى-: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله: لَقَدْ كَفَرَ والمراد بانتهائهم: رجوعهم عما هم عليه من ضلال وكفر.
والمراد بقوله: - عَمَّا يَقُولُونَ: أى عما يعتقدون وينطقون به من زور وبهتان.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 س 60
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 513 [.....](4/239)
أى: لقد كفر أولئك الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة كفرا شديدا بينا والحق أنه ليس في الوجود سوى إله واحد مستحق للعبادة، وإن لم يرجع هؤلاء الذين قالوا بالتثليث عن عقائدهم الزائفة وأقوالهم الفاسدة ويعتصموا بعروة التوحيد لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أى: ليصيبن الذين استمروا على الكفر منهم عذاب أليم.
فالجملة الكريمة تحذير من الله- تعالى- لهم عن الاستمرار في هذا القول الكاذب.
والاعتقاد الفاسد الذي يتنافى مع العقول السليمة، والأفكار القويمة.
وقوله: لَيَمَسَّنَّ جواب لقسم محذوف، وهو ساد مسد جواب الشرط المحذوف في قوله وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا والتقدير: والله إن لم ينتهوا ليمسن.
وأكد- سبحانه- وعيدهم بلام القسم في قوله لَيَمَسَّنَّ ردا على اعتقادهم أنهم لا تمسهم النار، لأن صلب عيسى- في زعمهم- كان كفارة عن خطايا البشر.
وعبر بالمس للإشارة إلى شدة ما يصيبهم من آلام: لأن المراد أن هذا العذاب الأليم يصيب جلدهم وهو موضع الإحساس فيهم إصابة مستمرة، كما قال- تعالى- في آية أخرى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «1» .
وقال- سبحانه- لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالتعبير بالظاهر دون الضمير للإشارة إلى سبب العذاب وهو كفرهم لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن الصلة هي سبب الحكم.
ومن في قوله مِنْهُمْ يصح أن تكون تبعيضية أى: ليمسن الذين استمروا على الكفر من هؤلاء النصارى عذاب أليم، لأن كثيرا منهم لم يستمروا على الكفر بل رجعوا عنه ودخلوا في دين الإسلام.
ويصح أن تكون بيانية، وقد وضح ذلك صاحب الكشاف بقوله: ومن في قوله: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ للبيان كالتي في قوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ.
والمعنى: ليمسن الذين كفروا من النصارى خاصة عَذابٌ أَلِيمٌ أى نوع شديد الألم من العذاب.. كما تقول: أعطنى عشرين من الثياب. تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون» «2» .
وبعد هذا الترهيب الشديد للكافرين من العذاب الأليم، فتح لهم- سبحانه- باب رحمته، حيث رغبهم في الإيمان، وأنكر عليهم تقاعسهم عنه بعد أن ثبت بطلان ما هم عليه من عقائد فقال- تعالى-: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
__________
(1) سورة النساء: الآية 56
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 664(4/240)
والاستفهام هنا يتضمن حضهم على التوبة والرجوع إلى الحق وتوبيخهم على ما كان منهم من ضلال والتعجيب من استمرارهم على كفرهم وعقائدهم الفاسدة التي لا يقبلها عقل سليم، ولا تصور قويم.
والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام. أى: أيسمعون ما يسمعون من الحق الذي يزهق باطلهم ومن النذر التي ترقق القلوب فلا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى الله وطلب مغفرته، والحال أنه- سبحانه- عظيم المغفرة واسع الرحمة لمن آمن وعمل صالحا.
إن إصرارهم على كفرهم بعد تفنيده وإبطاله، وبعد تحذيرهم من سوء عاقبة الكافرين ليدل على أنهم قوم ضالون خاسرون يستحقون أن يكونوا محل عجب الناس وإهمالهم.
قال أبو السعود: وقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ جملة حالية من فاعل يَسْتَغْفِرُونَهُ مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار.
أى: والحال أن الله: - تعالى- مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله» «1» .
وقال ابن كثير: هذا من كرمه- تعالى- وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم «2» .
ثم بين- سبحانه- حقيقة عيسى عليه السلام- وحقيقة أمه مريم حتى يزيل عن ساحتهما ما افتراه عليهما المفترون فقال- تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ.
وقوله صِدِّيقَةٌ صيغة مبالغة في التمسك بفضيلة الصدق مثل شريب ومسيك مبالغة في الشرب والمسك.
قال الراغب: والصديق من كثر منه الصدق، وقيل: بل يقال لمن لم يكذب قط: وقيل:
بل لمن لا يأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل، لمن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله.. قال تعالى- فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ فالصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة «3» .
__________
(1) تفسير أبو السعود ج 7 ص 50
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 81
(3) المفردات في غريب القرآن الكريم ص 277(4/241)
والمعنى: إن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. قد قالوا منكرا وزورا، إذ ليس الألوهية إلا لله وحده وليس المسيح عيسى ابن مريم سوى بشر من البشر ورسول مثل الرسل الذين سبقوه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الرسل الذين مضوا دون أن يدعى واحد منهم الألوهية.
وأما أم عيسى مريم فما هي إلا أمة من إماء الله كسائر النساء ديدنها الصدق مع خالقها- عز وجل- أو التصديق له في سائر أمورها. وهما- أى عيسى وأمه مريم- عبدان من عباد الله كانا يأكلان الطعام، ويشربان الشراب ويتصرفان كما يتصرف سائر البشر فكيف ساغ لكم- يا معشر النصارى- أن تصفوهما بأنهما إلهين مع أن طبيعتهما الظاهرة أمامكم تتنافى تنافيا تاما مع صفات الألوهية: إن وصفكم لهما بالألوهية لدليل واضح على فساد عقولكم وضلال تفكيركم، وعظيم جهلكم.
وقوله مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ جملة مشتملة على قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافى، أى أن المسيح مقصور على صفة الرسالة لا يتجاوزها إلى غيرها وهي الألوهية فالقصر قصر قلب لرد اعتقاد النصارى في عيسى أنه الله، أو أنه جزء من الله أو أنه أحد آلهة ثلاثة.
وقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صفة للرسول وهو عيسى أريد بها بيان أنه مساو للرسل الكرام الذين سبقوه في تبليغ رسالة الله إلى الناس وأنه ليس بدعا في هذا الوصف وإذا فلا شبهة للذين زعموا انه إله لأنه لم يجيء بشيء زائد على ما جاء به الرسل.
وقوله. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ معطوف على قوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ والقصد من وصف مريم بذلك مدحها والثناء عليها، ونفى أن يكون لها وصف أعلى من ذلك، فهي ليست إلها. كما أنها ليست رسولا.
ولذا قال ابن كثير: دلت الآية على أن مريم ليست بنبية- كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم عيسى ونبوة أم موسى- استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال- قال تعالى- وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى «1» .
وقوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ جملة مستأنفة لبيان خواصهما الآدمية بعد بيان منزلتهما السامية عند الله- تعالى- وقد اختيرت هذه الصفة لهما من بين صفات كثيرة كالمشرب والملبس. لأنها صفة واضحة
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 81(4/242)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
ظاهرة للناس، ودالة على احتياجهما لغيرهما في مطلب حياتهما، ومن يحتاج إلى غيره لا يكون إلها.
وقال صاحب الكشاف: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة.. وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام وحاشا للإله أن يكون كذلك «1» .
ففي هذه الجمل الكريمة رد على ما زعمه النصارى في شأن عيسى وأمه بأبلغ وجه وأحكمه، ولذا عجب الله- تعالى- رسوله وكل من يصلح للخطاب من جهلهم وبعدهم عن الحق مع وضوحه وظهوره فقال: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أى: يصرفون يقال أفكه يأفكه إذا صرفه عن الشيء.
أى: انظر- يا محمد- كيف تبين لهم الأدلة المنوعة على حقيقة عيسى وأمه بيانا واضحا ظاهرا. ثم انظر بعد ذلك كيف ينصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء تفكيرهم، واستيلاء الجهل والوهم والعناد على عقولهم.
فالجملتان الكريمتان تعجيب لكل عاقل من أحوال النصارى الذين زعموا أن الله هو المسيح ابن مريم، أو أن الله ثالث ثلاثة. مع أنه- سبحانه- أقام لهم الأدلة المتعددة على بطلان ذلك.
وكرر الله- سبحانه- الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب من أحوالهم الغريبة وجيء بثم المفيدة للتراخي في قوله ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ لإظهار ما بين وضوح الآيات وانصرافهم عنها من تفاوت شديد أى: أن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بحيث يجعل كل عاقل يستجيب لها، ويخضع لما تدعو إليه من هدايات وخيرات. وانصراف هؤلاء الضالين عنها- مع وضوحها وتعاضد ما يوجب قبولها- أمر يدعو إلى العجب الشديد من جهلهم وضلالهم وسوء تفكيرهم.
ثم تابع- سبحانه- حديثه عن ضلال أهل الكتاب وجهالتهم فأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم على عنادهم وغفلتهم وأن يواصل دعوتهم إلى الدين الحق فقال- تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 77]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 665(4/243)
والاستفهام في قوله أَتَعْبُدُونَ لإنكار واقعهم والتعجيب مما وقع منهم، وتوبيخهم على جهلهم وغفلتهم.
وما في قوله ما لا يَمْلِكُ يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي وأن تكون نكرة موصوفة.
والجملة بعدها صلة فلا محل لها أو صفة فمحلها النصب.
وقوله يَمْلِكُ من الملك بمعنى حيازة الشيء والتمكن من التصرف فيه بدون عجز.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الضالين من النصارى وأشباههم في الكفر والشرك قل لهم:
أتعبدون معبودات غير الله- تعالى- هذه المعبودات وأشباههم في الكفر والشرك قل لهم:
كالمرض والفقر، ولا تملك أيضا أن تنفعكم بشيء من النفع كبسط الرزق ودفع الضر وغير ذلك مما أنتم في حاجة إليه.
فالمراد بما لا يملك: كل ما عبد من دون الله من حجر أو وثن أو غيرهما فتكون «ما» للعموم وليست كناية عن عيسى وأمه فحسب.
وقد سار على هذا المعنى ابن كثير فقال: يقول- تعالى- منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأوثان والأنداد، ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الألوهية فقال- تعالى- قُلْ أى: يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بنى آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً «1» .
ويرى كثير من المفسرين أن المراد بقوله: ما لا يَمْلِكُ عيسى- عليه السلام- أو هو وأمه لأن الكلام مع النصارى الذين قال بعضهم: إن الله المسيح ابن مريم. وقال آخرون منهم: إن الله ثالث ثلاثة، فتكون الآية دليلا آخر- بعد الأدلة السابقة- على فساد أقوال النصارى في عيسى وأمه مريم.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء النصارى أتعبدون- من دون الله- عيسى وأمه وهما لا يستطيعان أن يضراكم بشيء من الضرر في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعاكم بشيء من النفع كإيجاد الصحة والخصب والسعة، لأن الضر والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البشر من المضار أو المنافع هو بتمكين الله لهم وليس بقدرتهم الذاتية.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 82(4/244)
وأوثرت «ما» على «من» لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الألوهية رأسا، ببيان انتظامهما في مسلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا ولا شك أن من صفات الرب أن يكون قادرا على كل شيء، فقول النصارى بأن الله هو المسيح ابن مريم أو هو ثالث ثلاثة، قول ظاهر البطلان واضح الفساد.
وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تنفى أن يكون هناك إله سوى الله- تعالى- يستحق العبادة والخضوع، لأنه- سبحانه- هو المالك لكل شيء، والخالق لكل شيء أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
وقدم- سبحانه- الضر على النفع فقال: ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً لأن النفوس أشد تطلعا إلى دفعه من تطلعها إلى جلب الخير، ولأنهم كانوا يعبدون غير الله- تعالى- وهمهم الأكبر أن هذا المعبود يستطيع أن يقربهم إلى الله زلفى، وأن يمنع عنهم المصائب والاضرار.
وقوله: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في محل نصب على الحال. من فاعل أَتَعْبُدُونَ أى أتعبدون آلهة سوى الله لا تملك ضرركم أو نفعكم وتتركون عبادة الله والحال أن الله وحده هو السميع لكل ما تنطقون به، العليم بجميع أحوالكم وأعمالكم، وسيحاسبكم على ذلك وسيجازيكم على أقوالكم الباطلة وعقائدكم الزائفة، بما تستحقون من عذاب أليم.
ثم أرشدهم- سبحانه- إلى طريق الحق، ونهاهم عن الغلو الباطل فقال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ والغلو مصدر غلا في الأمر: إذا تجاوز الحد. وهو نقيض التقصير.
وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم عن الغلو حتى في الدين، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قلبكم بالغلو في الدين» «1» .
وروى البخاري عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» «2» .
وروى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون. قالها ثلاثة» «3» والمتنطعون هم المتشددون المتجاوزون للحدود التي جاءت بها تعاليم الإسلام.
__________
(1) مسند الإمام أحمد ج 2 حديث رقم 225 طبعة الحلبي.
(2) صحيح البخاري باب واذكر في الكتاب مريم من كتاب الأنبياء ج 4 ص 304
(3) صحيح مسلم كتاب العلم ج 8 ص 58(4/245)
وقد غالى أهل الكتاب في شأن عيسى- عليه السلام- أما اليهود فقد كفروا به ونسبوه إلى الزنا وافتروا عليه وعلى أمه افتراء شديدا وأما النصارى فقد وصفوه بالألوهية فوضعوه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه وهو منصب الرسالة. وكما غالوا في شأن عيسى عليه السلام- فقد غالوا أيضا في تمسكهم بعقائدهم الزائفة، مع أن الدلائل الواضحة قد دلت على بطلانها وفسادها.
وقوله غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. أى: لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق: أى: غلوا باطلا.
وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ معطوف على قوله: لا تَغْلُوا قال الفخر الرازي: الأهواء- هاهنا- المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة.
قال الشعبي: ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وقال: وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى وقال: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وقال: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ.
وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في الشر لا يقال: فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه.
وقيل: سمى الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار. وأنشد في ذم الهوى:
إن الهوى الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال رجل لابن عباس: الحمد الله الذي جعل هو اى على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة» «1» .
والمعنى: قل يا محمد لأهل الكتاب الذين تجاوزوا الحدود التي تقرها الشرائع والعقول السليمة، قل لهم يا أهل الكتاب: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أى: لا تتجاوزوا حدود الله تجاوزا باطلا، كأن تعبدوا سواه مع أنه هو الذي خلقكم ورزقكم، وكأن تصفوا عيسى بأوصاف هو برىء منها.
وقل لهم أيضا: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ أى: ولا تتبعوا شهوات وأقوال قوم من أسلافكم وعلمائكم ورؤسائكم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أى: قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بتحريفهم للكتب السماوية وتركهم لتعاليمها جريا وراء شهواتهم وأهوائهم وَأَضَلُّوا كَثِيراً أى أنهم لم يكتفوا بضلال أنفسهم بل أضلوا أناسا كثيرين سواهم ممن قلدهم ووافقهم على أكاذيبهم وقوله: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ معطوف على قوله قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 63(4/246)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
أى أنهم قد ضلوا من قبل البعثة النبوية الشريفة، وضلوا من بعدها عن سَواءِ السَّبِيلِ أى: عن الطريق الواضح الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو طريق الإسلام وذلك لأنهم لم يتبعوه صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم بصدقة بل كفروا به حسدا له على ما آتاه الله من فضله.
فأنت ترى أنه- تعالى- قد وصفهم- كما يقول الإمام الرازي- بثلاث درجات في الضلال: فبين أنهم كانوا ضالين من قبل، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقابه من هذه الحالة ويحتمل أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق «1» .
هذا، ومما أخذه العلماء من هذه الآية الكريمة أن الغلو في الدين لا يجوز وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وقد سقنا من الآثار ما يشهد بذلك عند تفسيرنا لصدر الآية الكريمة.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان «غلو حق» وهو أن يفحص عن حقائقه، ويفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون. وغلو باطل، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه. كما يفعل أهل الأهواء والبدع والضلال «2» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك بعض الرذائل التي شاعت في بنى إسرائيل، والتي بسببها استحقوا اللعن والطرد من رحمة الله فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 64
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 666 [.....](4/247)
وقوله لُعِنَ من اللعن بمعنى الطرد من رحمة الله فالملعون هو المحروم من رحمته- سبحانه- ولطفه وعنايته.
والمعنى: لعن الله- تعالى- الذين كفروا من بنى إسرائيل بأن طردهم من رحمته، على لسان نبيين كريمين هما داود وعيسى- عليهما السلام- وقد جاء الفعل «لعن» بالبناء للمجهول لأن الفاعل معلوم وهو الله- تعالى- ولأن الأنبياء ومنهم داود وعيسى لا يلعنون أحدا إلا بإذن الله- سبحانه- وقوله: مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ في محل نصب على الحال من الذين كفروا أو من فاعل كَفَرُوا وهو واو الجماعة.
وقوله: عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ متعلق بلعن. أى: لعنهم- سبحانه- في الزبور والإنجيل على لسان هذين النبيين الكريمين اللذين كان أولهما- بجانب منصب الرسالة- قائدا مظفرا قادهم إلى النصر بعد الهزيمة. وكان ثانيهما وهو عيسى- عليه السلام- رسولا مسالما جاءهم ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم.
قال الآلوسى: لعنهم الله- تعالى- في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى ابن مريم بأن أنزل في هذين الكتابين «ملعون من يكفر من بنى إسرائيل بالله أو بأحد من رسله» .
وقيل: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة.
وأصحاب المائدة لما كفروا بعيسى قال: اللهم عذب من كفر من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت» «1» .
وقوله: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ بيان لسبب لعنهم وطردهم من رحمة الله.
واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى اللعن المذكور.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 211(4/248)
أى: ذلك اللعن للكافرين من بنى إسرائيل سببه عصيانهم لله ولرسله، وعدوانهم على الذين يأمرونهم بالقسط من الناس.
أى أن لعنهم لم يكن اعتباطا أو جزافا، وإنما كان بسبب أقوالهم القبيحة وأفعالهم المنكرة، وسلوكهم السيئ.
وقوله: ذلِكَ بِما عَصَوْا جملة من مبتدأ وخبر. وقوله: وَكانُوا يَعْتَدُونَ معطوف على صلة ما وهو عَصَوْا فيكون داخلا في حيز السبب الذي أدى إلى لعنهم والجملة المكونة من اسم الإشارة ذلِكَ وما بعدها مستأنفة واقعة موقع الجواب لسؤال تقديره لماذا لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل؟
وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السببية ومع وقوع الجملة في جواب سؤال مقدر أفاد مجموع ذلك ما يشبه القصر.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
أى: لم يكن ذلك اللعن الشنيع إلا لأجل المعصية والاعتداء لا لشيء آخر، «1» .
وعبر- سبحانه- عن عصيانهم بالماضي فقال ذلِكَ بِما عَصَوْا للإشارة إلى استقرار العصيان في طبائعهم، وثباته في نفوسهم وجوارحهم.
وعبر عن عدوانهم بالمضارع، للإيذان بأنه مستمر قائم، فهم لم يتركوا نبيا إلا وآذوه، ولم يتركوا مصلحا إلا واعتدوا عليه فاعتداؤهم على المصلحين مستمر في كل زمان ومكان.
ثم فسر- سبحانه- عصيانهم وعدوانهم بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ.
وقوله يَتَناهَوْنَ من التناهى.
قال الفخر الرازي: وللتناهى هاهنا معنيان:
أحدهما: وهو الذي عليه الجمهور- أنه تفاعل من النهى. أى: كانوا لا ينهى بعضهم بعضا.
روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رضى عمل قوم فهو منهم. ومن كثر سواد قوم فهو منهم» والمعنى الثاني: في التناهى أنه بمعنى الانتهاء عن الأمر، تناهى عنه إذا كف عنه» «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 667
(2) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 64(4/249)
والمنكر: هو كل ما تنكره الشرائع والعقول من الأقوال والأفعال.
أى أن مظاهر عصيان الكافرين من بنى إسرائيل وتعديهم مما أدى إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله أنهم كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن اقتراف المنكرات. واجتراح السيئات، بل كانوا يرون المنكرات ترتكب فيسكتون عنها بدون استنكار مع قدرتهم على منعها قبل وقوعها.
وهذا شر ما تصاب به الأمم حاضرها ومستقبلها: أن تفشو فيها المنكرات والسيئات والرذائل فلا تجد من يستطيع تغييرها وإزالتها.
وقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ذم لهم على كثرة ولوغهم في المعاصي والمنكرات وتعجب من سوء فعلهم.
واللام في قوله لَبِئْسَ لام القسم فكأنه- سبحانه- قال: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون وهو ارتكاب المعاصي والعدوان وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
قال صاحب الكشاف: قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ للتعجيب من سوء فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم. فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهى عن المناكير، وقلة عبئهم به، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب.
فإن قلت ما معنى وصف المنكر بفعلوه، ولا يكون النهى بعد الفعل؟ قلت: معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فتنكر» «1» .
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما قوام الأمم وسياج الدين ولإصلاح لأمة من الأمم إلا بالقيام بحقهما.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث في هذا المعنى.
ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
وروى الإمام أحمد في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم أو في أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 667.(4/250)
قال ابن مسعود: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا- أى تحملوهم على التزام الحق وتعطفوهم عليه» .
وروى الترمذي عن حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» .
وروى الإمام أحمد عن عدى بن عميرة- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله- لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه. فإذا فعلوا ذلك لعن الله العامة والخاصة» .
وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم قلنا: يا رسول الله، وما الذي ظهر في الأمم قبلنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم» «1» أى في فساقكم.
هذا جانب من الأحاديث التي وردت في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فعلى الأمة الاسلامية أن تقوم بحقها حتى تكون مستحقة لمدح الله- تعالى- لها بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «2» .
ثم حكى- سبحانه- ما كان يقوم به اليهود في العهد النبوي من تحالف مع المشركين ضد المسلمين فقال: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أى: ترى- أيها الرسول الكريم- كثيرا من بنى إسرائيل المعاصرين لك يوالون الكافرين ويحالفونهم عليك بسبب حسدهم لك على ما آتاك الله من فضله وبسبب كراهتهم للإسلام والمسلمين.
والذي يقرأ تاريخ الدعوة الاسلامية يرى أن اليهود كانوا دائما يضعون العراقيل في طريقها، ويناصرون كل محارب لها، ففي غزوة الأحزاب انضم بنو قريظة إلى المشركين ولم يقيموا وزنا للعهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين «3» .
وفي كل زمان ومكان نرى أن اليهود يحاربون الإسلام والمسلمين، ويؤيدون كل من يريد لهما الشرور والاضرار.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 83
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) راجع كتابنا بنو إسرائيل في القرآن والسنة ج 4 ص 307 مبحث تحالفهم مع المنافقين ضد المسلمين.(4/251)
وقوله: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ذم لهم على موالاتهم للمشركين وبيان لما حاق بهم من سوء المصير بسبب مناصرتهم لأعداء الله، ومحاربتهم لأوليائه.
أى: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم من أقوال كاذبة وأعمال قبيحة وأفعال منكرة استحقوا بسببها سخط الله عليهم، ولعنه إياهم كما استحقوا أيضا بسببها الخلود الدائم في العذاب المهين.
قال الجمل: وما في قوله لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ هي الفاعل، وقوله: وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ هذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهي من جملة المخصوص بالذم.
فالتقدير: سخط الله عليهم وخلدهم في العذاب «1» .
ثم بين- سبحانه- الدوافع التي حملت هؤلاء الفاسقين من أهل الكتاب على ولاية الكافرين ومصادقتهم ومعاونتهم على حرب المسلمين فقال:
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ، وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
فالضمير في قوله كانُوا يعود إلى أولئك الكثيرين من أهل الكتاب الذين حملهم حقدهم وبغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على موالاة الكافرين.
والمراد- هنا- بالنبي: موسى- عليه السلام- وبما أنزل إليه التوراة، لأن الحديث مع الكافرين من بنى إسرائيل الذين يزعمون أنهم من أتباع موسى.
وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بما أنزل إليه: القرآن.
أى: ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله إيمانا حقا، ويؤمنون بنبيهم موسى إيمانا صادقا ويؤمنون بالتوراة التي أنزلها الله عليه إيمانا سليما، لو كانوا مؤمنين هذا الإيمان الصادق، لكفوا عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصفياء، لأن تحريم موالاة المشركين متأكدة في التوراة وفي كل شريعة أنزلها الله على نبي من أنبيائه.
وقوله: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ استدراك لبيان حالهم، ولبيان سبب موالاتهم للكافرين وعداوتهم للمسلمين.
أى: ولكن كثيرا من هؤلاء اليهود فاسقون، أى: خارجون عن الدين الحق إلى الأديان الباطلة، فدفعهم هذا الفسق وما صاحبه من حقد وعناد على موالاة الكافرين ومعاداة المؤمنين.
وقد كرر سبحانه وصف الكثيرين منهم بالصفات الذميمة، إنصافا للقلة التي آمنت وتمييزا لها عن تلك الكثرة الكافرة الفاسقة..
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 6 ص 651(4/252)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت ما عليه الكافرون من بنى إسرائيل من صفات ذميمة، أفضت إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله، حتى يحذرهم المسلمون ويجتنبوا سلوكهم السيئ، وخلقهم القبيح.
وبعد هذا الحديث الطويل الذي طوفت فيه سورة المائدة مع أهل الكتاب بصفة عامة ومع اليهود بصفة خاصة، والذي تحدثت خلاله عن علاقة المؤمنين بهم وعن العهود التي أخذها الله عليهم وموقفهم منها، وعن دعاواهم الباطلة وكيف رد القرآن عليها، وعن أخلاقهم السيئة، وعن مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين، وعن المصير السيئ الذي ينتظرهم إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم، وعن المنهاج القويم الذي استعمله القرآن معهم في دعوتهم إلى الدين الحق، بعد هذا الحديث الطويل معهم في تلك الموضوعات وفي غيرها نرى السورة الكريمة في نهاية المطاف تحدثنا عن أشد الناس عداوة للمؤمنين وعن أقربهم مودة لهم فتقول:
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)(4/253)
أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدا إلى رسول صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قال: فأنزل الله فيهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ إلى آخر الآية. قال:
فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه فأسلم النجاشيّ فلم يزل مسلما حتى مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن أخاكم النجاشيّ قد مات فصلوا عليه فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشيّ بالحبشة.
ثم قال ابن جرير بعد أن ساق روايات أخرى في سبب نزول هذه الآيات: والصواب في ذلك من القول عندي، أن الله- تعالى- وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى، وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس مودة لأهل الايمان بالله ورسوله، ولم يسم لنا أسماءهم وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشيّ ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلموا، لما سمعوا القرآن، وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه» «1» .
فقوله- تعالى- لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من آيات سجلت على اليهود كثيرا من الصفات القبيحة والمسالك الخبيثة.
وقد أكد- سبحانه- هذه الجملة بلام القسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها، والخطاب للنبي- صلى الله عليه وسلم ويصح أن يكون لكل من يصلح للخطاب للإيذان بأن حالهم لا تخفى على أحد من الناس.
والمعنى: أقسم لك يا محمد بأنك عند مخالطتك للناس ودعوتهم إلى الدين الحق، ستجد أشدهم عداوة لك ولأتباعك فريقين منهم: وهما اليهود والذين أشركوا، لأن عداوتهم منشؤها الحقد والحسد والعناد والغرور. وهذه الرذائل متى تمكنت في النفس حالت بينها وبين الهداية والإيمان بالحق.
وقوله أَشَدَّ النَّاسِ مفعول أول لقوله لَتَجِدَنَّ ومفعوله الثاني الْيَهُودَ وقوله عَداوَةً تمييز.
قال الآلوسى: والظاهر أن المراد من اليهود العموم، أى من كان منهم بحضرة الرسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة وغيرهم ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» وقيل المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد، وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا. والمراد من النَّاسِ. كما قال أبو حيان- الكفار: أى لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء.
ووصفهم- سبحانه- بذلك لشدة كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وقربهم إلى
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 7 ص 3(4/254)
التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، وقد قيل: إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأى طريق كان وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة» «1» .
وقوله: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى معطوف على ما قبله لزيادة التوضيح والبيان.
أى: لتجدن يا محمد أشد الناس عداوة لك ولأتباعك- اليهود- والذين أشركوا. ولتجدن أقربهم مودة ومحبة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى.
قال ابن كثير: أى الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة: وما ذاك إلا لما في قلوبهم- من لين عريكة- إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال- تعالى- وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً وفي كتابهم: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» وليس القتال مشروعا في ملتهم «2» .
وقال الجمل: فإن قلت: كفر النصارى أشد من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الألوهية فيدعون أن لله ولدا، واليهود ينازعون في النبوة فينكرون نبوة بعض الأنبياء فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟
قلت: هذا مدح في مقابلة ذم وليس مدحا على إطلاقه، وأيضا الكلام في عداوة المسلمين وقرب مودتهم لا في شدة الكفر وضعفه «3» .
وقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تعليل لقرب مودة النصارى للمؤمنين.
والقسيسين: جمع قسيس. وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه، وهم علماء النصارى والمرشدون لهم.
والرهبان: جمع راهب كركبان جمع راكب وتطلق كلمة رهبان على المفرد كما تطلق على الجمع، والراهب هو الرجل العابد الزاهد المنصرف عن الدنيا، مأخوذ من الرهبة بمعنى الخوف. يقال: رهب فلان ربه يرهبه، أى: خافه.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 1
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 517
(3) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 517(4/255)
والمعنى: ولتجدن يا محمد أقرب الناس مودة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى، وذلك لأن منهم القسيسين الذين يرغبون في طلب العلم ويرشدون غيرهم إليه، ومنهم الرهبان الذين تفرغوا لعبادة الله وانصرفوا عن ملاذ الدنيا وشهواتهم وأيضا فلأن هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى من صفاتهم أنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم متواضعون وليسوا مغرورين أو متكبرين.
وفي ذلك تعريض باليهود والمشركين لأن غرورهم واستكبارهم جعلهم ينصرفون عن الحق فاليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار، وأن النبوة يجب أن تكون فيهم والمشركون يرون أن النبوة يجب أن تكون في أغنيائهم وزعمائهم. وقد حملهم هذا الغرور على الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا أكثر أتباعه من الفقراء.
قال الآلوسى: وفي الآية دليل على أن صفات التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت.
ثم حكى- سبحانه- ما كان منهم عند سماعهم لما أنزل الله- تعالى- على رسوله من هدايات فقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ والمراد بالرسول: محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه: القرآن الكريم.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ والضمير في قوله سَمِعُوا يعود على الذين قالوا إنا نصارى بعد أن عرفوا الحق وآمنوا به.
أى، أن من صفات هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى زيادة على ما تقدم، أنهم إذا سمعوا ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن تأثرت قلوبهم. وخشعت نفوسهم وسالت الدموع من أعينهم بغزارة وكثرة من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن الكريم بعد أن كانوا غافلين عنه.
وفي التعبير عنهم بقوله: تَرى الدالة على الرؤية البصرية والتي هي أقوى أسباب العلم الحسى، مبالغة في مدحهم، حيث يراهم الرائي وهم على تلك الصورة من رقة القلب وشدة التأثر عند سماع الحق.
فلقد كانوا يحسون أنهم في ظلام وضلال فلما سمعوا الحق أشرقت له نفوسهم ودخلوا في نوره وهدايته وأعينهم تتدفق بالدموع من شدة تأثرهم به وحبهم له.
وقوله تَفِيضُ من الفيض وهو انصباب عن امتلاء: يقال فاض الإناء إذا امتلأ حين سال من جوانبه.
وقد أجاد صاحب الكشاف في تصوير هذا المعنى فقال: فإن قلت: ما معنى قوله: تَفِيضُ(4/256)
مِنَ الدَّمْعِ
قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه. فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها. أى: تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك: دمعت عينه دمعا.
فإن قلت: أى فرق بين من ومن في قوله: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بعد سماعهم للحق فقال: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
أى: يقولون بعد أن سمعوا الحق: يا ربنا إننا آمنا بما سمعنا إيمانا صادقا فاكتبنا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي آمنت به وشهدت بصدق رسولك محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق كل رسول أرسلته إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك عنهم ما علمه منهم من إصرارهم على الدخول في الدين الحق، فقال. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ.
فالآية الكريمة من تتمة قولهم.
والاستفهام هنا لإنكار انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجباته، وظهور أماراته ووضوح أدلته وشواهده.
والمعنى: وأى مانع يمنعنا من الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وبما جاءنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن يهدى إلى الرشد ومن توجيهات توصل إلى السعادة ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا- بسبب إيماننا- مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقيدة السليمة، وبالعبادات الصحيحة وبالأخلاق الفاضلة وهم أتباع هذا النبي الأمى محمد صلى الله عليه وسلم فأنت تراهم بعد أن استمعوا إلى القرآن تأثرت نفوسهم به تأثرا شديدا فاضت معه أعينهم بالدمع. ثم بعد ذلك التمسوا من الله- تعالى- أن يكتبهم مع الأمة الإسلامية التي تشهد على غيرها يوم القيامة. ثم بعد ذلك استنكروا واستبعدوا أن يعوقهم معوق عن الإيمان الصحيح مع قيام موجباته. وهذا
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 670(4/257)
كله يدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ومسارعتهم إلى قبول الحق عند ظهوره بدون تردد أو تقاعس:
وقولهم- كما حكى القرآن عنهم- وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا يدل على قوة إيمانهم، وصدق يقينهم، لأنهم مع هذا الإقبال الشديد على الدين الحق والمسارعة إلى العمل الصالح، لم يجزموا بحسن عاقبتهم، بل التمسوا من الله- تعالى- الطمع في مغفرته، وفي أن يجعلهم مع القوم الصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا المؤمن الصادق يستصغر عمله بجانب فضل الله ونعمه، ويقف من جزائه وثوابه- سبحانه- موقف الخوف والرجاء.
ولقد كان ما أعده الله- تعالى- لهؤلاء الأصفياء من ثواب شيئا عظيما، عبر عنه- سبحانه- بقوله: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ.
أى: فكافأهم الله- تعالى- بسبب أقوالهم الطيبة الدالة على إيمانهم وإخلاصهم، جنات تجرى من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار خالِدِينَ فِيها أى: باقين في تلك الجنات بقاء لا موت معه، وَذلِكَ العطاء الجزيل الذي منحه الله لهم جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أى: المؤمنين المخلصين في أقوالهم وأعمالهم.
والمراد بقوله بِما قالُوا: ما سبق أن حكاه عنهم- سبحانه- من قولهم: رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ورتب الثواب المذكور على القول: لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم، وعلى صدق يقينهم، والقول إذا اقترن بذلك فهو الإيمان.
قال الآلوسى: قوله. فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أى بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد، فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له، كما إذا قيل: هذا قول فلان، لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد.
وقيل: إن القول هنا مجاز عن الرأى والاعتقاد والمذهب كما يقال: هذا قول الامام الأعظم أى: هذا مذهبه واعتقاده. وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم: رَبَّنا آمَنَّا. وقولهم وَما لَنا لا نُؤْمِنُ «1» وقد بينت هذه الآية الكريمة أنه- سبحانه- قد أجابهم إلى ما طلبوا، بل أكبر مما طلبوا، فقد كانوا يطمعون في أن يكونوا مع القوم الصالحين، وأن يكتبهم مع الشاهدين. فأعطاهم-
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 6 [.....](4/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
سبحانه- جنات تجرى من تحتها الأنهار. وسماهم محسنين. والإحسان أعلى درجات الإيمان، وأكرم أوصاف المتقين.
هذا جزاء الذين سمعوا ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وقالوا ما قالوا مما يشهد بصفاء نفوسهم. أما الذين سمعوا فأعرضوا وجحدوا فقد بين- سبحانه- مصيرهم السيئ بقوله:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
أى: والذين كفروا وجحدوا الحق الذي جاءهم، وكذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق رسلنا فأولئك أصحاب الجحيم، أى: النار الشديدة الاتقاد. يقال: جحم فلان النار إذا شدد إيقادها.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت أولئك الذين قالوا إنا نصارى، لأنهم تأثروا بالقرآن عند سماعه فدخلوا في الدين الحق بسرعة ورغبة، فأكرمهم الله غاية الإكرام، وهذا ينطبق على كل نصراني ينهج نهجهم، ويسلك مسلكهم، فيدخل في الدين الحق كما دخل هؤلاء المحسنون.
أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله وحججه فأولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير.
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين نهاهم عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم، وأمرهم أن يتمتعوا بما رزقهم من رزق طيب حلال فقال- تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قال صاحب المنار بدأ الله- هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك.
ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك، ولم يتخلله إلا قليل من الأحكام. وهاتان الآيتان وما بعدهما عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة.
وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة وتجعل الآيات في أهل الكتاب مفصلا(4/259)
بعضها ببعض في باقيها. لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين.
على أن نظمه وترتيب آياته يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتنسيقه كما ترى في مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما مباشرة.
ذلك أنه- تعالى- ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله- تعالى- وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات. وقد أزال الله- تعالى- هذا الظن وقطع طريق تلك الرغبة بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ «1» .
هذا، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعددة منها ما أخرجه الترمذي وابن جرير عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى إذا أكلت انتشرت للنساء، وأخذتنى شهوتي فحرمت على اللحم. فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا.
الآية «2» .
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال، كان: أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وعن أبى قلابة قال: أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا، ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة. ثم قال: «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا» . قال: ونزلت فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا الآية وعن أبى طلحة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو منى، ومن لم يأخذ بسنتي فليس منى» .
وقد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه.
__________
(1) تفسير المنار ج 7 ص 18 بتصرف وبتلخيص
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 87(4/260)
والمراد بقوله: لا تُحَرِّمُوا: لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم من طيبات بأن تأخذوا على أنفسكم عهدا بعدم تناولها أو الانتفاع بها.
فالنهي عن التحريم هنا ليس منصبا على الترك المجرد. فقد يترك الإنسان بعض الطيبات لأسباب تتعلق بالمرض أو غيره. وإنما هو منصب على اعتقاد أن هذه الطيبات يجب تركها ويأخذ الشخص على نفسه عهدا بذلك.
والمراد بالطيبات: الأشياء المستلذة المستطابة المحللة التي تقوى بدن الإنسان وتعينه على الجهاد في سبيل الله، من طعام شهى، وشراب سائغ. وملبس جميل.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، لا تحرموا على أنفسكم شيئا من الطيبات التي أحلها الله لكم، فإنه- سبحانه- ما أحلها لكم إلا لما فيها من منافع وفوائد تعينكم على شئون دينكم ودنياكم.
وقوله: وَلا تَعْتَدُوا تأكيد للنهى السابق. والتعدي معناه: تجاوز الحدود التي شرعها الله- تعالى- عن طريق الإسراف أو عن طريق التقتير. أو عن طريق الاعتداء على حق الغير أو عن أى طريق يخالف ما شرعه الله- تعالى-.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في موضع التعليل لما قبله.
أى: لا تحرموا- أيها المؤمنون- على أنفسكم ما أحله الله لكم من طيبات ولا تتجاوزوا حدوده بالإسراف. أو بالتقتير أو بتناول ما حرمه عليكم فإنه- سبحانه- لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته، وسنن فطرته. وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن نهى- سبحانه- عن تحريم الطيبات أمر بتناولها والتمتع بها فقال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
والأمر في قوله وَكُلُوا للإباحة. وقيل إنه للندب. ويرى بعضهم أنه للوجوب لأن من الواجب على المؤمن ألا يترك أمرا أباحه الله- تعالى- تركا مطلقا لأن هذا الترك يكون من باب تحريم ما أحله الله.
أى: وكلوا- أيها المؤمنون- من الرزق الحلال الطيب الذي رزقكم الله إياه، وتفضل عليكم به وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه، وتلتزموا في مأكلكم ومشربكم وملبسكم وسائر شئونكم حدود شريعته، وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالأكل هنا التمتع بألوان الطيبات التي أحلها الله، فيدخل فيه الشرب مما كان حلالا، وكذلك يدخل فيه كل ما أباحه- سبحانه- من متعة طيبة تميل إليها النفوس وتشتهيها.(4/261)
وعبر عن مطلق التمتع بما أحله الله بالأكل، لأنه أعظم أنواع المتع، وأهم ألوان منافع الإنسان التي عليها قوام حياته.
وقد زكى- سبحانه- طلب التمتع بعطائه وخيره بأمور منها: أنه جعله مما رزقهم إياه، وأنه وصفه بكونه حلالا وليس محرما، ويكونه طيبا وليس خبيثا.
والمأكول أو المشروب أو غيرهما متى كان كذلك اتجهت نفس المؤمن إليه بارتياح وطمأنينة واجتهدت في الشكر لواهب النعم على ما أنعم وأعطى.
قال الآلوسى: قوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أى: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله- تعالى- فحلالا مفعول به لكلوا. ومِمَّا رَزَقَكُمُ حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا. والآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التوكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك.
وقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن.
والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى. وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم ثريد اللحم ومدحه، وكان يحب الحلوى» «1» .
وقال القرطبي: قال علماؤنا: في هذه الآية وما شابهها، والأحاديث الواردة في معناها، رد على غلاة المتزهدين، وعلى كل أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه.
قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء على نفسه مما أحل الله لعباده المؤمنين من طيبات المطاعم والملابس والمناكح. ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون.
وقد جاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال له ولم؟
قال: يقول، لا يؤدى شكره. فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ قال: نعم. فقال الحسن:
إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج «2» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 9
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 262 بتصرف وتلخيص(4/262)
والخلاصة أن هاتين الآيتين تنهيان المؤمنين عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم، وتأمرانهم بالتمتع بها بدون إسراف أو تقتير مع خشيتهم لله- تعالى- وشكره على ما وهبهم من نعم.
وذلك لأن ترك هذه الطيبات يؤدى إلى ضعف العقول والأجسام، والإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا أقوياء في عقولهم وفي أجسامهم وفي سائر شئونهم، لأن المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف- كما جاء في الحديث الشريف.
ولأن دين الإسلام ليس دين رهبانية، وفي الحديث الشريف «إن الله لم يبعثني بالرهبانية» «1» وإنما دين الإسلام دين عبادة وعمل، فهو لا يقطع العابد عن الحياة، ولكنه يأمره أن يعيش عاملا فيها غير منقطع عنها.
وإن التفاضل بين المؤمنين يكون باستقامة النفس، وسلامة العبادة وكثرة إيصال النفع للناس. ولا يكون بالانقطاع عن الدنيا، وتحريم طيباتها التي أحلها الله- تعالى.
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تؤيد معنى هاتين الآيتين الكريمتين.
أما الآيات فمنها قوله- تعالى- يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «2» .
ومنها قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ «3» .
وأما الأحاديث فمنها ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها- أى عدوها قليلة- فقالوا:
وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم: أما أنا فإنى أصلى الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.
فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى» «4»
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 9
(2) سورة الأعراف الآية 31
(3) سورة البقرة الآية 172.
(4) أخرجه البخاري في باب الترغيب في النكاح من كتاب النكاح ج 7 ص 2، وأخرجه مسلم في كتاب النكاح ج 4(4/263)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
ورحم الله الحسن البصري فقد قال: إن الله- تعالى- أدب عباده فأحسن أدبهم فقال- تعالى- لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ما عاب قوما ما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه» «1» .
فعلى المؤمن أن يجتنب تحريم الطيبات التي أحلها الله له، وأن يتمتع بها بدون إسراف أو تقتير، وأن يداوم على شكر الله على نعمه وآلائه، وأن يجعل جانبا من هذه النعم للإحسان إلى الفقراء والمحتاجين.
قال الفخر الرازي: لم يقل- سبحانه-: وكلوا ما رزقكم الله، ولكن قال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وكلمة «من» للتبعيض. فكأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «2» .
ثم بين- سبحانه- كفارة اليمين، وأمر المؤمنين بحفظ أيمانهم فلا يكثروا منها، فقال- تعالى-
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم: قالوا يا رسول الله. كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله- تعالى- قوله:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 672.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 72.(4/264)
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ الآية «1» واللغو من الكلام- كما يقول الراغب: ما لا يعتد به منه، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور. وقد يسمى كل قبيح لغوا. قال- تعالى- وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «2» .
ولغو اليمين. أن يحلف الحالف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك.
ويرى بعضهم أن لغو اليمين هو الذي يجرى على اللسان بدون قصد، كقولك لا والله وبلى والله.
وقد رجح هذا القول ابن كثير فقال ما ملخصه. واللغو في اليمين هو قول الرجل في الكلام من غير قصد: لا والله وبلى والله وهو مذهب الشافعى. وقيل هو في الهزل. وقيل في المعصية:
وقيل على غلبة الظن وهو قول أبى حنيفة وأحمد والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله:
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ «3» .
وقوله: عَقَّدْتُمُ من العقد وهو الجمع بين أطراف الشيء لتوثيقه وهو نقيض الحل: وقرأ حمزة والكسائي عَقَّدْتُمُ بالتخفيف. وقرأ ابن عامر «عاقدتم» .
والمراد بعقد الأيمان توكيدها وتوثيقها قصدا ونية.
والمعنى: لا يؤاخذكم الله- أيها المؤمنون- فضلا منه وكرما على اللغو في اليمين وهو ما يجرى على ألسنتكم بدون قصد. ولكن يؤاخذكم بالعقوبة في الآخرة أو بوجوب الكفارة بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية، إذا حنثتم فيها، بأن تعمدتم الكذب في أيمانكم.
فالمراد بعدم المؤاخذة في قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ: عدم المعاقبة في الدنيا بالكفارة ولا في الآخرة بالعقوبة.
والمراد بالمؤاخذة في قوله: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ: العقوبة الأخروية عند جمهور الفقهاء ويرى الشافعى أن المراد بها الكفارة التي تجب على الحانث.
وقوله فِي أَيْمانِكُمْ متعلق باللغو. وما في قوله بِما عَقَّدْتُمُ مصدرية أى: ولكن يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها. ويحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف. أى ولكن يؤاخذكم بالذي عقدتم الأيمان عليه.
وقوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 7 ص 13.
(2) المفردات في غريب القرآن ص 451.
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 89.(4/265)
بيان لكيفية الكفارة والضمير في قوله: فكفارته يعود على الحنث الدال عليه سياق الكلام وإن لم يجر له ذكر.
أى: فكفارة الحنث. ولا مانع من عودته إلى الحالف إذا حنث في يمينه فيكون المعنى:
فكفارة الحالف إذا حنث في يمينه إطعام عشرة مساكين لأن الشخص الحانث في يمينه هو الذي يجب عليه التكفير عن حنثه.
والكفارة من الكفر بمعنى الستر، وهي اسم للفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة، أى تسترها وتمحوها، لأن الشيء الممحى يكون كالشىء المستور الذي لا يرى ولا يشاهد.
وكلمة أَوْسَطِ يرى بعضهم أنها بمعنى الأمثل والأحسن، لأن لفظ الأوسط كثيرا ما يستعمل بهذا المعنى ومنه قوله- تعالى قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ «1» أى:
قال أحسنهم عقلا وأمثلهم فكرا ونظرا.
ويرى آخرون أن الأوسط هنا بمعنى المتوسط لأن هذا هو الغالب في استعمال هذه الكلمة، أى يطعمهم لا من أفخر أنواع الطعام ولا من أردئه ولكن من الطعام الذي يطعم منه أهله في الغالب.
والمعنى: لقد تفضل الله عليكم- أيها المؤمنون- بأن رفع عنكم العقوبة والكفارة في الأيمان اللغو، ولكنه- سبحانه- يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها إذا ما حنثتم فيها ومتى حنث أحدكم في يمينه، فمن الواجب عليه لتكفير هذا اليمين ومحو إثمه أن يطعم عشرة مساكين طعاما يكون من متوسط ما يطعم منه أهله في الجودة والمقدار، أو أن يكسو هؤلاء المساكين العشرة كساء مناسبا ساترا للبدن أو أن يحرر رقبة بأن يعتق عبدا من الرق فيجعله حرا.
قال الجمل ما ملخصه: وقوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ مبتدأ وخبر.
وقوله: إطعام مصدر مضاف لمفعوله، وهو مقدر بحرف وفعل مبنى للفاعل أى فكفارته أن يطعم الحانث عشرة، وفاعل المصدر يحذف كثيرا.
وقوله: مِنْ أَوْسَطِ في محل نصب مفعول ثان لإطعام ومفعوله الأول عشرة أى:
فكفارته أن تطعموا عشرة مساكين إطعاما من أوسط ما تطعمون أهليكم.. وقوله:
ما تُطْعِمُونَ مفعوله الأول: أهليكم، ومفعوله الثاني: محذوف أى: «تطعمونه أهليكم» «2» .
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد خير الحانث في يمينه بين أمور ثلاثة يختار إحداها، فإذا لم
__________
(1) سورة ن الآية: 28. [.....]
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 521.(4/266)
يستطع إحداها، فقد بين سبحانه له حكما آخر فقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ.
أى: فمن لم يجد ما يكفر حنثه في يمينه من إطعام أو كساء أو تحرير رقبة فعليه حينئذ أن يصوم ثلاثة أيام، تطهيرا لنفسه، وتكفيرا عن ذنبه، وتقوية لإرادته وعزيمته.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ يعود إلى المذكور من الإطعام والكساء وتحرير الرقبة والصوم.
أى: ذلك الذي شرعناه لكم كفارة لأيمانكم إذا حلفتم وحنثتم فيها، وخالفتم طريق الحق الذي أمركم الله تعالى باتباعه.
وقوله: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أمر من الله تعالى لعباده بأن يصونوا أنفسهم عن الحنث في أيمانهم، وعن الإكثار منها لغير ضرورة، فإن الإكثار من الحلف بغير ضرورة يؤدى إلى قلة الحياء من الله تعالى. كما أن الحلف الكاذب يؤدى إلى سخطه سبحانه على الحالف وبغضه له.
وقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تذييل قصد به التذكير بنعم الله حتى يداوم الناس على شكرها وطاعة واهبها عز وجل.
أى: مثل هذا البيان البديع الجامع لوجوه الخير والفلاح، يبين الله لكم آياته المشتملة على الأحكام الميسرة، والتشريعات الحكيمة، والهدايات الجليلة لعلكم بذلك تستمرون على شكر الله وطاعته، وتواظبون على خشيته ومراقبته فتنالون ما وعدكم من فلاح وسعادة.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1- أن اليمين اللغو لا مؤاخذة فيها. أى: لا عقوبة عليها في الآخرة ولا كفارة لها في الدنيا لقوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ.
ونعنى بها- كما سبق أن أشرنا- أن يقول الرجل من غير قصد الحلف لا والله وبلى والله.
ومع هذا فمن الأفضل للمؤمن ألا يلجأ إلى الحلف إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو لذلك لأن الإكثار من الحلف يسقط مهابة الإنسان، وقد يفضى به إلى الاستهانة بالآداب الحميدة التي شرعها الله.
قال تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» .
2- أن اليمين التي يحلفها الحالف بالقصد والنية وهو كاذب فيها، يستحق صاحبها العذاب
__________
(1) سورة النحل الآية 94.(4/267)
الشديد من الله- تعالى-، وهي التي يسميها الفقهاء باليمين الغموس، أى التي تغمس صاحبها في النار- قال- تعالى- وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ.
أى: بما صممتم عليه منها وقصدتموه وأنتم حانثون فيها.
قال القرطبي ما ملخصه: خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله. قال:: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين. قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس» قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو كاذب فيها» .
وخرج مسلم عن أبى أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: وإن كان قضيبا من أراك» .
وقد اختلف في اليمين الغموس فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها. لأن هذا الحالف قد جمع بين الكذب، واستحلال مال الغير، والاستخفاف باليمين بالله. فأهان ما عظمه الله، وعظم ما حقره الله، ولهذا قيل: إنما سميت اليمين الغموس غموسا، لأنها تغمس صاحبها في النار.
وقال الشافعى: «هي يمين منعقدة، لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله- تعالى-، وفيها الكفارة.
والصحيح الأول: وهو قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الأوزاعى والثوري وأهل العراق وأحمد وإسحاق وأصحاب الحديث وأصحاب الرأى من أهل الكوفة «1» :
3- أن أَوْ في قوله- تعالى-: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ للتخيير.
أى: أن الحالف إذا حنث في يمينه فهو مخير بين واحد من أمور ثلاثة ليكفر عن يمينه التي حنث فيها. وهذه الثلاثة هي الإطعام أو الكسوة، أو عتق الرقبة. فإذا لم يجد إحدى هذه الكفارات الثلاث انتقل إلى الصوم.
قال الفخر الرازي: وأعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم.
ومعنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ولا يجوز له تركها
__________
(1) تفسير القرطبي ج 1 ص 268.(4/268)
جميعا. ومتى أتى بأى واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة. فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير» «1» .
وللعلماء أقوال متعددة في الإطعام المطلوب لكفارة اليمين.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ لا بد عندنا- أى المالكية- وعند الشافعى من تمليك ما يخرج لهم ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه.
وقال أبو حنيفة: لو غداهم وعشاهم جاز. والأوسط هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين- أى يطعمهم من غالب الطعام الذي يطعم منه أهله لا من أدناه حتى لا يبخس المساكين حقهم ولا من أعلاه حتى لا يتكلف ما يشق عليه- والإطعام عند مالك: مد «2» لكل واحد من المساكين العشرة. وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة: يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعا. أى يخرج ما يجب في صدقة الفطر.
ولا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد وبه قال الشافعى، لأن الله- تعالى- نص على العشرة فلا يجوز العدول عنهم، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا، فيتفرغون فيه لعبادة الله ولدعائه، فغفر للمكفر بسبب ذلك.
وقال أبو حنيفة: يجزئه- أى: إذا أطعم واحدا عشر مرات أغنى عن إطعام العشرة- لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه» «3» .
والكسوة التي تصلح لكفارة اليمين يلاحظ فيها أن تكون سابغة في الجملة وهي تختلف باختلاف الأزمان والأحوال.
قال الشافعى: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة- من قميص أو سراويل- أجزأه ذلك.
وقال مالك وأحمد: لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلى فيه، إن كان رجلا أو امرأة كل بحسبه.
وقال أبو حنيفة: الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار. ولا تجزئ القيمة عن
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 74.
(2) المد: ربع صاع
(3) تفسير القرطبي ج 7 ص 276.(4/269)
الطعام والكسوة عند الشافعى.
وقال أبو حنيفة: تجزئ القيمة، لأن الغرض سد حاجة المحتاج، وقد تكون القيمة أنفع له.
والنوع الثالث الذي به تكون كفارة اليمين: تحرير رقبة أى: إعتاقها من الرق، والمراد بالرقبة جملة الإنسان.
قال الرازي: المراد بالرقبة: الجملة قيل: الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كانت تجمع يداه إلى رقبته بحبل. فإذا أطلق حل ذلك الحبل. فسمى الإطلاق من الرقبة فك الرقبة.
ثم جرى ذلك على العتق. وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال: تجزئ الكافرة كما تجزى المؤمنة. وقال الشافعى وآخرون: لا بد أن تكون مؤمنة.
فإن قيل: أى فائدة في تقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة؟ قلنا له وجوه.
أحدها: أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب، لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ.
وثانيها: قدم الإطعام لأنه أسهل، لكون الطعام أعم وجودا، والمقصود منه التنبيه على أنه- تعالى- يراعى التخفيف والتسهيل في التكاليف.
وثالثها: أن الإطعام أفضل، لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر. أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته «1» .
4- يرى مالك والشافعى أن قوله: تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يصدق على الصيام المتتابع والمتفرق، فلو صام الحالف ثلاثة أيام متفرقة أجزأه ذلك، لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما.
ويرى أبو حنيفة وأحمد صوم الثلاثة أيام متتابعة، فقد قرأ أبى بن كعب وعبد الله بن مسعود «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما.
وقال ابن كثير: واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق؟ قولان:
أحدهما: لا يجب وهذا منصوص الشافعى في كتاب الأيمان. وهو قول مالك، لإطلاق
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 3 ص 76 المطبعة البهية.(4/270)
قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله:
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ونص الشافعى في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع كما هو مذهب الحنفية والحنابلة لأنه قد روى عن أبى بن كعب وغيره أنه كان يقرؤها «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود. وهذه، إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل من أن يكون خبر واحد أو تفسيرا من الصحابة وهو في حكم المرفوع.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار؟ قال: أنت بالخيار. إن شئت أعتقت. وإن شئت كسوت. وإن شئت أطعمت.
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات «1» .
ويبدو لنا أن الصيام المتتابع أفضل، لأن قراءة أبى وحديث حذيفة يزكيانه، ولأنه رأى عدد كبير من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود.
5- أخذ بعض العلماء من قوله- تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ... إلخ. أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث لأن السبب في الكفارة هو الحنث، وما دام لم يتحقق فإنه لا كفارة.
وقال آخرون يجوز أن تتقدم الكفارة عند نية الحنث، وتقوم النية مقام الحنث بالفعل.
وقد تكلم عن هذه المسألة الإمام القرطبي فقال ما ملخصه: اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث أتجزئ أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها: يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة وعشرين من الصحابة، وجمهور الفقهاء، وهو مشهور مذهب مالك، فقد قال أبو موسى الأشعرى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وإنى والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» رواه وأخرجه أبو داود.
ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة، لقوله- تعالى ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها. وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث.
وثانيها: قال أبو حنيفة وأصحابه لا يجزئ بوجه لما رواه مسلم عن عدى بن حاتم قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حلف يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 91 بتلخيص يسير.(4/271)
خير- زاد النسائي- وليكفر عن يمينه» .
ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها. وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات.
وثالثها: قال الشافعى: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة ولا تجزئ بالصوم لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته. ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة» «1» .
6- أخذ العلماء من قوله- تعالى- وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أن من الواجب على المؤمن أن يقلل من الأيمان فلا يلجأ إليها إلا عند الضرورة، وأن يحرص على أن يكون صادقا فيها حتى لا يحتاج إلى التكفير عنها وأن يبادر إلى التكفير عنها إذا كانت المصلحة تستدعى الحنث فيها، لما سبق أن ذكره القرطبي من حديث أبى موسى الأشعرى وحديث عدى بن حاتم.
ولما رواه الشيخان عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وأن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير» .
هذا «وقد ساق صاحب المنار في نهاية تفسيره لهذه الآية بحوثا تتعلق بالأيمان فقال ما ملخصه:
(أ) لا يجوز في الإسلام الحلف بغير الله تعالى- وأسمائه وصفاته، لما رواه الشيخان من حديث ابن عمر: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» ورويا عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يحلف بأبيه فقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» .
روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عمر أيضا قال: كان أكثر ما يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: لا ومقلب القلوب.
وهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في حظر الحلف بغير الله تعالى ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم غير الله وكذلك الكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به.
(ب) ثم قال ويجوز الحنث للمصلحة الراجحة فقد روى الشيخان وأحمد عن عبد الرحمن ابن سمرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي رواية فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير» .
وينقسم الحلف باعتبار المحلوف عليه إلى أقسام:
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 275.(4/272)
1- أن يحلف على فعل واجب وترك حرام، فهذا تأكيد لما كلفه الله إياه فيحرم الحنث ويكون إثمه مضاعفا.
2- أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم، فهذا يجب عليه الحنث، لأنه يمين معصية على ترك فريضة من الفرائض، أو حق من الحقوق الواجبة عليه.
3- أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه، فهذا طاعة فيندب له الوفاء ويكره الحنث كذا قال بعضهم. والظاهر وجوب الوفاء كما قالوا في النذر.
4- أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه، فيستحب له الحنث ويكره التمادي كذا قالوا. وظاهر الحديث وجوب الكفارة والحنث مطلقا.
5- أن يحلف على ترك مباح وقد اختلفوا فيه: فقال ابن الصباغ: إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال.
أى أن الحالف يوازن بين مقدار الضرر الذي سيترتب على الاستمرار في الترك، والخير الذي يجلبه الحنث، فإن رجح أحدهما مضى فيه.
(ج) ثم قال: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأيمان- بحسب صيغتها وأحكامها- ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء ونحو ذلك، فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بل هي منهى عنها باتفاق أهل العلم والنهى نهى تحريم في أصح الأقوال. ففي الحديث: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» :
الثاني: اليمين بالله كقول القائل: والله لأفعلن كذا. فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين.
الثالث: أيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله، ومقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كالحلف بالنذر والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلى صيام شهر أو الحج إلى بيت الله.
فهذه الأيمان للعلماء فيها أقوال أظهرها أنه إذا حنث فيها لزمته كفارة يمين كما قال- تعالى- ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ. وقال تعالى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ.
(د) ثم ختم صاحب المنار مباحثه بقوله: واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الغش والخيانة، لن يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد من التوبة وأداء الحقوق(4/273)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
والاستقامة. قال- تعالى- وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها، وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم إذا ما حنثوا في أيمانهم، وحضتهم على حفظ أيمانهم، لكي ينالوا من الله- تعالى- الرضا والفلاح.
وبعد أن نهى الله المؤمنين عن تحريم ما أحله لهم، وأمرهم بأن يتمتعوا بما رزقهم من خير بدون إسراف أو تقتير، وبين لهم حكم ما عقدوه من أيمان بعد كل ذلك وجه- سبحانه- نداء ثانيا إليهم بين لهم فيه مضار الخمر وأشباهها من الرذائل، وأمرهم باجتنابها، فقال تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
قال الفخر الرازي: اعلم أن هذا النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع- فقد أمر الله المؤمنين بعدم تحريم الطيبات ثم بين حكم الأيمان المنعقدة.
ووجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه- تعالى- قال فيما تقدم: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إلى قوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً. ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر، لا جرم أنه- تعالى- بين أنهما غير داخلين في المحلات بل في المحرمات «2» .
والخمر- بمعنى المصدر- هو الستر، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء خمار.
والخمر- بمعنى الاسم- ما يخمر العقل ويستره، ويمنعه من التقدير السليم:
__________
(1) تفسير المنار ج 7 ص 40، 48
(2) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 79(4/274)
قال القرطبي: والخمر مأخوذة من خمر، إذا ستر، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها. وكل شيء غطى شيئا فقد خمره. ومنه: خمروا آنيتكم أى: غطوها.
وقيل: إنما سميت الخمر خمرا، لأنها تركت حتى أدركت كما يقال: قد اختمر العجين، أى:: بلغ إدراكه. وخمر الرأى، أى ترك حتى يتبين فيه الوجه.
وقيل: إنما سميت الخمر خمرا، لأنها تخالط العقل. من المخامرة وهي المخالطة. ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس- بفتح الخاء وضمها- أى: اختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته والأصل الستر» «1» .
والميسر: القمار- بكسر القاف- وهو في الأصل مصدر ميمى من يسر كالموعد من وعد.
وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة، لأن المال يجيء، للكاسب من غير جهد، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ، ثم أصبح علما على كل ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه.
قال القرطبي: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضوع التجزئة. وكل شيء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور. ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: يأسرون لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك» «2» .
والمراد بالميسر ما يشمل كل كسب يجيء بطريق الحظ المبنى على المصادفة فاللعب بالنرد على مال يسمى قمارا، واللعب بالشطرنج على مال يسمى قمارا وهكذا ما يشبه ذلك من ألوان تمليك المال بالمخاطرة وبطريق الحظ المبنى على المصادفة.
وتحريم الميسر تحريم لذات الفعل. فالعمل في ذاته حرام، والكسب عن طريقه حرام.
والأنصاب: جمع نصب، وتطلق على الأصنام التي كانت تنصب للعبادة لها أو على الحجارة التي كانت تخصص للذبح عليها تقربا للأصنام.
والأزلام: جمع زلم. وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت.
فسهم عليه واحد، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة. أو هي السهام التي كانوا يكتبون على أحدها: أمرنى ربي وعلى الآخر نهاني ربي، ويتركون الثالث غفلا من الكتابة فإذا أرادوا سفرا أو حربا أو زواجا أو غير ذلك، أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها، فإن خرج أمرنى ربي أقدموا
__________
(1) تفسير القرطبي ج 3 ص 51
(2) تفسير القرطبي ج 3 ص 53(4/275)
على ما يرونه، وإن خرج نهاني ربي أمسكوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي.
وقد نهى الله- تعالى- في أوائل هذه السورة عن الاستقسام بالأزلام فقال وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ «1» .
وقوله: رِجْسٌ أى قذر تأباه النفوس الكريمة والعقول السليمة لقذارته ونجاسته.
قال الفخر الرازي: والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل. يقال: رجس الرجل رجسا إذا عمل عملا قبيحا: وأصله من الرجس- بفتح الراء- وهو شدة الصوت. يقال:
سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد. فكأن الرجس هو العمل الذي يكون قوى الدرجة كامل الرتبة في القبح» «2» .
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه قال: نزلت فىّ آيات من القرآن، وفيه قال. وأتيت على نفر من الأنصار فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا وذلك قبل أن تحرم الخمر- قال فأتيتهم في حش- أى بستان- فإذا رأس جزور مشوى عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم. قال:
فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار. قال. فأخذ رجل- من الأنصار- لحى جمل فضربني به فجرح أنفى، فأتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ.. الآيات «3» .
ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار. شربوا حتى ثملوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا، جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل هذا بي أخى فلان- وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن- والله لو كان بي رءوفا رحيما ما فعل بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ. إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «4» .
والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقا. إنما تعاطى الْخَمْرُ أى: الشراب الذي يخامر العقل ويخالطه ويمنعه من التفكير السليم وَالْمَيْسِرُ أى القمار الذي عن طريقه يكون تمليك
__________
(1) الآية 3 من سورة المائدة. [.....]
(2) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 79
(3) تفسير القرطبي ج 6 ص 286
(4) تفسير ابن جرير ج 7 ص 34(4/276)
المال بالحظ المبنى على المصادفة والمخاطرة وَالْأَنْصابُ أى: الحجارة التي تذبح عليها الحيوانات تقربا للأصنام. وَالْأَزْلامُ أى: السهام التي عن طريقها يطلب الشخص معرفة ما قسم له من خير أو شر. هذه الأنواع الأربعة رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أى: مستقذرة تعافها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، لأنها من تزيين الشيطان الذي هو عدو للإنسان، ولا يريد له إلا ما كان شيئا قبيحا.
قال- تعالى-: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ.
والفاء في قوله فَاجْتَنِبُوهُ للإفصاح، والضمير فيه يعود على الرجس الذي هو خبر عن تلك الأمور الأربعة وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.
أى: إذا كان تعاطى هذه الأشياء الأربعة رجسا وقذرا ينأى عنه العقلاء فاجتنبوه لعلكم بسبب هذا الاجتناب والترك لذلك الرجس تنالون الفلاح والظفر في دنياكم وآخرتكم.
والنداء بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عام لجميع المؤمنين، وقد ناداهم- سبحانه- بهذه الصيغة لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يستجيبوا لما نودوا من أجله، وهو اجتناب تلك الرذائل وتركها تركا تاما.
وقوله: رِجْسٌ خبر عن هذه الرذائل الأربعة. وصح الإخبار به- مع أنه مفرد- عن متعدد هو هذه الأربعة، لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير وشبيه بذلك قوله- تعالى- إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.
وقيل: لأنه خبر عن الخمر، وخبر المعطوفات عليها محذوف ثقة بالمذكور وقيل: لأن في الكلام مضافا إلى تلك الأشياء، وهو خبر عنه. أى: إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس.
وقوله: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ في محل رفع على أنه صفة لقوله: رِجْسٌ أى: رجس كائن من عمل الشيطان، لأنه ناجم عن تزيينه وتسويله، إذ هو خبيث والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث فالمراد من إضافة العمل إلى الشيطان المبالغة في كمال قبح ذلك العمل.
وعبر بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ للمبالغة في الأمر بترك هذه الرذائل، فكأنه سبحانه يقول لا آمركم فقط بترك الرذائل، بل أمركم أيضا بأن تكونوا أنتم في جانب وهذه المنكرات في جانب آخر. فالأمر هنا منصب على الترك وعلى كل ما يؤدى إلى اقتراف هذه المنكرات كمخالطة المرتكبين لها. وغشيان مجالسها. إلخ.
ثم أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية فقال تعالى إِنَّما يُرِيدُ(4/277)
الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
أى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ بتزيينه المنكرات لكم أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بأن يقطع ما بينكم من صلات، ويثير في نفوسكم الأحقاد والضغائن بسبب تعاطيكم للخمر والميسر، وذلك لأن شارب الخمر إذا ما استولت الخمر على عقله أزالت رشده. وأفقدته وعيه، وتجعله قد يسيء إلى من أحسن إليه، ويعتدى على صديقه وجليسه. وذلك يورث أشد ألوان العداوة والبغضاء بين الناس.
ولأن متعاطى الميسر كثيرا ما يخسر ما له على مائدة الميسر. والمال كما نعلم شقيق الروح، فإذا ما خسره هذا المقامر صار عدوا لمن سلب ماله منه عند المقامرة، وأصبح يضمر له السوء. وقد يؤدى به الحال إلى قتله حتى يشفى غيظه منه، لأنه قد جعله فقيرا بائسا مجردا من أمواله بعد أن كان مالكها وفي ذلك ما فيه من تولد العداوة والبغضاء وإيقاد نار الفتن والشرور بين الناس.
فقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية.
أما مفاسدهما الدينية فقد أشار إليها سبحانه بقوله: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ.
أى: ويريد الشيطان أيضا بسبب تعاطيكم للخمر والميسر- أن يصدكم أى يشغلكم ويمنعكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أى: عن طاعته ومراقبته والتقرب إليه وَعَنِ الصَّلاةِ التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام.
وذلك لأن شارب الخمر يمنعه ما حل به من نشوة كاذبة، ومن فقدان لرشده عن طاعة الله وعن أداء ما أوجبه عليه من صلاة وغيرها.
ولأن متعاطى الميسر بسبب استحلاله لكسب المال عن هذا الطريق الخبيث، ويسبب فقدانه للعاطفة الدينية السليمة صار لا يفكر في القيام بما أوجبه الله عليه من عبادات.
ورحم الله الآلوسى، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: ووجه صد الشيطان لهم عن ذكر الله وعن الصلاة بسبب تعاطيهم للخمر والميسر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس.
والاستغراق في الملاذ الجسمانية، تلهى عن ذكر الله تعالى- وعن الصلاة.
وأن الميسر إن كان اللاعب به غالبا، انشرحت نفسه، وصده حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر، وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يخطر بقلبه غير ذلك.(4/278)
وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجرى بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن ذكر الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويحار لشناعته الفهم وتسود رقعة الأعمال «1» .
وجمع- سبحانه- الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم أفردهما بالذكر في هذه الآية، لأن الخطاب للمؤمنين، والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر، وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة، أى أن مجيء الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر إنما هو لتقبيح تعاطيهما، وتأكيد حرمتهما، حتى لكأن متعاطى الخمر والميسر يفعل أفعال أهل الجاهلية، وأهل الشرك بالله- تعالى- وكأنه- كما يقول الزمخشري-: لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب، وبين من شرب خمرا أو قامر.
وخص الصلاة بالذكر مع أنها لون من ألوان ذكر الله، تعظيما لشأنها، كما هو الحال في ذكر الخاص بعد العام، وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان، لما أنها عماد الدين والفارق بين المسلم وبين الكافر.
والاستفهام في قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لإنكار استمرارهم على الخمر والميسر بعد أن بين لهم ما بين من مضارهما الدنيوية والدينية ولحضهم على ترك تعاطيهما فورا، أى: انتهوا سريعا عنهما فقد بينت لكم ما يدعو إلى ذلك.
ولقد لبى الصحابة- رضى الله عنهم- هذا الأمر فقالوا: «انتهينا يا رب انتهينا يا رب» وألقوا ما عندهم من خمر في طرقات المدينة.
ثم أكد- سبحانه- وجوب هذا الانتهاء بأن أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا.
أى: اجتنبوا- أيها المؤمنون- هذه الرذائل وانتهوا عنها فقد بينت لكم مضارها، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في جميع ما أمرا به ونهيا عنه وَاحْذَرُوا مخالفتهما، لأن مخالفة أوامرهما تؤدى إلى الحسرة والخسران.
وأمر- سبحانه- بطاعته وبطاعته رسوله مع أن طاعة رسوله طاعة له- سبحانه- لتأكيد الدعوة إلى هذه الطاعة، ولتكريم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعلت طاعته مجاورة لطاعة الله- تعالى-.
وقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تأكيد للتحذير السابق وتنبيه إلى سوء عاقبة العاصين لأمر الله ورسوله.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 16(4/279)
وجواب الشرط محذوف والتقدير: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول- أيها المؤمنون- واحذروا مخالفة أمرهما، فإن توليتم وأعرضتم عن طاعتهما، فقد وقعتم في الخطيئة وستعاقبون عليها عقابا شديدا، واعلموا أنه ليس على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سوى التبليغ الواضح البين عن الله- تعالى- أما الحساب والجزاء، والثواب والعقاب فمن الله وحده.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا من التأكيدات، وألوانا من التهديدات التي تدعو إلى اجتناب الخمر والميسر اجتنابا تاما وتركهما تركا لا عودة بعده إليهما.
وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى بقوله: أكد- سبحانه- تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد:
منها: تصدير الجملة بإنما.
ومنها: قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله- صلى الله عليه وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن» .
ومنها: أنه جعلهما رجسا كما قال- تعالى- فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان، لا يأتى منه إلا الشر البحت.
ومنها: أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب.
ومنها: أنه جعل الاجتناب من الفلاح. وإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة وخسرانا.
ومنها: أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال- وهو وقوع التعادي والتباغض- وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة.
ومنها: قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فهو من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم باقون على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟؟؟» «1» .
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- أن هذه الآيات الكريمة هي آخر ما نزل في القرآن لتحريم الخمر تحريما قاطعا لأن التعبير بالانتهاء والأمر به فيه إشارة إلى تمهيدات سابقة للتحريم.
قال القرطبي: تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة. فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأن الخمر قوله- تعالى- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «2» أى: في تجارتهم. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة فيما فيه
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 675- بتصرف يسير-
(2) سورة البقرة الآية 219(4/280)
إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس. وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «1» فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة فيما يشغلنا عن الصلاة وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية. فصارت حراما عليهم حتى صار بعضهم يقول: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر» «2» .
وأخرج عبد بن حميد عن الربيع أنه قال: لما نزلت آية البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ، ثم نزلت آية النساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ، ثم نزلت آية المائدة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فحرمت عند ذلك.
ولما سمع عمر قوله- تعالى- فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: انتهينا يا رب «3» ولا شك في أن تدرج القرآن في تحريم الخمر يدل دلالة واضحة على رحمة الله- تعالى- بعباده المؤمنين وتربية حكيمة حتى يقلعوا عما تعودوه بسهولة ويسر وذلك لأن شرب الخمر كان من العادات المتأصلة في النفوس ويكفى للدلالة على حب العرب لها قول أنس بن مالك: حرمت الخمر ولم يكن للعرب عيش أعجب منها. وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر» .
ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يحبونه ويشتهونه، يمثل اسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأمر الله- تعالى- فعند ما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات، بل وحطموا الأوانى التي كانت توضع فيها الخمر.
أخرج البخاري عن أنس قال: كنت ساقى القوم في منزل أبى طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ- أى: نقيع البسر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادى «ألا إن الخمر قد حرمت» .
قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها. قال: فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة «4» وأخرج ابن جرير عن قتادة عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبى طلحة، وأبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبى دجانة حتى مالت رءوسهم من
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 286
(3) تفسير الآلوسى ج 7 ص 17
(4) البخاري في باب: صب الخمر من كتاب «المظالم والغضب» ج 3 ص 173.(4/281)
خليط بسر وتمر، فسمعنا مناديا ينادى: إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا ثم خرجنا إلى المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
فقال رجل لقتادة: سمعته من أنس بن مالك؟ قال: نعم وقال رجل لأنس أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وحدثني من لم يكذب: والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب «1» .
وأخرج ابن جرير- أيضا- عن أبى بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن نشرب الخمر حلا، إذ قمت حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. الآيات. فجئت إلى أصحابى فقرأتها عليهم، إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضا وبقي بعض الإناء، فقال بالإناء تحت شفته «2» العليا، كما يفعل الحجام. ثم صبوا ما في باطيتهم، فقالوا:
انتهينا ربنا، انتهينا ربنا» «3» .
وهكذا ترى أن قوة الإيمان التي غرسها الإسلام في نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه الحكيمة وتربيته السامية. قد تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع إلفا شديدا.
2- أن كلمة خمر اسم لما خامر العقل وغطاه من الأشربة المسكرة، سواء كانت من عصير العنب، أم من الشعير، أم من التمر، أم من غير ذلك وكلها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر، سكر شاربها أو لم يسكر، وأن على الشارب حد الشرب في الجميع.
وبهذا القول قال جمهور العلماء: ومن أدلتهم النقلية ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال:
خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر وهي خمسة أشياء: «العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل» .
وأخرج أيضا عن عائشة قالت: «سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن التبع- وهو نبيذ العسل- وكان
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 7 ص 37.
(2) قوله: «فقال بالإناء» الفعل قال هنا بمعنى أخذ أو فعل: والمعنى أنه أخذ الإناء الذي يشرب فيه الخمر فضرب به تحت شفته العليا حتى جرحها كما يجرح الحجام من يريد حجامته، والقصد من ذلك قهر نفسه والتصميم على الكف عن شرب الخمر كفا باتا. والباطية: إناء يوضع فيه الخمر.
(3) تفسير ابن جرير ج 7 ص 34(4/282)
أهل اليمن يشربونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل ما أسكر فهو حرام» .
وأخرج كذلك عن أنس قال: «حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد- يعنى بالمدينة- خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر» «1» .
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أن ما أسكر من هذه الأشربة المأخوذة من التمر أو الحنطة أو الشعير أو العنب يسمى خمرا.
ومن أدلتهم العقلية أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره.
ويرى الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبى ليلى:
أن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط. أما المسكر من غيره كالشراب الذي من التمر والشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذا.
ومن حججهم أن الخمر حرمت ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط. وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا: لأن اللغة لا تثبت من طريق القياس.
وقد ورد عن ابن عمر أنه قال: «حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء» .
ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر، فدل على أن ابن عمر- وهو عربي- ما كان يرى أن اسم الخمر يتناول هذين.
ويقول الأحناف ومن وافقهم: إن الأحاديث التي استشهد بها الجمهور على أن الخمر اسم لكل مسكر من عصير العنب أو غيره هذه الأحاديث لبيان الحكم الشرعي، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة وهي الإسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء.
وقد ابتنى على هذا الخلاف بين الجمهور والأحناف أحكام أخرى تتعلق بنجاسة هذه الأشياء، وبوجوب إقامة الحد على شاربها.. إلخ وتفصيل هذه الأحكام يرجع فيه إلى كتب الفقه وأصوله.
هذا، وقد رجح المحققون من العلماء ما ذهب إليه الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الأشربة ج 7 ص 136 [.....](4/283)
قال ابن العربي: وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما رواه الأئمة أن أنسا قال: «حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا القليل، وعامة خمرها البسر والتمر» .
واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم- أى: أوانى الخمر- وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك كله خمر «1» - أى: وأقرهم رسول الله على ذلك.
وقال الآلوسى: وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأى اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده فهو حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع- وهو نبيذ العسل- فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» .
وروى أبو داود: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر» .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . والأحاديث متضافرة على ذلك.
ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر، ورغبتهم فيها، فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير. وقد وضعوا لها أسماء- كالعنبرية والإكسير- ونحوهما، ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة، وتبيح شربها للأمة- وهيهات هيهات- فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون «2» .
3- قال القرطبي ما ملخصه: «فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها.
وخالفهم في ذلك- ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعى. وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة وأن المحرم إنما هو شربها.
والصحيح ما عليه الجمهور لأن وصفها بأنها رِجْسٌ يدل على نجاستها فإن الرجس في اللسان النجاسة.
وقوله: فَاجْتَنِبُوهُ يقتضى الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في هذا الباب.
روى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، - أى قربة خمر-
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي ج 1 ص 149
(2) تفسير الآلوسى ج 2 ص 113(4/284)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل علمت أن الله حرمها» قال: لا. قال: فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بم ساررته» ؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» .
ثم قال القرطبي: وهذه الآيات تدل على أن كل لهو دعا قليله إلى كثيره، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، ووجب أن يكون حراما مثله «1» .
4- هذه الآيات الكريمة تدل على تأكيد تحريم الخمر وما ذكر معها من رذائل، كما تدل على تحريم ما تؤدى إليه من مفاسد ومضار، وما يحيق بمرتكبها من سوء عاقبة.
وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث في هذا المعنى، ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنت الخمر على عشرة أوجه: «لعنت الخمر بعينها، وشاربها، وساقيها وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها» .
وقال ابن وهب- قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» .
وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «صديد أهل النار» «2» .
هذا جانب من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة، ومن الأحاديث التي وردت في حرمة الخمر وفي سوء مصير شاربها.
وقد أتبع- سبحانه- ذلك ببيان حكم من شربها ومات قبل أن ينزل تحريمها فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 288- بتصرف وتلخيص
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 92(4/285)
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات متقاربة في معناها، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن البراء بن عازب قال: مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر. فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها قال: فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية وعن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر «لما نزل تحريم الخمر» فنزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الآية.
وروى الإمام أحمد من حديث أبى هريرة أنه بعد أن نزل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآيات، قال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان؟
فأنزل الله- تعالى-: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية «1» .
قال القرطبي: وهذه الآية وتلك الأحاديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح، لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله- تعالى- وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم، فرفع الله التوهم بقوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية «2» .
وقال الآلوسى: وقيل إن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار» «3» .
وقوله- تعالى- فِيما طَعِمُوا أى: ذاقوا، مأخوذ من الطعم- بالفتح- وهو تذوق الشيء والتلذذ به، سواء أكان مأكولا أم مشروبا وهو المراد هنا.
قال القرطبي: وأصل هذه الكلمة في الأكل. يقال: طعم الطعام وشرب الشراب لكن قد تجوز في ذلك فيقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما» «4» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 95
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 293
(3) تفسير الآلوسى ج 6 ص 211
(4) تفسير القرطبي ج 6 ص 296(4/286)
والمعنى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أى: حرج أو إثم فِيما طَعِمُوا أى فيما تناولوه من خمر أو ما يشبهها من محرمات قبل أن يحرمها الله- تعالى- وكذلك لا إثم ولا حرج على من مات قبل التحريم.
وقوله: إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تحريض للمؤمنين على الازدياد من الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
أى: إذا ما اتقوا الله وخافوه وتلقوا أوامره بالقبول، وثبتوا على الإيمان، وأكثروا من الأعمال الصالحات.
وقوله: ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا معطوف على ما قبله.
أى: ثم استمروا على تقواهم وامتلاء قلوبهم بخشية الله، والإيمان الحق به- سبحانه- فتكرير التقوى والإيمان هنا لبيان أنه يجب استمرارهم ومواظبتهم على ذلك، مع تمسكهم بما يقتضيه الإيمان والتقوى من فعل الخير وابتعاد عن الشر.
وقوله: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا معطوف على ما قبله- أيضا- لتأكيد معنى الاستمرار على هذه التقوى طول مدة حياتهم مع إحسانهم إلى أنفسهم بالإكثار من العمل الصالح، وإلى غيرهم بما يستطيعونه من إسداء الخير إليه.
وقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الحض على الإيمان والتقوى والإحسان، ومدح المتمسكين بتلك الصفات الحميدة.
أى: والله- تعالى- يحب المحسنين إلى أنفسهم بإلزامها بالوقوف عند حدود الله، والاستجابة له فيما أمر أو نهى أو أحل أو حرم برغبة ومسارعة، وإلى غيرهم بمديد العون إليهم.
فالآية الكريمة من مقاصدها بيان جانب من مظاهر رحمة الله بعباده، ورأفته بهم حيث بين لهم: أن من شرب الخمر أو لعب الميسر أو فعل ما يشبههما من محرمات، ثم مات قبل أن ينزل الأمر بتحريم هذه الأشياء فإن الله- تعالى- لا يؤاخذه على ذلك. لأن المؤاخذة على الفعل تبدأ من وقت تحريمه لا من قبل تحريمه.
وكذلك الحال بالنسبة لمن وقع في هذه الأشياء قبل أن تحرم فإن الله لا يؤاخذه عليها، وإنما يؤاخذه عليها بعد نزول تحريمها وهذا من فضل الله على عباده، ورحمته بهم.
هذا، وقد تعددت أقوال المفسرين حول مسألتين تتعلقان بهذه الآية الكريمة.
أما المسألة الأولى فهي: كيف شرط الله في رفع الجناح أى الإثم عن المطعومات والمشروبات الإيمان والتقوى، مع أن الجناح مرفوع عن المباح من هذه الأشياء حتى عن الكافرين؟(4/287)
وقد قالوا في الإجابة عن ذلك: إن تعليق نفى الجناح أى الإثم بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها فإن نفى الإثم عن الذي يتناول المباح قبل أن يحرم لا يشترط بشرط، وإنما تعليق نفى الجناح بهذه الأحوال- وهي التقوى والإيمان- وارد على سبيل المدح لهم، والثناء عليهم والدلالة على أنهم جديرون بهذه الصفات، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم حتى يوقنوا بأن من تعاطى شيئا من المحرمات قبل تحريمها فلا يؤاخذه الله على ذلك، وإنما يؤاخذه إذا تعاطاها بعد تحريمها.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: «قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة:
يا رسول الله!! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؟ فنزلت الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ.. إلخ يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا، على معنى: أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد جناح فيما فعل؟ فتقول: وقد علمت أن ذلك أمر مباح: ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم، وكان مؤمنا محسنا. تريد: أن زيدا تقى مؤمن محسن، وأنه غير مؤاخذ بما فعل» «1» .
وقال أبو السعود ما ملخصه: ما عدا التقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة، لا دخل لها في انتفاء الجناح. وإنما ذكرت في حيز إِذا شهادة باتصاف الذين سألوا عن حالهم بها، ومدحا لهم بذلك، وحمدا لأحوالهم. فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى: مع مالهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك، ولو حرما في عصرهم لا لاتقوهما بالمرة» «2» .
وأما المسألة الثانية التي كثرت أقوال المفسرين فيها فهي: تكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح. ومرة مع الإيمان ومرة مع الإحسان؟
وقد ذكر القرطبي في ذلك أربعة أقوال فقال:
الأول: أنه ليس في ذكر التقوى تكرار، والمعنى: اتقوا شربها وآمنوا بتحريمها، أو دام اتقاؤهم وإيمانهم، أو على معنى إضافة الإحسان إلى الاتقاء.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 676.
(2) تفسير أبى السعود ج 2 ص 57.(4/288)
والثاني: اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم وأحسنوا العمل.
الثالث: اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، والمعنى الثالث، ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أى تنفلوا.
الرابع: قال ابن جرير: الاتقاء الأول: هو الاتقاء بتلقى أمر الله بالقبول والتصديق، والدينونة به العمل. والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث: الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل» «1» .
والذي يبدو لنا أن ما قاله ابن جرير أقرب إلى الصواب، وأن تكرير التقوى إنما هو لتأكيد وجوب امتلاء قلب المؤمن بها، واستمراره على ذلك حتى يلقى الله. فإن المؤمن بمداومته على خشيته- سبحانه- يتدرج من الكمال إلى الأكمل حتى يصل في إيمانه وتقواه إلى مرتبة الإحسان التي ترفعه إلى أعلى عليين، والتي عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
ولقد بين لنا القرآن في مواطن كثيرة أن المؤمن يقوى إيمانه ويزداد، بكثرة تدبره ما أنزله الله من شرائع وهدايات. ومن ذلك قوله- تعالى- وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ «2» .
وقال تعالى- وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً «3» .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد طمأنت المؤمنين إلى أن الله- تعالى- لن يؤاخذهم بما تعاطوه من محرمات قبل تحريمها. وأن الواجب عليهم أن يستمروا على مراقبتهم له، وخشيتهم منه حتى يلقوه- عز وجل-.
وبعد أن حذر الله- تعالى- المؤمنين من تعاطى المنكرات كالخمر والميسر وبين لهم حكم من مات قبل تحريم هذه الأشياء بعد كل ذلك بين- سبحانه- بشيء من التفصيل بعض الأحكام التي تتعلق بالصيد فقال تعالى-:
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 296.
(2) سورة التوبة الآيتان 124، 125.
(3) سورة المدثر الآية 31.(4/289)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
[سورة المائدة (5) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
قال الآلوسى: هذه الآية- كما خرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حيان- نزلت في عمرة الحديبية، حيث ابتلاهم الله- تعالى- بالصيد وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم فهموا بأخذها فنزلت «1» .
وقوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ أى: ليختبرنكم وليمتحننكم من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان.
ولفظ الصيد في قوله: مِنَ الصَّيْدِ مصدر بمعنى المصيد أى: ما يصطادونه.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا ليختبرن الله- سبحانه- إيمانكم ومبلغ قوته بأن يرسل إليكم وأنتم محرمون شيئا من الصيد الذي تحبونه، بحيث يكون في متناول أيديكم ورماحكم.
وقوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ جواب قسم محذوف والتقدير: والله ليعاملنكم سبحانه معاملة المختبر ليتبين المطيع من العاصي.
وأكد- سبحانه- هذا الخبر بلام القسم ونون التوكيد للإشارة إلى أهمية هذا الاختبار حتى يسارعوا إلى طاعته- سبحانه وامتثال أمره.
والتنوين في قوله بِشَيْءٍ للتقليل والتحقير. وإنما امتحنوا بهذا الشيء الصغير، تنبيها إلى أن من لم يثبت ويعصم نفسه عن ارتكاب هذه الأشياء الصغيرة فإنه لن يثبت أمام التكاليف الكبيرة.
ويمكن أن يقال، إن التنوين هنا للتعظيم باعتبار الجزاء الأليم المترتب على الاعتداء على الصيد في حال الإحرام.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى التقليل والتصغير في قوله: بشيء من الصيد؟
قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين- كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال- وأنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه» «2» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 21. [.....]
(2) تفسير الكشاف ج 1 ص 677.(4/290)
وقوله: بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ هو موضع الاختبار ومِنَ في قوله مِنَ الصَّيْدِ لبيان الجنس. أو التبعيض، لأن المراد صيد البر دون البحر، وصيد الإحرام دون صيد الإحلال.
ومعنى تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ تستطيع أيديكم أن تأخذ هذا الصيد بسهولة ويسر إذا كان صغيرا وقريبا منكم، وتستطيع رماحكم أن تناله إذا كان كبيرا أو بعيدا بعدا نسبيا منكم.
وخص الأيدى والرماح بالذكر، لأن معظم التصرفات التي تتعلق بالصيد تكون بالأيدى، ولأن معظم الآلات التي تستعمل في الصيد تكون الرماح.
وقوله: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ تعليل قصد به بيان الحكمة من وراء الابتلاء والاختبار.
والمراد بالعلم في قوله: لِيَعْلَمَ اللَّهُ.. إظهار ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته، حتى يتميز الخبيث من الطيب.
والمعنى: اختبرناكم أيها المؤمنون بنوع من البلايا- وهو تحريم صيد البر صغارا وكبارا- وأنتم محرمون أو في الحرم، ليظهر ما علمه أزلا-- سبحانه- من أهل طاعته ومعصيته، وبذلك يتميز للناس الخبيث من الطيب، ويعرف الشخص الذي يخاف الله ويراقبه- مع أنه لم ير الله- سبحانه- من الشخص الذي لا يخافه بالغيب.
قال الجمل: وقوله بِالْغَيْبِ حال من فاعل يخافه، أى: يخاف الله حالة كونه غائبا عن الله ومعنى كون العبد غائبا عن الله، أنه لم ير الله تعالى.
أو حال من المفعول. أى: يخاف الله حال كونه- تعالى- ملتبسا بالغيب عن العبد، أى غير مرئى له «1» .
وقوله: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ بيان لسوء عاقبة المخالف لأوامر الله، والمتجاوز لحدوده.
واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما بينه- سبحانه- لعباده من أحكام.
والمعنى: لقد اختبرناكم- أيها المؤمنون- بما اختبرناكم به، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه، فمن تعدى منكم حدود الله بعد هذا البيان والإعلام، فله عذاب شديد الآلام عظيم الإهانة، لأن التعدي بعد الإنذار، دليل على عدم المبالاة بأوامر الله ومن لم يبال بأوامر الله ساءت عاقبته وقبح مصيره. هذا، ولقد نجحت الأمة الإسلامية وخصوصا سلفها الصالح في هذا الاختبار فقد
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 524.(4/291)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
تجنب أبناؤها وهم محرمون أو في الحرم مصيد البر مهما أغراهم قربه منهم، وحبهم له على صيده والانتفاع به.
بينما أخفق بنو إسرائيل فيما يشبه هذا الاختبار فقد نهاهم الله- تعالى- عن الصيد في يوم السبت، فكانت الأسماك تظهر لهم في هذا اليوم امتحانا من الله لهم، فما كان منهم إلا أن تحايلوا على صيدها، بأن حبسوها في يوم السبت ليصيدوها في غيره.. فاستحقوا من الله اللعنة والمسخ واستحقت الأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس.
ثم نهى- سبحانه- المؤمنين نهيا صريحا عن قتل الصيد وهم حرم وبين ما يجب على القاتل.
وكرر تحذيره وتهديده لمن يتعدى حدوده فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : آية 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
قال القرطبي: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب عام لكل مسلم، وهذا النهى هو الابتلاء المذكور في قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ..
الآية وروى أن أبا اليسر- واسمه عمرو بن مالك الأنصارى- كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت هذه الآية «1» .
والمراد بالصيد هنا المصيد، لأنه هو الذي يقع عليه القتل.
وقوله حُرُمٌ جمع حرام. وهذا اللفظ يتناول المحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما وإن كان في الحل، كما يتناول من كان في الحرم وإن كان حلالا.
قال ابن جرير: والحرم جمع حرام، يقال: هذا رجل حرام، وهذه امرأة حرام، فإذا قيل محرم، قيل للمرأة محرمة والإحرام: هو الدخول فيه. يقال: أحرم القوم: إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم، فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون» «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 302.
(2) تفسير ابن جرير ج 7 ص 40.(4/292)
والصيد المنهي عن قتله هنا: صيد البر، لأن صيد البحر قد أحله الله بعد ذلك بقوله:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ الآية.
والنهى كما يتناول قتل صيد البر بإزهاق روحه بأى طريق من طرق الإزهاق، يتناول- أيضا- قتله بطريق التسبب كالإشارة إليه مثلا. ويتناول كذلك حظر الصيد نفسه، لقوله- تعالى- في مطلع هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
ولقوله- تعالى- بعد هذه الآية التي معنا: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً.
فالنهي في قوله- تعالى- لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يتناول القتل عن طريق المباشرة أو التسبب كما يتناول أى عمل يؤدى إلى صيد الحيوان.
وإنما كان النهى في الآية منصبا على القتل، لأنه هو المقصود الأعظم من وراء مباشرة عملية الصيد إذ الصائد يريد قتل المصيد لكي يأكله في الغالب.
هذا، وقد اختلف الفقهاء في المصيد الذي يحرم صيده على المحرم.
فذهب بعضهم إلى أن المراد به ما يصاد مطلقا سواء أكان مأكولا أم غير مأكول ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء النص باستثنائه، وذلك لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول.
وبهذا الرأى قال الأحناف ومن وافقهم من الفقهاء.
ويرى الشافعية أن المراد به المأكول فقط، لأن الصيد إنما يطلق على ما يحل أكله فحسب.
وقد انبنى على هذا الخلاف أن من قتل وهو محرم سبعا، فالأحناف يرون أنه يجب عليه الجزاء الذي فصلته الآية. والشافعية يرون أنه لا يجب عليه ذلك.
قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
هذا تحريم منه- تعالى- لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهى عن تعاطيه فيه. وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول ولو ما تولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعى يجوز قتلها، والجمهور على تحريم قتلها أيضا ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» - وفي رواية الحية بدل العقرب- ومن العلماء(4/293)
كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور: الذئب والسبع والنمر والفهد، لأنها أشد ضررا منه» «1» .
وقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ بيان لما يجب على المحرم في حال قتله للصيد.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمعنى: وَمَنْ قَتَلَهُ كائنا مِنْكُمْ حال كونه مُتَعَمِّداً أى: ذاكرا لإحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله، ومثله من قتله خطأ.
والفاء في قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ جزائية إذا اعتبرنا مَنْ شرطية وهو الظاهر، وإذا اعتبرناها موصولة تكون زائدة لشبه المبتدأ بالشرط.
وقوله: فَجَزاءٌ بالرفع والتنوين- مبتدأ، ومِثْلُ مرفوع على أنه صفته، والخبر محذوف. أى: فعليه جزاء مماثل لما قتله، وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب. وقرأ باقى السبعة برفع جزاء بدون تنوين- ويجر «مثل» بالإضافة.
وقد خرجت هذه القراءة بتخريجات منها: أن تعتبر الإضافة بيانية أى: جزاء هو مثل ما قتل «2» .
وظاهر الآية يفيد ترتيب الجزاء على القتل العمد، إلا أنهم اختلفوا هنا على أقوال ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه:
قوله- تعالى-: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ذكر- سبحانه- المتعمد ولم يذكر المخطئ ولا الناسي، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام.
والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا. والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال:
الأول: ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا.
الثاني: أن قوله مُتَعَمِّداً خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة.
الثالث: أنه لا شيء على المخطئ والناسي وبه قال الطبري وأحمد- في إحدى روايته- وطاوس وداود وأبو ثور..
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 98.
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 24.(4/294)
الرابع: أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان، وبه قال مالك والشافعى وأبو حنيفة وأصحابهم.
قال الزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة. فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال: «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ.
الخامس: أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه- وهو قول مجاهد-، لقوله- تعالى- بعد ذلك وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ قال: ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة.
قال: فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه» «1» .
ويبدو لنا أن القول الرابع الذي قال به الأئمة أبو حنيفة والشافعى، ومالك أقرب إلى الصواب، لأن تخصيص العمد بالذكر في الآية، لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك دون الخطأ، ولأن جزاء الخطأ معروف من الأدلة التي قررت التسوية في ضمان المتلفات، إذ من المعروف أن من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم فعليه جزاؤه، فهذا حكم عام في جميع المتلفات ومادام الأمر كذلك كان الجزاء ثابتا على المحرم متى قتل الصيد سواء أكان قتله له عمدا أم خطأ.
وقد اختلف العلماء- أيضا في المراد بالمثل في قوله- تعالى- وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ.
فجمهور الفقهاء يرون أن المراد بالمثل النظير. أى أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد المقتول وبين حيوان يقاربه في الحجم والمنظر من النعم وهي الإبل والبقر والغنم.
ومن حججهم أن الله أوجب مثل المصيد المقتول مقيدا بكونه من النعم، فلا بد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وعليه فلا تصح القيمة لأنها ليست من النعم.
قال ابن كثير: وفي قوله- تعالى-: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ دليل لما ذهب إليه مالك والشافعى وأحمد من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسى، خلافا لأبى حنيفة حيث أوجب القيمة سواء أكان الصيد المقتول مثليا أم غير مثلي.
قال: وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه. وإن شاء اشترى به هديا.
والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنه، وفي بقرة
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 308.(4/295)
الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز. وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمن يحمل إلى مكة» «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك طريق معرفة الجزاء، ومآله، وأنواعه، فقال- تعالى- يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً.
والضمير في قوله بِهِ يعود على الجزاء المماثل للمصيد المقتول.
وقوله: هَدْياً حال من جزاء، أو منصوب على المصدرية. أى يهديه هديا.
والهدى: اسم لما يذبح في الحج لإهدائه إلى فقراء مكة.
وقوله بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة لقوله هَدْياً لأنه إضافته لفظية.
وقوله: أَوْ كَفَّارَةٌ معطوف على جزاء. وأو للتخيير، وكذلك في قوله أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً.
والعدل- بالفتح- ما عادل الشيء من غير جنسه. وأما بالكسر فما عادله من جنسه. وقيل هما سيان ومعناهما المثل مطلقا.
والمعنى الإجمالى للآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون، ومن قتل منكم الصيد وهو بهذه الصفة فعليه جزاء من النعم مماثل الصيد المقتول ومقارب له في الخلقة والمنظر، أو في القيمة، وهذا الجزاء المماثل للصيد المقتول يحكم به رجلان منكم تتوافر فيهما العدالة والخبرة حتى يكون حكمهما أقرب إلى الحق والصواب، ويكون هذا الجزاء الواجب على قاتل الصيد هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أى: يصل إلى الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه، أو يكون على قاتل الصيد كَفَّارَةٌ هي طَعامُ مَساكِينَ بأن يطعمهم من غالب قوت البلد ما يساوى قيمة هذا الجزاء المماثل للصيد المقتول بحيث يعطى لكل مسكين نصف صاغ من بر أو صاعا من غيره، أو يكون عليه ما يعادل هذا الطعام صياما، بأن يصوم عن طعام كل مسكين يوما، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما كاملا.
وإذا لم يجد للصيد المقتول مماثلا كالعصفور وما يشبهه فعليه قيمته، يشترى بها طعاما لكل مسكين مد، أو يصوم عن كل مد يوما.
وبهذا نرى أن المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاء من النعم مماثل للصيد المقتول في الخلقة والمنظر أو عليه ما يساوى قيمة هذا الجزاء طعاما، أو عليه ما يعادل هذا الطعام صياما. وهذا ما يقول به جمهور الفقهاء.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 99.(4/296)
أما أبو حنيفة فيرى- كما سبق أن أشرنا- أن المماثلة إنما تعتبر ابتداء بحسب القيمة، فيقوم الصيد المقتول من حيث هو، فإن بلغت قيمته قيمة هدى يخير الجاني بين أن يشترى بها هديا يهدى إلى الكعبة ويذبح في الحرم ويتصدق بلحمه على الفقراء، وبين أن يشترى بها طعاما للمساكين، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما.
والمراد من الكعبة هنا الحرم وإنما خصت بالذكر تعظيما لها.
قال بعض العلماء: ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته، إنما هو ترتيب مراتب على حسب القدرة على كل رتبة، فالأصل بلا ريب شراء هدى وذبحه في الحرم، فإن تعذر ذلك كان الطعام، فإن تعذر كان الصيام.
هذا هو الظاهر عند الحنفية. وروى عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة وبين إطعام المساكين، وبين الصوم.
وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح وذلك هو رأى أحمد وزفر.
والمذاهب الأخرى تلتقي في الجملة مع المذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف.
وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقا، وأدق في تعرف المثل وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح، إذ لا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة» «1» .
هذا، وقوله- تعالى- لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ تعليل لإيجاب الجزاء السابق على المحرم القاتل للصيد عن تعمد.
وقوله لِيَذُوقَ من الذوق وهو إدراك المطعومات باللسان لمعرفة ما فيها من حلاوة أو مرارة أو غير ذلك. والمراد به هنا: إدراك ألم العذاب على سبيل الاستعارة.
والوبال في الأصل: الثقل والشدة والوخامة. ومنه طعام وبيل إذا كان ثقيلا على المعدة.
ومرعى وبيل وهو الذي يتأذى به بعد أكله.
والمراد به هنا: سوء عاقبة فعله.
والمعنى: شرعنا ما شرعنا من جزاء على المحرم في حالة قتله للصيد، ليدرك سوء عاقبة قتله وفعله السيئ، وليعلم أن مخالفته لأمر الله تؤدى إلى الخسارة في الدنيا والآخرة.
قال الإمام الرازي: وإنما سمى الله- تعالى- ذلك وبالا، لأنه خيره بين ثلاثة أشياء: اثنان منها توجب تنقيص المال- وهو ثقيل على الطبع- وهما: الجزاء بالمثل والإطعام. والثالث:
__________
(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة مجلة لواء الإسلام العدد السادس من السنة 22(4/297)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
يوجب إيلام البدن وهو الصوم، وذلك أيضا ثقيل على الطبع.
والمعنى أنه- تعالى- أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام» «1» .
وقوله: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله بعباده ولطفه بهم، لأنه- سبحانه- لم يؤاخذهم على قتلهم للصيد وهم محرمون قبل تحريمها والنهى عنها.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بتهديد شديد لمن تتكرر منه المخالفة لأوامر الله ونواهيه فقال: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.
أى: ومن عاد وهو محرم إلى قتل الصيد بعد ورود النهى عن ذلك فإن الله- تعالى- ينتقم منه ويعاقبه عقابا شديدا فهو- سبحانه- العزيز الذي لا يغالب ولا يقاوم، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه بأى وسيلة من الوسائل.
هذا وجمهور العلماء على أن المحرم يتكرر الجزاء عليه في قتل الصيد بتكرر القتل وأن عقوبة الآخرة- وهي انتقام الله من الجاني- لا تمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا.
قال ابن كثير. ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد.
وقال على بن طلحة عن ابن عباس قال: من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله. فإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له ينتقم الله منك» «2» .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين من التعرض للصيد في حالة إحرامهم، وبينت الجزاء المترتب على من يفعل ذلك، وهددت من يستهين بحدود الله بالعذاب الشديد.
ثم بين- سبحانه- ما أحله للمحرم وما حرمه عليه مما يتعلق بالصيد فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 3 ص 96.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 101.(4/298)
والمراد بصيد البحر: ما توالده ومثواه في الماء. والمراد بالبحر: ما يشمل جميع المياه العذبة والملحة سواء أكانت أنهارا أم غدرانا أم غيرهما.
والمراد بالصيد: الاصطياد أو ما يصاد منه.
والمراد بطعامه: ما يطعم من صيده. وهو عطف على صَيْدُ من عطف الخاص على العام، ويكون الحل الواقع على الصيد المقصود به حل الانتفاع مطلقا ثم عطف عليه ما يفيد حل الأكل خاصة من باب إظهار الامتنان بالإنعام بما هو قوام الحياة وهو الأكل فإن صيد البحر قد يقصد لمنافع أخرى غير الأكل، كالانتفاع بزيت بعض أنواع المصيد منه.
ويرى ابن أبى ليلى أن المراد بالصيد والطعام المعنى المصدري، وقدر مضافا في صيد البحر، وجعل الضمير في طَعامُهُ يعود إليه لا إلى البحر، فيكون المعنى:
أحل لكم صيد حيوان البحر كما أحل لكم أن تأكلوا ما صدتموه منه. فهو يرى حل الأكل من جميع حيوانات البحر.
وقيل: بل المراد بصيد البحر ما أخذ بحيلة، وبطعامه ما ألقاه البحر من حيواناته أو انحسر عنه الماء وأخذه الآخذ من غير حيلة أو معالجة.
وقوله: مَتاعاً مفعول لأجله.
وقوله: وَلِلسَّيَّارَةِ متعلق بأحل. وهو جمع سيار باعتبار الجماعة.
والمراد بالسيارة: القوم المسافرون.
والمعنى: أحل الله لكم أيها المحرمون صيد البحر كما أحل لكم أكل ما يؤكل منه، لأجل تمتعكم وانتفاعكم بذلك في حال إقامتكم وفي حال سفركم فأنتم تتمتعون بهذه النعم مقيمين ومسافرين، وذلك يقتضى منكم الشكر لله لكي يزيدكم من هذه النعم.
قال ابن كثير ما ملخصه: وقد استدل الجمهور على حل ميتة البحر بهذه الآية وبما أخرجه الشيخان عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة- قال: وأنا فيهم- قال فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فنى الزاد. قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت كبير. فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه الله لكم. هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله» .
وأخرج الإمام أحمد وأهل السنن ومالك والشافعى عن أبى هريرة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله!! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. فإن توضأنا به عطشنا(4/299)
أنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» .
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» .
رواه الشافعى وأحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وله شواهد.
وقد احتج بهذه الآية أيضا من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ولم يستثن من ذلك شيئا. وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها.
وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما مات في البحر كما لا يؤكل ما مات في البر لعموم قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «1» .
ثم أكد- سبحانه- حرمة صيد البر للمحرمين فقال. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً والمراد بصيد البر: ما كان توالده ومأواه في البر مما هو متوحش بأصل خلقته.
وبعض الفقهاء يرى أن التحريم هنا منصب على الفعل، وعليه فالآية إنما تدل على حرمة الاصطياد فقط، وأما الأكل منه- أى من الصيد- بأن يصيده حلال فلا تدل عليه الآية.
وبعضهم يرى أن التحريم هنا منصب على ذات الصيد. وعليه فتكون الآية تقتضي تحريم جميع وجوه الانتفاع بالصيد إلا ما يخرجه الدليل.
وقد بسط القرطبي الكلام في هذه المسألة فقال ما ملخصه: قوله- تعالى- وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً التحريم ليس صفة للأعيان وإنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ أى فعل الصيد وهو المنع من الاصطياد.
أو يكون الصيد بمعنى المصيد وهو الأظهر لإجماع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه، ولا اصطياده، ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه.
وقد اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد، فقال مالك والشافعى وأحمد. إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» وقال أبو حنيفة: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال- سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله- تعالى- لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرم صيده وقتله على المحرمين دون ما صاده غيرهم.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 102.(4/300)
وروى عن على بن أبى طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد. لحديث الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهى قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» خرجه الأثمة واللفظ لمالك «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالدعوة إلى خشيته وتقواه وبالتذكير بالحشر وما فيه من حساب وعقاب فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أى: واتقوا الله في كل أحوالكم، وقفوا عند حدوده فلا تتجاوزوها، واعلموا أن مرجعكم وحشركم إليه وحده، وسيجازيكم على أعمالكم التي عملتموها في دنياكم.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أحلت للمحرم صيد البحر- فضلا من الله ورحمة- لأن البحر بعيد عن الحرم، والمحرم قد يحرم في منطقة قد تكون فيها بحار فتحريم صيد البحر عليه قد يؤدى إلى تعبه وإجهاده دون أن تكون هناك فائدة تعود على سكان الحرم.
أما الحكمة من وراء تحريم الصيد البرى على المحرمين فمنها: أن البيت الحرام بواد غير زرع، وسكان هذه المنطقة من وسائل حياتهم الصيد، فلو أبيح الصيد للمحرمين القادمين لزيارة البيت من كل فج عميق.. لأدى ذلك إلى قتل الكثير من الصيد البرى الذي هو مصدر انتفاع للقاطنين في تلك المناطق. وفضلا عن كل ذلك ففي تحريم الصيد البرى الذي يعيش في مناطق الحرم، تكريم لهذه المناطق، وتشريف لها، وإعلاء لشأنها ومكانتها. فهي أماكن الأمان والاطمئنان والسلام. لا للبشر وحدهم، بل للبشر ولغير البشر من مخلوقات الله التي نهت شريعته عن التعرض لها بسوء.
وبعد هذا النهى الشديد للمحرمين عن صيد البر وهم على هذه الحالة بين- سبحانه- المنزلة السامية للكعبة التي هي أشرف مكان، وأصلحه لأمان الناس واطمئنانهم كما بين- سبحانه- مكانة الأشهر الحرم وما يقدم فيها من خيرات لسكان الحرم- فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 421.(4/301)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قال الفخر الرازي: «اعلم أن اتصال هذه الآية- جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ بما قبلها هو ان الله- تعالى- حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم. فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير. فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة» «1» .
والكعبة في اللغة: البيت المكعب أى المربع. وقيل المرتفع.
قال القرطبي: وقد سميت الكعبة كعبة، لأنها مربعة.. وقيل: إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها، فكل ناتئ بارز كعب، ومنه كعب القدم وكعوب الفتاة، وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها» «2» .
وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى فيتعدى لاثنين أو لهما الكعبة وثانيهما قياما ويحتمل أن يكون بمعنى خلق أو شرع فيتعدى لواحد وهو الكعبة ويكون قوله: قِياماً حال من البيت الحرام.
والبيت الحرام: بدل من الكعبة أو عطف بيان جيء به على سبيل المدح والتعظيم ووصف بالحرام إيذانا بحرمته وإشعارا بشرفه، حيث حرم- سبحانه- القتل فيه، وجعله مكان أمان الناس واطمئنانهم.
وقوله قِياماً أصله قواما فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
والقيام والقوام ما به صلاح الشيء، كما يقال: الملك العادل قوام رعيته. لأنه يدبر أمرهم
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 13 ص 99. [.....]
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 324.(4/302)
ويردع ظالمهم، ويحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم.
والمراد بالشهر الحرام: الأشهر الحرم على إرادة الجنس وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
وقيل المراد به شهر ذي الحجة فحسب، لأنه هو الذي تؤدى فيه فريضة الحج، فالتعريف للعهد وليس للجنس.
والهدى: اسم لما يهدى إلى الحرم من حيوان ليتقرب بذبحه إلى الله تعالى- وهو جمع هدية- بسكون الدال- والقلائد جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء.
فالمراد بالقلائد هنا الحيوانات ذوات القلائد التي تساق إلى الحرم لذبحها فيه، فيكون ذكر القلائد بعد الهدى من باب التخصيص بالذكر على سبيل الاهتمام بشأنها، لأن الثواب فيها أكثر.
وقيل المراد بها: ما كان يفعله بعض الناس من وضع قلادة من شعر أو من غيره في أعناقهم عند ما يحرمون حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء.
وقوله: وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ معطوف على ما قبله وهو الكعبة.
والمعنى: اقتضت حكمة الله- تعالى- ورحمته بعباده أن يصير الكعبة التي هي البيت الحرام قِياماً لِلنَّاسِ أى به قوامهم في إصلاح أمورهم دينا ودنيا، وكذلك جعل الأشهر الحرم والهدى وخصوصا ما يقلد منه قياما للناس أيضا.
وذلك لأن البيت الحرام الذي يأتى الناس إليه من كل فج عميق، يجدون في رحابه ما يقوى إيمانهم، ويرفع درجاتهم، ويغسل سيئاتهم، ويصلح من شئون دنياهم عن طريق تبادل المنافع، وبذل الأموال، والشعور بالأمان والاطمئنان، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية التي ترضى الله- تعالى-، وتجعلهم أهلا لفضله ورحمته.
ولأن الأشهر الحرم تأتى للناس فتجعلهم يمتنعون عن القتال فيها، فتهدأ نفوسهم، ويحصل التالف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادي ولأن الهدى والقلائد التي يسوقها المحرمون إلى الحرم لذبحها فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء. وإشاعة روح المحبة والتسامح والإخاء.
ورحم الله الإمام القرطبي حيث يقول: «والحكمة في جعل الله- تعالى- هذه الأشياء قياما للناس، أن الله- سبحانه- خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب(4/303)
والغارة. فلم يكن بد في الحكمة الإلهية من وازع يزعهم- أى يزجرهم- عن التنازع، ويحملهم على التآلف، ويرد الظالم عن المظلوم، فقد روى مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن» .
فجعل- سبحانه- الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى، وعظم في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه.
ولما كان لهذا البيت موضع مخصوص- ومكان معين- لا يدركه كل مظلوم، فقد جعل- سبحانه- الأشهر الحرم ملجأ آخر. وقرر في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا- أى نفسا- ولا يطلبون فيها دما، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. ثم شرع لهم الهدى والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا وأشعروه دما، أو علقوا عليه قلادة أو فعل ذلك الرجل بنفسه. لم يروعه أحد حيث لقيه» «1» .
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
يعود على الجعل المذكور الذي هو تصيير البيت الحرام وما عطف عليه قياما للناس، أى صلاحا لأحوالهم الدينية والدنيوية.
والمعنى: فعل الله- تعالى- ذلك لتعلموا أنه- سبحانه- يعلم علما تاما شاملا ما في السموات وما في الأرض، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم، وهتاف أرواحهم. لأن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه- سبحانه- يعلم ما في السموات وما في الأرض. وعلى أنه بكل شيء عليم دون أن تخفى عليه خافية مما في هذا الكون: وكرر- سبحانه- «ما. وفي» في المعطوف والمعطوف عليه للإشارة إلى دقة العلم وشموله، وأنه- سبحانه- لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقوله وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعميم إثر تخصيص. للتأكيد وقدم الخاص على العام ليكون ذكر الخاص كالدليل على العام.
قال الجمل: واسم الإشارة ذلِكَ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير.
والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف أى: ذلك الحكم هو الحق لا غيره.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 325 بتصرف وبتلخيص.(4/304)
والثالث: أنه منصوب بفعل مقدر يدل عليه السياق. أى: شرع الله ذلك. وهذا أقواها، لتعلق لام العلة به. وقوله لِتَعْلَمُوا منصوب بإضمار أن بعد لام كي. وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معطوف على ما قبله وهو أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ «1» .
ثم رهب الله- تعالى- عباده من عقابه ورغبهم في ثوابه فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أى: اعلموا- أيها الناس- أن الله شديد العقاب لمن انتهك حرماته، وتجاوز حدوده، وأنه- سبحانه- واسع المغفرة والرحمة لمن أطاعه وتاب إليه توبة صادقة.
وفي تصدير الآية الكريمة بفعل الأمر اعْلَمُوا تنبيه شديد إلى أهمية ما سيلقى عليهم من أمر أو نهى، حتى يستقر في قلوبهم، ويرسخ في نفوسهم، فيسهل عليهم تنفيذه.
وجمع- سبحانه- بين الترهيب والترغيب، حتى يكون المؤمن بين الرجاء والخوف، فلا يقنط من رحمة الله ولا يجترئ على ارتكاب ما يغضبه- سبحانه-.
وبعد هذا الترغيب والترهيب بين- سبحانه- وظيفة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ.
وأصل البلاغ- كما يقول القرطبي- البلوغ، وهو الوصول. يقال: بلغ يبلغ بلوغا وأبلغه إبلاغا. وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة، لأنها إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة من اللفظ» «2» .
أى: ليس على رسولنا- أيها الناس- إلا تبليغ ما أمرناه بتبليغه إليكم وتوصيل ما كلفناه بتوصيله لكم، وهو لم يقصر في ذلك، ولم يأل جهدا في نصحكم وإرشادكم فأطيعوه لتسعدوا.
واعلموا أن الله- تعالى- يعلم ما تظهرون وما تخفون من خير أو شر، وسيجازيكم بما تستحقون يوم القيامة.
فالآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من ترغيب وترهيب، ومن تبشير وإنذار، وتصريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه تبليغ ما كلفه الله بتبليغه إلى الناس، وليس عليه بعد ذلك هدايتهم أو ضلالهم، وإنما الله وحده هو الذي بيده ذلك، وهو الذي بيده حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 528.
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 327.(4/305)
ثم صرح- سبحانه- بعد ذلك بأنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب فقال: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.
والخبيث- كما يقول الراغب- ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أم معقولا، وأصله الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد كما قال الشاعر:
سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في الفعال «1» .
والطيب: الشيء الحسن الذي أباحته الشريعة ورضيته العقول السليمة، ويتناول الاعتقاد الحق، والمقال الصدق، والعمل الصالح.
والمعنى: قل- يا محمد- للناس: إنه لا يستوي عند الله ولا عند العقلاء القبيح والحسن من كل شيء، لأن الشيء القبيح- في ذاته أو في سببه أو في غير ذلك من أشكاله- بغيض إلى الله وإلى كل عاقل، وسيكون مصيره إلى الهلاك والبوار.
أما الشيء الطيب الحسن فهو محبوب من الله ومن كل عاقل، ومحمود العاقبة دنيا ودينا.
وقوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ زيادة في التنفير من الشيء الخبيث، وحض على التمسك بما هو طيب.
أى: لا يستوي في ميزان الله ولا في ميزان العقلاء الخبيث والطيب، حتى ولو كان الفريق الخبيث كثير المظهر، براق الشكل، تعجب الناظرين هيئته فلا تغتر به أيها العاقل، ولا تؤثر في نفسك كثرته وسطوته فإنه مهما كثر وظهر وفشا. فإنه سيئ العاقبة، سريع الزوال، لذته تعقبها الحسرة، وشهوته تتلوها الندامة، وسطوته تصحبها الخسارة والكراهية، وطريقه المليئة بالدنس والقذر يجب أن يوصد أبوابها الأخيار الشرفاء.
أما الفريق الطيب أو الشيء الطيب فهو محمود العاقبة، لذته الحلال يباركها الله، وثماره الحسنة تؤيدها شريعته وتستريح لها العقول السليمة، والقلوب النقية من كل دنس وباطل وطريقه المستقيم- مهما قل- سالكوه- هو الطريق الذي يوصل إلى كل خير وفلاح.
ولا شك أن العقل عند ما يتخلص من الهوى سيختار الطيب على الخبيث لأن في الطيب سعادة الدنيا والآخرة.
وما أحسن قول أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها: «ما تمتع الأشرار بشيء إلا وتمتع به
__________
(1) المفردات في غريب القرآن ص 141 للراغب الأصفهاني.(4/306)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
الأخيار، وزادوا عليهم رضا الله- عز وجل-.
والفاء في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ للافصاح عن كلام مقدر، والتقدير:
إذا كان الأمر كما بينت لكم- أيها الناس- من أنه لا يستوي الخبيث والطيب، لأن أهل الخبيث سيعاقبون ويندمون مهما كثروا وأهل الطيب سيثابون ويفرحون، إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحاب العقول السليمة بأن تجتنبوا كل ما هو خبيث، وتقلبوا على كل ما هو طيب، لعلكم بسبب هذه التقوى والخشية من الله تنالون الفلاح والنجاح في دنياكم وآخرتكم.
والجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد ما مر من الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي.
قال الفخر الرازي: لما ذكر- سبحانه- هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية. أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:
أى: فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجليلة والتعريفات القوية، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة «1» .
وبعد هذا الحديث المستفيض عن الحلال والحرام في شريعة الإسلام اتجهت آيات السورة الكريمة إلى تربية المسلمين وإرشادهم إلى الآداب التي يجب أن يتمسكوا بها ونهيهم عن الأسئلة التي لا خير يرجى من وراء إثارتها.. فقال تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعددة، منها ما حكاه القرطبي في قوله: روى البخاري ومسلم وغيرهما- واللفظ للبخاري- عن أنس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من أبى؟ قال: «أبوك فلان» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 13 ص 104 وراجعه في تفسير هذه الآيات إذا كنت تبغى المزيد من العلم والمعرفة، فقد أجاد في هذا المقام وأبدع- رحمه الله-(4/307)
وخرج البخاري أيضا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «فو الله لا تسألونى عن شيء إلا أخبرتكم به مادمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال «النار» فقام عبد الله بن حذافة- وكان إذا لا حي يدعى إلى غير أبيه- فقال من أبى يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة..
وروى الدّارقطنيّ والترمذي عن على رضى الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت.
فقالوا: أفي كل عام؟ قال: «لا ولو قلت نعم لوجبت» فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.. الآية.
وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
ثم قال القرطبي: ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض» «1» .
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله حق الإيمان، لا تسألوا نبيكم صلى الله عليه وسلم أو غيره، عن أشياء تتعلق بالعقيدة أو بالأحكام الشرعية أو بغيرهما. هذه الأشياء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ وتظهر تَسُؤْكُمْ أى:
تغمكم وتحزنكم وتندموا على السؤال عنها لما يترتب عليها من إحراجكم، ومن المشقة عليكم، ومن الفضيحة لبعضكم.
فالآية الكريمة- كما يقول ابن كثير- تأديب من الله لعباده المؤمنين، ونهى لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنها إن ظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم، وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، فإنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» «2» .
وقد وجه- سبحانه- النداء إليهم بصفة الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة في نفوسهم، حتى يستجيبوا بسرعة ورغبة إلى ما كلفوا به.
وقوله: أَشْياءَ اسم جمع من لفظ شيء، فهو مفرد لفظا جمع معنى كطرفاء وقصباء- وهذا رأى الخليل وسيبويه وجمهور البصريين-.
ويرى الفراء أن أشياء جمع لشيء. وهو ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة، ومتعلق بقوله: تَسْئَلُوا.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 330
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 104(4/308)
ومفعول تَسْئَلُوا محذوف للتعميم. أى: لا تسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تسألوا غيره عن أشياء لا فائدة من السؤال عنها، بل إن السؤال عنها قد يؤدى إلى إحراجكم وإلى المشقة عليكم.
وقوله: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها.
وعبر «بإن» المفيدة للشك وعدم القطع بوقوع الشرط والجزاء للإشارة إلى أن هذا الشك كاف في تركهم للسؤال عن هذه الأشياء، فإن المؤمن الحق يبتعد عن كل ما لا فائدة من ورائه من أسئلة أو غيرها.
وقوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ معطوف على ما قبله وهو قوله: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
والضمير في قوله عَنْها يعود على أَشْياءَ وحِينَ ظرف زمان منصوب بالفعل تَسْئَلُوا.
والمعنى: لا تكثروا- أيها المؤمنون- من الأسئلة التي لا خير لكم في السؤال عنها، وإن تسألوا عن أشياء نزل بها القرآن مجملة، فتطلبوا بيانها تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.
قال الفخر الرازي: السؤال على قسمين:
أحدهما: السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه. فهذا السؤال منهى عنه بقوله: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
والنوع الثاني من السؤال: السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فهاهنا السؤال واجب، وهو المراد بقوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ.
والفائدة في ذكر هذا القسم، أنه لما منع في الجملة الأولى من السؤال، أو هم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه، فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك القسم.
فإن قيل: إن قوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها هذا الضمير عائد على الأشياء المذكورة في قوله:
لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ فكيف يعقل في أَشْياءَ بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا؟
قلنا: الجواب عنه من وجهين:
الأول: جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ومأمورا به بعد نزول القرآن بها. والثاني: أنهما وإن كانا نوعين مختلفين، إلا أنهما في حكم شيء واحد، فلهذا حسن اتحاد الضمير، وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين» «1» :
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 107(4/309)
وقال القرطبي: قوله- تعالى- وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فيه غموض.
وذلك أن في أول الآية النهى عن السؤال، ثم قال: وَإِنْ تَسْئَلُوا.. إلخ. فأباحه لهم.
فقيل: المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف ولا يصح حمله على غير الحذف.
قال الجرجانى: الكناية في «عنها» ترجع إلى أشياء أخر، كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ يعنى آدم، ثم قال: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً أى: ابن آدم، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال.
فالمعنى: وإن تسألوا عن أشياء- أخر- حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم فقد أباح- سبحانه- هذا النوع من السؤال» «1» .
والضمير في قوله عَفَا اللَّهُ عَنْها يعود إلى أشياء، والجملة في محل جر صفه أخرى لأشياء.
أى: أن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها هي مما عفا الله عنه- رحمة منه وفضلا- حيث لم يكلفكم بها. ولم يفضحكم ببيانها.
ويجوز أن يعود الضمير إلى الأسئلة المدلول عليها بقوله لا تَسْئَلُوا فتكون الجملة مستأنفة، ويكون المعنى: عفا الله عن أسئلتكم السالفة التي سألتموها قبل النهى، وتجاوز- سبحانه- عن معاقبتكم عليها رحمة منه وكرما فمن الواجب عليكم بعد ذلك ألا تعودوا إلى مثلها أبدا.
قال صاحب المنار: ولا مانع عندنا يمنعنا من إرادة المعنيين معا. فإن كل ما تدل عليه عبارات القرآن من المعاني الحقيقة والمجازية والكناية يجوز عندنا أن يكون مرادا منها مجتمعة تلك المعاني أو منفردة ما لم يمنع مانع من ذلك كأن تكون تلك المعاني مما لا يمكن اجتماعها شرعا أو عقلا، فحينئذ لا يصح أن تكون كلها مرادة بل يرجح بعضها على بعض بطرق الترجيح المعروفة من لفظية ومعنوية.
وقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ اعتراض تذييلى مقرر لعفوه- سبحانه- أى: عفا الله عن كل ذلك، وهو- سبحانه- واسع المغفرة والحلم والصفح ولذا لم يكلفكم بما يشق عليكم، ولم يؤاخذكم بما فرط منكم من أقوال وأعمال قبل النهى عنها.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر العبر والعظات والحكم من وراء نهيهم عن الأسئلة التي
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 323(4/310)
لا خير يرجى من ورائها فقال: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ.
والضمير في قوله: قَدْ سَأَلَها يعود إلى الأسئلة المنهي عنها في قوله- تعالى- لا تَسْئَلُوا.
أى: قد سأل قوم من قبلكم- أيها المؤمنون- أمثال هذه الأسئلة التي لا خير يرجى من ورائها، ثم أصبحوا بعد إظهار الإجابة عنها كافرين بها، لأنهم استقلوا الإجابة عما سألوا عنه، وتركوا العمل بما تطلعوا إلى معرفته ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى أشياء في قوله لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ على تقدير السؤال عن حكمها أو عن سببها أو عن أصلها، أو عن غير ذلك مما لا فائدة من السؤال عنه.
إلى هذين المعنيين أشار الآلوسى بقوله: قَدْ سَأَلَها أى: المسألة، فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به. والمراد: سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال قَوْمٌ. وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير.
وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير المضاف أيضا، فالضمير في موقع المفعول به، وذلك من باب الحذف والإيصال. والمراد: سأل عنها واختلف في تعيين القوم: فعن ابن عباس هم قوم عيسى: سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها وقيل: هم قوم صالح- عليه السلام- سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل: هم بنو إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم» «1» :
والذي نراه أن لفظ قَوْمٌ يشمل هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الآلوسى كما يشمل غيرهم ممن سألوا عن أشياء لا خير من السؤال عنها فلما أجيبوا عما سألوا عنه لم يعملوا بما أخبروا به بل كفروا به وهجروه وأنكروه.
ونكر- سبحانه- لفظ قَوْمٌ لأنه ليس الغرض تعيين ذواتهم، بل الغرض النهى عن التشبه بهم مهما كانت أجناسهم أو أزمانهم.
وجاء العطف في الآية «بثم» المفيدة للتراخي، للدلالة على التباعد المعنوي بين اللجاجة في السؤال وبين الجحود والكفر بعد ذلك فكأنهم كانوا يريدون حكما يناسب أهواءهم فلما جاءهم الحكم الذي لا يهوونه كفروا به.
وقوله ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ يؤذن بأنهم قبل السؤال عن تلك الأشياء أو قبل الخوض في تلك الأسئلة لم يكونوا كافرين، ولكنهم أصبحوا بسبب الخوض فيها والتفتيش عنها كافرين
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 41(4/311)
لأنهم لم يمتثلوا ما أجيبوا به، وإنما نبذوه وراء ظهورهم.
وبذلك ترى أن الآيتين الكريمتين تنهيان المؤمنين في كل زمان ومكان عن الخوض في الأسئلة عن أشياء يسوءهم الكشف عنها، وضربتا لهم الأمثال بحال الذين من قبلهم ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالأسئلة عن التكاليف والأحكام، فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها، ولو سكتوا عن هذه الأسئلة التي لا فائدة من ورائها لكان خيرا لهم وأقوم.
هذا، وقد ساق الشيخ القاسمى- رحمه الله- عقب تفسيره لهاتين الآيتين أقوالا متعددة للعلماء فيما يؤخذ منهما من آداب وأحكام، فقال- ما ملخصه-:
قال ابن كثير: ظاهر الآية النهى عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته فالأولى الإعراض عنها:
فقد روى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أبى هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» .
وروى الدّارقطنيّ وأبو نعيم عن أبى ثعلبة الخشني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الله- تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها. وحد حدودا فلا تعتدوها. وحرم أشياء فلا تقربوها. وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» .
ثم قال الشيخ القاسمى: ثم رأيت في «موافقات» الامام الشاطبي في هذا الموضوع- مبحثا جليلا قال فيه.
الإكثار من الأسئلة مذموم. والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح. وهذه مواضع يكره السؤال فيها:
1- السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبى يا رسول الله؟
فأجابه أبوك حذافة.
2- أن يسأل عن شيء بينه القرآن، كما سأل الرجل عن الحج: أكل عام يا رسول الله؟ مع أن قوله- تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه.
3- السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا- والله أعلم- خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: «ذروني ما تركتكم» . وقوله: «وسكت عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها» .(4/312)
4- أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهى عن الأغلوطات «1» .
5- أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات، أو يكون السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال- كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.
- فقد أخرج مسلم في صحيحه عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟
قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت عائشة: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.
6- أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وعلى ذلك يدل ما أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب، فيهم عمرو بن العاص. حتى وردوا حوضا. فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض!! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا. فإنا نرد على السباع وترد علينا.
7- السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله- تعالى- فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ.. الآية.
وعن عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل.
ومن ذلك سؤال رجل مالكا عن الاستواء فقد جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله «الرحمن على العرش استوى» كيف استوى؟
قال راوي الحديث: فما رأيت مالكا وجد- أى غضب- في شيء كموجدته من مقالته.
وعلاه الرحضاء- أى العرق- وأطرق القوم. فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول. والإيمان به واجب. والسؤال عنه بدعة وإنى أخاف أن تكون ضالا.
8- السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن ألطخ بها لساني.
9- سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة عند الخصام: وقد ذم القرآن هذا اللون من
__________
(1) قال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي عند تعليقه على هذه الكلمة: أخرج أبو داود عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات يفتح الغين وضم اللام جمع غلوطة.. وهي المسائل يغالط بها العلماء ليزلوا فيها فيهيج بذلك شر وفتنه.
وقيل: أصلها أغلوطة خففت بطرح الهمزة كما تقول: لجر. وأنت تريد الآجر- حاشية تفسير القاسمى ج 6 ص 2178(4/313)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
الناس فقال. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ «1» وقال، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ «2» . وفي الحديث:
أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، ويقاس عليها ما سواها، وليس النهى فيها واحدا، بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخفف، ومنها ما يحرم. ومنها ما يكون محل اجتهاد.
والنهى في الآية مقيد بما لا تدعو إليه الحاجة من الأسئلة لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «3» .
وفي الحديث: «قاتلهم الله!! هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء الجهل بالسؤال» «4» .
ثم حكى- سبحانه- بعض الأوهام والخرافات التي كان أهل الجاهلية يتمسكون بها، ويعتبرونها من العادات الدينية الراسخة في نفوسهم، مع أنها لا أصل لها، وإنما هم الذين ابتدعوها ونسبوها إلى دين الله بدون دليل أو برهان فقال- تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها. ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات- وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها- بين تعالى- أن ذلك باطل فقال: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ «5»
__________
(1) سورة البقرة: الآية 204
(2) سورة الزخرف. الآية 58 [.....]
(3) سورة الأنبياء الآية 7
(4) تفسير القاسمى وحاشيته- بتصرف وتلخيص- ج 6 ص 2166 وما بعدها
(5) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 109(4/314)
وجعل هنا بمعنى شرع ووضع، ومِنْ زائدة لتأكيد النفي والبحيرة بزنة فعلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق.
وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها، وتركوها لآلهتهم وامتنعوا عن نحرها وركوبها. وسموها «البحيرة» أى: مشقوقه الأذن.
وعن قتادة أنهم كانوا إذا أنجبت خمسة أبطن نظروا في الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى دون أن يستعملها أحد في حلب أو ركوب.
والسائبة بزنة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض. يقال ساب الماء إذا ترك يجرى.
قال أبو عبيدة: كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر أو شفى من مرض. سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة وتسمى السائبة.
وقال محمد بن إسحاق: السائبة هي الناقة تلد عشرة أبطن إناث، فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها، ولا يشرب لبنها إلا ضيف.
وعن ابن عباس: هي التي تسيب للأصنام، فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم.
والوصيلة بزنة فعلية بمعنى فاعله. قال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين- أى اثنين اثنين- وإذا ولدت في آخرها أنثى وذكرا. قيل: وصلت أخاها. فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء، وتجرى مجرى السائبة في تركها دون أن يجز وبرها.
وقال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلا تذبح ويكون الذكر لآلهتهم.
وقيل: هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى، فكانوا يتركونها للطواغيت، ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر.
والحام اسم فاعل من حمى يحمى أى منع.
قال الفراء: هو الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء أو مرعى.
وقال أبو عبيدة: هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون: حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء أو مرعى.(4/315)
هذه بعض الأقوال التي ذكرها العلماء في تفسير هذه الألفاظ الأربعة، وهناك أقوال أخرى سواها تختلف عنها.
ويبدو أن الخلاف في حقيقة هذه الأربعة مرجعه إلى اختلاف القبائل في بلاد العرب واختلاف الأماكن التي يقيمون فيها، والعادات الباطلة التي شبوا عليها وألفوها.
هذا، وقد ذكر ابن كثير بعض الروايات التي وردت في تفسيره هذه الألفاظ، كما ذكر أول من أدخل هذه العادات الباطلة في بلاد العرب فقال ما ملخصه: «1» «روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعيد بن المسيب قال. البحيرة: هي التي تكون درها للطواغيت. والسائبة:
هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضرائب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت ولا يحملون عليه شيئا.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن لحى وإنى رأيته يجر أمعاءه في النار.
والمعنى: ما شرع الله- تعالى- شيئا مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح القاطع بسبب كفرهم وضلالهم وأكثرهم لا يفقهون الحق ولا يستجيبون له انقيادا لأهوائهم ورؤسائهم.
والمراد بالذين كفروا في قوله وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأتون لعوامهم بالأحكام الفاسدة والمزاعم الباطلة، وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا.
والمراد بأكثرهم في قوله: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ عوامهم ودهماؤهم الذين يسيرون خلف كل ناعق بدون تفكير أو تدبر.
وقد عبر- سبحانه- بقوله وَأَكْثَرُهُمْ إنصافا للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة، واستجابت للحق عند ظهوره.
ثم حكى- سبحانه- ما كان عليه هؤلاء العوام المقلدون من جمود وخضوع للباطل فقال.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 107(4/316)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا.
أى: وإذا قال قائل- على سبيل النصح والإرشاد إلى الخير- لهؤلاء المقلدين المنقادين انقيادا أعمى للأوهام إذا قال لهم هذا القائل: تعالوا أى: أقبلوا واستجيبوا لما أنزل الله في كتابه، ولما أنزل على رسوله من هدايات لتسعدوا وتفوزوا قالوا: بعناد وغباء- حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا: كافينا في هذا الشأن ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وتقاليد وعادات. فلا نلتفت إلى ما سواه.
وهذه حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه بغير تعقل ولا تدبر. إنه يترك معاني العزة والكرامة وإعمال الفكر ليعيش أسير ذلته للأوهام التي شب عليها وسار خلفها مقلدا غيره ومنقادا له انقياد الخانعين الأذلاء.
ولم يذكر- سبحانه- القائل في قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ للإشارة إلى أن الذين يدعونهم إلى طريق الحق متعددون، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم، والمؤمنون يدعونهم. والأدلة الدالة على صدق هذا الدين تدعوهم. ومع كل ذلك فهم في ضلالهم سادرون، وتحت سلطان سادتهم خانعون.
وقوله- تعالى- أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ رد عليهم بأسلوب التأنيب والتعجيب من جهالاتهم وخضوعهم للباطل بدون مراجعة أو تفكير.
والواو في قوله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ واو الحال. والهمزة التي دخلت عليها للإنكار والتعجب من ضلالهم.
والمعنى: أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. ويغلقون على أنفسهم باب الهداية ليبقوا في ظلمات الضلالة ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الحق ولا يهتدون إليه لانطماس بصيرتهم.
وليس المراد أن آباءهم لو كانوا يعلمون شيئا أو يهتدون إلى شيء لجاز لهم ترك ما أنزل الله وإنما المراد هنا تسجيل الواقع المظلم الذي كانوا عليه وكان عليه آباؤهم من قبلهم. فآباؤهم كانوا كذلك يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم بدون تأمل أو تفكير.
فالآية الكريمة زيادة في توبيخهم وتوبيخ آبائهم لأنهم جميعا مشتركون في الانغماس في الضلال والجهل.
وبعد أن بين- سبحانه- ما بين من التكاليف والأحكام والحلال والحرام، وذم المقلدين لآبائهم تقليدا أعمى. وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، أمرهم فيه بأن يلزموا أنفسهم طاعة الله، وأنهم ليس عليهم شيء من آثام غيرهم ماداموا قد نصحوهم وأرشدوهم إلى الخير فقال- تعالى-:(4/317)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وقوله عَلَيْكُمْ اسم فعل أمر بمعنى: الزموا وقوله: أَنْفُسَكُمْ منصوب على الإغراء بقوله: عَلَيْكُمْ.
قال الجمل: واختلف النحويون في الضمير المتصل بها- أى بكلمة عَلَيْكُمْ- والصحيح أنه في موضع جر كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء» » .
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، الزموا العمل بطاعة الله، بأن تؤدوا ما أمركم به، وتنتهوا عما نهاكم عنه، وأنتم بعد ذلك «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» أى: لا يضركم ضلال من ضل وغوى، ما دمتم أنتم قد أديتم حق أنفسكم عليكم بصيانتها عما يغضب الله وأديتم حق غيركم عليكم بإرشاده ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. فإن أبى هذا الغير الاستجابة لكم بعد النصح والإرشاد والأخذ على يده من الوقوع في الظلم فلا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله، فإن مصيركم ومرجعكم جميعا إلى الله- تعالى- وحده فَيُنَبِّئُكُمْ يوم القيامة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من خير أو شر، ويجازى أهل الخير بما يستحقون من ثواب، ويجازى أهل الشر بما يستحقون من عقاب.
هذا، وقد يقول قائل: إن ظاهر هذه الآية قد يفهم منه بعض الناس، أنه لا يضر المؤمنين أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ماداموا قد أصلحوا أنفسهم لأنها تقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فهل هذا الفهم مقبول؟
والجواب على ذلك، أن هذا الفهم ليس مقبولا، لأن الآية الكريمة مسوقة لتسلية المؤمنين، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم.
فكأنها تقول لهم: إنكم- أيها المؤمنون- إذا قمتم بما يجب عليكم، لا يضركم تقصير غيركم. ولا شك أن مما يجب عليهم القيام به: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إذ لا يكون المرء مهتديا إلى الحق مع تركه لفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما يكون مهتديا متى أصلح نفسه ودعا غيره إلى الخير والصلاح.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 523(4/318)
أى أن الهداية التي ذكرها- سبحانه- في قولهم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا تتم إلا بإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الخير والبر.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المعاني بقوله: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يَضُرُّكُمْ الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين. وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه «1» .
ويبدو أن هذه الآية الكريمة قد فهمها بعض الناس فهما غير سليم- حتى في الصدر الأول من الإسلام.
قال القرطبي: روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبى حازم قال: خطبنا أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- فقال: أيها الناس- إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» .
وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبى أمية الشعبانى قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة. وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.
وفي رواية قيل يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال «بل أجر خمسين منكم» «2» .
وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنى لأصغر القوم فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فقلت أنا: أليس الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فأقبلوا على بلسان واحد وقالوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها.
ولا تدرى ما تأويلها- حتى تمنيت أنى لم أكن تكلمت- ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا تدرى ما هي، وعسى أن تدرك ذلك
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 658
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 343(4/319)
الزمان، إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت» «1» .
والخلاصة أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إنها- كما قال الحاكم- لو استدل بها على وجوبهما لكان أولى، لأن قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه: الزموا أن تصلحوا أنفسكم باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله والعقليات المؤيدة بها، ودعوة الإخوان إلى ذلك، بإقامة الحجج ودفع الشبه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولا تقصروا في ذلك» «2» .
ونقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإنه- سبحانه- قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعنى عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار. وهذا كقوله فاقتلوا أنفسكم، يعنى أهل دينكم فقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعنى بأن يعظ بعضكم بعضا. ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات» «3» ثم ختمت السورة حديثها الطويل المتنوع عن الأحكام الشرعية ببيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع الإسلامى فتحدثت عن التشريع الخاص بالإشهاد على الوصية في حالة السفر، وعن الضمانات التي شرعتها لكي يصل الحق إلى أهله كاملا غير منقوص فقال- تعالى:
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 7 ص 96
(2) تفسير القاسمى ج 6 ص 391
(3) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 112(4/320)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة في تفاصيلها إلا أنها متقاربة في مغزاها.
ومن ذلك ما ذكره ابن كثير بقوله: روى ابن أبى حاتم عن أبن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قال: برىء الناس منها غيرى وغير عدى بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له «بديل بن أبى مريم» بتجارة، معه جام من فضة أى إناء من فضة- يريد به الملك، وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله- أى:
يوصلا ما تركه من متاع لورثته.
قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمنا الثمن أنا وعدى، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.
قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه، فحلف فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ الآيات فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفاه فنزعت الخمسمائة من عدى بن بداء «1» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 95(4/321)
وقال القرطبي: ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدى بن بداء، روى البخاري والدّارقطنيّ وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدى بن بداء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بنى سهم فتوفى بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب- أى عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل- فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كتمتما ولا اطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا:
اشتريناه من عدى وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن الجام للسهمى، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا، قال: فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآيات «1» .
هذا، والمعنى الإجمالى لهذه الآيات: أن الله- تعالى- شرع لكم- أيها المؤمنون- الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا، والاثنان أحوط، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت. وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين بالله بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئا من وصية وما خانا.
فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثة الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت، ليحلفا بالله أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها.
ثم بين- سبحانه- في الآية الثالثة أن ما شرعه الله لهم هو أضمن طريق لأداء الشهادة على وجهها الصحيح وعليهم أن يراقبوه ويتقوه لكي يكونوا من المؤمنين الصادقين:
هذا هو المعنى الإجمالى للآيات الكريمة سقناه قبل تفصيل القول في تفسيرها حتى يتهيأ الذهن لفهمها بوضوح.
قال الآلوسى: وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ.. إلخ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم، إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وفيه من إظهار العناية بمضمونه ما لا يخفى.
وللشهادة معان منها، الإحضار والقضاء، والحكم، والحلف، والعلم والإيصاء، والمراد بها هنا الأخير، كما نص عليه جماعة من المفسرين» «2» .
وقوله: شَهادَةُ يصح أن يكون مبتدأ وخبره قوله: اثْنانِ على حذف مضاف. أى:
شهادة اثنين.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 346
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 46(4/322)
ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف. أى: فيما أمرتم به أن يشهد اثنان: ويكون قوله اثْنانِ فاعلا لقوله شَهادَةُ وعليه تكون إضافة قوله شَهادَةُ إلى الظرف وهو بَيْنِكُمْ على التوسع.
قال القرطبي: قوله شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قيل: معناه شهادة ما بينكم فحذفت «ما» وأضيفت الشهادة إلى الظرف،، واستعمل اسما على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة. ومنه قوله- تعالى- هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أى،: ما بيني وبينك» والمراد بقوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ظهور أماراته وعلاماته وهو ظرف متعلق بقوله:
«شهادة» .
وقوله: حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من الظرف. وفي هذا الإبدال تنبيه على أن الوصية لا ينبغي أن يتهاون فيها.
وقوله: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفة لقوله اثْنانِ وقوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ معطوف على قوله اثْنانِ.
والمراد من غير المسلمين، ويرى بعضهم أن المراد بقوله مِنْكُمْ أى: من قبيلتكم، وبقوله: مِنْ غَيْرِكُمْ أى: من غير قبيلتكم.
وقوله: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بيان لمكان الوصية وزمانها.
والمراد بالضرب في الأرض السفر فيها وقيل للمسافر ضارب في الأرض لأنه يضربها برجليه أو بعصاه.
والمراد بقوله: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أى: فقاربتم نهاية أجلكم بأن أحسستم بدنو الموت منكم. فليس المراد الموت بالفعل وإنما المراد مشارفته ومقاربته.
وسمى- سبحانه- الموت مصيبة، لأنه بطبيعته يؤلم، أو يصحبه أو يقاربه أو يسبقه آلام نفسية.
قال القرطبي: وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما، وادعو عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة، أى تستوثقوا منهما» «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 352 [.....](4/323)
فقوله: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ كلام مستأنف لبيان ما يجب على الحاكم أن يفعله عند الشك في أمانة الرجلين اللذين دفع إليهما الميت ما له ليوصلاه إلى أهله.
ومعنى تَحْبِسُونَهُما توقفونهما وتمسكونهما لأداء اليمين اللازمة عليهما والمراد بالصلاة: صلاة العصر. وقد روى ذلك عن ابن عباس وجماعة من التابعين.
قال الفخر الرازي: إنما عرف هذا التعيين بوجوه:
أحدها: أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده، فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ.
وثانيها: ما روى أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد.
وثالثها: أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه، ويحترزون عن الحلف الكاذب «1» .
وقال الزهري: المراد بالصلاة، الصلاة مطلقا: وإنما كان الحلف بعد الصلاة، لأنها داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور.
أى: توقفون- أيها المسلمون- هذين الرجلين بعد الصلاة لأداء اليمين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أى: فيحلفان بالله إِنِ ارْتَبْتُمْ في صدقهما، بأن يقولا: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أى: لا نحصل بيمين الله عرضا من أعراض الدنيا، ولو كان من نقسم له ونشهد عليه قريبا لنا.
وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أى: ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله بإظهارها وأدائها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أى: إنا إذا لنكونن معدودين من المستقرين في الذنوب والآثام إن كتمناها وبدلناها عن وجهها الصحيح.
وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين.
وجواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله. أى: إن ارتبتم فحلفوهما.
والضمير في قوله: بِهِ يعود إلى القسم المفهوم من قوله: فَيُقْسِمانِ أى: فيقسمان بالله لا نشتري بصحة القسم ثمنا مهما كان هذا الثمن.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 117(4/324)
وقوله: وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى تأكيد لتنزههما عن الحلف الكاذب.
قال صاحب الكشاف: والضمير في بِهِ للقسم وفي كانَ للمقسم له. يعنى:
لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا. أى: لا نحلف كاذبين لأجل المال، ولو كان من يقسم له قريبا منا، على معنى: أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون تحت قوله- تعالى- كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ «1» .
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أكد هذا القسم بجملة من المؤكدات منها: أن الحالفين يحلفان بأنهما لا يحصلان بيمين الله ثمنا مهما كانت قيمته، وبأنهما لن يحابيا إنسانا مهما بلغت درجة قرابته وبأنهما لن يكتما الشهادة التي أمرهما الله بأدائها على وجهها الصحيح، وبأنهما يقران على أنفسهما باستحقاق عقوبة الآثم المذنب إن كتما أو خانا أو حادا عن الحق، وهذا كله لأجل أن تصل وصية الميت إلى أهله كاملة غير منقوصة.
ثم بين- سبحانه- الحكم فيما إذا تبين أن الرجلين اللذين دفع إليهما الموصى ما له لم يكونا أمينين فقال: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ.
وقوله: عُثِرَ أى: اطلع. يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه. ويقال:
عثرت منه على خيانة أى: اطلعت.
وقوله: الْأَوْلَيانِ تثنية أولى بمعنى أقرب. فالمراد بقوله الْأَوْلَيانِ أى: الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت.
والمعنى: فان اطلع بعد تحليف الشاهدين الوصيين من جهة الميت على أنهما اسْتَحَقَّا إِثْماً أى: فعلا ما يوجب الإثم من خيانة أو كتمان أو ما يشبههما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أى:
فرجلان آخران يقومان مقام اللذين اطلع على خيانتهما: أى يقفان موقفهما في الحبس بعد الصلاة والحلف ويكون هذان الرجلان الآخران مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ.
قال القرطبي: قال ابن السرى: أى من الذين استحق عليهم الإيصاء واختاره ابن العربي وأيضا فإن التفسير عليه، لأن المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 688
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 358(4/325)
وقال بعض العلماء: قوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أى: من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أى: الأقربان إلى الميت، الوارثان له. الأحقان بالشهادة، أى:
اليمين. فقوله الْأَوْلَيانِ فاعل اسْتَحَقَّ.
ومفعول اسْتَحَقَّ محذوف، قدره بعضهم «وصيتهما» وقدره ابن عطية «ما لهم وتركتهم» وقدره الزمخشري. أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين.
وقرئ اسْتَحَقَّ على البناء للمفعول. أى من الذين استحق عليهم الإثم أى «جنى عليهم» ، وهم أهل الميت وعشريته. وعليه فقوله: الْأَوْلَيانِ هو بدل من الضمير في يَقُومانِ أو من فَآخَرانِ «1» .
وقوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ بيان لكيفية اليمين التي يحلفها هذان الأوليان.
أى: فيحلف بالله هذان الأوليان- أى الأقربان إلى الميت- قائلين لَشَهادَتُنا أى:
ليميننا أَحَقُّ بالقبول مِنْ شَهادَتِهِما أى: من يمينهما وَمَا اعْتَدَيْنا أى: وما تجاوزنا الحق في يميننا وفيما نسبناه إليهما من خيانة إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أى إنا إذا اعتدينا وقلنا فيهما خلاف الحق لنكونن في زمرة الظالمين لأنفسهم المستحقين لسخط الله وعقابه.
قال الآلوسى: وقوله فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ معطوف على يَقُومانِ في قوله: فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما والسببية ظاهرة وقوله: لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما جواب القسم. والمراد بالشهادة هنا- عند الكثيرين- اليمين كما في قوله- تعالى- فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ.
وصيغة التفضيل أَحَقُّ إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما» «2» .
ثم بين- سبحانه- وجه الحكمة والمصلحة فيما شرعه مما تقدم تفصيله فقال ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ.
فاسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما شرعه الله من أحكام تتعلق بالوصية التي تكون في السفر ويموت صاحبها.
أى: ذلك الحكم المذكور أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أى: أقرب إلى أن يؤدى
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 51- بتصريف وتلخيص
(2) تفسير القاسمى ج 6 ص 66(4/326)
الأوصياء الشهادة في هذه الحادثة وأمثالها على وجهها الصحيح. أى: على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من عذاب الآخرة. فالوجه في قوله عَلى وَجْهِها بمعنى الذات والحقيقة.
والجملة الكريمة بيان لحكمة مشروعية التحليف بالتغليظ المتقدم، وقوله: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ بيان لحكمة رد اليمين على الورثة. وهو معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام فكأنه قيل: ذلك الذي شرعناه لكم أقرب إلى أن يأتى الأوصياء بالشهادة على وجهها الصحيح ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة، أو يخافوا أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم فيظهر كذبهم على رؤوس الأشهاد، فيكون ذلك الخوف داعيا لهم إلى النطق بالحق وترك الكذب والخيانة.
فأى الخوفين حصل عندهم سيقودهم إلى التزام الحق وترك الخيانة وإيصال الحقوق لذويها كاملة غير منقوصة.
فمن لم يمنعه خوف الله من أن يكذب أو يخون لضعف دينه منعه خوف الفضيحة على رءوس الأشهاد.
ثم قال- سبحانه ذلِكَ أَدْنى أى أقرب إلى الحق وأبعد عن الباطل لأن معرفة الحق من كل وجوهه وجزئياته، مرجعها إلى الله العليم بخفايا الأمور وبواطنها وبواعثها. أما الحاكم فإنه يحكم على حسب ما يظهر له من حق، وحكمه قابل للخطأ والصواب.
والضمير في قوله يَأْتُوا، ويَخافُوا، وأَيْمانِهِمْ يعود إلى الأوصياء الذين أوصاهم الميت بإيصال ما يريد إيصاله لورثته، ثم حدث شك من الورثة في أمانتهم.
وجاء الضمير مجموعا مع أن السياق لاثنين فقط، لأن المراد ما يعم هذين المذكورين وما يعم غيرهما من بقية الناس.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
أى: واتقوا الله في كل ما تأتون وتذرون من أموركم واسمعوا ما تؤمرون به سماع إذعان وقبول وطاعة واعلموا أن الله- تعالى- لا يوفق القوم الخارجين عن طاعته إلى طريق الخير والفلاح، لأنهم آثروا الغي على الرشد واستحبوا العمى على الهدى.
فهذا الختام للآية الكريمة اشتمل على أبلغ ألوان التحذير من معصية الله ومن مخالفة أمره.
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- الحث على الوصية وتأكيد أمرها، وعدم التهاون فيها بسبب السفر أو غيره، لأن الوصية(4/327)
تثبت الحقوق، وتمنع التنازع ولهذا شدد الإسلام في ضرورة كتابة الوصية، والشخص قوى معافى، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» .
قال ابن عمر- راوي هذا الحديث-: ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك إلا وعندي وصيتي» «1» .
2- الإشهاد على الوصية في الحضر والسفر، ليكون أمرها أثبت، والرجاء في تنفيذها أقوى، فإن عدم الإشهاد عليها كثيرا ما يؤدى إلى التنازع وإلى التشكك في صحتها.
3- شرعية اختيار الأوقات والأمكنة والصيغ المغلظة التي تؤثر في قلوب الشهود وفي قلوب مقسمى الأيمان، وتحملهم على النطق بالحق.
قال صاحب المنار: ويشهد لاختيار الأوقات جعل القسم بعد الصلاة، ومثله في ذلك اختيار المكان ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود. عن جابر مرفوعا، «لا يحلف أحد عند منبري كاذبا إلا تبوأ مقعده من النار» .
ويشهد بجواز التغليظ على الحالف في صيغة اليمين- بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب- ما جاء في الآيات الكريمة من قوله- تعالى- فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ- إِنِ ارْتَبْتُمْ- لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى، وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ «2» .
4- جواز تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم، وقد روى عن ابن عباس أنه حلف المرأة التي شهدت في قضية رضاع بين زوجين.
5- جواز شهادة غير المسلمين على المسلمين عند الضرورة. وقد بسط الإمام القرطبي القول في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الكاف والميم في قوله اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ضمير للمسلمين، وفي قوله أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ للكافرين. فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية. وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث.
وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وهم: أبو موسى الأشعرى وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وتبعهم في ذلك جمع من التابعين، واختاره أحمد بن حنبل وقال:
__________
(1) صحيح مسلم ج 5 ص 70
(2) تفسير المنار ج 7 ص 227- بتصرف وتلخيص-(4/328)
شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين، كلهم يقولون:
«منكم» من المؤمنين. ومعنى مِنْ غَيْرِكُمْ يعنى الكفار.
القول الثاني: أن قوله- سبحانه- أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ وهذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك والشافعى وأبى حنيفة وغيرهم من الفقهاء.
واحتجوا بقوله- تعالى- مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ وبقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل وأن فيها مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ فهو ناسخ لذلك، ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب. وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.
قال القرطبي: قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم وأما مع وجود مسلم فلا.
ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل، وقد قال بالأولى ثلاثة من الصحابة ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم.
ويقوى هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما:
إنه لا منسوخ فيها، وما ادعوه من النسخ لا يصح، فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه ينافي الجمع بينهما مع تراخى الناسخ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا، فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات.
القول الثالث: أن الآية لا نسخ فيها. قاله الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله منكم أى من عشيرتكم وقرابتكم.. ومعنى أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أى: من غير القرابة والعشيرة.
وهذا ينبنى على معنى غامض في العربية، وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول، تقول: مررت بكريم وكريم آخر ولا تقول مررت بكريم وخسيس آخر، فوجب على هذا أن يكون قوله أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أى عدلان من غير عشيرتكم من المسلمين» «1» .
وبعد أن ساقت السورة الكريمة قبل ذلك ما ساقت من تشريعات حكيمة ومن تفصيل لأحوال أهل الكتاب وعقائدهم الزائفة. بعد كل ذلك اتجهت السورة في أواخرها إلى الكلام
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 349- 351 بتصرف يسير(4/329)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
عن أحوال الناس يوم القيامة وعن معجزات عيسى- عليه السلام- وعن موقف الحواريين منه. قال- تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 110]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قال الفخر الرازي: اعلم أن عادة الله تعالى- جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر- فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع، أتبعها بوصف أحوال القيامة.
ثم قال وفي هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها متصلة بما قبلها والتقدير: واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل- فيكون قوله:
يَوْمَ يَجْمَعُ بدل اشتمال من قوله في الآية السابقة وَاتَّقُوا اللَّهَ والقول الثاني: أنها منقطعة عما قبلها والتقدير:(4/330)
اذكروا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ «1» .
والمعنى: لقد سقنا لكم- أيها الناس- ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب، فمن الواجب عليكم أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام. في شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم: ماذا أجبتم من أقوامكم؟
أى: ما الإجابة التي أجابكم بها أقوامكم؟
وخص- سبحانه- الرسل بالذكر- مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة- لإظهار شرفهم وللإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم.
وقال- سبحانه-ماذا أُجِبْتُمْ ولم يقل- مثلا- «هل بلغتم رسالتي أولا» ؟ للإشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة.
وقوله: قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ حكاية لإجابة الرسل فإن قيل: لماذا نفوا عن أنفسهم العلم مع أن عندهم بعض العلم؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأدب مع الله- تعالى- فكأنهم يقولون: لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شيء، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر، أما علمك أنت- يا ربنا- فشامل للظواهر والبواطن، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكى والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم. أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال:
فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم. كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد.
فإن قلت: كيف يقولون: «لا علم لنا وقد علموا بما أجيبوا؟» .
قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم- أى: بما ابتلوا به منهم-، وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهارا للتشكى واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأنت في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 112- بتصرف وتلخيص-(4/331)
وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم. ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه. فجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ - وهو عالم بما فعل به- يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية وتعظيما لما حل به منه. - ولله المثل الأعلى- وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم.
وقيل معناه: علمنا ساقط مع علمك ومغمور، لأنك علام الغيوب، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم.
وقيل معناه: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة، وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه موبخين» «1» .
ثم ذكر- سبحانه- بعض النعم التي أنعم بها على عيسى وأمه فقال: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ.
وقوله: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بدل من قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وقد نصب بإضمار اذكر.
والمعنى: اذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم ماذا أجبتم؟.
واذكر- أيضا- زيادة في العبرة والعظة قوله- سبحانه- يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ تذكر يا عيسى نعمى المتعددة عليك وعلى والدتك- وعبر بالماضي في قوله: إِذْ قالَ اللَّهُ مع أن هذا القول سيكون في الآخرة، للدلالة على تحقيق الوقوع، وأن هذا القول سيحصل بلا أدنى ريب يوم القيامة.
قال أبو السعود: قوله- تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ شروع في بيان ما جرى بينه- تعالى- وبين واحد من الرسل المجموعين، من المفاوضة على التفصيل، إثر بيان ما جرى بينه- تعالى- وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص شأن عيسى بالبيان، لما أن شأنه- عليه السلام- متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعت عليهم هذه السورة جناياتهم. فتفصيل شأنه يكون أعظم عليهم، وأجلب لحسراتهم، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم» «2» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 690
(2) تفسير أبى السعود ج 2 ص 70(4/332)
والمراد بالنعمة في قوله اذْكُرْ نِعْمَتِي النعم المتعددة التي أنعم بها- سبحانه- على عيسى وعلى والدته مريم حيث طهرها من كل ريبة، واصطفاها على نساء العالمين. وفي ندائه- سبحانه- لعيسى بقوله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إشارة إلى أنه ابن لها وليس ابنا لأحد سواها، فقد ولد من غير أب، ومن كان شأنه كذلك لا يصلح أن يكون إلها، لأن الإله الحق لا يمكن أن يكون مولودا أو محدثا. «1»
وقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا تعديد للنعم التي أنعم الله- تعالى- بها على عيسى.
وقوله أَيَّدْتُكَ أى قويتك من التأييد بمعنى التقوية.
والمراد بروح القدس: جبريل- عليه السلام- فإن من وظيفته أن يؤيد الله به رسله بالتعليم الإلهى، وبالتثبيت في المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها.
وقيل: المراد بِرُوحِ الْقُدُسِ روح عيسى حيث أيده- سبحانه- بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية وسيطرت.
أى: أيدتك بروح الطهارة والنزاهة والكمال، فكنت متسما بهذه الروح الطاهرة من كل سوء.
والمهد: سن الطفولة والصبا- والكهولة: السن التي يكون في أعقاب سن الشباب.
والمعنى: اذكر يا عيسى نعمى عليك وعلى والدتك، وقت أن قويتك بروح القدس الذي تقوم به حجتك، ووقت أن جعلتك تكلم الناس في طفولتك بكلام حكيم لا يختلف عن كلامك معهم في حال كهولتك واكتمال رجولتك.
وقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ ظرف لنعمتي. أى: اذكر إنعامى عليكما وقت تأييدى لك. وذكر- سبحانه- كلامه في حال الكهولة- مع أن الكلام في هذه الحالة معهود في الناس- للإيذان بأن كلامه في هاتين الحالتين- المهد والكهولة- كان على نسق واحد بديع صادر عن كمال العقل والتدبير، دون أن يكون هناك فرق بين حالة الضعف وحالة القوة. قال الرازي: وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.
وقال ابن كثير: قوله اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ أى في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلى إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي وَعَلى والِدَتِكَ حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة وإِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو جبريل،
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 125(4/333)
وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك. فأنطقتك في المهد صغيرا: فشهدت ببراءة أمك من كل عيب. واعترفت لي بالعبودية. وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي ولهذا قال: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أى: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمّن تُكَلِّمُ معنى تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب» «1» .
وقوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بيان لنعمة أخرى من النعم التي أنعم بها- سبحانه- على عيسى.
والمراد بالكتاب: الكتابة. أى أن عيسى- عليه السلام- لم يكن أميا بل كان قارئا وكاتبا وقيل المراد به ما سبقه من كتب النبيين كزبور داود، وصحف إبراهيم، وأخبار الأنبياء الذين جاءوا من قبله.
والمراد بالحكمة: الفهم العميق للعلوم مع العمل بما فهمه وإرشاد الغير إليه.
أى: واذكر وقت أن علمتك الكتابة حتى تستطيع أن تتحدى من يعرفونها من قومك.
ووقت أن علمتك الْحِكْمَةَ بحيث تفهم أسرار العلوم فهما سليما تفوق به غيرك، كما علمتك أحكام الكتاب الذي أنزلته على أخيك موسى وهو التوراة وأحكام الكتاب الذي أنزلته عليك وهو الإنجيل.
ثم ذكر- سبحانه- بعض معجزات عيسى، بعد أن بين بعض ما منحه من علم ومعرفة، فقال: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي أى: واذكر وقت أن وفقتك لأن تخلق أى تصور من الطين صورة مماثلة لهيئة الطير فَتَنْفُخُ فِيها أى في تلك الهيئة المصورة فَتَكُونُ أى فتصير تلك الهيئة المصورة طَيْراً بِإِذْنِي أى: تصير كذلك بقدرتي وإرادتى وأمرى.
ثم قال- تعالى: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وهو الذي يولد أعمى وتبرئ كذلك الْأَبْرَصَ وهو المريض بهذا المرض العضال بِإِذْنِي.
وقوله: وَتُبْرِئُ معطوف على تَخْلُقُ.
وقوله: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي معطوف على قوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ.
أى: واذكر وقت أن جعلت من معجزاتك أن تخرج الموتى من القبور أحياء ينطقون ويتحركون. وكل ذلك بإذنى ومشيئتى وإرادتى.
وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء،
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 115(4/334)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
وكان دعاؤه يا حي يا قيوم، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح «1» .
وبعد أن ذكر- سبحانه- بعض المعجزات التي أعطاها لعيسى لكي ينفع بها الناس، أتبعها بذكر ما دفعه عنه من مضار فقال: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ.
أى: واذكر نعمتي عليك وقت أن صرفت عنك اليهود الذين أرادوا السوء، وسعوا في قتلك وصلبك مع أنك قد بشرتهم وأنذرتهم وجئتهم بالمعجزات الواضحات التي تشهد بصدقك في نبوتك.
وقوله فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تذييل قصد به ذمهم وتسجيل الحقد والجحود عليهم.
أى: لقد أعطيناك يا عيسى ما أعطيناك من النعم والمعجزات لتكون دليلا ناطقا بصدقك، وشاهدا يحمل الناس على الإيمان بنبوتك، ولكن الكافرين من بنى إسرائيل الذين أرسلت إليهم لم يصدقوا ما جئتهم به من معجزات واضحات، بل سارعوا إلى تكذيبك قائلين: ما هذا الذي جئتنا به يا عيسى إلا سحر ظاهر، وتخييل بين.
وهكذا نرى أن الكافرين من بنى إسرائيل، لم تزدهم البينات التي جاء بها عيسى إلا جحودا وعنادا.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما قاله الحواريون لعيسى، وما طلبوه منه، مما يدل على إكرام الله- تعالى- لنبيه عيسى فقال:
[سورة المائدة (5) : الآيات 111 الى 115]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 2 ص 169. [.....](4/335)
قال ابن كثير ما ملخصه: وقوله وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ هذا أيضا من الامتنان على عيسى، بأن جعل الله له أصحابا وأنصارا- وهم الحواريون- والمراد بهذا الوحى الإلهام كما في قوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وكما في قوله وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وقال بعض السلف في هذه الآية وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أى: ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا «1» .
فأنت ترى أن الإمام ابن كثير يرى أن المراد بالوحي هنا الإلهام. وعلى ذلك كثير من المفسرين، ومنهم من يرى أن المراد بقوله وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أى: أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي.
قال الآلوسى معززا هذا الرأى: وقد جاء استعمال الوحى بمعنى الأمر في كلام العرب، كما قال الزجاج وأنشد:
الحمد لله الذي استقلت ... بإذنه السماء واطمأنت
أوحى لها القرار فاستقرت أى: أمرها أن تقر فامتثلت «2» .
والحواريون جمع حوارى. وهم أنصار عيسى الذين لازموه وآمنوا به وصدقوه. وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق.
يقال: فلان حوارى فلان. أى: خاصته من أصحابه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الزبير بن العوام: لكل نبي حوارى وحوارى الزبير» .
وأصل مادة «حور» الدلالة على شدة الصفاء ونصوع البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق: الحوارى وقالوا في النساء البيض: الحواريات والحواريات.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 114
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 58(4/336)
وقد سمى الله- تعالى- أنصار عيسى بالحواريين، لأنهم أخلصوا لله نياتهم، وطهروا نفوسهم من النفاق والخداع فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص البياض.
قال الراغب: والحواريون أنصار عيسى- عليه السلام- قيل كانوا صيادين وقال بعض العلماء إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم «1» .
والمعنى: اذكر نعمتي عليك- يا عيسى- حين أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ بطريق الإلهام أو بطريق الأمر على لسانك، وقلت لهم: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي أى: آمنوا وصدقوا بأنى أنا الواحد الأحد المستحق للعبادة والخضوع وآمنوا برسولي عيسى بأنه مرسل من جهتي لهدايتكم وسعادتكم.
وفي ذكر كلمة بِرَسُولِي إشارة إلى مقامه من الله- عز وجل- وانفصال شخصه عن ذات الله- سبحانه- وأن عيسى ما هو إلا رسول من رب العالمين وأن من زعموا أنه غير ذلك جاهلون وضالون.
وقوله: قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ حكاية لما نطق به الحواريون من إيمان وطاعة.
أى: أن الحواريين عند ما دعوا إلى الدين الحق قالُوا آمَنَّا بأن الله هو الواحد الأحد المستحق للعبادة وأنه لا والد له ولا ولد. ثم أكدوا إيمانهم هذا، بأن قالوا وَاشْهَدْ علينا يا إلهنا واشهد لنا يا عيسى يوم القيامة بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أى: منقادون لكل ما جئتنا به وما تدعونا إليه.
وقدموا ذكر الإيمان لأنه صفة القلب، وأخروا ذكر الإسلام لأنه عبارة عن الانقياد الظاهر فكأنهم قالوا: لقد استقر الإيمان في قلوبنا استقرارا مكينا، كان من ثماره أن انقادت ظواهرنا لكل ما يأمرنا الله به على لسانك يا عيسى.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: فإن قيل: إنه- تعالى- قال في أول الآية اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ثم إن جميع ما ذكره- تعالى- من النعم مختص بعيسى، وليس لأمه تعلق بشيء منها. قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم ولذلك قال- تعالى- وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر.
وإنما ذكر- سبحانه قوله وَإِذْ أَوْحَيْتُ في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم، من أعظم نعم الله على الإنسان.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 135(4/337)
وقد عدد عليه من النعم سبعا: إِذْ أَيَّدْتُكَ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ وَإِذْ تَخْلُقُ وإِذْ تَبَرَّأَ. وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى وَإِذْ كَفَفْتُ وَإِذْ أَوْحَيْتُ «1» .
ثم حكى- سبحانه- بعض ما دار بين عيسى وبين الحواريين فقال: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ.
«المائدة» الخوان إذا كان عليه الطعام من ماد يميد، إذا تحرك. فكأن المائدة تتحرك بما عليها. وقال أبو عبيدة: سميت «مائدة» لأنها ميد بها صاحبها. أى: أعطيها وتفضل عليه بها. والخوان: ما يؤكل عليه الطعام.
ويرى الأخفش وغيره أن المائدة هي الطعام نفسه، مأخوذة من «مادة» إذا أفضل.
و «إذ» في قوله إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ متعلق بمحذوف تقديره: اذكر وقت قول الحواريين يا عيسى ابن مريم.
وقد ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه- كما حكى القرآن عنهم- لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا ألوهيته أو ولديته وقوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ- رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ فيه قراءتان سبعيتان:
الأولى: يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بالياء- على أنه فعل وفاعل. وقوله أَنْ يُنَزِّلَ المفعول.
والاستفهام على هذه القراءة محمول على المجاز، لأن الحواريين كانوا مؤمنين، ولا يعقل من مؤمن أن يشك في قدرة الله.
ومن تخريجاتهم في معنى هذه القراءة أن قوله يَسْتَطِيعُ بمعنى «يطيع» والسين زائدة.
كاستجاب وأجاب.
أى: أن معنى الجملة الكريمة: هل يطيعك- ربك يا عيسى إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء.
وسنفصل القول في تخريج هذه القراءة، وفي اختلاف المفسرين في إيمان الحواريين بعد انتهائنا من تفسير هذه الآيات الكريمة.
أما القراءة الثانية: فهي «هل تستطيع ربك» بالتاء وبفتح الباء في «ربك» والمعنى: هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء. فقوله «ربك» منصوب على التعظيم بفعل محذوف يقدر على حسب المقام وهذه القراءة لا إشكال فيها، لأن الاستطاعة فيها متجهة إلى عيسى. أى: أتستطيع يا عيسى سؤال ربك إنزال المائدة أم لا تستطيع؟
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 128(4/338)
قال القرطبي: قراءة الكسائي وعلى وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «هل تستطيع» بالتاء «ربك» بالنصب وقرأ الباقون بالياء «هل يستطيع» «ربك» بالرفع.
والمعنى على قراءة الكسائي- بالتاء: هل تستطيع أن تسأل ربك..
قالت عائشة: كان القوم أعلم بالله- تعالى- من أن يقولوا «هل يستطيع ربك» وقال معاذ: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع ربك قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء» «1» .
وقوله- سبحانه- قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حكاية لما رد به عيسى على الحواريين فيما طلبوه من إنزال المائدة:
أى قال لهم عيسى: اتقوا الله وقفوا عند حدوده، واملئوا قلوبكم هيبة وخشية منه، ولا تطلبوا أمثال هذه المطالب إن كنتم مؤمنين حق الإيمان، فإن المؤمن الصادق في إيمانه يبتعد عن أمثال هذه المطالب التي قد تؤدى إلى فتنته.
ثم حكى القرآن ما رد به الحواريون على عيسى فقال: قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ.
أى: قال الحواريون لعيسى إننا نريد نزول هذه المائدة علينا من السماء لأسباب:
أولها: أننا نرغب في الأكل منها لننال البركة، ولأننا في حاجة إلى الطعام بعد أن ضيق علينا أعداؤك وأعداؤنا الذين لم يؤمنوا برسالتك.
وثانيها: أننا نرغب في نزولها لكي تزداد قلوبنا اطمئنانا إلى أنك صادق فيما تبلغه عن ربك، فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالي، مما يؤدى إلى رسوخ الإيمان، وقوة اليقين.
وثالثها: أننا نرغب في نزولها لكي نعلم أن قد صدقتنا في دعوى النبوة، وفي جميع ما تخبرنا به من مأمورات ومنهيات، لأن نزولها من السماء يجعلها تخالف ما جئتنا به من معجزات أرضية، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على صدقك في نبوتك.
ورابع هذه الأسباب: أننا نرغب في نزولها لكي نكون من الشاهدين على هذه المعجزة عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل، ليزداد الذين آمنوا منهم إيمانا، ويؤمن الذي عنده استعداد للإيمان.
وبذلك نرى ان الحواريين قد بينوا لعيسى- كما حكى القرآن عنهم- أنهم لا يريدون نزول المائدة من السماء لأنهم يشكون في قدرة الله، أو في نبوة عيسى أو أن مقصدهم من هذا الطلب
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 364. بتصرف وتلخيص(4/339)
التعنت. وإنما هم يريدون نزولها لتلك الأسباب السابقة التي يبغون من ورائها الأكل وزيادة الإيمان واليقين والشهادة أمام الذين لم يحضروا نزولها بكمال قدرة الله وصدق عيسى في نبوته.
ثم حكى- سبحانه- ما تضرع به عيسى بعد أن سمع من الحواريين ما قالوه في سبب طلبهم لنزول المائدة من السماء فقال- تعالى- قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
وقوله: اللَّهُمَّ أى: يا الله. فالميم المشددة عوض عن حرف النداء، ولذلك لا يجتمعان. وهذا التعويض خاص بنداء الله ذي الجلال والإكرام.
وقوله: عِيداً أى سرورا وفرحا لنا، لأن كلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور.
قال القرطبي: والعيد واحد الأعياد. وأصله من عاد يعود أى: رجع وقيل ليوم الفطر والأضحى عيد، لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم يجمع الناس فيه كأنهم عادوا إليه، وقال ابن الأنباري: سمى عيدا للعود إلى المرح والفرح فهو يوم سرور» «1» .
والمعنى: قال عيسى بضراعة وخشوع- بعد أن سمع من الحواريين حجتهم- اللَّهُمَّ رَبَّنا أى: يا الله يا ربنا ومالك أمرنا، ومجيب سؤالنا. أتوسل إليك أن تنزل علينا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ. أى: أطعمة كائنة من السماء، هذه الأطعمة تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أى:
يكون يوم نزولها عيدا نعظمه ونكثر من التقرب إليك فيه نحن الذين شاهدناها، ويكون- أيضا- يوم نزولها عيدا وسرورا وبهجة لمن سيأتى بعدنا ممن لم يشاهدنا.
قال ابن كثير. قال السدى: أى نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. وقال سفيان الثوري: يعنى يوما نصلى فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي: يعنى يوما نصلى فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي: تكون عظة لنا ولمن بعدنا «2» .
وقوله: وَآيَةً مِنْكَ معطوف على قوله عِيداً.
أى: تكون هذه المائدة النازلة من السماء عيدا لأولنا وآخرنا، وتكون أيضا- دليلا- وعلامة منك- سبحانك- على صحة نبوتي ورسالتي، فيصدقونى فيما أبلغه عنك، ويزداد يقينهم بكمال قدرتك.
وقوله: وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل بمثابة التعليل لما قبله. أى: أنزلها علينا يا ربنا وأرزقنا من عندك رزقا هنيئا رغدا، فإنك أنت خير الرازقين، وخير المعطين، وكل عطاء من
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 367
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 116(4/340)
سواك لا يغنى ولا يشبع.
وقد جمع عيسى في دعائه بين لفظي «اللهم وربنا» إظهارا لنهاية التضرع وشدة الخضوع، حتى يكون تضرعه أهلا للقبول والإجابة.
وعبر عن مجيء المائدة بالإنزال من السماء للإشارة إلى أنها هبة رفيعة، ونعمة شريفة، آتية من مكان عال مرتفع في الحس والمعنى، فيجب أن تقابل بالشكر لواهبها- عز وجل- وبتمام الخضوع والإخلاص له.
وقوله تَكُونُ لَنا عِيداً صفة ثانية لمائدة، وقوله لَنا خبر كان وقوله عِيداً حال من الضمير في الظرف.
قال الفخر الرازي: تأمل في هذا الترتيب، فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا، فقدموا ذكر الأكل فقالوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وأخروا الأغراض الدينية الروحانية.
فأما عيسى فإنه لما ذكر المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال: وَارْزُقْنا وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحية، وبعضها جسمانية.
ثم إن عيسى لشدة صفاء دينه لما ذكر الرزق انتقل إلى الرازق بقوله وَارْزُقْنا لم يقف عليه: بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. فقوله: رَبَّنا ابتداء منه بذكر الحق. وقوله أَنْزِلْ عَلَيْنا انتقال من الذات إلى الصفات.
وقوله تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها صادرة من المنعم.
وقوله: وَآيَةً مِنْكَ إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال.
وقوله: وَارْزُقْنا إشارة إلى حصة النفس.
ثم قال الإمام الرازي: فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون ثم قال: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق، ومن غير الله إلى الله، وعند ذلك تلوح لك سمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية إلى الكمالات الإلهية ونزولها «1» .
ثم ختم- سبحانه- حديثه عن هذه المائدة وما جرى بشأنها بين عيسى والحواريين من
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 131(4/341)
أقوال فقال- تعالى-: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.
وقوله: مُنَزِّلُها ورد فيه قراءتان متواتران.
إحداهما: منزلها- بتشديد الزاى- من التنزيل وهي تفيد التكثير أو التدريج كما تنبئ عن ذلك صيغة التفعيل. وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وعاصم ونافع.
وقرأ الباقون مُنَزِّلُها بكسر الزاى- من الإنزال المفيد لنزولها دفعة واحدة.
والمعنى: قال الله- تعالى- إنى منزل عليكم المائدة من السماء إجابة لدعاء رسولي عيسى- عليه السلام- فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أى فمن يكفر بعد نزولها منكم أيها الطالبون لها فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أى: فإن الله- تعالى- يعذب هذا الكافر بآياته عذابا لا يعذب مثله أحدا من عالمي زمانه أو من العالمين جميعا.
وقد أكد- سبحانه- عذابه للكافر بآيات الله بعد ظهورها وقيام الأدلة على صحتها بمؤكدات منها: حرف إن في قوله فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ ومنها: المصدر في قوله فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً إذ المفعول المطلق هنا لتأكيد وقوع الفعل وهو العذاب. ومنها: وصف هذا العذاب بأنه لا يعذب مثله لأحد من العالمين.
وهذه المؤكدات لوقوع العذاب على الكافر بآيات الله بعد وضوحها من أسبابه: أن الكفر بعد إجابة ما طلبوه، وبعد رؤيته ومشاهدته وبعد قيام الأدلة على وحدانية الله وكمال قدرته، وبعد ظهور البراهين الدالة على صدق رسوله.
أقول: الكفر بعد كل ذلك يكون سببه الجحود والعناد والحسد، والجاحد والمعاند والحاسد يستحقون أشد العذاب، وأعظم العقاب.
هذا، وهنا مسألتان تتعلقان بهذه الآيات الكريمة، نرى من الخير أن نتحدث عنهما بشيء من التفصيل.
المسألة الأولى: آراء العلماء في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم.
المسألة الثانية: آراء العلماء في نزول المائدة وعدم نزولها.
وللاجابة عن المسألة الأولى نقول: لعل منشأ الخلاف في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم مرجعه إلى قولهم لعيسى- كما حكى القرآن عنهم- هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ؟ فإن هذا القول يشعر بشكهم في قدرة الله على إنزال هذه المائدة.
وقد ذهب فريق من العلماء- وعلى رأسهم الزمخشري- إلى عدم إيمانهم، وجعلوا الظرف في(4/342)
قوله: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ متعلقا بقوله قبل ذلك قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ.
أى: أنهم قالوا لعيسى آمنا واشهد بأننا مسلمون، في الوقت الذي قالوا له فيه هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ فكأنهم ادعوا الإيمان والإسلام ادعاء بدون إيقان وإذعان، وإلا فلو كانوا صادقين في دعواهم لما قالوا لعيسى بأسلوب الاستفهام: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم اتبعه بقوله: إِذْ قالَ فإذن دعواهم كانت باطلة، وانهم كانوا شاكين، وقوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم. وكذلك قول عيسى لهم معناه: اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه ولا تحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى: إن كانت دعواكم للايمان صحيحة» .
وذهب جمهور العلماء إلى أن الحواريين عند ما قالوا لعيسى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ كانوا مؤمنين واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
1- أن الظرف في قوله: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ليس متعلقا بقوله: قالُوا آمَنَّا وإنما هو منصوب بفعل مضمر تقديره اذكر، وهذا ما رجحه العلامة أبو السعود في تفسيره فقد قال:
قوله: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام- وبين قومه منقطع عما قبله، كما ينبئ عنه الإظهار في موضع الإضمار وإذ منصوب بمضمر.
وقيل: هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الايمان والإخلاص لم يكن عن تحقيق وإيقان ولا يساعده النظم الكريم» «2» .
2- أن قول الحواريين لعيسى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لا يسحب عنهم الإيمان، وقد خرج العلماء قولهم هذا بتخريجات منها (أ) أن قولهم لم يكن من باب الشك في قدرة الله، وإنما هو من باب زيادة الاطمئنان عن طريق ضم علم المشاهدة إلى العلم النظري بدليل أنهم قالوا بعد ذلك نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا.
وشبيه بهذا قول إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 693
(2) تفسير أبى السعود ج 2 ص 72.(4/343)
قال القرطبي ما ملخصه: «الحواريون خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، وقد كانوا عالمين باستطاعة الله لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وقد كان إبراهيم علم ذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا كما قال إبراهيم وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» .
(ب) أن السؤال إنما هو عن الفعل لا عن القدرة عليه، وقد بسط الآلوسى هذا المعنى فقال: إن معنى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ هل يفعل ربك كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم معى مبالغة في التقاضي.
والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من باب التعبير عن المسبب بالسبب، إذ هي- أى الاستطاعة- من أسباب الإيجاد «2» .
(ج) أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة- كما سبق أن أشرنا- ويشهد لذلك قول الفخر الرازي: قال السدى قوله هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ. أى: هل يطيعك ربك إن سألته. وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة «3» .
والذي نراه أن رأى الجمهور أرجح للأدلة التي ذكرناها، ولأن الله- تعالى- قد ذكر قبل هذه الآية أنه قد امتن عليهم بإلهامهم الإيمان فقال:
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين لكشف الله عن حقيقتهم، فقد جرت سنته- سبحانه- مع أنبيائه أن يظهر لهم نفاق المنافقين حتى يحذروهم.
ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين، لما أمر الله أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسى بهم في إخلاصهم ورسوخ يقيتهم قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ «4» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 365
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 59
(3) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 129
(4) الآية الأخيرة من سورة الصف. [.....](4/344)
وقال- تعالى- فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «1» .
فهاتان الآيتان صريحتان في مدح الحواريين وفي أنهم قوم التفوا حول عيسى- عليه السلام- وناصروه مناصرة صادقة، وآمنوا به إيمانا سليما من الشك والتردد.
وأما المسألة الثانية: وهي آراء العلماء في نزول المائدة: فالجمهور على أنها نزلت.
وقد رجح ذلك ابن جرير فقال ما ملخصه: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال:
إن الله أنزل المائدة.. لأن الله لا يخلف وعده، ولا يقع في خبره الخلف وقد قال- تعالى- مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى حين سأله ما سأله من ذلك إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وغير جائز أن يقول الله إنى منزلها عليكم ثم لا ينزلها، لأن ذلك منه- تعالى- خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر «2» .
وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير فقال: وهذا القول هو- والله أعلم- الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.
ومن الآثار ما خرجه الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد: فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخهم قردة وخنازير.
قال الترمذي: وقد روى عن عمار من طريق موقوفا وهو أصح.
وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس، أن عيسى ابن مريم قالوا له ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء. قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها. عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة. فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم «3» .
والذي يراجع بعض كتب التفسير يرى كلاما كثيرا عما كان على المائدة من أصناف الطعام، وعن كيفية نزولها ومكانه، وعن كيفية استقبالها وكشف غطائها، والأكل منها والباقي عليها بعد الأكل. وهذا الكلام الكثير رأينا من الخير أن نضرب عنه صفحا، لضعف أسانيده، ولأنه لا يخلو عن غرابة ونكارة- كما قال ابن كثير- فقد ذكر- رحمه الله أثرا طويلا في هذا المعنى ثم قال في نهايته: هذا أثر غريب جدا قطعه ابن حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته
__________
(1) سورة آل عمران. الآية 52.
(2) تفسير ابن جرير ج 7 ص 135
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 116(4/345)
أنا ليكون سياقه أتم» «1» .
ويعجبني في هذا المقام قول ابن جرير: وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول. وجائز أن يكون هذا المأكول سمكا وخبزا، وجائز أن يكون من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل «2» .
ويرى الحسن ومجاهد أن المائدة لم تنزل، فقد روى ابن جرير- بسنده- عن قتادة قال:
كان الحسن يقول: لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
وروى منصور بن زادان عن الحسن أيضا أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل.
وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء.
أى: مثل ضربه الله للناس نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه.
قال الحافظ ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى. وليس في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله. وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا ولا أقل من الآحاد» «3» .
وقد علق بعض العلماء على كلام ابن كثير هذا فقال: ولنا أن نقول: إن هذا الاستدلال إن كان يعنى عدم نزولها فقط، فقد يكون له شيء من الوجاهة وإن كان يعنى أنها لم تنزل ولم يسأل، فهو محل نظر كبير، لأن السؤال ما لم ينته بإجابة كونية فعلية تبرز بها المائدة للناس ويرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم فلا يعد بذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، لا سيما وعيسى في بيته محصورة:
جماعة سألوا وأجيبوا، وانتهى الأمر برجوعهم عما سألوا فعدم تواتر سؤالها في كتب النصارى أو عدم وجوده فيها لا يستغرب كما يستغرب الأمر فيما لو نزلت المائدة فعلا ورآها الناس فعلا وأكلوا منها. وتذوقوا طعامها، ولم يذكر عن ذلك شيء.
وقد ذكر القرآن هذه الحقيقة ابتداء وانفرد بها عن سائر الكتب، ولا يلزم أن يكون كل ما قصه الله- تعالى- في القرآن قد قصه في غيره من الكتب المتقدمة، ولا أن أصحاب الأناجيل علموا بكل شيء حتى بمثل هذه المحاورة الخاصة التي لم تنته بحادث كوني حتى يكون عدم ذكرهم إياها في أنا جيلهم- التي وضعوها- دليلا على عدم سؤالها. فقصة السؤال إذن لم
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 119
(2) تفسير ابن جرير ج 7 ص 135
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 119(4/346)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
ترد فيما عند النصارى ولكنها وردت فيما عند المسلمين.
ومن الجائز أن تكون مما ورد في الأناجيل، وأن تكون مما أخفاه أهل الكتاب، أو ضاع منهم علمه بسبب ما. والقرآن كما وصف نفسه مهيمن على كتبهم التي وصفها بأنهم حرفوها وأنهم كانوا يخفون كثيرا منها، وأنه يبين لهم كثيرا مما كانوا يخفون» «1» .
هذا ومما سبق يتبين لنا أن العلماء متفقون على أن الحواريين قد سألوا عيسى أن يدعو ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، وأن عيسى قد دعا ربه فعلا أن ينزلها، كما جاء في الآية الكريمة.
ومحل الخلاف بينهم أنزلت أم لا؟ فالجمهور يرون أنها نزلت لأن الله وعد بذلك في قوله إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ والحسن ومجاهد يريان أنها لم تنزل، لأن الوعد بنزولها مقيد بما رتب عليه من وقوع العذاب بهم إذا لم يؤمنوا بعد نزولها، وأن القوم بعد أن سمعوا هذا الشرط قالوا:
لا حاجة لنا فيها. فلم تنزل. ويبدو لنا أن رأى الجمهور أقرب إلى الصواب، لأن ظاهر الآيات يؤيده، وكذلك الآثار التي وردت في ذلك.
ثم حكت السورة الكريمة ما سيقوله الله لعيسى يوم القيامة، وما سيرد به عيسى على خالقه- عز وجل- حتى تزداد حسرة الذين وصفوا المسيح وأمه. بما هما بريئان منه فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 118]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
__________
(1) تفسير القرآن الكريم ص 281، لفضيلة الامام الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت.(4/347)
وقوله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول إنما يكون في الآخرة- على الصحيح- والمعنى: واذكر أيها الرسول الكريم وليذكر معك كل مكلف وقت أن يسأل الله- تعالى- عبده ورسوله عيسى فيقول له يا عيسى: أأنت قلت للناس اتَّخِذُونِي أى: اجعلوني وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى من غير الله.
قال القرطبي: اختلف في وقت هذه المقالة، فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين: إنما يقول له هذا يوم القيامة. وقال السدى وقطرب: قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت فإن إِذْ في كلام العرب لما مضى والأول أصح، يدل عليه ما قبله من قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الآية. كما يدل عليه ما بعده وهو قوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.
وعلى هذا تكون إذ بمعنى إذا كما في قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ أى: إذا فزعوا فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي. لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه. كأنه قد وقع «1» .
وكان النداء بقوله- سبحانه- يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أى: بغير ذكر النبوة، للإشارة إلى الولادة الطبيعية التي تنفى أن يكون إلها أو ابن إله أو فيه عنصر الألوهية بأى وضع من الأوضاع لأن الألوهية والبشرية نقيضان لا يجتمعان فلا يمكن أن يكون البشر فيه ألوهية، ولا إله فيه بشرية.
والتعبير بقوله اتَّخِذُونِي يدل على أنه ليس له حقيقة، بل هو في ذاته اتخاذ بما لا أصل له.
والمقصود بالاستفهام في قوله: أَأَنْتَ قُلْتَ توبيخ للكفرة من قومه وتبكيت كل من نسب إلى عيسى وأمه ما ليس من حقهما، وفضيحتهم على رءوس الأشهاد في ذلك اليوم العصيب، لأن عيسى سينفى عن نفسه أمامهم أنه قال ذلك وإنما هو أمرهم بعبادة الله وحده. ولا شك أن النفي بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع وادعى لقيام الحجة على من وصفوه بما هو برىء منه.
قال الآلوسى: واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم إلها.
وأجيب عنه بأجوبة الأول: أنهم لما جعلوا عيسى إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 374(4/348)
من يلده، فذكر إِلهَيْنِ على طريق الإلزام لهم.
والثاني: أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
والثالث: أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامى عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية، يعتقدون في مريم الألوهية وهو أولى الأوجه عندي «1» .
وقوله- تعالى- قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ بيان لما أجاب به عيسى على خالقه- عز وجل-.
أى: قال عيسى مجيبا ربه بكل أدب وإذعان: تنزيها لك- يا إلهى- عن أن أقول هذا القول، فإنه ليس من حقي ولا من حق أحد أن ينطق به.
فأنت ترى أن سيدنا عيسى- عليه السلام- قد صدر كلامه بالتنزيه المطلق لله- عز وجل- ثم عقب ذلك بتأكيد هذا التنزيه، بأن أعلن بأنه ليس من حقه أن يقول هذا القول، لأنه عبد له- تعالى- ومخلوق بقدرته. ومرسل منه لهداية الناس فكيف يليق بمن كان شأنه كذلك أن يقول لمن أرسل إليهم اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
ثم أضاف إلى كل ذلك الاستشهاد بالله- تعالى- على براءته، وإظهار ضعفه المطلق أمام علم خالقه وقدرته فقال- كما حكى القرآن عنه- إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
أى: إن كنت قلت هذا القول وهو اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فأنت تعلمه ولا يخفى عليك منه شيء- لأنك أنت- يا إلهى- تعلم ما في نَفْسِي أى ما في ذاتى، ولا أعلم ما في ذاتك.
والمراد: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم، وتعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وتعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل إنك أنت- يا إلهى- علام الغيوب.
فهذه الجملة الكريمة بجانب تأكيدها لنفى ما سئل عنه عيسى- عليه السلام- تدل بأبلغ تعبير على إثبات شمول علم الله- تعالى- بكل شيء، وقد أكد عيسى ذلك، بإن المؤكدة وبالضمير أنت، وبصيغة المبالغة «علّام» وبصيغة الجمع للفظ «الغيوب» فهو لم يقل: إنك أنت عالم الغيب وإنما قال- كما حكى القرآن عنه- إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ بكل أنواعها،
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 65(4/349)
وبكل ما يتعلق بالكائنات كلها.
وبعد هذا التنزيه من عيسى- عليه السلام- لله عز وجل-، وبعد هذا النفي المؤكد لما سئل عنه بعد كل ذلك يحكى القرآن ما قاله عيسى لقومه فيقول: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ أى: ما قلت لهم- يا إلهى- اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وإنما القول الذي قلته لهم هو الذي أمرتنى أن أبلغهم إياه وهو عبادتك وحدك لا شريك لك، فأنت ربي وربهم، وأنت الذي خلقتني وخلقتهم، فيجب أن ندين لك جميعا بالعبادة والخضوع والطاعة، وأنت تعلم يا الهى- أننى لم أقصر في ذلك، وأننى كنت رقيبا وشهيدا على قومي، وداعيا لهم إلى اخلاص العبادات لك والعمل بموجب أمرك مدة بقائى فيهم.
قال الفخر الرازي: وأن في قوله أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة والمفسر هو الهاء في (به) من قوله إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وهو يعود إلى القول المأمور به.
والمعنى: ما قلت لهم إلا قولا أمرتنى به، وذلك القول هو أن: اعبدوا الله ربي وربكم.
واعلم أنه كان الأصل أن يقال: ما أمرتهم إلا بما أمرتنى به إلا أنه وضع القول موضع الأمر، نزولا على موجب الأدب الحسن لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معا، ودل على الأصل بذكر أن المفسرة «1» .
وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بيان لانتهاء مهمته بعد فراقه لقومه.
أى: أنت تعلم يا إلهى بأنى ما أمرتهم إلا بعبادتك وبأنى ما قصرت في حملهم على طاعتك مدة وجودى معهم، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يا إلهى أى: قبضتني بالرفع إلى السماء حيا، كنت أنت الرقيب عليهم، أى: كنت أنت وحدك الحفيظ عليهم المراقب لأحوالهم، العليم بتصرفاتهم.
الخبير بمن أحسن منهم وبمن أساء وأنت- يا إلهى- على كل شيء شهيد، لا تخفى عليك خافية من أمور خلقك.
هذا. وما ذهبنا إليه من أن معنى فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أى: قبضتني بالرفع إلى السماء حيا قول جمهور العلماء.
ومنهم من يرى أن معنى فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أى: أمتنى وزعموا أن رفعه إلى السماء كان بعد موته.
__________
(1) الفخر الرازي ج 12 ص 125 المطبعة البهية.(4/350)
قال بعض العلماء مؤيدا ما ذهب أليه الجمهور قوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أى فلما أخذتنى وافيا بالرفع إلى السماء حيا، إنجاء لي مما دبروه من قتلى، من التوفي وهو أخذ الشيء وافيا أى كاملا.
وقد جاء التوفي بهذا المعنى في قوله- تعالى- يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا....
ولا يصح أن يحمل التوفي على الإماتة، لأن إماتة عيسى في وقت حصار أعدائه له ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها، ورفعه إلى السماء جثة هامدة سخف من القول، وقد نزه الله السماء أن تكون قبرا لجثث الموتى، وإن كان الرفع بالروح فقط، فأى مزية لعيسى في ذلك على سائر الأنبياء، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة فالحق أنه- عليه السلام- رفع إلى السماء حيا بجسده وروحه وقد جعله الله آية، والله على كل شيء قدير» «1» .
وقال الشيخ القاسمى: وقد دلت الآية الكريمة على أن الأنبياء بعد استيفاء أجلهم الدنيوي، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا» أى غير مختونين- ثم قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ألا وإنه يجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابى فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح، وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال لي: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» «2» .
وبعد أن أجاب عيسى على سؤال ربه تلك الإجابة الموفقة. فوض الأمر إليه- سبحانه- في شأن قومه. فقال- كما حكى القرآن عنه إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أى: إن تعذب- يا إلهى- قومي، فإنك تعذب عبادك الذين خلقتهم بقدرتك، والذين تملكهم ملكا تاما، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بمملوكه. وإن تغفر لهم، وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فذلك إليك وحدك، لأن صفحك عمن تشاء من عبادك هو صفح القوى القاهر الغالب الذي لا يعجزه شيء. والذي يضع الأمور في مواضعها بمقتضى حكمته السامية وقد قال بعض المفسرين هنا: كيف جاز لعيسى أن يقول: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ والله- تعالى- لا يغفر أن يشرك به؟
__________
(1) تفسير صفوة البيان لمعانى القرآن ص 213 لفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف.
(2) تفسير القاسمى ج 6 ص 2223.(4/351)
وقد أجاب عن ذلك الإمام القرطبي بقوله: قول عيسى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ قاله على وجه الاستعطاف لهم، والرأفة بهم، كما يستعطف السيد لعبده، ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك. وقيل قاله على وجه التسليم لأمره، والاستجارة من عذابه، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل. الهاء والميم في إِنْ تُعَذِّبْهُمْ لمن مات منهم على الكفر. والهاء والميم في قوله: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ لمن تاب منهم قبل الموت. وهذا وجه حسن» «1» .
أقول: هذا الوجه الثالث الذي ذكره القرطبي قد اكتفى به بعض المفسرين فقال: قوله:
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ أى: من أقام على الكفر منهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أى: لمن آمن منهم فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره الْحَكِيمُ في صنعه «2» .
ومع وجاهة هذا الوجه فإننا نرى أن الآية الكريمة حكاية للتفويض المطلق الذي فوضه عيسى إلى ربه- سبحانه- في شأن قومه ولهذا قال ابن كثير:
هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله- تعالى- فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وكذبوا على رسوله، وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا.
وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
فقد روى الإمام أحمد عن أبى ذر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة: فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية فلما أصبح قلت: يا رسول الله ألم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال: إنى سألت ربي- عز وجل الشفاعة لأمتى فأعطانيها- وهي نائلة- إن شاء الله- لمن لا يشرك بالله شيئا» «3» .
وبعد أن حكى القرآن الكريم ما رد به عيسى عليه السلام- على قول ربه وخالقه- سبحانه- أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقد تضمن هذا الرد- كما سبق أن بينا- التنزيه المطلق لله- تعالى-، والنفي التام لأن يكون عيسى قد قال هذا القول.
بعد كل ذلك ختم- سبحانه تلك المجاوبة ببيان حسن عاقبة الصادقين يوم القيامة فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 378
(2) تفسير الجلالين- ومعه حاشية الجمل- ج 1 ص 546 [.....]
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 121(4/352)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
[سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قال الآلوسى: قالَ اللَّهُ كلام مستأنف ختم به- سبحانه- حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل. وأشير إلى نتيجته ومآله. والمراد بقول الله- تعالى- عقيب جواب عيسى الإشارة إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم «1» .
والمراد باليوم في قوله هذا يَوْمُ يوم القيامة الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت وقد قرأ الجمهور برفع يَوْمُ من غير تنوين على أنه خبر لاسم الإشارة أى: قال الله- تعالى-: إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينتفع الصادقون فيه بصدقهم في إيمانهم وأعمالهم، لأنه يوم الجزاء والعطاء على ما قدموا من خيرات في دنياهم.
أى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم يوم القيامة، بخلاف صدق الكفار يوم القيامة فإنه لا ينفعهم، لأنهم لم يكونوا مؤمنين في دنياهم.
وقرأ نافع (يوم) بالنصب من غير تنوين على أنه ظرف لقال. أى: قال الله- تعالى- هذا القول لعيسى يوم ينفع الصادقين صدقهم.
وقوله: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً جملة مستأنفه لبيان مظاهر النفع الذي ظفر به الصادقون في هذا اليوم.
أى: أن هؤلاء الصادقين في دنياهم قد نالوا في آخرتهم جنات تجرى من تحت أشجارها وسررها الأنهار خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: مقيمين فيها إقامة دائمة لا يعتريها انقطاع وقوله:
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أى: رضى الله عنهم فأعطاهم بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح عطاء هو نهاية الآمال والأمانى. ورضوا عنه بسبب هذا العطاء الجزيل الذي لا تحيط العبارة بوصفه.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعود إلى ما انتفع به الصادقون من جنات
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 71(4/353)
تجرى من تحتها الأنهار. ومن رضا الله عنهم. أى: إلى النعيم الجثمانى المتمثل في الجنات وما يتبعها من عيشة هنيئة، وإلى النعيم الروحاني المتمثل في رضا الله عنهم.
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب. وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله خالِدِينَ فِيها أَبَداً إشارة إلى الدوام. واعتبر هذه الدقيقة: فإنه أينما ذكر الثواب قال خالِدِينَ فِيها أَبَداً وأينما ذكر العقاب للفساق من أهل الإيمان، ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأييد، وأما قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فتحته أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها» «1» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآية الدالة على شمول ملكه لكل شيء في هذا الكون فقال: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى: لله- تعالى- وحده دون أحد سواه الملك الكامل للسموات وللأرض ولما فيهن من كل كائن وهو- سبحانه- على كل شيء قدير لا يعجزه أمر أراده، ومن زعم أن له شريكا- سواء أكان هذا الشريك عيسى أم أمه أم غيرهما- فقد أعظم الفرية وتسر بل بالجهل، وكان مستحقا لخزي الدنيا، وعذاب الآخرة.
وقال- سبحانه- وَما فِيهِنَّ فغلب غير العقلاء، للإشارة إلى أن كل المخلوقات مسخرة في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها. إذ أن قدرة سائر المخلوقات بالنسبة لقدرة الله كلا قدرة.
وإن هذه الآية الكريمة، لمتسقة كل الاتساق مع الآية التي قبلها، لأنه- سبحانه- بعد أن بين جزاء الصادقين في دنياهم عقبه ببيان سعة ملكه، وشمول قدرته الدالين على أن هذا الجزاء لا يقدر عليه أحد سواه- سبحانه-.
وإن هذه الآية الكريمة- أيضا- لمتسقة كل الاتساق لأن تكون خاتمة لهذه السورة التي ساقت ما ساقت من تشريعات وأحكام وآداب وهدايات ومن حجج حكيمة، وأدلة ساطعة دحضت بها الأقوال الباطلة التي افتراها أهل الكتاب-. خصوصا النصارى- على عيسى وأمه مريم، وبرهنت على أن عيسى وأمه ما هما إلا عبدان من عباد الله، يدينان له بالعبادة والطاعة والخضوع، ويأمران غيرهما بأن ينهج نهجهما في ذلك.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 138 المطبعة البهية.(4/354)
ثم أما بعد: فهذا ما وفقني الله- تعالى- لكتابته في تفسير سورة المائدة، تلك السورة التي اشتملت- من بين ما اشتملت- على كثير من التشريعات التي تتعلق بالحلال والحرام وبالعبادات والحدود والقصاص والأيمان. كما اشتملت على كثير من الآيات التي تتعلق بأهل الكتاب فذكرت حكم أطعمتهم وحكم الزواج بالمحصنات من نسائهم، كما ذكرت أقوالهم الباطلة في شأن عيسى وأمه وردت على مزاعمهم بما يدحض مفترياتهم في هذا الشأن وفي غيره.
والله أسأل أن يجعل ما كتبناه خالصا لوجهه، ونافعا وشفيعا لنا يوم نلقاه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين.
محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر(4/355)
فهرس إجمالى لتفسير سورة «المائدة
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة مقدمة 5 تمهيد 7 1/ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود/ 21 2/ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر 25 3/ حرمت عليكم الميتة والدم/ 33 4/ يسألونك ماذا أحل لهم/ 46 5/ اليوم أحل لكم الطيبات/ 50 6/ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم/ 57 7/ واذكروا نعمة الله عليكم/ 70 8/ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين/ 72 9/ وعد الله الذين آمنوا وعملوا/ 74 10/ والذين كفروا وكذبوا/ 75 11/ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة/ 75 12/ ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل/ 77 13/ فبما نقضهم ميثاقهم/ 81 14/ ومن الذين قالوا إنا نصارى/ 85 15/ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا/ 88 16/ يهدى به الله من اتبع/ 90 17/ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح/ 91 18/ وقالت اليهود والنصارى/ 95 19/ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا/ 98 20/ وإذ قال موسى لقومه/ 101 21/ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة/ 105(4/356)
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة 22/ قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين/ 107 23/ قال رجلان من الذين يخافون/ 108 24/ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا/ 109 25/ قال رب إنى لا أملك إلا/ 110 26/ قال فإنها محرمة عليهم/ 111 27/ واتل عليهم نبأ ابني آدم/ 117 28/ لئن بسطت إلى يدك/ 120 29/ إنى أريد أن تبوء/ 120 30/ فطوعت له نفسه/ 122 31/ فبعث الله غرابا يبحث/ 123 32/ من أجل ذلك كتبنا على/ 125 33/ إنما جزاء الذين يحاربون/ 129 34/ إلا الذين تابوا من قبل/ 137 35/ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله/ 138 36/ إن الذين كفروا لو أن لهم/ 142 37/ يريدون أن يخرجوا من النار/ 144 38/ والسارق والسارقة فاقطعوا/ 144 39/ فمن تاب من بعد ظلمه/ 146 40/ ألم تعلم أن الله له ملك/ 146 41/ يا أيها الرسول لا يحزنك/ 150 42/ سماعون للكذب أكالون/ 158 43/ وكيف يحكونك وعندهم/ 162 44/ إنا أنزلنا التوراة/ 163 45/ وكتبنا عليهم فيها أن/ 169 46/ وقفينا على آثارهم بعيسى/ 174 47/ وليحكم أهل الإنجيل/ 177 48/ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق/ 178(4/357)
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة 49/ وأن احكم بينهم بما أنزل الله/ 184 50/ أفحكم الجاهلية يبغون/ 186 51/ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود/ 188 52/ فترى الذين في قلوبهم مرض/ 191 53/ ويقول الذين آمنوا/ 193 54/ يا أيها الذين آمنوا من يرتد/ 196 55/ إنما وليكم الله ورسوله/ 200 56/ ومن يتول الله ورسوله/ 202 57/ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا/ 203 58/ وإذا ناديتم إلى الصلاة/ 204 59/ قل يا أهل الكتاب/ 205 60/ قل هل أنبئكم بشر من ذلك/ 208 61/ وإذا جاءوكم قالوا آمنا/ 209 62/ وترى كثيرا منهم يسارعون/ 211 63/ لولا ينهاهم الربانيون/ 212 64/ وقالت اليهود يد الله مغلولة/ 214 65/ ولو أن أهل الكتاب/ 219 66/ ولو أنهم أقاموا التوراة/ 220 67/ يا أيها الرسول بلغ/ 222 68/ قل يا أهل الكتاب/ 226 69/ إن الذين آمنوا/ 228 70/ لقد أخذنا ميثاق/ 230 71/ وحسبوا أن لا تكون فتنة/ 233 72/ لقد كفر الذين قالوا/ 236 73/ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث/ 238 74/ أفلا يتوبون إلى الله/ 240 75/ ما المسيح ابن مريم إلا رسول/ 242(4/358)
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة 76/ قل أتعبدون من دون الله/ 243 77/ قل يا أهل الكتاب لا تغلو/ 245 78/ لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل/ 247 79/ كانوا لا يتناهون/ 249 80/ ترى كثيرا منهم/ 251 81/ ولو كانوا يؤمنون/ 252 82/ لتجدن أشد الناس/ 253 83/ وإذا سمعوا ما أنزل/ 256 84/ وما لنا لا نؤمن بالله/ 257 85/ فأثابهم الله بما قالوا/ 258 86/ والذين كفروا وكذبوا/ 259 87/ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا/ 259 88/ وكلوا مما رزقكم الله/ 261 89/ لا يؤاخذكم الله باللغو/ 264 90/ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر/ 274 91/ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم/ 278 92/ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول/ 279 93/ ليس على الذين آمنوا وعملوا/ 285 94/ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله/ 290 95/ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد/ 292 96/ أحل لكم صيد البحر وطعامه/ 298 97/ جعل الله الكعبة البيت الحرام/ 301 91/ اعلموا أن الله شديد العقاب/ 305 99/ ما على الرسول إلا البلاغ/ 305 100/ قل لا يستوي الخبيث والطيب/ 306 101/ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا/ 307 102/ قد سألها قوم من قبلكم/ 311(4/359)
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة 103/ ما جعل الله من بحيرة/ 314 104/ وإذا قيل لهم تعالوا/ 317 105/ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم/ 318 106/ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم/ 320 107/ فإن عثر على أنهما استحقا/ 325 108/ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة/ 326 109/ يوم يجمع الله الرسل/ 330 110/ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم/ 332 111/ وإذ أوحيت إلى الحواريين/ 335 112/ إذ قال الحواريون/ 338 113/ قالوا نريد أن نأكل منها/ 339 114/ قال عيسى ابن مريم/ 340 115/ قال الله إنى منزلها عليكم/ 342 116/ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم/ 347 117/ ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به/ 350 118/ إن تعذبهم فإنهم عبادك/ 351 119/ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين/ 353 120/ لله ملك السموات والأرض/ 354(4/360)
[المجلد الخامس]
سورة الأنعام
تمهيد بين يدي السورة
1- متى نزلت سورة الأنعام؟
سورة الأنعام عدد آياتها خمس وستون ومائة آية وهي أول سورة مكية من طوال المفصل بالنسبة لترتيب المصحف، وتعتبر بالنسبة لهذا الترتيب السورة السادسة، فقد سبقتها سور:
الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وهي سور مدنية باستثناء سورة الفاتحة.
أما ترتيبها في النزول فقد قال العلماء: إنها السورة السادسة والخمسون، وإن نزولها كان بعد نزول سورة «الحجر» .
ويغلب على الظن أن نزول سورة الأنعام كان في السنة الرابعة من البعثة النبوية الشريفة، وذلك لأن سورة الحجر التي نزلت قبلها فيها آية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجهر بدعوته وهي قوله- تعالى- فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «1» .
ومن المعروف تاريخيا أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث يدعو الناس سرا إلى عبادة الله زهاء ثلاث سنين، ثم بدأت مرحلة الجهر بالدعوة في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمره الله بأن يصدع بما يؤمر به، أى: يجهر بما يكلف بتبليغه للناس، مأخوذ من صدع بالحجة إذا جهر بها.
قال ابن إسحاق عند حديثه عن مرحلة الجهر بالدعوة الإسلامية: «ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، ثم إن الله- تعالى- أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادى الناس بأمره، وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله- تعالى- بإظهار دينه ثلاث سنين- فيما بلغني- من مبعثه، ثم قال الله- تعالى- له: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «2» .
2- طبيعة الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام:
قلنا إن سورة الأنعام نزلت- غالبا في السنة الرابعة من البعثة النبوية، وهذه الفترة من تاريخ الدعوة الإسلامية كانت فترة نضال فكرى عنيف بين الإسلام والشرك، ففيها بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته ويصارح قريشا برسالته، ويدعوهم بأعلى صوته إلى الإيمان بالله وملائكته
__________
(1) سورة الحجر الآية: 94.
(2) السيرة النبوية لابن هشام، ج 1 ص 274 طبعة المكتبة التجارية.(5/5)
وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبين لهم بجرأة ووضوح بطلان عقائدهم، وسخافة تفكيرهم واعوجاجهم عن الطريق المستقيم.
وأخذ المشركون يدافعون عن معتقداتهم بكل وسيلة بعد أن رأوا الدعوة الإسلامية يزداد نورها يوما بعد يوم، ورأوا أتباع النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون ولا ينقصون، ويجهرون بتعاليم دينهم بعد أن كانوا يخفونها ويتحملون في سبيل نشرها الكثير من ألوان التعذيب والترهيب.
وقد صور بعض العلماء طبيعة هذه الفترة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية عند نزول سورة الأنعام فقال:
«وهذه الفترة من فترات الدعوة الإسلامية كانت فترة عنيفة أشد العنف، مملوءة بالمقاومة من الجانبين كأعظم ما تكون المقاومة، فالمشركون مأخوذون بهذا النجاح الذي صارت إليه الدعوة حتى استطاعت أن تستعلن بعد الخفاء، وأن تتحدى في صوت عال، ونداء جهير، بعد ما كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدوا صلاتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم ماض فيما أمره به ربه من الصدع بدعوة الحق، يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من كتابه، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم، وتسفيه لآرائهم، وإنكار لآلهتهم، وتهكم بأوثانهم وتقاليدهم البالية.
يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءها مسفرة واضحة متحدية، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين يشعرون في أعمال نفوسهم بصدقها وكذبهم، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم، ولا يجدون لهم حيلة إلا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد الباطلة، بادعائهم كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل، وأن الله لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم ملائكة، وإنكارهم البعث والدار الآخرة، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم، ونسوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيه يوما قولة كاذبة، ولم يخن فيه يوما أمانة أؤتمن عليها، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.
لم يذكروا شيئا من ذلك ولم يفكروا فيه، ولكنهم فكروا فقط في أن الدعوة الجديدة التي استعلنت بعد استخفاء، وتحدت بعد ما ظنوه بها من الاستخذاء، يجب أن تموت في مهدها ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب.
ورحبت الدعوة الإسلامية بهذا النضال، وتحملت أعباءه وأثقاله، وكان ذلك أول النصر، لأن النور لا يظهر إلا بعد الاحتكاك.
وأخذت سور القرآن في هذه المرحلة تتلاحق، وأخذت آياتها تتعاون وتتآزر، وكانت أغراضها متشابهة إلى حد بعيد، وكان أولها وأحفلها بما نزلت له من أغراض بعد أمر الرسول(5/6)
صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة والصدع بها، هو سورة «الأنعام» فقد جمعت كل العقائد الصحيحة، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين، وتفنيد شبه الملحدين، وإبطال العقائد الفاسدة، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاصلة «1» .
وبذلك يتبين لنا أن ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد وأهداف وأحكام ومعتقدات يوافق كل الموافقة طبيعة المرحلة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت.
3- أين نزلت سورة الأنعام:
يرى جمهور العلماء أن سورة الأنعام كلها مكية، ويرى فريق منهم أنها كلها نزلت بمكة ما عدا الآيات 20، 23، 91، 93، 104، 141، 151، 152، 153.
ولعل الذي حمل أصحاب هذا الرأى على القول بأن هذه الآيات التسع مدنية ورود بعض الروايات بذلك، وأنها آيات نزلت في بيان أحكام تتعلق بالحلال والحرام من التكاليف العملية، وهي لهذا كانت أنسب بالمدينة.
والذي تطمئن إليه النفس وعليه المحققون من المفسرين أن سورة الأنعام قد نزلت كلها بمكة جملة واحدة، ويشهد لما ذهبنا إليه ما يأتى:
(أ) كثرة الآثار التي صرحت بنزولها بمكة دفعة واحدة، ومن هذه الآثار ما ورد عن ابن عباس أنه قال: لقد نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت على سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد «2» .
(ب) المحققون من المفسرين عند ما بدءوا في تفسير سورة الأنعام صرحوا بأنها جميعها مكية، وأنها قد نزلت جملة واحدة، وتجاهلوا قول القائل إن فيها آيات مدنية.
فهذا- مثلا- الإمام ابن كثير ساق في مطلع تفسيره لهذه السورة الروايات التي تثبت أنها مكية، ولم يذكر رواية واحدة تثبت أن فيها آية أو آيات قد نزلت بالمدينة.
وابن كثير- كما نعرف- من الحفاظ النقاد الذين يعرفون كيف يتخيرون الروايات، وكيف يميزون بين صحيحها وضعيفها.
(ج) الروايات التي اعتمد عليها القائلون بأن تلك الآيات التسع مدنية روايات فيها
__________
(1) سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام ص 16 لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد المدني- رحمه الله-
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 122.(5/7)
مقال، ولم يعتمدها المحققون من العلماء، فقد نقل السيوطي عن ابن الحصار قوله:
استثنى من سورة الأنعام تسع آيات- مدنية- ولا يصح به نقل، خصوصا وأنه قد ورد أنها نزلت جملة «1» .
(د) الذي يقرأ سورة الأنعام بتدبر يجد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية، فهي تتحدث باستفاضة عن وحدانية الله، وعن مظاهر قدرته، وعن صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وعن الأدلة الدامغة التي تؤيد صحة البعث والثواب والعقاب يوم القيامة، إلى غير ذلك من المقاصد التي كثر الحديث عنها في القرآن المكي.
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية، تقرر حقائقها، وتفند شبه المعارضين لها، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل- مع طولها وتنوع آياتها- جملة واحدة، وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء.
ومن ذلك يتبين أنه لا مجال للقول بأن بعضها من قبيل المدني، ولا بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا، فكلها جملة واحدة نزلت بمكة لغاية واحدة، هو تركيز الدعوة بتقرير أصولها والدفاع عنها «2» .
هذه بعض الأدلة التي تجعلنا نرجح أن سورة الأنعام كلها مكية، وأنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة.
4-لماذا سميت بسورة الأنعام؟
الأنعام لغة تطلق على ذوات الخف والحافر من الحيوان، وهي- الإبل والبقر والغنم- وقد سميت سورة الأنعام بهذا الإسم، لأنها فصلت الحديث عن هذه الأنواع بطريقة متعددة الجوانب، متنوعة الأهداف.
وقد تكرر لفظ الأنعام في تلك السورة ست مرات في أربع آيات.
أما الآية الأولى فقد حكى القرآن فيها ما كانوا يفعلونه من قسمتهم الحرث والأنعام إلى قسمين: قسم جعلوه لله يتقربون به إليه عن طريق إكرام الضيف ومساعدة المحتاج.
وقسم جعلوه لآلهتهم فذبحوه على الأنصاب، وأنفقوا منها على سدنتها وخدمها، ثم هم بعد ذلك العمل الباطل لا يعدلون في القسمة، يجورون أحيانا على القسم الذي جعلوه لله بينما
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ج 1 ص 28 طبعة مكتبة المشهد الحسيني سنة 1387 هـ.
(2) تفسير القرآن الكريم لفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت ص 401 طبعة دار القلم.(5/8)
يتحرزون عن الجور على القسم الذي جعلوه لشركائهم.
قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ «1» .
وأما الآية الثانية فقد ورد فيها لفظ «الأنعام» ثلاث مرات، وقد كشف القرآن فيها عن بعض أعمال المشركين المنكرة، وهي أنهم جعلوا الأنعام ثلاثة أقسام:
قسما لا يأكل منه عند ذبحه إلا سدنة الأوثان والرجال دون النساء. وقسما يحرم ركوبه كالبحيرة والسائبة والحامى، وقسما لا يذكرون اسم الله عليه عند الذبح وإنما يذكرون أسماء آلهتهم.
قال تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ «2» .
وفي الآية الثالثة تحدث القرآن عن لون من ألوان ظلمهم وجهلهم، فقد كانوا يجعلون بعض ما في بطون أنعامهم إذا نزل حيّا كان خاصّا بالرجال دون النساء، وإذا نزل ميّتا فالرجال والنساء فيه شركاء.
قال تعالى: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ «3» .
أما الآية الرابعة، فقد بين القرآن فيها جانبا من نعم الله على عباده، إذ جعل لهم من الأنعام أنواعا تذبح لينتفعوا بلحومها وشحومها وجلودها وأنواعا تحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس.
قال تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» .
وهناك آيات أخرى سوى هذه الآيات السابقة تناول الحديث فيها أحكاما أخرى تتعلق بالأنعام، وسنفصل القول فيها عند تفسيرنا لها- بعون الله- تعالى-.
__________
(1) الآية 136
(2) الآية 138
(3) الآية 139
(4) الآية 142(5/9)
5- مناسبتها لما قبلها:
وقد جرت عادة بعض المفسرين أن يعقدوا مناسبة بين السورة وبين سابقتها، ولعل أكثرهم توسعا في ذلك الإمام الآلوسى فقد قال: «ووجه مناسبتها لآخر المائدة أنها افتتحت بالحمد والمائدة اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان، كما قال- سبحانه- وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» .
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة: «إنه- تعالى- لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ على سبيل الإجمال، افتتح- جل شأنه- هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله، فبدأ- سبحانه- بذكر خلق السموات والأرض، وضم- تعالى- إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه ما فيهن، ثم ذكر أنه خلق النوع الإنسان وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث، وأنه- جل جلاله- منشئ القرون قرنا بعد قرن، ثم قال- تعالى- قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ. فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فأثبت أنه ملك جميع المظروفات لظرف الزمان، ثم ذكر- سبحانه- خلق سائر الحيوان من الدواب والطير، ثم خلق النوم واليقظة والموت، ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى، وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن» .
هذا، وقد عقد فضيلة الشيخ محمود شلتوت- رحمه الله- مقارنة ضافية بين سورة الأنعام وبين ما سبقها من سور مدنية فقال ما ملخصه:
وأما السور الأربع المدنية التالية لسورة الفاتحة- والسابقة لسورة الأنعام- وهي سور:
البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، فهي بحكم مدنيتها تشترك كلها في هدف واحد وهو تنظيم شئون المسلمين بالتشريع لهم باعتبارهم أمة مستقلة، وبإرشادهم إلى مناقشة أهل جوارهم فيما يتصل بالعقيدة والأحكام، وإلى الأساس الذي يرجعون إليه ويحكمونه في التعامل معهم في حالتي السلم والحرب، وقلما تعرض هذه السور المدنية إلى شيء من شئون الشرك ومناقشة المشركين.
وهذه السور مع اشتراكها في أصل الهدف العام، تختلف قلة وكثرة فيما تتناوله من التشريع الداخلى الخاص بالمسلمين، والتشريع الخارجي الذي يرتبط بهم مع من يخالفهم في الدين.
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 8 ص 76 طبعة منير الدمشقي. [.....](5/10)
إن سورة البقرة قد نزلت في أوائل الهجرة، وقد صار للمسلمين بالهجرة كيان خاص وجوار خاص، وبذلك كان أمامها هدفان:
الأول: نظم يأخذ بها المسلمون أنفسهم في عباداتهم ومعاملاتهم: شخصية ومدنية وجنائية.
والهدف الآخر: إرشاد إلى طريق المناقشة فيما كان مجاوروهم يثيرونه حول الدين والدعوة من شبه وتشكيكات، وقد تجلى هذان الهدفان بصورة واضحة في سورة البقرة، برز أحد الهدفين في نصفها الأول، وبرز الهدف الثاني في نصفها الأخير، واقرأ في الأول على وجه عام من قوله- تعالى- يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (الآية 40) إلى قوله- تعالى-: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (الآية 176) .
واقرأ في الهدف الثاني قوله- تعالى-: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (الآية 177) إلى نهاية الآية 283: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ.
وقد عرضت في هذا السبح الطويل بعد أن أجملت أوصاف الصادقين في إيمانهم المتقين في أعمالهم لجملة من الأحكام التي تسوس الأمة فيما بينها.
عرضت القصاص، والوصية، والصيام، والقتال، وبعض أحكام الحج. إلخ.
ثم تجيء سورة آل عمران، فتصرف عناية خاصة إلى مناقشة النصارى في قضية الألوهية، وإلى كشف بعض صور التزييف التي كان يصطنعها أهل الكتاب إخفاء لحق الإسلام ودعوته.
ثم ترشد المسلمين إلى ما يحفظ عليهم شخصيتهم، ويقيهم شر الوقوع في مخالب الأعداء وترسم لهم في ذلك الطرق الحكيمة التي تجعل منهم قوة الجهاد في تأييد الحق وهزيمة الباطل.
وعلى أساس من مشاركة سورة النساء لزميلاتها المدنيات في أصل الهدف تناولت الأمرين:
تنظيم جماعة المسلمين، ومناقشة أهل الكتاب في موضوع الألوهية والرسالة، غير أن عنايتها بجانب التنظيم كانت أشد من عنايتها بجانب المناقشة.
ثم تجيء سورة المائدة فتأخذ سبيل أخواتها أيضا، فتشرع للمسلمين في خاصة أنفسهم، وفي معاملة من يخالطون من أهل الكتاب، مع الإرشاد إلى طرق محاجتهم والتنبيه على أخطائهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه. وتذكيرهم بسيئاتهم مع أنبيائهم. وقد استغرق ذلك معظم السورة.(5/11)
أما سورة الأنعام فإنها لم تعرض لهدف من الأهداف الأصلية التي تميزت بها السور الأربع المدنية قبلها.
فهي أولا: لم تعرض لشيء من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين، كالصوم والحج في العبادات، والعقوبات في الجنايات، والمداينة والربا في الأموال، وأحكام الأسرة في الأحوال الشخصية.
وهي ثانيا: لم تذكر في قليل ولا كثير شيئا يتعلق بالقتال ومحاربة الخارجين عن دعوة الإسلام.
وهي ثالثا: لم تتحدث في شيء ما عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذلك لم تتحدث عن طوائف المنافقين ولا عن أخلاقهم السيئة ومسالكهم المظلمة.
وهي رابعا: لا نجد فيها مع ذلك كله نداء واحدا للمؤمنين باعتبارهم جماعة تنتظمها وحدة الإيمان، لا نجد فيها شيئا من هذا كله كما وجدناه جميعا في السور الأربع السابقة، وإنما نجد الحديث فيها يدور بشدة وقوة حول العناصر الأولى للدعوة، ونجد سلاحها في ذلك، الحجة المتكررة، والآيات المصرفة، والتنويع العجيب في طرق الإلزام والإقناع: تذكر توحيد الله في الخلق وفي الإيجاد، وفي العبادة والتشريع، وتذكر موقف المكذبين وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم السابقين، وتذكر شبههم في الرسالة، وتذكر يوم البعث والجزاء.
ولعلنا بعد هذا نلمس الفرق الجلى الواضح بين منهج سورة الأنعام، ومنهج السور الأربع المدنية قبلها» «1» .
6- عرض عام لسورة الأنعام:
عند ما نفتح كتاب الله لنتدبر ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد حكيمة، وتوجيهات نافعة، نراها في مطلعها قد ابتدأت بحمد الله والثناء عليه وبيان استحقاقه لذلك، لأنه- سبحانه- هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما، وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ.
__________
(1) تفسير القرآن الكريم ص 362 وما بعدها. لفضيلة الشيخ محمود شلتوت طبعه دار القلم.(5/12)
ثم تحدثت السورة الكريمة عن طبائع المعاندين، وأنذرتهم بسوء المصير إذا ما استمروا في عتوهم وجحودهم، وساقت لهم- ليعتبروا، ما حل بالمكذبين الذين سبقوهم والذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا، فعليهم أن يفيئوا إلى رشدهم حتى لا يصيبهم ما أصاب المكذبين من قبلهم.
استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ المؤثر، فيقول تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ.
ثم تأخذ السورة بعد ذلك في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فترسم صورة عجيبة لمكابرة المشركين وأنهم قد غدوا- لانطماس بصيرتهم واستيلاء الجحود على قلوبهم- لا يجدي معهم توجيه أو دليل، حتى أنهم لو نزل عليهم كتاب من السماء فلمسوه بأيديهم، وقرءوه بأعينهم، وعرفوا منه صدق نبوتك يا محمد، لقالوا بعد كل ذلك إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثاني من سورة الأنعام، ألفيناها تسوق حشودا من البراهين الدالة على وحدانية الله وقدرته بطريقة تحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى، وبأسلوب يسكب في القلوب السكينة والطمأنينة، ويقنع العقول السليمة بأن المستحق للعبادة والخضوع إنما هو الله وحده.
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قُلْ لِلَّهِ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى. قُلْ لا أَشْهَدُ. قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
.(5/13)
ثم ذكرت السورة بعد ذلك حال المكذبين بيوم القيامة. فوضحت أنهم في هذا اليوم الهائل الشديد ينكرون أنهم كانوا مشركين ولكن هذا الإنكار لن ينفعهم شيئا لأن الذي يخاطبهم هو العليم الخبير.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
ثم تمضى الآيات في الحديث عن مشاهد يوم القيامة، فتصور حسرتهم وندمهم عند ما يقفون على النار التي كانوا يكذبون بها في الدنيا، وعند ما يقفون أمام ربهم الذي كانوا يشركون معه آلهة أخرى فتقول:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ، قالَ: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
ثم بعد هذا التصوير المؤثر لأحوال المشركين يوم القيامة، يتركهم القرآن مؤقتا ليوجه خطابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسليا له، ومثبتا لقلبه، وداعيا إياه إلى الصبر على تحمل الرسالة بدون كلل أو ملل، وإلى التأسى بمن سبقوه من أولى العزم من الرسل.
قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ.
أما الربع الثالث من السورة الكريمة فقد افتتح ببيان أن الذين يستجيبون لدعوة الحق إنما هم الذين يسمعون ويتعظون وهم الأحياء حقا، أما من ماتت قلوبهم فصارت لا تتفتح للحق، ولا تتقبل الهداية فإن مصيرهم إلى الله، فهو- سبحانه وتعالى- سيجازيهم بسبب جحودهم وعنادهم ومطالبتهم لنبيهم بالمطالب المتعنتة التي لا فائدة من ورائها.
قال تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقالُوا:(5/14)
لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
ثم تدعوهم السورة بعد ذلك بأسلوب تلقيني إنذارى إلى التفكر والتدبر في مظاهر قدرة الله وتبين لهم بطريقة منطقية مقنعة أن الله وحده هو القادر على سلب أسماعهم وأبصارهم، وهو القادر على إنزال العذاب بهم أو رفعه عنهم. استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعاني بأسلوبه الفريد فيقول:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ، أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ.
ثم يقول: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ.
ثم وضحت السورة أن وظيفة الرسل إنما هي التبشير للمتقين والإنذار للمكذبين وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم إنى أملك خزائن الأرض، أو إنى أعلم الغيب، أو إنى ملك من الملائكة. وإنما قال لهم: إنى بشر مثلكم أتبع ما يوحى إلى من ربي، والناس مختلفون بعد ذلك في تلقى نور الوحى، وجزاؤهم على حسب حالهم وعملهم، فلا يستوي المحسن والمسيء كما لا يستوي الأعمى والبصير:
قال تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ.
ثم تمضى السورة في سرد توجيهاتها وحكمها فتسوق البشارة للمؤمنين الذين اقترفوا بعض السيئات ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، كما تسوق الإنذار الحاسم للمشركين الذين لم يتبعوا الطريق القويم فتقول:
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ.
ثم يمضى السياق مع المكذبين المستعجلين بالعذاب فيطلعهم ويطلع غيرهم في الربع الرابع من السورة على صورة شاملة لعلم الله الواسع، وقدرته النافذة، وحكمته الحكيمة، ويطوف بهم في مجاهل الغيب الذي لا يعلمه إلا هو، وفي عالم البر والبحر الذي لا يخرج منه شيء عن إرادته، وفي ظلمات الأرض المخبوءة التي لا يحيط بها إلا علمه، ثم يريهم كيف أنهم محكومون(5/15)
بإرادته. وأن حركاتهم وسكناتهم مردها إليه، وأنهم في ساعة الشدة والكرب لا يلوذون إلا بحماه.
تدبر كتاب الله وهو يحكى كل ذلك بطريقته المقنعة للعقل والعاطفة فيقول:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
وبعد هذا البيان الذي تعددت مظاهر عظاته وعبره، وتنوعت ألوان هداياته وإرشاداته اتجه القرآن بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له مسليا ومثبتا: إن قومك قد كذبوك مع أن ما معك هو الحق المبين قل لهم:
لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
ثم يأمره ويأمر كل من يتأتى له الخطاب بالإعراض عن الجاهلين الذين يخوضون في آيات الله بغير علم فيقول:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
ثم تبدأ السورة في الرابع الخامس منها جولة جديدة لتثبيت العقيدة السليمة فتسلك طريق القصة، وتتخذ من إبراهيم أبى الأنبياء نموذجا لاستقامة الفطرة، وسلامة التفكير وحسن الإدراك ويقظة العقل، فقد رأى إبراهيم- عليه السلام- بفطرته النقية أن الأصنام لا يعقل أن تكون آلهة. وخاطب أباه وقومه بذلك، واعتبرهم بهذا الإشراك في ضلال مبين، ثم اتجه إلى التعرف على الإله الحق فتخيله في كوكب، ولكنه حين أفل وزال قال: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ لأن الإله الحق لا يغيب ولا يزول. ثم ظن الألوهية في ذلك القمر الذي ينسكب نوره في الوجود(5/16)
فيضيء الليل البهيم، ولكنه رأى القمر- أيضا- يأفل ويغيب فأعرض عن اتخاذه إلها والتمس من الإله الحق أن يهديه إلى الصراط المستقيم.
فلما أصبح الصباح ورأى الشمس وقد أشرقت وعم ضوؤها الآفاق قال: هذا رَبِّي لأنها أكبر مصادر الضوء، فلما غابت الشمس أدرك بفطرته السليمة أن الإله لا يغيب ولا يكون شيئا محسوسا، فقرر البراءة من الشرك، واتجه إلى الخالق الحق الذي تدل آثاره على وجوده وعلى مخالفته لمخلوقاته فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ثم أخذ بعد ذلك يجادل قومه ويرشدهم إلى الصراط المستقيم، ويقيم لهم الأدلة على بطلان معتقداتهم.
تأمل معى- أيها القارئ الكريم- تلك الآيات الكريمة التي تحكى كل هذه المعاني بأسلوبها البديع فتقول:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً، إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ثم مضت السورة الكريمة في الحديث عن رسل الله الذين آتاهم الله الحجة على أقوامهم، وختمت الحديث عنهم بالثناء عليهم ووجوب الاقتداء بهم في هديهم وسلوكهم.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ.
وبعد هذا القصص المذكر، والتوجيه المنبه، والتدليل الواضح على وحدانية الله وقدرته ساقت لنا السورة في الربع السادس منها حشودا متنوعة من مظاهر قدرة الله ومن نعمه التي لا تحصى على عباده. إنها هنا توقفنا أمام هذا الكون الرائع البديع لتقول لنا: انظروا ماذا في السموات والأرض، ثم اتجهوا بالعبادة والخضوع إلى الله رب العالمين، فهو الذي فلق الحب فكان منه النبات، وفلق النوى فكان منه الشجر، وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وهو الذي يأتيكم بالضياء بعد الليل المظلم لكي تبتغوا من فضله، ويأتيكم بالليل بعد النهار لكي تسكنوا فيه بعد طول الكدح والعناء، وهو الذي يسير الشمس والقمر بتقدير(5/17)
دقيق وحساب لا يتخلف، وهو الذي زين السماء بالنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، وهو الذي أوجدكم جميعا من نفس واحدة لها مستقر في أصلاب الرجال ومستودع في أرحام النساء، وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرج به نبات كل شيء. لأن الماء قوام الحياة.
استمع إلى القرآن وهو يحكى كل هذه النعم الدالة على قدرة الله وفضله فيقول:
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ، انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ، إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وبعد أن ساق القرآن كل هذه النعم التي أسبغها الله على الناس، والتي من شأنها أن تجعلهم يخصونه بالعبادة والاستعانة، بعد كل ذلك صرح بأنه- مع كل هذه النعم- أضحى الكثيرون من خلقه يشركون معه آلهة أخرى، ويزعمون أن له بنين وبنات.
ولقد رد القرآن على هؤلاء الجاحدين بالحجة البالغة التي تدمغ باطلهم وتخرس ألسنتهم، وتنزه الخالق- عز وجل- عما قالوه وافتروه بغير علم فقال:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
ثم تتابع في الربع السادس منها حديثها عن المكابرين الذين لم يكتفوا بالقرآن معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، بل طلبوا منه- على سبيل التعنت- معجزات أخرى حسية، فتحكى السورة أقوالهم وترد عليهم بما يفضح أكاذيبهم، لأنهم لعنادهم وجحودهم لو أن الله- تعالى- أجاب لهم مطالبهم ما كانوا ليؤمنوا، إذ هم لا تنقصهم الآيات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الذي ينقصهم هو القلب المنفتح للحق، والنفس المتقبلة للهداية.
قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ(5/18)
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.
ثم تستطرد السورة الكريمة فتحكى بعض رذائل المشركين في مآكلهم وذبائحهم، وتنهى المؤمنين عن الأكل من الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها إلا في حالة الاضطرار، ثم تغرس فيهم خلق الحياء من الله فتأمرهم أن يتركوا الفواحش ما ظهر وما بطن، ثم تبين لهم أن المشركين سيثيرون الشكوك والشبهات حول عقيدتهم فعليهم أن يهملوا مجادلاتهم وأن يتركوهم في طغيانهم يعمهون:
قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
ثم تضرب السورة الأمثال للكفر والإيمان، فتشبه الكفر بالموت وتشبه الإيمان بالحياة، فكما أنه لا يتساوى الميت مع الحي، فكذلك لا يتساوى الضال الذي هو كالميت مع المؤمن الذي يحيا حياة طيبة وله نور يمشى به في الناس، ثم تبين أنه من دأب الجاحدين والحاقدين محاربة الحق، وأنه ليس بغريب أن يحارب زعماء قريش الدعوة الإسلامية لأنهم يحسدون صاحبها على ما آتاه الله من فضله، ويطلبون أن تكون النبوة فيهم مع أن النبوة هبة من الله يهبها لمن يشاء من عباده، وأنهم بسبب هذا الحقد سيصيبهم عذاب شديد من الله- عز وجل-.
قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها، وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثامن من سورة الأنعام، رأيناها تعرض مشهدا من مشاهد يوم القيامة، تعرض مشهد الحشر للجن والإنس وهم يتناقشون ويتلاومون ويتحسرون، ولكن ذلك لن يفيدهم لأنهم قد وسوس بعضهم إلى بعض زخارف من الأباطيل والأكاذيب. تعرض(5/19)
مشهدهم عند ما يقفون أمام ربهم فيسألهم: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
؟ وهنا لا يملكون، إلا الشهادة على أنفسهم بأن الرسل الكرام قد بشروهم وأنذروهم، ولكن الشيطان هو الذي استحوذ عليهم فجعلهم يستحبون العمى على الهدى.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور هذا المشهد بأسلوبه الرائع فيقول:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.
ومع أن السورة الكريمة قد تعرضت- فيما سبق منها- بصورة موجزة للأباطيل التي كان يتبعها المشركون في ذبائحهم ومآكلهم ومشاربهم، إلا أنها هنا- في أواخر الربع الثامن وفي معظم الربع التاسع- قد أفاضت القول في استعراض رذائل المشركين التي تتعلق بنذورهم ومطاعمهم وذبائحهم وما أحلوه وما حرموه، وذلك لأن السورة الكريمة تريد أن تنقى العقيدة الإسلامية من كل ما كان سائدا في الجاهلية من معتقدات باطلة، وأفعال قبيحة، وتقاليد وثنية موروثة، وعادات جاهلية مرذولة، فتحدثت عن أوهامهم التي منها أنهم جعلوا لله مما خلق نصيبا وجعلوا لآلهتهم نصيبا آخر، ثم هم بعد ذلك لا يعدلون في قسمتهم مع بطلانها، بل تارة يأخذون من نصيب الله الذي هو للفقراء فيجعلونه لسدنة أصنامهم وخدامها. ومنها أن يعضهم كانوا يقتلون أولادهم سفها بغير علم لأن الشياطين زينت لهم ذلك. ومنها أنهم شرعوا لأنفسهم أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان.
ولقد حكى القرآن بعض هذه الرذائل التي كانت متفشية فيهم، ووبخهم عليها ونهى المؤمنين عن سلوك مسلكهم فقال:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
ثم قال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.(5/20)
ثم انتقلت السورة بعد ذلك- في الربع التاسع منها- إلى الحديث عن الطيبات التي أحلها الله لعباده في مأكلهم ومشربهم، فذكرت ألوانا من النعم التي خلقها الله وأنشأها لعباده، فقد أنشأ- سبحانه- الجنات المعروشات أى المرفوعات على ما يحملها كالأعناب وما يشبهها، وأنشأ الجنات غير المعروشات كالبرتقال وغيره، كما أنشأ الزروع والأشجار المختلفة الأنواع والثمار.
وذلك كله لكي يقبل الناس على عبادة خالقهم، ويشكروه على نعمه التي لا تحصى.
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ، كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
ثم أخذت السورة تناقش المشركين فيما أحلوه وحرموه من الأنعام بأسلوب منطقي رصين، يقيم عليهم الحجة، ويكشف عن سخافة تفكيرهم وتفاهة عقولهم، واتباعهم خطوات الشيطان في تحريم بعضها وتحليل البعض الآخر، فهذه الأنعام ثمانية أزواج، من الضأن اثنان، ومن المعز اثنان، ومن الإبل اثنان، ومن البقر اثنان، فلماذا حرم المشركون على أنفسهم بعضها دون بعض؟ إن كان التحريم للأنوثه فعليهم أن يحرموا جميع الإناث، وإن كان للذكورة فعليهم أن يحرموها، إذا فتحريمهم لبعض الذكور دون بعض يدل على ضلال في التفكير، وجهالة في الأحكام، وافتراء على الله بغير علم.
استمع إلى القرآن وهو يحكى أوهامهم ثم يرد عليها بما يدمغها فيقول:
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، ثم صرحت السورة الكريمة أن ما حرمه الله على اليهود من المطاعم كان بسبب بغيهم، وقساوة قلوبهم، وأنهم وأمثالهم- الذين يتنصلون من تبعة الضلال ويحيلونها على مشيئة الله- كاذبون فيما يزعمون، وأنهم يهرفون بما لا يعرفون، وإلا فأين دليلهم على هذا التنصل؟ وأين حجتهم على أن الله قد حرم هذا وأحل هذا؟
لقد حكى القرآن مزاعمهم ثم فندها بالبراهين الدامغة، والحجة البالغة فقال:
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.(5/21)
فإذا ما انتهينا إلى الربع العاشر- والأخير- من سورة الأنعام رأيناها تخاطب أولئك الذين أحلوا لأنفسهم ما حرمه الله وحرموا عليها ما لم يأذن به فتقول لهم ولغيرهم «تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم» ثم تسوق عشر وصايا رسمت للإنسان طريق علاقته بربه، ووضعت الأساس المكين الذي يبنى عليه صرح الأسرة الفاضلة التي منها تتكون الأمة القوية الناجحة في الحياة، وأوصدت منافذ الشرور والآثام التي تصيب المسلم في نفسه أو ماله أو عرضه ثم ذكرت أهم المبادئ التي تسمو بالمحافظة عليها الحياة الاجتماعية الكريمة، وختمت هذه الوصايا ببيان أنها هي الصراط المستقيم الذي يجب على كل إنسان أن يتبع هداه حتى لا يزل أو يضل.
استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه الوصايا الحكيمة فيقول:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
وبعد أن ساقت السورة الكريمة هذه الوصايا الحكيمة اتجهت في ختامها إلى دعوة الناس للعمل بكتاب الله الذي أنزله ليكون هداية ورحمة لهم، وأنذرت الذين يعرضون عن هديه الحكيم بسوء العذاب، وحثت كل عاقل على المبادرة إلى الإيمان بالله من قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه الإيمان، ولا تنفع فيه الأعمال، لأنه يوم جزاء وحساب، وأمرت في ختامها كل مسلم بأن يخلص عمله لله، وأن يحمده على هدايته إياه إلى طريق الحق والرشاد، وبينت منزلة الإنسان في هذا الوجود وحضته على أن يكون بقوله وعمله أهلا لهذه المنزلة السامية حتى ينال رضا الله.
وقد ساقت السورة في ختامها كل هذه المعاني بأسلوب ساحر يخلب الألباب، ويرقق(5/22)
القلوب، ويصفى النفوس، ويشيع في وجدان المؤمن الأنس والبهجة والخوف والرجاء.
قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
هذه هي أهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة الأنعام، ومنها نستخلص أن الأغراض الرئيسية التي استهدفتها السورة الكريمة تتركز فيما يلي:
(أ) إقامة الأدلة على وحدانية الله وقدرته، وأنه سبحانه- هو المستحق للعبادة والخضوع، وأن شريعته وحدها هي التي يجب أن تكون مرجعنا في كل ما يتعلق بعبادتنا ومعاملاتنا وسائر شئوننا.
(ب) إقامة الأدلة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، مع بيان وظيفته وتسليته عما يلاقيه من أعدائه.
(ج) إقامة الأدلة على أن يوم القيامة حق، وعلى أن الناس سيحاسبون فيه على أعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(د) تفنيد الشبهات التي أثارها المشركون حول هذه الأمور الثلاثة السابقة بأسلوب يقنع العقول، ويهدى القلوب، ويرضى العواطف، ويحمل العقلاء على المسارعة إلى الدخول في هذا الدين عن طواعية واختيار.
7- من فضائل سورة الأنعام ومزاياها:
تكاثرت الروايات في بيان فضائل سورة الأنعام وأنها قد نزلت مشيعة بالملإ العظيم من الملائكة، كما تكلم العلماء عن المميزات التي تميزت بها هذه السورة في عرضها للحقائق التي اشتملت عليها.
وفي ذلك يقول الإمام الرازي: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة.
أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة.
والثاني: أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة، والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل(5/23)
التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين» «1» .
ويقول الإمام القرطبي: (هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين، ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضى إنزالها جملة واحدة، لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين «2» ..) .
ويقول فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت:
ويجدر بنا أن نلفت النظر إلى أن سورة الأنعام قد عرضت ما عرضت في أسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بتلك الكثرة في غيرها من السور:
أما الأسلوب الأول فهو أسلوب التقرير، فهي تورد الأدلة المتعلقة بتوحيد الله وتفرده بالملك والتصرف، والقدرة والقهر، في صورة الشأن المسلم الذي لا يقبل الإنكار أو الجدل، وتضع لذلك ضمائر الغائب عن الحس الحاضر في القلب، وتجرى عليه أفعاله وآثار قدرته ونعمته البارزة للعيان، والتي لا يمارى قلب سليم في أنه مصدرها ومفيضها وصاحب الشأن فيها:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ.
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.. ألخ هذا هو أحد الأسلوبين.
أما الأسلوب الثاني فهو أسلوب تلقين الحجة، والأمر بقذفها في وجه الخصم حتى تأخذ عليه سمعه، وتملك عليه قلبه، وتحيط به من جميع جوانبه فلا يستطيع التفلت منها، ولا يجد بدا من الاستسلام لها.
ففي حجج التوحيد والقدرة يقول: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 2 المطبعة الشرفية سنة 1324 هـ.
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 282. طبعة دار الكاتب العربي سنة 1967 م.(5/24)
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ.
وفي حجج الوحى وبيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الرسالة لا تنافى البشرية وفي إيمان الرسول بدعوته واعتماده فيها على الله، وعدم اكتراثه بهم، أو انتظار الأجر منهم يقول.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ.
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وفي وعيدهم على التكذيب يقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
هذان الأسلوبان: (هو كذا) و (قل كذا) قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة من الحجج وقضايا التبليغ، وهما وإن جاءا في غيرها من سور القرآن إلا أنهما وخاصة الأسلوب الثاني وهو أسلوب (قل كذا) لم يوجد في غيرها بهذه الكثرة التي نراها في هذه السورة، وهما بعد ذلك:
أسلوبان من أساليب الحجة القوية التي تدل على قوة المعارضين وإسرافهم في المعارضة، وأنهم بحالة تستوجب تلك الشدة التي تستخرج الحق من نفوسهم..
ويدل الأسلوبان من جهة أخرى على أنهما صدرا في موقف واحد، وفي مقصد واحد، لخصم واحد بلغ من الشدة والعتو مبلغا استدعى من القوى القاهر تزويد المهاجم بعدة قوية تتضافر أسلحتها في حملة شديدة يقذف بها في معسكر الأعداء فتزلزل عمده، وتهد من بنيانه فيخضع للتسليم بالحق الذي يدعى إليه.
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية، ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية، تقرر حقائقها، وتفند شبه المعارضين لها، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل- مع طولها وتنوع آياتها- جملة واحدة وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء اهـ «1» .
وبعد: فهذا تمهيد بين يدي تفسير سورة الأنعام، تعرضنا خلاله لبيان مكان نزولها، ولبيان الفترة الزمنية التي نزلت فيها، ولطبيعة هذه الفترة، ولسبب تسميتها بهذا الاسم، ولمناسبتها للسور التي قبلها، وللأهداف الإجمالية التي اشتملت عليها، ولجانب من فضائلها ومزاياها.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم ص 398 طبعة دار القلم.(5/25)
ولعلنا بذلك- أيها القارئ الكريم- نكون قد قدمنا لك فكرة مجملة عن هذه السورة الكريمة تعينك على تفهم أسرارها، ومقاصدها، وتوجيهاتها، عند تفسيرنا لآياتها بشيء من التفصيل والتحليل. والله نسأل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يجنبنا فتنة القول والعمل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(5/26)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
التفسير قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
افتتحت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين، وهي أن المستحق للحمد المطلق، والثناء الكامل هو رب العالمين.
والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
وأل في الْحَمْدُ للاستغراق، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ولكافة ألوان الثناء هو الله تعالى، وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ كما بين الفرق بين المدح والحمد والشكر فقال: «اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله، وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد، وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل(5/27)
ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر. إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل المدح لله لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، فكان قوله الحمد لله تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة. وإنما لم يقل الشكر لله، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة، فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه- تعالى أوصل النعمة إليه، فيكون الإخلاص أكمل، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت» «1» .
هذا وفي القرآن الكريم خمس سور مكية اشتركت في الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده، ولكن كان لكل سورة منهج خاص في بيان أسباب ذلك الحمد.
أما السورة الأولى فهي سورة الفاتحة التي تقول في مطلعها الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أى: أن الحمد لله وحده، الذي ربي هذا العالم تربية خلقية أساسها الإيجاد والتصوير، ورباه تربية عقلية أساسها منح قوى التفكير والإدراك، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها الأحكام التي أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين، والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية، عن طريق الإيجاد والتصوير، كما تنتظم التربية التشريعية التي أساسها الأحكام التي أوحاها الله إلى أنبيائه ورسله.
وتجيء بعد سورة الفاتحة في الترتيب المصحفى سورة الأنعام فأثبتت أيضا استحقاق الحمد لله وحده، لأنه «خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، فهي تهتم بالحديث عن نوع خاص من التربية، وهو التربية الخلقية التي أساسها الخلق والإيجاد والتسوية والتصوير الحقيقي.
ثم تجيء بعدهما سورة «الكهف» فتثبت أن الحمد لله، لأنه أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التي تهذب الروح، وتهدى الفكر.
والسورة الرابعة التي افتتحت بإثبات أن الْحَمْدُ لِلَّهِ هي سورة سبأ، لأنه- سبحانه- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، ثم تراها بعد ذلك
__________
(1) تفسير مفاتيح الغيب ج 4 ص 3 للفخر الرازي المطبعة الشرفية سنة 1324 هـ.(5/28)
زاخرة بالحديث عن أنواع التربية المطلقة التي تنجلي في إرساء مظاهر علم الله الشامل، وملكه المطلق، وتدبيره المحكم وقدرته النافذة التي تجعله أهلا لكل حمد وثناء.
أما السورة الخامسة فهي سورة فاطر، فقد أثبتت في مطلعها أن الحمد لله، لأنه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا، أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر يراها تهتم بإبراز إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية فهي تذكر خلق السموات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر. كما تذكر أنواع الناس في الانتفاع بوحي الله، وبهدى أنبيائه ورسله.
وهكذا نجد أن السور الخمس قد اشتركت في أنها افتتحت بجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ وفي قصر الحمد والثناء عليه وحده. إلا أن كل واحدة منها قد سلكت منهجا خاصا في تقرير هذه الحقيقة، وفي إقامة الأدلة على صدقها.
وقد أحسن القرطبي عند ما قال: «فإن قيل: قد افتتح غيرها- أى سورة الأنعام- بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره فيقال: لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه، لا يؤدى عن غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة، وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون» «1» .
ثم بين القرآن بعد ذلك الأسباب التي تحمل العقلاء على أن يجعلوا حمدهم كله لله- تعالى- فقال:
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.
والمعنى: الحمد كله لله الذي أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية، وأوجد ما فيها من مخلوقات ناطقة وصامتة، وظاهرة وخافية، وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات ونور وظلمات. فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله- تعالى- تثبتان وجوب استحقاق الحمد الكامل لله- عز وجل- وهما خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور.
وعبر- سبحانه- في جانب السموات والأرض بخلق، وفي جانب الظلمات والنور يجعل، لأن الخلق معناه هنا الإنشاء والإيجاد الابتدائى من العدم، أما الجعل فيتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو من أشياء، فالظلمات تتولد من اختفاء الشمس عن الأرض، والنور يتكون من بزوغ الشمس على الأرض، وهذه التقلبات الكونية هي بتقدير الله العزيز العليم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 384 طبعة دار الكاتب العربي سنة 1967 م.(5/29)
قال صاحب الكشاف: «والفرق بين الخلق والجعل. أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار» «1» .
وقال الفخر الرازي: «وإنما حسن لفظ الجعل هنا، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر» «2» .
وقال أبو السعود: «والجعل هنا هو الإنشاء والإبداع كالخلق، خلا أن ذلك- أى الخلق- مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة والتشريعي أيضا كما في قوله- تعالى- ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ «3» .
وقد وردت نصوص تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسماوات. إلا أنها في كثير من المواضع القرآنية تفرد- أى الأرض- وتجمع السماء كما هنا، لعظم السماء. ولإحاطتها بالأرض، ولأنه لم يعرف أن الله- تعالى- قد عصى فيها، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، بخلاف طبقات الأرض فإنها متصلة.
والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده- سبحانه- بخلق هذه الأشياء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالظلمات، ظلمات الشرك والكفر والنفاق، وأن المراد بالنور، نور الإيمان والإسلام واليقين، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا.
قال صاحب المنار: قال الواحدي: والأولى حمل اللفظين عليهما، واستشكله الرازي لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، والمختار عندنا جوازه، وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر- أى الشرع- كما تقدم، فيفسر جعل كل نور بما يليق به «4» .
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 3 للزمخشري. طبعة دار الكاتب العربي ببيروت.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 5.
(3) تفسير أبو السعود ج 2 ص 77 طبعة صبيح.
(4) تفسير المنار ج 7 ص 295 للشيخ رشيد رضا. طبعة دار المنار سنة 1367 هجرية.(5/30)
وعبر القرآن في جانب الظلمات بصيغة الجمع، وفي جانب النور بالإفراد لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته. أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها، فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة السجون، وهناك ظلمة القبور، وهناك ظلمة الغمام، وهي تتغير حقائقها بتغير أسبابها. ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوي وهي أن ظلمة الإدراك تتعدد حقائقها، فهناك ظلمة الانحراف، وظلمة الأهواء، والشهوات وطمس القلوب.
والنور واحد وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فالنور في هذا واحد «1» .
ثم بين- سبحانه- الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
العدل: المراد به هنا التسوية، فقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه به والمعنى: أن الله- تعالى- هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي جعل الظلمات والنور، فهو لذلك من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره في العبادة، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ على معنى أن الله- تعالى- حقيق بالحمد على ما خلق من نعم، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى.
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة «خلق السموات والأرض» على معنى أن الله- تعالى- قد خلق الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا.
وجاء العطف «بثم» لإفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون. فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة على وحدانية الله وقدرته، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا في العبادة بين الخالق والمخلوق.
قال القرطبي: قال ابن عطية: فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السموات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني! ولو وقع
__________
(1) مجلة لواء الإسلام العدد 5 السنة 23: تفسير سورة الأنعام لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبى زهرة.(5/31)
العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم» «1» .
ثم ساق القرآن في الآية الثانية دليلا آخر على أن الله- تعالى- هو المستحق للعبادة والحمد، وعلى أن يوم القيامة حق، فتحدث عن أصل خلق الإنسان، بعد أن تحدث في الآية الأولى عن خلق السموات والأرض فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ.
أى: هو الذي أنشأكم من طين، ثم تعهدكم برعايته في مراحل خلقكم بعد ذلك، كما قال- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ.
وفي ذكر خلق الإنسان من طين، دليل على قدرة الله وعظمته، لأنه- سبحانه- هو الذي حول هذا الطين إلى بشر سوى مفكر، يختار الخير فيهتدى ويختار الشر فيردى، كما أن فيه تذكيرا له بأصله حتى لا يستكبر أو يطغى، وحتى يوقن بأن من خلقه من هذا الأصل قادر على أن يعيده إليه.
قال تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.
قال أبو السعود: (وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث، مع أن ما ذكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها. لما أن محل النزاع بعثهم، فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر، وهم بشئون أنفسهم أعرف، والتعامي عن الحجة البينة أقبح) «2» .
وقال الجمل: (وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم- عليه السلام- وهو المخلوق منه حقيقة. لتوضيح منهاج القياس، والمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس، مع ما فيه من تحقيق الحق، والتنبيه على حكمة خفية هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه- عليه السلام- منه. حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد البشر انطواء إجماليا، فكان خلقه- عليه السلام- من الطين خلقا لكل أحد من فروعه) «3» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 2 ص 387.
(2) تفسير أبى السعود- ج 2 ص 78.
(3) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 4. [.....](5/32)
ثم قال- تعالى- ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ. الأجل في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره. والمعنى: أنه سبحانه- قدر لعباده أجلين: أجلا تنتهي عنده حياتهم بعد أن عاشوا زمنا معينا، وأجلا آخر يمتد من وقت موتهم إلى أن يبعثهم الله من قبورهم عند انتهاء عمر الدنيا ليحاسبهم على أعمالهم، هذا هو الرأى الأول في معنى الأجلين.
وقيل: المراد من الأجل الأول آجال الماضين من الخلق، ومن الثاني آجال الباقين منهم.
وقيل المراد من الأول النوم ومن الثاني الموت. وقيل: المراد من الأول ما مضى من عمر الإنسان ومن الثاني ما بقي منه.
والذي نرجحه هو الرأى الأول لأسباب منها.
1- أن من تتبع ذكر الأجل المسمى في القرآن في سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد في عمر الإنسان الذي ينتهى بالموت، ومن ذلك قوله تعالى وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «1» .
وقوله- تعالى-: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «2» .
2- أن الآية الكريمة مسوقة لإثبات وحدانية الله ولتقرير أن البعث حق، فالمناسب أن يكون المراد بالأجل الثاني هو انتهاء عمر الدنيا وبعث الناس من قبورهم.
ولذا قال أبو السعود في تضعيفه للآراء المخالفة للرأى الأول: «ومن هاهنا تبين أن ما قيل من أن الأجل الأول هو النوم والثاني هو الموت، أو أن الأول أجل الماضين والثاني أجل الباقين، أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثاني مقدار ما بقي منه مما لا وجه له أصلا، لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم في البعث الذي عبر عن وقته بالأجل المسمى. فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففي أى شيء تمترون؟» «3» .
3- أن الرأى الأول هو الرأى المأثور عن بعض الصحابة، وبه قال جمهور المفسرين، وقد عزاه ابن كثير في تفسيره إلى عشرة من التابعين «4» .
__________
(1) سورة النحل: الآية 61.
(2) سورة نوح الآية 4.
(3) تفسير أبى السعود ج 2 ص 80.
(4) راجع تفسير ابن كثير ج 2 ص 23 طبعة عيسى الحلبي.(5/33)
وعطفت الجملة الكريمة بثم، للإشارة إلى أطوار خلق الإنسان المختلفة، فهو في أصله من سلالة من طين، ثم يصيره الله- تعالى- نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاما، ثم يكونه- سبحانه- وتعالى خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين» .
ووصف الأجل الثاني بأنه (مسمى عنده) ، لأن وقت قيام الساعة من الأمور التي لا يعلمها إلا الله قال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «1» .
وجاء قوله تعالى وَأَجَلٌ مُسَمًّى مقدما على (عنده) لأنه مبتدأ، والذي سوغ الابتداء به مع كونه نكرة تخصصه بالوصف فقارب المعرفة لذلك، فهو كقوله- تعالى- وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ.
ومعنى (عنده) أى: في علمه الذي لا يعلمه أحد سواه، فهي عندية تشريف وخصوصية.
ثم ختمت الآية الكريمة بتوبيخ الشاكين في البعث والحساب فقال- تعالى-:
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. الامتراء: هو التردد الذي ينتهى إلى محاجة ومجادلة وقد ينتهى إلى شك ثم إلى إنكار. مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ووجه المناسبة في استعماله في الشك، أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم.
والمعنى: ثم إنكم بعد كل هذه الأدلة الدالة على وحدانية الله، وعلى أن يوم القيامة حق، تشكون في ذلك، وتجادلون المؤمنين فيما تشكون فيه «بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير» .
وجاء العطف بثم لبيان التفاوت الكبير بين الحقائق الثابتة الناصعة، وبين ما سولته لهم أنفسهم من المجادلة فيها.
قال الآلوسى: «والمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك، كان أوضح اقتدارا على إقامته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة» «2» .
وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة في الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد، وعلى أن يوم القيامة حق، جاءت الآية الثالثة لتصفه- سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق
__________
(1) سورة الأعراف الآية 187.
(2) تفسير روح المعاني للآلوسى ج 7 ص 88 طبعة منير الدمشقي.(5/34)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
في هذا الكون فقال تعالى-: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ، يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ.
أى: أنه- سبحانه- هو المعبود بحق في السموات والأرض، العليم بكل شيء في هذا الوجود، الخبير بكل ما يكسبه الإنسان من خير أو شر فيجازيه عليه بما يستحقه.
والضمير «هو» الذي صدرت به الآية يعود إلى الله- تعالى- الذي نعت ذاته في الآيتين السابقتين بأنه هو صاحب الحمد المطلق، وخالق السموات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، ومنشئ الإنسان من طين، وأنه لذلك يكون مختصا بالعبادة والخضوع.
وقوله- تعالى-: وَهُوَ اللَّهُ جملة من مبتدأ وخبر، معطوفة على ما قبلها، سيقت لبيان شمول ألوهيته لجميع المخلوقات.
قال أبو السعود: وقوله فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق بالمعنى الوصفي الذي ينبئ عنه الاسم الجليل إما باعتبار أصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق، كأنه قيل: وهو المعبود فيهما. وإما باعتبار أنه اسم اشتهر بما اشتهرت به الذات من صفات الكمال، فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة، فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قيل: وهو المالك أو المتصرف المدبر فيهما، كما في قوله- تعالى-:
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ «1» .
وجملة يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذي استوى في علمه السر والعلن هو الله وحده. ويجوز أن تكون كلاما مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم، أو خبرا ثانيا.
ثم صور- سبحانه- طبيعة الجاحدين الذين هم- لانطماس بصائرهم وإصرارهم على العناد- غدوا لا يجدي معهم دليل ولا تنفع معهم حجة، وساق لهم أخبار من سبقوهم.
فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 6]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
__________
(1) تفسير أبو السعود ج 2 ص 80.(5/35)
والمعنى الإجمال للآية الأولى: أن هؤلاء الجاحدين لرسالات الله، لا تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على صدقك- يا محمد- فيما تبلغه عن ربك إلا تلقوها بالإعراض، واستقبلوها بالنبذ والاستخفاف.
فالآية الكريمة، كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله- تعالى- وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله- تعالى- وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد. وامترائهم في البعث، وإعراضهم عن أدلتة «1» .
ومِنْ الأولى لاستغراق الجنس الذي يقع في حيز النفي، كقولك: ما أتانى من أحد والثانية للتبعيض، أى: ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي توجب النظر والتأمل والاعتبار، إلا أهملوه وأعرضوا عنه. لقسوة قلوبهم وعدم تدبرهم للعواقب.
وإضافة الآيات إلى اسم الرب- عز وجل- تدل على تفخيم شأنها، وعلى أن تكذيبهم لها إنما هو تكذيب لما عرفوا مصدره، كما يدل على شدة عنادهم وإيغالهم في الكفر والجحود.
والآية الكريمة بأسلوبها المتضمن الحصر، وباشتمالها على كان وخبرها المفيد للدوام، والاستمرار، تفيد أن الإعراض عن الحق دأبهم، وأنهم ليسوا على استعداد لتقبل الحق مهما اتضحت معالمه، وأسفرت حججه.
ثم بين- سبحانه- أنهم لم يكتفوا بالإعراض عن الحق، بل تجاوزوا ذلك إلى التهكم بدعاته، والتطاول عليهم، وأنهم نتيجة لذلك المسلك الأثيم ستكون عاقبتهم خسرا فقال- تعالى-: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
فالآية الكريمة كشفت بأسلوب مؤكد عن جانب من عتوهم وسفههم وسوء أدبهم، بعد أن كشفت سابقتها عن عنادهم ونأيهم عن الحق.
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 7 ص 91.(5/36)
وقد بين الفخر الرازي مراحل تماديهم في الباطل كما صورها القرآن فقال «اعلم أنه- تعالى- رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب:
فالمرتبة الأولى: كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر والبينات.
والمرتبة الثانية: كونهم مكذبين بها، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذبا به، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذبا به فقد زاد على الإعراض.
والمرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين بها، لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار، فبين- سبحانه- أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب» «1» .
والمراد بالحق الذي كذبوا به: قيل إنه القرآن، وقيل إنه المعجزات، وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه الوعد الذي يرغبهم به تارة، والوعيد الذي يحذرهم بسببه تارة أخرى.
والذي نراه أن تكذيبهم قد شمل كل ذلك، لأنهم بعدم دخولهم في الإسلام قد صاروا مكذبين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والتعبير بقوله لَمَّا جاءَهُمْ يفيد أن الحق قد وصل إليهم، وطرق قلوبهم وأسماعهم، ولكنهم عموا وصموا عنه.
والأنباء: جمع نبأ وهو ما يعظم وقعه من الأخبار، والمراد بها في قوله- تعالى-: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الإخبار عن العذاب الذي توعدهم الله به عند إصرارهم على كفرهم، ونظيره قوله- تعالى-: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
قال صاحب الكشاف: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ الشيء الذي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهو القرآن، أى أخباره وأحواله، بمعنى: سيعلمون بأى شيء استهزءوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو في يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته «2» .
ثم ساق القرآن لهم على سبيل النصيحة والإرشاد أخبار من سبقوهم في الكفر والبطر وبين لهم سوء عاقبتهم ليعتبروا ويتعظوا فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير مفاتيح الغيب ج 4 ص 11 للفخر الرازي، المطبعة الشرفية سنة 1324 هـ.
(2) الكشاف ج 2 ص 6 للزمخشري طبعة دار الكتاب العربي بيروت.(5/37)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ.
قال القرطبي: «القرن الأمة من الناس والجمع القرون. قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم ... وخلفت في قرن فأنت غريب
فالقرن كل عالم في عصره، مأخوذ من الاقتران، أى عالم مقترن بعضهم إلى بعض، وفي الحديث الشريف: «خير الناس قرني- يعنى أصحابى- ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» فالقرن على هذا مدة من الزمان، قيل: ستون عاما، وقيل: سبعون، وقيل، ثمانون، وقيل مائة- وعليه أكثر أصحاب الحديث- أن القرن مائة سنة، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله ابن بشر: «تعيش قرنا» فعاش مائة «1» .
والاستفهام الذي صدرت به الآية الكريمة لتوبيخ الكفار وتبكيتهم، وإنكار ما وقع منهم من إعراض واستهزاء، وهو داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه.
والتقدير: أعملوا عن الحق وأعرضوا عن دلائله، ولم يروا بتدبر وتفكر كم أهلكنا من قبلهم من أقوام كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا.
وجملة أَهْلَكْنا سدت مسد مفعول رأى إن كانت بصرية، وسدت مسد مفعوليها إن كانت علمية، وكَمْ مفعول مقدم لأهلكنا، ومِنْ قَبْلِهِمْ على حذف المضاف، أى: من قبل زمنهم ووجودهم.
قال صاحب المنار: وكان الظاهر أن يقال: مكناهم في الأرض- أى القرون- ما لم نمكنهم، أى الكفار المحكي عنهم المستفهم عن حالهم، فعدل عن ذلك بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب، لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما، وكون المثبت عين المنفي، فقيل ما لم نمكن لكم «2» .
وما في قوله ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لمصدر محذوف. والتقدير: مكناهم في الأرض التمكين الذي لم نمكن لكم، والعائد محذوف:
أى الذي لم نمكنه لكم. ويحتمل أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف.
أى: مكناهم في الأرض شيئا لم نمكنه لكم «3» .
وفي تعدية الأول وهو مَكَّنَّاهُمْ بنفسه والثاني وهو نُمَكِّنْ لَكُمْ باللام إشارة إلى أن
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 390.
(2) تفسير المنار ج 7 ص 307 للشيخ رشيد رضا.
(3) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 7 بتصرف وتلخيص.(5/38)
السابقين قد مكنوا بالفعل من وسائل العيش الرغيد ما لم يتيسر مثله لهؤلاء المنكرين لدعوة الإسلام، وهذا أعظم في باب القدرة على إهلاك هؤلاء الذين هم أعجز من سابقيهم.
هذا، وقد وصف الله أولئك المهلكين بسبب اجتراحهم للسيئات بصفات ثلاث لم تتوفر للمشركين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وصفهم- أولا- بأنهم كانوا أوسع سلطانا، وأكثر عمرانا، وأعظم استقرارا، كما يفيده قوله تعالى مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ.
قال صاحب الكشاف: «والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا قوم عاد وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا» «1» .
ووصفهم- ثانيا- بأنهم كانوا أرغد عيشا، وأسعد حالا، وأهنأ بالا، يدل على ذلك قوله تعالى:
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً أى: أنزلنا عليهم المطر النافع بغزارة وكثرة، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها.
ووصفهم- ثالثا- بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التي يسيرون مجاريها كما يشاءون، فيبنون مساكنهم على ضفافها. ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجملية، كما يرشد إليه قوله- تعالى-: وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أى: صيرنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم.
ولكن ماذا كانت عاقبة هؤلاء المنعمين بتلك النعم الوفيرة التي لم تتيسر لأهل مكة كانت عاقبتهم- كما أخبر القرآن عنهم- فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أى: فكفروا بنعمة الله وجحدوا فأهلكناهم بسبب ذلك، إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم.
والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران:
أحدهما: أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد في الأرض، وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها.
والمظهر الثاني: إهلاك الله- تعالى- لها عقابا عن أوزارها «2» .
وقوله- تعالى- في ختام الآية وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ يدل على كمال قدرة الله،
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 6. [.....]
(2) تفسير سورة الأنعام لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، مجلة لواء الإسلام السنة 23 العدد الخامس ص 242.(5/39)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
ونفاذ إرادته، وأن إهلاكه لتلك الأمم بسبب ذنوبها لم ينقص من ملكه شيئا، لأنه- سبحانه- كلما أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى.
قال- تعالى- وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «1» .
ثم بين القرآن توغلهم في الجحود والعناد، وانصرافهم عن الحق مهما قويت أدلته، وساق جانبا من أقوالهم الباطلة ثم رد عليهم بما يدحضها فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 11]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
الكتاب في الأصل مصدر كالكتابة، ويستعمل غالبا بمعنى المكتوب، فيطلق على الصحيفة المكتوبة وعلى مجموعة الصحف.
والقرطاس- بكسر القاف وقد تفتح وتضم في بعض اللغات- ما يكتب فيه سواء كان من رق أو من ورق أو من غيرهما: ولا يطلق على ما يكتب فيه قرطاس إلا إذا كان مكتوبا.
والمعنى: إن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدقك يا محمد. ولكن الذي ينقصهم
__________
(1) سورة محمد الآية 38.(5/40)
هو التفتح للحق، والانقياد للهداية، فإننا لو نزلنا عليك كتابا من السماء في قرطاس- كما اقترحوا- فشاهدوه بأعينهم وهو نازل عليك ولمسوه بأيديهم منذ وصوله إلى الأرض وباشروه بعد ذلك بجميع حواسهم بحيث يرتفع عنهم كل ارتياب، ويزول كل إشكال. لو أننا فعلنا ذلك. استجابة لمقترحاتهم المتعنتة، لقالوا بلغة العناد والجحود ما هذا الذي أبصرناه ولمسناه إلا سحر مبين.
فالآية الكريمة تصور مكابرتهم المتبجحة، وعنادهم الصفيق، وإدبارهم عن الحق مهما تكن قوة أدلته، ونصاعة حجته.
قال الإمام الرازي «بين الله- تعالى- في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر. والمراد من قوله فِي قِرْطاسٍ أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر» » .
ولَوْ في الآية الكريمة حرف امتناع، أى: أنه- سبحانه- قد امتنع عن إجابة مقترحاتهم لأنه يعلم أن إجابتها لا ثمرة لها، ولا فائدة من ورائها، لأن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وإنما الذي ينقصهم هو الاستجابة للحق والاتجاه السليم لطلبه، والاستماع إليه بعناية وتفكير.
وعبر- سبحانه- بقوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. مع أن اللمس هو باليد غالبا- للتأكيد وزيادة التعيين، ودفع احتمال المجاز. فالجملة الكريمة المقصود بها تصوير فرط جحودهم ومكابرتهم، وإعراضهم عن الحق مهما تكن قوة الدليل وحسيته.
وفي قوله- تعالى- لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إشارة إلى أن الكافرين وحدهم هم الذين بسبب كفرهم- ينتحلون الأعذار لضلالهم، ويصفون الحق الواضح بأنه سحر مبين. أما المؤمنون فإنهم يقابلون الحق بالتصديق والإذعان.
وقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، فأكدوا حكمهم الباطل بطريق النفي والإثبات- أى: أنه مقصور على أنه سحر- وبالإشارة إليه، وبأنه بين واضح في كونه سحرا، وذلك يدل على أن تبجحهم قد بلغ النهاية، وأن مكابرتهم قد كذبت ما شهدت بصدقه حواسهم، وإن قوما بهذه الدرجة من العناد لا تجدى فيهم معجزة، ولا ينفع معهم دليل.
وفي معنى هذه الآية قد وردت آيات أخرى في القرآن الكريم منها قوله- تعالى-
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 12.(5/41)
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «1» .
ومنها قوله- تعالى- وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «2» .
ثم حكى القرآن بعض مقترحاتهم المتعنتة ورد عليها بما يدحضها فقال:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.
أى: قال الكافرون للنبي صلى الله عليه وسلم هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه، ونرى هيئته، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
قال محمد بن إسحاق «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم- قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلده، وعبد بن يغوث وأبى بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويروى معك» .
فهم لا يريدون ملكا لا يرونه، وإنما يريدون ملكا يمشى معه ويشاهدونه بأعينهم.
وأسند- سبحانه- القول إليهم مع أن القائل بعضهم، لأنهم جميعا متعنتون جاحدون، وما يصدر عن بعضهم إنما هو صادر في المعنى عن جميعهم لأن الباعث واحد، ولولا هنا للتحضيض فلا تحتاج إلى جواب.
أى: وقال الكافرون للنبي صلى الله عليه وسلم هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه، ونرى هيئته، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
وقد رد الله تعالى- على قولهم هذا بردين حكيمين:
أما الرد الأول: فقال فيه: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ.
أى: لو أنزلنا ملكا كما اقترح هؤلاء الكافرون وهم على ما هم عليه من الكفر والجحود، لقضى الأمر بإهلاكهم، ثم لا ينظرون، أى: لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلا، فقد مضت سنة الله فيمن قبلهم، أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم
__________
(1) سورة الأنعام الآية: 111.
(2) سورة الحجر الآيتان: 14، 15.(5/42)
يؤمنوا يعذبهم الله بالهلاك، والله- تعالى- لا يريد أن يهلك هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم بسبب إجابة مقترحات أولئك المعاندين المستكبرين.
وأما الرد الثاني فقال فيه: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.
أى: لو جعلنا الرسول من الملائكة- كما اقترحوا- لكانت الحكمة تقتضي أن نجعله في صورة بشر ليتمكنوا من رؤيته ومن سماع كلامه الذي يبلغه عن الله- تعالى- وفي هذه الحالة سيقولون لهذا الملك المرسل إليهم في صورة بشر-: لست ملكا، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا.
ومعنى وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ لخلطنا عليهم مثل ما يخلطون على أنفسهم بسبب استبعادهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم.
قال الإمام القرطبي: قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى- الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له، ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك، وعادوا إلى مثل حالهم» «1» .
وبهذين الجوابين الحكيمين يكون القرآن الكريم قد دحض شبهات أولئك الجاحدين، وبين أن الحكمة تقتضي أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم، قال تعالى: - وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.
ثم أخذ القرآن في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه فقال:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
والمعنى: لا تحزن يا محمد لما أصابك من قومك، فإن من شأن الدعاة إلى الحق المجاهدين في سبيله أن ينالهم الأذى من أعدائهم، ولقد أوذى من سبقك من الرسل الكرام، وسخر الساخرون منهم، فصبروا على ذلك، وجاءهم في النهاية نصرنا الذي وعدناهم به. أما أعداؤهم الذين استهزءوا بهم، فقد أخذناهم أخذ عزيز مقتدر فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 394.
(2) سورة العنكبوت الآية: 40.(5/43)
فالآية الكريمة تهدف إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والترويح عن نفسه، وتبشيره بحسن العاقبة وتثبيت قلبه حتى لا يتأثر أو يضعف أمام سفه المشركين وتطاولهم عليه.
والاستهزاء بالشيء: الاستهانة به، والاستهزاء بالشخص احتقاره وعدم الاهتمام بأمره.
وتنكير الرسل للتكثير والتعظيم، والفاء في قوله فَحاقَ للسببية، أى: بسبب هذا الاستهزاء برسل الله الكرام، أحاط العذاب بأولئك المستهزئين فأهلكهم.
وقال- سبحانه- فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا ولم يقل بالساخرين، للإشارة إلى أن ما أصابهم من عذاب لم يكن تجنبا عليهم، وإنما كان بسبب سخريتهم برسل الله والاستخفاف بهم لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة هي علة الحكم.
وفي قوله- تعالى-: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مجاز علاقته السببية، لأن الذي حاق بهم هو العذاب المسبب عن الاستهزاء، ففيه إطلاق السبب وإرادة المسبب، وذلك يفيد أن العذاب ملازم لهذه السخرية لا ينفك عنها، فحيثما وجد التطاول على أولياء الله والدعاة إلى دينه، وجد معه عذاب الله وسخطه على المتطاولين والمستهزئين.
ثم أمر القرآن النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بحال من سبقوهم عن طريق التطلع إلى آثارهم، والتدبر فيما أصابهم. والاتعاظ بما حل بهم فقال- تعالى-:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
أى: قل- يا محمد- لأولئك المكذبين لك، المستهزئين بدعوتك، لا تغتروا بما أنتم فيه من قوة وجاه، فإن ذلك لا دوام له، وسيروا في فجاج الأرض متدبرين متأملين، فسترون بأعينكم آثار أقوام كانوا أشد منكم قوة وأكثر جمعا، ولكن ذلك لم يمنع وقوع العذاب بهم حين بدلوا نعمة الله كفرا، وحاربوا رسل الله والدعاة إلى دينه.
وقد ذكر القرآن الكريم في سور متعددة أن آثار أولئك الأقوام المهلكين، ما زال بعضها باقيا، وإنها لتدعو العقلاء إلى الاتعاظ والاعتبار فقال- تعالى-: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ «1» .
وقال- تعالى- في شأن قوم لوط: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ
«2» .
__________
(1) سورة هود الآية: 100.
(2) سورة الصافات الآيتان 137، 138.(5/44)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
وقد أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطلب منهم السير في الأرض للتفكر والتدبر، لأنهم كانوا يستهزئون به صلى الله عليه وسلم فكانت المخاطبة منه لهم من قبيل النصيحة والتحذير.
وليس المراد مجرد النظر في قوله ثُمَّ انْظُرُوا، بل المراد منه التفكر والتدبر والاعتبار الذي يهدى إلى الإيمان، ويعين على اتباع الصراط المستقيم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فرق بين قوله فَانْظُروا وبين قوله ثُمَّ انْظُرُوا؟
قلت: جعل النظر مسببا عن السير في قوله فَانْظُروا فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح «1» .
وقد علق الشيخ ابن المنير على عبارة صاحب الكشاف فقال: «وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحدا، ليكون ذلك سببا في النظر، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية، وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير وأن السير وسيلة إليه لا غير وشتان بين المقصود والوسيلة» .
والذي نرجحه أن التعبير بثم هنا المفيدة للتراخي للإشارة إلى أن السير الذي هو وسيلة للتفكر مطلوب في ذاته كما أن النظر الذي يصحبه التفكر والاعتبار مطلوب أيضا، وكأنه أمر بدهى نتيجة للسير، أما التعبير بالفاء في قوله «فانظروا» فلإبراز كون النظر مسببا عن السير، ومترتبا عليه، وكلا الأسلوبين مناسب للمقام الذي سيق من أجله، ومتناسق مع البلاغة القرآنية.
ثم ساق القرآن الكريم ألوانا من البراهين الدالة على وحدانية الله وقدرته وعلى أنه هو المهيمن على هذا الكون، فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 16]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 8.(5/45)
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين- على سبيل التوبيخ والتنبيه- من الذي يملك السموات والأرض وما فيهما من إنس وجن وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات، إن الإجابة الصحيحة التي يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أن جميع المخلوقات لله رب العالمين.
قال- تعالى- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم على عنادهم، وتنبيههم إلى ضلالهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم.
قال الإمام الرازي: وقوله: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سؤال، وقوله قُلْ لِلَّهِ جواب. فقد أمره الله- تعالى- بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع، وهنا كذلك لأن القوم كانوا معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته» «1» .
ثم قال- تعالى- كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أى: أوجب- سبحانه- على نفسه رحمته التي وسعت كل شيء والتي من مظاهرها أنه منح خيره ونعمه في الدنيا للطائعين والعصاة، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وفي الصحيحين عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبى» .
وجملة، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، يرى بعض العلماء أنها جواب لقسم محذوف
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 14.(5/46)
أى: والله ليجمعنكم، وجملة القسم والجواب لا محل لها من الإعراب، وإن تعلقت بما قبلها من حيث المعنى وعلى هذا الرأى يكون الكلام قد تم عند قوله- تعالى- كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
ويرى الزجاج ومن شايعه أن جملة (ليجمعنكم) في محل نصب بدل من الرحمة، وفسر (ليجمعنكم) بمعنى أمهلكم وأمد لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير الرحمة، كما قال- تعالى- في السورة نفسها (كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) «1» .
والمقصود بهذه الجملة الكريمة (ليجمعنكم) بيان عدل الله بين عباده. فهو لم يجمعهم يوم القيامة لتعذيبهم جميعا، وإنما يجمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء.
ولما كان الكافرون ينكرون حصول البعث والحساب فقد أكد الله- تعالى- حصولهما باللام وبنون التوكيد الثقيلة، وبتعدية الفعل بإلى دون في للإشارة إلى أن هذا الجمع نهايته يوم القيامة- وبأنه يوم لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته.
ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبتهم السيئة فقال- تعالى- الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. أى: الذين خسروا أنفسهم بانطماس فطرتهم، وإصرارهم على العناد والجمود، لا يتسرب الإيمان إلى قلوبهم لأنها قست وأظلمت.
قال الآلوسى: (الفاء) في قوله (فهم لا يؤمنون) - للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان) «2» .
ثم ساق- سبحانه- ما يشهد بشمول علمه وقدرته فقال: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
قال القرطبي: (سكن معناه هدأ واستقر، والمراد ما سكن وما تحرك، فحذف لعلم السامع، وقيل: خص الساكن بالذكر لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة، وقيل:
المعنى، ما خلق، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها، فإنه يجرى عليه الليل والنهار، وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق وهذا أحسن ما قيل لأنه يجمع شتات الأقوال) «3» .
__________
(1) حاشية الجمل ج 3 ص 9.
(2) تفسير روح المعاني للألوسى ج 7 ص 122.
(3) تفسير القرطبي ج 6 ص 191. [.....](5/47)
والمعنى: ولله- سبحانه- جميع ما استقر وتحرك ووجد في كل زمان ومكان من إنسان وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات، وهو- سبحانه- السميع لكل دقيق وجليل، العليم بكل الظواهر والبواطن، والتعبير بما في قوله: وَلَهُ ما سَكَنَ للدلالة على العموم والشمول.
ثم أمر- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد، وأن ينفى عن نفسه بشدة ما تردوا فيه من جهالة وضلالة فقال:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ.
أى: قل لهم- يا محمد- موبخا وزاجرا، بأى عقل أبحتم لأنفسكم الإشراك بالله، واتخذتم من دونه معبودا سواه، مع أنه- سبحانه- باعترافكم هو الخالق لكم وللسموات والأرض ولكل شيء؟
وقد سلطت الهمزة على المفعول الأول لا على الفعل، للإيذان بأن المستنكر إنما هو اتخاذ غير الله وليا لا اتخاذ الولي مطلقا، ونظير هذه الآية قوله- تعالى- قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ.
ثم دلل- سبحانه- على أنه هو وحده المستحق للعبادة بأمرين.
أولهما: قوله- تعالى- فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
أى خالقهما ومنشئهما على غير مثال سبق، فالفطر- كما قال اللغويون- الإبداع والإيجاد من غير سبق مثال يحتذي.
وثانيهما: قوله- تعالى- وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ.
أى: أنه- سبحانه- هو الذي لا يحتاج إلى أحد وكل ما سواه محتاج إليه وهو الرزاق لغيره، والمنافع كلها من عنده.
وقرأ أبو عمرو (وهو يطعم ولا يطعم) بفتح الياء في الثاني. أى: وهو يرزق غيره ويطعمه أما هو- سبحانه- فلا يتناول طعاما ولا شرابا.
وهذه الجملة حالية مؤيدة لإنكار اتخاذ ولى سوى الله، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام، وأنه- سبحانه- هو الذي خلق لهم هذا الطعام فهم عاجزون عن البقاء بدونه.
ثم أمره- سبحانه- بأن يصرح أمامهم بأنه برىء من شركهم ومن أفعالهم القبيحة فقال- تعالى- قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أى: قل أيها الرسول الكريم بعد إيراد هذه الآيات والحج الدالة على وحدانية الله: إنى(5/48)
أمرت من خالقي أن أكون أول من يسلم له وجهه ويخصه بالعبادة، كما أنى نهيت عن أن أكون من المشركين الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى.
وصح عطف الجملة الثانية الإنشائية على الأولى الخبرية لأن الأولى خبرية في اللفظ ولكنها إنشائية في المعنى فكانت في قوة الجملة الطلبية والتقدير: كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين، ويجوز عطفها على جملة قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ وهي إنشائية في اللفظ والمعنى.
ثم أمره- سبحانه- بأن يعلن أمامهم بأن خوفه من خالقه يحتم عليه أن يبتعد عن كل معصية فقال:
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
أى: قل لهم- يا محمد- على سبيل الإنذار والتحذير من الاستمرار في الكفر إنى أخاف إن عصيت خالقي عذاب يوم عظيم الأهوال تذهل فيه كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
وفي هذا التحذير أسمى ألوان التعبير والتصوير لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحب الخلق إلى الله سينا له العذاب إن كان- على سبيل الفرض والتقدير- قد عصى ربه في الدنيا. فكيف بأولئك الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى؟ فمن الواجب عليهم أن يقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عبادته وإخلاصه لربه.
وكلمة عَذابَ مفعول لأخاف، وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن عصيت ربي استحققت العذاب العظيم.
ثم بين- سبحانه- أن النجاة من هول هذا اليوم غنيمة ليس بعدها غنيمة فقال: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ.
أى: من يصرف عنه عذاب هذا اليوم، فإنه يكون ممن شملتهم رحمة الله ورعايته، وذلك هو الفوز الذي ليس بعده فوز.
والضمير الذي يعتبر نائب فاعل ليصرف، يعود على العذاب العظيم الذي سيحل بالمجرمين يوم القيامة.
وفي قراءة لحمزة والكسائي وأبى بكر عن عاصم (من يصرف) بفتح الياء فيكون الضمير عائدا على الله- ويكون المفعول محذوفا. والتقدير من يصرف الله عنه هذا العذاب العظيم في ذلك اليوم فقد شملته رحمة الله، وعلى كلتا القراءتين فالضمير في قوله (فقد رحمه) يعود على الله- تعالى-:(5/49)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
هذا، وفي هذه الآيات الخمس نجد القرآن قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله قُلْ خمس مرات وهو أسلوب إنذارى تلقيني كثر استعماله في هذه السورة- كما سبق أن قلنا في التمهيد لها- لأنه يلقن النبي صلى الله عليه وسلم الحجج التي تزلزل كيان المشركين وتأتى على بنيانهم من القواعد. وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن في أسلوب الدعوة إلى أن يحتاج إليه المرشدون والدعاة. لأن التزام أسلوب واحد في إقامة الحجة على الخصم يفضى إلى السآمة والملل، ومن هنا فقد لون القرآن أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف مداركها، وصدق الله إذ يقول انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
ثم بين- سبحانه- أن نواصي العباد بيديه، وأنه هو المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 21]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
المس: أعم من اللمس في الاستعمال. يقال: مسه السوء والكبر والعذاب والتعب. أى:
أصابه ذلك ونزل به.
«والضر: اسم للألم والحزن والخوف وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما كما أن النفع اسم للذة(5/50)
والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما» «1» .
والخير: اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبله.
والمعنى: إن الناس جميعا تحت سلطان الله وقدرته، فما يصيبهم من ضر كمرض وتعب وحزن اقتضته سنة الله في هذه الحياة، فلا كاشف له إلا هو، وما يصيبهم من خير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو- سبحانه- قادر على حفظه عليهم، وإبقائه لهم، لأنه على كل شيء قدير.
والخطاب في الآية يصح أن يكون موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتقويته في دعوته، وتثبيته أمام كيد الأعداء وأذاهم، كما يصح أن يكون لكل من هو أهل للخطاب.
قال صاحب المنار: «ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة، تجرى الحقائق بأوجز العبارات، وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفته بعضها في بادئ الرأى لما هو الأصل في التعبير، كالمقابلة هنا بين الضر والخير، وإنما مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر، فنكتة المقابلة أن الضر من الله ليس شرا في الحقيقة بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وأدبا وعلما وخبرة. وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم» «2» .
وقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ جوابه محذوف تقديره: فلا راد له غيره.
وقوله: فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل لكل من الجوابين المذكورين في الشرطية الأولى والمحذوف في الثانية.
وفي معنى هذه الآية جاءت آيات أخرى منها قوله- تعالى-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» .
وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» .
ثم بين- سبحانه- كمال قدرته، وعظيم سلطانه فقال: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
أى أنه- كما قال ابن كثير- «هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجباه. وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه الأشياء، وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه» .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 18.
(2) تفسير المنار ج 7 ص 335.
(3) سورة فاطر: آية 2.(5/51)
ثم أمر الله: نبيه صلى الله عليه وسلم في بيان رائع حكيم، أن يسأل المشركين عن أى شيء في هذا الكون أعظم وأزكى شهادة بحيث تقبل شهادته ولا ترد فقال- تعالى-: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
روى بعض المفسرين أن أهل مكة قالوا: يا محمد، أرنا من يشهد أنك رسول الله، فإنا لا نرى أحدا نصدقه، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فأنزل الله- تعالى-: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه: أى شيء في هذا الوجود شهادته أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان؟ ثم أمره أن يجيبهم على هذا السؤال بالحقيقة التي لا يمارى فيها عاقل وهي أن شهادة الله هي أكبر شهادة وأقواها وأزكاها، لأنها شهادة من يستحيل عليه الكذب أو الخطأ، وقد شهد- سبحانه-: بصدقى فيما أبلغه عنه فلماذا تعرضون عن دعوتي، وتتنكبون الطريق المستقيم؟
وصدرت الآية الكريمة بقل وبصيغة الاستفهام تنبيها إلى جلال الشاهد، وإلى سلامة دعوى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يدركوا ما فيها من حق وما هم فيه من ضلال.
وأوثرت كلمة «شيء» في قوله- تعالى-: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً لأنها تفيد الشمول والإحاطة والاستقصاء.
قال صاحب الكشاف: ما ملخصه قوله- تعالى-: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أراد: أى شهيد أكبر شهادة، فوضع شيئا مقام شهيد ليبالغ في التعميم، ويحتمل أن يكون تمام الجواب عنه قوله: قُلِ اللَّهُ بمعنى: الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أى: هو شهيد بيني وبينكم. وأن يكون اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ هو الجواب، لدلالته على أن الله- تعالى-: (إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة من هو شهيد له) «1» .
والمراد بشهادة الله ما جاء في آياته القرآنية من أنه- سبحانه-: قد أرسل رسوله محمدا بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
ثم بين- سبحانه-: أن القرآن هو المعجزة الخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.
أى: أن الله- تعالى-: قد أنزل هذا القرآن عن طريق وحيه الصادق، لأنذركم به يا أهل
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 11.(5/52)
مكة، ولأنذر به- أيضا- جميع من بلغه هذا الكتاب الكريم ووصلت إليه دعوته من العرب والعجم في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة.
فهذه الجملة تدل على عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما تدل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله، وتعم- أيضا- الذين وجدوا بعد نزوله وبلغتهم دعوته. ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ففي الحديث الشريف: «بلغوا عن الله- تعالى- فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله» «1» .
وعن محمد بن كعب قال: «من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لأن القرآن الكريم لما كان متواترا بلفظه ومعناه، كان من بلغه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: كأنما سمعه منه وإن كثرت الوسائط، لأنه هو الذي بلغه بلا زيادة ولا نقصان، أما من لم تبلغه دعوة القرآن فلا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة، وحينئذ لا يكون مخاطبا بتعاليم هذا الدين، وإثمه يكون في أعناق الذين قصروا في تبليغ دعوة الإسلام إليه.
ثم أمره- سبحانه- أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد، وأن يعلن براءته منهم ومن معبوداتهم فقال- تعالى-: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى، قُلْ: لا أَشْهَدُ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إذا كنتم قد ألغيتم عقولكم. وترديتم في مهاوي الشرك والضلال، وشهدتم بأن مع الله آلهة أخرى، فإنى برىء منكم ومن أعمالكم القبيحة، ومحال أن أشهد بما شهدتم به، وإنما الذي أشهد به وأعتقده، أن الله- تعالى- واحد لا شريك له، وإننى بعيد كل البعد عن ضلالكم وجحودكم.
والاستفهام في قوله أَإِنَّكُمْ إنكارى، جيء به لاستقباح ما وقع منهم من شرك، وأكد قوله لَتَشْهَدُونَ للإشارة إلى تغلغل الضلال في نفوسهم، واستيلاء الجحود على قلوبهم.
وعبر عن أوثانهم بأنها آلِهَةً أُخْرى مجاراة لهم في زعمهم الباطل ومبالغة في توبيخهم والتهكم بهم.
وفي أمره- سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصارحهم بأنه لا يشهد بشهادتهم «قل: لا أشهد» توبيخ لهم على جهالتهم، وتوجيه لأتباعه إلى الاقتداء به في شجاعته أمام الباطل، وفي ثباته على مبدئه.
وقد تضمن قوله- تعالى: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ اعتراف كامل بوحدانية الله، وقصرها عليه- سبحانه-، وتصريح بالبراءة التامة من الأوثان وعابديها، وتنديد شديد بهذا العمل الباطل.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 126.(5/53)
وبذلك تكون الآية الكريمة قد تضمنت شهادة من الله- تعالى- بأن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم صادق في رسالته، وشهادة من هذا الرسول الكريم بأن الله واحد لا شريك له، وأنه برىء من إلحاد الملحدين وكفر الكافرين.
ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وهي شهادة أهل الكتاب فقال الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ:
قال الجمل في حاشيته على الجلالين: «روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر: إن الله أنزل على نبيه بمكة: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى با بنى!! فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقّا ولا أدرى ما تصنع النساء» «1» .
والمعنى: إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم، فهي معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته.
والضمير في يَعْرِفُونَهُ يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه في قوله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ أو على التوحيد لدلالة قوله قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ.
والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر، لأن معرفتهم بما في كتابهم يتناول كل ذلك.
ثم بين- سبحانه- علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
قال صاحب الكشاف: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ به «2» جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وقالوا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها وقالوا: «الملائكة بنات الله» ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) حاشية الجمل: ج 2 ص 15.
(2) تفسير الكشاف ج 3 ص 12.(5/54)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
وهذه الآية الكريمة من الآيات التي قيل أنها مدنية، والصحيح أنها مكية، ويشهد لذلك سبب النزول الذي سقناه عن عمر- رضى الله عنه- فقد قال لعبد الله بن سلام: «إن الله أنزل على نبيه بمكة» إلخ.
ويؤكد كونها مكية- أيضا- سياق الآيات قبلها، فالآية التي قبلها وهي قوله- تعالى-:
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً. إلخ. فيها شهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه، والآية التي معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة.
قال بعض العلماء: ويظهر أنهم- أى القائلون بأن الآية مدنية- لما وجدوا الحديث في هذه الآية عن أهل الكتاب، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به، وهي قوله- تعالى-: في سورة البقرة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الآية 146، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفي المدينة دون مكة، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية، فالمسألة ليست إلا اجتهادا حسب رواية مسندة، وهو اجتهاد غير صحيح «1» .
ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال- تعالى- في شأنهم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
أى: لا أحد أشد ظلما من أولئك المشركين الذين كذبوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإن هؤلاء الذين سقطوا في أقصى دركات الكذب لن يفوزوا ولن يفلحوا، والاستفهام في الآية الكريمة إنكارى للنفي، وفيه توبيخ للمشركين.
ثم بين- سبحانه- بعض أحوالهم عند ما يحشرون يوم القيامة، فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 26]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
__________
(1) سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام ص 5 لفضيلة الأستاذ محمد المدني.(5/55)
الحشر: الجمع، والمراد به جمعهم يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم الدنيوية.
والمعنى: واذكر لهم أيها الرسول الكريم- ليعتبروا ويتعظوا- حالهم يوم نجمعهم جميعا في الآخرة لنحاسبهم على أقوالهم وأفعالهم، ثم نسألهم سؤال إفضاح لا إيضاح- كما يقول القرطبي-: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء لكي يدافعوا عنكم في هذا اليوم العصيب.
ويَوْمَ منصوب على الظرفية بفعل مضمر بعده أى: ويوم نحشرهم كان كذا وكذا، وحذف هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل، وقيل إنه منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف قبله والتقدير، واذكر يوم نحشرهم، أى: اذكر هذا اليوم من حيث ما يقع فيه، والضمير في نَحْشُرُهُمْ للذين افتروا على الله كذبا، أو كذبوا بآياته.
وفائدة كلمة جَمِيعاً رفع احتمال التخصيص، أى: أن جميع المشركين ومعبوداتهم سيحشرون أمام الله للحساب.
وكان العطف بثم لتعدد الوقائع قبل هذا الخطاب الموجه للمشركين، إذ قبل ذلك سيكون قيامهم من قبورهم، ويكون هول الموقف، ويكون إحصاء الأعمال وقراءة كل امرئ لكتابه ... إلخ، ثم يقول الله- تعالى- لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟
ووبخهم- سبحانه- بقوله: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ مع أنهم محشورون معهم، لأنهم لا نفع يرجى من وجودهم معهم، فلما كانوا كذلك نزلوا منزلة الغائب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين فلان؟ فتجعله لعدم نفعه- وإن كان حاضرا- كالغائب «1» .
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 3 ص 121.(5/56)
ثم أخبر- سبحانه- عما يكون منهم من تخبط وحسرة فقال:
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.
الفتنة مأخوذة من الفتن، وهو إدخال الذهب في النار لتعرف جودته من رداءته، ثم استعمل في معان أخرى كالاختبار، والعذاب، والبلاء، والكفر.
والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق، وارتفعت الدعاوى إلا أن قالوا مؤكدين ما قالوا بالقسم الكاذب والله يا ربنا ما كنا مشركين. ظنا منهم أن تبرأهم من الشرك في الآخرة سينجيهم من عذاب الله كما نجا المؤمنين بفضله ورضوانه.
قال ابن عباس: يغفر الله- تعالى- لأهل الإخلاص ذنوبهم. ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا: إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك، فتعالوا نقول:
إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين. فقال الله- تعالى-: أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعندئذ يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا، فذلك قوله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «1» .
ثم قال- تعالى- انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
والمراد بالنظر هنا: التدبر والتفكير.
والمعنى: انظر- أيها العاقل- وتأمل كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم في قولهم والله ربنا ما كنا مشركين، وغاب عن عملهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من الأقوال الباطلة، وما كانوا يفعلونه من جعلهم لله شركاء.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور مع أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشا: ألا تراهم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وقد علموا أنه لا يقضى عليهم» «2» .
وبعد أن بين- سبحانه- أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس من إيمان بعضهم فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
قال ابن عباس: إن أبا سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 401.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 13.(5/57)
وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف. استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ما أدرى ما يقول، إلا أنى أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله هذه الآية» «1» .
والأكنة: جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى والوقر- بالفتح- الثقل في السمع.
والمعنى: ومن هؤلاء المشركين يا محمد من يستمع إليك حين تقرأ القرآن وقد جعلنا- بسبب عنادهم وجحودهم- على قلوبهم أغطية تحول بينهم وبين فقهه، كما جعلنا في أسماعهم صمما يمنع من سماعه بتدبر وتعقل.
قال صاحب المنار: «وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء. والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم، لأن سمعها وعدمه سواء «2» .
وقال بعض العلماء: «وهنا يسأل سائل: إذا كان منع الهداية من الله- تعالى- بالغشاوة على قلوبهم والختم عليها وبالوقر في آذانهم فلا يسمعون سماع تبصر فماذا يكون عليهم من تبعة يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم؟
والجواب عن ذلك أن الله- سبحانه- يسير الأمور وفق حكمته العلياء فمن يسلك سبيل الهداية يرشده وينير طريقه ويثيبه، ومن يقصد إلى الغواية ويسير في طريقها تجيئه النذر تباعا إنذارا بعد إنذار، فإن أيقظت النذر ضميره وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد كفر. ومن لم تجد فيه النذر المتتابعة ولم توقظ له ضميرا ولم تبصره من عمى فقد وضع الله- تعالى- على قلبه غشاوة وفي آذانه وقرا» «3» .
ثم صور- سبحانه- عنادهم وإعراضهم عن الحق مهما وضحت براهينه فقال: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها.
أى: وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك فلن يؤمنوا بها لاستحواذ الغرور والعناد على قلوبهم.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 125.
(2) تفسير المنار ج 7 ص 347.
(3) مجلة لواء الإسلام لسنة 23 العدد 9 تفسير الآيات الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. [.....](5/58)
والمراد من الرؤية هنا البصرية، ومن الآيات المعجزات الحسية كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة.
وهذه الجملة الكريمة المقصود بها ذمهم لعدم انتفاعهم بحاسة البصر بعد ذمهم لعدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم.
وجيء بكلمة كُلَّ لعموم النفي، أى: أنهم لا يؤمنون بأية معجزة يرونها مهما وضحت براهينها، ومهما كانت دلالتها ظاهرة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- ما كان يجرى منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
الأساطير جمع إسطارة أو أسطورة ومعناها الخرافات والترهات.
أى: حتى إذا ما صاروا إليك أيها الرسول ليخاصموك وينازعوك في دعوتك فإنهم يقولون لك بسبب كفرهم وجحودهم، ما هذا القرآن الذي نسمعه منك إلا أقاصيص الأولين المشتملة على خرافاتهم وأوهامهم.
وفي قوله- تعالى- حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ إشارة إلى أن مجيئهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق، وإنما كان من أجل المجادلة المتعنتة مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- أنهم لا يكتفون بمحاربة الدعوة الإسلامية، بل هم لفجورهم- يحرضون غيرهم على محاربتها معهم فقال- تعالى-:
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
النهى: الزجر، والنأى: البعد، والضمير «هم» يعود على المشركين.
والمعنى: إن هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق، بل يزجرون الناس عن اتباعه، ويبعدونهم عن الاستماع إليه. فهم قد جمعوا بين فعلين قبيحين: محاربتهم للحق وحمل غيرهم معهم على محاربته والبعد عنه.
وهم بهذا العمل الباطل القبيح ما يهلكون إلا أنفسهم ولكنهم لا يشعرون بذلك لانطماس بصيرتهم، وقسوة قلوبهم.
وعملهم هذا يدل على أنهم كانوا معترفين في قرارة أنفسهم بأن القرآن حق، لأنهم لو كانوا يعتقدون أنه أساطير الأولين- كما زعموا- لتركوا الناس يسمعونها ليتأكدوا من أنها خرافات وأوهام، ولكنهم لما كانوا مؤمنين ببلاغة القرآن وصدقه، فإنهم نهوا غيرهم عن سماعه حتى(5/59)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
لا يؤمن به وابتعدوا هم عنه حتى لا يتأثروا به فيدخلوا في دين الإسلام، ولقد حكى الله عنهم هذا المعنى في قوله- تعالى- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «1» .
والضمير في قوله- تعالى- عَنْهُ يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات.
ويرى بعض المفسرين أن الضمير «هم» يرجع إلى عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى: وهم- أى أعمام النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته ينهون الناس عن إيذائه والتعرض له بسوء، ولكنهم في الوقت نفسه ينأون عنه أى يبتعدون عن دعوته فلا يؤمنون بها، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب، فقد كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يدخل في الإسلام مع تصريحه بأنه هو الدين الحق.
ومما روى عنه في هذا المعنى قوله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك يقينا
والذي تطمئن إليه النفس أن الرأى الأول هو الأرجح. لأن الكلام مسوق في بيان موقف المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم قد بلغ بهم السفه والعناد أنهم لا يكتفون بالإعراض عن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بل تعدى شرهم إلى غيرهم، وأنهم كانوا يحرضون الناس على إيذائه وعلى الابتعاد عنه.
ثم يصور- سبحانه- حالهم عند ما يعرضون على النار، وعند ما يقفون أمام ربهم، وحكى ما يقولونه في تلك المواقف الشديدة فقال تعالى:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 32]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
__________
(1) سورة فصلت آية 26.(5/60)
لَوْ شرطية، حذف جوابها لتذهب النفس في تصوره كل مذهب وذلك أبلغ من ذكره.
ووُقِفُوا بالبناء للمفعول بمعنى: وقفهم غيرهم. يقال: وقف على الأطلال أى: عندها مشرفا عليها، ويقال وقف على الشيء عرفه وتبينه.
والمعنى: إنك أيها النبي الكريم- أو أيها الإنسان العاقل- لو اطلعت على هؤلاء المشركين عند ما يقفون على النار ويشاهدون لهيبها وسعيرها. لرأيت شيئا مروعا مخيفا يجعلهم يتحسرون على ما فرط منهم، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليصدقوا بآيات الله التي طالما كذبوها. وليكونوا من المؤمنين.
وعبر- سبحانه- بإذ التي تدل على الماضي- مع أن الحديث عما سيحصل لهم في الآخرة فكان يناسبه إذا- لإفادة تحقق الوقوع وتأكده، وليتصور المستقبل على أنه موجود لا على أنه سيوجد، وعطف بالفاء في قوله: فَقالُوا للدلالة على أن أول شيء يقع في قلوبهم حينئذ إنما هو الندم على ما سلف منهم، وتمنى الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا.
ثم يعقب- سبحانه- على قولتهم هذه فيما لو أجيبوا إلى طلبهم على سبيل الفرض والتقدير فيقول: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
بل هنا للإضراب عما يدل عليه تمنيهم من إدراكهم لقبح الكفر وسوء مغبته، ولحقيقة الإيمان وحسن عاقبته.(5/61)
والمعنى: ليس الأمر كما يوهمه كلامهم في التمني من أنهم يريدون العودة للهداية، بل الحق أنهم تمنوا العودة إلى الدنيا بعد أن استقبلتهم النار بلهبها، وبعد أن ظهر لهم ما كانوا يخفونه في الدنيا من أعمال قبيحة، ومن أفعال سيئة، وبعد أن بدا لهم ما كانوا يكذبون به، وينكرون تحققه، ولو أنهم ردوا إلى الدنيا بمتعها وشهواتها وأهوائها لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب بالآيات، والسخرية من المؤمنين، وإنهم لكاذبون في كل ما يدعون.
فالآية الكريمة تصور ما طبع عليه هؤلاء الجاحدون من فجور وعناد وافتراء، لأنهم حتى لو أجيبوا إلى طلبهم- على سبيل الفرض والتقدير- لما تخلوا عن كفرهم ومحاربتهم للأنبياء وللمصلحين.
ثم بين- سبحانه- بعض مفترياتهم في الدنيا واغترارهم بها فقال- تعالى- وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
أى: أن هؤلاء الكافرين قد بلغ بهم الحب للدنيا والتعلق بها أنهم قالوا: ما الحياة التي تسمى حياة في نظرنا إلا هذه الدنيا التي نتمتع فيها بما نريد من شهوات وما نحن بمبعوثين ولا محاسبين بعد ذلك.
فالآية الكريمة تحكى عنهم أنهم ينكرون أى حياة سوى الحياة التي يعيشونها، وينفون وقوع البعث والحساب والثواب والعقاب نفيا مؤكدا بالباء وبالجملة الاسمية.
ويرى جمهور المفسرين أن هذه الآية الكريمة تتمة للآية السابقة لها من حيث المعنى، وأن قوله وَقالُوا معطوف على لَعادُوا والتقدير، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر وسيئ الأعمال وقالوا ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، ويكون قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى عودتهم إلى ما كانوا عليه إن عادوا إلى الدنيا، إذ هي تكذيب لادعائهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم.
ثم بين- سبحانه- حالهم عند ما يقفون ليستمعوا إلى ما يوجهه إليهم ربهم من توبيخ وتقريع بسبب كفرهم فقال:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ.
أى: قال لهم- سبحانه- أليس هذا البعث الذي تشاهدونه بأعينكم ثابتا بالحق؟ وهنا يجيبون خالقهم مصدقين لأن الواقع يحتم عليهم ذلك فيقولون- كما حكى القرآن عنهم- بَلى وَرَبِّنا أى: قالوا: بلى يا ربنا إنه للحق الذي لا شك فيه، ولا باطل يحوم من حوله، وأكدوا اعترافهم بالقسم شاهدين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا.(5/62)
وهنا يحكم الله فيهم بحكمه العادل فيقول: قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أى:
إذا كان الأمر كما ذكرتم وشهدتم على أنفسكم، فانغمسوا في العذاب ذائقين لآلامه وأهواله بسبب كفركم بآيات الله، وإنكاركم لهذا اليوم العصيب.
والذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بالعذاب بعد أن وقعوا فيه.
ثم صور- سبحانه- عاقبتهم السيئة، وخسارتهم التي ليس بعدها خسارة فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ.
أى: أن أولئك الكفار الذين أنكروا البعث والحساب قد خسروا أعز شيء في هذه الحياة، ومن مظاهر ذلك أنهم خسروا الرضا الذي سيناله المؤمنون من ربهم، وخسروا العزاء الروحي الذي يغرس في قلب المؤمن الطمأنينة والصبر عند البلاء، لأن المؤمن يعتقد أن ما عند الله خير وأبقى، بخلاف الكافر فإن الدنيا منتهى آماله.
وإن هؤلاء الخاسرين سيستمرون في تكذيبهم بالحق وإعراضهم عنه حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها.
أى: حتى إذا جاءتهم الساعة مباغته مفاجئة وهم في طغيانهم يعمهون، اعتراهم الهم، وحل بهم البلاء وقالوا: بعد أن سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا يا حسرتنا أقبلى فهذا أوانك، فإننا لم نستعد لهذا اليوم، بل أهملناه ولم نلتفت إليه. وعلى ذلك يكون المراد بالساعة يوم القيامة وما فيه من حساب.
وقيل: المراد بالساعة وقت مقدمات الموت، فالكلام على حذف المضاف، أى: جاءتهم مقدمات الساعة وهي الموت وما فيه من الأهوال. فلما كان الموت من مبادئ الساعة سمى باسمها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم «من مات فقد قامت قيامته» .
وسميت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها، ولأنها تحمل أشد الأهوال ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة: فانية وأخرى باقية.
وفي قوله- تعالى- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً إشارة إلى أنها تفاجئهم بأهوالها من غير أن يكونوا مستعدين لها أو متوقعين لحدوثها، أما المؤمنين- فإنهم رغم عدم علمهم بمجيئها- فإنهم يكونون في حالة استعداد لها بالإيمان والعمل الصالح.
والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير إعداد له، وكلمة بَغْتَةً يصح أن تكون مصدرا في موضع الحال من فاعل جاءتهم أى: جاءتهم مباغتة، ويصح أن تكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف من لفظها أى: تبغتهم بغتة، والحسرة: شدة الغم والندم على ما فات وانقضى.(5/63)
ثم قال- تعالى-: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ.
الأوزار جمع وزر وهو- بكسر الواو- الحمل الثقيل، ويطلق على الإثم والذنب لأنهما أثقل الأحمال النفسية التي تنوء بها القوة.
والجملة الكريمة من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث شبهت حالهم وما يحملونه يوم القيامة من ذنوب ثقيلة مضنية، بهيئة المثقل المجهد بحمل كبير يحمله على ظهره وينوء به. ثم حذفت الهيئة الدالة على المشبه به ورمز إليها بشيء من لوازمها.
وقيل إن الكلام على حقيقته وأنهم سيحملون ذنوبهم على ظهورهم فعلا، حيث إن الذنوب والأعمال ستتجسم يوم القيامة، وبهذا الرأى قال كثير من أهل السنة.
والمعنى: إن هؤلاء الكافرين يأتون يوم القيامة وهم يحملون ذنوبهم وآثامهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ ما حملوا، وما أشد ما سيستقبلونه بعد ذلك من عذاب أليم.
ثم عقد- سبحانه- مقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة. بين فيها أن الحياة الآخرة هي الحياة العالية السامية الباقية، أما الحياة الدنيا فهي إلى زوال وانتهاء فقال- تعالى-:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
اللعب: هو العمل الذي لا يقصد به مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة، واللهو: هو طلب ما يشغل عن معالى الأمور وعما يهم الإنسان ويعنيه.
والمعنى: إن هذه الحياة التي نعتها الكفار بأنها لا حياة سواها ما هي إلا لهو ولعب لمن يطلبها بأنانية وشره من غير استعداد لما يكون وراءها من حياة أخرى فيها الحساب والجزاء، وفيها النعيم الذي لا ينتهى، وفيها السعادة التي لا تحد، بالنسبة للذين اتقوا ربهم، ونهوا أنفسهم عن الهوى.
فالحياة الدنيا لعب ولهو لمن اتخذوها فرصة للتكاثر والتفاخر وجمع الأموال من حلال وحرام، ولم يقيموا وزنا للأعمال الصالحة التي كلفهم الله- تعالى- بها. أما بالنسبة للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا. فإن الحياة الدنيا تعتبر وسيلة إلى رضا الله الذي يظفرون به يوم القيامة، وإن ما يحصل عليه المؤمنون في هذا اليوم من ثواب جزيل ومن نعيم مقيم هو خير من الدنيا وما فيها من متعة زائلة ومن شهوات لا دوام لها.
والاستفهام في قوله- تعالى- أَفَلا تَعْقِلُونَ للحث على التدبر والتفكر والموازنة بين اللذات العاجلة الفانية التي تكون في الدنيا، وبين النعيم الدائم الباقي الذي يكون في الآخرة.
ثم أخذ القرآن الكريم في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وفي تسليته عما أصابه من قومه فقال:(5/64)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 36]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
قَدْ هنا للتحقيق وتأكيد العلم وتكثيره، والتحقيق هنا جاء من موضوعها لا من ذاتها كما أن التكثير راجع إلى متعلقات العلم، لا إلى العلم نفسه، لأن صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها. والحزن ألم يعترى النفس عند فقد محبوب، أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم. في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ أى: قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم وقوله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أى: هم لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري عن أبى إسحاق عن ناجية عن على قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك يا محمد ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وعن أبى يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا جهل فصافحه فقال(5/65)
له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله إنى لأعلم أنه لنبي، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «1» .
فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما كان يصيبه من المشركين ومما لا شك فيه أنه- عليه الصلاة والسلام- كان حريصا على إسلامهم، فإذا ما رآهم معرضين عن دعوته حزن وأسف، وفي معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة منها قوله- تعالى-:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «2» .
ومنها قوله- تعالى- فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ «3» .
ومنها قوله- تعالى- فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ «4» .
قال الجمل: والفاء في قوله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ للتعليل، فإن قوله قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ بمعنى لا يحزنك، كما يقال في مقام المنع والزجر نعلم ما تفعل. ووجه التعليل: أن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور، فتخلق بأخلاقى. ويحتمل أن يكون المعنى: إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم «5» .
والمعنى: إن هؤلاء الكفار- يا محمد- لا ينسبونك إلى الكذب، فهم قد لقبوك بالصادق الأمين، ولكنهم يجحدون الآيات الدالة على صدقك بإنكارها بألسنتهم مع اعتقادهم صدقها.
والجحود هو الإنكار مع العلم، أى نفى ما في القلب ثبوته، أو إثبات ما في القلب نفيه، وفي التعبير بالجحود بعد نفى التكذيب إشارة إلى أن آيات الله واضحة بحيث يصدقها كل عاقل وأنه لا يصح إنكارها إلا عن طريق الجحود.
وقال- سبحانه- وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ ولم يقل وَلكِنَّهُمْ، لبيان سبب جحودهم وهو الظلم الذي استقر في نفوسهم، وفيه فوق ذلك تسجيل للظلم عليهم حتى يكونوا أهلا لما يصيبهم من عقاب.
ثم زاد القرآن في تعزية النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عن طريق إخباره بما حدث للأنبياء من قبله فإن
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 130.
(2) سورة الكهف: الآية 6.
(3) سورة فاطر الآية 8.
(4) سورة يس الآية 76.
(5) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 23.(5/66)
عموم البلوى مما يخفف وقعها فقال: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا.
أى: أن الرسل من قبلك- يا محمد- قد كذبتهم أقوامهم وأنزلت بهم الأذى، فليس بدعا أن يصيبك من أعدائك ما أصاب الأنبياء من قبلك، ولقد صبر أولئك الأنبياء الكرام على التطاول والسفه فكانت نتيجة صبرهم أن آتاهم الله النصر والظفر، فعليك- وأنت خاتمهم وإمامهم- أن تصبر كما صبروا حتى تنال ما نالوا من النصر، فإن سنة الله لا تتخلف في أى زمان أو مكان.
وجاء قوله- تعالى- وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ مؤكدا بقد وباللام، للإشارة إلى تأكيد التسلية والتعزية، وإلى تأكيد التمسك بفضيلة الصبر التي سيعقبها النصر الذي وعد الله به الصابرين.
وما في قوله عَلى ما كُذِّبُوا مصدرية، وَأُوذُوا معطوف على قوله كُذِّبَتْ أى:
كذبت الرسل وأوذوا فصبروا على كل ذلك.
وقوله حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا غاية للصبر، أى: صبروا على التكذيب وما قارنه من الإيذاء إلى أن جاءهم نصرنا وفيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم مؤكدا للتسلية بأنه- سبحانه- سينصره على القوم الظالمين.
وقوله- تعالى- وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ معناه: لا مغير لكلمات الله وآياته التي وعد فيها عباده الصالحين بالنصر على أعدائه، ومن ذلك قوله- تعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
وقوله- تعالى- وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «2» . وقوله- تعالى- إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «3» . إلى غير ذلك من الآيات التي بشر فيها عباده المؤمنين بالفلاح وحسن العاقبة.
ويرى المحققون من العلماء أن المراد بكلمات الله: شرائعه، وصفاته، وأحكامه، وسننه في كونه، ويدخل فيها دخولا أولياء ما وعد الله به أنبياءه وأولياءه من النصر والظفر. وهذا الرأى أرجح من سابقه لأنه أعم وأشمل.
وإضافة الكلمات إليه- سبحانه- للإشعار باستحالة تبديلها أو تغييرها لأنه- سبحانه-
__________
(1) سورة المجادلة الآية 21.
(2) سورة الصافات الآيات 171، 172، 173.
(3) سورة غافر الآية 51.(5/67)
لا يغالبه أحد في فعل من الأفعال، ولا يقع منه خلف في قول من الأقوال، فما دام المؤمنون يخلصون له العبادة والقول والعمل ويجتهدون في مباشرة الأسباب واتخاذ الوسائل النافعة، فإنه- سبحانه- سيجعل العاقبة لهم.
وقوله- تعالى- وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ تأكيد وتقرير لما قبله أى: ولقد جاءك من أخبار المرسلين وأنبائهم- مما قصه عليك في كتابه- ما فيه العظات والعبر، فلقد صبر المرسلون على الأذى فكافأهم الله- تعالى- على ذلك بالظفر على أعدائهم.
ثم بين- سبحانه- أنه لا سبيل إلى إيمان هؤلاء الجاحدين إلا بمشيئة الله وإرادته فقال وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ.
كبر عليك: أى شق وعظم عليك. والنفق: السرب النافذ في الأرض الذي يخلص إلى مكان.
والمعنى: وإن كان- يا محمد- قد شق عليك إعراض قومك عن الإيمان وظننت أن إتيانهم بما اقترحوه من آيات يكون سببا في إيمانهم، فإن استطعت أن تطلب مسلكا عميقا في جوف الأرض، أو مرقاة ترتقى بها إلى السماء لتأتيهم بما اقترحوا من مطالب فافعل فإن ذلك لن يفيد شيئا لأن هؤلاء المشركين لا ينقصهم الدليل الدال على صدقك، ولكنهم يعرضون عن دعوتك عنادا وجحودا.
ثم قال- تعالى- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ.
أى: لو شاء الله جمعهم على ما جئت به من الهدى والرشاد لفعل، بأن يوفقهم إلى الإيمان فيؤمنوا، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنهم بسوء اختيارهم آثروا الحياة الدنيا، فلا تكونن من الجاهلين بحكمة الله في خلقه، وبسننه التي اقتضاها علمه.
ثم بين- سبحانه- من هم أهل للإيمان والاستجابة للحق فقال:
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أى: إنما يستجيب لك أيها الرسول الكريم أولئك الذين يسمعون توجيهك وأقوالك سماع تدبر وتفهم وتأثر، أما هؤلاء الذين يعاندونك فقد طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.
فالمراد بالاستجابة هنا، الإجابة المقرونة بالتفكر والتأمل، فهي إجابة محكمة دقيقة لأنها أنت بعد استقراء وتدبر وهذا ما تدل عليه السين.
ثم بين- سبحانه- حال الكفار فقال: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أى: وموتى(5/68)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
القلوب الذين لا يسمعون سماع تدبر وتقبل وهم المشركون، سيبعثهم الله من قبورهم يوم القيامة ويحاسبهم حسابا عسيرا على أقوالهم الباطلة وأعمالهم السيئة.
فالمراد بالموتى هنا الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم- سبحانه- بموتى الأجساد، وهذا من باب التهكم بهم والتحقير من شأنهم.
وقيل: إن لفظ الموتى على حقيقته وأن الله- تعالى- بقدرته النافذة سيبعث الجميع يوم القيامة ويرجعهم إليه فيجازى الذين أساؤا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم حكى- سبحانه- بعض الشبهات التي تذرع بها المشركون تعنتا، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم، وبما يؤكد قدرته النافذة وعلمه المحيط فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 39]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
ولَوْلا هنا تحضيضية بمعنى هلا. والمعنى: وقال أولئك الكافرون: هلا نزل عليك يا محمد معجزة حسية كتفجير الأنهار، وفلق البحر، ونزول الملائكة معك.. إلخ.
فهذه الآيات الكريمة تحكى عنهم أنهم لم يكتفوا بالقرآن معجزة خالدة للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون معجزات حسية من جنس معجزات الأنبياء السابقين.
وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، حتى لكأنه لم ينزل عليه شيء عنادا وجحودا منهم.
وفي قولهم- كما حكى القرآن عنهم- لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ببناء الفعل للمجهول وذكر لفظ الرب، للإشارة إلى أنهم لا يوجهون الطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يوجهونه إلى الله تعالى، لأنه إذا كان رسولا من عنده، فليجب له هذا الطلب الذي نتمناه ونكون من بعده مؤمنين.(5/69)
وقد رد الله- تعالى- عليهم بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
أى: قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التوبيخ والتقريع إن الله- تعالى- قادر على تنزيل ما اقترحوا من آيات، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء، ولكنه- سبحانه- ينزل ما تقتضيه حكمته، إلا أنهم لجهلهم وعنادهم لا يعلمون شيئا من حكم الله في أفعاله، ولا من سننه في خلقه.
وقوله- تعالى-: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يفيد أنهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم الآيات التي اقترحوها، لأن عدم إيمانهم ليس عن نقص في الدليل ولكنه عن تكبر وجحود.
ثم ذكر- سبحانه- بعض الآيات الكونية المبثوثة في الأرض والجو والمعروضة على البصائر والأبصار فقال- تعالى-:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ.
الدابة: كل ما يدب على الأرض من حيوان. والطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء، والأمم: جمع أمة وهي جماعة يجمعهم أمر ما.
والمعنى: إنه لا يوجد نوع ما من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم في أن الله خلقهم وتكفل بأرزاقهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما الغرض من ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة عن عظم قدرة الله. وسعة سلطانه، وتدبير تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها، وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان» «1» وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى بديع صنعه- سبحانه- وحسن خلقه.
قال- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ «2» .
ثم قال- تعالى-: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ.
التفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت. والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ وقيل المراد به القرآن.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 21.
(2) سورة الملك: الآية 19.(5/70)
والمعنى: ما تركنا في الكتاب شيئا لم نحصه ولم نثبته، وإنما أحطنا بكل شيء علما، وليس من مخلوق صغر أو كبر في هذا الوجود إلا وسيجمع يوم القيامة أمام خالقه.
فالآية الكريمة مسوقة لبيان سعة علم الله- تعالى- وكمال قدرته، لتكون كالدليل على أنه- سبحانه- قادر على تنزيل الآية التي اقترحوها، وإنما لم ينزلها لأن حكمته تقتضي ذلك.
وجملة ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ معترضة لتقرير مضمون ما قبلها.
والتعبير بثم في قوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ للإشارة إلى أنهم أعداد لا يحصيها العد، وجمعهم ليس يسيرا في ذاته، وإن كان بالنسبة لقدرته- تعالى- أمرا هينا.
ويرى بعض العلماء أن المراد بحشر البهائم موتها. ويرى آخرون أن المراد بعثها يوم القيامة لقوله- تعالى-: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وفي الحديث الشريف عن أبى ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تتناطحان فقال: يا أبا ذر هل تدرى فيم تتناطحان؟ قال: لا. قال:
ولكن الله يدرى وسيقضي بينهما.
ثم قال- تعالى-: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ.
أى: مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل الأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم وهو مع ذلك في ظلمات لا يبصر، فكيف يهتدى مثل هذا إلى الطريق القويم أو يخرج مما هو فيه من ضلال.
ففي التعبير القرآنى استعارة تمثيلية إذ شبهت حال الجاحدين المعرضين عن كل دليل وبرهان بحال الصم البكم الذين يعيشون في الظلام من حيث لا نور يهديهم.
ثم قال- تعالى-: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أى: من يشأ الله له الضلالة أضله بأن يجعله يسير في طريق هواه بسبب إعراضه عن طريق الخير، وإيثاره العمى على الهدى، ومن يشأ الله له الهداية يهده، لأنه قد خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فالهداية والضلالة ليسا إجباريين لا اختيار للعبد فيهما، وإنما الحق أن للعبد اختيارا في الطريق الذي يسلكه، فإن كان خيرا خطا فيه إلى النهاية، وإن كان شرا سار فيه إلى الهاوية.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين عند ما تحيط بهم المصائب والأهوال لا يتوجهون بالضراعة والدعاء إلا إلى الله، وأنهم مع ذلك لا يخصونه بالعبادة كما يخصونه بالدعاء لكشف الضر، فقال- تعالى-:(5/71)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
أَرَأَيْتَكُمْ المقصود به أخبرونى، وكلمة أرأيت في القرآن تستعمل للتنبيه والحث على الرؤية والتأمل، فهو استفهام للتنبيه مؤداه: أرأيت كذا فإن لم تكن رأيته فانظره وتأمله.
والمعنى: قل- يا محمد- لهؤلاء المشركين: أخبرونى عن حالكم عند ما يداهمكم عذاب الله الدنيوي كزلزال مدمر، أو ريح صرصر عاتية، أو تفاجئكم الساعة بأهوالها وشدائدها ألستم في هذه الأحوال تلتجئون إلى الله وحده وتنسون آلهتكم الباطلة، لأن الفطرة حينئذ هي التي تنطق على ألسنتكم بدون شعور منكم؟ وما دام الأمر كذلك فلماذا تشركون مع الله آلهة أخرى؟ إن أحوالكم هذه لتدعو إلى الدهشة والغرابة، لأنكم تلجأون إليه وحده عند الشدائد والكروب ومع ذلك تعبدن غيره ومن لا يملك ضرا ولا نفعا.
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ للتوبيخ والتقريع والتعجب من حالهم.
وجواب الشرط محذوف، والتقدير: إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.(5/72)
ثم أكد- سبحانه- أنهم عند الشدائد والكروب لا يلجئون إلا إلى الله فقال- تعالى-:
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ.
بل للإضراب الانتقالى عن تفكيرهم وأوهامهم، أى: بل تخصونه وحده بالدعاء دون الآلهة، فيكشف ما تلتمسون كشفه إن شاء ذلك، لأنه هو القادر على كل شيء وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ أى: تغيب عن ذاكرتكم عند الشدائد والأهوال تلك الأصنام الزائفة والمعبودات الباطلة.
وقدم- سبحانه- المفعول على الفعل في قوله: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لإفادة الاختصاص، أى: لا تدعون إلا إياه، وذلك يدل على أن المشركين مهما بلغ ضلالهم فإنهم عند الشدائد يتجهون بتفكيرهم إلى القوة الخفية الخالقة لهذا الكون.
وفي قوله: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ استعارة حيث شبه حال إزالة الشر بحال كشف غطاء غامر مؤلم بجامع إزالة الضر في كل وإحلال السلامة محله.
والمقصود فيكشف الضر الذي تدعونه أن يكشفه: فالكلام على تقدير حذف مضاف.
وجواب الشرط لقوله: إِنْ شاءَ محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه، أى إن شاء أن يكشف الضر كشفه، لأنه- سبحانه- لا يسأل عما يفعل.
ثم أخذ القرآن في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيان أحوال الأمم الماضية فقال- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ.
البأساء: تطلق على المشقة والفقر الشديد، وعلى ما يصيب الأمم من أزمات تجتاحها بسبب الحروب والنكبات. والضراء. تطلق على الأمراض والأسقام التي تصيب الأمم والأفراد.
والمعنى: ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلا إلى أقوامهم، فكان هؤلاء الأقوام أعتى من قومك في الشرك والجحود، فعاقبناهم بالفقر الشديد والبلاء المؤلم، لعلهم يخضعون ويرجعون عن كفرهم وشركهم.
فالآية الكريمة تصور لونا من ألوان العلاج النفسي الذي عالج الله به الأمم التي تكفر بأنعمه، وتكذب أنبياءه ورسله، إذ أن الآلام والشدائد علاج للنفوس المغرورة بزخارف الدنيا ومتعها إن كانت صالحة للعلاج.
ولقد بين- سبحانه- بعد ذلك. أن تلك الأمم لم تعتبر بما أصابها من شدائد فقال:
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
ولولا هنا للنفي، أى أنهم ما خشعوا ولا تضرعوا وقت أن جاءهم بأسنا.(5/73)
وقيل إنها للحث والتحضيض بمعنى هلا، أى: فهلا تضرعوا تائبين إلينا وقت أن جاءهم بأسنا.
وقد اختار صاحب الكشاف أنها للنفي فقال: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه:
نفى التضرع، كأنه قيل. فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم» «1» .
ثم بين- سبحانه- أن أمرين حالا بينهم وبين التوبة والتضرع عند نزول الشدائد بهم.
أما الأمر الأول: فهو قسوة قلوبهم، وقد عبر- سبحانه- عن هذا الأمر الأول بقوله:
وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أى: غلظت وجمدت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة.
وأما الأمر الثاني: فهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة، بأن يوحى إليهم بأن ما هم عليه من كفر وشرك وعصيان هو عين الصواب، وأن ما أتاهم به أنبياؤهم ليس خيرا لأنه يتنافى مع ما كان عليه آباؤهم.
هذان هما الأمران اللذان حالا بينهم وبين التضرع إلى الله والتوبة إليه.
ثم بين- سبحانه- أنه قد ابتلاهم بالنعم بعد أن عالجهم بالشدائد فلم يرتدعوا فقال- تعالى-:
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ.
والمعنى: فلما أعرضوا عن النذر والعظات التي وجهها إليهم الرسل، فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الرزق وأسباب القوة والجاه. حتى إذا اغتروا وبطروا بما أوتوا من ذلك أخذناهم بغتة فإذا هم متحسرون يائسون من النجاة.
والفاء في قوله- تعالى- فَلَمَّا نَسُوا لتفصيل ما كان منهم. وبيان ما ترتب على كفرهم من عواقب قريبة وأخرى بعيدة.
والمراد بالنسيان هنا: الإعراض والترك. أى: تركوا الاهتداء بما جاء به الرسل حتى نسوه أو جعلوه كالمنسي في عدم الاعتبار والاتعاظ به لإصرارهم على كفرهم، وجمودهم على تقليد من قبلهم.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 23.(5/74)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
والتعبير بقوله- تعالى- فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يرسم صورة بليغة لإقبال الدنيا عليهم من جميع أقطارها بجميع ألوان نعمها، وبكل قوتها وإغرائها، فهو اختبار لهم بالنعمة بعد أن ابتلاهم بالبأساء والضراء.
وعبر- سبحانه- عن إعطائهم النعمة بقوله: بِما أُوتُوا بالبناء للمجهول لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم، كما قال قارون من قبل إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.
وأضاف- سبحانه- الأخذ إلى ذاته في قوله فَأَخَذْناهُمْ لأنهم كانوا لا ينكرون ذلك، بل كانوا ينسبون الخلق والإيجاد إلى الله- تعالى-.
وكان الأخذ بغتة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا، أى أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم. أو حال كونهم مبغوتين، فقد فجأهم العذاب على غرة بدون إمهال.
وإذا في قوله فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فجائية، والمبلس: الباهت الحزين البائس من الخير، الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال.
روى الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» ، ثم تلا قوله- تعالى- فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ. الآية.
ثم قال- تعالى-: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
الدابر: الآخر، والمعنى: فأهلك الله- تعالى- أولئك الأقوام عن آخرهم بسبب ظلمهم وفجورهم، والحمد لله رب العالمين الذي نصر رسله وأولياءه على أعدائهم، وفي ختام هذه الآية بقوله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تعليم لنا، إذ أن زوال الظالمين نعمة تستوجب الحمد والثناء على الله- تعالى-.
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمه عليهم في خلقهم وتكوينهم، وبين لهم إذا سلبهم شيئا من حواسهم فإنهم لا يتجهون إلا إليه فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)(5/75)
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين: أخبرونى إن سلب الله عنكم نعمتي السمع والبصر فأصبحتم لا تسمعون ولا تبصرون، وختم على قلوبكم فصرتم لا تفقهون شيئا، من إله غيره يقدر على رد ما سلب منكم وأنتم تعرفون ذلك ولا تنكرونه فلماذا تشركون معه آلهة أخرى؟ ثم التفت عنهم إلى التعجيب من حالهم فقال- تعالى- انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أى: انظر كيف ننوع الآيات والحجج والبراهين فنجعلها على وجوه شتى ليتعظوا ويعتبروا ثم هم بعد ذلك يعرضون عن الحق، وينأون عن طريق الرشاد.
والاستفهام في قوله- تعالى- أَرَأَيْتُمْ للتنبيه أى: إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فتبينوه وتأملوا ما يدل عليه.
والضمير في بِهِ يعود إلى المأخوذ وهو السمع والبصر والفؤاد.
وفي قوله انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ تعجيب من عدم تأثرهم رغم كثرة الدلائل وتنوعها من أسلوب إلى أسلوب.
وجملة ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ معطوفة على جملة نصرف الآيات وداخلة في حكمها، وكان العطف بثم لإفادة الاستبعاد المعنوي، لأن تصريف الآيات والدلائل يدعو إلى الإقبال، فكان من المستبعد في العقول والأفهام أن يترتب عليه الإعراض والابتعاد.
قال القرطبي: يَصْدِفُونَ أى: يعرضون. يقال: صدف عن الشيء إذا أعرض صدفا وصدوفا فهو صادف. فهم مائلون معرضون عن الحجج والدلالات «1» .
ثم وجه عقولهم إلى لون آخر من ألوان الإقناع فقال- تعالى-:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً، هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. بغتة:
أى مفاجأة، وجهرة: أى جهارا عيانا.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 428.(5/76)
والمعنى: قل لهم أيها الرسول الكريم أخبرونى عن مصيركم إن أتاكم عذاب الله مباغتا ومفاجئا لكم من غير ترقب ولا انتظار، أو أتاكم ظاهرا واضحا بحيث ترون مقدماته ومباديه، هل يهلك به إلا القوم الظالمون؟.
والاستفهام في قوله هَلْ يُهْلَكُ بمعنى النفي، أى: ما يهلك به إلا القوم الظالمون، الذين أصروا على الشرك والجحود، فهلاكهم سببه السخط عليهم والعقوبة لهم، لأنهم عموا وصموا عن الهداية.
ثم بين- سبحانه- وظيفة الرسل فقال: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، أى: تلك سنتنا وطريقتنا في إهلاك المكذبين للرسل، والمعرضين عن دعوتهم، فإننا ما نرسل المرسلين إليهم إلا بوظيفة معينة محددة هي تقديم البشارة لمن آمن وعمل صالحا، وسوق الإنذار لمن كذب وعمل سيئا.
فالجملة الكريمة كلام مستأنف مسوق لبيان وظيفة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- ولإظهار أن ما يقترحه المشركون عليهم من مقترحات باطلة ليس من وظائف المرسلين أصلا.
ثم بين- سبحانه- عاقبة من آمن وعاقبة من كفر فقال: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.
والمعنى: فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأصلح في عمله. فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي يحل بالمكذبين، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله على شيء فاتهم.
والمس اللمس باليد، ويطلق على ما يصيب المرء من ضر أو شر- في الغالب- وفي قوله يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ استعارة تبعية، فكأن العذاب كائن حي يفعل بهم ما يريد من الآلام والعذاب.
ثم لقن الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم الأجوبة الحاسمة التي تدمغ شبهات الكافرين، وتبين ضلال مقترحاتهم فقال:(5/77)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يقترحون عليك المقترحات الباطلة قل لهم:
ليس عندي خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون، وإنما ذلك لله- تعالى- فهو الذي له خزائن السموات والأرض، وقد كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولا من الله فاطلب منه أن يوسع عيشنا ويغنى فقرنا، وقل لهم كذلك إنى لا أعلم الغيب فأخبركم بما مضى وبما سيقع في المستقبل، وإنما علم ذلك عند الله، وقد كانوا يقولون له أخبرنا بما ينفعنا ويضرنا في المستقبل. حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، وقل لهم: إنى لست ملكا فأطلع على ما لا يطلع عليه الناس وأقدر على مالا يقدرون عليه. وقد كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل طعاما ويمشى في الأسواق ثم يتزوج النساء.
ثم بين لهم وظيفته فقال: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أى إن وظيفتي اتباع ما يوحى إلى من ربي. فأنا عبده وممتثل لأمره، وحاشاى أن أدعى شيئا من تلك الأشياء التي اقترحتموها على.
فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لإظهار تبريه عما يقترحونه عليه.
ثم بين لهم- سبحانه- الفرق بين المهتدى والضال فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ.
أى: قل لهم: هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه، وذو البصيرة المنيرة التي اهتدت إلى الحق فآمنت به واتبعته؟
فالمراد بالأعمى الكافر الذي لم يستجب للحق، وبالبصير المؤمن الذي انقاد له.(5/78)
والاستفهام للإنكار ونفى الوقوع، أى: كما أنه لا يتساوى أعمى العينين وبصيرهما، فكذلك لا يتساوى المهتدى والضال والرشيد والسفيه، بل إن الفرق بين المهتدى والضال أقوى وأظهر، لأنه كم من أعمى العينين وبصير القلب هو من أعلم العلماء وأهدى الفضلاء وكم من بصير العينين أعمى القلب هو أضل من الأنعام، ولذا قرعهم الله- تعالى- بقوله: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ؟ أى: أفلا تتفكرون في ذلك فتميزوا بين ضلالة الشرك وهداية الإسلام، وبين صفات الرب وصفات الإنسان. والاستفهام هنا للتحريض على التفكر والتدبر.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في إنذار قوم يتوقع منهم الصلاح والاستجابة للحق، بعد أن أمره قبل ذلك بتوجيه دعوته إلى الناس كافة فقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
والمعنى: عظ وخوف يا محمد بهذا القرآن أولئك الذين يخافون شدة الحساب والعقاب، وتعتريهم الرهبة عند ما يتذكرون أهوال يوم القيامة لأنهم يعلمون أنه يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، فهؤلاء هم الذين ترجى هدايتهم لرقة قلوبهم وتأثرهم بالعظات والعبر.
فالمراد بهم المؤمنون العصاة الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولذا قال ابن كثير:
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ أى وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب أى: يوم القيامة، لَيْسَ لَهُمْ يومئذ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ أى: لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ويضاعف لهم الجزيل من ثوابه) «1» .
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند الله من كثير من الأغنياء. فقال تعالى:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
أى: لا تبعد أيها الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين.
وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا: يا محمد
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 124. [.....](5/79)
أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء؟
لا.. اطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك. فنزلت هذه الآية «1» :
ففي الآية الكريمة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه. لأنه وإن كان صلى الله عليه وسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للإسلام لينال بقوتهم قوة، إلا أن الله تعالى بين له أن القوة في الإيمان والعمل الصالح، وأن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه في كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم إلا وجه الله، فكيف يطردون من مجالس الخير؟.
ثم قال تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.
أى: إن الله تعالى هو الذي سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شيء، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شيء، فهم مجزيون بأعمالهم، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الظالمين. إذ أنهم لم يصدر عنهم ما يستوجب ذلك، وحاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما تلك هي صفاتهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أما كفى قوله ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى ضم إليه وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى في قوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.
وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين) «2» .
وهنا تخريج آخر لقوله: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ بأن المعنى: ما عليك شيء من حساب رزقهم ان كانوا فقراء، وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء، أى أنت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعا سواء منهم الفقير والغنى، فكيف تطرد فقيرا لفقره، وتقرب غنيا لغناه؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.
وقوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب للنهى عن الطرد، وقوله فَتَطْرُدَهُمْ جواب لنفى الحساب.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 3 ص 104.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 23.(5/80)
ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
والمعنى: ومثل ذلك الفتن. أى الابتلاء والاختبار، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض، ليترتب على هذه الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء في شأن الضعفاء: أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإيمان من بيننا! وقد رد الله عليهم بقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أى: أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
والكاف في قوله وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير: ومثل ذلك الفتون المتقدم الذي فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمم ببعض، ومن مظاهر ذلك أننا ابتلينا الغنى بالفقير، والفقير بالغنى، فكل واحد مبتلى بضده، فكان ابتلاء الأغنياء الشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم، فامتنعوا عن الدخول في الإسلام لذلك، فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم وأما فتنة الفقراء بالأغنياء فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم. فكان ذلك فتنة لهم «1» .
واللام في قوله لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا تعليلية لأنها هي للباعث على الاختبار أى: ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا.
والاستفهام في قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ للتقرير على أكمل وجه لأنه سبحانه محيط بكل صغير وكبير ودقيق وجليل.
وكذلك تكون الآيات الكريمة قد قررت أن الفضل ليس بالغنى ولا بالجاه ولا بالقوة في الدنيا، ولكنه بمقدار شكر الله على ما أنعم، وأنه سبحانه هو العالم وحده بمن يستحق الفضل علما ليس فوقه علم.
__________
(1) حاشية الجمل ج 2 ص 34.(5/81)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 56]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
السلام والسلامة مصدران من الثلاثي. يقال سلم فلان من المرض أو من البلاء سلاما وسلامة ومعناهما البراءة والعافية. ويستعمل السلام في التحية، وهو بمعنى الدعاء بالسلامة من كل سوء، فهو آية المودة والأمان والصفاء.
والمعنى: وإذا حضر إلى مجالسك يا محمد أولئك الذين يؤمنون بآياتنا ويعتقدون صحتها فقل لهم: تحية لكم من خالقكم وبشارة لكم بمغفرته ورضوانه مادمتم متبعين لهديه، ومحافظين على فرائضه.
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أى أنه سبحانه أوجب على نفسه الرحمة لعباده تفضلا منه وكرما.
ثم بين سبحانه أصلا من أصول الدين في هذه الرحمة المكتوبة فقال أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أى أنه من عمل منكم عملا تسوء عاقبته متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء كغضب شديد ثم تاب من بعد تلك الجهالة وأصلح خطأه وندم على ما بدر منه، ورد المظالم إلى أهلها، فالله سبحانه شأنه في معاملته لهذا التائب النادم أنه غفور رحيم» .
ثم قال تعالى وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ المنزلة في بيان الحقائق التي يهتدى بها أهل النظر الصحيح والفقه الدقيق.
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ أى ولأجل أن يظهر بها طريق المجرمين فيمتازوا بها عن جماعة المسلمين.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يصارح أعداءه ببراءته من شركهم ومن اتباع باطلهم فقال- تعالى-: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ.(5/82)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين. ذكر في هذه الآية أنه- تعالى- نهى عن سلوك سبيلهم فقال: إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله، وبين أن الذين يعبدونها إنما يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد لا على سبيل الحجة والدليل، لأنها جمادات وأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير. وكون الأشرف مشتغلا بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل، وأيضا فالقوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها، ومن المعلوم بالبديهة أنه يقبح من هذا العامل الصانع أن يعبد معموله ومصنوعه، فثبت أن عبادتها مبنية على الهوى ومضادة للهدى» «1» .
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك أن تركن إليهم: إن الله نهاني وصرفني بفضله، وبما منحني من عقل مفكر عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله، وقل- أيضا- لهم بكل صراحة وقوة: إنى لست متبعا لما تمليه عليكم أهواؤكم وشهواتكم من انقياد للأباطيل، ولو أنى ركنت إليكم لضللت عن الحق وكنت خارجا عن طائفة المهتدين.
فالآية الكريمة قطعت بكل حسم ووضوح أطماعهم الفارغة في استمالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهوائهم، ووصمتهم بأنهم في الضلال غارقون، وعن الهدى مبتعدون.
وجاءت كلمة نُهِيتُ بالبناء للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهوره أى: نهاني الله- تعالى- عن ذلك. وأجرى على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكى اعتقادهم.
قال أبو حيان: و «تدعون» معناه تعبدون: وقيل معناه تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيدا أى سميته بهذا الإسم. وقيل تدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله تدعون من دون الله استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة، ولفظة نهيت أبلغ من النفي بلا أعبد إذ ورد فيه ورود تكليف» «2» .
وجملة قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ مستأنفة، وعدل بها عن العطف إلى الاستئناف لتكون غرضا مستقلا، وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفي شاملا للاتباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ألوان ضلالهم كطلبهم طرد المؤمنين من مجلسه، وعبر بقوله قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ دون لا أتبعكم. للإشارة إلى أنهم في عبادتهم لغير الله تابعون
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 54 طبعة المطبعة الشرفية 1324.
(2) البحر المحيط لأبى حيان ج 4 ص 142.(5/83)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
للأهواء الباطلة، نابذون للأدلة العقلية، وفي هذا أكبر برهان على انطماس بصيرتهم، وبنائهم لدينهم على الأوهام والأباطيل.
وجملة قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً جواب لشرط مقدر. أى: إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت إذا وما اهتديت.
وجملة وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ معطوفة على جملة قَدْ ضَلَلْتُ ومؤكدة لمضمونها أى: إنه إن فعل ذلك- على سبيل الفرض والتقدير- خرج عن الحالة التي هو عليها الآن من كونه في عداد المهتدين إلى كونه في زمرة الضالين.
والتعبير بقوله وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أبلغ من قوله وما أنا مهتد، لأن التعريف في المهتدين تعريض للجنس، وإخبار المتكلم عن نفسه بأنه من المهتدين يفيد أنه واحد من الفئة التي تعرف عند الناس بفئة المهتدين، فيفيد أنه مهتد بطريقة تشبه طريقة الاستدلال، فهو من قبيل الكناية التي هي إثبات الشيء بإثبات ملزومه وهي أبلغ من التصريح. ولذا قال صاحب الكشاف:
قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم ومعرفة مساهمته معهم في العلم» .
وبعد أن أمر الله- تعالى- نبيه بمصارحة المشركين بأنه لن يكون في يوم من الأيام متبعا لأهوائهم، أمره أن يخبرهم بأنه على الحق الواضح الذي لا يضل متبعه، وبأن الله وحده هو الذي سيقضي بينه وبينهم فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 57 الى 59]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)(5/84)
البينة: الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر، أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أى الانفصال.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك اتباع أهوائهم كيف يتأتى لي ذلك وأنا على شريعة واضحة وملة صحيحة لا يعتريها شك، ولا يخالطها زيغ لأنها كائنة من ربي الذي لا يضل ولا ينسى.
والتنوين في كلمة بَيِّنَةٍ للتفخيم والتعظيم، وهي صفة لموصوف محذوف للعلم به في الكلام، أى: على حجة بينة واضحة محقة للحق ومبطلة للباطل فأنا لن أتزحزح عنها أبدا.
وفي ذلك تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم، وإنما هم قد اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وجملة وَكَذَّبْتُمْ بِهِ في موضع الحال من بَيِّنَةٍ وهي تفيد التعجب منهم حيث كذبوا بما دلت عليه البينات، واتفقت على صحته العقول السليمة.
والضمير في قوله بِهِ يعود على الله- تعالى- أى: وكذبتم بالله مع أن دلائل توحيده ظاهرة واضحة.
وقيل: يعود على البينة والتذكير باعتبار أنها بمعنى البيان.
وقيل: يعود على القرآن أى والحال أنكم كذبتم بالقرآن الذي هو بينتي من ربي.
وقوله: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أى: ليس في مقدوري أن أنزل بكم ما تستعجلونه من العذاب، وإنما ذلك مرجعه إلى الله وحده.
وهذه الجملة الكريمة رد على المشركين الذين استعجلوا نزول العذاب عند ما أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بسوء المصير إذا ما استمروا في ضلالهم، فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ فكان رد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بأن الذي يملك إنزال العذاب بهم إنما هو الله وحده، وتأخير العذاب عنهم إنما هو لحكمة يعلمها الله، فهو وحده الذي يقدر وقت نزوله.
وقوله إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أى: ما الحكم في تعجيل العذاب أو تأخيره وفي كل شأن من شئون الخلق إلا لله وحده فهو- سبحانه- الذي ينزل قضاءه حسب سنته الحكيمة، وموازينه الدقيقة.
وقرأ الكسائي وغيره «يقص الحق» ، أى: يقص- سبحانه- القضاء الحق في كل شأن من شئونه.(5/85)
وقوله يَقُصُّ الْحَقَّ أى: يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أى: القاضين بين عباده.
قال ابن جرير: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أى: وهو من ميز بين المحق والمبطل وأعدلهم، لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة إليه ولا لقرابة ولا مناسبة، ولا في قضائه جور لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور، فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين» «1» .
ثم بين- سبحانه- حالهم فيما لو كان أمر إنزال العذاب عليهم بيد النبي عليه الصلاة والسلام فقال: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أى: قل لهم يا محمد لو أن في قدرتي وإمكانى العذاب الذي تتعجلونه، لقضى الأمر بيني وبينكم.
قال صاحب الكشاف أى: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي. وامتعاضا من تكذيبكم به، ولتخلصت منكم سريعا» «2» .
وجملة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ تذييل، أى: والله أعلم منى ومن كل أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله، لأنه العليم. الخبير الذي عنده ما تستعجلون به.
والتعبير بِالظَّالِمِينَ إظهار في مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنهم ظالمون في شركهم وظالمون في تكذيبهم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: فإن قيل: فكيف الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا بقرن الثعالب «3» فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى فنظرت فيها فإذا جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال فناداني ملك الجبال وسلم على ثم قال يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك. وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرنى بأمرك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقلت له: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له» .
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 7 ص 135.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 30 طبعة بيروت.
(3) قرن الثعالب أو قرن المنازل: اسم مكان على بعد يوم وليلة من مكة وهو ميقات أهل نجد.(5/86)
قال ابن كثير: فالجواب على ذلك- والله أعلم- أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم» «1» .
ثم يمضى السياق القرآنى مع المكذبين المتعجلين للعذاب، فيسوق لهم صورة لعلم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ.
قال القرطبي: مَفاتِحُ جمع مفتح، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح، وهي قراءة ابن السميقع، والمفتح عبارة عن كل ما يخل غلقا محسوسا كان كالقفل على البيت، أو معقولا كالنظر، وروى ابن ماجة في سننه وأبى حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» ، وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتح إلى الغيب عن الإنسان. ولذلك قال بعضهم هو مأخوذ من قول الناس افتح على كذا، أى: أعطنى أو علمني ما أتوصل إليه به فالله- تعالى- عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه» «2» .
والغيب: ما غاب عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى معرفته، وهو يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن، ويشمل الأعراض الخفية ومواقيت الأشياء وغير ذلك. وقدم الظرف لإفادة الاختصاص، أى: عنده لا عند غيره مفاتيح الغيب، وجملة «لا يعلمها إلا هو» في موضع الحال من مفاتح، وهي مؤكدة لمضمون ما قبلها.
ومعنى لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أى: لا يعلم الغيوب علما تاما مستقلا إلا هو- سبحانه- فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم، فكان في الأصل راجعا إلى علمه هو. قال- تعالى- عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.
ثم بين- سبحانه- أن علمه ليس مقصورا على المغيبات، وإنما هو يشملها كما يشمل المشاهدات فقال: وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
قال الراغب: أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير، وقيل إن أصله الماء الملح
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 126.
(2) تفسير القرطبي ج 7 ص 1 طبعة دار الكتاب العربي.(5/87)
دون العذب وأطلق على النهر بالتوسع أو التغليب، والبر ما يقابله من الأرض وهو ما يسمى باليابسة.
وهذه الجملة معطوفة على جملة، وعنده مفاتح الغيب، لإفادة تعميم علمه- سبحانه- بالأشياء الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس.
وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقي من الأقل إلى الأعظم، لأن قسم البحر من الأرض أكبر من قسم البر، وخفاياه أكثر وأعظم، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر.
ثم صرح- سبحانه- بشمول علمه لكل كلى وجزئى، ولكل صغير وكبير، ولكل دقيق وجليل، فقال- تعالى- وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها. وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
أى: وما تسقط ورقة ما من شجرة من الأشجار ولا حبة في باطن الأرض وأجوافها، ولا رطب ولا يابس من الثمار أو غيرها إلا ويعلمه الله علما تاما شاملا، لأن كل ذلك مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهى الثابت.
وجملة وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها معطوفة على جملة، ويعلم ما في البر والبحر، لقصد زيادة التعميم في الجزئيات الدقيقة.
والمراد بظلمات الأرض بطونها، وكنّى بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك ما فيه كما لا يدرك ما في الظلمة.
وقوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ تأكيد لقوله «لا يعلمها» لأن المراد بالكتاب المبين علم الله- تعالى- الذي وسع كل شيء، أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته- عز وجل-.
قال الإمام الرازي: قال الزجاج: يجوز أن الله- تعالى-: أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال- تعالى-: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.
ثم قال الإمام الرازي: وفائدة هذا الكتاب أمور:
أحدها: أنه- تعالى-: إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء، فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقا له.(5/88)
وثانيها: أنه يجوز أن يقال: أنه- تعالى-: ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على أمر الحساب، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.
وثالثها: أنه- تعالى-: علم أحوال جميع الموجودات، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع- أيضا- تغييرها، وإلا لزم الكذب، فتصير كتابة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا.
تاما، وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلى الله عليه وسلم «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» «1» .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أمور من أهمها:
أن علم الله- تعالى-: محيط بالكليات والجزئيات، وبكل شيء في هذا الكون، وبذلك يتبين بطلان رأى بعض الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.
أن علم الغيب مرده إلى الله وحده، قال الحاكم: دل قوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ على بطلان قول الإمامية: إن الإمام يعلم شيئا من الغيب» .
وقال القاسمى: قال صاحب «فتح البيان» : في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين وغيرهم من مدعى الكشف والإلهام ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم. ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم سوى خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم «من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» قال ابن مسعود «أوتى نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب» .
وروى البخاري بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله. لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله.
ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت، ولا يدرى أحد متى يجيء المطر» «2» .
وقال القرطبي: قال علماؤنا: أضاف- سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 57.
(2) تفسير القاسمى ج 6 ص 2343.(5/89)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
كتابه إلا من اصطفى من عباده، فمن قال: إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر، وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. ثم قال: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقر والدين فلجأوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل «1» ، ومن أديانهم على الفساد والضلال، وكل ذلك من الكبائر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما» والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعى علم الغيب «2» .
وبعد أن بين- سبحانه-: شمول علمه لكل شيء، أتبع ذلك بالحديث عن كمال قدرته، ونفاذ إرادته فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 60 الى 64]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
__________
(1) السراب: ما يراه الشخص في منتصف النهار ملتصقا بالأرض كأنه ماء جار وهو ليس بشيء، الآل: ما يراه بالضحى كأنه الماء بين السماء والأرض.
(2) تفسير القرطبي ج 7 ص 3. [.....](5/90)
قوله- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أى: ينيمكم فيه. والتوفي أخذ الشيء وافيا، أى تاما كاملا. والتوفي يطلق حقيقة على الإماتة، وإطلاقه على النوم- كما هنا- مجاز لشبه النوم بالموت في انقطاع الإدراك والعمل والإحساس قال- تعالى-: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
فهذه الآية صريحة في أن التوفي أعم من الموت، فقد صرحت بأن الأنفس التي تتوفى في منامها غير ميتة، فهناك وفاتان: وفاة كبرى وتكون بالموت، ووفاة صغرى وتكون بالنوم.
والمعنى: وهو- سبحانه- الذي يتوفى أنفسكم في حالة نومكم بالليل، دون غيره لأن غيره لا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا.
وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أى: ما كسبتم وعملتم فيه من أعمال. وأصل الجرح تمزيق جلد الحي بشيء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب وأطلق هنا على ما يكتسبه الإنسان بجوارحه من يد أو رجل أو لسان.
وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب جريا على المعتاد، لأن الغالب أن يكون النوم ليلا، وأن يكون الكسب والعمل نهارا، قال- تعالى-:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أى: ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يوقظكم منه في النهار، لأجل أن يقضى كل فرد أجله المسمى في علم الله- تعالى-، والمقدر له في هذه الدنيا، فقد جعل- سبحانه- لأعماركم آجالا محددة لا بد من قضائها وإتمامها.
وجملة ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ معطوفة على يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فتكون ثم للمهلة الحقيقية وهو الأظهر.
ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى: ثم إليه وحده يكون رجوعكم بعد انقضاء حياتكم في هذه الدنيا، فيحاسبكم على أعمالكم التي اكتسبتموها فيها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
فالآية الكريمة تسوق للناس مظهرا من مظاهر قدرة الله وتبرهن لهم على صحة البعث(5/91)
والحساب يوم القيامة، لأن النشأة الثانية- كما يقول القرطبي- منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الأخرى.
هذا، ويرى جمهور المفسرين أن ظاهر الخطاب في الآية للمؤمنين والكافرين، ولكن الزمخشري خالف في ذلك فجعلها خطابا للكافرين فقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الخطاب للكفرة، أى: أنتم منسدحون الليل كله كالجيف- أى مسطحون على القفا- وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ما كسبتم من الآثام فيه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم «1» .
والذي نراه أن رأى الجمهور أرجح لأنه لم يرد نص يدل على تخصيص الخطاب في الآية للكافرين.
ثم قال- تعالى-: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ أى: وهو الغالب المتصرف في شئون خلقه يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وإثابة وعقابا إلى غير ذلك، والمراد بالفوقية فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة.
قال الإمام الرازي: وتقرير هذا القهر من وجوه:
الأول: أنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد.
والثاني: أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد، فإنه- تعالى- هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة، ومن الوجود إلى العدم تارة أخرى، فلا وجود إلا بإيجاده، ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات.
والثالث: أنه قهار لكل ضد بضده، فيقهر النور بالظلمة، والظلمة بالنور، والنهار بالليل، والليل بالنهار، وتمام تقريره في قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» .
وقوله وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً أى: ويرسل عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها وتسجل ما تعملونه من خير أو شر. قال: - تعالى-: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ وقال- تعالى-: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 32.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 58.(5/92)
وفي الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج بالذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» .
قال صاحب الكشاف: فإن قلت إن الله- تعالى- غنى بعلمه عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ قلت: فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رءوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء) «1» .
وجملة وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يجوز أن تكون معطوفة على اسم الفاعل الواقع صلة ل (أل) ، لأنه في معنى يقهر والتقدير وهو الذي يقهر عباده ويرسل، فعطف الفعل على الإسم لأنه في تأويله.
وقوله حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ أى: حتى إذا احتضر أحدكم وحان أجله قبضت روحه ملائكتنا الموكلون بذلك حالة كونهم لا يتوانون ولا يتأخرون في أداء مهمتهم.
قال الآلوسى: وحتى في قوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها، كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم، حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاءت أسباب الموت ومباديه توفته رسلنا الآخرون المفوض إليهم ذلك، وانتهى هناك حفظ الحفظة. والمراد بالرسل- على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس- أعوان ملك الموت «2» .
وقال الجمل: فإن قلت: إن هناك آية تقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وثانية تقول: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ والتي معنا تقول تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.
فالجواب على ذلك أن المتوفى في الحقيقة هو الله، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه، وقيل المراد من قوله تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له «3» .
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 33.
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 76.
(3) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 40.(5/93)
ثم صرح- سبحانه- بأن مصير الخلق جميعا إليه فقال: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أى: ثم رد الله- تعالى- هؤلاء الذين توفتهم الملائكة إلى مالكهم الحق الذي لا يشوب ملكه باطل ليتولى حسابهم وجزاءهم على أعمالهم.
فالضمير في رُدُّوا يعود على الخلائق الذين توفتهم الملائكة والمدلول عليهم بأحد. والسر في الإفراد أولا والجمع ثانيا وقوع التوفي على الأفراد والرد على الاجتماع. أى: ردوا بعد البعث فيحكم فيهم بعدله. قال- تعالى- قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
وقيل إن الضمير في رُدُّوا يعود على الملائكة. أى: ثم ردوا أولئك الرسل بعد إتمام مهمتهم بإماتة جميع الناس فيموتون هم أيضا. وجملة أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ.
تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر.
أى: ألا له الحكم النافذ لا لغيره وهو- سبحانه- أسرع الحاسبين لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلائق من تفكر واشتغال بحساب عن حساب.
وبذلك تكون هذه الآيات الثلاث قد أقامت أقوى البراهين وأصحها على كمال قدرة الله، ونفاذ إرادته، ومحاسبته لعباده يوم القيامة على ما قدموا وأخروا.
ثم ساق القرآن لونا آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله وسابغ رحمته وفضله وإحسانه فقال- تعالى-: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
قال صاحب الكشاف: ظلمات البر والبحر مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما.
يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب، أى اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل» «1» .
وقيل: حمله على الحقيقة أولى فظلمة البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل ومن ظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب، وظلمة البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضا الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك.
والتضرع: المبالغة في الضراعة مع الذل والخضوع. والخفية- بالضم والكسر- الخفاء والاستتار. وللكرب الغم الشديد مأخوذ من كرب الأرض وهو إثارتها وقلبها بالحفر. فالغم يثير النفس كما يثير الأرض كاربها.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 33.(5/94)
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الغافلين من الذي ينجيكم من ظلمات البر والبحر عند ما تغشاكم بأهوالها المرعبة، وشدائدها المدهشة، إنكم في هذه الحالة تلجأون إلى الله وحده تدعونه إعلانا وإسرارا بذلة وخضوع وإخلاص قائلين له: لئن أنجيتنا يا ربنا من هذه الشدائد والدواهي المظلمة لنكونن لك من الراسخين في الشكر المداومين عليه قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ أى قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذي ينجيكم من هذه المخاوف والأهوال ومن كل غم يأخذ بنفوسكم، ثم أنتم بعد هذه النجاة تشركون معه غيره، مخلفين بذلك وعدكم حانثين في أيمانكم.
قال الإمام الرازي: «والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله، وينقطع رجاؤه عن كل ما سواه، وهو المراد من قوله تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فبين- سبحانه- أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأن لا ملجأ إلا إلى الله ولا تعويل إلا على فضله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص في كل الأحوال، لكن الإنسان ليس كذلك فإنه بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك.
ولفظ الآية يدل على أنه عند حصول الشدائد يأتى الإنسان بأمور:
أحدها: الدعاء.
وثانيها: التضرع.
وثالثها: الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله خُفْيَةً.
ورابعها: التزام الاشتغال بالشكر. ونظير هذه الآية قوله- تعالى- وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وقوله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وبالجملة فعادة أكثر الناس أنهم إذا شاهدوا الأمر الهائل أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به» «1» .
ثم بين- سبحانه- قدرته على تعذيبهم تهديدا لهم حتى يخشوا بأسه أثر بيان قدرته على تنجيتهم فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 62.(5/95)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 69]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين، إن الله- تعالى- وحده هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا عظيما من فوقكم أى: من جهة العلو كما أرسل على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، أو من تحت أرجلكم أى من السفل كما حدث بالنسبة لفرعون وجنده من الغرق، وبالنسبة لقارون حيث خسف به الأرض.
وقيل: من فوقكم أى من قبل سلاطينكم وأكابركم، ومن تحت أرجلكم أى: من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات.
وتصوير العذاب بأنه آت من أعلى أو من أسفل أشد وقعا في النفس من تصويره بأنه آت من جهة اليمين أو من جهة الشمال، لأن الآتي من هاتين الجهتين قد يتوهم دفعه، أما الآتي من أعلى أو من أسفل فهو عذاب قاهر مزلزل لا مقاومة له ولا ثبات معه.
وقوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أى: يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء، متباينة المشارب، مضطربة الشئون، كل فرقة تتبع إماما لها تقاتل معه غيرها، فيزول الأمن ويعم الفساد.
وشِيَعاً جمع شيعة وهم الأتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وقوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ معطوف على ما قبله، أى: يسلط بعضكم على بعض بالعذاب(5/96)
والقتل، لأن من عواقب ذلك اللبس التقاتل والتصارع. وفي هاتين الجملتين تصوير مؤثر للعذاب الذي يذوقه الناس بحواسهم إذ يجعلهم- سبحانه- شيعا وأحزابا غير منعزل بعضها عن بعض، فهي أبدا في جدال وصراع وفي خصومة ونزاع، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك، وذلك أشنع ما تصاب به الجماعة فيأكل بعضها بعضا.
ثم تختم الآية بهذا التعبير الحكيم انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
أى: انظر وتدبر- أيها الرسول الكريم- أو أيها العاقل كيف ننوع الآيات والعبر والعظات بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى لعلهم يفقهون الحق ويدركون حقيقة الأمر، فينصرفوا عن الجحود والمكابرة، ويكفوا عن كفرهم وعنادهم.
هذا، وقد ساق ابن كثير عقب تفسير هذه الآية جملة «1» من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بنى معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه. ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثا فأعطانى ثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتى بالسّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» .
بعد هذا التهديد الشديد للمعاندين اتجه القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأمره أن يصارح قومه بسوء مصيرهم إذا ما استمروا في ضلالهم فقال:
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ أى: وكذب جمهور قومك بهذا العذاب الذي حدثناك عنه فظنوا أن الله لن يعذبهم بسبب إعراضهم عن دعوتك، أو كذبوا بهذا القرآن الذي هو معجزتك الكبرى.
والتعبير عنهم بقومك تسجيل عليهم بسوء المعاملة لمن هو من أنفسهم وجملة وَهُوَ الْحَقُّ مستأنفة لقصد تحقيق القدرة على بعث العذاب عليهم، أو حال من الهاء في به، أى: كذبوا حال كونه حقا، وهو أعظم في القبح قل لهم- يا محمد- لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أى: لم يفوض إلى أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق، فأنا لست بقيم عليكم وإنما أنا منذر وقد بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكنكم لا تحبون الناصحين.
ثم ختم هذا التهديد بقوله- تعالى- لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
قال الراغب: «النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حق يتضمن هذه الأشياء الثلاثة» .
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 2 ص 140 وما بعدها.(5/97)
والمستقر: وقت الاستقرار.
أى: لكل خبر عظيم وقت استقرار وحصول لا بد منه، وسوف تعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم متى شاء الله ذلك، قال- تعالى- وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من قدرة الله، وهددت المعاندين في كل زمان ومكان بسوء المصير.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله وأتباعه بأن يهجروا المجالس التي لا توقر فيه آيات الله وشرائعه، فقال- تعالى-:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.
قال الراغب: الخوض هو الشروع في الماء والورود فيه، ثم استعير للأخذ في الحديث فقيل: تخاوضوا في الحديث، أى: أخذوا فيه على غير هدى، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله- تعالى- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ «1» .
والمعنى: وإذا رأيت أيها النبي الكريم، أو أيها المؤمن العاقل، الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والطعن والاستهزاء فأعرض عنهم. وانصرف عن مجالسهم، وأرهم من نفسك الاحتقار لتصرفاتهم، ولا تعد إلى مجالسهم حتى يخوضوا في حديث آخر، لأن آياتنا المنسوبة إلينا من حقها أن تعظم وأن تحترم لا أن تكون محل تهكم واستهزاء.
قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت هذه الآية فجعل صلى الله عليه وسلم إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا: لا تستهزءوا فيقوم.
وإنما عبر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض، لأنهم لا يتحدثون إلا فيما لا جدوى فيه ولا منفعة من ورائه غالبا.
وقوله وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أى: وإما ينسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مجالسة الخائضين على سبيل الفرض والتقدير فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها، وقد جاء الشرط الأول بإذا لأن خوضهم في الآيات محقق، وجاء الشرط الثاني بإن لأن إنساء الشيطان له قد يقع وقد لا يقع.
فإن قيل: النسيان فعل الله فلم أضيف إلى الشيطان؟ أجيب بأن السبب من الشيطان وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر فأضيف إليه لذلك، كما أن من ألقى غيره في النار فمات يقال:
إنه القاتل وإن كان الإحراق فعل الله.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن ص 160 للراغب الأصفهاني.(5/98)
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أحكاما من أهمها ما يأتى:
1- وجوب الإعراض عن مجالسة المستهزئين بآيات الله أو برسله، وأن لا يقعد لأن في القعود إظهار عدم الكراهة، وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجرته، مؤمنا كان أو كافرا، وقد منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم وبيعهم، وكذلك منعوا مجالسة الكفار وأهل البدع. فقد قال بعض أهل البدع لأبى عمران النخعي: اسمع منى كلمة فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة.
وروى الحاكم عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من وقر صاحب بدعة فقد أعانه على هدم الإسلام» «1» .
وقال صاحب المنار: وسبب هذا النهى أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم وإغراء لهم بالتمادى فيه وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر قال- تعالى- وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» .
2- جواز مجالسة الكفار مع عدم الخوض. لأنه إنما أمرنا بالإعراض في حالة الخوض، وأيضا فقد قال- تعالى- حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
قال بعض العلماء: «وحتى غاية الإعراض، لأنه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أو جبته رعاية المصلحة، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هدايتهم وإرشادهم إلى أصلها لأنها تمحضت للمصلحة» «3» .
3- استدل بهذه الآية على أن الناسي غير مكلف، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف فيعفى عما ارتكبه حال نسيانه ففي الحديث الشريف «إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا وإسناده صحيح.
4- قال القرطبي: قال بعضهم إن الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود أمته، ذهبوا إلى
__________
(1) تفسير القرطبي ج 7 ص 13.
(2) تفسير المنار ج 7 ص 506.
(3) تفسير التحرير والتنوير ج 7 ص 288 للشيخ الفاضل بن عاشور.(5/99)
ذلك لتبرئته صلى الله عليه وسلم من النسيان. وقال آخرون إن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والنسيان جائز عليه فقد قال صلى الله عليه وسلم مخبرا عن نفسه: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» فأضاف النسيان إليه. واختلفوا بعد جواز النسيان عليه هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أولا؟ فذهب إلى الأول- فيما ذكره القاضي عياض- عامة العلماء والأئمة كما هو ظاهر القرآن والأحاديث، لكن اشترط الأئمة أن الله- تعالى- ينبهه على ذلك ولا يقره عليه. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية» «1» .
قال الآلوسى: «وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلى الله عليه وسلم» «2» .
ثم بين- سبحانه- أنه لا تبعة على المؤمنين ما داموا قد أعرضوا عن مجلس الخائضين فقال- تعالى- وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
أى: وما على الذين يتقون الله شيء من حساب الخائضين على ما ارتكبوا من جرائم وآثام ما داموا قد أعرضوا عنهم، ولكن عليهم أن يعرضوا عنهم ويذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير لعل أولئك الخائضين يجتنبون ذلك، ويتقون الله في أقوالهم وأفعالهم.
وعليه يكون الضمير في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعود على الخائضين.
وقيل يجوز أن يكون الضمير في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ للذين اتقوا أى: عليهم أى يذكروا أولئك الخائضين، لأن هذا التذكير يجعل المتقين يزدادون إيمانا على إيمانهم، ويثبتون على تقواهم.
روى البغوي عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.. إلخ قال المسلمون: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا؟ فأنزل الله- تعالى- وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعنى إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعة ما يقولون، وما عليكم نصيب من إثم ذلك الخوض.
قال الجمل: قوله (ولكن ذكرى) فيه أربعة أوجه:
__________
(1) تفسير القرطبي ج 7 ص 14.
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 183. [.....](5/100)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
أحدها: أنها منصوبة على المصدر بفعل مضمر وقدره بعضهم أمرا، أى: ولكن ذكروهم ذكرى، وبعضهم قدره خبرا. أى: ولكن يذكرونهم ذكرى.
والثاني: أنه مبتدأ خبره محذوف: أى: ولكن عليكم ذكرى، أى: تذكيرهم.
والثالث: أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: هو ذكرى أى: النهى عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى.
والرابع: أنه عطف على موضع شيء المجرور بمن أى: ما على المتقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات وأما على الأوجه السابقة فهو من عطف الجمل» «1» .
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينطلق في تبليغ دعوته دون أن يشغل نفسه بسفاهة السفهاء، وأن يذكر المعاندين بسوء مصيرهم فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 70 الى 73]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 44.(5/101)
والمعنى: واترك يا محمد هؤلاء الغافلين الذين اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا من تعاليمه واستهزءوا بها، وغرتهم الحياة الدنيا حيث اطمأنوا إليها، واشتغلوا بلذاتها وزعموا أنه لا حياة بعدها.
ولم يقل- سبحانه- اتخذوا اللعب واللهو دينا لأنهم لم يجعلوا كل ما هو من اللعب واللهو دينا لهم، وإنما هم عمدوا إلى أن ينتحلوا دينا فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسموها دينا.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: ومعنى ذَرْهُمْ: أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزنا، وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه قال له بعده وَذَكِّرْ بِهِ وإنما المراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم.. ومعنى اتخاذ دينهم لعبا ولهوا، أنهم اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينا لهم، أو أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهى والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر، ولم يكونوا يحتاطون في أمر الدين، بل كانوا يكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله عنهم لذلك بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا. وأنهم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا قال ابن عباس: جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله، ثم إن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا أما المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله ... » «1» .
والضمير في قوله وَذَكِّرْ بِهِ يعود إلى القرآن: وقد جاء مصرحا به في قوله- تعالى- فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
وقوله أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أى: وذكر بهذا القرآن أو بهذا الدين الناس مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك، أو تحبس أو ترتهن أو تفتضح، أو تحرم الثواب بسبب كفرها واغترارها بالحياة الدنيا، واتخاذها الدين لعبا ولهوا.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 65.(5/102)
ولفظ تبسل مأخوذ من السبل بمعنى المنع بالقهر أو التحريم أو الحبس ومنه أسد باسل لمنعه فريسته من الإفلات. وشراب بسيل أى متروك وهذا الشيء بسيل عليك أى محرم عليك.
ثم بين- سبحانه- أن هذه النفس المعرضة للحرمان ليس لها ما يدفع عنها السوء فقال:
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أى: ليس لهذه النفس من غير الله ناصر ينصرها ولا شفيع يدفع عنها، ومهما قدمت من فداء فلن يقبل منها، فالمراد بالعدل هنا الفداء فهو كقوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ.
قال الإمام الرازي: والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة فلا ولى يتولى دفع ذلك المحذور عنها، ولا شفيع يشفع فيها، ولا فدية تقبل منها ليحصل الخلاص بسبب قبولها، حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع. فإذا كانت وجوه الخلاص هي الثلاثة في الدنيا وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والاستسلام فليس لها البتة دافع من عذاب الله، وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصى الله» «1» .
ثم بين- سبحانه- عاقبة أولئك الغافلين فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
أى: أولئك الذين أسلموا للهلاك بسبب ما اكتسبوه في الدنيا من أعمال قبيحة لهم شراب من حميم أى من ماء قد بلغ النهاية في الحرارة يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم، ولهم فوق ذلك عذاب مؤلم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ثم ساق القرآن صورة منفرة للشرك والمشركين تدعو المؤمنين إلى أن يزدادوا إيمانا على إيمانهم فقال- تعالى-: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا.
قال ابن كثير: قال السدى: قال المشركون للمؤمنين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله- عز وجل- قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا «2» .
والمعنى: قل يا محمد أو أيها العاقل لهؤلاء المشركين الذين يحاولون رد المسلمين عن الإسلام، قل لهم: أنعبد من دون الله مالا يقدر على نفعنا إن دعوناه ولا على ضرنا إن تركناه
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 65.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 145.(5/103)
وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أى نرجع إلى الشرك الذي كنا فيه، بعد أن هدانا الله إلى الإسلام وأنقذنا من الكفر والضلال. يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها: قد رد على عقبيه.
والاستفهام في الآية الكريمة للإنكار والنفي، وجيء بنون المتكلم ومعه غيره، لأن الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلهم.
والمراد بما لا ينفع ولا يضر: تلك الأصنام فإنها مشاهد عدم نفعها وعجزها عن الضر، ولو كانت تستطيع الضر لأضرت بالمسلمين لأنهم خلعوا عبادتها، وسفهوا أتباعها، وأعلنوا حقارتها.
وجملة وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا معطوفة على نَدْعُوا و «على» داخلة في حيز الإنكار والنفي.
والتعبير عن الشرك بالرد على الأعقاب لزيادة تقبيحه بتصويره ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى أن الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر، ومن المستحيل أن يرجع إليها من ذاق حلاوة الإيمان.
وحرف عَلى في قوله وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا للاستعلاء، أى رجع على طريق هي جهة عقبه أى مؤخر قدمه كما يقال: رجع وراءه ثم استعمل هذا التعبير في التمثيل للتلبس بحالة ذميمة كان قد فارقها صاحبها ثم عاد إليها وتلبس بها.
وفي الحديث الشريف «اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم» .
ثم ساق القرآن صورة مؤثرة دقيقة للضلالة والحيرة التي تناسب من يشرك بعد التوحيد فقال: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا.
اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ أى استغوته وزينت هواه ودعته إليه، والعرب تقول: استهوته الشياطين، لمن اختطف الجن عقله فسيرته كما تريد دون أن يعرف له وجهة في الأرض.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أتريدون منا أن نعود إلى الكفر بعد أن نجانا الله منه فيكون مثلنا كمثل الذي ذهبت به مردة الشياطين فألقته في صحراء مقفرة وتركته تائها ضالا عن الطريق القويم ولا يدرى ماذا يصنع وله أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم قائلين له: ائتنا لكي تنجو من الهلاك ولكنه لحيرته وضلاله لا يجيبهم ولا يأتيهم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «إن مثل من يكفر بالله بعد إيمانه كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم ويقولون: ائتنا فإنا على الطريق فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من(5/104)
يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام» «1» .
ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على الكفار بما يخرس ألسنتهم فقال:
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن هدى الله الذي أرسلت به رسله هو الهدى وحده وما وراءه ضلال وخذلان، وأمرنا لنسلم وجوهنا لله رب العالمين.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فما محل الكاف في قوله «كالذي استهوته» قلت:
النصب على الحال من الضمير في نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أى: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت ما معنى اسْتَهْوَتْهُ؟ قلت هو استفعال من هوى في الأرض أى ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه، فإن قلت: فما محل أمرنا؟ قلت: النصب عطفا على محل قوله: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى على أنهما مقولان كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم «2» .
وقوله وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ معطوف على محل لِنُسْلِمَ كأنه قيل أمرنا لنسلم وأمرنا أيضا بإقامة الصلاة والاتقاء.
وفي تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع وعطفها على الأمر بالإسلام، وقرنها بالأمر بالتقوى دليل على تفخيم أمرها وعظمة شأنها.
وقوله وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جملة مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر من الأمور الثلاثة، أى: هو الذي تعودون إليه يوم القيامة للحساب لا إلى غيره.
وقوله وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ معطوف على قوله وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
قال الآلوسى: «ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما- أيضا- وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات.
وقوله «بالحق» متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل «خلق» أى: قائما بالحق، وجوز أن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أى: خلقا متلبسا بالحق» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 145.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 37.(5/105)
والحق في الأصل مصدر حق إذا ثبت، ثم صار اسما للأمر الثابت الذي لا ينكر، وهو ضد الباطل.
وقوله وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أى: وقضاؤه المعروف بالحقيقة كائن، حين يقول- سبحانه- لشيء من الأشياء «كن فيكون» ذلك الشيء ويحدث.
ويَوْمَ خبر مقدم، وقَوْلُهُ مبتدأ مؤخر، والْحَقُّ صفته.
والجملة الكريمة بيان لقدرته- تعالى- على حشر المخلوقات بكون مراده لا يتخلف عن أمره، وإن قوله هو النافذ وأمره هو الواقع قال- تعالى- إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وفي قوله قَوْلُهُ الْحَقُّ صيغة قصر للمبالغة أى: هو الحق الكامل، لأن أقوال غيره وإن كان فيها كثير من الحق فهي معرضة للخطأ وما كان فيها غير معرض للخطأ فهو من وحى الله أو من نعمته بالعقل والإصابة للحق.
وقوله وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أى: أن الملك لله تعالى وحده في ذلك اليوم فلا ملك لأحد سواه.
قال أبو السعود: «وتقييد اختصاص الملك له- تعالى- بذلك اليوم مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات لغاية ظهور ذلك بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للملكية المجازية في الجملة، فهو كقوله- تعالى- لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ.
المراد «بالصور» القرن الذي ينفخ فيه الملك نفخة الصعق والموت، ونفخة البعث والنشور والله أعلم بحقيقته.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: إن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال:
«قرن ينفخ فيه» رواه أبو داود والترمذي والحاكم عنه أيضا.
وقيل المراد بالصور هنا جمع صورة والمراد بها الأبدان أى: يوم ينفخ في صور الموجودات فتعود إلى الحياة.
ثم ختمت الآية بما يدل على سعة علم الله- تعالى- وعظم إتقانه في صنعه فقال- تعالى-: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
الغيب. ما غاب عن الناس فلم يدركوه. الشهادة: ضد الغيب وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصلون إلى علمها.(5/106)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
وصفة الْحَكِيمُ تجمع إتقان الصنع فدل على عظم القدرة مع تعلق العلم بالمصنوعات.
وصفة الْخَبِيرُ تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيها.
أى: فهو- سبحانه- وحده العالم بأحوال جميع الموجودات ما غاب منها وما هو مشاهد، وهو ذو الحكمة في جميع أفعاله والعالم بالأمور الجلية والخفية.
وبعد أن ساق القرآن ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وسعة علمه وقدرته أخذ في التدليل على بطلان الشرك وإثبات التوحيد عن طريق القصة، فحكى لنا جانبا مما قاله إبراهيم لأبيه وقومه فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
والمعنى: واذكر يا محمد وذكر قومك ليعتبروا ويتعظوا وقت أن قال إبراهيم لأبيه آزر منكرا عليه عبادة الأصنام أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً تعبدها من دون الله الذي خلقك فسواك فعدلك إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ الذين يتبعونك في عبادتها في ضلال مبين، أى في انحراف ظاهر بين عن الطريق المستقيم.(5/107)
قال الآلوسى: (وآزر بزنة آدم علم أعجمى لأبى إبراهيم- عليه السلام- وكان من قرية من سواد الكوفة، وهو بدل من إبراهيم أو عطف بيان عليه، وقيل: إنه لقب لأبى إبراهيم واسمه الحقيقي تارح وأن آزر لقبه، وقيل هو اسم جده ومنهم من قال اسم عمه، والعم والجد يسميان أبا مجازا) «1» .
والاستفهام في قوله أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً للإنكار. والتعبير بقوله أَتَتَّخِذُ الذي هو افتعال من الأخذ، فيه إشارة بأن عبادته هو وقومه لها شيء مصطنع، والأصنام ليست أهلا للألوهية، وفي ذلك ما فيه من التعريض بسخافة عقولهم، وسوء تفكيرهم.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أن ضلال أبيه وقومه صار كالشىء المشاهد لوضوحه، وعليه فقوله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في موضع المفعول.
ويجوز أن تكون الرؤية علمية وعليه فقوله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في موضع المفعول الثاني.
ووصف الضلال بأنه مبين يدل على شدة فساد عقولهم حيث لم يتفطنوا لضلالهم مع أنه كالمشاهد المرئي.
قال الشيخ القاسمى: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين لا سيما للأقارب، فإن من كان أقرب فهو أهم، ولهذا قال- تعالى- وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وقال- تعالى-: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وقال صلى الله عليه وسلم «أبدأ بنفسك ثم بمن تعول» ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعلى وخديجة وزيد وكانوا معه في الدار فآمنوا وسبقوا، ثم بسائر قريش، ثم بالعرب، ثم بالموالي، وبدأ إبراهيم بأبيه ثم بقومه، وتدل هذه الآية- أيضا- على أن النصيحة في الدين، والذم والتوبيخ لأجله ليس من العقوق، وقد ثبت في الصحيح عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة «وعلى وجه آزر قترة وغبرة» فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم:
يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأى خزي أخزى من أبى الأبعد؟ فيقول الله- تعالى- «إنى حرمت الجنة على الكافرين» .
ثم قال الشيخ القاسمى: والآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا، وأن آزر عم إبراهيم لا أبوه، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ومثله لا يجزم به من غير نقل» «2» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 149.
(2) تفسير القاسمى ج 6 ص 3368.(5/108)
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر نعمه على خليله إبراهيم فقال- تعالى- وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.
أى: وكما أرينا إبراهيم الحق في خلاف ما عليه أبوه وقومه من الشرك، نريه- أيضا- مظاهر ربوبيتنا، ومالكيتنا للسموات والأرض، ونطلعه على حقائقها. ليزداد إيمانا على إيمانه وليكون من العالمين علما كاملا لا يقبل الشك بأنه على الحق وأن مخالفيه على الباطل.
والرؤية هنا المقصود بها الانكشاف والمعرفة. فتشمل المبصرات والمعقولات التي يستدل بها على الحق.
وإنما قال نُرِي إِبْراهِيمَ بصيغة المضارع، مع أن الظاهر أن يقول «أريناه» لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته- تعالى- في ذلك الملكوت العظيم.
والملكوت: مصدر كالرغبوت والرحموت والجبروت، وزيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة، والمراد به الملك العظيم وهو مختص بملكه- تعالى- كما قال الراغب في مفرداته.
ثم بين- سبحانه- ثمار تلك الإراءة التي أكرم بها نبيه إبراهيم فقال: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي.
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ: أى ستره بظلامه وتغشاه بظلمته، وأصل الجن: الستر عن الحاسة.
يقال: جنه الليل وجن عليه يجن جنا وجنونا، ومنه الجن والجنة- بالكسر- والجنة- بالفتح- وهي البستان الذي يستر بأشجاره الأرض.
والمعنى: فلما ستر الليل بظلامه إبراهيم رأى كوكبا قال هذا ربي، قال ذلك على سبيل الفرض وإرخاء العنان، مجاراة مع عباد الأصنام والكواكب ليكر عليه بالإبطال، ويثبت أن الرب لا يجوز عليه التغيير والانتقال.
قال صاحب الكشاف: «كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال. ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها. لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.
وقول إبراهيم هذا رَبِّي قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما روى غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة «1» .
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 76.(5/109)
وجملة قالَ هذا رَبِّي مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن مضمون جملة «رأى كوكبا» وهو أن يسأل سائل: فماذا كان منه عند ما رآه، فيكون قوله: قالَ هذا رَبِّي جوابا لذلك.
وقوله فَلَمَّا أَفَلَ أى: غاب وغرب: يقال أفل الشيء يأفل أفلا وأفولا أى: غاب.
وقوله قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أى: لا أحب عبادة الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال، لأن الأفول غياب وابتعاد، وشأن الإله الحق أن يكون دائم المراقبة لتدبير أمر عباده.
وجاء بالآفلين بصيغة جمع المذكر المختص بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أن الكواكب عاقلة متصرفة في الأكوان.
ثم بين- سبحانه- حالة ثانية من الحالات التي برهن بها إبراهيم على وحدانية الله فقال- تعالى-: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي أى: فلما رأى إبراهيم القمر مبتدئا في الطلوع، منتشرا ضوؤه من وراء الأفق قال هذا ربي.
وبازغا: مأخوذ من البزوع وهو الطلوع والظهور. يقال: بزغ الناب بزوغا إذا طلع.
فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.
أى: فلما أفل القمر كما أفل الكوكب من قبله قال مسمعا من حوله من قومه: لئن لم يهدني ربي إلى جناب الحق وإلى الطريق القويم الذي يرتضيه لأكونن من القوم الضالين عن الصراط المستقيم، لأن هذا القمر الذي يعتوره الأفول- أيضا- لا يصلح أن يكون إلها.
وفي قول إبراهيم لقومه هذا القول تنبيه لهم لمعرفة الرب الحق وأنه واحد وأن الكواكب والقمر كليهما لا يستحقان الألوهية. وفي هذا تهيئة لنفوس قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له ربا غير الكواكب. ثم عرض بقومه بأنهم ضالون، لأن قوله «لأكونن من القوم الضالين» يدخل على نفوسهم الشك في معتقدهم أنه لون من الضلال.
وإنما استدل على بطلان كون القمر إلها بعد أفوله، ولم يستدل على بطلان ذلك بمجرد ظهوره مع أن أفوله محقق، لأنه أراد أن يقيم استدلاله على المشاهدة لأنها أقوى وأقطع لحجة الخصم.
ثم حكى القرآن الحالة الثالثة والأخيرة التي استدل بها إبراهيم على بطلان الشرك فقال- تعالى- فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ أى: فلما رأى إبراهيم الشمس مبتدئة في الطلوع وقد عم نورها الآفاق، قال مشيرا إليها هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ أى: أكبر الكواكب جرما وأعظمها قوة، فهو أولى بالألوهية ان كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية.(5/110)
فقوله هذا أَكْبَرُ تأكيد لما رامه من إظهار النصفة للقوم، ومبالغة في تلك المجاراة الظاهرة لهم، وتمهيد قوى لإقامة الحجة البالغة عليهم، واستدراج لهم إلى ما يريد أن يلقيه على مسامعهم بعد ذلك.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما وجه التذكير في قوله هذا رَبِّي والإشارة للشمس؟
قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك ومن كانت أمك، وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله علام ولم يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث «1» .
وقوله فَلَمَّا أَفَلَتْ قال: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أى فلما غابت الشمس واحتجب ضوؤها، جاهر إبراهيم قومه بالنتيجة التي يريد الوصول إليها فقال: يا قوم إنى برىء من عبادة الأجرام المتغيرة التي يغشاها الأفول، وبرىء من إشراككم مع الله آلهة أخرى.
قال الآلوسى: وإنما احتج- عليه السلام- بالأفول دون البزوغ مع أنه انتقال، لأن الأفول متعدد الدلالة أيضا إذ هو انتقال مع احتجاب ولا كذلك البزوغ، ولأن دلالة الأفول على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول «2» .
هذا والمتأمل في هذه الحالات الثلاث يرى أن إبراهيم- عليه السلام- قد سلك مع قومه أحكم الطرق في الاستدلال على وحدانية الله، فقد ترقى معهم وهو يأخذ بيدهم إلى النتيجة التي يريدها بأسلوب يقنع العقول السليمة، ورحم الله صاحب الانتصاف فقد بين ذلك بقوله: «والتعريض بضلالهم ثانيا أى في قوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ أصرح وأقوى من قوله أولا لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وإنما ترقى إلى ذلك، لأن الخصوم قد أقام عليهم بالاستدلال الأول حجة، فأنسوا بالقدح في معتقدهم، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض- صلوات الله عليه- بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة، وتبلج الحق، وبلغ من الظهور غاية المقصود «3» .
ثم ختم إبراهيم هذا الترقي في الاستدلال على وحدانية الله بقوله- كما حكى القرآن
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 41.
(2) تفسير الآلوسى ج 2 ص 22.
(3) الإنصاف على الكشاف لأحمد بن المنير ج 2 ص 40.(5/111)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
عنه-: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً أى: إنى صرفت وجهى وقلبي في المحبة والعبادة لله الذي أوجد وأنشأ السموات والأرض على غير مثال سابق.
ومعنى حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائفة كلها إلى الدين الحق، وهو- أى حنيفا- حال من ضمير المتكلم في وَجَّهْتُ.
وقوله وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أى: وما أنا من الذين يشركون مع الله آلهة أخرى لا في أقوالهم ولا في أفعالهم. وقد أفادت هذه الجملة التأكيد لجملة إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ.. إلخ.
وبذلك يكون إبراهيم- عليه السلام- قد أقام الأدلة الحكيمة والبراهين الساطعة على وحدانية الله- تعالى- وسفه المعبودات الباطلة وعابديها.
ثم بين- سبحانه- بعض ما دار بين إبراهيم وبين قومه من مجادلات ومخاصمات فقال:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 82]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
المحاجة: المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة، والحجة الدلالة المبينة للمحجة أى: المقصد المستقيم- كما قال الراغب- وتطلق الحجة على كل ما يدلى به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه.
فمعنى وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أى: جادلوه وخاصموه أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة(5/112)
بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد، وأخرى بالتهديد والتخويف، فقد حكى القرآن أنهم قالوا له عند ما نهاهم عن عبادة الأصنام وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ.
وقد رد عليهم إبراهيم ردا قويا جريئا فقال لهم: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ أى أتجادلونني في شأنه- تعالى- وفي أدلة وحدانيته، والحال أنه- سبحانه- قد هداني إلى الدين الحق وإلى إقامة الدليل عليكم بأنه هو المستحق للعبادة.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ وتيئيسهم من رجوعه إلى معتقداتهم.
وجملة وَقَدْ هَدانِ حال مؤكدة للإنكار أى لا جدوى من محاجتكم إياى بعد أن هداني الله إلى الطريق المستقيم، وجعلني من المبغضين للأصنام المحتقرين لها.
ثم صارحهم بأنه لا يخشى أصنامهم ولا يقيم لها وزنا فقال: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أى لا أخاف معبوداتكم لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع. ويبدو أن قومه كانوا قد خوفوه بطش أصنامهم وقالوا له كما قالت قبيلة عاد لنبيها هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ فرد عليهم إبراهيم هذا الرد القوى الصريح.
وقوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً استثناء مما قبله أى: لا أخاف معبوداتكم في جميع الأوقات إلا وقت مشيئة ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها بأن يسقط على صنم يشجنى، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئة لا بقدرة أصنامكم أو مشيئتها، وعلى هذا التفسير الذي ذهب إليه صاحب الكشاف يكون الاستثناء متصلا.
ويرى ابن عطية وغيره أن الاستثناء منقطع على معنى: لا أخاف معبوداتكم ولكن أخاف أن يشاء ربي خوفي مما أشركتم به.
وهذه الجملة الكريمة تدل على سمو أدب إبراهيم- عليه السلام- مع ربه، وعلى نهاية استسلامه لمشيئته، فمع أنه مؤمن بخالقه كل الإيمان وكافر بتلك الآلهة كل الكفران، إلا أنه ترك الأمر كله لمشيئة الله، وعلق مستقبله على ما يريد الله فيه.
وقوله وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أى: أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به، فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال ما يخفيني من جهة تلك المعبودات الباطلة لسبب من الأسباب.
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا فكأن قومه قد قالوا: كيف يشاء ربك شيئا تخافه فكان جوابه عليهم: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فأنا وإن كنت عبده وناصره إلا أنه أعلم بإلحاق الضر أو النفع بمن يشاء من عباده.
وعِلْماً منصوب على التمييز المحول عن الفاعل، إذ الأصل في هذا التعبير «أن يقال:(5/113)
وسع علم ربي كل شيء، ولكن عدل به عن هذا النسق، وأسند الفعل فيه إلى الله لا إلى علمه، وجعل لفظ العلم تمييزا لا فاعلا ليكون الوسع والإحاطة والشمول لله، فيخلع التعبير ظلا أشمل وأفخم وأعمق وقعا في النفس.
وقوله أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أى تعرضون أيها الغافلون عن التأمل والتذكير بعد أن أوضحت لكم بما لا يقبل مجالا للشك أن الله وحده هو المستحق للعبادة وأن هذه المعبودات التي سواه لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
فالاستفهام للإنكار والتوبيخ لعدم تذكرهم مع وضوح الدلائل.
وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول ولا يتوقف إلا على التذكير.
ثم حكى القرآن عن إبراهيم- عليه السلام- أنه بعد أن صارح قومه بأنه لا يخشى آلهتهم، أخذ في التهكم بهم والتعجب من شأنهم لأنهم يخوفونه مما لا يخيف فقال: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً.
أى: كيف ساغ لكم أن تظنوا أنى أخاف معبوداتكم الباطلة وهي مأمونة الخوف لأنها لا تضر ولا تنفع، وأنتم لا تخافون إشراككم بالله خالقكم دون أن يكون معكم على هذا الإشراك حجة أو برهان من العقل أو النقل.
فالاستفهام للإنكار التعجبي من إنكارهم عليه الأمن في موضع الأمن، وعدم إنكارهم على أنفسهم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهوالها وهو إشراكهم بالله.
قال بعض العلماء: وجملة وَكَيْفَ أَخافُ.. إلخ. معطوفة على جملة وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ليبين لهم أن عدم خوفه من آلهتهم أقل عجبا من عدم خوفهم من الله، وهذا يؤذن بأن قومه كانوا يعرفون الله وأنهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتج عليهم بأنهم أشركوا بربهم المعترف به دون أن ينزل عليهم سلطانا بذلك «1» .
وقال الآلوسى: وقوله وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ استئناف- كما قال شيخ الإسلام- مسوق لنفى الخوف عنه- عليه السلام- بحسب زعم الكفر بالطريق الإلزامى بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر، وفي توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال: أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية، فإذا انتفت جميع كيفياته فقد انتفى من جميع الجهات بالطريق البرهاني» «2» .
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد عاشور ج 7 ص 330.
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 206. [.....](5/114)
وما في قوله ما أَشْرَكْتُمْ موصولة والعائد محذوف أى: ما أشرككم به، ثم ركب- عليه السلام- على هذا الإنكار التعجبي ما هو نتيجة له فقال: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أى: فأى الفريقين فريق الموحدين أم فريق المشركين أحق وأولى بالأمن من لحوق الضرر به، إن كنتم تعلمون ذلك فأخبرونى به وأظهروه بالدلائل والحجج. فجواب الشرط محذوف تقديره أخبرونى بذلك.
وهذا لون من إلجائهم إلى الاعتراف بالحق إن كانوا ممن يعقل أو يسمع، وحث لهم على الإجابة.
قال صاحب المنار: «ونكتة عدوله عن قوله «فأينا أحق بالأمن» إلى قوله «فأى الفريقين» هي بيان أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك من حيث إن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك، لا خاصة به وبهم، فهي متضمنة لعلة الأمن. وقيل إن نكتته الاحتراز عن تزكية النفس، واسم التفضيل على غير بابه، فالمراد أينا حقيق بالأمن، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقا في استنزالهم عن منتهى الباطل وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن وأنه الحقيق بالخوف إلى الوسط النظري بين الأمرين وهو أى الفريقين أحق، واحترازا عن تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله كله» «1» .
ثم بين- سبحانه- من هو الفريق الأحق بالأمن فقال- تعالى-:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ أى: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بأى لون من ألوان الشرك كما يفعله فريق المشركين حيث إنهم عبدوا الأصنام وزعموا أنهم ما عبدوها إلا ليتقربوا بها إلى الله زلفى، أولئك المؤمنون الصادقون لهم الأمن دون غيرهم لأنهم مهتدون إلى الحق وغيرهم في ضلال مبين.
هذا وقد وردت أحاديث صحيحة فسرت الظلم في هذه الآية بالشرك، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عبد اللَّه بن مسعود قال: لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال الصحابة: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله: فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إنما هو الشرك» .
__________
(1) تفسير المنار ج 7 ص 279.(5/115)
قال الإمام الرازي: والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفى الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات فوجب حمل الظلم ها هنا على ذلك» «1» .
وقد فسر الزمخشري في كشافه الظلم بالمعصية فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس «2» . أى: لأن لبس الإيمان بالشرك أى خلطه به مما لا يتصور لأنهما ضدان لا يجتمعان في رأى الزمخشري.
قال الشيخ القاسمى: وفهم الزمخشري هذا مدفوع بأنه يلابسه، لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب لجواز أن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته لما في قوله- تعالى-: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر، فلا يلزم من لبس الإيمان بالكفر الجمع بينهما، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك، بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا، أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر، ثم الإيمان ثم الكفر مرارا» «3» .
وقال صاحب الانتصاف: «وإنما يروم الزمخشري بذلك تنزيل الآية على معتقده في وجوب وعيد العصاة وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت وهم آمنون من الخلود، وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما» «4» .
والذي نراه أنه مادام قد ورد عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قد فسر الظلم في الآية بالشرك فيجب أن نسلم به وأن نعض عليه بالنواجذ، واجتهاد الزمخشري هنا- لتأييد مذهبه- مجانب للصواب، لأنه لا اجتهاد مع النص. لا سيما وأن حديث عبد الله بن مسعود المتقدم قد خرجه الشيخان وغيرهما من أعلام السنة.
ثم بين- سبحانه- مظاهر فضله على نبيه إبراهيم- فقال- تعالى:
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 82.
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 42.
(3) تفسير القاسمى ج 6 ص 2209.
(4) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج 2 ص 42.(5/116)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 83 الى 90]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما حكى عن إبراهيم- عليه السلام- أنه أظهر حجة الله في التوحيد ونصرها، وذب عنها، عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه.
فأولها: قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها، وأوقفنا عقله على حقيقتها.(5/117)
وثانيها: أنه- تعالى- خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية وهي قوله نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ.
وثالثها: أنه جعله عزيزا في الدنيا وذلك لأنه- تعالى- جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك «1» .
والإشارة في قوله- تعالى- وَتِلْكَ حُجَّتُنا إلى جميع ما تكلم به إبراهيم في مجادلة قومه في شأن وحدانية الله وبطلان الشرك.
وأضاف- سبحانه- الحجة إليه مع ذكر اللفظ الدال على العظمة وهو «نا» تنويها بشأنها وتفخيما لأمرها، والمراد بالحجة جنسها لا فرد من أفرادها.
أى: وتلك الحجة التي لا يمكن نقضها أو مغالبتها في إثبات الحق وتزييف الباطل أعطيناها إبراهيم ليكون مستعليا بها على قومه، قاطعا لألسنتهم عن المجادلة والمخاصمة.
وجملة آتَيْناها في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة.
وقوله عَلى قَوْمِهِ متعلق «بحجتنا» إن جعل خبرا لتلك، وبمحذوف إن جعل بدله. أى:
آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين لتكون الغلبة عليهم.
وقوله نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ أى نرفع من شئنا من عبادنا درجات عالية من العلم والحكمة.
والدرجات في الأصل تطلق على مراقى السلم. والمراد بها هنا المراتب المعنوية في الخير على سبيل التمثيل، فقد شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقى في سلم إذا ارتفع من درجة إلى درجة.
والجملة مستأنفة على سبيل التقرير لما قبلها، وقيل هي حال من فاعل آتينا أى حال كوننا رافعين.
ومفعول المشيئة محذوف. أى: من نشاء رفعه على حسب ما تقتضيه حكمتنا. وقد دل قوله مَنْ نَشاءُ على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.
وقوله- تعالى- إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله، أى: إن ربك الذي
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 82.(5/118)
خلقك فسواك فعدلك حَكِيمٌ في كل ما يفعل من رفع هذا وخفض ذاك، عَلِيمٌ كل العلم بحال خلقه وسياسة عباده.
قال الإمام الرازي: واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية لا في الصفات الجسمانية، والدليل على ذلك أن الله- تعالى- قال وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ثم قال بعده نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة وهذا يقتضى أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة واطلاعها على إشراقها اقتضى ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالى العالم الروحاني، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات» «1» .
وقوله: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا أى: ووهبنا لإبراهيم فضلا منا وكرما وعوضا عن قومه لما اعتزلهم إسحاق وهو ولده من زوجه سارة، ويعقوب وهو ابن إسحاق لتقر عينه ببقاء عقبه إذ في رؤية أبناء الأبناء سرور للنفس، وراحة للفؤاد.
وقوله كُلًّا هَدَيْنا أى: كلا من إسحاق ويعقوب هديناه الهداية الكبرى بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة.
ولفظ كُلًّا مفعول لما بعده وقدم لإفادة اختصاص كل منهما بالهداية على سبيل الاستقلال والتنويه بشأنهما.
وقوله: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ أى: وهدينا نوحا من قبل إبراهيم إلى مثل ما هدينا إليه إبراهيم وذريته من النبوة والحكمة.
وهذا لون آخر من تشريف إبراهيم حيث أنه من نسل نوح الذي وصفه الله بالهداية، ولا شك أن شرف الآباء يسرى على الأبناء.
وقال ابن كثير، «وكل منهما له خصوصية عظيمة. أما نوح فإن الله لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم فلم يبعث الله بعده نبيا إلا من ذريته كما قال- تعالى- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ «2» .
ثم قال- تعالى- وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 83.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 104.(5/119)
الضمير في قوله- تعالى- وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ يرى ابن جرير وغيره أنه يعود إلى نوح لأنه أقرب مذكور.
ويرى جمهور المفسرين أنه يعود على إبراهيم لأن الكلام في شأنه وفي شأن النعم التي منحها الله إياه.
وقد ذكر الله في هذه الآيات أربعة عشر نبيا وهم:
1- داود بن يسى من سبط يهوذا من بنى إسرائيل وكانت ولادته في بيت لحم سنة 1085 ق. م تقريبا وهو الذي قتل جالوت كما جاء في القرآن الكريم وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وكانت وفاته سنة 1000 ق م تقريبا.
2- سليمان بن داود- عليهما السلام- ولد بأورشليم حوالى سنة 1043 ق. م. وتوفى سنة 975 ق. م. وقد جاء ذكر داود وسليمان في كثير من آيات القرآن الكريم، ومن ذلك قوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
3- أيوب، قال ابن جرير: هو ابن موصى بن روم بن عيص بن إسحاق، وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة.
4- يوسف وهو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليه السلام- وكانت ولادته قبل ميلاد عيسى- عليه السلام- بألفى سنة تقريبا.
5- موسى وهو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوى بن يعقوب وكانت ولادته حوالى القرن الرابع عشر ق. م.
6- هارون وهو أخو موسى لأمه وقيل لأبيه وأمه، وقيل مات قبيل موسى بزمن يسير.
7- زكريا وهو ابن أزن بن بركيا ويتصل نسبه بسليمان- عليه السلام- وكان قريب العهد بعيسى حيث تولى كفالة أمه مريم كما جاء في القرآن الكريم وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا.
8- يحيى وهو ابن زكريا.
9- عيسى وهو ابن مريم. قال ابن كثير. وفي ذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم.
10- الياس وهو ابن فنحاص بن العيزار بن هارون أخى موسى وهو المعروف في كتب الإسرائيليين باسم «إيليا» وقد أرسله الله إلى بنى إسرائيل حين عبدوا الأوثان قال- تعالى- وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ.(5/120)
ويقال إنه كان موجودا في زمن الملك «آحاب» ملك بنى إسرائيل في حوالى سنة 918 ق م.
11- إسماعيل وهو الابن الأكبر لإبراهيم- عليهما السلام- وجد محمد صلى الله عليه وسلم.
12- اليسع وهو ابن شافاط وكانت وفاته حوالى سنة 840 ق م ودفن بالسامرة.
13- يونس وهو ابن متى أرسله الله إلى أهل نينوى من بلاد آشور في حوالى القرن الثامن ق م.
14- لوط وهو ابن هاران بن تارح فهو ابن أخى إبراهيم وكانت رسالته إلى أهل سدوم من شرق الأردن.
وقوله وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أى: وكل واحد من هؤلاء الأنبياء المذكورين لا بعضهم دون بعض فضلناه بالنبوة على العالمين من أهل عصره.
قال الجمل: اعلم أن الله- تعالى- ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من غير ترتيب لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل لأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب وهي أن الله- تعالى- خص كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء وإليهم يرجع حسبهم جميعا. ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان وقد أعطى الله من ذلك داود وسليمان حظا وافرا. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد وقد خص الله بهذه أيوب. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما وهو يوسف فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء كثرة المعجزات وقوة البراهين وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر، ومن المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ثم ذكر الله بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة كان هذا الترتيب حسنا والله أعلم بمراده وأسرار كتابه «1» » .
ومن المعروف أن الأنبياء الذين يجب الإيمان بهم على التفصيل خمسة وعشرون نبيا. وهم هؤلاء الثماني عشرة الذين ذكروا في هذه الآيات، يضاف إليهم سبعة نظمهم الناظم في قوله:
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد علموا
في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس، هود، شعيب، صالح وكذا ... ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 59.(5/121)
ثم ذكر- سبحانه- فضائل من يتصل بهؤلاء الأنبياء الكرام فقال:
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ أى: ومن آباء هؤلاء الأنبياء وذرياتهم وإخوانهم من هديناه إلى الطريق المستقيم فمن هنا للتبعيض.
والجملة معطوفة على كلًّا أى: كلا من هؤلاء الأنبياء فضلنا، وفضلنا بعض آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وهديناه.
وجملة وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ معطوفة على فَضَّلْنا أى: فضلنا هؤلاء الأنبياء واخترناهم وهديناهم إلى الطريق الواضح. قال الراغب: «والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال- تعالى- فَاجْتَباهُ رَبُّهُ واجتباء العبد تخصيصه إياه بفيض إلهى يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى من العبد وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء» «1» .
وقوله: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أى: ذلك الهدى إلى صراط مستقيم الذي اهتدى إليه أولئك الأخيار هو هدى الله الذي يهدى به من يشاء هدايته من عباده وهم المستعدون لذلك.
وفي قوله: مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ من الإبهام ما يبعث النفوس على طلب هدى الله- تعالى- والتعرض لنفحاته.
وقوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى، ولو فرض أن أشرك بالله أولئك المهديون المختارون لبطل وسقط عنهم ثواب ما كانوا يعملونه من أعمال صالحة فكيف بغيرهم.
قال ابن كثير: في هذه الآية تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله- تعالى- وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ والشرط لا يقتضى جواز الوقوع، فهو كقوله، قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ وكقوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ «2» .
وقوله أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ اسم الإشارة فيه يعود إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشرة والمعطوفين عليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة.
__________
(1) مفردات القرآن ج 87 للراغب الأصفهاني.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 155.(5/122)
وقصر بعضهم عودته على الأنبياء فحسب وإليه ذهب ابن جرير والرازي أى: أولئك المصطفون الأخيار هم الذين آتيناهم الكتاب أى جنسه المتحقق في ضمن أى فرد كان من أفراد الكتب السماوية.
والمراد بإيتائه: التفهيم التام لما اشتمل عليه من حقائق وأحكام، وذلك أعم من أن يكون بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين.
والحكم أى: الحكمة وهي علم الكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام. أو الإصابة في القول والعمل. أو القضاء بين الناس بالحق.
والنُّبُوَّةَ أى: الرسالة.
وقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ أى: فإن يكفر بهذه الثلاث التي اجتمعت فيك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة، فلن يضرك كفرهم لأنا قد وفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين في وقت من الأوقات وإنما هم مستمرون على الإيمان بك والتصديق برسالتك وفي ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن دعوته.
والمراد بالقوم الذين وكلوا بالقيام بحق هذه الرسالة ووفقوا للإيمان بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار مطلقا، لأنهم هم الذين دافعوا عن دعوة الإسلام وبذلوا في سبيل إعلانهم نفوسهم وأموالهم، ويدخل معهم كل من سار على نهجهم في كل زمان ومكان.
وقيل: المراد بهم أهل المدينة من الأنصار. وقيل: المراد بهم الأنبياء المذكورون وأتباعهم، وقيل غير ذلك.
والذي نراه أن الرأى الأول أرجح لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم المقابلون لكفار قريش الذين كفروا بها.
وفي التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء ومراعاته، وإيذان بفخامة وعلو قدرها.
قال الإمام الرازي: «دلت هذه الآية على أن الله- تعالى- سينصر نبيه، ويقوى دينه، ويجعله مستعليا على كل من عاداه، قاهرا لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله عنه في هذا الموضع، فكان جاريا مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزا» «1» .
ثم قال- تعالى- أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أى: أولئك الأنبياء الذين
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 86.(5/123)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
ذكرناهم لك- يا محمد- هم الذين هديناهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم فبهداهم، أى:
فبطريقتهم في الإيمان بالله وفي تمسكهم بمكارم الأخلاق كن مقتديا ومتأسيا.
والمقصود إنما هو التأسى بهم في أصول الدين، أما الفروع القابلة للنسخ فإنهم يختلفون فيها ويجوز عدم الاقتداء بهم بالنسبة لها قال- تعالى- لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً.
وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه، ولما يقتضيه للتكرير من الاهتمام بالخبر. وفي قوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ تعريض بالمشركين إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا على سنة الرسل كلهم وأنه ما كان بدعا منهم، أما هم فقد اختلقوا لأنفسهم عبادات ما أنزل الله بها من سلطان.
ثم ختم الله- تعالى- هذا السياق بقوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أى: قل أيها الرسول الكريم لمن بعثت إليهم لا أطلب منكم على ما أدعوكم إليه من خير وما أبلغكم إياه من قرآن أجرا قليلا أو كثيرا.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ أى: ما هذا القرآن إلا تذكيرا وموعظة للناس أجمعين في كل زمان ومكان.
قال بعضهم: وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق.
وبعد أن بين- سبحانه- ما دار بين إبراهيم وقومه من مجالات تتعلق بإثبات وحدانية الله، وإبطال الشرك، وحكى جانبا من النعم التي أنعم بها على خليله وعلى كل من سار على نهجه، وأخبر بأن هذا القرآن ما هو إلا تذكير للعالمين وأن المذكر به- لا يريد منهم أجرا على تبليغه، بعد كل ذلك أخذ القرآن في الرد على منكري نزول الكتب السماوية وفي بيان عاقبتهم الوخيمة بسبب هذا الجحود فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 94]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)(5/124)
قوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ كلمة قَدَرُوا مأخوذة من القدر- بفتح فسكون-، وأصل القدر معرفة مقدار الشيء بالسبر والحزر، يقال:
قدر الشيء يقدره إذا سبره وحزره ليعرف مقداره، ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه.
والمعنى: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده وفي الرحمة بهم، بل أخلوا بحقوقه إخلالا عظيما، وضلوا ضلالا كبيرا، إذ أنكروا بعثة الرسل وإنزال الكتب، وقالوا تلك المقالة الشنعاء ما أنزل الله على بشر شيئا من الأشياء، قاصدين بهذا القول الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي أن القرآن من عند الله.
ولفظ حَقَّ منصوب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر، أى: قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يلزمهم بما يخرس ألسنتهم، وأن يرد على سلبهم العام(5/125)
بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم فقال- تعالى-: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين بأن الله ما أنزل على بشر شيئا من الأشياء: قل لهم من الذي أنزل التوراة وهو الكتاب الذي جاء به موسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أى: ضياء من ظلمة الجهالة وهداية تعصم من الأباطيل والضلالة.
وكلمة نُوراً حال من الضمير في به أو من الكتاب.
ثم بين- سبحانه- ما فعله الجاحدون بكتبه من تحريف وتغيير فقال: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً.
القراطيس: جمع قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق ونحوه.
أى: تجعلون هذا الكتاب الذي أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إظهار ما تريدون إظهاره منها، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم نفوسكم السقيمة وشهواتكم الأثيمة.
فالمراد من هذه الجملة الكريمة ذم المحرفين لكتب الله، وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع، الذي قصدوا من ورائه الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والتوصل إلى ما يبغونه من مطامع وأهواء.
وقوله وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أى: وعلمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف التي لا يرتاب عاقل في أنها تنزيل رباني.
وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.
أى: قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين: الله- تعالى- هو الذي أنزل الكتاب على موسى، ثم بعد هذا القول الفصل ذرهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يلعبون، وفي غيهم يعمهون حتى يأتيهم من الله اليقين.
وفي أمره صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهه على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.
وكان العطف بثم في قوله ثُمَّ ذَرْهُمْ للدلالة على الترتيب الرتبى أى: أنهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الأولى، وإنما كان الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.
هذا، وللمفسرين لهذه الآية قولان:
الأول: أنها مكية النزول تبعا للسورة، وأن الذين قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ(5/126)
مشركو مكة، وإنما ألزمهم الله بإنزال التوراة لأنهم كانوا يعرفون ذلك ولا ينكرون أن الله قد أنزلها على موسى.
قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: عنى بذلك وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم. فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر. وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى..) «1» .
وقد تابع ابن كثير رأى ابن جرير وقال: وهذا الرأى هو الأصح، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر كما قال- تعالى- أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وكذا قالوا هنا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «2» .
الثاني: أن هذه الآية مدنية النزول، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات منها مدنية كما نص عليه كثير من العلماء.
ومما يؤيد كون هذه الآية مدنية ما ورد من آثار في أسباب نزولها، ومن هذه الآثار ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: والله ما أنزل الله من السماء كتابا) فنزل قوله- تعالى- وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. إلخ وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير- مرسلا- قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» - وكان حبرا سمينا- فغضب وقال: (هل أنزل الله على بشر من شيء) فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية» .
والذي نراه أن الآية الكريمة تصلح للرد على الفريقين: فريق المشركين وفريق اليهود إلا أن سياقها يجعلنا نرجح أن الخطاب فيها موجه بالأصالة إلى اليهود وإلى غيرهم بالتبع، لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس أى أوراقا مفرقة ليظهروا منها ما يناسب أهواءهم وليخفوا منها ما فيه شهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ولأن هناك آثارا متعددة تثبت أنها نزلت في شأنهم.
وتوجيه الخطاب إلى اليهود لا يتنافى مع كونها مكية، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكي خطابا لغير اليهود.
__________
(1) تفسير ابن جرير ج 7 ص 178.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 156. [.....]
(3) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي هامش الجلالين ص 222.(5/127)
وبعد أن أبطل- سبحانه- بالدليل قول من قال «ما أنزل الله على بشر من شيء» أتبعه ببيان أن هذا القرآن من عند الله وأنه مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها فقال- تعالى-:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
والمعنى: وهذا القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى: كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا.
والمبارك اسم مفعول من باركه وبارك فيه، إذا جعل له البركة، ومعناها كثرة الخير ونماؤه.
وقدم هنا وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله «وهذا ذكر مبارك أنزلناه» لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك.
ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا، والثانية اسمية لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى: أن بركته ثابتة مستقرة.
قال الإمام الرازي: العلوم إما نظرية وإما عملية، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى في هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح، وإما أعمال القلب، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة» «1» .
وقوله مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التي قبله في إثبات التوحيد ونفى الشرك، وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.
وقوله: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أى: ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة، ومن حولها من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم قال- تعالى- وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال- تعالى- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل، وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة.
__________
(1) تفسير الرازي ج 4 ص 99.(5/128)
ووجه الاقتصار على مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم في قوله- تعالى- قبل ذلك وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ.
قال الآلوسى: ويمكن أن يقال خصهم بالذكر لأنهم الأحق بإنذاره صلى الله عليه وسلم فهو كقوله- تعالى-:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه» «1» .
وقال صاحب المنار «وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا، واستدلوا به على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بقومه العرب.
والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور، فإن إرساله إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم، وقد ثبت عموم بعثته صلى الله عليه وسلم من آيات أخرى كقوله- تعالى- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً «2» .
وقوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
أى: والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذي أنزله الله هداية ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، وحرص على العمل الصالح الذي ينفعه.
ثم ختمت الآية بهذا الثناء الجميل عليهم فقالت وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أى يؤدونها في أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها في خشوع واطمئنان، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطرا بعد الإيمان.
قال الإمام الرازي: «ويكفيها شرفا أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا عليها كما في قوله- تعالى- وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أى صلاتكم، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة، ففي الحديث الشريف «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام» «3» .
وبعد أن بين- سبحانه- مزايا هذا القرآن أتبع ذلك ببيان عاقبة الذين يفترون الكذب على الله- تعالى-، وصور أحوالهم عند النزع الأخير وعند ما يقفون أمام ربهم للحساب بصورة ترتجف لها الأفئدة فقال- تعالى-:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 212.
(2) تفسير المنار ج 7 ص 620.
(3) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 93.(5/129)
والمعنى لا أحد أشد ظلما ممن اختلق الكذب على الله فجعل له شركاء من خلقه، وأنكر ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من هدايات، وحلل وحرم بهواه ما لم يأذن به الله.
والاستفهام إنكارى فهو في معنى النفي. ومَنْ اسم موصول والمراد به الجنس. أى:
كل من افترى على الله كذبا، وليس المراد فردا معينا.
أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ أى: قال بأن الله أوحى إلى بالرسالة أو النبوة مع أنه كاذب في دعواه، فإن الله ما أوحى إليه شيئا، وهذا يصدق على ما ادعاه مسيلمة الكذاب والأسود العنسي من أنهما نبيان يوحى إليهما. ويصدق- أيضا- على كل مدع للوحى والنبوة في كل زمان ومكان.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على صلة مَنْ من عطف الخاص على العام، لأن هذا القول هو نوع من أنواع افتراء الكذب.
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أى: ولا أحد أظلم- أيضا- ممن قال بأنى قادر على أن أنزل قرآنا مثل الذي أنزله الله كالذين حكى القرآن عنهم قوله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد توعدت بأشد ألوان الوعيد كل مفتر على الله الكذب، وكل مدع أنه يوحى إليه شيء وكل من زعم أنه في قدرته أن يأتى بقرآن مثل هذا القرآن كما حدث من النضر بن الحارث وعبد الله بن سعد بن أبى سرح.
ثم بين- سبحانه- مصير كل ظالم أثيم فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ أى: ولو ترى أيها الرسول الكريم أو أيها العاقل حالة أولئك الظالمين وهم في غمرات الموت أى: في شدائده وكرباته وسكراته لرأيت شيئا فظيعا هائلا ترتعد منه الأبدان، فجواب الشرط محذوف.
والغمرات: جمع غمرة وهي الشدة. وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، يقال غمره الماء إذا علاه وستره ثم استعمل في الشدائد والمكاره.
وتقييد الرؤية بهذا الوقت لإفادة أنه ليس المراد مجرد الرؤية، بل المراد رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر.
وقوله وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أى والملائكة الموكلون بقبض أرواحهم باسطوا أيديهم إليهم بالإماتة والعذاب قائلين لهم على سبيل التوبيخ والزجر: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم.(5/130)
والأمر هنا للتعجيز أى: أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم إلى ذلك سبيلا.
قال الآلوسى: وذهب بعضهم إلى أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له: أخرج مالي عليك الساعة ولا أبرح مكاني حتى انتزعه منك «1» . وفي الكشاف: أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها» .
ولعل مما يؤيد قول ابن المنير في تعليقه على ما قال صاحب الكشاف ما جاء في آية أخرى وهي قوله- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ «2» .
وقوله: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ هذا القول من تتمة ما تقوله الملائكة لأولئك الظالمين.
أى: تقول لهم أخرجوا أنفسكم، اليوم تلقون عذاب الذل والهوان لا بظلم من الرحمن، وإنما بسبب أنكم كنتم في دنياكم تفترون على الله الكذب، وبسبب أنكم كنتم معرضين عن آياته، مستكبرين عنها ولا تتأملون فيها، ولا تعتبرون بها.
والمراد باليوم مطلق الزمن لا اليوم المتعارف عليه، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده.
والهون معناه: الهوان والذل، وفسره صاحب الكشاف، بالهوان الشديد وقال: «وإضافة العذاب إليه كقولك، رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه» «3» .
ثم صور- سبحانه- حالهم عند ما يعرضون للحساب فقال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أى: ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه في الدنيا من متاع، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التي زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 224.
(2) سورة الأنفال الآية 50.
(3) تفسير الكشاف ج 2 ص 47.(5/131)
وفرادى قيل هو جمع فرد، وفريد وقيل: هو اسم جمع لأن فردا لا يجمع على فرادى وقول من قال إنه جمع: أراد أنه جمع له في المعنى:
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة، بعد بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم.
وقوله: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأى العين.
أى: جئتمونا منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الدنيا، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة حفاة عراة. فالكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف.
روى الشيخان عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ «1» .
ورويا- أيضا- عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تحشرون حفاه عراة غرلا. قالت:
يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» «2» .
وروى الطبراني بسنده عن عائشة أنها قالت قرأت قول الله- تعالى- وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقالت: يا رسول الله وا سوأتاه! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض.
قوله: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ أى: تركتم ما أعطيناكم وملكناكم في الدنيا من أموال وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عند ما جئتمونا للحساب.
الخول: ما أعطاه الله لعباده من النعم: يقال: خوله الشيء تخويلا، ملكه إياه ومكنه منه.
ومنه التخول بمعنى التعهد.
والجملة الكريمة تتضمن توبيخهم، لأنهم لم يقدموا منه شيئا في دنياهم ليكون نافعا لهم في أخراهم، بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به في معادهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قوله- تعالى- وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وأخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق. باب كيف الحشر.(5/132)
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول ابن آدم: مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» «1» .
وقوله: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ تقريع وتوبيخ لهم على شركهم.
أى: ما نرى وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التي توهمتم أنهم شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم.
وقوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أى: لقد تقطع الاتصال الذي كان بينكم في الدنيا واضمحل.
ففاعل تَقَطَّعَ ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ شُرَكاءُ وبَيْنَكُمْ منصوب على الظرفية.
وقرئ بالرفع أى: لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل في الوصل وفي الفراق بالاشتراك والأصل لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به أى: تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات.
وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أى: وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء، ورجاء الأنداد والأصنام. كما قال- تعالى- إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ «2» .
وهكذا يسوق القرآن مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التي تهز النفوس، وتحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح.
وبعد أن ساق- سبحانه- ألوانا من الدلائل على وحدانيته، وعلى صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، شرع- سبحانه- في سرد مظاهر قدرته، وكمال علمه وحكمته عن طريق التأمل في هذا الكون العجيب، وفي بدائع مخلوقاته فقال- تعالى-:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق.
(2) سورة البقرة الآيتان: 166، 167.(5/133)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قوله: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى.
فالق: أى شاق، والفلق هو الشق وقيل، فالق بمعنى خالق وأنكر ابن جرير الطبري ذلك وقال: لا يعرف في كلام العرب فلق الشيء بمعنى خلق.
والحب. ما ليس له نوى كالحنطة والشعير.
والنوى: جمع نواة وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر وغيره.
والمعنى: إن الله وحده هو الذي يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي، ويشق النواة الصلبة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية، وفي ذلك أكبر دلالة على قدرة الله التي لا تحد وعلى أنه هو المستحق للعبادة لا غيره.(5/134)
هذا، وقد أفاض الإمام الرازي وهو يتحدث عن هذه الآية في بيان قدرة الله فقال ما ملخصه:
«إذا عرفت هذا فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله- تعالى- في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر، فالأول يخرج منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض ثم إن ها هنا عجائب.
فإحداها: أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض؟ فلما تولد منها الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى- علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين.
وثانيهما: أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوى فيه، ثم إنا نشاهد طراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة وبحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة. فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم.
ثم قال- رحمه الله- بعد كلام طويل: فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة، واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة والنواة» «1» .
وقوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أى: يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو كالنطفة والحبة.
والجملة الكريمة مستأنفة مبينة لما قبلها ولذلك ترك العطف، وقيل خبر ثان ولم يعطف لاستقلاله في الدلالة على عظمة الله- تعالى-.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 97.(5/135)
وقوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أى: مخرج الميت كالحب والنوى من النبات والبيضة والنطفة من الحيوان.
قال صاحب المنار: فإن قيل إن علماء المواليد يزعمون أن في كل أصول الأحياء حياة فكل ما ينبت من ذلك ذو حياة كامنة إذا عقم بالصناعة لا ينبت، قلنا: إن هذا اصطلاح لهم يسمون القوة أو الخاصية التي يكون بها الحب قابلا للإنبات حياة، ولكن هذا لا يصح في اللغة إلا بضرب من التجوز وإنما حقيقة الحياة في اللغة ما يكون به الجسم متغذيا ناميا بالفعل، وهذا أدنى مراتب الحياة عند العرب، ولها مراتب أخرى كالإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام، وهذا أعلى مراتب الحياة في المخلوق» «1» .
ونقل بعض المفسرين عن ابن عباس أن معنى الجملتين: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ومثله إخراج البار من الفاجر والصالح من الطالح والعالم من الجاهل وعكسه، وذلك بحمله الحياة والموت على المعنوي منها كما في قوله- تعالى- أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.
ويبدو لنا أن حمل الحياة والموت هنا على المعنى المعنوي لا يناسبه سياق الآيات التي معنا، لأنها تتحدث عن آثار قدرة الله المحسوسة ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ويتأمل كل ذي عقل في مظاهر قدرة الله في كونه يهتدى إلى طريق الحق والصواب.
وقوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معطوف على ما قبله وهو قوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لأنه إخبار بضد مضمونه وهو وضع آخر عجيب دال على كمال القدرة.
وجيء بجملة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فعليه لإرادة تصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع. وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائهما الفعل المضارع دون اسم الفاعل والماضي.
ويرى صاحب الكشاف أن قوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معطوف على فالِقُ لا على يُخْرِجُ لأنه بيان لفالق الحب والنوى.
قال- رحمه الله: فإن قلت: كيف قال وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بلفظ اسم الفاعل بعد قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ؟ قلت: عطفه على فالق الحب والنوى لا على الفعل، ويخرج الحي من الميت: موقعه موقع الجملة المبينة لقوله فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لأن فالق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت، لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله- تعالى- وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها «2» .
__________
(1) تفسير المنار ج 7 ص 631. [.....]
(2) تفسير الكشاف ج 2 ص 48.(5/136)
ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ الأفك- بفتح الهمزة- مصدر أفكه يأفكه من باب ضرب إذا صرفه عن مكان أو عن عمل، ويقال أفكت الأرض أفكا: أى صرف عنها المطر.
والإشارة بذلكم لزيادة التمييز، وللتعريض بغباوة المخاطبين والمشركين لغفلتهم عن هذه الدلالة على أنه هو المستحق للعبادة.
والمعنى: ذلكم المتصف بما ذكر من مقتضى الحكمة البالغة والقدرة النافذة هو الله خالق كل شيء فكيف تصرفون عن عبادة من يخلق إلى عبادة من لا يخلق، وتشركون معه من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؟.
قال الإمام الرازي: والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان، فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية بل لا بد أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم» «1» .
ثم بين- سبحانه- ألوانا أخرى من مظاهر قدرته وحكمته فقال: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً.
الإصباح: مصدر سمى به الصبح، أى: شاق ظلمة الصبح- وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الفجر المستطيل الكاذب- عن بياض النهار فيضيء الوجود، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده، ويجيء النهار بضيائه.
وجملة «فالق الإصباح» خبر لمبتدأ محذوف أى: هو فالق، أو خبر آخر لإنّ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً أى وجعل الليل محلا لسكون الخلق فيه، وراحة لهم بعد معاشهم بالنهار وسعيهم للحصول على رزقهم.
قال صاحب الكشاف: السكن: ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه، من زوج أو حبيب. ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها، ألا تراهم سموها المؤنسة، والليل يطمئن إليه المتعب بالنهار لاستراحته فيه، ويجوز أن يراد: وجعل الليل مسكونا فيه من قوله: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «2» .
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً الحسبان في الأصل مصدر حسب- بفتح السين- كالغفران والشكران تقول حسبت المال حسبانا: أى أحصيته عددا. والمعنى: وجعل الشمس والقمر يجريان في الفلك بحساب مقدر معلوم لا يتغير ولا يضطرب حتى ينتهى إلى أقصى منازلهما بحيث
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 48.
(2) تفسير الكشاف: ج 2 ص 49.(5/137)
تتم الشمس دورتها في سنة ويتم القمر دورته في شهر، وبذلك تنتظم المصالح المتعلقة بالفصول الأربعة وغيرها، قال- تعالى- هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «1» .
وقوله ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أى: ذلك الجعل والتسيير البديع الشأن تقدير العزيز، أى: الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
قال الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ما ملخصه:
«اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم- أى قوله إِنَّ اللَّهَ فالِقُ ... إلخ- كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان، والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية، وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية» .
وبعد أن ساق- رحمه الله- الأدلة على ذلك قال: والعزيز إشارة إلى كمال قدرته، والعليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه: أن تقدير الأفلاك بصفاتها المخصوصة، وهيآتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة، لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم» «2» .
ثم ساق- سبحانه- نوعا ثالثا من الدلائل على كمال قدرته ورحمته وحكمته فقال- تعالى- وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أى: وهو- سبحانه- وحده الذي أنشأ لكم هذه الكواكب النيرة لتهتدوا بها إلى الطرق والمسالك خلال سيركم في ظلمات الليل بالبر والبحر حيث لا ترون شمسا ولا قمرا.
وجملة لِتَهْتَدُوا بِها بدل اشتمال من ضمير لَكُمُ بإعادة العامل، فكأنه قيل: جعل النجوم لاهتدائكم.
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أى: قد وضحنا وبينا الآيات الدالة على قدرته- تعالى-
__________
(1) سورة يونس: الآية 5.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 99.(5/138)
ورحمته بعباده، لقوم يعلمون وجه الاستدلال بها فيعملون بموجب علمهم، ويزدادون إيمانا على إيمانهم.
فالجملة الكريمة مستأنفة للتسجيل والتبليغ وقطع معذرة من لم يؤمنوا.
والتعريف في الآيات للاستغراق فيشمل آية خلق النجوم وغيرها.
ثم ساق- سبحانه- لونا رابعا من دلائل كمال قدرته ورحمته. فقال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.
أى: وهو- سبحانه- الذي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم- عليه السلام- قال- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
وفي هذه الجملة الكريمة تذكير بنعمة أخرى من نعم الله على خلقه، لأن رجوع الناس إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتراحم والتعاطف، وفيها- أيضا- دليل على عظيم قدرته- عز وجل-. والفاء في قوله- تعالى- فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ للتفريع عن أنشأكم.
أى: أنشأكم من نفس واحدة فلكم موضع الاستقرار في الأرحام أو في الأرض وموضع استيداع في الأصلاب أو في القبور.
وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس، وقد زكاه الإمام الرازي فقال: ومما يدل على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا فالمستقر أقرب إلى الثبات من المستودع» «1» .
وقيل المستقر حالة الإنسان بعد الموت لأنه إن كان سعيدا فقد استقرت تلك السعادة، وكذلك إن كان شقيا، والمستودع حالة قبل الموت لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا.
وقيل: المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها، والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق.
والذي نراه أن الرأى الأول هو الصحيح لأنه رأى جمهور المفسرين، ولأن شواهد القرآن تؤيده كما في قوله- تعالى- وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ وكما في قوله- تعالى- وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.
وقرئ فَمُسْتَقَرٌّ- بكسر القاف- أى: فمنكم مستقر في الأرحام ومنكم مستودع.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 104.(5/139)
وقوله قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ أى: قد فصلنا الآيات الدالة على قدرتنا ووضحناها لقوم يفقهون ما يتلى عليهم ويتدبرونه فينتفعون بذلك.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قيل «يعلمون» مع ذكر النجوم ويَفْقَهُونَ مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنته وتدقيق نظره مطابقا له «1» .
وقد علق صاحب الانتصاف على كلام الزمخشري بما ملخصه: «جواب الزمخشري صناعى، والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار فعدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم واتساقا في البلاغة، ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بمخلوقاته وكانت الآية الأولى خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة، وتقلباتهم في أطوار مختلفة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها، فإذا تمهد ذلك فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفى من أشبع القبيلين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفى الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا.. وإذا قيل: فلان «لا يفقه شيئا» كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئا وكأن معنى قولك لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما قولك «لا يعلم شيئا» فغايته نفى حصول العلم له، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم» «2» .
ثم ساق- سبحانه- حجة خامسة تدل دلالة واضحة على كمال قدرته وعلمه ورحمته وإحسانه إلى خلقه فقال- تعالى-:
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ.
أى: وهو- سبحانه- الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب ذلك كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة في الكم والكيف والطعوم والألوان، قال- تعالى-
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 51.
(2) حاشية الانتصاف على تفسير الكشاف ج 2 ص 5 لابن المنير.(5/140)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
وسمى السحاب سماء لأن العرب تسمى كل ما علا سماء، ونزول الماء من السحاب قد جاء صريحا في مثل قوله- تعالى- أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.
ومِنَ في قوله مِنَ السَّماءِ ابتدائية، لأن ماء المطر يتكون في طبقات الجو العليا الباردة عند تصاعد البخار الأرضى إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يتحول إلى ماء، والباء في بِهِ للسببية. حيث جعل الله- تعالى- الماء سببا في خروج النبات، والفاء في قوله فَأَخْرَجْنا بِهِ للتفريع وفَأَخْرَجْنا عطف على أَنْزَلَ والالتفات إلى التكلم إظهار لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله.
ثم شرع- سبحانه- في تفصيل ما أجمل من الإخراج فقال: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً أى:
فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له نباتا غضا أخضر، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة، وخضر بمعنى أخضر اسم فاعل. يقال: خضر الزرع- من باب فرح- وأخضر، فهو خضر وأخضر.
وقوله نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً. أى: نخرج من هذا النبات الخضر حَبًّا مُتَراكِباً أى:
متراكما بعضه فوق بعض كما في الحنطة والشعير وسائر الحبوب، يقال: ركبه- كسمعه- ركوبا ومراكبا. أى: علاه.
وجملة نُخْرِجُ مِنْهُ صفة لقوله «خضرا» . وعبر عنها بصيغة المضارع لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة لأن إخراج الحب المتراكب من هذا الخضر الغض يدعو إلى التأمل والإعجاب بمظاهر قدرة الله.
وبعد أن ذكر- سبحانه- ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى فقال: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ.
الطلع: أول ما يبدو ويخرج من تمر النخل كالكيزان. وقشره يسمى الكفرى وما في داخله يسمى الإغريق لبياضه.
والقنوان. جمع قنو وهو العرجون بما فيه الشماريخ، وهو ومثناه سواه لا يفرق بينهما إلا في الإعراب. أى: ونخرج بقدرتنا من طلع النخل قنوان دانية القطوف، سهلة التناول أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها.
قال صاحب الكشاف: وقِنْوانٌ رفع بالابتداء، ومِنَ النَّخْلِ خبره ومِنْ طَلْعِها(5/141)
بدل منه. كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان دانية. وذكر القريبة وترك ذكر البعيدة، لأن النعمة فيها أظهر وأدل، واكتفى بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» .
وقوله: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ معطوف على نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أى: فأخرجنا بهذا الماء نبات كل شيء وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب. وجعله: بعضهم عطفا على خَضِراً.
وقيل هو معطوف على حَبًّا.
وقوله: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ منصوب على الاختصاص أى: وأخص من نبات كل شيء الزيتون والرمان، وقيل معطوف على نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ.
قال الآلوسى: وقوله: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ إما حال من الزيتون لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه وهو الرمان والتقدير: والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك، وإما حال من الرمان لقربه ويقدر مثله في الأول.
وأياما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض. أى بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها، وحكمة منشئها ومبدعها كما قال- تعالى- يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «2» .
ثم أمر الله عباده أن يتأملوا في بديع صنعه فقال: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ أى:
انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمار كل واحد مما ذكرنا حال ابتدائه حين يكون ضئيلا ضعيفا لا يكاد ينتفع به، وحال ينعه أى: نضجه كيف يصير كبيرا أو جامعا لألوان من المنافع والملاذ.
يقال: أينعت الثمرة إذا نضجت.
وقوله إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أى: إن في ذلكم الذي ذكرناه من أنواع النبات والثمار، وذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار لهو المستحق للعبادة دون ما سواه أو هو القادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم.
قال الشيخ القاسمى: قال بعضهم: القوم كانوا ينكرون البعث فاحتج عليهم بتعريف ما خلق ونقله من حال إلى حال وهو ما يعلمونه قطعا ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها،
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 51.
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 240.(5/142)
وإخراج أنواع النبات والثمار منها. وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله- تعالى- فبين أنه- سبحانه- كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء، ثم إنبات الأجساد كالنبات، ثم جعلها خضرة بالحياة ثم تصوير الأعمال بصور كثيرة، وإفادة أمور زائدة وتفريعها، وإعطاء أطعمة مشتبهة في الصورة غير متشابهة في اللذة جزاء عليها» «1» .
هذا وقد أفاض الإمام الرازي- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية في بيان مظاهر قدرة الله وكمال رحمته وحكمته فقال ما ملخصه:
«اعلم أنه- تعالى- ذكره هنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل والعنب والزيتون والرمان.
وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجرى مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب.
وإنما ذكر العنب عقيب النخيل، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال. وأما الزيتون فهو- أيضا- كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل- أيضا- عنه دهن كثير عظيم النفع. وأما الرمان فحاله عجيب جدا. واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر- سبحانه- هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيها على البواقي.
ثم قال: وقد أمر- سبحانه- بالنظر في حال ابتداء الثمر ونضجه لأن هذا هو موضوع الاستدلال، والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية وذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها عن صفات مخصوصة وعند تمامها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة، وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير في آخر أمرها حارة بحسب الطبيعة- أيضا- فحصول هذه المبتدلات والمتغيرات لا بد له من سبب، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسبابا لحدوث الحوادث المختلفة. ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسناده إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة، والمصلحة الحكيمة» «2» .
__________
(1) تفسير القاسمى ج 6 ص 2429.
(2) راجع الفخر الرازي ج 4 ص 107 طبع المطبعة الشرفية سنة 1324 هـ.(5/143)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
وبعد أن ذكر- سبحانه- تلك الدلائل الدالة على عظيم قدرته، وباهر حكمته ووافر نعمته. واستحقاقه الألوهية، أتبعها بتوبيخ المشركين والرد عليهم بما يرشدهم إلى الطريق القويم لو كانوا يعقلون فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أى: وجعل هؤلاء المشركون لله- سبحانه- شركاء في الألوهية والربوبية من الجن.
وفي المراد بالجن هنا أقوال:
أحدها: أنهم الملائكة حيث عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله وتسميتهم جنا مجازا لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن.
والثاني: أن المراد بالجن هنا الشياطين. ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي كما يطاع الله- تعالى-.
والثالث: أن المراد بالجن إبليس فقد عبده قوم وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص الباري بألوهية الخير والنور. وقد نقل هذا الرأى عن ابن عباس، وقد قال الرازي عن هذا الرأى أنه أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية.
أما ابن كثير فقد رجح الرأى الثاني وقال: فإن قيل كيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟.(5/144)
فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم لهم بذلك كقوله: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وكقوله أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وتقول الملائكة يوم القيامة:
سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ «1» .
وقال- سبحانه- وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ ولم يقل: وجعلوا الجن شركاء لله. لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء. ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأوهم أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا. وليس الأمر كذلك، بل المنكر أن يكون لله شريك من أى جنس كان.
وجملة: وَخَلَقَهُمْ حال من فاعل جَعَلُوا مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان.
أى: وجعلوا لله شركاء الجن والحال أنهم قد علموا أن الله وحده هو الذي خلقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق، وعليه فالضمير في خلقهم يعود على المشركين الذين جعلوا لله شركاء.
وقيل الضمير للشركاء أى: والحال أنهم قد علموا أن الله هو الذي خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟.
وقوله وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ أى: واختلقوا وافتروا له بجهلهم وانطماس بصيرتهم بنين وبنات من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية. أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون ما يقولون بمجرد الرأى والهوى وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه- تعالى- إلا ما قام الدليل على صحته.
قال الراغب: «أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر، قال- تعالى- أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها، وهو ضد الخلق لأن الخلق هو فعل الشيء بتقدير ورفق» «2» .
ثم ختمت الآية الكريمة بتنزيه الله- تعالى- عما نسبوه إليه فقال- تعالى-: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ أى: تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه به هؤلاء الضالون من الأجداد والأولاد والنظراء والشركاء.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 160) .
(2) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص 146. [.....](5/145)
ثم ساق- سبحانه- الأدلة المبطلة لما تفوه به المشركون من مزاعم فقال- تعالى- بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أى: هو مبدعهما ومنشئهما وخالقهما على غير مثال سبق، ومنه سميت البدعة بدعة لأنه لا نظير لها فيما سلف.
وقوله: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أى: من أين وكيف يكون له ولد- كما زعموا- والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها، ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة وإن أمكن وجوده بلا والد، وأيضا الولد لا يحصل إلا بين متجانسين ولا مجانس له- سبحانه-.
وجملة أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مستأنفة لتقرير تنزهه عن ذلك، وجملة وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ حال مؤكدة لاستحالة ما نسبوه إليه من الولد.
وقوله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ جملة أخرى مستأنفة لتحقيق ما ذكر من الاستحالة، أو حال ثانيه مقررة لها.
أى: كيف يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا له- تعالى- فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟
قال صاحب الكشاف: «وفي هذه الآية الكريمة إبطال لأن يكون لله ولد من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة.
لأن الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا.
والثاني: أن الولادة لا تكون إلا لمن له صاحبة والله- تعالى- لا صاحبة له فلم تصح الولادة.
والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج «1» .
وجملة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان أن يكون له ولد.
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 52.(5/146)
أى: أنه- سبحانه- عالم بكل المعلومات، فلو كان له ولد فلا بد أن يتصف بصفاته ومنها عموم العلم، وهو منفي عن غيره بالإجماع.
وبعد أن أبطل- سبحانه- الشرك ونعى على معتنقيه سوء تفكيرهم، دعا المكلفين إلى إخلاص العبودية لله وحده فقال- تعالى-:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ.
أى ذلكم الموصوف بما سمعتم من جلائل الصفات هو الله ربكم لا من زعمتم من الشركاء، فأخلصوا له العبادة فهو- سبحانه- الخالق لكل شيء وما عداه فهو مخلوق يجب أن يعبد خالقه.
وقوله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أى وهو مع تلك الصفات الجليلة رقيب على عباده حفيظ عليهم، يدبر أمرهم، ويتولى جميع شئونهم.
وقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ جملة مستأنفة إما مؤكدة لقوله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فيجب أن يخاف ويحذر، وأما مؤكدة أعظم تأكيد لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليمه عما وصفه به المشركون، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعبودة وهي أبصار أهل الدنيا لجلاله وكبريائه وعظمته. فكيف يكون له ولد؟.
والإدراك: اللحاق والوصل إلى الشيء والإحاطة به. والأبصار جمع بصر يطلق- كما قال الراغب- على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها.
والمعنى: لا تحيط بعظمته وجلاله على ما هو عليه- سبحانه- أبصار الخلائق، أو لا تدركه الأبصار إدراك إحاطة بكنهه وحقيقته فإن ذلك محال والإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية التي هي مجرد المعاينة، فنفيه لا يقتضى نفى الرؤية، لأن نفى الأخص لا يقتضى نفى الأعم فأنت ترى الشمس والقمر ولكنك لا تدرك كنههما وحقيقتهما.
هذا، وهناك خلاف مشهور بين أهل السنة والمعتزلة في مسألة رؤية الله- تعالى- في الآخرة.
أما أهل السنة فيجيزون ذلك ويستشهدون بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله- تعالى- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ومن السنة ما رواه الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.(5/147)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قال الإمام ابن كثير: تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات» «1» .
أما المعتزلة فيمنعون رؤية المؤمنين لله- تعالى في الآخرة، واستدلوا فيما استدلوا بهذه الآية، وقالوا: إن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين ما أدركته ببصرى ورأيته إلا في اللفظ.
والذي نراه أن رأى أهل السنة أقوى لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق، فقد تكفلت بذلك كتب علم الكلام «2» .
وقوله وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أى: وهو يدرك القوة التي تدرك بها المبصرات. ويحيط بها علما، إذ هو خالق القوى والحواس.
وقوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أى: هو الذي يعامل عباده باللطف والرأفة وهو العليم بدقائق الأمور وجلياتها.
ثم أخذ القرآن في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي تسليته. وفي مدح ما جاء به من هدايات فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 110]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 161.
(2) راجع تفسير القاسمى ج 6 ص 2446 وما بعدها.(5/148)
قوله قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر: جمع بصيرة، وهي للقلب بمنزلة البصر للعين، فهي النور الذي يبصر به القلب، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين.
والمراد بها آيات القرآن ودلائله التي يفرق بها بين الهدى والضلالة. أى: قد جاءكم أيها الناس من ربكم وخالقكم هذا القرآن بآياته وحججه وهداياته لكي تميزوا بين الحق والباطل، وتتبعوا الصراط المستقيم.
وإطلاق البصائر على هذه الآيات من إطلاق اسم المسبب على السبب.
وقوله: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها أى: فمن أبصر الحق وعلمه بواسطة تلك البصائر وآمن به فلنفسه أبصر وإياها نفع، ولسعادتها ما قدم من ألوان الخير، ومن عمى عن الحق وجهله بإعراضه عن هذه البصائر فعلى نفسه وحدها جنى وإياها ضرب العمى وهذا كقوله- تعالى-: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها.
واختتمت الآية بقوله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أى: وما أنا عليكم برقيب أحصى عليكم أعمالكم، وأحفظكم من الضلال، وإنما أنا علىّ البلاغ والله وحده هو الذي يحصى عليكم أعمالكم ويجازيكم عليها بما تستحقون.
وقوله: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أى: وكما فصلنا الآيات الدالة على التوحيد في هذه السورة تفصيلا بديعا محكما نفصل الآيات ونبينها وننوعها في كل موطن لتقوم على الجاحدين الحجة، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.(5/149)
وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ يقال درس الكتاب يدرسه دراسة إذا أكثر قراءته وذلك للحفظ. وأصله من درس الحنطة يدرسها درسا ودراسا إذا داسها، فكأن التالي يدوس الكلام فيخفف على لسانه.
والمعنى: وليقول المشركون في الرد عليك: إنك يا محمد قد قرأت الكتب على أهل الكتاب وتعلمت منهم، وحفظت عن طريق الدراسة أخبار من مضى، ثم جئتنا بعد كل ذلك تزعم أن ما جئت به من عند الله، وما هو من عند الله.
وقد حكى القرآن في مواضع كثيرة التهم الباطلة التي وجهها المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله- تعالى-:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «1» .
قال ابن عباس: وَلِيَقُولُوا يعنى: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن دَرَسْتَ يعنى:
تعلمت من يسار وخير- وكانا عبدين من سبى الروم- ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله.
وقال الفراء: معناه، تعلمت من اليهود لأنهم كانوا معروفين عند أهل مكة بالعلم والمعرفة.
وقرئ (دارست) - بالألف وفتح التاء- أى: دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية كأهل الكتاب، من المدارسة بين الإثنين، أى: قرأت عليهم وقرءوا عليك.
قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
وقرئ- أيضا- (درست) - بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء- أى: وليقولوا مضت وقدمت وتكررت على الأسماع، وقد حكى القرآن أنهم قالوا أساطير الأولين قال- تعالى- حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وهذه القراءات الثلاث متواترة وهناك قراءات أخرى شاذة لا مجال لذكرها هنا.
وقوله: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أى: ولنبين ونوضح هذا القرآن لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه، فهم المنتفعون به دون سواهم.
فالضمير في وَلِنُبَيِّنَهُ يعود إلى القرآن لكونه معلوما وإن لم يجر له ذكر، وقيل: يعود إلى الآيات لأنها في معنى القرآن.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فرق بين اللامين في وَلِيَقُولُوا ولِنُبَيِّنَهُ؟
__________
(1) سورة الفرقان آية 4، 5.(5/150)
قلت: الفرق بينهما أن الأول مجاز والثانية حقيقة، وذلك لأن الآيات صرفت للنبيين ولم تصرف ليقولوا درست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل للنبيين شبه به فسيق مساقه» .
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستمر في دعوته دون أن يعول على تعنت المشركين فقال- تعالى- اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
أى عليك يا محمد أن تداوم على تبليغ رسالتك، متبعا في ذلك ما أوحاه إليك ربك الذي لا إله إلا هو من آيات وهدايات، معرضا عن المشركين الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون.
وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ معترضة لتأكيد إيجاب الاتباع، أو حال مؤكدة لقوله «من ربك» بمعنى: منفردا في الألوهية.
ثم هون عليه أمر إعراضهم فقال- تعالى- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا. أى: ولو شاء الله عدم إشراكهم لما أشركوا، ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك لأنه جرت سنته برعاية الاستعدادات.
قال الآلوسى: وهذا دليل أهل السنة على أنه تعالى- لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه يمنعه عنه مع توجهه إليه، ولكن بمعنى أنه- تعالى- لا يريده منه لسوء اختياره الناشئ من سوء استعداده» «2» .
وقوله وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أى: وما جعلناك عليهم حفيظا يحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم وتجازيهم عليها وما أنت عليهم بوكيل تدبر عليهم أمورهم وتتصرف فيها، وإنما أنت وظيفتك التبليغ قال- تعالى- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ وقال- تعالى- فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ.
ثم أرشد الله المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، فنهاهم عن سب آلهة المشركين حتى لا يقابلهم المشركون بالمثل فقال- تعالى-: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
السب: الشتم الوضيع وذكر مساوئ الغير لمجرد التحقير والإهانة.
وعدوا: مصدر بمعنى العدوان والظلم والتجاوز من الحق إلى الباطل وهو مفعول مطلق
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 55.
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 250.(5/151)
«لتسبوا» . من معناه، لأن السب عدوان، وقيل هو حال من ضمير فَيَسُبُّوا مؤكدة لمضمون الجملة وكذلك قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ.
والمعنى: ولا تسبوا ايها المؤمنون آلهة المشركين الباطلة فيترتب على ذلك أن يسب المشركون معبودكم الحق جهلا منهم وضلالا.
قال الآلوسى: ومعنى سبهم لله- تعالى- إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى الله عليه وسلم ولمن يأمره وقد فسر بِغَيْرِ عِلْمٍ بذلك أى: فيسبوا الله- تعالى- بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله- تعالى- وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده- سبحانه- فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له- عز وجل- صراحة ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك، ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر! ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام رأى بعض الرافضة يسب الشيخين- أبا بكر وعمر- فغاظه ذلك جدا فسب عليا- كرم الله وجهه- فسئل عن ذلك فقال: ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم» «1» .
وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه معمر عن قتادة قال. كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيسب الكفار الله عدوا بغير علم فنزلت» «2» .
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: سب الآلهة الباطلة حق وطاعة فكيف صح النهى عنه وإنما يصح النهى عن المعاصي؟ قلت رب طاعة علم أنها تؤدى إلى مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها لأنها معصية لا لأنها طاعة. كالنهى عن المنكر هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدى إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية ووجب النهى عن ذلك كما يجب النهى عن المنكر» «3» .
وقال الشيخ القاسمى: قال ابن الفارس في الآية: إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن لم يجز أن يسبوا آلهتهم ولا دينهم، وهذا أصل في سد الذرائع» .
وقال السيوطي: «وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى وكذا كل مفعول مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه» .
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 7 ص 451.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 164.
(3) تفسير الكشاف ج 1 ص 56.(5/152)
وقال الحاكم: نهوا عن سب الأصنام لوجهين:
أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها.
والثاني: أن ذلك يؤدى إلى المعصية بسب الله- تعالى-. والذي يجب علينا إنما هو بيان بغضها وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضر ولا تنفع، وأنها لا تستحق العبادة، وهذا ليس بسب. ولهذا قال أمير المؤمنين على- يوم صفين- «لا تسبوهم ولكن اذكروا قبيح أفعالهم» «1» .
وقال بعض العلماء: ووجه النهى عن سب أصنامهم هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية، لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله- تعالى- فذلك الذي يتميز به المحق من المبطل، فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما، وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق، فيلوح للناس أنه تغلب على المحق. على أن سب آلهتهم لما كان يحمى غيظهم ويزيد تصلبهم صار منافيا لمراد الله من الدعوة فقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وأصبح هذا السب متمحضا للمفسدة وليس مشوبا بمصلحة، وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة، لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض. وذلك مجال تتردد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوة وضعفا وتحققا واحتمالا، وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلها «2» .
وهذه الآية الكريمة ليست منسوخة بآية السيف- كما قيل- وإنما هي محكمة ولذا قال القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الله- تعالى- فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدى إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية» «3» .
وقوله كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ.
التزيين تفعيل من الزين وهو الحسن.
والمعنى: مثل ذلك التزيين الذي حمل المشركين على الدفاع عن عقائدهم الباطلة جهلا منهم وعدوانا، زينا لكل أمة من الأمم عملهم، من الخير والشر والإيمان والكفر، فقد مضت سننا في أخلاق البشر أن يستحسنوا ما تعودوه، وأن يتعلقوا بما ألفوه.
__________
(1) تفسير القاسمى ج 6 ص 2463.
(2) تفسير التحرير والتنوير ج 7 ص 430 للشيخ محمد بن عاشور.
(3) تفسير القرطبي ج 7 ص 60.(5/153)
وقيل: المراد بكل أمة أمم الفكر لأن الكلام فيهم. والمراد بعملهم. شرورهم ومفاسدهم.
والمشبه به تزيين سب الله- تعالى- لهم.
أى: كما زينا لهؤلاء المشركين سوء أعمالهم زينا لكل أمة من الأمم الماضية على الضلال عملهم السيئ.
قال الآلوسى: «وقد استدل بالآية على أنه- تعالى- هو الذي زين للكافر كفره كما زين للمؤمن إيمانه. وأنكر ذلك المعتزلة فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه» .
وقال صاحب المنار: فظهر بهذا التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر، وفي قلوب بعضها الآخر تزيينا للإيمان والخير خلقا ابتدائيا من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك، إذ لو كان الأمر كما ذكر لكان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائب الخلقية التي تعد الدعوة إليها والترغيب فيها وما يقابلهما من النهى والترهيب عنها من العبث الذي يتنزه الله عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله. وقد غفلت المعتزلة عن هذا التحقيق فأول بعضهم الآية بأنها خاصة بالمؤمنين الذين زين الله في قلوبهم الإيمان، وبعضهم بغير ذلك» «1» .
ثم ختم الله- تعالى- الآية بقوله: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أى:
ثم إلى ربهم أمورهم ورجوعهم ومصيرهم بعد البعث، فيخبرهم من غير تسويف أو تأخير بما كانوا يعملونه في الدنيا، ويجازيهم على ذلك بما يستحقونه. وفي هذه الجملة الكريمة تهديد وتوبيخ لأولئك المشركين الذين تجاسروا على مقام الله، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا.
ثم حكى القرآن بعض المقترحات المتعنتة التي كان يقترحها المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.
الجهد: الوسع والطاقة من جهد نفسه يجهدها في الأمر إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها فيه.
وهو مصدر في موضع الحال.
أى: وأقسم أولئك المشركون بالله مجتهدين في أيمانهم، مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد، معلنين أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها عليك يا محمد ليؤمنن بها أنها من عند الله وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك.
وقد لقن الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم الرد المفحم لهم فقال: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ.
أى: قل لهم يا محمد إن هذه الآيات التي اقترحتموها تعنتا وعنادا مردها إلى الله، فهو وحده
__________
(1) تفسير المنار ج 7 ص 669.(5/154)
القادر عليها والمتصرف فيها حسب مشيئته وحكمته، إن شاء أنزلها وإن شاء منعها، أما أنا فليس ذلك إلىّ.
أخرج ابن جرير- بسنده- عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له، يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصا ضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيى الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من هذه الآيات حتى نصدقك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أى شيء تحبون أن آتيكم به» ؟ قالوا، تجعل لنا الصفا ذهبا، فقال لهم «فإن فعلت تصدقوني» ؟ قالوا نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل فقال، إن شئت أصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلى الله عليه وسلم «بل أتركهم حتى يتوب تائبهم» ، فأنزل الله- تعالى- قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ. إلى قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «1» .
وقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ.
أى: وما يدريكم أيها المؤمنون الراغبون في إنزال هذه الآيات طمعا في إسلام هؤلاء المشركين أنها إذا جاءت لا يؤمنون أى: إذا جاءت هذه الآيات فأنا أعلم أنهم لا يؤمنون وأنتم لا تعلمون ذلك ولذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول الآيات.
فالخطاب هنا للمؤمنين، والاستفهام في معنى النفي، وهو إخبار عنهم بعدم العلم وليس للإنكار عليهم.
أى: إنكم أيها المؤمنون ليس عندكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءتهم الآيات التي يقترحونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعنتا وجهلا.
قال صاحب الكشاف: وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم أَنَّها أى الآية التي تقترحونها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها، فقال- عز وجل- وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، وقيل: إنها بمعنى «لعل» من قول العرب: ائت السوق أنك تشترى حمارا.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 164. [.....](5/155)
وقال امرؤ القيس.
عوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام
أى: لعلنا نبكي الديار.
وقرئ بكسر «إنها» على أن الكلام قد تم قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم؟ ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة» «1» .
وقوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ معطوف على لا يُؤْمِنُونَ وداخل معه في حكم وَما يُشْعِرُكُمْ مقيد بما قيد به.
أى: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من آيات. وهدايات على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقترحوا عليه تلك المقترحات الباطلة.
إنكم أيها المؤمنون لا تدرون ذلك ولا تشعرون به لأن علمه عند الله وحده.
قال الآلوسى: وهذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له، بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية، ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر، وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه- تعالى- مشاعرهم بطريق الإجبار» «2» .
وقوله وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ معطوف على لا يُؤْمِنُونَ.
والعمه: التردد في الأمر مع الحيرة فيه، يقال: عمه- كفرح ومنع- عمها إذا تردد وتحير.
أى: ونتركهم في تجاوزهم الحد في العصيان يترددون متحيرين، لا يعرفون لهم طريقا، ولا يهتدون إلى سبيل.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون في أيمانهم الفاجرة، فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 57.
(2) تفسير الآلوسى ج 7 ص 255.(5/156)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
والمعنى: ولو أننا يا محمد لم نقتصر على إيتاء ما اقترحه هؤلاء المشركون من آيات كونية، بل أضفنا إلى ذلك أننا نزلنا عليهم الملائكة يشهدون بصدقك وأحيينا لهم الموتى فشهدوا بحقيقة الإيمان، وزدنا على ذلك فجمعنا لهم جميع الخلائق مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم بأنك على الحق، لو أننا فعلنا كل ذلك ما استقام لهم الإيمان لسوء استعدادهم وفساد فطرهم، وانطماس بصيرتهم، فإن قوما يمرون على تلك الآيات الكونية التي زخر بها هذا الكون والتي استعرضتها هذه السورة فلا تتفتح لها بصائرهم، ولا تتحرك لها مشاعرهم، ليسوا على استعداد لأن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم، والذي ينقصهم إنما هو القلب الحي الذي يتلقى ويتأثر ويستجيب وليس الآيات التي يقترحونها فإن أمامهم الكثير منها، واقترحاتهم إنما هي نوع من العبث السخيف، والتعنت المرذول الذي لا يستحق أن يهتم به.
وقُبُلًا- بضم القاف والباء- حال من «كل شيء» وفيه أوجه:
الأول: أنه جمع قبيل بمعنى كفيل مثل قليب وقلب، أى: وحشرنا عليهم كل شيء من المخلوقات ليكونوا كفلاء بصدقك.
والثاني: أنه مفرد كقبل الإنسان ودبره فيكون معناه المواجهة والمعاينة ومنه آتيك قبلا لا دبرا أى آتيك من قبل وجهك والمعنى. وحشرنا عليهم كل شيء مواجهة وعيانا ليشهدوا بأنك على الحق.
والثالث: أن يكون قبلا جمع قبيل لكن بمعنى جماعة جماعة أو صنفا صنفا والمعنى: وحشرنا(5/157)
عليهم كل شيء فوجا فوجا ونوعا نوعا من سائر المخلوقات ليشهدوا بصدقك.
وجملة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ جواب لو.
أى: لو فعلنا لهم كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال بسبب غلوهم في التمرد والعصيان، إلا في حال مشيئة الله إيمانهم فيؤمنوا، لأنه- سبحانه- هو القادر على كل شيء.
وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.
أى: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فهم لذلك يحلفون الأيمان المغلظة بأنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها. أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.
وقيل الضمير يعود على المؤمنين فيكون المعنى. ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمان أولئك المشركين عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله- تعالى- لإيمانهم، فيتمنون مجيء الآيات طمعا في إيمانهم.
قال الشيخ القاسمى: في قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله- تعالى- حتى الإيمان والكفر. وقد اتفق سلف هذه الأمة وحملة شريعتها على أنه «ما شاء الله كان وما لم يشأ لهم يكن» . والمعتزلة يقولون «إلا أن يشاء الله مشيئة قسر وإكراه» «1» .
ثم سلى الله- تعالى- نبيه عن تعنت المشركين وتماديهم في الباطل ببيان أن كل نبي كان له أعداء يسيئون إليه ويقفون عقبة في طريق دعوته فقال:
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
والمعنى: ومثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعاندونك جعلنا لكل نبي من قبلك- أيضا- أعداء، فلا يحزنك ذلك، قال- تعالى- ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ
«2» .
وقال- تعالى- وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً «3» .
والمراد بشياطين الإنس والجن، والمردة من النوعين. والشيطان: كل عات متمرد من الإنس والجن.
__________
(1) تفسير للقاسمى ج 7 ص 2471.
(2) سورة فصلت الآية 43.
(3) سورة الفرقان الآية: 31.(5/158)
وجملة وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا إلخ مستأنفة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يشاهده من عداوة قريش له، والكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر مؤكد لما بعده.
وجعل ينصب مفعولين أولهما عَدُوًّا وثانيهما لِكُلِّ نَبِيٍّ وشَياطِينَ بدل من المفعول الأول، وبعضهم أعرب شَياطِينَ مفعولا أولا وعَدُوًّا مفعولا ثانيا، ولِكُلِّ نَبِيٍّ حالا من عَدُوًّا.
وقوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.
الوحى: الإعلام بالأشياء من طريق خفى دقيق سريع. زخرف القول: باطله الذي زين وموه بالكذب. وأصل الزخرف. الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب: زخرف، ولكل شيء حسن مموه: زخرف.
والغرور: الخداع والأخذ على غرة وغفلة.
والمعنى: يلقى بعضهم إلى بعض بطرق خفية دقيقة القول المزين المموه الذي حسن ظاهره وقبح باطنه لكي يخدعوا به الضعفاء ويصرفونهم عن الحق إلى الباطل.
والجملة مستأنفة لبيان إحكام عداوتهم، أو حال من الشياطين وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أتباعه أن يستعيذوا بالله من شياطين الإنس والجن، فعن أبى ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس. قد أطال فيه الجلوس فقال: «يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين قال: ثم جئت فجلست إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ قال: قلت لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن» .
وقد ساق الإمام ابن كثير عدة روايات عن أبى ذر في هذا المعنى، ثم قال في نهايتها: فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته» «1» .
وقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
أى: ولو شاء ربك ألا يفعل هؤلاء الشياطين ما فعلوه من معاداة الأنبياء ومن الإيحاء بالقول الباطل لتم له ذلك، لأنه- سبحانه- هو صاحب المشيئة النافذة، والإرادة التامة ولكنه- سبحانه- لم يشأ أن يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم باختيارهم، لكي يميز الله
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 166.(5/159)
الخبيث من الطيب. فدعهم يا محمد وما يفترون من الكفر وغيره من ألوان الشرور، فسوف يعلمون سوء عاقبتهم.
وقوله: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. معطوف على غُرُوراً فيكون علة أخرى للإيحاء، والضمير في إِلَيْهِ يعود إلى زخرف القول.
وأصل الصغو: الميل. يقال: صغا يصغو ويصغى صغوا، وصغى يصغى صغا أى: مال، وأصغى إليه مال إليه يسمعه، وأصغى الإناء: أماله. ويقال: صغت الشمس والنجوم صغوا: مالت إلى الغروب.
والمعنى: يوحى بعضهم إلى بعضهم زخرف القول ليغروا به الضعفاء، ولتميل إلى هذا الزخرف الباطل من القول قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لموافقته لأهوائهم وشهواتهم.
وخص عدم إيمانهم بالآخرة بالذكر- مع أنهم لا يؤمنون بأمور أخرى يجب الإيمان بها- لأن من لم يؤمن بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يمشى دائما وراء شهواته وأهوائه ولا يتبع إلا زخرف القول وباطله.
ثم بين- سبحانه- تدرجهم السيئ في هذا العمل الأثيم فقال: وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ.
أى: وليرضوا هذا الفعل الخبيث لأنفسهم بعد أن مالت إليه قلوبهم، وليقترفوا ما هم مقترفون أى: وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الأعمال السيئة فإن الله- تعالى- سيجازيهم عليها بما يستحقونه.
وأصل القرف والاقتراف. قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح. واستعير الاقتراف للاكتساب مطلقا ولكنه في الإساءة أكثر. فيقال: قرفته بكذا إذا عبته واتهمته.
قال أبو حيان: وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة، لأنه أولا يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرضا، فيكون الاقتراف، فكل واحد مسبب عما قبله «1» .
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصارح المشركين بأن الله وحده هو الحكم الحق، وإن كتابه هو الآية الكبرى الدالة على صدقه فيما يبلغه عنه فقال- تعالى-:
__________
(1) تفسير أبى حيان ج 4 ص 408.(5/160)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 117]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
روى أن مشركي مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزل قوله- تعالى- أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الآية «1» .
وقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً كلام مستأنف على إرادة القول، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والحكم- بفتحتين- هو من يتحاكم إليه الناس ويرضون بحكمه، وقالوا: إنه أبلغ من الحاكم «وأدل على الرسوخ، كما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين، أأميل إلى زخارف الشياطين، فأطلب معبودا سوى الله- تعالى- ليحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منها من المبطل.
وأسند صلى الله عليه وسلم الابتغاء لنفسه لا إلى المشركين، لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم: اجعل بيننا وبينك حكما.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 8 ص 8.(5/161)
وغير مفعول لأبتغى وحَكَماً إما أن يكون حالا لغير أو تمييزا له. وجملة وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا حالية مؤكدة للإنكار أى: أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم، والحال أنه- سبحانه- هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، أى مبينا فيه الحق والباطل، والحلال والحرام، والخير والشر، وغير ذلك من الأحكام التي أنتم في حاجة إليها في دينكم ودنياكم، وأسند الإنزال إليهم لاستمالتهم نحو المنزل واستدعائهم إلى قبول حكمه، لأن من نزل الشيء من أجله، من الواجب عليه أن يتقبل حكمه.
ثم ساق- سبحانه- دليلا آخر على أن القرآن حق فقال: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.
أى: والذين آتيناهم الكتاب أى التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن منزل عليك من ربك بالحق. لأنهم يجدون في كتبهم البشارات التي تبشر بك، ولأن هذا القرآن الذي أنزله الله عليك مصدق لكتبهم ومهيمن عليها.
فهذه الجملة الكريمة تقرير لكون القرآن منزلا من عند الله، لأن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته وأنه منزل من عند الله.
وقوله: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أى: فلا تكونن من الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق، لأن عدم اعتراف بعضهم بذلك مرده إلى الحسد والجحود، وهذا النهى إنما هو زيادة في التوكيد، وتثبيت لليقين، كي لا يجول في خاطره طائف من التردد في هذا اليقين.
قال ابن كثير: وهذا كقوله- تعالى- فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ قال: وهذا شرط، والشرط لا يقتضى وقوعه، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أشك ولا أسأل» «1» .
وقيل: الخطاب لكل من يتأتى له الخطاب على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه فلا ينبغي أن يشك في ذلك أحد.
وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود أمته، لأنه صلى الله عليه وسلم حاشاه من الشك.
ثم بين- سبحانه- أن هذا الكتاب كامل من حيث ذاته بعد أن بين كماله من حيث إضافته إليه- تعالى- بكونه منزلا منه بالحق فقال- تعالى-: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا وقرئ (كلمات ربك) .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 167.(5/162)
والمراد بها- كما قال قتادة وغيره- القرآن.
أى: كمل كلامه- تعالى- وهو القرآن، وبلغ الغاية في صدق أخباره ومواعيده، وفي عدل أحكامه وقضاياه.
وصدقا وعدلا مصدران منصوبان على الحال من رَبِّكَ أو من كَلِمَةُ وقيل: هما منصوبان على التمييز.
وجملة لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ مستأنفة لبيان فضل هذه الكلمات على غيرها أثر بيان فضلها في ذاتها. أى: لا مغير لها بخلف في الأخبار، أو نقض في الأحكام، أو تحريف أو تبديل كما حدث في التوراة والإنجيل، وهذا ضمان من الله- تعالى- لكتابه بالحفظ والصيانة، قال- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
ثم ختمت الآية بقوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أى: هو- سبحانه- السميع لكل ما من شأنه أن يسمع، العليم بكل ما يسرون وما يعلنون.
وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة على وحدانيته وصدق نبيه صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى جهالات أعدائه فقال- تعالى-: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
أى: وإن تطع أكثر من في الأرض من الناس الذين استحبوا العمى على الهدى يضلوك عن الطريق المستقيم، وعن الدين القويم الذي شرعه الله لعباده، لأن هؤلاء المجادلين ما يتبعون في جدالهم وعقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي تزينه لهم أهواؤهم، وما هم إلا يخرصون أى:
يكذبون.
وأصل الخرص: القول بالظن. يقال: خرصت النخل خرصا- من باب قتل- حزرت ثمره وقدرته بالظن والتخمين. واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة، فيقال:
خرص في قوله- كنصر- أى: كذب.
قال صاحب المنار: «وهذا الحكم القطعي بضلال أكثر أهل الأرض ظاهر بما بيّنه به من اتباع الظن والخرص ولا سيما في ذلك العصر- تؤيده تواريخ الأمم كلها، فقد اتفقت على أن أهل الكتاب كانوا قد تركوا هداية أنبيائهم وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك أمم الوثنية التي كانت أبعد عهدا عن هداية رسلهم وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وهو أمى لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا شيئا يسيرا من شئون المجاورين لبلاد العرب خاصة» «1» .
__________
(1) تفسير المنار ج 7 ص 16.(5/163)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
وقوله- سبحانه- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ تقرير للآية السابقة، وتأكيد لما يفيده مضمونها، أى: إن ربك الذي لا تخفى عليه خافية هو أعلم منك ومن سائر خلقه بمن يضل عن طريق الحق وهو أعلم منك ومن سائر الخلق- أيضا- بالمهتدين السالكين صراطه المستقيم، فعليك- أيها العاقل- أن تكون من فريق المهتدين لتسعد كما سعدوا واحذر أن تركن إلى فريق الضالين، فتشقى كما شقوا.
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد قررت أن الله وحده هو الحكم العدل، وأن كتابه هو المهيمن على الكتب السابقة، وأن أهل الكتاب يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، وأنه- سبحانه- قد تكفل بحفظ كتابه من التغيير والتبديل، وأن الطبيعة الغالبة في البشر هي اتباع الظنون والأهواء، لأن طلب الحق متعب، والكثيرون لا يصبرون على مشقة البحث والتمحيص، والقليلون هم الذين يتبعون اليقين في أحكامهم، والله وحده هو الذي يعلم الضالين والمهتدين من عباده.
وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة على وحدانيته وكمال قدرته. وسعة علمه ورد على الشبهات التي أثارها المشركون حول الدعوة الإسلامية بما يخرس ألسنتهم. وأثبت- سبحانه- أنه هو الحكم الحق، وأن كتابه هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه، وأن أكثر أهل الأرض يتبعون الظن في أحكامهم. بعد كل ذلك انتقل القرآن إلى الكلام في مسألة كثر فيها الجدل بين المسلمين والمشركين، وهي مسألة الذبائح ما ذكر عليه اسم الله منها وما لم يذكر فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 122]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)(5/164)
روى أبو داود بسنده عن ابن عباس قال: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله- فأنزل الله- فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. إلى قوله وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ «1» .
وذكر الواحدي أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال الله قتلها. قالوا. فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر أو الكلاب حلال وما قتله الله حرام فأنزل الله- تعالى- قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الآية: «2» .
والخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين الذين ضايقهم جدال المشركين لهم في شأن الذبائح.
والمعنى كلوا أيها المؤمنون مما ذكر اسم الله عليه عند ذبحه واتركوا ما ذكر عليه اسم غيره كالأوثان أو ما ذبح على النصب، أو ما ذكر اسم مع اسمه- تعالى- أو ما مات حتف أنفه، ولا تضرنكم مخالفتكم للمشركين في ذلك فإنهم ما يتبعون في عقائدهم ومآكلهم وأعمالهم إلا تقاليد الجاهلية وأوهامها التي لا ترتكز على شيء من الحق.
والفاء في قوله: فَكُلُوا يرى الزمخشري أنها جواب لشرط مقدر والتقدير: إن كنتم محقين في الإيمان فكلوا، ويرى غيره أنها معطوفة على محذوف والتقدير «كونوا على الهدى فكلوا» .
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ أى: إن كنتم بآياته التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن مؤمنين، فإن الإيمان بها يقتضى استباحة ما أحله سبحانه واجتناب ما حرمه.
ثم أنكر- سبحانه- عليهم ترددهم في أكل ما أحله الله من طعام لأنهم لم يتعودوه قبل ذلك فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأضاحى- باب ذبائح أهل الكتاب. حديث رقم 281 طبعة فؤاد عبد الباقي.
(2) تفسير الآلوسى ج 8 ص 12.(5/165)
أى: أى مانع يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأى فائدة تعود عليكم من ذلك؟ فالاستفهام لإنكار أن يكون هناك شيء يدعوهم إلى اجتناب الأكل من الذبائح التي ذكر اسم الله عليها سواء أكانت تلك الذبائح من البحائر أو السوائب أو غيرها مما حرمه المشركون على أنفسهم بدون علم.
وقوله وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ جملة حالية مؤكدة للإنكار السابق أى والحال أن الله- تعالى- قد فصل لكم على لسان رسولكم صلى الله عليه وسلم ما حرمه عليكم من المطعومات، وبين لكم ذلك في كتابه كما في قوله- تعالى- قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إذا فمن الواجب عليكم أيها المسلمون أن تأكلوا وأنتم مطمئنون من جميع المطاعم التي أحلها الله لكم وذكر اسمه عليها ولو خالفتم في ذلك المشركين وأن تتجنبوا أكل ما حرمه الله عليكم ولو كان مما يستبيحه المشركون.
وقوله إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ استثناء مما حرم الله عليهم أكله.
أى: إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات بسبب شدة الجوع ففي هذه الحالة يباح لكم أن تأكلوا من هذه المحرمات ما يحفظ عليكم حياتكم. هذا هو حكم الله الذي يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فعليكم أن تتبعوه، وألا تلقوا بالا إلى أوهام المتخرصين وأصحاب الظنون الباطلة.
ثم نعى على المشركين جهالاتهم فقال وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
قرأ الجمهور «ليضلون» بضم الياء، والمعنى عليه: وإن كثيرا من الكفار ليضلون غيرهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام بسبب أهوائهم الزائفة وشهواتهم الباطلة، دون أن يكون عندهم أى علم مقتبس من وحى الله ومستنبط من عقل سليم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ليضلون» بفتح الياء، والمعنى عليه: وإن كثيرا من الكفار لينحرفون عن الحق ويقعون في الضلال بسبب اتباعهم لأهوائهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وقراءة الجمهور أبلغ في الذم لأنها تتضمن قبح فعلهم حيث ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم.
وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بمحذوف وقع حالا أى: يضلون مصاحبين للجهل.(5/166)
وقوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ أى: أعلم منك يا محمد ومن كل مخلوق بالمتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل والحلال والحرام.
ففي الجملة الكريمة التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي: وقد دلت هذا الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام «1» .
ثم أمر الله عباده أن يتركوا ما ظهر من الآثام وما استتر فقال:
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ أى اتركوا جميع المعاصي ما كان منها سرا وما كان منها علانية، أو ما كان منها بالجوارح وما كان منها بالقلوب، لأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء.
ثم بين- سبحانه- عاقبة المرتكبين للآثام فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أى: إن الذين يعملون المعاصي ويرتكبون القبائح الظاهرة والباطنة لن ينجو من المحاسبة والمؤاخذة بل سيجزون بما يستحقونه من عقوبات بسبب اجتراحهم للسيئات.
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، نهاهم صراحة عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لشدة العناية بهذا الأمر فقال- تعالى-:
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أى: لا تأكلوا أيها المسلمون من أى حيوان لم يذكر عليه اسم الله عند ذبحه، بأن ذكر عليه اسم غيره، أو ذكر اسم مع اسمه- تعالى-، أو غير ذلك مما سبق بيانه من المحرمات.
وقوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ جملة حالية والضمير يعود على الأكل من الذي لم يذكر اسم الله عليه، أى: وإن الأكل من ذلك الحيوان المذبوح الذي لم يذكر اسم الله عليه لخروج عن طاعة الله- تعالى- وابتعاد عن الفعل الحسن إلى الفعل القبيح، وفي ذلك ما فيه من تنفيرهم من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
ثم كشف للمسلمين عن المصدر الذي يمد المشركين بمادة الجدل حول هذه المسألة فقال:
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ.
أى: وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين ليجادلوكم في تحليل الميتة وفي غير ذلك من الشبهات الباطلة وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال ما حرمه الله عليكم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
قال ابن كثير: أى: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 127.(5/167)
فهذا هو الشرك، كقوله- تعالى- اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدى بن حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم فقال: «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» «1» .
هذا، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال.
فمنهم من قال لا تحل الذبيحة التي يترك ذكر اسم الله عليها سواء كان الترك عمدا أو سهوا، وإلى هذا الرأى ذهب ابن عمر ونافع وعامر والشعبي ومحمد بن سيرين، وداود الظاهري وفي رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.
واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية التي وصفت ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه بأنه فسق، كما احتجوا بقوله- تعالى- فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وبالأحاديث التي وردت في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديث عدى بن حاتم وفيه «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» «2» .
وحديث رافع بن خديج وفيه «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» «3» أما القول الثاني فيرى أصحابه أن التسمية ليست شرطا بل هي مستحبة، وتركها عن عمد أو نسيان لا يضر، وقد حكى هذا المذهب عن ابن عباس وأبى هريرة وعطاء وهو مذهب الشافعى وأصحابه وفي رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.
وحجتهم أن هذه الآية وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... واردة فيما ذبح لغير الله بأن يذكر على الذبيحة اسم الصنم كما كان يفعل المشركون عند ذبائحهم.
واحتجوا أيضا بما رواه الدّارقطنيّ عن ابن عباس أنه قال: «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله» «4» .
أما القول الثالث فيرى أصحابه أن ترك التسمية نسيانا لا يضر، أما عمدا فلا تحل الذبيحة، وإلى هذا المذهب ذهب على وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل وعليه أبو حنيفة وأصحابه.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 171. [.....]
(2) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد، حديث رقم 141 طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.
(3) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد» .
(4) تفسير ابن كثير ج 2 ص 169.(5/168)
واحتجوا لمذهبهم بأحاديث منها ما رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» .
ولعل هذا المذهب أقرب المذاهب إلى الصواب، لأن المتعمد هو الذي يؤاخذ على عمله أما الناسي فليس مؤاخذا.
وقد تولت بعض كتب التفسير بسط الأقوال في هذه المسألة فليرجع إليها من شاء «2» .
ثم ضرب الله مثلا لحال المؤمن والكافر فقال:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.
الهمزة للاستفهام الإنكارى، وهي داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من الكلام السابق.
والتقدير: أأنتم أيها المؤمنون مثل أولئك المشركين الذين يجادلونكم بغير علم وهل يعقل أن من كان ميتا فأعطيناه الحياة وجعلنا له نورا عظيما يمشى به فيما بين الناس آمنا كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
فالآية الكريمة تمثيل بليغ للمؤمن والكافر لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين بعد أن نهاهم صراحة عن طاعتهم قبل ذلك في قوله وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
فمثل المؤمن المهتدى إلى الحق كمن كان ميتا هالكا فأحياه الله وأعطاه نورا يستضيء به في مصالحه، ويهتدى به إلى طرقه. ومثل الكافر الضال كمن هو منغمس في الظلمات لا خلاص له منها فهو على الدوام متحير لا يهتدى فكيف يستويان؟.
والمراد بالنور: القرآن أو الإسلام، والمراد بالظلمات: الكفر والجهالة وعمى البصيرة. فهو كقوله- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.
وقوله: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى: مثل ذلك التزيين الذي تضمنته الآية- وهو تزيين نور الهدى للمؤمنين وظلمات الشرك للضالين قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله- تعالى- وتحليل الحرام، وتحريم الحلال وغير ذلك من المنكرات.
وجمهور المفسرين يرون أن المثل في الآية عام لكل مؤمن وكل كافر وقيل إن المراد بمن أحياه الله وهداه عمر بن الخطاب، والمراد بمن بقي في الظلمات ليس بخارج منها عمرو بن هشام،
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 170.
(2) راجع تفسير ابن كثير ج 2 ص 168 وما بعدها وتفسير الآلوسى ج 8 ص 14 وما بعدها.(5/169)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
فقد أخرج ابن أبى الشيخ أن الآية نزلت فيهما، وقيل نزلت في عمار بن ياسر وأبى جهل، وقيل في حمزة وأبى جهل.
والذي نراه أن الآية عامة في كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافرا، وفي كل من بقي على ضلاله مؤثرا الكفر على الإيمان ويدخل في ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا.
ثم سلى الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أن المترفين في كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح، وأن ما لقيه صلى الله عليه وسلم من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شيء رآه الأنبياء قبله على أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 123 الى 126]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
أكابر: جمع أكبر، وهم الرؤساء والعظماء في الأمم. والمجرمون: جمع مجرم، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم.
والمعنى: وكما جعلنا في قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا في كل قرية(5/170)
من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها، ويتجبروا على الناس، ثم كانت العاقبة للرسل، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة في كل عصر، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين.
قال الجمل: وقوله: أَكابِرَ مفعول أول لجعل، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه، وفِي كُلِّ قَرْيَةٍ المفعول الثاني لجعل، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه، فهو على حد قوله:
كذا إذا عاد عليه مضمر ... مما به عنه مبينا يخبر
هذا أحسن الأعاريب «1» وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال.
وخص الأكابر بالمكر، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في كفرهم وفجورهم.
قال ابن كثير: والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله- تعالى- إخبارا عن قوم نوح وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وكقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ... الآية «2» . وقوله- سبحانه- وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ.
أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين في كل وقت إلا بأنفسهم، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم في الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين.
فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله في خلقه، وهي أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يصيبه منهم، وبشارة له، ولأصحابه بالنصر عليهم، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير.
وجملة وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يمكرون، وهي تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل.
__________
(1) حاشية الجمل ج 2 ص 86.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 173.(5/171)
ثم حكى القرآن لونا من ألوان مكرهم فقال: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.
أى: وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم «لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها» حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك، قالوا حسدا لك، لن نؤمن لك يا محمد حتى نعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلى الله عليه وسلم من الوحى والرسالة.
روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سنا وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية» .
وقال مقاتل: نزلت في أبى جهل وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد المطلب في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فأنزل الله هذه الآية» «1» .
وقد رد الله- تعالى- على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أى: الله- سبحانه- أعلم منهم ومن كل أحد بالموضع الصالح للرسالة فيضعها فيه فهو- سبحانه- يختار لها بحكمته وعلمه من يستحقها وينهض بها. ويهب نفسه لها، وينسى في سبيلها ذاته.
قال الإمام الرازي: وقوله- تعالى- اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أى: أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله- تعالى- ثم قال: وفي هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد، وقوله لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عين المكر والغدر والغل والحسد، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات» » .
وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه.
ولذا قال الإمام الآلوسى: وجملة اللَّهُ أَعْلَمُ ... إلخ. استئناف بيانى، والمعنى: أن
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 86.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 142.(5/172)
منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد، وتعاضد الأسباب والعدد، وإنما ينال بفضائل نفسانية، ونفس قدسية أفاضها الله- تعالى- بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده» «1» .
هذا. وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله- عز وجل- اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى الله عليه وسلم» «2» .
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» «3» .
ثم بين- سبحانه- عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ.
قال القرطبي ما ملخصه: الصغار: الضيم والذل والهوان. والمصدر الصغر بالتحريك- وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل: أصله من الصغر وهو الرضا بالذل. والصاغر: الراضي بالذل. وأرض مصغرة: نبتها صغير لم يطل. ويقال: صغر- بالكسر- يصغر صغرا وصغارا فهو صاغر إذا ذل وهان» «4» .
والمعنى: سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله في الدنيا والآخرة، وبسبب مكرهم المستمر، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه.
والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله، والسين للتأكيد.
والعندية في قوله «عند الله» مجاز عن حشرهم يوم القيامة، أو عن حكمه سبحانه- وقضائه
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 8 ص 21.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل.
(3) المسند للإمام أحمد ج 1 ص 210 طبعة الحلبي.
(4) تفسير القرطبي ج 7 ص 80.(5/173)
فيهم بذلك، كقولهم: ثبت عند فلان القاضي كذا أى: في حكمه، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا.
قال ابن كثير: ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال:
هذه غدرة فلان بن فلان» والحكمة في ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل» «1» .
ثم بين- سبحانه- حال المستعد لهداية الإسلام، وحال المستعد للضلال فقال:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.
أى: فمن يرد الله أن يهديه للإسلام، ويوفقه له، يوسع صدره لقبوله، ويسهله له بفضله وإحسانه.
وشرح الصدر: توسعته، يقال: شرح الله صدره فانشرح، أى: وسعه فاتسع، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها. مصفاة عما يمنعه وينافيه.
روى عبد الرازق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ فقال: «نور يقذف فينشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» «2» .
وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام.
والحرج: مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج، أى: ضاق ضيقا شديدا. وصف به الضيق للمبالغة، كأنه نفس الضيق، وأصل الحرج مجتمع الشيء ويقال: للحديقة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها حرجة.
وقرئ حرجا- بكسر الراء- صفة لقوله ضَيِّقاً.
روى أن جماعة من الصحابة قرءوا أمام عمر- رضى الله عنه- «ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا» بكسر الراء فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير» «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 174. [.....]
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 174.
(3) تفسير الآلوسى ج 8 ص 2.(5/174)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
وقوله كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ استئناف، أو حال من ضمير الوصف، أو وصف آخر لقلب الضال، والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه. فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة.
أى: كأنما إذا دعى إلى الإسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال. ويصعد أى: يتصعد، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه.
وفيه إشارة إلى أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود.
وقوله: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أى: مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام، يجعل الله الرجس. أى: العذاب، أو الخذلان، أو اللعنة في الدنيا على الذين لا يؤمنون بالإسلام.
ثم بين- سبحانه- أن طريق الإسلام هو الطريق الحق المستقيم فقال:
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً أى: وهذا البيان الذي جاء به القرآن، أو سبيل التوحيد، وإسلام الوجه إلى الله، هو طريق ربك الواضح المستقيم الذي ارتضاه لعباده، والذي لا ميل فيه إلى إفراط أو تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال.
ومُسْتَقِيماً حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل: هذا أبوك عطوفا، وقيل حال مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو (ها) التي للتنبيه.
وقوله: فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أى: جعلناها بينة واضحة مفصلة لقوم يتذكرون ما فيها من هدايات وإرشادات فيعملون بها لينالوا السعادة في الدنيا والآخرة.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للمتذكرين فقال:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 130]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)(5/175)
أى: أن هؤلاء المتذكرين المتقين لهم جنة عرضها السموات والأرض في جوار ربهم وكفالته، وهو- سبحانه- وَلِيُّهُمْ أى: متولى إيصال الخير إليهم، أو محبهم أو ناصرهم بسبب أعمالهم الصالحة. وسميت الجنة بدار السلام، لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة من جميع المكاره.
قال الجمل: وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ في المراد بهذه العندية وجوه:
أحدها: أنها معدة عنده كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة كقوله جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وثانيها: أن هذه العندية تشعر بأن هذا الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله بالشرف والرتبة لا بالمكان والجهة لتنزهه- تعالى- عنهما.
وثالثها: هي كقوله- تعالى- في صفة الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ.
وقوله: أنا عند المنكسر قلوبهم وأنا عند ظن عبدى بي» «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ.
ففي هذه الآيات عرض مؤثر زاخر بالحوار والاعتراف والمناقشة والحكم تحكيه السورة الكريمة وهي تصور مشاهد المجرمين يوم القيامة.
وقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 90.(5/176)
المعشر: الجماعة الذين يعاشر بعضهم بعضا أو الذين يربطهم أمر مشترك بينهم والمراد بالجن شياطينهم ومردتهم.
والمعنى: واذكر يا محمد- أو أيها العاقل- يوم نحشر الضالين والمضلين جميعا من الإنس والجن، فنقول للمضلين من الجن: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أى: قد أكثرتم من إغوائكم الإنس وإضلالكم إياهم، أو قد أكثرتم منهم بأن جعلتموهم أتباعكم، وأهل طاعتكم، ووسوستكم لهم بالمعاصي حتى غررتموهم وأوردتموهم هذا المصير الأليم.
و «يوم» منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر، أى: اذكر يوم نحشرهم جميعا. والضمير المنصوب في «نحشرهم» لمن يحشر من الثقلين. وقيل للكفار الذين تتحدث عنهم هذه الآيات.
ووجه الخطاب إلى معشر الجن، لأنهم هم الأصل في إضلال أتباعهم من الإنس، وهم السبب في صدهم عن السبيل القويم.
والمقصود من هذا القول لهم توبيخهم وتقريعهم على ما كان يصدر منهم من إغواء الغافلين من الإنس.
وهنا يحكى القرآن رد الضالين من الإنس على هذا التوبيخ فيقول: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا.
أى: وقال الذين أطاعوهم وانقادوا لهم من الإنس يا ربنا، لقد استمتع بعضنا ببعض.
أى: انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس، حيث أطاعوهم واستجابوا لوسوستهم، وخالفوا أمر ربهم.
وقال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس. أى:
فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة.
وقيل: استمتاع الإنس بالجن معناه أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فنزل بأرض قفر خاف على نفسه من الجن فيقول. أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوارهم. وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أنهم قالوا. سدنا الإنس حتى عاذوا بنا، فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم.
وقيل: استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة، واستمتاع الجن بالإنس هو طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من المعاصي فصاروا كالرؤساء لهم.
والذي نراه. أن استمتاع الجن بالإنس والإنس بالجن يتناول كل ذلك، حيث انتفع كل(5/177)
فريق من صاحبه باللذة العاجلة التي أوردته إلى سوء المصير.
وقولهم هذا، هو تحسر منهم على حالهم، إذ قالوه اعترافا بما فعلوه من طاعة للشياطين واتباع الهوى، وتكذيب أمر البعث.
وإنما قال الأتباع من الإنس هذا القول مع أن الخطاب موجه إلى المتبوعين من شياطين الجن، للإيذان بأن شياطين الجن قد أفحموا. ولم يستطيعوا أن ينطقوا أو يجيبوا. ثم أتبعوا تحسرهم هذا بتحسر آخر وهو قولهم: «وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا» .
أى: ها نحن يا ربنا قد استمتع بعضنا ببعض في الدنيا عن طريق الشهوات المحرمة.
واللذات الفانية القبيحة، وها نحن قد وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا، وهو يوم القيامة والجزاء. ونحن في أقبح صورة وأسوأ عيش.
وهنا يأتيهم الرد الحاسم. والحكم النافذ من الله العلى الكبير. حيث يقول- سبحانه- قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.
مثواكم: الثواء مع الإقامة مع الاستقرار. يقال: ثوى يثوى ثواء أى: استقر، والثوية مأوى الغنم.
والمعنى: قال الله- تعالى- لهؤلاء الظالمين المعترفين على أنفسهم بارتكاب الموبقات: النار منزلكم ومحل إقامتكم الدائمة. فأنتم خالدون فيها في كل وقت إلا في وقت مشيئة الله بخلاف ذلك، لأن الأمور كلها متروكة إليه، وخاضعة لمشيئته.
والأرجح أن المراد بهذا الاستثناء وبنظائره في آيات أخر، المبالغة في الخلود.
أى: أنه لا ينتفى في وقت ما إلا وقت مشيئته- تعالى- وهو سبحانه لا يشاء ذلك. فقد أخبر في آيات متعددة من كتابه أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من النار أبدا.
وفي إيراد هذا المعنى بتلك الصورة، بلاغ للناس بأن مرد الأمور كلها إلى مشيئة الله، وأن خلود المشركين في نار جهنم إنما هو بمحض مشيئته، ولو شاء غير ذلك ما خلدوا، وفيه إلى جانب ذلك تنكيل آخر بهؤلاء الأشقياء لأنهم قد صاروا في حيرة دائمة من أمرهم. تجعلهم مشتتين بين الطمع في الخروج مما هم فيه، واليأس منه.
وهذا التفسير للجملة الكريمة هو الذي نختاره ونرجحه، وهناك وجوه أخرى في تفسيرها منها ما ذهب إليه الزمخشري حيث قال:
وقوله: خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أى: يخلدون في عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من(5/178)
الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم، أو أن يكون من قول الموتور- أى المظلوم- الذي ظفر بواتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب أن ينفس عن خناقه. أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئت، علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنت والتشديد. فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع «1» .
ومنها: ما نقل عن ابن عباس أنه- تعالى- استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يدخلون في الإسلام، وهو مبنى على أن الاستثناء. ليس من المحكي وأن «ما» بمعنى «من» .
ومنها: أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم. فهم فيها إلا الوقت الذي يخرجون منها متجهين إلى الجنة حيث تقفل في وجوههم ليكون ذلك أعظم في حسرتهم.
ومنها: أن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار. أى: إلا وقت مشيئة الله فناءها وزوال عذابها. وهي مسألة خلافية بين العلماء.
وهناك أقوال أخرى لا مجال لذكرها. والقول الذي نرجحه ونعتمده هو الذي سقناه أولا كما أشرنا إلى ذلك من قبل لأنه قول المحققين من العلماء ولأنه يتناسب مع ما يليق بذات الله من كمال قدرته. ونفاذ إرادته.
وجملة «إن ربك حكيم عليم» تسلية لبيان ما تقتضيه حكمته وإرادته. أى: إن ربك حكيم في التعذيب والإثابة وفي كل أفعاله. عليم بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من جزاء.
ثم يعقب القرآن على هذا الاستمتاع المتبادل بين الضالين والمضلين من الجن والإنس فيقول: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
ونولي: من الولاية بمعنى القرابة، والنصرة، والمحالفة وما إلى ذلك من أنواع الاتصال.
أى: ومثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم لما بينهم من التناسب والمشاكلة، نولي بعض الظالمين من الإنس بعضا آخر منهم بأن نجعلهم يزينون لهم السيئات، ويؤثرون فيهم بالإغواء. بسبب ما كانوا مستمرين على اكتسابه من الكفر والمعاصي.
قال الإمام الرازي: «لأن الجنسية علة الضم» فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث. وكذا القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية. ثم قال: والآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله- تعالى- يسلط عليهم
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 65.(5/179)
ظالما مثلهم. فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم» «1» .
وقال ابن كثير: معنى الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم» «2» .
وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم. فقف وانظر فيه متعجبا.
فالآية الكريمة تصور لنا مشهدا واقعا في حياة الأمم، وهو أن الظالمين من الناس يوالى بعضهم بعضا، ويناصر بعضهم بعضا، بسبب ما بينهم من صلات في المشارب والأهداف والطباع وأن الأمة التي لا تتمسك بمبدأ العدالة بل تسودها روح الظلم والاعتداء يكون حكامها عادة على شاكلتها لأن الحاكم الظالم لا يستطيع البقاء عادة في مجتمع أفراده تسودهم العدالة والشجاعة في الحق.
والآية في الوقت ذاته تهدد الظالمين، وتتوعدهم بسوء المصير إذا لم يقلعوا عن ظلمهم، ويثوبوا إلى رشدهم، ويقيدوا أنفسهم بمبدأ العدالة ورعاية الحق ثم بعد هذا التعقيب بتلك الآية التي بينت طبيعة الأشرار يعود القرآن إلى سؤال الإنس والجن فيقول: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
؟.
قال الإمام ابن جرير: وهذا خبر من الله- جل ثناؤه- عما هو قائل يوم القيامة، لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن، يخبر أنه- تعالى- يقول لهم: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
يقول: يخبرونكم بما أوحى إليهم من تنبيهى إياكم على مواضع حججي، وتعريفى لكم أدلتى على توحيدي وتصديقى أنبيائى والعمل بأمرى والانتهاء إلى حدودي، يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يقول: يحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياى فتنتهوا عن معاصى، وهذا من الله- تعالى- تقريع لهم وتوبيخ على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي ومعناه، قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيد الله، فلم تقبلوا ولم تتذكروا» «3» .
وقوله سُلٌ مِنْكُمْ
استدل به من قال إن الله قد أرسل رسلا من الجن إلى أبناء جنسهم إلا أن جمهور العلماء يخالفون ذلك ويرون أن الرسل جميعا من الإنس، وإنما قيل: رسل منكم
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 151.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 177.
(3) تفسير ابن جرير ج 8 ص 27.(5/180)
لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله: «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وإنما يخرجان من أحدهما وهو الماء الملح دون العذب.
قال أبو السعود: والمعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم: لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا بل من الإنس خاصة، وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم، والإيذان بتقاربهما ذاتا، واتحادهما تكليفا وخطابا. كأنهما من جنس واحد، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر، وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، وقد ثبت أن الجن استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنذروا بما سمعوه. أقوامهم، إذ حكى القرآن عنهم أنهم وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وأنهم قالوا لهم: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «1» .
وقال صاحب المنار، وجملة القول في الخلاف أنه ليس في المسألة نص قطعى، والظواهر التي استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس، لأن الكلام معهم، وليست أقوى من ظاهر ما استدل به من قال إن الرسل من الفريقين. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه ألا ما ورد به النص. وقد دل القرآن وكذا السنة على رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله- تعالى-» «2» .
ثم يحكى القرآن أنهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر فقال: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
أن الرسل قد بشرونا وأنذرونا، ولم يقصروا في تبليغنا وإرشادنا.
وقوله- سبحانه- غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
أى غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة، فاستحبوا العمى على الهدى، وباعوا آخرتهم بدنياهم. شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
أى: شهدوا على أنفسهم عند ما وقفوا بين يدي الله للحساب في الآخرة أنهم كانوا كافرين في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما لهم مقرين في هذه الآية- على أنفسهم بالكفر- جاحدين في قوله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ قلت. يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون واخرى يجحدون، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم، فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه. أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت: لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت:
الأولى: حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون.
__________
(1) تفسير أبى السعود ج 2 ص 137.
(2) تفسير المنار ج 8 ص 107.(5/181)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
والثانية: ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة وكانت عاقبة أمرهم إن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر، والاستسلام لربهم، وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم» «1» .
هذا، وإنك لتقرأ هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات التي تصور مشهدا من مشاهد يوم القيامة فيخيل إليك أنك أمام مشهد حاضر أمام عينيك ترى فيه الظالمين وحسراتهم، والضالين والمضلين وهم يتبادلون التهم وذلك من إعجاز القرآن الكريم وأنه من عند الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ثم يحدثنا القرآن بعد ذلك عن عدالة الله في أحكامه، وعن سعة غناه ورحمته، وعن حسن عاقبة المؤمنين، وسوء مصير الكافرين فيقول:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 135]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قال الآلوسى: «ذلك» إشارة إلى إتيان الرسل، أو السؤال المفهوم من لَمْ يَأْتِكُمْ
، أو ما قص من أمرهم، أعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أى: الأمر ذلك، أو مبتدأ خبره مقدر، أو خبره قوله- سبحانه- أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى
__________
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 66.(5/182)
بخلاف اللام على أن أَنْ مصدرية، أو مخففة من أن وضمير الشأن اسمها.
وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ ذلك، أو فعلنا ذلك.
وفي قوله بِظُلْمٍ متعلق بمهلك أى: بسبب ظلم. أو بمحذوف وقع حالا من القرى أى:
ملتبسة بظلم ... » «1» .
والمعنى: ذلك الذي ذكرناه لك يا محمد من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله، سببه أن ربك لم يكن من شأنه ولا من سننه في تربية خلقه أن يهلك القرى من أجل أى ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه، وينهوا عنه بواسطة الأنبياء والمرسلين، فربك لا يظلم، ولا يعذب أحدا وهو غافل لم ينذر قال- تعالى- وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وقال- تعالى- وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ.
فالآية الكريمة صريحة في أن- سبحانه- قد أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتبيين الآيات، وإلزام الحجة رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
ثم بين- سبحانه- أن الدرجات إنما هي على حسب الأعمال فقال- تعالى- وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أى: ولكل من المكلفين جنا كانوا أو إنسا درجات أى منازل ومراتب مِمَّا عَمِلُوا أى: من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم إذ الجزاء من جنس العمل والعمل متروك للناس يتسابقون فيه، والجزاء ينتظرهم عادلا لا ظلم فيه.
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بل هو عالم بأعمالهم ومحصيها عليهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ثم صرح- سبحانه- بغناه عن كل عمل وعن كل عامل، وبأنه هو صاحب الرحمة الواسعة، والقدرة النافذة فقال: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.
أى: وربك يا محمد هو الغنى عن جميع خلقه من كل الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو وحده صاحب الرحمة الواسعة العامة التي شملت جميع خلقه.
والجملة الكريمة تفيد الحصر. وقوله: وربك مبتدأ، والغنى خبره، وقوله ذُو الرَّحْمَةِ خبر بعد خبر. وجوز أن يكون هو الخبر و «الغنى» صفة لربك.
وفي هذه الجملة تنبيه إلى أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل وغيره، ليس لنفعه- سبحانه-،
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 8 ص 88.(5/183)
بل لترحمه على العباد، وتمهيد لقوله بعد ذلك. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ أى: أنه- سبحانه- إن يشأ إذهابكم أيها الناس بالإهلاك لفعل ذلك فهو قدير على كل شيء وعلى أن ينشئ بعد إذهابكم ما يشاء من الخلق الذين يعملون بطاعته، ولا يكونون أمثالكم.
والكاف في قوله: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ في موضع نصب والمعنى: إن الله- تعالى- قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافه مثل ما أنشأكم من ذرية قوم آخرين. ونظيره قوله- تعالى- إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً وقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ.
ثم بين- سبحانه- أن أمر البعث والحساب كائن لا ريب فيه فقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.
أى: «إن ما توعدون من أمر القيامة والحساب، والعقاب والثواب لواقع لا شك فيه، وما أنتم بمعجزين، أى: بجاعليه عاجزا عنكم، غير قادر على إدراككم. من أعجزه بمعنى جعله عاجزا. أو:
بفائتين العذاب، من أعجزه الأمر. إذا فاته. أى لا مهرب لكم من عذابنا بل هو مدرككم لا محالة.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفض يده من هؤلاء المشركين، وإن يتركهم لأنفسهم. وأن ينذرهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم فقال- تعالى- قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المصرين على كفرهم اعملوا على غاية تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم. مصدر مكن- ككرم- مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن وأقواه، أو المعنى اعملوا على جهتكم واثبتوا على كفركم وحالتكم التي أنتم عليها من قولهم. مكان ومكانة كمقام ومقامة.
قال الزمخشري: يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: مكانك يا فلان أى: أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.
والأمر للتهديد والوعيد، وإظهار ما هو عليه صلى الله عليه وسلم في غاية التصلب في الدين، ونهاية الوثوق بأمره، وعدم المبالاة بأعدائه أصلا.
وقوله إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أى: إنى عامل على مكانتى، ثابت على الإسلام لا أتزحزح عن الدعوة إليه، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدنيا.
وقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ بجانب إفادته للإنذار، فيه إنصاف في المقال، وحسن أدب في(5/184)
الخطاب، حيث لم يقل- مثلا- العاقبة لنا، وإنما فوض الأمر إلى الله، فهو كقوله- تعالى- وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه على الحق.
قال الجمل- وسوف لتأكيد مضمون الجملة، وهذه الجملة. تعليل لما قبلها والعلم عرفان، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء وخبرها جملة تكون، وهي مع خبرها في محل نصب لسدها مسد مفعول تعلمون. أى: فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها، ويجوز أن تكون موصولة فيكون محلها النصب على أنها مفعول لتعلمون. أى: فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار» «1» .
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى- إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أى: لن يظفروا بمطلوبهم بسبب ظلمهم، وقيل المراد بالظلم هنا الكفر، ووضع الظلم موضع الكفر، إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أى فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده.
قال ابن كثير، وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلى الله عليه وسلم فمكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب.، وكل ذلك في حياته، ثم فتحت الأقاليم والأمصار بعد وفاته. قال- تعالى- إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «2» .
ثم تبدأ السورة بعد ذلك حديثا مستفيضا عن أوهام المشركين وجهالاتهم التي تتعلق بمآكلهم، ومشاربهم، ونذورهم، وذبائحهم، وعاداتهم البالية، وتقاليدهم الموروثة، فتناقشهم في كل ذلك مناقشة منطقية حكيمة، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير، وترشدهم إلى الطريق السليم الذي من الواجب عليهم أن يسلكوه. استمع إلى سورة الأنعام وهي تحكى كل ذلك في بضع عشرة آية بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 93.
(2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 179.(5/185)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
لقد حكت هذه الآيات الكريمة بعض الرذائل التي كانت متفشية في المجتمع الجاهلى، أما الرذيلة الأولى فملخصها أنهم كانوا يجعلون من زروعهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيبا لله ونصيبا لأوثانهم، فيشركونها في أموالهم فما كان لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين، وما كان للأوثان أنفقوه عليها وعلى سدنتها فإذا رأوا ما جعلوه لله أزكى بدلوه بما للأوثان، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان أزكى تركوه لها.(5/186)
استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً.
«ذرأ» بمعنى خلق يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا أى: خلقهم وأوجدهم وقيل: الذرأ الخلق على وجه الاختراع.
أى: وجعل هؤلاء المشركون مما خلقه الله- تعالى- من الزروع والأنعام نصيبا لله يعطونه للمساكين وللضيوف وغيرهم، وجعلوا لأصنامهم نصيبا آخر يقدمونه لسدنتها، وإنما لم يذكر النصيب الذي جعلوه لأصنامهم اكتفاء بدلالة ما بعده وهو قوله: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا.
أى: فقالوا في القسم الأول: هذا لله نتقرب به إليه.
وقالوا في الثاني: وهذا لشركائنا نتوسل به إليها.
وقوله- تعالى- في القسم الأول هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أى: بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى.
قال الجمل: ومن المعلوم أن الزعم هو الكذب، وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله، لأن هذا الجعل لم يأمرهم به الله وإنما هو مجرد اختراع منهم «1» .
وقال أبو السعود: وإنما قيد الأول بالزعم للتنبيه على أنه في الحقيقة جعل لله- تعالى- غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله- لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه، فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني، ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه- تعالى- به «2» .
ثم فصل- سبحانه- ما كانوا يعملونه بالنسبة للقسمة فقال: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ.
أى: فما كان من هذه الزروع والأنعام من القسم الذي يتقرب به إلى شركائهم، فإنهم يحرمون الضيفان والمساكين منه ولا يصل إلى الله منه شيء، وما كان منها من القسم الذي يتقرب به إلى الله عن طريق إكرام الضيف والصدقة، فإنهم يجورون عليه ويأخذون منه ما يعطونه لسدنة الأصنام وخدامها.
__________
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 93. [.....]
(2) تفسير أبى السعود ج 2 ص 193.(5/187)
فهم يجعلون قسم الأصنام لسدنتها وأتباعها وحدهم، بينما القسم الذي جعلوه لله بزعمهم ينتقصونه ويضعون الكثير منه في غير موضعه، ويقولون: إن الله غنى وإن آلهتنا محتاجة.
وقد عقب القرآن على هذه القسمة الجائرة بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ أى: ساء وقبح حكمهم وقسمتهم حيث آثروا مخلوقا عاجزا عن كل شيء، على خالق قادر على كل شيء، فهم بجانب عملهم الفاسد من أساسه لم يعدلوا في القسمة.
هذه هي الرذيلة الأولى من رذائلهم، أما الرذيلة الثانية فهي أن كثيرا منهم كانوا يقتلون أولادهم، ويئدون بناتهم لأسباب لا تمت إلى العقل السليم بصلة وقد حكى القرآن ذلك في قوله.
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ.
أى: ومثل ذلك التزيين في قسمة الزروع والأنعام بين الله والأوثان، زين للمشركين شركاؤهم من الشياطين أو السدنة قتل بناتهم خشية العار أو الفقر فأطاعوهم فيما أمروهم به من المعاصي والآثام.
والتزيين: التحسين، فمعنى تزيينهم لهم أنهم حسنوا لهم هذه الأفعال القبيحة، وحضوهم على فعلها.
سموا شركاء لأنهم أطاعوهم فيما امروهم به من قتل الأولاد، فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم، أو سموا شركاء لأنهم كانوا يشاركون الكفار في أموالهم التي منها الحرث والأنعام.
وشُرَكاؤُهُمْ فاعل زَيَّنَ وأخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم واهتماما به، لأنه موضع التعجب.
وقوله: لِيُرْدُوهُمْ أى ليهلكوهم من الردى وهو الهلاك. يقال ردى- كرضى- أى:
هلك.
وقوله: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ معطوف على ليردوهم، أى: ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل- عليه السلام- حتى زالوا عنه إلى الشرك.
ويلبسوا مأخوذ من اللبس بمعنى الخلط بين الأشياء التي يشبه بعضها بعضا وأصله الستر بالثوب، ومنه اللباس، ويستعمل في المعاني فيقال: لبس الحق بالباطل يلبسه ستره به. ولبست عليه الأمر. خلطته عليه وجعلته مشتبها حتى لا يعرف جهته، فأنت ترى أن شركاءهم قد حسنوا لهم القبيح من أجل أمرين: إهلاكهم وإدخال الشبهة عليهم في دينهم عن طريق(5/188)
التخليط والتلبيس. ثم سلى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهدد أعداءه فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
أى: ولو شاء الله ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بسبب ما يفعلونه، بل دعهم وما يفترونه من الكذب، فإنهم لسوء استعدادهم آثروا الضلالة على الهداية.
والفاء في قوله فَذَرْهُمْ فصيحة أى: إذا كان ما قصصناه عليك بمشيئة الله، فدعهم وافتراءهم ولا تبال بهم، فإن فيما يشاؤه الله حكما بالغة.
ثم حكى القرآن رذيلة ثالثة من رذائلهم المتعددة، وهي أن أوهام الجاهلية وضلالاتها ساقتهم إلى عزل قسم من أموالهم لتكون حكرا على آلهتهم بحيث لا ينتفع بها أحد سوى سدنتها، ثم عمدوا إلى قسم من الأنعام فحرموا ركوبها وعمدوا إلى قسم آخر فحرموا أن يذكر اسم الله عليها عند ذبحها أو ركوبها إلى آخر تلك الأوهام المفتراة.
استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك فيقول: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ.
حجر: بمعنى المحجور أى: الممنوع من التصرف فيه، ومنه قيل للعقل حجر لكون الإنسان في منع منه مما تدعوه إليه نفسه من اثام.
أى: ومن بين أوهام المشركين وضلالاتهم أنهم يقتطعون بعض أنعامهم وأقواتهم من الحبوب وغيرها ويقولون: هذه الأنعام وتلك الزروع محجورة علينا أى: محرمة ممنوعة، لا يأكل منها إلا من نشاء، يعنون: خدم الأوثان والرجال دون النساء أى: لا يأكل منها إلا خدم الأوثان والرجال فقط.
وقوله: بِزَعْمِهِمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قالوا. أى: قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة.
وقوله: وَقالُوا هذِهِ الإشارة إلى ما جعلوه لآلهتم، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله:
أَنْعامٌ وَحَرْثٌ وقوله حِجْرٌ صفة لأنعام وحرث، وقوله لا يَطْعَمُها صفة ثانية لأنعام وحرث.
هذا هو النوع الأول الذي ذكرته الآية من أنواع ضلالاتهم.
أما النوع الثاني فهو قوله- تعالى- وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها أى: وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم: هذه أنعام حرمت ظهورها فلا تركب ولا يحمل عليها، يعنون بها(5/189)
البحائر والسوائب والوصائل والحوامي «1» التي كانوا يزعمون أنها تعتق وتقصى لأجل الآلهة.
فقوله وَأَنْعامٌ خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله هذِهِ أَنْعامٌ.
وأما النوع الثالث من أنواع اختراعاتهم الذي ذكرته الآية فهو قوله: وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا.
أى: وقالوا أيضا هذه أنعام لا يذكر اسم الله عليها عند الذبح، وإنما يذكر عليها أسماء الأصنام لأنها ذبحت من أجلها.
وقد عقب- سبحانه- على تلك الأقسام الثلاثة الباطلة بقوله: افْتِراءً عَلَيْهِ أى فعلوا ما فعلوا من هذه الأباطيل وقالوا ما قالوا من تلك المزاعم من أجل الافتراء على الله وعلى دينه، فإنه- سبحانه- لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم.
ثم ختمت الآية بهذا التهديد الشديد حيث قال: - سبحانه- سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أى: سيجزيهم الجزاء الشديد الأليم بسبب هذا الافتراء القبيح.
ثم يحكى القرآن الرذيلة الرابعة من رذائلهم وملخصها: أنهم زعموا أن الأجنة التي في بطون هذه الأنعام المحرمة، ما ولد منها حيا فهو حلال للرجال ومحرم على النساء، وما ولد ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء.
استمع إلى القرآن وهو يفضح زعمهم هذا فيقول: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ومرادهم بما في بطون هذه الأنعام أجنة البحائر والسوائب.
أى: ومن فنون كفرهم أنهم قالوا ما في بطون هذه الأنعام المحرمة إذا نزل منها حيا فأكله حلال للرجال دون والنساء، وإذا نزل ميتا فأكله حلال للرجال والنساء على السواء.
وفي رواية العوفى عن ابن عباس أن المراد بما في بطونها اللبن، فقد كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء.
قال بعضهم: «ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله «خالصة» فيه وجوه:
__________
(1) البحيرة: الناقة التي تلد خمسة أبطن آخرها ذكر كانوا يشقون أذنها ويتركونها لآلهتهم والسائبة: اسم للناقة التي يتركها صاحبها فلا تنحر لأنها نجت في الحرب أو نذرها للأصنام.
والوصيلة: اسم للناقة التي تلد أول ما تلد أنثى ثم تثنى بأنثى كانوا يتركونها للأصنام والحام: اسم للفحل إذا لقح ولد ولده قالوا حمى ظهره فلا يركب ويترك حتى يموت.(5/190)
أحدها: أن التاء قيد للمبالغة في الوصف كراوية وداهية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر.
وثانيا: أن المبتدأ وهو ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ مذكر اللفظ مؤنث المعنى، لأن المراد به الأجنة فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى.
وثالثها: أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم: عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة.
ورابعها: أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ لِذُكُورِنا «1» .
وقوله: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تهديد لهم أى: سيجزيهم بما هم أهله من العذاب المهين جزاء وصفهم أو بسبب وصفهم الكذب على الله في أمر التحليل والتحريم على سبيل التحكم والتهجم بالباطل على شرعه. إنه- سبحانه- حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه، عليم بأعمال عباده من خير أو شر وسيجازيهم عليها.
قال الآلوسى: ونصب وَصْفَهُمْ- على ما ذهب إليه الزجاج- لوقوعه موقع مصدر سَيَجْزِيهِمْ فالكلام على تقدير مضاف. أى: جزاء وصفهم. وقيل: التقدير. سيجزيهم العقاب بوصفهم أى: بسببه فلما سقطت الباء نصب وصفهم.
ثم قال: وهذا كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه، فإنهم يقولون، كلامه يصف الكذب إذا كذب، وعينه تصف السحر، أى ساحرة، وقد يصف الرشاقة، بمعنى رشيق. مبالغة، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له» «2» .
وإلى هنا تكون الآيات الأربعة التي بدأت بقوله- تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً.. إلخ. قد قصت علينا أربع رذائل من أفعال المشركين وأقوالهم.
وإن العاقل ليعجب وهو يستعرض هذه الضلالات- التي حكتها الآيات. يعجب لما تحملوه في سبيل ضلالاتهم من أعباء مادية وخسائر وتضحيات، يعجب للعقيدة الفاسدة وكيف تكلف أصحابها الكثير ومع ذلك فهم مصرون على اعتناقها، وعلى التقيد بأغلالها، وأوهامها، وتبعاتها.
لكأن القرآن وهو يحكى تلك الرذائل وما تحمله أصحابها في سبيلها يقول لأتباعه- من بين ما يقول- إذا كان أصحاب العقائد الفاسدة قد ضحوا حتى بفلذات أكبادهم إرضاء
__________
(1) تفسير المنار ج 8 ص 129.
(2) تفسير الآلوسى ج 8 ص 26.(5/191)
لشركائهم. فأولى بكم ثم أولى أن تضحوا في سبيل عقيدتكم الصحيحة، وملتكم الحنيفة السمحاء بالأنفس والأموال.
هذا وقد عقب القرآن بعد إيراده لتلك الرذائل بقوله.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ.
قال الإمام ابن كثير: قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم، وضيقوا على أنفسهم في أموالهم، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم. وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم» «1» .
والتعبير بخسر بدون ذكر مفعول معين يقع عليه الفعل للإشارة إلى أن خسارتهم خسارة مطلقة من أى تحديد، فهي خسارة دينية وخسارة دنيوية- كما قال ابن كثير.
وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد. أى: فعلوا ذلك كثيرا، إذ التضعيف يفيد التكثير.
وسَفَهاً منصوب على أنه علة لقتلوا أى: لخفة عقولهم وجهلهم قتلوا أولادهم. أو منصوب على أنه حال من الفاعل في قتلوا وهو ضمير الجماعة.
والسفه: خفة في النفس لنقصان العقل في أمور الدنيا أو الدين.
وقوله وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ أى من البحائر والسوائب ونحوهما، وهو معطوف على قَتَلُوا.
ثم بين- سبحانه- نتيجة ذلك القتل والتحريم فقال: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أى: قد ضلوا عن الصراط المستقيم بأقوالهم وأفعالهم القبيحة وما كانوا مهتدين إلى الحق والصواب.
قال الشهاب، وفي قوله وَما كانُوا مُهْتَدِينَ بعد قوله قَدْ ضَلُّوا مبالغة في نفى الهداية عنهم، لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن. فلذا أردف بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض» «2» .
روى البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 181.
(2) تفسير القاسمى ج 6 ص 2524.
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 181.(5/192)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
ثم بين- سبحانه- أنه هو الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت له فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)(5/193)
قوله- تعالى- وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ.
أنشأ: أى أوجد وخلق. والجنات: البساتين والكروم الملتفة الأشجار.
ومعروشات: أصل العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشا من بابى- ضرب ونصر-، وعرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف. فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك. قال ابن عباس: المعروشات. ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك. وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر.
وقيل المعروشات وغير المعروشات كلاهما في الكرم خاصة، لأن منه ما يعرش ومنه ما لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا.
وقيل المعروشات ما غرسه الناس في البساتين واهتموا به فعرشوه من كرم أو غيره، وغير المعروشات. هو ما أنبته الله في البراري والجبال من كرم وشجر.
أى: وهو- سبحانه- الذي أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التي منها المرفوعات عن الأرض، ومنها غير المرفوعات عنها، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع.
وقوله: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ عطف على جنات، أى: أنشأ جنات، وأنشأ النخل والزرع، والمراد بالزرع جميع الحبوب التي يقتات بها.
وإنما أفردهما مع أنهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات.
ومُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أى، ثمره وحبه في اللون والطعم والحجم والرائحة.
والضمير في أكله راجع إلى كل واحد منهما، أى: النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى، مختلف المأكول في كل منهما في الهيئة والطعم.
قال الجمل: وجملة. مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ حال مقدرة، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا، فهو مثل قولهم: مررت برجل معه صقر صائدا له غدا» .
وقوله: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أى: وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم أو متشابها بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة «وغير متشابه في بعضها.
قال القرطبي: وفيه أدلة ثلاثة.
أحدها: ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير.(5/194)
الثاني: على المنة منه- سبحانه- علينا، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء، لأنه لا يجب عليه شيء.
الثالث: على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج من صفته: الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ، فأين الطبائع وأجناسها وأين الفلاسفة وأسسها، هل هي في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب. كلا، لا يتم ذلك في العقول إلا لحى قادر عالم مريد، فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية.
ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب. وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم» «1» .
ثم ذكر- سبحانه- المقصود من خلق هذه الأشياء فقال: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ أى:
كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التي أنشأناها لكم، شاكرين الله على ذلك. والأمر للإباحة. وفائدة التقييد بقوله إِذا أَثْمَرَ إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك.
وقيل فائدته: الترخيص للمالك في الأكل من قبل أداء حق الله- تعالى- لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شيء منه لمكان شركة المساكين له فيه، فأباح الله له هذا الأكل.
ثم أمرهم- سبحانه- بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أى: كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده.
ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير.
وأصحاب هذا الرأى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة.
وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 7 ص 99.(5/195)
ويرى بعض آخر من العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات، وفي الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد، مبالغة في العزم على المبادرة إليه.
والمعنى: اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.
وقيل: إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفا على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله.
ثم ختمت الآية بالنهى عن الإسراف فقالت: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. أى لا تسرفوا في أكلكم قبل الحصاد ولا في صدقاتكم ولا في أى شأن من شئونكم، لأنه- سبحانه- لا يحب المسرفين.
وقال ابن جريج، نزلت في ثابت بن قيس، قطع نخلا له فقال. لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فنزلت هذه الآية.
وقال عطاء، نهوا عن السرف في كل شيء.
وقال إياس بن معاوية، ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
ثم بين- سبحانه- حال الأنعام. وأبطل ما تقولوه عليه في شأنها بالتحريم والتحليل فقال.
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً.
الحمولة، هي الأنعام الكبار الصالحة للحمل. والفرش هي صغارها الدانية من الأرض، مثل الفرش المفروش عليها.
وقيل الحمولة كل ما حمل عليه من إبل وبقر وبغل وحمار. والفرش ما اتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش.
أى: وأنشأ لكم- سبحانه- من الأنعام حمولة وهي ما تحملون عليه أثقالكم، كما أنشأ لكم منها فرشا وهي صغارها التي تفرش للذبائح من الضأن والمعز والإبل والبقر.
والجملة معطوفة على جنات. والجهة الجامعة بينهما إباحة الانتفاع بهما.
وقوله كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
أى: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار والزروع والأنعام وغيرها، وانتفعوا منها بسائر أنواع(5/196)
الانتفاع المشروعة، ولا تتبعوا وساوس الشيطان وطرقه في التحريم والتحليل كما اتبعها أهل الجاهلية، إذ حرموا ما رزقهم الله افتراء عليه، إن الشيطان عداوته، ظاهرة واضحة لكم، فهو يمنعكم مما يحفظ روحكم، ويطهر قلوبكم، فالجملة الكريمة إِنَّهُ لَكُمْ تعليل للنهى عن اتباع خطوات الشيطان.
ثم بين القرآن بعد ذلك بعض ما كان عليه الجاهليون من جهالات، وناقشهم فيما أحلوه وحرموه مناقشة منطقية حكيمة فقال:
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.
وقوله- سبحانه- ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حَمُولَةً وَفَرْشاً بناء على كونهما قسمين لجميع الأنعام على الراجح، وقيل أن لفظ ثمانية منصوب بفعل مضمر أى: وأنشأ لكم ثمانية أزواج، أو هو مفعول به لفعل كُلُوا وقوله وَلا تَتَّبِعُوا ... إلخ» معترض بينهما.
والزوج يطلق على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل، وكذا يطلق على الاثنين فهو مشترك والمراد هنا الإطلاق الأول.
والمعنى: ثمانية أصناف خلقها الله لكم، لتنتفعوا بها أكلا وركوبا وحملا وحلبا وغير ذلك.
ثم فصل الله- تعالى- هذه الأزواج الثمانية فقال: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ أى. من الضأن زوجين اثنين هما الكبش والنعجة، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ أى. ومن المعز زوجين اثنين هما التيس والعنز.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبكتهم على جهلهم فقال قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ.
أى: قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ وإلزامهم الحجة. أحرم الله الذكرين وحدهما من الضأن والمعز أم الأنثيين وحدهما، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت تلك الأجنة ذكورا أم إناثا؟
وقوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أى: أخبرونى بأمر معلوم من جهته- تعالى- جاءت به الأنبياء، يدل على أنه- سبحانه- قد حرم شيئا مما حرمتموه إن كنتم صادقين في دعوى التحريم.
والأمر هنا للتعجيز لأنهم لا دليل عندهم من العقل أو النقل على صحة تحريمهم لبعض الأنعام دون بعض.
وقوله- تعالى- وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ عطف على قوله مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ أى: وأنشأ لكم(5/197)
من الإبل اثنين هما الجمل والناقة وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ هما الثور وأنثاه البقرة.
قُلْ إفحاما في أمر هذين النوعين أيضا آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ الله- تعالى- منهما، أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النوعين؟
قال الآلوسى: والمعنى- كما قال كثير من أجلة العلماء: إنكار ان الله- تعالى- حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة. وأولادها كيفما كانت تارة أخرى، مسندين ذلك كله إلى الله- سبحانه-.
ثم قال: وإنما لم يل المنكر- وهو التحريم- الهمزة، والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ.
وبيانه- على ما قاله السكاكي- أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة، فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني. كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد تم، وطالبه ببيان محله كي يتبين كذبه، ويفتضح عند الحاجة.
وإنما لم يورد- سبحانه- الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة، بأن يقال: قل ءآلذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث، لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت» «1» .
وقوله- تعالى- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا تكرير للإفحام والتبكيت.
أى: أكنتم حاضرين حين وصاكم الله وأمركم بهذا التحريم؟ لا، ما كنتم حاضرين فمن أين لكم هذه الأحكام الفاسدة؟.
فالجملة الكريمة تبكتهم غاية التبكيت على جهالاتهم وافترائهم الكذب على الله، والاستفهام في قوله- تعالى- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ للنفي والإنكار.
أى: لا أحد أشد ظلما من هؤلاء المشركين الذين يفترون على الله الكذب بنسبتهم إليه- سبحانه- تحريم ما لم يحرمه لكي يضلوا الناس عن الطريق القويم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 8 ص 41.(5/198)
وقوله، بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بمحذوف حال من فاعل افترى، أى: افترى عليه- تعالى- جاهلا بصدور التحريم.
وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفترى عالم بعدم الصدور، إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات، لأنه إذا كان المفترى بغير علم يعد ظالما فكيف بمن يفترى الكذب وهو عالم بذلك.
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أى لا يهديهم إلى طريق الحق بسبب ظلمهم، وإيثارهم طريق الغي على طريق الرشد.
هذا، والمتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين يراهما قد ردتا على المشركين بأسلوب له- مع سهولته وتأثيره- الطابع المنطقي الذي يزيد المؤمنين إيمانا بصحة هذا الدين، وصدق هذا القرآن، ويقطع على المعارضين والملحدين كل حجة وطريق.
وتقرير ذلك- كما قال بعض العلماء- أن تطبق قاعدة (السير والتقسيم) فيقال، إن الله- تعالى- خلق من كل صنف من المذكورات نوعين: ذكرا وأنثى، وأنتم أيها المشركون حرمتم بعض هذه الأنعام، فلا يخلو الأمر في هذا التحريم من:
1- أن يكون تحريما معللا بعلة.
2- أو أن يكون تحريما تعبديا ملقى من الله- تعالى-.
ولا جائز أن يكون تحريما معللا، لأن العلة إن كانت هي (الذكورة) فأنتم أبحتم بعض الذكور وحرمتم بعضا، فلم تجعلوا الأمر في الذكورة مطردا وإن كانت العلة هي (الأنوثة) فكذلك الأمر: حيث حرمتم بعض الإناث وحللتم بعضا، فلم تطرد العلة، ومثل هذا يقال إذا جعلت العلة هي اشتمال الرحم من الأنثى على النوعين، لأنها حينئذ تقتضي أن يكون الكل حراما فلماذا أحلوا بعضه.
وهذا كله يؤخذ من قوله- تعالى- قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ.
فبطل إذن أن يكون التحريم معللا.
ولا جائز أن يكون التحريم تعبديا لا يدرى له علة، أى: مأخوذ عن الله، لأن الأخذ عن الله إما بشهادة توصيته بذلك وسماع حكمه به، وقد أنكر هذا عليهم بقوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا وإما أن يكون برسول أبلغهم ذلك، وهم لم يأتهم رسول بذلك، وفي هذا يقول- جل شأنه متحديا لهم نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.(5/199)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
وإذن فما قالوه من التحريم إنما هو افتراء وضلال» «1» .
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم، وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء محض- بعد كل ذلك أمره بأن يبين لهم ما حرمه الله عليهم فقال:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
أى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المفترين على الله الكذب في أمر التحليل والتحريم وغيرهما لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ.
أى: لا أجد فيما أوحاه الله إلى من القرآن طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله من ذكر أو أنثى ردا على قولهم مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا.
والجملة الكريمة تفيد أن طريق التحريم والتحليل إنما هو الوحى وليس مجرد الهوى والتشهى، وأن الأصل في الأشياء الحل إلا أن يرد نص بالتحريم.
__________
(1) سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام ص 83 لفضيلة الأستاذ محمد المدني.(5/200)